Mısır Hidivi İsmail Dönemi
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Türler
وأما علي مبارك باشا
8 - أبو التعليم المصري الحقيقي - فإنه بخلاف الوزيرين السابقين، مصري بحت، وإنا - لما في حياته من عبر بليغة - نرى أن نتوسع في شرحها فنقول : ولد في قرية برنبال الجديدة، من أسرة كانت تعرف فيها بعائلة المشايخ سنة 1239ه/سنة 1824م، ولما بلغ السادسة من عمره، اضطر والده، بعد أن بذل ما بيده، وباع مواشيه وأثاث بيته، إلى الفرار من القرية بسبب أموال انكسرت عليه للديوان، ونزل بقرية يقال لها الحماديين من أعمال الشرقية، ولكنه لم يلبث فيها إلا قليلا، لقلة إكرام أهلها له، وارتحل بعياله إلى عرب السماعنة بالشرقية، ولم يكن عندهم فقهاء، فأنزلوه منزل الإكرام والإجلال، وانتفعوا منه، وانتفع منهم انتفاعا كبيرا، ارتاح له خاطره وانزاحت عنه الشدائد، فالتفت إلى تربية ابنه علي، فعلمه أولا بنفسه، ثم سلمه لمعلم اسمه الشيخ أحمد أبو خضر، وكان مقيما في قرية صغيرة قريبة من مساكن أولئك العرب، فأقام عنده نحو سنتين ختم فيهما القرآن بداية، ثم لكثرة ضرب الشيخ له، تركه وجعل يقرأ عند والده، وكان والده منشغلا عنه في شغله، فمال الولد إلى اللعب والتفريط، فهم أبوه أن يجبره على الذهاب إلى معلمه، فتعاصى ونوى الهرب.
وكان له إخوة من غير والدته، فأشفقوا عليه، وسألوه عن مرغوبه في التربية، فاختار أن لا يكون فقيها، بل يكون كاتبا؛ لما كان يراه للكتاب من حسن الهيئة والهيبة والقرب من الحكام، فسلمه أبوه إلى كاتب قسم بناحية الإخيوة كان صديقا له، وجعل له مرتبا يكفيه، فأقام علي عنده مدة، وخالط عياله، فإذا هو مجمل الظاهر، ولكنه فقير في بيته - كمعظم الكتاب والموظفين بكل أسف! - فكان الولد في غالب أيامه، يبيت إذن طاويا من الجوع، وليت ذلك كان كل ما هنالك! ولكن الرجل - على قلة تعليمه له - كان يخدمه كثيرا ويؤذيه أكثر، فحدث ذات يوم أنهما كانا في قرية المناجاة، فسأله الكاتب أمام ناظر القسم، وجماعة الحضور عن الواحد في الواحد! فقال علي: «باثنين»، فضربه بمقلاة بن، فشجه في رأسه، فلامه الحاضرون، وذهب علي إلى والده يشكو إليه، فما نال منه إلا الأذى ، وكان يومئذ مولد سيدي أحمد البدوي، فهرب علي مع الناس، قاصدا المطرية، جهة المنزلة، ليلحق بخالة له هناك، ولكنه مرض بالكوليرا في طريقه بقرية صالحجر، فأخذه رجل من أهلها، وعاده أربعين يوما، وكان والده في تلك المدة، وأحد إخوته يفتشان عليه في البلاد، فاستدل عليه في صالحجر، فلما رآه علي هرب، ونزل بمنية طريف، فأخذه رجل عربي، ولكنه لم يقم عنده إلا قليلا، وهرب منه أيضا، ولحق بأخ له في برنبال.
وبعد أيام قدم إليها أخوه الذي كان يفتش عليه، وما زال به حتى أخذه بالحيلة إلى والدهما، وقد أشكل على أهله أمره، فعرضوا عليه القراء والكتاب، فلم يقبل بحجة أن المعلم لا يستفيد منه إلا الضرب، والكاتب إلا الضياع والأذى، علاوة على أنه يخدمه، فعرض عليه والده أن يلحقه بصاحب له من كتبة المساحين، فرضي بذلك، فلما عاشره، زاد رغبة في عشرته؛ لما كان يناله في صحبته من النقود التي كان يأخذها من الأهالي، فأقام عنده ثلاثة أشهر، ولكنه لصغر سنه وعدم معرفته بما ينفع وما يضر، كان يفشي سره، ويخبر عن أخذه من الناس، فطرده، فبقي في بيت أبيه يقرأ عليه، ويصحبه في قبض الأموال الأميرية التي على العرب - وكان منوطا بذلك - ويباشر الكتابة وبعض المحاسبات، ثم بعد نحو سنة واحدة جعله أبوه مساعدا عند كاتب في مأمورية أبي كبير، بماهية قدرها خمسون قرشا يبيض له الدفاتر، فأقام عنده نحو ثلاثة أشهر، وقد خلقت ثيابه، وساء حاله، ولم يقبض شيئا من الماهية إلا الأكل في بيته، ثم عينه يوما لقبض حاصل أبي كبير، فقبضه، وأمسك عنده منه قدر ماهيته، وكتب له علما بالواصل، ووضعه في كيس النقدية، فلما وقف على ذلك اغتاظ منه، وأسرها في نفسه، وأغرى مأمور أبي كبير عليه، واتفق معه على إلحاقه بالجهادية بدل شخص كان مطلوبا للعسكرية، فنادياه على حين غفلته، وأمره المأمور بالذهاب إلى السجن لكتابة المسجونين، وأصحبه رجلا من أغوات المأمورية.
