تصدير
الباب الأول: فترة الفوضى السياسية وظهور محمد علي (1801-1805)
تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين
1 - تركيا والمماليك
2 - فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
3 - إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
4 - ظهور محمد علي: الخطوات الأولى
5 - ظهور محمد علي: المناداة بولايته
تصدير
الباب الأول: فترة الفوضى السياسية وظهور محمد علي (1801-1805)
تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين
1 - تركيا والمماليك
2 - فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
3 - إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
4 - ظهور محمد علي: الخطوات الأولى
5 - ظهور محمد علي: المناداة بولايته
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الأول)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الأول)
تأليف
محمد فؤاد شكري
تصدير
إن «مصر في مطلع القرن التاسع عشر» دراسة تتناول تاريخ هذه البلاد خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن، منذ خروج الفرنسيين وانتهاء عهد حملتهم في مصر 1801، إلى وقت القضاء على المماليك في مذبحة القلعة 1811.
وسبب اختيار هذه الفترة، أنها مليئة بالأحداث التي كان لها أثر حاسم في تطور تاريخ البلاد بقية القرن التاسع عشر، ثم خلال قسم هام من القرن الذي يليه، أما هذه السنوات العشر فقد شهدت بداية التنافس بين إنجلترا وفرنسا، أو الصراع الذي نشب بينهما للاستئثار بالنفوذ السياسي في مصر، وهو صراع استمر ظاهرا، ويكاد يدور حوله بمفرده تاريخ البلاد في أخطر مراحله، ولسنوات عديدة بعد ذلك. على أن زيادة حدة هذه الفوضى السياسية المنتشرة وقتئذ كانت أسوأ النتائج المباشرة التي نجمت من هذه المنافسة الإنجليزية الفرنسية.
ولقد بقيت هذه الفوضى السياسية من المميزات التي اختصت بها الفترة التي ندرسها. ومع أن الرأي الشائع أن تولية محمد علي الحكم في سنة 1805، كان الحادث الذي أنهى الفوضى السياسية؛ فقد تبين أن اعتلاء محمد علي أريكة الولاية لم ينه هذه الفوضى، بل لقد بقيت تسود البلاد إلى وقت جلاء «حملة فريزر» من الإسكندرية (1807)، ثم استمرت بعض أسبابها القوية إلى أن أمكن على وجه الخصوص تطويع الجند، وأخيرا الخلاص من البكوات المماليك (1811).
ولا يجب أن يتبادر إلى الذهن أن تسجيل هذه الوقائع يعني الإشادة بحادث التولية ، أو بالحكومة التي أقيمت على أشلاء البكوات؛ فلقد تبين أن حادث التولية ذاته لم يكن سوى مغامرة كبرى، استندت على أكبر تمويه عرفه التاريخ، ارتكبه متطلع إلى العرش في حق البلاد التي يريد حكومتها، فقد سبقت هذا الحادث إجراءات «مزورة»، واتبعت أساليب ملتوية مهدت للتولية، ثم استمر التمويه حتى بعد المناداة بولاية محمد علي، فاستطاع بفضله أن يجتاز بسلام ما أسميناه بأزمة النقل إلى سالونيك (1806).
ولقد كانت أزمة النقل إلى سالونيك تضارع في خطورتها أزمة الغزو الإنجليزي ومجيء «حملة فريزر» إلى الإسكندرية في السنة التالية (1807)، فأثبتنا طائفة من الوثائق التي تكشف حقيقة هاتين الأزمتين. ولقد كان أثناء وجود حملة فريزر بالإسكندرية أن صار محمد علي يفكر في تأسيس باشوية وراثية في مصر، ومن المحتمل أن تكون هذه الفكرة قد نبتت في ذهن محمد علي قبل ذلك، ولكنه لم يفصح عنها، وللمرة الأولى قطعا، إلا أثناء مفاوضته مع الإنجليز بشأن جلاء حملتهم.
والرغبة في تأسيس الباشوية الوراثية لم تلبث أن صارت العامل الحاسم الذي سيطر على سياسة محمد علي، من ذلك الحين إلى نهاية الفترة التي ندرسها، فكان شرطا أساسيا لفوزه بهذه الباشوية الوراثية، أن يخلص له الحكم في مصر، وأن تتدعم أركانه، ولا يتهدد البلاد من جديد غزو خارجي، وتربطه أوثق الصلات بالسلطان العثماني، فلا يعود هذا الأخير يفكر في عزله، وحتى تمهد هذه العلاقات لتحقيق غايته.
واسترشدت حكومة محمد علي بهذه الاعتبارات جميعها، وذلك في نشاطها بعد تخطي عاصفة الغزو الإنجليزي خصوصا، ولقد كان بعد أن رفض الإنجليز والفرنسيون أن تنال مصر استقلالها أن اتجه محمد علي صوب تركيا؛ لعله يظفر بمطلبه - الباشوية الوراثية - من صاحب السيادة الشرعية عليه نفسه.
ولقد أتينا بطائفة من الوثائق لإظهار نوع السياسة «السلبية» التي كانت تتبعها وقتئذ الحكومة الفرنسية في مصر، ولبيان أن نابليون بالرغم من «سره» المشهور والأطماع التي صورت له إمكان تشييد إمبراطورية «شرقية» كبيرة إلى جانب إمبراطوريته المترامية في «الغرب»؛ لم يقدم على معاونة البكوات المماليك جديا لينشئوا حكومة مملوكية قوية، ولم يقبل على مؤازرة محمد علي ليظفر بالحكم والسلطة، وكان وقتئذ إنشاء الحكومة الموالية - أو الخاضعة - لفرنسا في مصر، ضروريا في نظر نابليون ورجال دولته كإجراء يمهد لعودة الاحتلال الفرنسي، أو إذا اتضح أن ذلك متعذر، كوسيلة تكفل لفرنسا استعلاء نفوذها السياسي في مصر، وتفويت الفرصة على غريمتها إنجلترا، وكان «دروفتي» القنصل الفرنسي هو الذي فطن إلى أهمية استمالة محمد علي، والعمل لتأييده، ففعل ذلك، ولكن من تلقاء نفسه ودون أن تصله أية تعليمات في ذلك من حكومته. والذي يجب ذكره، أن «دروفتي» لم يسلك هذا المسلك إلا بعد المناداة بولاية محمد علي، وليس قبلها.
