74

وتوجهنا في اليوم التالي إلى القدس، وتغدينا بالطريق عند المدفع التركي المقذوف في نهير شعيب. وكان معي في سيارتي لورنس، وكانت سيارة عسكرية بريطانية يقودها جاويش بريطاني. وكان معي في الركب كل رجالات سوريا وفلسطين. ورأيت بالنزل في أريحا جل أعيان فلسطين وعلى رأسهم موسى كاظم باشا الحسيني رحمه الله، من علماء وأعيان ومحامين ورؤساء روحيين. فكانت خطب حماسية وأجوبة مناسبة. ثم استأنفنا السير في قطار طويل من السيارات.

ولما أقبلنا على العيزرية، صادفتنا دراجة آلية، فدارت وقال سائقها لقائد السيارة - وقد حيا لورنس - يجب ألا تقف عن المستقبلين بالعيزرية، وأعلمني بذلك لورنس، فقلت له: ليس من اللباقة ألا نقف. فقال: لا أستطيع الأمر على سيرجنت ، فمرت بنا السيارة مسرعة وكنت واقفا فيها أحيي الجموع، فامتعض الناس وحق لهم أن يمتعضوا، ولكن ما كان في الإمكان إلا ما حصل أو أن يقذف الإنسان بنفسه؛ واعتقدت أن القوم حينما يعرفون حقيقة الحال سيعذرونني.

فوصلنا إلى دار الحكومة - وكانت بالعمارة الألمانية التي في جبل الطور - وهناك ثلة عسكرية معها علمها وموسيقاها فحيتني وفتشتها. وكان بالباب السر هربرت صمويل المندوب السامي فقابلني هاشا وبمعيتي غالب بك الشعلان، فدخلنا إلى البهو ووجدنا أن الشاي قد أحضرت موائده وعائلة المندوب هنالك. وبعد التعارف وتناول المرطبات دللت على حجرتي في الجناح الخاص، فوجدت هناك حقائبي وهناك أيضا محمد بك العسبلي المرافق الخاص.

أما السر هربرت صمويل فلا بد لي هنا من ذكر دماثة أخلاقه وجم أدبه وكماله، فهو سياسي محترم كامل. ولقد كان له ذلك الموقف الذي لا أنساه له، وهو موقفه عندما بلغني أن المطلوب من الوالد المرحوم ترك العقبة والسفر إلى قبرص يوم كارثة الوهابيين، بذلك اللسان الرقيق والتأثر باد عليه - وكان معه الكولونيل كوكس المعتمد السابق - وكانت الدموع ملء عينيه فقال: أرجوك أن تخبرني بكل ما يجيش به صدرك فإنني مقدر الموقف. فقلت: لا بأس عليك وإنني شاكر لك عواطفك، وهذه الدنيا كثيرة المحن وسنصبر ونحتسب. ثم إنه عند انقضاء مدته ورجوعه إلى إنكلترا قصد السفر إلى قبرص لزيارة الوالد المرحوم الذي عرفه بعمان يوم أن زار شرقي الأردن. وهذه أمور يجب علي أن أذكرها له بكل امتنان، والمنة لله.

ثم لما حان وقت العشاء، اجتمع الكل في البهو الكبير، وفيه المستر ونستون تشرشل؛ فحصل التعارف وجلسنا على المائدة، فكان هو الثاني عن يمين المندوب السامي وكنت الأول عن يسار الليدي صمويل. وفي أثناء الطعام قال لي وزير المستعمرات مستر تشرشل: ماذا وقع «في الشجرة»؟ لقد عصفت هناك عاصفة عصابة فاعتدت وقتلت، ولقد تلقيت من الحكومة برقيات تشير إلى هذا الحادث الذي يعزى وقوعه إلى تأثيرك؛ ولكن لي منكبان ضخمان يحتملان عنك احتجاج الحكومة. فقلت: أشكر فخامتك - أقول ذلك وأنا أبتسم - على أنه لم يبلغني خبر هذا الحادث إلا من فخامتك الآن، وإنني لم أتعهد لأحد بأي تعهد في معناه منع الناس عن الدفاع عن أوطانهم. والتفت إلي غالب بك الشعلان فسألته، فقام عن مقعده وضرب رجلا برجل، فحياني تحية عسكرية وقال: لعلها حركة لصوص غير مقصودة، أما الهيئات الوطنية فهي في انتظار أوامرك فيما ستفعل، وبالطبع ترجمت هذه العبارات على من بالمائدة، وكان الوزير قد تعجب من غالب بك.

