لا يزال سيف الأحكام العرفية على الرقاب في هذه البلاد الآمنة بعد انقضاء مدة الحرب بنحو أربعة عشر شهرا، في حين أن البلاد لا تطلب استقلالها إلا بالوسائل السلمية المشروعة، ولا تزال الأحكام العرفية تتخذ ذريعة لإيجاد القلق في أنحاء البلاد وبث الجنود الإنجليز في كثير من حياتها للتضييق على الناس في حياتهم اليومية تضييقا لا يرعى حرمة حتى لمنازل كبرائهم وأئمة دينهم.
فهذه مدينة طنطا أصاب أهلها الأبرياء ما أصابهم من قتل وجرح وسلب وغير ذلك من صنوف الاعتداء، وكان العدل يقضي بالقصاص من المعتدين عليهم، فانقلبت آية ذلك العدل واعتبر البريء جانيا والجاني بريئا، وبدلا من أن يجري تحقيق حتى لا تزر وازرة وزر أخرى، وقع القصاص على الأهالي الأبرياء، وأصبحوا يعاملون معاملة المدن المحاربة التي يفتحها العدو في خلال الحرب الطاحنة.
وهؤلاء كثير من أبناء مصر صودروا في حريتهم الشخصية، وشردوا وأوذوا واعتقلوا بغير جريرة وبلا محاكمة ولا سؤال، بل كان قيامهم بواجبهم الوطني سببا لإيقاع هذا الأذى بهم، مع أنهم لم ينفردوا بهذا فالأمة مشتركة معهم فيما يعزونه إليهم من الإثم إن كانت محبة الوطن إثما والمطالبة بالاستقلال وزرا يستوجب التعذيب.
ومن الغريب أن ترتفع أصوات العدالة من جميع أنحاء العالم، فلا تصادف ملبيا من أولئك المسيطرين على مصر بالرغم من إرادتها، فهم يصمون آذانهم كلما سمعوا نداء منبعثا من القلوب المجروحة المتألمة وكأنهم آلوا على أنفسهم أن يقفوا جامدين حيال كل مطالب بحقوقه.
وليت الأمر لم يتعد هذا النوع من التعذيب لغير ذنب، فإن أنباء المعتقلين تدل على أنهم يعاملون معاملة سيئة، وكيف تطيب هذه المعاملة وسواء هم مبعدون في الصحاري ومحرومون من كل ما يقيهم أذى البرد الشديد الذي يفري أجسامهم ويعرض للخطر حياتهم. وقد أخذت الأمطار الشديدة تهطل عليهم، والرياح العاصفة تهب على خيامهم فتقتلعها تاركة سكانها يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء.
لقد بحت الأصوات وحفيت الأقدام واهتزت الأسلاك البرقية بالمطالبة بالإفراج عن هؤلاء المعتقلين، فالإصرار على هذا الاعتقال بعد ذلك يعد استخفافا بشعور الأمة ومنافيا لأبسط قواعد المدنية والعدل.
فنحن باسم هذه المدنية نطالب بوضع حد لهذه السياسة الغاشمة، وباسم الحق والعدل نلح في ضرورة الإفراج عن كل معتقل سياسي.
وفي الاجتماع السابع الذي عقد في السادس والعشرين من فبراير 1920 برئاستي، كان هذا الاحتجاج الذي صدق عليه بإجماع الآراء، والذي تم توجيهه إلى رئيس الوزراء:
إن الفظائع التي يرتكبها يوميا الجنود البريطانيون بمصر، والمراوغة التي يستعملها رجال الحكومة الإنجليزية لاغتصاب حقوقنا الشرعية، لمن الأمور التي تستفز الأنفس على حلمها، وتهدد الأمن العام وتنافي الإنسانية، فباسم العدالة وبحق الواجب الذي فرضتم على أنفسكم القيام به نحو وطنكم وأمتكم يوم اعتناقكم منصب الوزارة المصرية، والذي يحتم عليكم المدافعة عن حياة الأمة والمطالبة بحقوق الوطن المقدس، نستحلفكم أن تقوموا بما تمليه عليكم الإنسانية عن لسان الشعب المظلوم، وهو الاحتجاج بشدة على الفظائع المذكورة ومحاكمة الضباط والجنود الذين تعدوا على طلبة المدرسة الإعدادية لعدم تكرار مثل ذلك مرة أخرى.
وفي الاجتماع نفسه، اتخذنا قرارا بالاحتجاج على مشروع ري السودان للأسباب التالية:
Bilinmeyen sayfa