قالت: ... وكم تؤثر علينا الأشياء التي كانت محيطة بنا وفارقناها وكأنها تحوي روحا تتبعنا دائما، وتثير عندنا ذكرى ما تركنا، ذكرى المنازل والناس والأشياء، وتصبح الأمور الحقيرة التي كانت لا قيمة لها ذات قيمة لأنها دخلت عالم الذكرى.
وهكذا قضينا مدة العشاء في هذا الحديث، وشاركتنا جارتها بعض الشيء فيه.
17 أغسطس
صممنا اليوم على الذهاب إلى الأنفاليد لنرى قبر نابليون، فأخذنا الترام حتى نزلنا عند كبري إسكندر أعظم كباري باريس وأجملها، وعلى جوانبه الأربعة قامت أربعة نسور لا تكل أجنحتها، فأخذنا الطريق حتى وصلنا إلى الأنفاليد ومنها إلى كنيسة القبر.
وما هو إلا أن وصلنا بابها حتى قابلنا عليه أمر الدخول بالسكون والاحترام. وهل ترى في المكان إلا رؤوسا ذاهلة وأصواتا خافتة تهمس كأنها في حضرة الملك الكبير، والمكان فخيم عظيم تدخله فيقابلك شيء من الظلام المهيب فيكسوك مهابة لا تستطيع أن تخاطب صاحبك إلا وعلى صوتك أثر الخشوع والخضوع ... ليس المكان مكان الحشر ولا مرسح الظلامات ولا مغاور الجن، ولكنه مكان رفات نابليون، مكان قبر التاج من هامة الأمة الفرنساوية، مكان الإمبراطور الأكبر صاحب باريس وموسكو ما بينهما.
عن يمينك وعن يسارك صورتان: إحداهما العذراء تحمل ولدها والأخرى صورة المسيح بمفرده، صورة يتنزل عليها من البهاء والجمال ما يأخذ بالقلوب والأبصار، والمنبر بين ذلك قائم وكأنه ولا أحد فوقه ينطق للناس وحده، وهل هاته الموجودات مما حوله إلا آثار ناطقة، هل هي إلا نابليون دوخ الارض ثم نام في حفرته إلى الأبد، هل هي إلا أمة الفرنسيس خاشعة صامتة كل كلامها خافت خامد، وأم توحي في أذن ولدها بآي الجلال فتزرع في نفسه، ولم يخرج إلى عالم المادة الخسيس شيئا من إعظام الروح الكبيرة، هل هناك كذلك إلا البناء الشامخ الرفيع تدوي فيه الأصوات المنخفضة كأنها تنزل من عالم الملائكة كل هذا المعنى يوجد في هذا الجانب من قبر نابليون.
فإذا أخذت طريقك إليه من بابه الثاني ووصل بك سعيك رأيت القبر المهيب، رأيته قائما في حفرته من الرخام الأحمر، وقد نقشت حوله أسماء وقائع الإمبراطور الكبيرة أوسترلتز
7
ويينا وغيرها.
إيه ياقبر نابليون، إيه يارفات الإمبراطور، إيه يا حفرة الرجل العظيم تأخذ بك العين في لمحة وما كانت لتحيط بآمال مقبورك خيالات الواهمين، ويحني الرجل قوسه للنظر إليك وكانت تنحني أمام صاحبك رؤوس العالم أجمعين، إيه أيها العالم الموهوم تحث الإنسان على سفك دم الإنسان ثم تورده منك أضيق بقاعك، كان نابليون يرسل بإخوته ملوكا لملكه، وإذا بك تراهم جميعا في غرفة بين جدران أربعة، وبينا القلوب كانت تهتز منهم وجلا إذا هي مصدوعة عبرى أسى عليهم، ألا أيتها الطبيعة من أجل ماذا هاته الآمال تبعثينها في رأس ابن آدم ثم تقضين عليه هذا القضاء القاسي، أغدر منك أو غرور من هذا المخلوق المملوء بالخيال والأمل الكبير وهو على يقين من حتفه.
Bilinmeyen sayfa