ولم تأت نهاية الإجازة إلا بعد أن أتت على آخر قرش أبيض من قروشي المدخرة للأيام السوداء. وأخيرا اقترضت أجرة القطار إلى نجع حمادي في الدرجة الثالثة يعني «ترسو». وكان الله بالسر عليما.
حنين إلى الفن
وهناك ساءت أحوالي، وعادت (غية) التمثيل تتراءى لي في الغدو والرواح، فلم يهنأ لي بال ولم يرتح لي فؤاد. وأذكر أن صديقا لي هو الدكتور جودة (طبيب الأسنان المعروف الآن) كان معي في نجمع حمادي، فكنت أجبره على الإنصات لي، حين كنت أقف أمامه لألقي قطعة تمثيلية مما رأيته أثناء زيارتي الأخيرة للعاصمة، فأقلد تارة جورج أبيض وتارة أخرى عزيز عيد أو أحمد فهيم، أو غيرهم من كبار الممثلين!!
وكم ضاق بي الدكتور جودة ذرعا، وعمل على التهرب مني حين كنت أجبره على سهر الليالي، لا في طلب المعالي، بل في وجع دماغه بأقوال لويس الحادي عشر، وصرخات القائد المغربي عطيل، وتأوهات الملك أوديب وغيرهم من بقية الشلة المحترمة التي يتزعمها أستاذنا الكبير جورج أبيض.
جمهوري الأول
وهكذا كان صديقي الدكتور جودة بمثابة (الجمهور)، الذي ألقي عليه ما اقتبسته من قطع تمثيلية، علقت بذهني حين كنت أشاهد روايات فرقة الأستاذ جورج أبيض الأولى.
لم يكن حظ «جمهوري» المسكين، (وهو الدكتور جودة) مقصورا على سماع مقتطفاتي «الأبيضية»، بل كنت أعمد أيضا إلى تأليف منولوجات وأزجال مثل معي فيها، وأغان ومنثورات فنية كنت أحمله «بالعافية» على سماعها، فإذا «زعل» فإن نهر النيل يمر بنجع حمادي، وماؤه ولله الحمد غزير فليشرب منه من يشاء ...!
وشاء الله بعد فترة من الزمن أن يزداد «جمهوري»، وأن يجد الدكتور من يحمل العبء عنه والصعب دونه، إذ وفد على نجع حمادي المهندس الظريف الأستاذ محمد عبد القدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك.
ائتلفنا إذ ذاك ائتلافا تاما، وتسلينا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وتباحثنا كثيرا في فنون «الدردحة». ولست أدري أكنت أتلقى هذه الفنون على يد كندس، أم كنت ألقنه إياها. ولكنني أعترف على كل حال أنه كان «مدردرح جاهز» قبل أن ينزل ركابه في بلدة نجع حمادي.
كان عبد القدوس من هواة التمثيل، وكان حاله كحالي في جنون الفن. ولذلك كانت كل اجتماعاتنا جنانا في جنان!
Bilinmeyen sayfa