Modern Şehirlerin Problemleri
معضلات المدنية الحديثة
Türler
لا يبغض الدكتور مولر ليير من شيء أحدثته الإنتاجية الميكانيكية في المدنية الحديثة أكثر من تلك النزعة التي أنبتت في النفس الإنسانية ما يسميه «البليونكسيا
»، وهي كلمة إغريقية معناها الطماعية والجشع، فإن هذه النزعة قد خلقت عالما محوطا بالصعاب، محفوفا بالمخاطر، مشئوم الطلعة على الإنسان، بغيض النتائج، عالما تنحصر الفكرة المستمكنة من عقول أفراده في أن الإنتاجية الصناعية هي كل الغرض من الحياة، وأن الزمان عبارة عما يقاس بالكسب المادي، وهذه الطريقة «الأمريكانية» - كما يقول الألمانيون - قد غزت أمم الغرب، وتمكنت من أخلاقهم، وانتشرت بينهم انتشار وباء مجتاح، وهي على الرغم مما تبث في الجماعات من نشاط يفوق تصور الإنسان، بل يفوق مقدرته، وفضلا عن أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بما تبعث في الأنفس الخاملة من حب العمل والكسب؛ فإنها لم توفق إلى إحداث حالة تزيد من سعادة الإنسان ورفاهيته، بل على الضد من ذلك لم تزد إلا من دناءات الحسد والغيرة الممقوتة.
والحقيقة أن التهذيب العقلي لم يزد نصيب الأكثرية من سعادات الحياة، بل أنقصها، وجعل حظها أتعس مما كان، فإن الإنسان في حالاته الفطرية الأولى كان ذا قدرة على أن يستخدم كفاياته بما يقتضيه ذوقه وترضى عنه ألفة حسه، كان بعيدا عن المفاجآت والمغامرات، مكفيا شر التفكير في المستقبل، راضيا بما قسم له، قانعا بما بين يديه. في حين أنك ترى في الجماعات التي بلغت أرقى حد من الإنتاجية الصناعية، أن جموعا من الناس قد حشدت في معامل خصص فيها العمل تخصيصا حوط العاملين بسياج من الواجبات والقيود لا ترى لها من سبب إلا حب العناية بالإنتاج أو الاستغراق في الطماعية والجشع الذي يملأ نفوس المنتجين، وكل هذا لا يخلق إلا جوا من الاضطراب والقلق يرضى به الإنسان المتمدين مقسورا عليه، في حين أن الهمجي المتوحش لا يتصور أن يحوط بجو مثله إلا وملء نفسه الجزع والاستكراه.
مع كل هذا يعتقد دكتور ليير أنه لا مفر من النتائج التي تترتب على هذه الحال؛ لأن الجماعات التي بلغت من رقي النظام الاجتماعي أبعد مبلغ، هي التي تحوز أكبر قسط من فرص البقاء، بينا تجد أن حظ الفرد في مثل هذه الجماعات لا أثر في صد هذا الأسلوب الاجتماعي عن الانبعاث في سبيله المحتوم، خذ لذلك مثلا من حالة الجماعات في حياتها الفطرية الأولى، فإن أمة تتخذ استرقاق العبيد صناعة، ويكون في مكنتها أن تعكف على مزاولة فن الحرب أكثر من غيرها؛ تكون أقوى ساعدا وأشد بطشا من أمة تزاول مهنة الزراعة والاستنبات، كذلك الحال في الجماعات الحديثة، فإن أمة تزج بالأكثرية من أبنائها في غمرات نظام إنتاجي تبعد أحكام اقتسام العمل فيه عن مقتضيات الطبيعة أشد بعد، تستطيع أن تتفوق، لا بل تستطيع أن تفني أمة عكفت على وسائل في الإنتاج أدنى إلى موحيات الفطرة، وأبسط نظاما، وإن كانت أجمل نسقا، فإن القوات العنصرية العمياء تتطلب الكمال في النظام الاجتماعي، أكثر مما تؤيد مصلحة الفرد، على أن هذا الأسلوب قد بلغ بين الجماعات الحيوانية مبلغا نراه قصيا، فإن خلية النحل تزودنا بدرس كامل في الاشتراكية الحكومية التي وصلت إلى أقصى حد من النظام، بل بلغت بالتطور أرقى النتائج المنطقية.
