ارتفع في الجو صفير الباخرة تعلن المودعين ليذروها، في تلك الساعة هاج الناس وماجوا وجعل كل يقول لصاحبه الكلمات الأخيرة.
سلم علي إخواني الشبان ثم وقفوا جانبا، وجعل أهلي وإخواني يقبلونني قبلة الوداع ويقولون لي «مع السلامة وإن شاء الله نسمع عنك كل خير»، ولكن رجلا من بينهم طالما عرفني لم يستطع أن ينطق بكلمة إلا دمعة ذرفها وقبلة وضعها على صدغي ثم هز يدي وسار.
جعلت الباخرة تخلو من المودعين قليلا قليلا، وسلمها الخشبي الضيق مزدحم بهم يقذفهم للشاطئ وهم يتتابعون فوقه، وأخيرا أصبح السلم هو الآخر خلاء ورفعوه إلى الباخرة.
اصطف المودعون على الشاطئ وجع لكل منهم يبعث لمن يعرف نظرة أو ابتسامة، ثم تحركت المركب بحركة بطيئة وأخرج الناس من جيوبهم مناديلهم يشيرون بها في الهواء ويتنادون: «مع السلامة»، ثم ابتدأ الشاطئ يغادره من عليه حتى إذا لم يبق لنظرة أو لابتسامة سبيل لم يبق إلا الآباء ومن معهم ممن جعلوا يقتربون جهة الباخرة كأنما تجرهم إليها.
ابتعدت الباخرة في سيرها غير المحسوس ولم يبق على الشاطئ إنسان.
وذهبنا إلى الجهة الثانية فإذا أحجار المينا تقترب منا وهي قائمة بين الماء الهادئ الذي تسري فوقه والخضم الهائل الذي ينتظرنا، ثم سمعت الأذن صريف أمواجه المتكسرة على الأحجار.
عبرنا عباب المرفأ وتجلى أمامنا البحر ممتدا إلى الأفق، وجلست فوق تلك المدينة السائرة أتحادث وأصدقائي، وزادت سرعة الباخرة فجعلت الإسكندرية تنطوي أمام الناظر شيئا فشيئا، ومد من شاء من المسافرين بصرة يودع هذه الديار العزيزة الغالية، والشمس يغمر نورها الجو وينطرح على مهاد الأمواج شعاعها قد ابتدأت تهبط إلى مغيبها.
على هذا البعد الشاسع بيننا وبينها ظهرت المدينة مستكينة صاغرة وأحيت أمام الذاكرة الإسكندرية القديمة حين الناس في مدينتهم الأولى، وكلما زاد بعدنا عنها طحنها الأفق وأخفى من معالمها وزادها استكانة وخفوتا، ونحن ننظر لها وللجة الهائلة تفصلنا عنها والعين أعلق ما تكونت بما بقي منها والقلب يود لو يطير إلى هاته الأراضي كمن فيه حبها طول حياته، وها هو يستعر أن يراها تبتلعها السماوات والبحار.
ثم ارتميت إلى مقعدي أن طمس الأفق على الخيال الأخير الذي كنت أرى، وأحسست كأن حزنا يثقل فؤادي وينوء به صدري، وراحت خيالاتي في تيهاء لا أدرك فيها شيئا.
لم يطل بي المقام على هذا الحال إذ اعتراني الدوار واضطرني أن أهبط إلى غرفتي.
Bilinmeyen sayfa