ولقد خلف المسعى من أجل الباشوية الوراثية والاتجاه صوب تركيا آثارا عميقة على «اتجاه» السياسة المصرية، من هذا الوقت المبكر (1807-1811)، فصار ميدان النشاط المصري، الشام وبلاد العرب في «الشرق»، ثم النوبة والسودان في «الجنوب»، وانصرف الجهد المصري عن الامتداد صوب «الغرب»؛ أي في أفريقيا الشمالية.
وكان معنى استقامة الأمر لمحمد علي - وذلك شرط أساسي لنيل الباشوية الوراثية - أن يبذل هذا الباشا كل ما وسعه من جهد وحيلة للاحتفاظ بعرشه، في وجه خصومه وأعدائه الداخليين والخارجيين، ولقد ارتبط في ذهن محمد علي إنشاء الحكومة الموطدة بضرورة الانفراد بالسلطة؛ مما جعله يقضي على كل عناصر المقاومة ضده، سواء كان مبعثها تمرد وعصيان الجند، أو مغامرة بعض قوادهم للاستيلاء على الحكم، أو اعتقاد بعض المتصدرين والأشياخ أن بوسعهم حكومة البلاد بطريق إلزام محمد علي باتباع «نصيحتهم»؛ أو كان مبعثها أخيرا إصرار البكوات المماليك على استخلاص الحكم منه.
والذي لا شك فيه أن سواد المصريين كانوا هم الذين تحملوا أضرار هذه الأحداث والمغامرات، ووقع عليهم بلاء الصراع من أجل تأسيس الحكومة الموطدة التي أرادها محمد علي، وتلك حكومة كانت تتزايد حاجتها الملحة للمال بصورة مستمرة، ويتفنن صاحبها في ابتداع الأساليب التي صار يبتز بها المال من كل الطوائف والطبقات، وامتدت فيها المظالم حتى بطشت ب «الفلاحين» في عقر دارهم، فأقفرت القرى من أهلها، وهام على وجوههم أولئك المنكوبون بحكومة الباشا في القاهرة.
ولقد كان حريا بالمشايخ والمتصدرين بسبب هذا كله أن يحاولوا المعارضة ضد حكومة محمد علي، وهم قد ضيق عليهم الباشا كذلك في أرزاقهم، وسلبهم «المغانم» التي تألفت منها دخولهم، فكان أن فعلوا ذلك، وجاءت معارضتهم في نوعين: سافرة يتزعمها السيد عمر مكرم، وصامتة يمثلها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي. أما هذه المعارضة فكانت ضعيفة الأثر ولا قيمة لها؛ فهي لم تستطع إزالة حكومة محمد علي، وتلك غاية لم يكن في مقدورها إطلاقا بلوغها لأسباب ذكرناها في موضعها، ثم إنها عجزت عن إقناع محمد علي وحكومته برفع المظالم عن المشايخ والمتصدرين، زعماء هذه المعارضة أنفسهم، والذين احتلت المرتبة الأولى في تفكيرهم دائما الرغبة في تأمين معاشهم، وتنمية ثرواتهم، وهي قد عجزت أيضا عن التوسط لدى الحكومة لرفع المظالم عن سواد الأمة.
حقيقة أثبتت الوثائق أنه كانت هناك محاولة قام بها السيد عمر مكرم للتخلص من حكومة محمد علي، عندما جال بذهنه أثناء وجود «حملة فريزر» بالإسكندرية، أن يستعين بالإنجليز للقضاء على حكومة محمد علي، فاتصل لهذا الغرض بقنصل روسيا والنمسا في مصر، ويدعى «ماكاردل»، ولكنه أخفق في مسعاه؛ لأن الإنجليز لم يكونوا يريدون التوغل في البلاد.
واستلزم الكلام عن هذه المعارضة السافرة والصامتة الترجمة للسيد عمر مكرم وللشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وذلك خصوصا لإظهار موقفهما من الأحداث التي عاصراها، وسوف يتضح من سيرة عبد الرحمن الجبرتي أن موقفه من كل الحكومات التي تشكلت في زمانه، كان متسقا في جملته وتفاصيله؛ لأن عاملا واحدا فقط بقي يحدد هذا الموقف، من أيام العهد المملوكي العثماني، قبيل الغزو الفرنسي، ثم أثناء الاحتلال الفرنسي، وفي فترة الفوضى السياسية، إلى قيام حكومة محمد علي؛ ذلك العامل كان نوع الفلسفة السياسية التي أراد بها الشيخ تفسير المجتمع الإنساني والحكومة العادلة التي يجب أن تسوسه، وهي الفلسفة التي استمد الجبرتي عناصرها من قراءاته ودراساته، ثم من تجاربه ومشاهداته.
وعند الكلام عن معارضة البكوات المماليك - وبالأحرى مقاومتهم - حرصنا على أن نتتبع أدوار هذه المقاومة ، في ضوء الوثائق التي يستبين منها كيف صارت الوقيعة بهؤلاء البكوات في النهاية، أمرا لا مفر منه في نظر محمد علي، فكان محمد علي وحده مدبر مذبحة القلعة، والذي يتحمل وحده قطعا مسئولية هذه المذبحة، وقد وقفت هذه الدراسة عند هذا الحادث المروع.
وغني عن البيان أن القصد من وضع هذا الكتاب ليس بحال من الأحوال مجرد التأريخ لعهد معين من عهود الحكم في مصر، أو أنه تمجيد للمغامرات التي أوصلت صاحبها للحكم والسلطان في مصر، بسبب عوامل كانت «استثنائية» بحتة، وفي فترة من تاريخ البلاد تميزت بنوع من الفوضى السياسية «الشاذة» تعذر على المصريين التغلب عليها بسبب «شذوذها» هذا نفسه.
