فتقدمنا تحت وابل من الرصاص، وقومنا الجبهة من طابورين، ومن كل طابور بلك فئة احتياطا له، والطابور الثالث احتياطا للكل. ونظمت الجبهة في شكل مربع: فنحن جبهتنا الجنوب، والآي سعيد بك جبهته الشرق، وطابور اليمن جبهة الشمال، والقوى الهاشمية جبهتها الغرب. وعند إتمام هذا الترتيب، حمل أهل اليمن علينا من الجبهة حملة صادقة، استمرت ثلث ساعة، وقوبلت بجحيم من النار، فتراجعوا. ثم بعد ربع ساعة، كروا على الجبهة الشرقية، فقوبلوا بمثلها على أننا كنا في خطر من نار أتت من جبهة مكشوفة، فاضطر كل واحد منا أن يعمل له مجثما جنبيا؛ ولما كف هجومهم علا الصياح في الميمنة، حيث كانت النوبة على القوى المعاونة، فترجرجت ثم كرت، وبعد لأي أوقف الهجوم. ثم كانت الحملة على طابور اليمن، فأمد من الاحتياطي العام؛ ولم تدم هذه الحملة كثيرا، فتراجعوا، وكانت الليلة ليلاء حتى الصبح، فكنت متى سمعت بطلقة من ناحية أهل اليمن، تقابل بمئات الألوف من الطلقات من هذا الجانب؛ وكنت تسمع الإيعاز حالا من الجبهات بالبوق «اتش كس اتش كس» «اقطع النار اقطع النار».
وبعد الساعة الرابعة، طلبت إلى مركز القيادة، فحضرت. وإذا بالمرحوم الشريف زيد ونظيف بك يقولان: كانت نجاة القوة هذه نتيجة لرأيك الميمون، فلو سرنا لكنا في خسران عظيم. فقلت: التجربة السالفة هي التي هدت إلى ما وقع. فقالا: كيف الجبهة؟ قلت: على ما يرام، كل جندي قد نال قسطه من العشاء وزود بمطارتين من الماء، فلا خوف إن شاء الله.
ولم نذق تلك الليلة النوم إلا غرارا أو نعسة. ولما أصبح الصبح ونادى منادي الصلاة، بالبوق أولا ثم بالأذان ثانيا، كبر أهل اليمن من كل ناحية، فصلت كل فئة في محلها؛ ثم جلب الحرس إلى مصافه، وقرأ مفتي الجيش سورة الصف؛ ثم ابتدأت المدفعية تصلي الحرجة نارا حامية فتمسح الأرض مسحا. وإذا بميسرة اليمن يقودها الشيخ بيطري تتقدم على أعلامها، فلما خرجت من الأدغال وتبينت في أرض صحصح، باغتتها القوى الهاشمية بهجوم بالخيل من ناحية البحر، ثم أصلتها المدفعية نارا حامية، فاهتزت يمنة ويسرة كشجرة في مهب الريح، ثم ولت الأدبار، فاتبعتها القوة الهاشمية الراكبة.
وتقدم الآي زكي بك، وأنا معه، فلما وصلنا الحرجة، لم يرعنا إلا وأهل اليمن بمآزرهم، وليس على ظهورهم من الثياب شيء، غير المحازم والخناجر في أواسطهم، فقابلوا الجيش بطلقة أو طلقتين من كل واحد منهم؛ ثم استلوا الخناجر وحلوا تلك العربية؛ فأصلتهم القوة التركية نارا حامية، فوقع الأكثر وهزم من بقي. وكنا حين ذاك نسمع لعلعة البنادق والمدافع من ناحية الآي سعيد بك، ثم أخذت الأصوات تبتعد كلما تقدمنا، فقال زكي بك: نحن في خطر، حيث تمكن هؤلاء من إحداث فجوات بين الميمنة والقلب والميسرة.
