فقد انبرى شاب ناحل يكاد يلوح طويلا، وهو في سترة خضراء اللون، وقد خرج فجأة من فناء المركبات يقول: «ما هي القصة؟»
فعاد القوم يصيحون: «مخبرين!»
وعندئذ زأر المستر بكوك بلهجة تحمل معها الإقناع لكل سامع مجرد من الهوى: «لسنا كذلك!»
وقال الشاب مخاطبا المستر بكوك: «ألستم كذلك ... ألستم كذلك؟»، ومضى يشق طريقه وسط الزحام بتلك الحركة التي لا تخطئ الهدف، وهي دفعه بالمرفق وجوه كل من لقيه في طريقه.
وأنشأ ذلك العالم في بضع كلمات عاجلة يشرح له حقيقة الموقف.
وعندئذ قال الشاب ذو السترة الخضراء، وهو يسحب المستر بكوك في أثره بالقوة، ويستمر في الكلام وهو منطلق على هذا النحو: «تعال معي إذن ... وأنت يا رقم 924 خذ أجرتك، واذهب وشأنك ... هذا سيد محترم ... وأنا أعرفه حق المعرفة ... هذا كلام فارغ ... من هنا يا سيدي ... أين أصحابك؟ كل هذا نتيجة خطأ كما أرى ... لا بأس ... هذه حوادث تقع كل ساعة ... لأحسن الأسرات، وخيار الناس ... لا عليكم، ولا يهمكم الأمر ... سوء حظ صادفكم ... شدوه إلى مقعده ... ضعوا هذه في قصبته ... ليستطيب مذاقه ... مجرمون ملاعين ...»
مستر بكوك يحيى أعضاء النادي.
وبهذا الخيط الطويل من العبارات والجمل المتقطعة ونحوها، مضى الغريب يطلقها بذلاقة وسرعة غير مألوفة، مشى في المقدمة صوب «استراحة» الركاب، يتبعه المستر بكوك ومريدوه.
وصاح الغريب، وهو يدق الجرس بعنف بالغ: «يا غلام ... هات دورا من البراندي والماء، ساخنا وقويا، وحلو المذاق وموفورا ... هل أصاب عينك أذى يا سيدي؟ ... يا غلام! قطعة من لحم العجول نيأة لعين السيد؛ ليس ثمة علاج أفضل للرضوض من هذا اللحم النيئ يا سيدي ... إن عمود النور البارد مفيد جدا، ولكنه غير مريح ... لأنه يقتضي وقوفك في الشارع في العراء نصف ساعة، لاصقا عينيك بالعمود ... مفيد جدا ... ها ... ها ... وانثنى الغريب دون أن يتمهل لحظة ليملك أنفاسه، يرتشف في جرعة واحدة نصف لتر من البراندي والماء القراح، وتهالك على مقعد بكل بساطة، كأن شيئا غير مألوف لم يحدث إطلاقا.
وبينما كان الأصحاب الثلاثة في شغل شاغل بتقديم شكرهم لهذا الرجل الجديد الذي عرفوه، أتيح للمستر بكوك أن يتأمل لباس الرجل ومظهره، فبدا له أنه يكاد يلوح أنه ربعة، وإن جعلته نحافة جسمه واستطالة ساقيه يبدو أطول كثيرا مما هو في الواقع، وكانت السترة الخضراء لباسا رشيقا في تلك الأيام، التي شاعت فيها الأردية ذوات الأذيال الشبيهة بأذيال «الخطاطيف»، ولكن الواقع أنها في ذلك العهد كانت أليق برجل أقصر من هذا الغريب كثيرا؛ لأن أردانها القذرة الناحلة اللون لا تكاد تصل إلى معصميه، وكانت مزررة عليه إلى ذقنه تزريرا شديدا، حتى ليخشى أن تتفتق من الظهر، وقد زان رقبته بلفافة قديمة، فلا أثر عليه لبنيقة من قميص، وقد بدت في مواضع متفرقة من سراويله القصيرة السود رقعات براقة تتحدث عن طول العهد بالابتذال، وهي مشدودة بإحكام إلى حذاء مرقع، كأنما أريد بها إخفاء الجورب الأبيض المتسخ، وإن ظهر مع ذلك واضحا للعيان، وقد أفلتت من شعره الأسود المستطيل موجات مهملة من تحت كل جانب من جوانب قبعته المرقعة، كما كانت تلوح لمحات من معصميه العاريين بين أعالي قفازيه وأردان سترته، وكان وجهه ناحلا شاحبا منهوكا، وإن شاع على الرجل ذاته أثر لا يوصف من جرأة مرحه، واعتداد تام بالذات.
Bilinmeyen sayfa