لقد كان غرضنا دائما في كل دراساتنا السابقة رسم صورة جلية لأحوال المجتمع المصري، ولحياة الشعب المصري نفسه، الاقتصادية والذهنية (أو الثقافية) والسياسية والاجتماعية؛ فعلنا ذلك في كتابنا «عبد الله جاك منو وخروج الفرنسيين من مصر»، الذي يسجل تاريخ البلاد في أواخر القرن الثامن عشر، والذي ظهر في سنة 1952. ويعتبر كتابنا الحالي، من وجوه متعددة، امتدادا لهذه الدراسة في السنوات العشر الأولى من القرن التاسع عشر، في حين أن كتابنا الآخر «بناء دولة: مصر محمد علي» الذي ظهر منذ سنة 1948، كان محاولة للتعمق في فهم حياة المجتمع المصري في كل النواحي التي ذكرناها، وذلك في «مقدمة» مطولة مستندة على طائفة من تقارير المعاصرين الهامة، التي نشرناها في هذا الكتاب نفسه، وينتهي هذا التاريخ عند سنة 1848.
وثمة ملاحظة أخيرة عن «المنهج» الذي اتبعناه في هذه الدراسة، مبعثها اعتبارنا أن مهمة كاتب التاريخ، إنما هي تحري الحقائق أولا، والإلمام كل الإلمام، وقبل كل شيء بتفاصيل الحوادث، بالرجوع إلى المصادر الأصلية؛ لأن ذلك ضروري ضرورة قصوى لربط الحوادث ربطا صحيحا، وحتى يأتي «الغرض» أو تفسير الوقائع سليما صحيحا، و«فلسفة التاريخ» في نظرنا هي هذا التفسير السليم والصحيح، والذي يجعل ممكنا إدراك «الغاية» من الأحداث التي وقعت. ولم تكن إطلاقا «فلسفة التاريخ» مجرد استصدار «أحكام» مبتسرة، أو إبداء ملاحظات وآراء سريعة، قد تكون عليها مسحة من الطرافة في بعض الأحايين، ولكنها في أكثر الأوقات متعارضة مع الحقيقة، وذلك لسبب جوهري واحد، هو أن صاحبها لم يكلف نفسه مشقة التنقيب عن تفاصيل ودقائق الوقائع التي يريد أن تستند عليها أحكامه، أو يجري عليها تعليقاته؛ ولذلك فقد آثرنا أن نكون «موضوعيين» في هذه الدراسة، شأننا في كل ما قدمنا من دراسات سابقة، وأن نترك مهمة استصدار الأحكام وإبداء الآراء للقارئ الكريم نفسه، بعد أن يكون قد استعرض «الحقائق» التي سجلنا تفاصيلها.
ولقد استغنينا عن الإشارة في ذيل المتن، في «الهوامش»، عن المصادر والمراجع التي استقينا منها مادة الكتاب، كما استغنينا عن «الحواشي»؛ أي التعليقات التي قد يراد بها زيادة في الشرح أو مجرد استدراك لواقعة معينة، فحاولنا بدلا من ذلك أن يأتي المتن كاملا، ثم رأينا الاستغناء عن إثبات المراجع والمصادر في ذيل الكتاب، فهناك «فهارس» عديدة للمصادر والمراجع الخاصة بحكومة محمد علي، كما أن الوثائق المنشورة معروفة لقارئ التاريخ المصري، مما جعلنا نكتفي بذكر صاحب الوثيقة، وتوضيح الغرض منها، وذكر تاريخها، ومرسلها ومتسلمها، وهكذا الأمر الذي سوف يجعل سهلا على القارئ إذا شاء الاستزادة العثور على هذه الوثائق في مظاعنها، ولقد فعلنا مثل ذلك أيضا في الوثائق غير المنشورة.
وبعد، فقد كنا بدأنا في كتابة هذا التاريخ أثناء التدريس لطلبة الليسانس بقسم التاريخ بجامعة القاهرة في العام الجامعي 1951-1952، فأتممنا فصوله في سبتمبر 1952، ثم كان الفراغ من نسخه وتهيئته للطبع في غضون العام التالي، وبدأ الطبع فعلا في الشهور الأولى من سنة 1954.
وإني أنتهز هذه الفرصة لأتقدم بالشكر الجزيل لزملائي الأساتذة الكرام الذين جعلوا ممكنا طبع هذا الكتاب بمطابع جامعة القاهرة، ثم لإخواني وزملائي الذين عاونوني على إنجازه وإصداره: الأستاذ عبد الحليم محمد عبد القوي بوزارة التربية والتعليم، والزميل الأستاذ السيد محمد رجب حراز بقسم التاريخ بجامعة القاهرة، كما أود أن أذكر بالشكر والتقدير الجهود الطيبة التي بذلها السادة الأفاضل مدير مطبعة جامعة القاهرة الأستاذ محمد زكي خليل، ومعاونوه الكرام الذين أشرفوا على طبع الكتاب وإصداره . والله من وراء القصد.
تحريرا بالعباسية، السبت 6 ربيع أول 1378ه، الموافق 20 سبتمبر سنة 1958م
المؤلف
الباب الأول
فترة الفوضى السياسية وظهور محمد علي (1801-1805)
تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين
عقد الفرنسيون آمالا عظيمة على إرسال حملتهم المعروفة على مصر في مايو 1798، ولكن هذه الآمال ما لبثت أن انهارت عندما اشتركت قوات الأتراك والبكوات المماليك والإنجليز متآزرة جميعها مع المصريين أهل البلاد لطرد الفرنسيين والقضاء على مشاريعهم السياسية والاستعمارية والعسكرية، فلحقت الهزيمة جيش الشرق، وأرغم «بليار» على مغادرة البلاد في أغسطس سنة 1801، ثم تبعه «منو» في أكتوبر من السنة نفسها، وانطوت صفحة «الحملة الفرنسية» كمغامرة جريئة لم يستفد منها «بونابرت» شيئا بعد أن كان يرجو الاحتفاظ ب «فتحه» الجديد حتى يحين على الأقل موعد السلام العام في أوروبا، وإبرام الصلح الذي ينهي تلك الحروب التي نشبت بين فرنسا الثورية والدول، فيتخذ من إخلاء مصر وسيلة للمساومة أثناء مفاوضات الصلح المنتظرة؛ كي يظفر بشروط أكثر ملاءمة للجمهورية، فإنه ما حان موعد عقد الصلح في أميان في 27 مارس سنة 1802، حتى كانت مصر قد خرجت من قبضة الفرنسيين نهائيا.
