105

وفوق ذلك فإن لورد كرومر، وهو من أقدر سياسي بريطاني وصاحب الشأن الأول فيما يتعلق بالموضوع الذي نعالجه، هو الذي يمكنه أن يوضح مدى اتفاقيتي سنة 1899، إذ إنهما كانتا من وضعه، فقد كتب في تقريره سنة 1901 ما يأتي: ألاحظ في تقرير المجلس التشريعي عن ميزانية هذا العام أن المجلس يوافق على المصروفات المخصصة للسودان؛ بناء على أنه يعتبر السودان جزءا لا يتجزأ من مصر ... وهذا الرأي صحيح في جوهره ... وإني أنتهز هذه الفرصة؛ لأبين أن الاتفاقية المبرمة سنة 1899 لم يقصد بوضعها الانتقاص من حقوق مصر الشرعية.

ومما أحتج به مرارا رفع العلم البريطاني إلى جانب العلم المصري في السودان، باعتبار أن في هذا مظهرا شاهدا على وجود البريطانيين في السودان، ولكن لورد كرومر ذاته تولى تفسير ذلك وتحديد مداه، فقد أوضح في تقريره عن سنة 1903 أنه سئل أحيانا: «لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية جزءا من مصاريف الإدارة في السودان، ما دام العلم البريطاني يخفق عليه إلى جانب العلم المصري؟» وقد ذكر أن الجواب على هذا السؤال سهل؛ لأن اتفاقية سنة 1899 قد وضعت للسودان نظاما سياسيا خاصا؛ لغرض مقصود هو تخليص السودان، ومن ثم تخليص مصر أيضا بصفتها حاكمة هذا الإقليم، من كل هذه الأنظمة الدولية المتعبة التي زادت تعقيد الإدارة المصرية»، ثم أضاف إلى ذلك: «ولولا هذا الاعتبار لما كان هنا ما يدعو، من وجهة النظر البريطانية البحتة، إلى أن يكون العلم البريطاني مرفوعا في الخرطوم، شأنها في ذلك شأن أسوان أو طنطا.»

فليس رفع العلم البريطاني في السودان إلا نتيجة لإقامة نظام إداري مصري - إنجليزي منفصل عن نظام مصر، وليس علامة على اشتراك في السيادة، فإن هذا الاشتراك ما كان ليتوفر لبريطانيا إلا بمقتضى وثيقة دولية صريحة.

وهكذا فإنه منذ حملة السودان إلى وقت مفاوضات معاهدة التحالف، لم تنازع بريطانيا في انفراد مصر بحق السيادة على السودان، وفي معاهدة سنة 1936 ذاتها تركت هذه المسألة لمباحثات تجري مستقبلا.

واليوم، وقد عزمت مصر وبريطانيا العظمى على السير معا في طريق جديد واضح، أصبح من غير المستطاع تجنب بحث هذا الموضوع، كما لا يجوز الاحتجاج بمصالح السودانيين لتأجيل الاعتراف بسيادة مصر، إذ الواقع أن مشروع البروتوكول المقدم من الوفد البريطاني يقدر أنه: «لن يكون السودانيون أحرارا في تقرير علاقاتهم المستقبلة مع الطرفين الساميين المتعاقدين، إلا حين يصبحون قادرين على القيام بإدارة شئونهم.» وفي هذا اعتراف بأن الشعب السوداني غير قادر في هذه اللحظة الراهنة على تقرير مصيره، فهو إذن غير قادر على رفض سيادة قائمة منذ سنين عديدة.

فليس في ذكر السيادة المصرية في بروتوكول المعاهدة مساس بأي حق يتمتع به الشعب السوداني في الوقت الحاضر، فلن يتسنى له اتخاذ موقف بمحض اختياره بالنسبة لهذه السيادة إلا في مستقبل الأيام، حينما تتوفر له الأهلية الكافية. •••

هذا هو تلخيص لموقف الجانب المصري أثناء المناقشات التي جرت مع الجانب البريطاني بشأن مصير السودان.

وهو تلخيص متخذ مما دار في بحوث شفهية، وفي مذكرات تبودلت بين الطرفين على أنه ليس كل ما عرض من الجانب المصري، بل إن هناك مناقشات أخرى سيأتي الكلام عنها بشأن بروتوكول السودان، وهي ضمن ما جرى عليه الحديث بيني وبين مستر بوكر وزير بريطانيا بمصر، في الوقت الذي سافر فيه السفير بالإجازة إلى إنجلترا مما سيرد ذكره في حينه، كما أن أقوالا أخرى تتعلق بموقفنا من السودان جرت أثناء المفاوضات مع مستر بيفن نفسه، مما سيرد ذكرها عند التحدث عن محادثات لندن، ومعروف أن هذه المحادثات الأخيرة كان كلها متعلقا بالسودان، ومسألة السيادة التي لم يقبل الإنجليز في الآونة الحاضرة أن يعترفوا بها كما سبق لهم الاعتراف.

الحزبية تعرقل سير المفاوضات

أوردنا نص البيان الذي كلفني الوفد المصري للمفاوضات بإبلاغه للجانب البريطاني، وفيه يصر الوفد على وجهة نظره، ويتمسك بمذكرته المقدمة في أول أغسطس، وما صاحبها من نصوص سبق نشرها. وقلنا: إنه بعد المناقشة والأخذ والرد بيني وبين رئيس الوفد البريطاني والسير رونالد كامبل، انتهينا إلى صيغة أعلنا بمقتضاها أن الباب لا يزال مفتوحا لتبادل جديد في الآراء بقصد الوصول إلى نتيجة ملائمة لمصالح البلدين ... وقد كان مفهوما - وهذا على الأقل من الناحية الرسمية - أن عقدة العقد هي مسألة السودان، وبالأخص مسألة «السيادة» عليه، التي بدأ الإنجليز ينازعون حق مصر الصريح فيها، على أنه قد تبين في غضون المناقشات الحادة التي تميز بها الدور الأخير من المفاوضات في النطاق المصري أن عوامل جديدة سيطرت على الموقف، بعضها يرجع إلى تحول في وجهة النظر العامة تلقاء أغراض المعاهدة، وبعضها إلى تيارات بدأت خفية - أو على الأقل غير واضحة - ثم أصبحت سافرة وأكثرها من صنع المؤثرات السياسية والحزبية، التي وجدت في مناقشات المعاهدة ومداولاتها المضنية، مرعى خصيبا تتغذى فيه المساعي والأطماع ذات الطابع الداخلي المحض ... ومن أسف أنها امتدت إلى دائرة المفاوضة نفسها، وهي التي كان يجب ألا تتطاول إلى حرمها المساعي والتدبيرات.

Bilinmeyen sayfa