وشرع في الجمع والتصنيف، من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصله غيره. برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيقة معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده. وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واختلافًا. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم، ونبه على خطئهم، وحذر منهم.
ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأضيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله منارة، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكتب أعداه، وهدي به رجالًا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحي به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أنى ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
1 / 17