يقول دكتور مولر بعد هذا: إن النوع الإنساني ثائر ثورة حقة ضد هذه الحال، فإن صرختي «الفردية» و«الاشتراكية» ليستا إلا تعبيرين ينمان عما يتطلب النوع البشري من السعادة، أما إذا أردنا أن نحلل طبيعة هاتين الفكرتين المتضايفتين، وأخذناهما على أن إحداهما تعبر عن نظام الحرية والأخرى عن نظام العمل، اعتقدنا أن كلتيهما متممتان لبعضهما وأنهما ليستا متضادتين. ولا تسقط قيمة الفرد إلا في نظر الحكومات المنظمة لتثير الحروب، فتحت نظام هذه الحكومات تضيع مصالح الفرد، بل وتضحى حياته بلا حساب، أما العلاقات التجارية الدولية فتعمل دائما على أن توحد بين أطراف المدنية المشعبة، فإذا بلغت هذه العلاقات مبلغا كبيرا، فإن الحكومات ينقلب نظامها من نظام قائم على تنظيم قوات الحرب وتضحية المصالح الفردية إلى واسطة تعمل على زيادة رفاهية الناس وسعادة الرعية، وبالأحرى ترتد الحكومات إلى وظيفتها الحقيقية التي تقوم من أجلها أصلا . على أن هذا النظام لا يتحقق قبل أن تسود حالة اجتماعية ثابتة بعيدة عن التزعزع والقلق، وهو يعتقد أن حالة الثبات الاجتماعي ممكن أن تتحقق في المستقبل القريب، أما معتقده هذا فيقوم على سببين؛ الأول: أن أطراف العالم لم يبق فيها من شبر أرض غير مملوك لدولة من الدول، وهذا سبب من أوجه الأسباب التي تمنع الحروب التناحرية على الاستعمار. والثاني: أن هنالك علامات تدل على نزعة تعمل على تحديد النسل الإنساني بحيث لا يمضي الناس في أعقاب النسل إلى حد بعيد عن المقتضيات الطبيعية والحاجات الاجتماعية، فإن دكتور مولر لموقن بأنه ما من شيء كان أبعث على حلول المصائب والكوارث الاجتماعية بالمدنية الحديثة، وما من سبب شل حركة الثقافة والتهذيب الارتقائي عن أن تنبعث في سبيل ترقية الإنسان وزيادة نصيبه من السعادة فوق هذه الأرض؛ بأعظم خطرا من ازدياد نسبة النسل زيادة كبيرة في القرن التاسع عشر.
يقول الدكتور مولر: «عندما يصبح علم البحث وراء المؤثرات الاجتماعية بذاته مؤثرا اجتماعيا، فهنالك يحق لنا أن نقول: إن النشوء الاجتماعي سوف يصل في المستقبل إلى نهايات لم يتخيلها فكر من قبل، وإن خطأ النشوء سوف يسوق إلى عهد تسود فيه عوامل التهذيب العقلي الكامل، بحيث لو وضعت عوامل التهذيب السائدة في عصرنا هذا بجانبها وقيست بها لظهرت كما تظهر غرارة الإنسانية الأولى بجانب مدنيتنا الحديثة، فإننا كلما تأملنا من مآسي الحياة الإنسانية لا نلبث أن نشعر شعورا صادقا يوحي إلينا بأن هنالك نزعة كامنة في تضاعيف الحياة تسوق بالبشر إلى أرض المعاد والخلاص.»
على هذا نرى أن دكتور مولر ليير من أولئك الكتاب الذين يملأ التفاؤل صدورهم، ولذا فهو يختم كتابه موقعا على نغمة دينية يرن صداها ضئيلا إذ تصدر من قلم رجل درس حالات الحياة المادية درسا عميقا، ولم يتكون في عقله من أثر أثبت من أثر الاحتقار لتلك المعتقدات التقليدية التي عاش الإنسان مستظلا بظلالها الوارفة في العصور الأولى.
