وما دمت في صدد «اعترافاتي» فإني أقر على نفسي بأني تورطت مرة في الحب عن طريق الحياء، كان ذلك في باكورة الشباب، وأنا بطبعي مرهف الحس، وهذا باب ينفذ منه الحب في يسر وسهولة، ولقد أحببت حبا عاطفيا روحانيا، ولكني أدركت مع الأيام أن الحب أمر متعب لا لزوم له ولا فائدة منه، فتخلصت منه، وكان للحياء دخل في نهايته، كما كان له أثره في بدايته. وتعلمت من هذه التجربة أن من الخير للإنسان أن ينشد الحب العائلي؛ أي الحب بين الزوجين، الحب الهادئ المعتدل المتصل؛ فإنه من أركان السعادة في هذه الحياة. (3) المرونة والعناد
إني لا أملك المرونة الكافية التي يقتضيها الانسجام في المجتمع، أنا مهذب ومؤدب في أحاديثي مع الناس وفي معاملتي لهم كبارا وصغارا، والناس - فيما أظن - يشهدون لي بذلك. ولكني أعترف بأني لست مرنا كما ينبغي، والمرونة في نظري واجبة، وعندي جانب منها، ولكني أعتقد أنه ضئيل، وقد سعيت في أن أستزيد منه فلم أبلغ ما أريد، ولعل السبب في ذلك أن بي عيبا آخر لا يتفق مع المرونة، وهو العناد، ولا أعرف من أين جاءني هذا العيب.
أرى الناس أحيانا يكونون في الشرق وأنا أكون في الغرب، أليس هذا عنادا؟ وعبثا حاولت أن أعالجه فلم أستطع، وتساءلت لكي أقنع نفسي بالإقلاع عنه: كيف يتفق الحياء مع العناد؟ فلم أجد جوابا مقنعا، إلا أن كليهما عيب، ولكن لا سبيل إلى التخلص منهما.
على أن العناد لم يبلغ بي مبلغ التنطع والسخف، بل إني لأعذر نفسي أحيانا في عنادي لأني إنما أعاند فيما أعتقد اعتقادا راسخا بعد دراسة عميقة بأني على حق فيه؛ فكيف أكذب نفسي وأصدق الناس؟! ثم إني كثيرا ما أراهم يسيرون في بعض الشئون وراء أكاذيب ضخمة اصطلحوا عليها دون بحث أو دراسة، فكيف أوافقهم على ذلك؟ وأراهم يرجعون أحيانا عن آرائهم واتجاهاتهم؛ فما رأوه بالأمس أبيض يرونه غدا أو بعد غد أسود، وما رأوه حراما يرونه اليوم حلالا، فهل أدور معهم كل يوم أينما داروا؟ إن هذا ما لا أحتمله ولا أطيقه، فليكن مسلكي عنادا، وليكن العناد عيبا، ولكنه عيب له «ظروفه المخففة» كتعبير رجال القانون. (4) الحفلات والمآدب
الحفلات والمآدب من الوسائل العملية ليكون الإنسان «اجتماعيا»، ويتعرف إلى أكبر عدد من الناس، وتعلو بذلك منزلته الاجتماعية والسياسية. ولكني أعترف بأني لا أميل كثيرا إلى حضور الحفلات والمآدب، وأعتذر عن أكثرها، ولا أحضر إلا القليل منها، وهذا عيب كبير.
إني بطبعي أميل إلى الاجتماعات، أما الحفلات والمآدب فيصدني عنها أن الرسميات لها المقام الأول فيها؛ فأصحاب الرفعة والدولة يقدمون على أصحاب المعالي، وأصحاب المعالي يقدمون على أصحاب السعادة، والوزراء يقدمون على غير الوزراء، والباشوات يقدمون على البكوات، والبكوات على الأفندية، وهلم جرا، وأصحاب الدعوات يلاحظون هذا الترتيب بكل دقة ولهم عيون ورقباء يقومون على تنفيذه. والصحافة أيضا تسير على هذا الغرار في وصف الحفلات وأسماء من يحضرونها. وأنا شخصيا لا أقر هذه الأوضاع ولا أهضم توزيع مظاهر الاحترام والحفاوة بهذا الميزان ؛ ومن هنا أميل إلى الاعتذار عن معظم هذه الحفلات والولائم، وهذا ولا شك نقص كبير سأعالجه مع الزمن ... (5) حسن ظني بالناس
إني حسن الظن بالناس أكثر مما يجب، ويلزمني أن أتعلم المثل القائل: «إن سوء الظن من أقوى الفطن»، لقد قرأته كثيرا ولكني لم أعمل به ولم أتبعه.
أحسنت ظني بأناس كثيرين وخاب ظني فيهم. ومن الغريب حقا أني لا أفيد من التجارب، فكان يجب علي أن أسيء الظن بالناس بعد ما رأيت المرة بعد المرة من خيبة ظني في كثير منهم، ولكني مع ذلك أعود فأحسن ظني بهم؛ أي أعود إلى ما كنت فيه ... فمتى - ليت شعري - أتعلم؟ (6) وبالحوادث ...
ومن عيوبي أني حسن الظن بالحوادث، وأني متفائل أكثر مما ينبغي، وكثيرا ما تأتي النتائج على غير ما كنت أتوقع، ومع ذلك لا أتعلم ولا أغير من نظري إلى الناس والحوادث.
أنا لا أتهم نفسي بالغباوة؛ فإني لست غبيا ولا بليد الذهن، فلا أظلم نفسي وأدعي الغباوة، ولكن لماذا إذن لا أتعظ ولا أتعلم إساءة الظن بالناس والحوادث؟! لعل لي عذرا في هذا العيب؛ فإني لو رضت نفسي على أن أعرف العالم على حقيقته وأسأت ظني بالناس، لما ترك لي اليأس مجالا للعمل، ولسد علي منافذ الأمل، أو لعل الأيام والحوادث سواسية فيما تأتي به من خير أو شر، فلنقبلها على علاتها، ولننظر إليها كما يقول فيها أبو تمام:
Bilinmeyen sayfa