وحين ذاك كان المقر معه فئتان ومدفعان، وبه الشريف زيد بن فواز والأمير الآي نظيف بك. فقال زكي بك: سآمر بالتوقف، وهذه الشجرة الدوحاء علامة لك؛ فاذهب إلى المقر، وليكن بيننا وبين قوة سعيد بك، التي ينبغي أن تسرع السير حتى توازينا من يسارنا؛ أما القوة الهاشمية فلا سبيل إلى اللحاق بها. فلما وصلت، وإذا بالشريف زيد بن فواز، ومعه مائة وخمسون هجانا وأرباب الأسنان من المشايخ والشرفاء، فسألته عن نظيف بك، فقال: تقدم بالفئتين والمدفعين إلى الكعدية - بئر بأعلى أبهى - وإذا بالملك فيصل معه، فلما سألته عن قواته قال: العهد بها يوم أن أغارت. فبعثت بمرافقي إلى زكي بك، ومعه من يرشده إلى الكعدية، حيث قائد المفرزة والمقر النظامي، وسرت مع ربعي؛ فلما سرنا نحو خمس دقائق، وإذا بنا نخرج إلى أرض جرداء، فتبينت لنا منها الكعدية، وبها نظيف بك والبلكان الفئتان، تضرب مدافعه بالقذائف الخاصة للرمي من قرب والتي تدعى (شبرا).
ولما برزنا وعلم القيادة معنا، ورأوا الهجانة، ترك أهل اليمن نظيف بك وحملوا علينا، فأنخنا ونزلنا؛ فكانت ملحمة من أفظع ما رأيت، وكان الشريف زيد يصاب أحيانا بالرعاف، ولا يطيق الشمس، وهو واقف وعلى رأسه المظلة البيضاء، فأقول له: يا عم اندرق هنا. فيقول: لو أحببت الاندراق لكنت بالطائف، اصبروا سينكشفون الآن.
وهرع الملك فيصل إلى الأمير الآي نظيف بك، ونحن في تلك الساعة الكربة، وإذا بحملة الأثقال ومعها طابور اليمن يتصلون بنا. فتقدم ذلك الطابور الشجاع، وانتشر حتى كانت أقسامه اليمنى متصلة بنظيف بك على الكعدية؛ وأمر الشريف زيد، ومعه الشيخ جابر بن هليل عظيم الثبتة من عشائر عتيبة، الحملة بالتقدم، وصاحوا: يا حاملوه يا حاملوه! فحملنا نحن من مرابضنا، والعلم الهاشمي بيد ابن جنيح - وكان رجلا طويلا أسمر - وكانت الهزيمة على أهل اليمن. ثم أخذنا نسمع أصوات الطلقات من ناحية المشرق، فتبين أنها قوات سعيد بك وقد أقبلت.
وعند وقت العصر، كنا بقوز أبا العير، وليس من قوات اليمن أحد، فقد اضمحلوا وتراجع ابن خرشان إلى القحبة. ثم قبيل المغرب، جاء التقرير الطبي إلى مقر القيادة، بأن الوفيات اليوم في الجيش بلغت مائتين وثمانين، وأن الوباء وباء الكوليرا. وفي اليوم الثالث، نزلت القوة إلى ثلثها، وقدم المرحوم إلى القوز؛ ولقد رأيت بعيني رأس الغفير القائم على خيمتي، يقع ميتا كأن قد ضرب برصاصة. وأصبحت القوى المسلحة التركية ألفا وسبعمائة نفر من سبعة آلاف، فأمر بالحركة نحو أبهى، وكلما تقدمنا تناقص المرض. وكانت وقائع، في بارق وفي الثنية، ثم صعدنا الجبل من عقبة ساقين المشهورة، ولما اجتزناها بعد ثالث، أيقنا بالسلامة من شر تهامة وأوبائها.
ثم كانت واقعة سدوان، ثم واقعة اثني خريم؛ وكان قائد الأدارسة السيد مصطفى الإدريسي والسيد الفصال، وكانت الهزائم تتالى على أهل اليمن. وكانت الفظاعة من الجند التركي، في إحراق القرى وتقتيل الأبرياء، السبب الأول في الانقلاب الأخير، حيث قال الأمير: ليس من هؤلاء خير للعرب. ولقد عرضت عليه أربع مرات جثث شويت على النار شيا، بأن تدخل أعمدة الخيام من أدبارهم حتى تخرج من أفواههم. وقد عرض عليه في اثني خريم، ست رؤوس وقد قطعت عن أجسادها، ووضع ذكر كل رجل منهم في فمه؛ فقال الأمير لنظيف بك: هذا يليق؟! فأجابه: أليسوا قد حرقوا قلوبنا؟! فسكت.
أسس النهضة
Bilinmeyen sayfa