Modern Şehirlerin Problemleri
معضلات المدنية الحديثة
Türler
هذه سنة عامة أخذها الباحثون في كل علم من العلوم ليعرفوا بها تلك الأسباب التي تسوق من التجانس إلى التنافر، طبقها علماء الحيوان والنبات على الأنواع ليعرفوا أصلها وكيفية نشوئها، وأخذها علماء الحياة ليعرفوا السبب في نشوء الأفراد التي تكون الأنواع. ومما لا مشاحة فيه أن المؤرخين وعلماء الاجتماع لو استطاعوا أن يعرفوا الأسباب التي ساقت الجماعات الإنسانية في سبيل الارتقاء من التجانس إلى التنافر، لا في صفاتهم العضوية؛ لأن ذلك متروك لعلم الحياة أو التكوين العضوي، بل في تكوين الصفات التي كونت مشاعر الجماعات وميولها وأذواقها والقواعد التي تحكم صلة هذه الصفات الإنسانية في المجتمع العام أو في الكل الاجتماعي، وأمكنهم أن يكشفوا عن البواعث الطبيعية التي دفعت بالجماعات الإنسانية الأولى إلى التطواف والمهاجرة ونشوء اللغات وعلاقتها بتطور الإنسان ... إلى غير ذلك من الأسباب التي تكون التاريخ عامة؛ فهنالك يمكنهم أن يجعلوا التاريخ علما ثابتا، أما وإنهم لم يبلغوا ذلك المبلغ فالتاريخ لا يزال فرعا من فروع الآداب، وأغلب الظن على أنه سوف يظل كذلك أزمانا لا نقدرها.
ولا نعلم كيف يستطيع أحد أن يفكر في وضع قواعد للتاريخ تقاس بها الحوادث وتتعرف النتائج كالحال في بقية العلوم، أو وضع تعاريف عامة للتاريخ يؤمن بها كل الناظرين فيه كما آمن الرياضيون بأن النقطة آخر الخط وأن الخط نهاية السطح، والمؤرخون لا يزالون مختلفين، ولن يظلوا مختلفين في البواعث التي كونت التاريخ الإنساني، فمنهم من يقول بأثر البيئة الاجتماعية، ومنهم من يقول بأثر البيئة الطبيعية، ومنهم من يرد أسباب التاريخ إلى العوامل الاقتصادية، ومنهم من يرجعها إلى المؤثرات النفسية، وكل فرقة من هذه الفرق وكثير غيرها قد سبقت إلى كتابة التاريخ منتحية منحاها الخاص، متبعة طريقها ومبدأها.
إن آخر رأي ذاع في البواعث التي أحدثت التاريخ الإنساني كان رأي العلامة «بنيامين كد» الكاتب الاجتماعي الأشهر، ورأيه أن المحور الذي تدور حوله دائرة التاريخ الإنساني، بل مظهر التاريخ البشري الوحيد، ينحصر في موقعة كبيرة وشجار دائم قامت به الجماعات ابتغاء أن تخضع عقليتها وقوتها الاستنتاجية لقوتها الشعورية، ذلك لطبيعة في الجماعة لن تنفك عنها، طبيعة تخضع الجماعة دائما لقوة الشعور دون قوة العقل. وأن تلك الحروب التي مزجت دم الإنسانية الذكي بحضيض الثرى، وتلك الثورات المدنية والاجتماعية ليست سوى نتيجة من نتائج تلك الطبيعة، فالانتقام والغضب والكراهية والتعصب للجنس والمعتقد مظاهر لن تجد لها في الأفراد من أثر في تحطيم بناء مدني أو قيام حالة من حالات العمران، ولكنك ترى أن للجماعة من مظاهر الخضوع لهذه البواعث ما كان سببا في قيام الحروب والثورات على مدى الأزمان.
غير أنك تجد أن علمي الاجتماع والسيكولوجيا، وهما الدعامتان الوحيدتان لهذه الطريقة، لم يتقيد النظر فيهما بعد بقيود علمية ثابتة، ولا تزال موضوعاتهما رهن التغيير والتبديل. واختلاف الآراء وتنافرها في معضلات هذين الفرعين لا يقاس بها اختلافها وتنافرها في أي فرع من فروع المعرفة الحديثة، اللهم إلا في قليل من الآداب التي يتسع فيها مجال الخيال، وتتنافر في النظر فيها عقول الباحثين، وتختلف فيها وجوه البحث باختلاف الناس.
