دخلت علي عيادتي وجسمها الصغير يرتعد من الهلع، وملامحها البريئة الطفلة تلهث وتتلفت خلفها في فزع، ونظراتها الحائرة المستغيثة تتطلع إلى عيني في استجداء واسترحام.
سألتها: ماذا بك يا طفلتي الصغيرة؟
فارتجفت كالمحمومة وأجهشت بالبكاء، واستطعت أن ألتقط من بين شفتيها المرتجفتين بضع كلمات ممزقة مبتورة.
خدعني ... ذئب ... الصعيد ... سيقتلونني ... ليس لي أحد ... أنقذيني ... يا دكتورة!
لم يكن معها منديل فأعطيتها منديلي، وانتظرتها حتى أفرغت كل ما في قلبها الصغير من دموع، وجففت عينيها وتشبثت نظراتها الفزعة بشفتي تتلهف على تلك الكلمة الصغيرة التي سأنطق بها، فأمنحها الحياة أو أحكم عليها بالموت.
ونظرت إليها؛ كانت طفلة تبلغ الرابعة أو الخامسة عشرة لا تزيد، وكانت بريئة طاهرة ضعيفة بلا معين ولا نصير، ولم يكن لي مجال للاختيار.
كيف يمكن لي أن أتخلى عنها وليس لها أحد سواي؟! كيف يمكن لي أن أحكم عليها بالإعدام وأنا أومن ببراءتها واستحقاقها الحياة؟! كيف أترك رقبتها تحت سكين أبيها وأنا أعلم أن أباها وأمها وأخاها وعمها هم أصحاب الخطيئة؟! كيف أعاقبها وحدها وأنا أعلم أن المجتمع كله مشترك في الجريمة؟! كيف أعجب لوقوعها في الخطأ وأنا أعلم أن كل الناس يخطئون؟! كيف لا أحميها وهي الضحية، والمجتمع يحمي المجرم الحقيقي؟! كيف أستنكر سقوطها في الخطأ وأنا نفسي سقطت في الخطأ؟! أنا التي عشت ضعف ما عاشت، ورأيت أضعاف ما رأت، وتعلمت أضعاف ما تعلمت. كيف لا أبرئها وقد برأت نفسي من قبل؟!
لا بد لي أن أنقذ الطفلة المسكينة! أنقذها من براثن التقاليد والقوانين، وأنتشلها من بين أنياب الوحوش والأفاعي والجرذان والصراصير.
سأنقذها، وليصلبوني إذا عن لهم أن يصلبوا، وليرجموني بالحجارة إذا شاء لهم أن يرجموا، وليسوقوني إلى المشنقة إذا لاح لهم أن يسوقوا؛ ولكني سأقبل مصيري وألقى حتفي وأنا راضية النفس مستريحة الضمير. •••
كل مآسي المجتمع دخلت عيادتي، كل نتائج التخفي والخداع استلقت أمامي على منضدة الكشف. الحقائق المرة التي ينكرها الناس جاءت وتمددت تحت يدي على منضدة العمليات.
Bilinmeyen sayfa