فلما دخل السجن، أحضروا باشا من الحديد، ووضعوه في رقبته، وتركوه مسجونا، فلبث في السجن، وهو على ما لا مزيد عليه من الخوف، بضعة وعشرين يوما في أوساخ المسجونين وقاذوراتهم، ينتحب آناء الليل وأطراف النهار، فرق له السجان لصغر سنه، ومكنه من مخابرة أبيه في أمره، فذهب أبوه إلى العزيز - وكان بناحية (منية القمح) - وقدم له قصة ابنه في عرضحال، فكتب بإخلاء سبيله، وأخذ الوالد الأمر بيده، ولكن قبل حضوره إليه أتى إلى السجان صاحب له من خدمة مأمور زراعة القطن بنواحي أبي كبير، وأخبره أن المأمور محتاج إلى كاتب يكون معه بماهية، فدله السجان على علي، ووصفه له بالنجابة وحسن الخط، فمال الخادم إليه، وطلب منه أن يكتب خطه في ورقة ليراها المأمور، فكتب علي عريضة واعتنى فيها، وناولها له مع غازي ذهب قيمته عشرون قرشا، ليسلك له الطريق عند مخدومه، ووعده بأكثر من ذلك أيضا، فأخذها وبعد قليل حضر بأمر الإفراج عنه، وأخذه معه حتى قرب من المأمور، وكان يدعى عنبر أفندي، فنظر إليه، فإذا هو أسود حبشي، لكنه سمح، جليل، مهيب، ورأى مشايخ البلاد والحكام وقوفا بين يديه، وهو يلقي عليهم التنبيهات، فتأخر حتى انصرفوا، فدخل عليه وقبل يده، فكلمه بكلام رقيق عربي فصيح، وقال له: «أتريد أن تكون معي كاتبا، ولك عندي جراية كل يوم، وخمسة وسبعون قرشا ماهية، كل شهر؟» فقال: نعم. ثم انصرف من أمامه، وجلس مع الخدامين، وكان يعرف من المشايخ الذين كانوا بين يديه جماعة من مشاهير البلاد، أصحاب الثروة والخدم والحشم والعبيد، فاستغرب ما رآه من وقوفهم بين يديه وامثتالهم أوامره، وكان لم ير مثل ذلك قبل، ولم يسمع به! بل كان يعتقد أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك، على حسب ما جرت به العادة في تلك الأزمان، وبقي متعجبا، متحيرا في السبب الذي جعل السادة يقفون أمام العبيد، ويقبلون أيديهم، وحرص كل الحرص على الوقوف على هذا السبب، فكان ذلك من دواعي ملازمته لعنبر أفندي.
وفي ثاني يوم حضر والد علي بأمر العزيز، فسلم علي عليه وأدخله على المامور وعرفه إياه، فبش في وجهه، وأجلسه وأكرمه. وكان والد علي جميل الهيئة، أبيض اللون، فصيحا، متأدبا، فكلم المأمور في شأن ابنه، فقال له المأمور: «إني قد اخترته ليكون معي، وجعلت له مرتبا، فإن أحببت، فذاك.» فشكر له، ورضي أن يكون ابنه معه، وانصرف من مجلسه مسرورا.
فلما كان الليل وسهر علي مع أبيه، جعل كلامه معه في المأمور فقال: «وهذا المأمور ليس من الأتراك، لأنه أسود.» فأجابه: «يمكن أن يكون عبدا عتيقا.» قال: «هل يكون العبد حاكما؟ مع أن أكابر البلاد لا يكونون حكاما، فضلا عن العبيد؟» فأجابه أبوه بأجوبة لم تقنعه، وبعد يومين سافر عنه وتركه عند المأمور، فجعل علي يقول في نفسه: «إن الكتابة والماهية كانتا السبب في سجني، ووضع الحديد في رقبتي، وقد وجدت هذا المأمور خلصني من ذلك، فلو فعل هو معي مثل ما فعل الكاتب فمن يخلصني؟»
وأخذ يود أن يكون بحالة لا ذل فيها، ولا تخشى غوائلها، واصطحب بفراش لعنبر أفندي، ما لبث أن علم منه أن سيده مشترى ست من الستات الكبار، مرعيات الخواطر، أدخلته مدرسة القصر العيني لما فتح العزيز المدارس، وأدخل فيها الولدان، وأخبره ذلك الفراش أن التلاميذ في القصر العيني يتعلمون الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن الحكام إنما يؤخذون من المدارس.