ولقد عجزت كل العلوم وفروع المعرفة برمتها حتى اليوم عن وضع حد فاصل لعلاقة الفرد بالمجموع، ولم يستبن الباحثون قياسا محكما يضبط في نظرهم هذه العلاقة، وسيبقى اصطلاح «الفرد المستقل» اصطلاحا غامضا، بل مظهرا من مظاهر اللبس والإبهام، إن لم يكن في ذاته خطأ محضا لا يقوم له في الطبيعة الاجتماعية مثال. كذلك إذا نظرت في اصطلاح «التطور الاجتماعي»، وتساءلت ما هو التطور الاجتماعي العام؟ فإن ذلك الاصطلاح لم يكشف له العلم عن قانون محدود، ولم يعرف الباحثون في الماضي ما يمكن أن يكون مقياسا تقاس عليه الظروف والحالات التي يتشكل فيها النشوء، ويتكون بتشكله التاريخ الإنساني، ولم يفصح العلم عن تلك الأسباب التي تسوق الجماعات إلى التغاير والاختلاف عن حالاتها الأولى، فتدفع بها إلى الرقي أو تبعث بها إلى حضيض التدهور والانحلال.
وما دامت العلاقة بين الفرد والمجموع لم تعرف وكذلك الأسباب التي تسوق الجماعات إلى الترقي أو الانحطاط، أو علاقة الجماعات الخاصة بمجموع الكل الاجتماعي؛ فكيف يخطر على عقل بشر أن العلم الإنساني، وهو على ما ترى من النقض والتخلخل، في مستطاعه أن يضع للتاريخ قواعد ثابتة كقواعد الرياضيات، ما دام النظر في الاجتماع لم يصبح بعد علما يقينيا صحيحا، وهو دعامة الطريقة العلمية في بحث التاريخ؟ وكيف بعد هذا يتصور إنسان أن التاريخ علما؟ •••
ظل القول بأن التاريخ فرع من الآداب منذ زمان «زونوفون» و«هيرودوت» و«بلوتارك» و«ليفي» إلى «غيبون» و«ماكولي» و«ميشليه»، ولقد نهج «ستبس» و«سيلي» الطريقة الوصفية في كتابة تواريخهما رغم نزعتهما إلى الطريقة العلمية التي دعوا إليها زمانا. أما «السوربون» اليوم فيمثل الرأي العلمي يوحي إليه الأستاذ «برغسون» بذلك الوحي، محاولا وضع حدود لمسألة لا حدود لها في الواقع.
ولقد ذهب اللورد «ماكولي»، وهو أكبر مؤرخي الإنجليز في القرن التاسع عشر، مذهبا خاصا فقال: إن التاريخ ليس إلا صفحات من الزمان تتعاقب عليها صور الجماعات بما فيها من أثر العلم والأدب والانفعالات والمؤثرات الطبيعية والنفسية والاقتصادية والجغرافية، كالمنظر الذي تراه في صفحة السماء يوما يستحيل عليك أن تراه بذاته مرة أخرى بما فيه من اختلاف الصور والألوان والأشكال والتغايرات المتعاقبة. من هنا نجد أن أهل الشهادة لحوادث التاريخ كأهل الشهادة لمناظر الطبيعة، إن رأوها وتناولوها بوصف وأخذت عنهم ذلك الوصف أو تلقيت عنهم تلك الصورة لتقيس عليها أو لتستنتج منها أو لتقارنها بغيرها من الصور التي تقع تحت حسك؛ فإنك إنما تنظر بنظر غير نظرك، وتنعكس على لوحة نفسك صور انفعالات وبواعث وعواطف قد تشعر بما يناقضها تماما لو أنك نظرت إليها بعيني نفسك وتحت تأثير مشاعرك وانفعالاتك الخاصة.
وإذا اعتبرنا التاريخ صورة فيجب علينا أن نعتبر المؤرخ مصورا تخط ريشته لأهل زمانه الصور التي تنعكس على لوح نفسه من ممارسته لحوادث الأزمان الغابرة، تلك الأزمان التي لن نعرف من حقائقها إلا بقدر ما أثرت حوادثها في أنفس المؤرخين فيها، فالمؤرخ إنما يستمد من خيال غيره ومن انفعالات غيره ومشاعر غيره، ليستخرج صورة جديدة تستحيل إليها نفسه، ويكون مقدار خطئها أو صوابها راجع إلى مقدار قربها أو بعدها من حالات العصر الذي يؤرخ فيه، وحالات العصر الذي يؤرخ فيه منقولة إليه برمتها عن غيره، وصحة النقل أو خطؤه راجعان إلى صحة نظر الذين صوروا ذلك العصر أو خطئهم. ومن هنا لا تستطيع أن تضع للتاريخ مقياسا تقيس عليه حقائق الأزمان الماضية وتتنبأ بها عن المستقبل اعتمادا على ظروف حاضرة، إذا وعيت هذه الاعتبارات في مجموعها.
يقول «جوته»: «إن التاريخ يجب أن يعاد تدوينه والنظر فيه من حين إلى آخر، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت على مر الأيام، بل لأن أوجها من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها، يساقون دائما إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.»
Bilinmeyen sayfa