Mısır Yüzyılın Üçte İkisinde
مصر في ثلثي قرن
Türler
إن مثل مصر بين الناس كمثل السفينة على غوارب البحر الهائج، تسلمها لجة إلى لجة، ولكنها قوية على متن البحر فلا تغرق، وكأنها الحبة الوسطى في عقد الممالك، كل أحد يريدها، وكل أحد يصرفه عنها طمع غيره فيها، ولم يكن محمد علي يجهل أن هذه مكانة بلاده عند الناس. وماذا كان يصنع إلا أن يعوذها بتعاويذ السياسة ويرقيها برقى الختل والخداع ليداوي الداء بالداء ويبرد الحديد بالحديد، وكان أخوف ما يخافه أن تتهيأ الفرصة للإنكليز فيظهروا ما أبطنوا ويعلنوا ما أضمروا، وكانت عقارب السياسة تدب بين فرنسا وإنكلترا في خفاء، فتحذر كلتاهما أن تغلبها الأخرى على مصر، ولكن فرنسا كانت بصيرة في الطمع معتدلة في الشراهة، فمال إليها محمد علي لأنها أخف ثقلا ولأن سياستها أقل سماجة، على أن إنكلترا مع هذا لم ترد عقارب سياستها إلى الوكر.
الرجل الذي أراد أن يبني الملك العريض على أساس من عزمه استطاع أن يرفع له صرح ملك يضرع النجم، وما كان ليتم له ذلك إلا لأنه اختار لبنائه أرضا يستقر عليها البناء، ولولا أنه كان كمثل الزارع لما وجب أن يقال إنه اختار أخصب تربة وأصفى جو لزرعه فأصبح بهيجا، ففي ربع قرن جعل اليابس رطبا، والقحل خصبا، والجهل علما، والفقر غنى، والخراب عمارا، والليل نهارا. وفي ربع قرن أحيا الصناعة، ونشر التجارة، وأنشأ الأسطول، وسد الثغور، وحشد الجيوش، وكان يعتمد على شعب مرن في الخير، بصير بما ينفع، متطلع للحياة الطيبة والمجد العطر، وكان له من هذا الشعب ومن الوطن المختص بمواهب الثروة ومزايا الغنى قوة حسية ومعنوية تغنيه عن الناس وتلقي في روعه أن الناس مفتقرون إليه أو حاقدون عليه أو طامعون فيه، ولم تستعص على الجندي العصامي أسباب العظمة في هذا الوطن العظيم، فكل شيء هيئ سريعا كأنه شذوذ في سنة تكوين الأمم، أو كأنه ظاهرة غريبة بين ظواهر الاجتماع البشري، ولم يسترخ الزمن بمحمد علي طويلا حتى قام يفتح الأقطار بجيشه المصري، وأسطوله المصري، وماله المصري، وذخائره المصرية، وقد استفحل أمره وعظم شأنه، فخافته الدول وهابته الممالك، وقذف الله به الرعب في قلب أوربا القوية بجيوشها وأساطيلها، الغنية بأموالها وصناعتها وتجارتها، المالكة زمام النصر بالعلم المنشور والفضل المأثور.
هذا إجمال تاريخ النهضة المصرية أيام محمد علي الجندي الألباني الصغير، وقد ذكرنا أنها وافقت النهضة الفرنسوية، والذي ينظر في تاريخ النهضتين يوم ابتدأتا لا يسعه إلا أن يحكم أن نهضة مصر كانت أوفر نشاطا وأوسع خطوة؛ إذ لم تكن تتعثر في طريقها بما كانت تتعثر به نهضة فرنسا وهي طفلة، فكان يجب أن تؤدي مقدمة النهضة المصرية إلى نتيجة كالتي أدت إليها مقدمة النهضة الفرنسوية إن لم تكن أعظم منها، فلماذا لم يكن ذلك؟
يوم طلع فجر النهضة المصرية فرسم نوره على أفق العالم خطا أبيض يجلو سعادة مصر وأبنائها، كانت أفعى السياسة تملأ شدقيها سما، وكانت ترصد الغفلات فتنفث من هذا السم قطرات تصيب جديد حظنا فيصدأ، فكم مرة قتلتنا هذه الأفعى، وكم مرة قعدت لنا منذ القدم مقاعد الشر لتقتلنا!
