ولقد ظللت بعد ذلك فترة طويلة دون أن أقدر وضعي الجديد الذي كان يقتضي مني الرزانة، ويحتم علي أن أظهر بمظهر ربة البيت بمعنى الكلمة، فقد كنت بحكم سني أميل إلى عالم الطفولة وألعب كلما وجدت إلى اللعب سبيلا.
على أنني لم أتهيب حياتي الزوجية طويلا، فقد كنت أميل إلى زوجي بحكم قرابتي له، ولما كان يظهره من عطف علي بعد زواجنا. وبدأت آنس به وأطمئن إليه شيئا فشيئا، إلى أن لاحظت بعد أشهر أن هناك شيئا غامضا قد استولى عليه، فتغيرت أحواله معي ومعاملته لي، ولم أكن حتى ذلك الوقت أدري لهذا التغيير سببا.
كنت إذا أردت زيارة صديقة أو قريبة، منعني من الخروج، وإذا زارتني صديقة أو قريبة استجوبني استجوابات كثيرة وملحة عما جرى بيننا من أحاديث، كأنما كان يخشى أن يكون قد وصل إلى علمي شيء لا يريد أن أعلمه. وكنت إذا لجأت إلى التسلية بالعزف على البيانو، أرسل يطلب إلي أن أكف عن العزف لوجود ضيوف معه. وهكذا شعرت أنه يقيد حريتي تقييدا ظالما. وتألمت لذلك كثيرا، وبدأت أشعر بالكآبة والسأم، وضاقت الحياة في وجهي، وأصبحت أبكي كثيرا بسبب أو لغير سبب، وحتى لا يدرك أحد حقيقة معاناتي، فإنني كنت أحتفظ معي دائما بكتاب، وأدعي لمن يراني باكية أو متأثرة أنني منفعلة بأحداث محزنة كنت أقرؤها، وما كان يبكيني في الحقيقة غير قصتي المؤلمة!
ولقد لاحظت أن زوجي يكثر من الصلاة والدعاء، فكنت أقول له مازحة: لا بد أنك اقترفت ذنبا يستوجب التكفير، ولكن الله لن يستمع لدعواتك، وعندئذ كنت أجده أكثر اضطرابا دون أن أدري لذلك سببا.
وفي قلب هذه الظروف، وقع حادث سياسي خارجي دفعني إلى التفكير بعيدا عن دائرة حياتي الخاصة. كان ذلك عام 1895 عندما نشبت حرب تساليا بين تركيا واليونان؛ حيث وجد المصريون أنفسهم في موقف يستوجب مساعدة الأتراك، وكان أن شكلت لجنة من الرجال للمساعدة برئاسة المرحوم رياض باشا، وتولت السيدة قرينته رئاسة لجنة السيدات، وقد طلب من زوجي أن أكون عضوا فيها رغم صغر سني، فوافق على الفور، وكانت هذه أول مرة أقوم فيها بالمساهمة في عمل اجتماعي إنساني عام نبهني إلى واجب الفرد نحو المجتمع وجعلني أقدر فائدة التضامن.
وقد وجدت في هذا الأمل أكبر تسلية وعزاء وصرت أنظر إلى نفسي بعين الاعتبار والتقدير بعد أن خضت عباب المجتمع، وتمكنت من دراسة أخلاق الناس عن كثب، والمقارنة بين شعورهم وآرائهم وعرفت كم يعاني الإنسان في سبيل التعاون على الخير. وكم يريق ماء وجهه في السعي إليه مدفوعا بشعور الواجب والإنسانية.
وكان الدرس الثاني الذي تعلمته هو أنه بعد أن انتهت الحرب بانتصار تركيا، أراد الباب العالي أن يعبر عن عرفانه لمصر بالجميل، فأرسل النياشين وآيات الشكر إلى رئيس الحكومة الذي خلف رياض باشا، وبذلك نال التقدير من لم يناصروا تركيا أو يأخذوا بيدها، وهكذا تعطي الحياة غالبا من لا يستحق وكفى المجاهد أنه أرضى ضميره.
وهكذا خرجت من هذه التجربة وقد استفدت في مدة قصيرة أضعاف ما كان يمكن أن أكسبه من خبرة في سنين طويلة، كما تعلمت منها الصبر وسعة الصدر، وكان علي بعد أن انتهت المعركة أن أعود إلى دائرة حياتي الضيقة من جديد.
ذات يوم من الأيام، سمعت والدتي تناقش زوجي في غضب وبصوت عال، ثم نادتني وسألتني عن الوثيقة التي أعطاها لي زوجي، فلم أجب لأنني لم أتذكر أنه أعطاني وثيقة، ولكنه قال لي: إنها داخل المظروف الذي سلمته لك غداة يوم زواجنا. وتذكرت أنه كان قد أعطاني مظروفا مغلقا مكتوبا عليه «يحفظ طرف الهانم» وأنني كنت قد وضعته في دولابه دون أن أعلم ما بداخله، وعندما أحضرته لاحظت أن والدتي قد اطمأنت وأخذت المظروف مني واحتفظت به.
لقد تعودت والدتي أن تسافر من وقت إلى آخر لزيارة قبر والدي وقضاء ليلة في المنيا في منزل عمتي «والدة زوجي»؛ حيث كانت تسكن معها بناته ووالدتهن، ولما عادت في هذه المرة الأخيرة، استقبلتها على السلم كالعادة فوجدتها حانقة مكفهرة، وعندما دخلت غرفتها وخلعت إزارها ، فاجأتني قائلة: لماذا أخفيت عني طوال هذه المدة ما يؤلمك ويحزنك، وكلما سألت عن سبب بكائك، ادعيت أنك تقرئين قصة محزنة؟ قلت: إنني لم أخف شيئا، والحقيقة هي ما كنت أقول. ردت: أما زلت تحاولين الإخفاء؟ لقد عرفت الأمر. سألت: أي أمر؟ قالت: عودة زوجك إلى أم أولاده التي حملت منه وهي الآن على وشك الوضع.
Bilinmeyen sayfa