كتب دكتور ليير مؤلفه هذا قبل أن تهب على المدنية عواصف الحرب العظمى، وتكونت عناصر آرائه في ذلك الجو الذي كان يغشى الأفكار والعقول قبل سنة 1914، وما من أثر بارز محسوس يؤلف في العقل كفاءة يقتدر بها على تحقيق ما بلغت إليه كارثة الحرب العظمى من تغيير وانقلاب في حياة الجماعات الحديثة تغلغل إلى أغوارها واستعمق في صميمها؛ من تلك الحقيقة الملموسة، حقيقة أن في مستطاع كل من درس المؤلفات الاجتماعية التي ظهرت خلال ربع قرن فرط من الزمان أن يعرف بغير كبير صعوبة أيا من الكتب التي تتناول البحث في العلم الاجتماعي قد كتب قبل الحرب العظمى، وأيها كتب بعد أن انجلت غمرتها، فإن هذه الحرب لم تقف آثارها عند ثل العروش واجتياح الأمراء، بل ثلت عرش نظريات ومبادئ كان يعتقد الباحثون أنها ثابتة ثبات المبادئ الأولية في الرياضيات والفلك.
يعتقد ليير - كما كان يعتقد كل الكتاب الاجتماعيين قبل وقوع الحرب العظمى - أن فكرة النشوء التفاؤلية السائقة بالإنسانية إلى أبعد حد يستطاع تصوره من الارتقاء فكرة فرغ من الكلام فيها، وأصبحت من المقررات الأولية في العلم الاجتماعي، وأن الطريق الذي شقته المدنية للحيوان الناطق خلال الأزمان لم تكن القاعدة الثابتة فيه هي قاعدة التحول من حال التجانس والغرارة إلى التنافر والارتقاء لا غير، بل كان طريقا تدرج فيه الإنسان من حالة اللاعقلية إلى حالة عقلية نوعا ما في الحياة الاجتماعية، وأن عصر الإنتاج الصناعي المعتمد على الآلات الميكانيكية إن ظهر في هذا العصر بمظهر نظام ينقص من سعادة الإنسان ويذهب بكثير من عناصر رفاهيته؛ فإن هذا الانحراف المدني لا بد من أن يبلغ في عهد قريب حدا يصلح فيه خلله ويقوم معوجه. كذلك تجد أن هذا المؤلف الكبير لم يسلم من التأثر بكثير من ترهات «كارل ماركس» وسفاسفه، بدليل أنه كثيرا ما كرر في مواطن عديدة من كتابه هذا أن النظام الاقتصادي القائم اليوم من شأنه أنه يزيد الغني غنى والفقير فقرا، في حين أن الإحصاءات التي تناولت مسألة الدخل القومي في كثير من ممالك أوروبا قبل الحرب قد نقضت هذا الزعم نقضا تاما وأبانت عن أخطائه، بل قضت على طائفة كبيرة من براهين الاشتراكيين والشيوعيين، تلك البراهين التي كانت تتخذ لها هذه النظرية دعامة وسندا.
ولما أن حاول أن يضع حلا للمعضلات الاقتصادية الحديثة، لم يجد من نظرية يلجأ إليها سوى نظرية الملكية الشعبية وإدارة الحكومة، وهذه نزعة غريب أن تصدر من مؤلف ألماني، فإنه مما لا شك فيه أن الحكومة الألمانية قبل الحرب كانت أدق الحكومات إدارة وأثبتها نظاما، وكانت بعيدة جهد البعد عن مواطن الضعف والإسراف التي جعلت صيحة الملكية الشعبية في إنجلترا نغمة مألوفة وصرخة يؤيدها الواقع وتزكيها الحوادث، غير أن جدارة الحكومة في ألمانيا ونظامها كان راجعا إلى قوة بناء هرمي مشيد من مجموعة من النظم البيروقراطية المتماسكة العناصر، يديرها رأس مفكر يقف على قمة الهرم لا تحت قاعدته، ومع كل هذا فإن من المعترف به أن نظام ألمانيا الحكومي كان حجر عثرة في سبيل نماء الكفايات الفردية وتمتعها بكامل حريتها التي تتطلبها حاجات التناحر في المدنية الحديثة، كما كان حائلا دون حدوث ذلك التكافؤ الاجتماعي الذي يوفق بين الجماعات وبين بيئاتها، تلك الصفة الخطيرة التي طالما فخرت بها أمريكا كميراث كبير ورثته عن المدنية الأنجلوسكسونية.
Bilinmeyen sayfa