ورب ابتسامة حالمة زوقت لعيني مشاهد العيش، وأرتني جمال الحياة ...
ورب مرأى من مرائي هذا الوجود أضرم في قلبي نيران الشعور وأسكر نفسي برحيق الخيال، فأصبحت شعلة نارية تتقد بين البشر.
ولما صح العزم اصطحبت رفيقي وسرنا، وقبل أن نتجاوز المدرسة التقينا ببعض الرفاق وخرجنا جميعا وظللنا نسير سوية، ولما وصلنا مفترق الطرق سألونا إلى أين نذهب؟ فقلنا: إلى البلفيدير. فعزموا علينا أن نرافقهم إلى أين هم ذاهبون، فقلنا: وما هي الغاية؟ فقال أحدهم: إنها مقهاة بعيدة عن صخب المدينة وضوضائها قريبة من البرية، مكتنفة بالأشجار الجميلة والمشاهد المستحبة، فاستهواني الوصف ورافقتهم، وما هي إلا ساعة حتى كنا نسير في المزارع التي تداعب الشمس أعشابها.
وكانت مشاهد كثيرة متباينة، ههنا صبية يلعبون بين الحقول، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يتريضون في الهواء الطلق والسهل الجميل، ومن لي بأن أكون مثلهم! ولكن أنى لي ذلك والطبيب يحظر علي ذلك، إن بقلبي ضعفا.
آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية.
السبت 18 جانفي 1930
في هذا اليوم قد بدأت حياة جديدة، ودخلت في طور من عمري جديد، طور المتاعب والمشاغل والمادة الصماء التي لا تعي ولا تسمع، ولا تفقه غير لغة المال.
جرت عادة العدلية مع تلامذة السنة الثانية من دروس الحقوق أن يدخلوهم إلى دوائر العدلية بصفة معينين للكتبة لكي يستفيدوا من ذلك المران دروسا تطبيقية مفيدة تكون عتادا لهم في مقتبل أعمارهم حين يصبحون حكاما.
ويا لله، كم تشرئب لمثل هذا المنصب نفوس، وتتحرق له قلوب مسكينة. ويا لله، ما أبغضه إلي وأكرهه!
وكان يومنا هذا هو يوم توزيعنا على الدوائر المختلفة. وفي الساعة التاسعة والنصف كنا أمام بيت أستاذنا محمد المالقي. وما هو إلا قليل حتى خرج الأستاذ. وبعد التحية سار بنا في منعرجات العدلية، وصعد بنا في طباقها إلى أن وصل بنا إلى مكتب أحد أساتذتنا الفرنسيين ليقدم إليه أسماءنا. وبعد قليل كنا راجعين أدراجنا وراءه إلى أن وصلنا أين كنا جالسين. فدخل الأستاذ إلى مكتبه ليستخرج الورقة التي نظمت فيها كيفية توزيعنا. وبعد يسير خرج الأستاذ يحمل في يده ورقة، واستند إلى الحائط وأخذ يتلو على التلامذة المحيطين به أسماءهم، وكيفية ترتيبهم. فكنت ورفاقا لي ثلاثة بالدائرة المدنية. ولا تسل عن غضب هذا، واشمئزاز ذاك، وتألم ذلك، لأنه لم يحرز على المركز الذي كان يرجوه، إما لقلة العمل فيه، أو لغزارة فائدته، أو لغير ذلك من الأسباب التي كانت تملأ أدمغة كثيرة. وأحسب أن مركزنا كان مغبوطا من أكثر رفاقنا، قد اضطر أن يعقب ذلك التصريح بقوله: «إنني أعلم أن كثيرا منكم سيغضب لأنني لم أرشحه في الدائرة المدنية، ولكن من المعقول أن تعلموا أن هاته الدائرة لا تسع جميعكم. على أنني أقول لكم: إنه لا بد أن يقع تبادلكم المراكز كلما يمر عليكم حين من الدهر ، لتكون الفائدة أشمل، والانتفاع أكمل.»
Bilinmeyen sayfa