والفكرة الأصيلة في أفكار روسو هي أن الرجل طيب في أصله، وأنها المدنية هي التي أفسدت حاله وغيرت طيبة طبعه، لذلك كان دائم الدعوة للرجوع إلى ما يسميه «الحالة الطبيعية» شديد الانتقاد لكل ما يعده من مبتدعات المدنية، وربما كانت هذه الفكرة هي التي ساقته إلى الانتقاد المر للفنون الجميلة واعتبارها مفاسد للأخلاق وإن كان رأيه في ذلك جاء سابقا إلى تقريره حسن «الحالة الطبيعية» بزمان.
ومع دعوته للرجوع إلى الحالة الطبيعية دعا كذلك للمساواة بين الناس وطلبها، ولا شك في أن الأسباب التي حملت لابريير في «الأخلاق» على انتقاد الأشراف كانت أقوى عند روسو وأدعى لتحمله على الثورة ضد كل شرف نسبي.
هذه أفكار روسو التي سادت زمنا غير قليل والتي بنيت عليها مبادئ شتى، ثم التي ابتدأت تتقهقر بظهور النقد العلمي والنهضة الحاضرة.
ولقد كان روسو متحمسا لها إلى حد مدهش، كان يناصرها كما يناصر نبي رسالته، ويتحمل من أجلها الضرر والهول، ويقاسي النفي والفقر، ويصيبه الويل من كل جانب، وهو مع ذلك لا يفتأ ينادي بها، كان من هؤلاء الذين تستولي عليهم الفكرة فتأخذهم عن نفسهم وتحقر الحياة أمام عيونهم وتجعلهم يعيشون لها ولإبدائها ولنصرتها، وهؤلاء يبقى ذكرهم في العالم عظيما لأنهم عاشوا للعالم لا لأنفسهم؛ لذلك كان روسو يستحق الإعجاب.
أعرق في الفرنساوية وأرق وأدق من روسو وأكثر كتابة وأرقى في أيام حياته مقاما كان فولتير، فقد ولد في باريس بالذات من عائلة باريسية قديمة سنة 1694 وأعده والده لأعمال الكسب في الحياة فأبت عليه نفسه ذلك وأراد من أول أيامه أن يكون بين الأدباء، ولست في حاجة لأعرف فولتير فكل من يعرف أقل طرف من الأدب الفرنسي يعرف اسمه، ولكني أنقل هنا حكم (برنتير) عليه حكما صادرا من رجل من كبار نقاد الأدب والذين درسوا تاريخه قال: «ليس بين رجال الأدب الفرنسي إلا ثلاثة أسماء أو أربعة أكثر عظمة من فولتير، وإذا كانت ثمت من هم أشرف منه وأكثر بحق احتراما فلا أجد أعرق منه فرنسية، ويعكس لنا صورة صادقة من أنفسنا ولا أحد أظهر منه في أوربا بل أقول في العالم أجمع».
هذا هو حكم عالم أديب على فولتير، وربما لم أكن في حاجة لنقله فلا أحد يشك في عظمة هذا الكاتب الشاعر الفيلسوف الذي أخذ بيده رئاسة رجال الأدب والعلم في عصره، وكتب في كل المواضيع بنفس دقيقة لطيفة وذكاء نادر وسعة اطلاع مدهشة، ولقد كان ولوعا بالعظمة متطلعا إليها يعمل كل ما استطاع للوصول إلى غايته ولا يقف شيء أو اعتقاد في سبيله، وسافر وصحب كثيرا من الأشراف وذوي الإمارة، وكان صديقا للمعجب به أمير بروسيا الفيلسوف فرنند الثاني.
فولتير أحد الذين لقبوا من بين أدباء العالم «بملك الضحك»؛ ذلك أنه لم يترك شيئا إلا وتهكم به وأظهره في أشد أشكاله سماجة وقلب كل ما يثير عاطفة الأسف أو الحنان أو العطف عليه لشهوة الضحك منه والسخرية به؛ فالمذاهب والآراء والأديان والآلهة كلها لم تسلم من قلمه المر الساخر، قال مجيبا للدعاة إلى «الحالة الطبيعية» المنادين بعظيم ما فيها من جمال وسعادة: «ربما كانت أكبر أمنية هؤلاء أن يكونوا على أربع» ورد عليهم بقصته المسماة «كانديد أو الساذج
Candide » فلم يترك سخرية إلا نالهم بها، من ذلك يحكم القارئ على ما كان بينه وبين روسو من العلاقات.
وهو من ملوك الكتابة كما أنه من ملوك الضحك، قلمه سيال لطيف عذب وتصويره حلو وروحه خفيفة، كتابته دائمة الابتسام لا تقطب حاجبيها ولا تصيح ولا تغضب، تحس وأنت تقرأه بابتسامة دائمة تطوق ثغرك حتى وأنت تقرأ قصص أشد الحوادث إثارة للألم، ولا تغضب أنت منه مهما كان كلامه يناقض اعتقادك، بل تكون أمامه كمتدين أمام مجوسية بارعة مهما حوى قلبها من العقائد لا يفتأ ينظر إليها ويستعيد نظرها ويود لو تكلمه، فإذا كلمته لم يفارقها وإن لم يعتنق عقيدتها.
هذا هو الأثر الذي يجده قارئ فولتير، وهو لا يخرج منه بمذهب جديد ولا بعقيدة معينة، كما أنه هو لا يدعو القارئ لمذهب ولا لعقيدة، ليس كروسو الذي يحسب ما يقول الحق من عند الله بل هو كرابليه ولافونتين يأخذ الحياة ضاحكا منها لاهيا بها عاملا ليكسب من وجوده فيها قدر ما تستطيع هي أن تعطيه.
Bilinmeyen sayfa