وأخفقت كذلك مشاريع الفرنسيين الاستعمارية في الشرق بسبب هزيمتهم في مصر، فعجزوا عن إنشاء تلك المستعمرة الجديدة التي كان من أهم أغراض حملتهم على هذه البلاد إنشاؤها على قواعد جديدة، ووفق أساليب جديدة تغاير ما درجوا عليه عند تشييد «إمبراطوريتهم الاستعمارية الأولى» وتعوضهم ما فقدوه، ثم ما كانوا بسبيل فقده في «الأنتيل» وجزر الهند الغربية خصوصا، فكانت البحوث والدراسات العلمية الغزيرة والنافعة التي قام بها علماء الحملة الفرنسية هي الأثر الباقي، بل والخالد الذي أسفرت عنه هذه المغامرة.
وفي مصر ذاتها اعتبر المصريون «الحملة» حدثا من جملة الأحداث التي وقعت ومرت بهم، واختلفت في نظرهم عن الأحداث السابقة منذ أن خضعت البلاد للعثمانيين في أوائل القرن السادس عشر، في أن أصحاب الغلبة الجدد أعداء للسلطان العثماني خليفة المسلمين وصاحب البلاد الشرعي، وأنهم أقوام يختلفون عنهم في أخلاقهم وعاداتهم ولغتهم ودينهم وجنسهم وثقافتهم، وحكام زادوا من ثقل الأعباء الواقعة على الأهلين بدل أن يخففوها عنهم بسبب اعتمادهم في تقرير سلطانهم على موارد البلاد فحسب.
وكان الأثر العميق الذي أحدثه الفرنسيون بمجيئهم تشتيت قوى المماليك وتسديد ضربة قاصمة إلى بكوات هذه الطغمة الفاسدة المفسدة والتي سيطرت في مصر وأساءت استخدام ما كان لها من سلطة نافذة زمنا طويلا، حتى إن البكوات المماليك - الذين لعب كبراؤهم في العهد العثماني المملوكي بالأمراء - تعذر عليهم بعد خروج الفرنسيين أن يجمعوا أشتاتهم ليصبحوا قوة ذات وزن في توجيه الأمور في السنوات التالية، وزاد من عوامل ضعفهم وانحلالهم تفرق الكلمة بينهم وانقسامهم إلى شيع وأحزاب متنافسة فيما بينها، ولو أن غرضها جميعها كان استرجاع سلطانها ونفوذها المفقود.
وعادت مصر بعد خروج الفرنسيين إلى حظيرة الدول العثمانية مرة ثانية، وكان من مظاهر السيادة العثمانية عقب خروج الحملة، بقاء الصدر الأعظم يوسف ضياء باشا بالقاهرة لإجراء التنظيمات الحكومية التي تجعل من مصر مقاطعة أو باشوية من مقاطعات أو باشويات الإمبراطورية العثمانية، وبقاء القبطان حسين باشا بعمارته العثمانية في «أبي قير» لتأييد هذه التنظيمات الحكومية، ثم تعيين محمد خسرو باشا أول الولاة على مصر في العهد الجديد.
واعتمد مندوبو الباب العالي في إجراء ترتيباتهم على الجيش العثماني الذي بقي بالبلاد كذلك بعد اشتراكه في طرد الفرنسيين وإجلائهم عنها، وتألف هذا الجيش من خليط من الأجناد الأكراد والإنكشارية والأرنئود (الألبانيين) خصوصا. وكان الأخيرون قوام هذه القوة «العثمانية» لتفوقهم العددي على غيرهم منذ مغادرة الصدر الأعظم البلاد وخروج قسم من العسكر العثمانيين (الإنكشارية) معه.
وصار نجاح الولاة أو الباشوات في دعم باشويتهم والترتيبات الجديدة متوقفا على مدى مؤازرة هؤلاء لهم، ولكن هؤلاء الأجناد ورؤساءهم نظروا للبلاد كأنها «فتح» جديد، لهم بفضل حق الفتح أن ينهبوا ويسلبوا أرزاقها وأموالها، وأن يسيئوا معاملة أهلها أبلغ إساءة، ولم يستطع الباشوات أو «الولاة» كبح جماح الجند؛ لعجزهم عن دفع مرتباتهم أو إنشاء الحكومة القوية التي في قدرتها أخذهم بالحزم والشدة ووقف اعتداءاتهم؛ لأن الاضطرابات التي سببها وجود الفرنسيين ثم الحروب التي أدت إلى خروجهم من البلاد؛ عطلت التجارة والزراعة وكل نواحي النشاط الاقتصادي الأخرى، واستولى البكوات المماليك على موارد الأقاليم التي كانت وقتئذ في حوزتهم، فنضب معين الخزينة وافتقر الباشوات إلى المال اللازم لسد نفقات الحكم والإدارة ولدفع مرتبات الجند، فظل هؤلاء الأجناد عامل اضطراب وفوضى، ولجأ الباشوات إلى تحصيل الفرض والمغارم من الأهلين، وضج الأهلون ورؤساؤهم من المشايخ والأعيان بالشكوى والتذمر، وتحركوا للثورة على سلطة الحكومة المزعزعة، وساعد ذلك على انتشار الفوضى.
