وقد أعجبتني تلك الضاحية الرائعة التي كانت في أبهى حلل بهجتها في ذلك الوقت؛ حيث كان الخديوي توفيق يتخذها مشتى له، كما كانت أغلب العائلات الكبيرة تقضي فصل الشتاء فيها. ويؤمها في أيام الجمع والآحاد والأعياد معظم أهل القاهرة للنزهة وقضاء الوقت في الكازينو ودور التمثيل. وكان الشيخ سلامة حجازي رحمه الله يمثل في مسرح الكازينو روايات تاريخية غاية في الإتقان والإبداع، ولما كنت أميل كثيرا للروايات المسرحية وأحب الموسيقى، فقد صادفت حلوان في نفسي قبولا وسرورا، فضلا عن أن المرأة لم تكن تخرج كثيرا في المدن في ذلك الوقت، ولذلك كانت تجد في حلوان بعض الحرية التي لا تتمتع بها في القاهرة فتخرج النساء للنزهة هناك.
وقد حدث ذات يوم أن جاءت إحدى صديقاتي من القاهرة لتقضي معي بضعة أيام في حلوان، وفرحت كثيرا، وخرجت معها بعد الظهر، لأطلعها على ما في حلوان من روعة وجمال، ولم نكد نتجه إلى المحطة حتى فوجئت بقدوم «سعيد آغا» عابسا ليقول لي: إلى أين أنت ذاهبة؟ عودي إلى البيت فورا.
وأذعنت لأمره رغما عني ... وعدت ومعي صديقتي. فلما دخلت أدهشني وجود معلمة اللغة التركية بالباب. ولما سلمت عليها، وجدت بيدها طرحة بيضاء وضعتها على رأسي في الحال، ثم وضعت مصحفا تحت إبطي، فازدادت دهشتي من هذا العمل الذي لم أتعوده أو أفهم له معنى. ثم جاء سعيد آغا وخلفه علي بك فهمي وزوج خالتي سعد الدين بك، فهرولت إلى غرفتي ... وعندما وجدتهم يتبعونني، لجأت إلى النافذة وأعطيتهم ظهري ففاجأني علي بك قائلا: إن ابن عمتك علي بك شعراوي يريد الزواج منك ... فمن توكلين منا؟
في تلك اللحظة بالذات، فهمت معنى كل تلك الاستعدادات وهذه الأشياء التي لم يمكنني تفسيرها من قبل. وأخذت أبكي وأنا مولية لهم ظهري ... ولما طال وقوفهم، تقدم «سعيد آغا» وهمس في أذني: أتريدين إغضاب روح والدك والقضاء على والدتك المريضة ... إنها في غرفتها تتلوى على سرير المرض وتبكي ... وربما لا تحتمل الصدمة إن أنت رفضت.
وأصابت مني هذه الكلمات مواطن الضعف، فقلت لهم: افعلوا ما تشاءون، وخرجت مهرولة إلى غرفة والدتي، فاصطدمت بمسمار كان في جانب الباب، فشج رأسي وأسال دمائي، وكان المنظر محزنا ومؤلما فبكت صديقتي وبكى كل من حولي.
وهكذا أمضيت مدة إقامتنا في حلوان حزينة النفس دامعة العينين، كلما فكرت في أنني سأزف إلى ابن عمتي. وكان سبب عدم رغبتي في الزواج منه هو أنني شببت أراه عميدنا، والمشرف على شئوننا إشراف الأب أو الأخ الأكبر، الذي يجب أن أخشاه وأحترمه، ثم أتذكر أنه أب لثلاث بنات يعشن معه ومع أمهن، وأن ابنته الكبرى كانت تعيرني بأنني سأكون زوجة أبيها ... وكانت كلما أرادت إغاظتي نادتني «يا امرأة أبي»، ثم أتذكر أيضا أنني كلما ذهبت لتحيته، لم أجد منه تلطفا في الحديث، على خلاف معاملته لأخي.
ولما انتهت إقامتنا في حلوان وعدنا إلى القاهرة، وجدت تغييرا عظيما في منزلنا، وبدأت الخياطة تتردد علينا لإعداد ثياب الجهاز، فكنت أرفض ارتداءها ولا ألتفت إلى شيء مما يدور حولي، إلى أن اقترب موعد الزفاف وبدءوا في إقامة الزينات، وقد لاحظت أن والدتي كانت خلال هذه الفترة دائمة الثورة والغضب، تماما كما كانت عندما خطبت، ولكني لم أعلم سبب ذلك لأنني كنت أتجنب السؤال عن أي شيء.
وحتى يوم حفلة زواجي، كنت أجهل الاستعدادات التي عملت من أجلي، ولا أعرف الجناح الذي أعد لي في المنزل ... فأخذتني والدتي للفرجة عليه، وهنا أعترف بأن ما رأيته من الرياش الفاخر قد أدخل على نفسي شيئا من السرور، وغابت عني الحقيقة التي كنت أخشاها أمام هذا الجمال الساحر.
ولما بدأت ليالي الفرح الثلاث، أخرجني ما سمعته من الموسيقى وما رأيته من المظاهر المفرحة عن تلك الأحاسيس التي كانت تنتابني، وكنت أضحك وأمرح مع زميلاتي اللائي يحضرن هذه الليالي، حتى ظن أهل البيت أن الحالة الأولى لم تكن إلا مظهرا من مظاهر الخجل التي تستولي على الفتيات في مثل هذه الظروف. وزاد من فرحي ما رأيته ليلة الزفاف من العناية الفائقة بشخصي، وكدت أطير من الفرحة عندما دخلت غرفة الزينة وارتديت حلة العرس المزركشة بالذهب والفضة، وأذهلني لمعان الماس والجواهر التي حلوا بها صدري وتوجوا رأسي وزينوا ساعدي. وتصورت أنني سأبقى في هذا الزي وعلى هذه الحال إلى ما شاء الله.
ولما أقبلت المغنيات لزفافي إلى الجناح الذي أعد لي، وكان على مسافة طويلة، وبدأت أشعر بثقل هذه الأشياء، فصرت أتوكأ على زميلاتي فتيات الشرف وأنا أسير بين الشموع المتوهجة ورائحة الأزهار الزكية حتى وصلت إلى البهو الكبير، وهناك رأيت حشدا ضخما من السيدات المصريات والأجنبيات في ثياب السهرة البديعة، وكلهن عيون شاخصة إلي، مليئة بالتأثر والحنان.
Bilinmeyen sayfa