المسرح والوطنية
قلت إن إقبال الطبقات الراقية على الأجبسيانة كان بالغا أشده، حتى أن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام. وأذكر على سبيل التخصيص ذلك الرجل الذي أكن له إلى اليوم احتراما وتقديرا كبيرين، إلا وهو الأستاذ عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة (سابقا)، وصاحب المواقف المشهورة في الدفاع عن لغة البلاد بين جدران تلك المحكمة.
كان عبد السلام في ذلك الحين محاميا ببني سويف، وكان «زبونا» مستديما للأجبسيانة. وفي اليوم الذي يشعر أن مرافعته في إحدى القضايا قد تجبره على البقاء هناك إلى القطار الأخير. أقول إنه كان في هذه الحالة يحجز مقعده في التياترو بالتلغراف، ثم ينزل من القطار إلى التياترو مباشرة!!
وحين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع. فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد.
وكان من آثار هذا الإقبال وذلك النجاح أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان ينازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية (إذ لم يكن للصحف الأسبوعية وجود في ذلك الحين). ولم يكن القارئ يفرد بين يديه إحدى الصحف إلا وجد فيها نهرا أو نهرين يتغنى كاتبهما بلعنة خاش كشكش وروايات كشكش واللي خلفوا كشكش كمان!!
ومع كل ذلك لم أكن أعير هذه الحملات أي التفات، ولم أكن أحدث نفسي بالرد على أي كاتب. وتحضرني في هذا المجال عبارة قالها أحد النقاد وهو الأديب المعروف الأستاذ حامد الصعيدي (الموظف الآن بالبرلمان): ذلك أنه قال يوما لبعض صحبه: «إيه اللي رايحين نعمله في راجل نفضل نشتم فيه في الجرايد، يقوم حضرته يرد علينا بكلمة: «ولو»، وهو اسم الرواية التي كنت أمثلها إذ ذاك!!
على أن ذلك كله لم يؤثر من ناحية الإقبال أي تأثير - ولئن كان هناك شيء من ذلك فقد كان تأثيرا عكسيا، لأن الجمهور كان يتهافت على حضور حفلاتنا تهافتا لا مثيل له.
وفي ذلك الحين ظهرت طوائف «البلطجية» الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد مسرحنا، كالمرحوم علي كامل فهمي وأمثاله من الشبان الوارثين والسراة. وقد شاءت دناءة بعض حسادي أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربي، وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل التياترو، ولست أنسى أن رصاصة مسدس أطلقت علي شخصيا أثناء التمثيل ... ولكن الله سلم. وفي ليلة أخرى أطلق مأفون علي حصا من نبلة كادت تصيب عيني إلا قليلا!!
فكرت كثيرا في هذه الحوادث فرأيت ألا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحثت عن رئيس تلك العصابات وعلمت أنه (يوسف شهدي)، فجئت به، وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هي حفظ نظام الصالة!! ولقد أفلحت خطتي هذه، فوقفت المشاغبات نهائيا. وسار الحال من تلك اللحظة على ما يرام!!
إش ...!
Bilinmeyen sayfa