وقال المستر بكوك: «هذا «تطبيق» يا سيدي ...»
وأجاب السيد البدين بحدة: «فاهم يا سيدي ...»
وأعقب اللعب دورا آخر من المستر ملر «المنحوس»، انفجر على إثره غضب السيد البدين وهياجه، فانتبذ من القوم مكانا قصيا، ولبث صامتا لا ينبس ساعة وسبعا وعشرين دقيقة، خرج بعدها من معتزله وأقبل على المستر بكوك يعرض عليه سعوطه، بدا كأنما قد قرر في نفسه أن يأخذ بالسماحة المسيحية فيصفح عن المسيئين إليه، ويغفر ما أصابه من أذى، وتبين أن سمع السيدة العجوز قد تحسن يقينا، وشعر المستر ملر السيئ الحظ بأنه قد أخرج من محيطه، كما يخرج الدرفيل فيوضع في مكان ديدبان.
أما اللعبة الأخرى، فقد استمرت في مرح وسلام، وكانت إيزابللا واردل والمستر تراندل «شريكين»، وكذلك كانت إملي واردل والمستر سنودجراس، حتى المستر طبمن أيضا والعمة العانس؛ فقد عقدا شركة بينهما من الروغان والملق، وكان المستر واردل الشيخ في أوج ابتهاجه، وأنسه ومرحه، وهو مضحك في تدبير ألعابه ورمي أوراقه، كما كانت السيدات العجائز فطنات ذكيات بعد المكسب، إلى حد جعل المنضدة كلها في قصف مستمر من المرح والضحك، وكانت بينهن سيدة لا تفتأ تخسر، وكان معها في كل مرة ست أوراق أو نحوها، فكان القوم يضحكون في كل دور، ولا يمسكون عن الضحك، وعندما نظرت السيدة العجوز نظرة الغاضبة من اضطرارها إلى الدفع، ازددوا هم ضحكا، حتى أخذ وجهها ينطلق شيئا فشيئا إلى أن راحت أشد منهم ضحكا من نفسها، وأعلى صوتا، وعندما ألقت العمة العانس ورقتين كانتا في يدها، وهما «البنت» و«الشايب»، كأنهما صورة «قران»، ضحكت الفتاتان مرة أخرى، وكادت العانس تنزع إلى الغضب، ولكنها شعرت بالمستر طبمن يضغط يدها من تحت المائدة، فعادت أساريرها تنطلق، وبدت كأنما قد فهمت، كأن «القران» في الواقع لم يكن بعيدا إلى الحد الذي ظنه بعض الناس وتوهموه؛ فعاود القوم الضحك، ولا سيما المستر واردل، فقد كانت النكتة تلذه بقدر ما تلذ الشباب، وأما المستر سنودجراس فلم يفعل شيئا غير الهمس بعواطف شعرية في أذن شريكته؛ مما جعل أحد السادات الشيوخ ينكت تلميحا على الشركة في لعب الورق، والشركة في الحياة، فما كان من السيد الشيخ إلا أن أبدى بعض الملاحظات على هذه المقارنة، مصحوبا بغمزات بالحواجب، وومضات بالفم، جعلت القوم يضحكون كثيرا ولا سيما زوجته، وانبرى المستر ونكل يلقي بنكات معروفة في المدن، ولكنها ليست معروفة إطلاقا في الريف؛ فضحك الجمع لها كثيرا، وقالوا: «إنها نكت ظريفة كل الظرف» حتى لقد شعر المستر ونكل بأنه قد أصاب شرفا عظيما، ومجدا باذخا، بينما لبث القسيس الخير مسرورا راضيا؛ لأن الوجوه المستبشرة التي أحاطت بالمائدة جعلته هو الآخر سعيدا قرير العين، ولئن جاء الضحك أقرب شيء إلى الصخب، فقد انبعث من القلوب لا من الشفاه، وهذا هو أفضل المرح وأحسنه حقا.
وانقضى المساء سريعا في تلك الرياضة البهيجة واللهو اللطيف، وبعد أن فرغ القوم من العشاء الدسم، وإن كان من النوع «البيتي»، انتظم الجمع حلقة أنس حول الموقدة، وقال المستر بكوك إنه لم يشعر في حياته يوما بمثل هذه الهناءة التي شعر بها الآن، ولم يحس من قبل ما يحس الساعة، من الإقبال على الاستماع بهذه اللحظات العابرة، والانتفاع بها غاية الانتفاع.
وقال المضيف الكريم، وقد جلس جلسة الأبهة والسلطان بجانب المقعد الرحيب، الذي جلست فيه السيدة العجوز ويدها مشتبكة بيده: «هذه هي اللحظة التي أحبها ... إن أسعد اللحظات في حياتي انقضت بجانب هذه الموقدة القديمة، وأنا بها جد مولع، حتى لأحتفظ بالنار مشوبة فيها كل مساء، إلى أن يشتد أوارها فلا يطيق المرء احتمالها ... وإن أمي العجوز هنا قد ألفت الجلوس أمام هذه الموقدة، فوق ذلك الكرسي الصغير الذي اعتادت الجلوس عليه وهي فتاة ... أليس كذلك يا أماه ...؟»
وكانت الدمعة التي تبادرت إلى عينها على عودة ذكرى الأيام الخوالي فجأة، ورغد السنين الماضيات، قد تسللت إلى وجهها، وهي تهز رأسها وتبتسم ابتسامة حزينة.
وواصل رب الدار المضياف حديثه قائلا بعد سكون قصير: «إني لأستميحك المعذرة عن حديثي بسبيل هذا المكان القديم، فإنه علي عزيز، ولا أعرف موضعا سواه، إن الدور والعقول القديمة لتلوح لي كأنها صحاب أحياء لي وأصدقاء، وكذلك كنيستنا الصغيرة التي أذكر بهذه المناسبة أن صديقنا الفاضل نظم في «لياليها» شعرا غنائيا، حين جاء أول مرة ليقيم بين ظهرانينا ... يا سيد سنودجراس، هل بقيت في كأسك قطرات من الشراب؟»
فأجاب المستر سنودجراس: «كثيرة ... وأشكرك ...» وكان فضوله الشعري قد هاج في نفسه عند سماع العبارة الأخيرة التي فاه بها مضيفه الكريم، فاستتلى يقول: «عفوا إذا أنا ذكرتك بأنك قلت اللحظة شيئا عن أغنية اللبلاب.»
فقال رب الدار وهو يومئ برأسه إيماءة العليم نحو القسيس: «سل صديقنا الجالس قبالتنا عن أمرها ...»
Bilinmeyen sayfa