صاحب المذكرات وإلى يمينه الليدي صمويل، وإلى يساره هربرت صمويل، فالمستر تشرشل وعقيلته، فالسير وندهام ديدس (في دار الحكومة بالقدس سنة 1921).

ثم انتهى العشاء وأديرت السجاير والسيجار على من يدخن. وكنت حين ذاك أتنشق، فأخرجت علبة سعوطي، وهي علبة ذهبية منمقة بالميناء الأخضر وعلى سطحها أشعة شمس غاربة في شفق أحمر غاية في الظرف، فطلب إلي العلبة فقدمتها له وبها نشوق إفرنجي يسمى بالتركية (رنده)، فتناول منه ضمة فعطس وضحك. ثم قمنا عن المائدة على وعد الاجتماع به صباح الغد في الساعة التاسعة والنصف.

كانت المقابلة كما ذكر، وفي الساعة المعينة، واحتوى المجلس من الإنكليز وزير المستعمرات مستر ونستون تشرشل، والمندوب السامي السر هربرت صمويل، والسكرتير العام لفلسطين سر وندهام ديدس، والكولونيل لورنس، وكنت بقيد الجلسة، وكان من الجانب العربي أنا وعوني بك عبد الهادي، ففتح الحديث وزير المستعمرات بذكر المقاصد الطيبة التي جمعت بريطانيا والعرب في الحرب وبالآمال المنوطة بتلك الروح وبذكر التعاون الذي حصل في الحرب، ثم ذكر جهود بريطانيا في الحيلولة بين حدوث ما حدث بين فرنسا والعرب، ثم قال: لذلك ولأن إنكلترا محايدة في القضية بين العرب والفرنسيين - وهم حلفاؤها - فإنها تنصح - وهو يبلغ هذه النصيحة إلي - بلزوم انصراف الأمير فيصل بن الحسين عن سوريا وسفره إلى العراق ليرشح نفسه لملك العراق. وأن الحكومة الإنكليزية تعلم أن فرنسا لا تشتغل بوجه من الوجوه مع الملك فيصل أو الأمير زيد، وأنها لا تريد أن ترى على عرش العراق إلا الشخص الذي تعتمد عليه؛ وأن طلاب عرش العراق كثيرون منهم ابن النقيب، ومنهم ابن سعود، وخزعل خان، وأنه يجب علي أن أساعد على هذا الغرض وأؤثر على والدي أن يقبل به، وأن أؤثر على العراق أن يرضوا بالأمير فيصل، وأن أبقى أنا هنا في شرق الأردن على تفاهم معهم، فأسير بالناس سيرة تبتعد عن تحدي الفرنسيين؛ وأنه إذا تم هذا فإنه يؤمل أن تعيد فرنسا النظر في الأمر، وبالنتيجة فإنه يعتقد الاستطاعة بعد ستة أشهر في أن يهنينا برجوع الشام إلى أيدينا.

صاحب المذكرات وإلى يمينه الكولونيل لورنس، وإلى يساره ماريشال الجو سالموند فالسير وندهام ديدس (في دار الحكمة بالقدس سنة 1921).

وأما فيما يخص فلسطين، فنوه بالوعد المنصوب المنسوب إلى بلفور، وقال إنه لا يستطيع البحث في هذا الشأن لأن الأمر سيترك للمندوب السامي. فقلت: إن كنتم ترغبون ترشيح الأمير فيصل لعرش العراق لأنكم تعتمدونه، فأنا يسرني تكييف ملك العراق وأن أخي كفء لذلك، وسأحض والدي على أن يسير على هذا المنهج. وأما أهل العراق فلا أستطيع أن أكتب إليهم ما يؤيد مرغوبهم لأنني لم أكاتب أحدا منهم إلى الآن. فأصر، وثبت أنا على رأيي.

Bilinmeyen sayfa