ولكن الجندي الألباني كان يقظا، غير أن أفعى السياسة مكرت بغيره فآذته بهذا المكر، ويذكر التاريخ من أمثلة ذلك قصة إحراق الأسطول المصري التي لم تزل مكتوبة في تاريخ السياسة الروسية بقلم العار، وقد كان يتاح لروسيا أن تنال فخر إحراقه بقوتها وإرادتها معا، لو أنها كانت غير مسخرة للسياسة التي وصفت بالغدر في أول سطر من تاريخ العالم السياسي، غير أن جندينا الصغير كان في أمته أعظم من أصحاب العروش وحملة التيجان.
مضى لنا منذ تولي محمد علي ولاية مصر نحو قرن وربع قرن، فلنقسم هذا الزمن ثلاثة عهود: الأول عهد محمد علي، الثاني عهد خلفائه إلى سنة 1882، الثالث عهد الاحتلال الإنكليزي من سنة 1882 إلى اليوم. وقد يعتقد الناس أننا قطعنا ما قطعنا من العهد الأخير برقي يناسب حركة العالم في التقدم العصري، وتقتضيه طبيعة روح الحياة إبان شباب الإنسانية، وإذا كان الحق خلاف ذلك فإن هذا الحق لا يثبت عند من يجهلونه ومن خدعتهم أضاليل السياسة إلا بعنف وعناء؛ فإن العقل البشري لا يكاد يصدق أن أمة لزمت الجمود على حال واحدة فلم يطرأ عليها جديد من أسباب الحياة غير ما كان لها منذ قرن وربع قرن اللهم إلا ما بلغته بنفسها وهي تتحرك تحت الأثقال وتعاني ما أصابها من القيود والأغلال، فنحن لذلك نعالج عنف الإقناع وننهض بعناء الإثبات بالبرهان القاطع، حتى إذا سطع نور الحق لم نعد نشعر بعنف ولا نجد عناء.
أول ما تدعيه السياسة الإنكليزية أنها أفاضت على مصر حياة حسية لم تكن تحلم بها من قبل، فإذا سئلت أي شيء هي هذه الحياة الحسية؟ وأين مجراها من عروق الأمة؟ قالت هذه السياسة مفتخرة: ليس بعد الزراعة وبهجتها ونظام الري ودقته من حياة. أما مجراها من عروق الأمة فبين أجساد الفلاحين الذين يسبحون بحمد المصلحين بكرة وأصيلا!!
هذه هي الدعوى التي ترى السياسة أنها في مكان التصديق من النفوس لأنها تزعم أن الحس شاهد عليها، ولكن السياسة أخطأت حين ظنت أن حقائق التاريخ الحديث مجهولة، أو أنها تملك أن تمحوها من الصدور إذا ملكت أن تمحوها من السطور، وستظل مخطئة هذا الخطأ إذا ظلت ظانة ذلك الظن.
إن الزراعة في بهجتها منذ أحياها محمد علي، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك إلا تاريخه الحربي لكان دليلا قاطعا، فالرجل حارب أقوى الدول بجيوش كثيفة، وارتحل عن بلاده إلى الأقطار البعيدة بذخائر وأساطيل، ولم يكن يعتمد على غير بلاده، فهل كان يتخذ من الحصى نقودا، ومن التراب خبزا وماء؟ أم ماذا كان يفعل لجيوشه في الحرب الطويلة إذا لم تكن زراعته نضيرة وغلاته وفيرة؟ ثم كيف كانت نضرة الزرع ووفرة الغلات إذا لم تكن الزراعة في محل العناية العظمى علما وعملا؟
ينهض هذا الدليل إذا لم يكن هناك نص صريح في أن ما نراه اليوم هو ما فعله محمد علي، وعندنا مصادر كثيرة مستفيضة بالنصوص التاريخية، ولكن الدليل الذي لا يستطيع الخصم إنكاره ما كان قائما من ناحيته أو ما كان له حظ في إقامته، ونحن نجد هذا الدليل في تقرير «لجنة التجارة والصناعة»، وليست قيمته في أن اللجنة حجة ثقة عند الحكومة لأنها هي التي ألفتها، بل في أن بين أعضاء اللجنة ثلاثة من كبار الإنكليز هم المستر «سدني ويلز» مدير إدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري، والمستر «كريج» الذي كان مراقبا لقلم الإحصاء العام بوزارة المالية، والمستر «ف. مردوخ» من أرباب الصناعات بمدينة «المنصورة».
Bilinmeyen sayfa