ولم يسفر خروج الفرنسيين واسترجاع العثمانيين لهذه البلاد - من الناحية الدولية - عن المساعدة على إنهاء الفتن والاضطرابات منها؛ لأن استقرار الأمور في مصر ارتهن بتقرير السلام الأوروبي العام من جهة، كما كان مرتهنا بقيام الحكومة الموطدة الأركان بها من جهة أخرى، فإن صلح «أميان» لم يكن سوى «هدنة مسلحة»، فقامت الحرب بين فرنسا وإنجلترا بعد أقل من عام واحد (مايو 1803)، وعقدت الثانية محالفة مع روسيا ضد فرنسا في أبريل 1805، انضمت إليها النمسا بعد ذلك وبذل الفرنسيون قصارى جهدهم في القسطنطينية حتى يعلن الباب العالي الحرب على أعدائهم، ونجحوا في مسعاهم فأعلنت تركيا الحرب على روسيا وإنجلترا في ديسمبر سنة 1806، وأرسل الإنجليز أسطولهم بقيادة الأميرال دكوورث
Duckworth
إلى الدردنيل والبسفور في فبراير من العام التالي، كما أرسلوا حملة فريزر
Fraser
إلى الإسكندرية في مارس 1807، وأوقفت إنجلترا عملياتها العسكرية ضد تركيا عندما عقد نابليون مع القيصر إسكندر معاهدة تلست
Tilsit
في يوليو، ومن شروطها السرية اقتسام أملاك العثمانيين بينهما، ونقض الروس هدنة سلوبودتزي
Solbodizie (المبرمة بينهم وبين الأتراك في أغسطس سنة 1807)، فاستؤنفت الحرب بين الفريقين حتى تم الصلح بينهما في معاهدة بوخارست في 28 مايو سنة 1812، وعندئذ كان نابليون مشغولا بحروبه في إسبانيا، ثم في حملته المشهورة ضد روسيا، وفي حربه القارية العنيفة ونضاله المميت في أثناء ذلك كله مع إنجلترا، حتى لحقت به الهزيمة في «واترلو» في يونيو سنة 1815، واقتاده الإنجليز إلى منفاه في سنت هيلانة.
وكان في أثناء هذه الحروب الطويلة أن ظلت مصر تستأثر باهتمام كل من إنجلترا وفرنسا؛ الأولى لخوفها من أن ينزل الفرنسيون جيشا لغزو هذه البلاد واحتلالها مرة ثانية، فيهددوا بعملهم هذا أملاك الإنجليز في الهند خصوصا. والثانية لرغبتها في تأمين مصالحها التجارية قبل أي اعتبار آخر، وظفرها بالنفوذ الأعلى في البلاد واتخاذها الحيطة لتعطيل أية مشروعات عمرانية قد تكون للإنجليز على هذه البلاد، حينما دخلت في نطاق سياستها حتى عام 1811 وتقويض أركان إمبراطورية الإنجليز في الهند، فبعثت الجنرال ديكان
Decaen
إلى «بوندشيري»
Bondichéry
في أبريل سنة 1802، واستمر «ديكان» يناضلهم هناك حتى عام 1811، كما بعثت بالجنرال جاردان
Gardane
إلى الفرس، فعقد مع الشاه معاهدة طهران في 24 ديسمبر سنة 1807، واستمر بها حتى اضطر لمغادرتها بعد عامين (فبراير سنة 1809) بسبب نجاح الإنجليز في الاتفاق مع الشاه على طرد الفرنسيين من بلاده.
وبذل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون في مصر جهودهم لتأليف الأحزاب من بين البكوات المماليك الذين اعتقدوا أن في وسعهم تأييد مصالحهم، وساعدهم على النجاح تفرق كلمة البكوات بسبب منافساتهم، فانحاز بيت مراد إلى الفرنسيين، وانحاز بيت الألفي إلى الإنجليز، ولو أن كلا الفريقين ظلا يستمعان إلى نصائح «الوكلاء» الإنجليز والفرنسيين على السواء؛ توصلا لتحقيق مآربهم في الظفر بالسلطة العليا في مصر عن أي طريق قد يجدونه.
واتخذ تدخل هؤلاء الوكلاء صورة بذل الوعود بنجدة دولتيهما للمماليك، أو التوسط لدى الباب العالي لإرجاع سلطانهم القديم على الحكومة إليهم، ونشط الوكلاء الإنجليز نشاطا «إيجابيا» في هذا السبيل، حتى إذا اقتضى الموقف الأوروبي إرسال حملة فريزر كانت جهودهم قد تكللت بالنجاح وقتيا، وقيد التزام الحكومة الفرنسية لخطة عدم التورط في أية ارتباطات مع البكوات نشاط وكلائها معهم حتى صار «سلبيا»، وترتب على تدخل الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في شئون البلاد أن صار من المتعذر قيام حكومة مستقرة في مصر، فكان هذا التدخل من أكبر العوامل التي زادت من حدة الفوضى السياسية المنتشرة بها.
على أن انتشار الفوضى السياسية لم يلبث أن هيأ الفرصة لظهور قوة جديدة في هذا الميدان المضطرب في شخص محمد علي، ظل الباشوات العثمانيون لا يأبهون لها حتى وجد «محمد خسرو» نفسه مطرودا من الولاية، ولقي آخر حتفه (طاهر باشا)، واضطر ثالث إلى المضي في طريقه إلى منصبه الأصلي بالحجاز (أحمد باشا)، وظل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون لا يفطنون لها حتى قتل وال ثان (علي باشا الجزائرلي) وطرد البكوات من القاهرة، وانبرى البرديسي لمطاردة الألفي وزاد انشقاق المماليك على أنفسهم، ثم نحي وال آخر عن منصبه (أحمد خورشيد باشا)، ونودي بمحمد علي واليا بالقاهرة.
حضر محمد علي إلى مصر مع الفرقة التي جمعت من «قولة» في الرومللي ومقدونيا مسقط رأسه، وجاءت مع القبطان حسين باشا في عام 1801 لطرد الفرنسيين، وترتب على عودة رئيس هذه الفرقة علي أغا ابن حاكم قولة أو «الجوربجي» إلى بلاده عقب الوصول إلى «أبي قير» أن تسلم محمد علي قيادة فرقته، واشترك بقواته متعاونا مع الإنجليز في العمليات العسكرية ضد الفرنسيين في حملة تلك السنة، واختار القبطان باشا لمهاجمة قلعة الرحمانية، ولكن الفرنسيين بقيادة الجنرال لاجرانج
Lagrange
أخلوها في ليل 10 مايو سنة 1801، قبل الهجوم عليها، فدخلها محمد علي دون قتال، وتوسط أحد أصدقاء محمد علي لدى القبطان باشا فألحقه هذا الأخير بخدمة محمد خسرو باشا أول الولاة أو الباشوات العثمانيين في مصر بعد خروج الفرنسيين.
