هذا ما قاله اللورد كرومر قبل اتفاقية السودان بعام، وكان لهذه التصريحات الخطيرة وقع شديد في جميع الأوساط المصرية، وأحدثت دهشة عند الخديو وسائر الوطنيين والمسئولين عن مصير مصر والسودان.
اتفاقية السودان
ظهرت آثار تلك التصريحات في مشروع اتفاقية السودان فيما بعد، وكانت إنجلترا في ذلك الحين أقوى دولة في العالم، وهي الدولة الوحيدة وقتئذ في توجيه السياسة العالمية، والتحكم في مصير الأمم، ولم تكن المبادئ الحديثة التي نسمعها الآن قد خرجت إلى الوجود، وكان احتلالها لمصر ما زال له سلطانه وخطره، وكان المعتمد البريطاني له السلطة الفعلية في البلاد، وكان يتدخل في الكثير من الشئون، كما كان المستشار المالي الإنجليزي يحضر جلسات مجلس النظار.
وكانت تركيا صاحبة السيادة في ذلك الزمان في دور الاحتضار، وكانت سيادتها اسمية وكان نفوذ إنجلترا على ضفاف البسفور يماثل نفوذها على ضفاف النيل، فكان من الطبيعي أن تطمع بريطانيا في مصر، وأن تجرؤ على التصرف في أقدارها إن طوعا، وإن كرها ... ولذلك كانت اتفاقية السودان بمثابة إملاء من الغاصب القاهر على المغصوب العاجز، ومن القوي الجبار على الضعيف المكبل.
وحدث أن زار اللورد كرومر الخديو عباس بعد رحلته في السودان، وبعد تلك التصريحات الخطيرة التي ألقاها على أهاليه، فأشار في حديثه معه إلى أن اللورد سالسبوري وزير الخارجية البريطانية بعث إليه بمشروع اتفاق إنجليزي مصري يختص بالسودان، وأنه سلم نسخة منه لوزير الخارجية المصرية بطرس غالي باشا.
ومع أن عقد اتفاق سياسي مع مصر على هذا الوجه فيه اعتداء على السيادة التركية، إلا أن الإنجليز لم يأبهوا بها؛ لأنها كانت اسمية، وكانت صاحبة هذه السيادة واهنة القوى ضعيفة الشأن أمام الإنجليز الأقوياء.
وكان مشروع هذه الاتفاقية قد جاء من لندن مكتوبا مهيأ للتنفيذ، واستطاعت بريطانيا في هذه الظروف أن تجبر مصر على قبوله بحذافيره، وأن يضطر مجلس النظار إلى قبوله سنة 1899.
ومن الغريب أن الإنجليز بعد عقد هذه الاتفاقية، التي حصلوا فيها على إقحامهم في حكم السودان، قد طالبوا مصر بأن تدفع لهم نفقات الجنود الإنجليزية في الحملة السودانية، وقد دفعتها مصر مرغمة ...!
ذكرت كل ما تقدم للتاريخ؛ لأني لم أكن إذ ذاك قد بدأت حياتي العامة، ولكني إذا ما ذكرت ذلك، وذكرت اتفاقية السودان، أشعر بأن سعيي الأخير لبعث سيادة مصر على السودان، وجعلها وحدة كاملة تحت التاج المصري - مما كان قاب قوسين أو أدنى - هو سعي يشرفني، إذا ما قارن القارئ ما كنا فيه في ذلك الحين بما كنا سنفوز به في مفاوضاتي الأخيرة ...!
اتصالي بالملك فؤاد
Bilinmeyen sayfa