فجال حينئذ في صدر علي أن يدخل المدارس، وسأل الفراش: «هل يدخلها أحد من الفلاحين؟» فأفاده «أنه يدخلها صاحب الواسطة»، فشغل ذلك باله زيادة، وما زال بالفراش يستفهم منه عن طريق القصر، وكيفية الإقامة فيه، فأخبره عن ذلك كله، وأثنى على حسن إقامة التلاميذ به ومأكولهم وملبوسهم وإكرامهم، فازداد علي شوقا، وكان يكتب عنده كل ما يخبره به من بيان الطريق وقدر المسافة، وأسماء البلاد التي في الطريق، وقامت بنفسه فكرة التخلص، والتوصل إلى المدارس، فطلب الإذن في زيارة أهله، فأذن له بخمسة عشر يوما، فسافر، وبينما هو يجتاز قرية بني عياط، تقابل مع جملة أطفال تحت قيادة رجل خياط، مع كل واحد دواة وأقلام، فجلس معهم تحت شجرة، وتحادثوا، فظهر له أنهم تلامذة من مكتب منية العز، ورأوا هم خطه، فوجدوه أحسن من خط الباشجاويش، فجعل علي يستفهم منهم عن مكتبهم وصفته، وجعل الخياط يحسن له أوصافه، ويغريه على دخوله، مفهما إياه أن نجباء المكاتب ينتقلون إلى المدارس بلا واسطة، فرأى علي أن ذلك غاية مرغوبه، فلم يتأخر عن الذهاب معهم والدخول إلى مكتبهم، ولكن ناظره - وكان من معارف أبيه - أراد أن يمنعه من الانتظام في عقد التلامذة، فلم يفلح، وبقي علي في المكتب خمسة عشر يوما، ثم أتى أبوه بتدبير من الناظر، وانتظر خروجه للفسحة والأكل في وقت الظهر، واختطفه إلى البلد، وحبسه في البيت نحو عشرة أيام، ما برحت أمه في خلالها تبكي منه وعليه، وتستعطفه للرجوع عما يوجب فراقهم، وتحلفه أن يرجع عن تلك النية، فوعدها بالرجوع عن ذلك، إرضاء لخاطرها.
فأطلقوه، وكان لهم غنيمات أخذ يرعاها، وأبعدوه عن حرفة الكتابة، فبقي كذلك مدة، حتى اطمأن خاطرهم، وظنوا أن فكرته ذهبت عنه، مع أنها لم تفارقه، وإنما كان يخفيها إلى أن انتهز فرصة في ليلة من الليالي، فصبر إلى أن ناموا جميعا، وأخذ دواته وأدواته، وخرج من عندهم خائفا يترقب، وتوجه تلقاء منية العز، وكان ذلك آخر عهده بسكناه بين أبويه، وكانت ليلة مقمرة، فمشى حتى أصبح، فدخل منية العز ضحى، ولم يره الناظر إلا وهو مع الأطفال في داخل المكتب، والتزم أن لا يخرج منه ليلا ولا نهارا مخافة اختطافه، ثم حضر والده وعمل طرق التحيل عليه هو والناظر، فلم ينجح في ذلك، حتى جاء ناظر مكتب الخانقاه عصمت أفندي، لفرز نجباء التلامذة إلى القصر العيني، فكان علي ممن اختير لذلك، ولكن والده حضر واشتكى لعصمت أفندي، فقال له: «هذا ابنك أمامك، وهو مخير.» فخيروه، فاختار المدارس، فعند ذلك بكى والده كثيرا، وأغرى عليه جماعة من المعلمين وغيرهم ليستميلوه، فلم يصغ لكلامهم، وكان ما قدر الله، فدخل مدرسة القصر العيني في سنة 1251ه، وهو يومئذ في سن المراهقة، فوجد المدارس على خلاف ما كان يظن، بل بسبب تجدد أمرها كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها، والتربية والتعليمات غير معتنى بها ، بل كان جل اعتنائهم بتعليم المشي العسكري، فكان ذلك في وقت الصبح والظهر، وبعد الأكل وفي أماكن النوم، وكان جميع رؤساء التلامذة ومعلميهم يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج، مع كثرة الأغراض، والإعراض عن الاعتناء بشئونهم من مأكولات وخلافها، وكانت مفروشاتهم حصر الحلفا، وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق، ومن كراهة علي للطبيخ المرتب لهم، جعل يأتدم الجبن والزيتون، وكان برعي أفندي أستاذ فرقته يراعيه بالنسبة لغيره.
Bilinmeyen sayfa