ثم حدث بعد مكيدة القبطان باشا التي أهلك فيها عددا كبيرا من البكوات المماليك في أبي قير في أكتوبر سنة 1802، أن رقي «محمد علي» قائدا أو سر جيشه في أواخر سنة 1801، وهكذا لم ينقض عام واحد منذ وصوله إلى مصر حتى صار محمد علي مع زميله طاهر باشا القائدين الرئيسيين للجنود الأرنئود (الألبانيين)، عماد القوة العثمانية في مصر.
وشهد محمد علي انتشار الفوضى السياسية في مصر بعد خروج الفرنسيين منها، ولاحظ عن كثب ما يجري بها من حوادث، أقنعته بأن الولاة لن ينجحوا في إنشاء حكومة مستقرة طالما هم يظلون عاجزين عن إخضاع الجنود ورؤسائهم للطاعة والنظام، وما بقي البكوات المماليك ينازعونهم السلطة، ويقبل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون على مناصرة هؤلاء البكوات، سواء أكانت هذه المناصرة سلبية أم إيجابية، ودلت حوادث إخراج خسرو من الولاية ومقتل طاهر باشا ، ثم قتال خسرو مع البكوات المماليك في حرب كانت تارة كفته الراجحة فيها، وتارة كفة المماليك، ومحاولة طاهر باشا التفاهم معهم لعجزه عن الاعتماد على ما لديه من قوات متمردة في مقاومتهم؛ دلت هذه الحوادث على أن الجند الأرنئود إذا سلس قيادهم وحسن تحريكهم بحكمة وحذر صاروا قوة فعالة في تغيير الأوضاع القائمة لصالح رؤسائهم، وأن البكوات المماليك إذا أمكن التغيير بهم فتوهموا، أو توهم فريق منهم، أن في وسعهم الاطمئنان إلى معاونة الأرنئود ورؤسائهم له في الظفر بحكومة القاهرة؛ كان ذلك أدعى لإثارة المنافسة بينهم، وبذر بذور الشقاق في صفوفهم، وتأليب بعضهم على بعض، حتى يضعفوا جميعا وتذهب ريحهم، فيتسنى عندئذ هزيمة طوائفهم وأحزابهم متفرقين متبعثرين.
وشهد محمد علي نشاط القناصل والوكلاء الإنجليز والفرنسيين مع البكوات دائما ثم مع الباشوات كذلك، واستنجاد كلا الفريقين بالدول الأجنبية لتوسيطها لدى الباب العالي، إما لإرجاع الأولين إلى وضعهم السابق في البلاد، وإما لتقليد الآخرين منصب الولاية أو تثبيتهم في هذا المنصب، فأدرك أن استمالة هؤلاء الوكلاء تساعده على تحقيق مآربه إذا هو شاء التطلع لمنصب الباشوية.
ولاحظ محمد علي تذمر القاهريين من المغارم والمظالم التي فرضها عليهم الولاة، وسخطهم على الباشوات الذين لم يردعوا الأجناد عن السلب والنهب والاعتداء عليهم، فرأى أنه إذا هو أنشأ الصلات الطيبة مع المشايخ والعلماء ورؤساء هؤلاء القاهريين وزعمائهم الطبيعيين، فكسب ثقتهم؛ سهل عليه أن يقذف بهم في الميدان في الفرصة المناسبة لجعل نصره حاسما، سواء على البكوات المماليك أو على الولاة أنفسهم.
ومن الثابت أن محمد علي اشترك في جميع الحوادث والانقلابات منذ طرد خسرو باشا من الولاية في مايو سنة 1803، إلى وقت المناداة بولايته هو في القاهرة بعد ثلاثة أعوام فقط في مايو سنة 1805، وقد أتيحت له فرصة الظهور بسبب تلك الفوضى السياسية التي ذكرناها، والتي زاد من حدتها ما حدث من تضارب بين سياسة تركيا وسياستي إنجلترا وفرنسا، وقبل كل شيء آخر ما وقع من اصطدام بين المصالح - الفرنسية والإنجليزية - السياسية في مصر.
الفصل الأول
تركيا والمماليك
اعتقد المماليك أن الأمور سوف تعود إلى حالها السابق بمجرد خروج الفرنسيين من مصر، وأن الفرص قد سنحت لاسترجاع السلطة التي فقدوها والتمتع بالنفوذ الفعلي والمطلق في إدارة شئون البلاد واستعادة الامتيازات القديمة التي كانت لهم قبل الاحتلال الفرنسي.
وكان البكوات قد بدءوا مساعيهم من أجل الاستئثار من جديد بكل سلطة ونفوذ في حكم البلاد من أيام اشتراكهم في الحرب ضد جيش السير رالف أبركرومبي والجنرال هتشنسون (الذي تولى القيادة بعد وفاة أبركرومبي
Abercromby
في موقعة كانوب في 21 مارس سنة 1801)، وجنب القوات العثمانية ضد الفرنسيين.
وغداة وفاة مراد بك في أبريل سنة 1801، كتب عثمان بك البرديسي إلى السير سدني سميث يبلغه هذا النبأ، فبعث بكتابه هذا السير سدني سميث إلى الجنرال هتشنسون الذي بادر بإبلاغ البرديسي في 5 مايو أن لديه تعليمات قاطعة من حكومته لكسبه إلى جانبه وعقد محالفة معه، ووعد بأن يبذل قصارى جهده لمساعدته، وبدأت من ذلك الحين مساعي اللورد إلجين
Elgin
السفير البريطاني بالقسطنطينية من أجل إقناع الباب العالي بأن المماليك هم القوة التي في وسعها الدفاع عن البلاد بعد خروج الفرنسيين منها، ويطلب من الريس أفندي (وزير الخارجية العثمانية) إعطاءهم الحكم في الصعيد (بعد جرجا) مكافأة لهم على ما أبدوه من همة ونشاط في محاربة الفرنسيين، وتوسط في الوقت نفسه الجنرال هتشنسون في القاهرة مع الصدر الأعظم، ثم مع الريس أفندي في القسطنطينية حتى يصفح الباب العالي عن البكوات ويعيد إليهم أملاكهم والأقاليم التي كانت في أيديهم.
ولكن رغبة المماليك في استرجاع نفوذهم وسلطانهم السابق لم تلبث أن اصطدمت برغبة الباب العالي، صاحب السيادة الشرعية على البلاد، الذي كان مصرا بعناد على إرجاع مصر - خمس ممتلكات الدولة العثمانية - كمجرد مقاطعة عادية من مقاطعاتها، وصح عزمه من هذا الوقت المبكر، وبالرغم من اشتراك البكوات في الحرب الدائرة ضد الفرنسيين، على القضاء على كل نفوذ لهم وإقصائهم عن الحكم، بل وإبعادهم عن البلاد كذلك، حتى إن «هتشنسون» سرعان ما صار يشكو إلى الريس أفندي في 17-23 يوليو سنة 1801 من مسلك الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا معهم، الذي لم يكتف بمنع البكوات من الإقامة بمنازلهم في القاهرة، بل طردهم منها وطرد الست نفيسة المرادية أرملة مراد بك، وذلك بالرغم من تأكيدات الصدر الأعظم ووعوده القاطعة بإرجاع كل أملاك البكوات إليهم.
ويبدو أن «هتشنسون» قد فطن إلى السبب الحقيقي الذي جعل الباب العالي لا يرضى عن استرجاع البكوات لنفوذهم وسيطرتهم السابقة، فكتب في رسالته إلى الريس أفندي في 23 يوليو: «إنه ينبغي للباب العالي أن يكون لديه من الجند ما يكفي لاحتلال المراكز الهامة في البلاد، ولن يبقى الباشا المرسل من القسطنطينية سجينا.» وقد تحدث إلى البكوات المماليك، وجعلهم يشعرون أن إنجلترا تهتم كثيرا بشأنهم، ولكنها لا تستطيع أن تعترف بهم إلا كرعايا للسلطان، وأنه وعدهم ببذل كل جهوده لتخفيف غضب الحكومة العثمانية عليهم، وأن المماليك عليهم في نظير ذلك أن يزيدوا «الخراج» المرسل سنويا للباب العالي.
ونشطت بعد تسليم الجنرال منو بالإسكندرية في أغسطس سنة 1801 مساعي الإنجليز في القسطنطينية من أجل إنشاء حكومة منظمة في مصر بعد جلاء الفرنسيين، وكان عندئذ أن طلب الريس أفندي (شلبي مصطفى أفندي) في أوائل شهر سبتمبر الاجتماع باللورد إلجين لاقتراح عقد مؤتمر يبحث في الوضع المنتظر للحكومة التي يجري إنشاؤها في مصر، وأشار تلميحا في حديثه مع إلجين إلى أنه في وسعه الالتجاء إلى روسيا وطلب نجدة جنود من الروس إذا نشأت حالات معينة متعلقة بالأنظمة الواجب اتخاذها مع المماليك، فهدد إلجين بقطع محادثاته مع الوزراء العثمانيين في موضوع المؤتمر المقترح عقده، إذا كان هناك أي احتمال لاستخدام جنود أجنبية، أو اللجوء إلى نفوذ أجنبي عند وقوع «حالة» غير منتظرة في مصر، غير الجنود أو النفوذ الذي استخدم في إعادة فتح هذه المقاطعة العثمانية، فعدل الباب العالي عن موقفه، وفي 14 سبتمبر عقد المؤتمر فأوضح اللورد إلجين مدى ارتباطات الجنرال هتشنسون مع المماليك، وكان جواب الريس أفندي حاسما، ومنه يتبين إصرار الباب العالي على حرمان البكوات من كل نفوذ وسيطرة في مصر، بل وإبعادهم عنها .
قال الريس أفندي إن المماليك أجانب عن مصر اغتصبوا فيها السلطة، وتجعلهم مبادئهم وأنظمتهم في نضال مستمر ضد كل حكومة منظمة يقيمها الباب العالي في مصر، ومع أن العفو العام الذي صدر منذ دخول الجيش العثماني مصر يشمل المماليك كما يشمل سائر السكان؛ فإن واجب الباب العالي أن يتخذ من الضمانات ما يكفل إزالة الأخطار من ناحيتهم في المستقبل؛ ولذلك يرى الباب العالي أن يكون للمماليك وضع مناسب يسمح لهم بالدخول في خدمة السلطان في الوظائف وبنفس المراتب التي لضباطه، ولكن على شريطة ألا يقيم المماليك بالقاهرة؛ حيث إنهم يكونون إذا ظلوا بها مصدر أخطار ومبعث انزعاج مستمر، أما إذا فصلوا عن رؤسائهم ومعاونيهم فسوف لا يكون هناك سبب للخوف منهم، وفيما يتعلق بعساكرهم فهؤلاء يدخلون كذلك في خدمة الباب العالي.
وقد علل الريس أفندي السبب في تقدمه بهذه العروض، بقوله: إن من المتعذر قطعا إعطاء المماليك كل ممتلكاتهم السابقة من غير أن يحفظ لهم ذلك السلطة والسيطرة التامة في البلاد، وعندما ألح «إلجين» في ضرورة بقائهم بمصر واسترجاعهم لممتلكاتهم، تساءل الريس أفندي عما إذا كان «بلاط إنجلترا» عند تدخله لتخليص مصر من الفرنسيين كان يعتزم إعادة هذه البلاد إلى السلطان أو إعطاءها للبكوات المماليك.
وهكذا لم يكن لدى اللورد «إلجين» أي أمل في نجاح مساعيه في القسطنطينية لصالح البكوات المماليك على أساس إرجاع السلطة والنفوذ إليهم في مصر، وفي أكتوبر فوجئ «إلجين» بأخبار مكيدة القبطان باشا في «أبي قير» والصدر الأعظم في القاهرة للقضاء على المماليك.
فقد كان لدى يوسف ضيا والقبطان حسين باشا تعليمات محددة من الباب العالي لتغيير نظام الحكم القديم في مصر، بإنشاء أربع باشويات تحل محل سلطة البكوات المماليك حتى يتسنى إخضاع هذه البلاد لسلطان الدولة كسائر مقاطعاتها، وطلب الباب العالي إليهما إلقاء القبض على أكبر عدد مستطاع من البكوات، وإرسالهم إلى القسطنطينية على أساس أن يعطيهم الباب العالي من الأملاك هناك ما يعادل إيرادها ما كانوا يعيشون به في مصر، وخيل إليه أن هذا الانقلاب سوف يحدث بسهولة لاعتقاده أن معاهدة التحالف المبرمة بينه وبين الإنجليز (منذ 5 يناير سنة 1799) تجعل هؤلاء الأخيرين يقفون موقف الحياد من مشروعاته.
ولكن الصدر الأعظم والقبطان باشا لم يستطيعا تنفيذ أوامر الباب العالي بشأن المماليك؛ لأن هؤلاء لقوا كل تأييد من جانب القواد الإنجليز في مصر، كما لم يكن من المنتظر إلى جانب هذا أن يوافق الأهلون على حدوث الانقلاب المنشود، بسبب سخطهم على العثمانيين الذين اشتطوا في معاملتهم عند دخولهم القاهرة، واعتدى جنودهم على الأهلين وآذوهم في القاهرة والأقاليم حتى «تمنى أكثر الناس على حد قول الجبرتي - وخصوصا الفلاحين - أحكام الفرنساوية.»
وعلى ذلك فقد عمد الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا - تمهيدا لإجراء التغيير الحكومي المطلوب - إلى أساليب الغدر والوقيعة بالمماليك، وبذر بذور الشقاق بينهم لتفريق كلمتهم قبل البطش بهم، فأعطى «إمارة الصعيد»؛ أي إقطاعة أقاليم الوجه القبلي، إلى محمد بك الألفي، وكانت هذه الأقاليم «ملكا» مشاعا بين البكوات حتى هذا الوقت، ويقتسم «الإمارة» عليها البكوات من بيت مراد، الذين اشتدت المنافسة بينهم وبين البكوات من بيت الألفي دائما، وفضلا عن ذلك، فقد كان البكوات من مرادية أو ألفية متألمين من وقوع الصعيد في قبضة مراد بك وحده، منذ أن عقد معه الجنرال كليبر معاهدة أبريل سنة 1800، التي أعطت مراد «إمارة الصعيد» وجعلته يتمتع وحده بإيرادات هذه الأقاليم القبلية، فجاء تعيين الألفي الآن لهذه الإمارة ضغثا على إبالة، وزاد الانقسام بين البكوات.
وانتهز الصدر الأعظم والقبطان باشا فرصة هذا الانقسام الذي أضعف البكوات؛ ليضربا ضربتهما الأخيرة، فدبر الصدر الأعظم مكيدته المعروفة في القاهرة في 20 أكتوبر سنة 1801 (وفي رواية الجبرتي يوم 19 أكتوبر)، بأن دعا إليه في منزله البكوات الموجودين بالقاهرة، وألقى القبض على «شيخ البلد» إبراهيم بك، ومرزوق بك، وتسعة من البكوات الآخرين، وأرسل على الفور طاهر باشا إلى الصعيد للقبض على محمد بك الألفي. وكان من المفهوم - كما جاء في تقرير القواد الإنجليز عن هذا الحادث، إلى اللورد إلجين بالقسطنطينية بعد وقوعه بيومين - أن يحذو القبطان باشا حذو الصدر الأعظم بالإسكندرية، ولكن مكيدة القبطان باشا تأخرت حتى يوم 22 أكتوبر، وقد دعا القبطان باشا جماعة البكوات هناك لمقابلته، حتى يبلغهم أمر الباب العالي بإلحاقهم بخدمة السلطان بالقسطنطينية، وضرورة ترحيل من لا يرضى منهم بهذه العروض عن مصر إلى أية جهة يشاؤها.
وكان في أثناء نقل البكوات إلى إحدى سفن عمارته أن حدث الفتك بجماعة منهم؛ فقتل عثمان بك الطنبورجي (المرادي)، وعثمان بك الأشقر، ومراد بك الصغير، وإبراهيم كتخدا السناري، وصالح أغا، ومحمد بك، كما جرح كثيرون، واقتيد الجرحى إلى سفينة القبطان باشا؛ حيث أرغموا على القسم على ألا يذهبوا إلى الأجنبي، وحلف يمين الولاء للسلطان العثماني، وكان من بين هؤلاء عثمان البرديسي، واستعد القبطان باشا لإرسالهم إلى القسطنطينية.
غير أنه ما ذاعت أخبار هاتين المكيدتين حتى أسرع القواد الإنجليز؛ هتشنسون في القاهرة والجنرال ستيوارت في الإسكندرية، بالتدخل لدى الصدر الأعظم والقبطان باشا لإطلاق سراح البكوات الأسرى، واحتجا احتجاجا شديدا على هذه المؤامرة، فأطلق سراح البكوات.
وفي 23 أكتوبر أبلغ القبطان باشا الديوان العثماني ما حدث، فقال إنه وصلت تعليمات الباب العالي المتضمنة الصفح عن جرائم البكوات السابقة، بسبب إلحاح هتشنسون في حمايتهم وعدم إيذائهم - ولو أن هؤلاء يستحقون العقاب فعلا - ولذلك فقد قرر الباب العالي لهم معاشات سنوية من 12، 24، 23 كيسا للبكوات، وستة أكياس للكشاف مع إبعادهم في الوقت نفسه من الديار المصرية، كما تقرر إعطاء من يرغب منهم خدمة الباب العالي وظائف معينة، وأما الذين يرفضون هذا الترتيب فعليهم أن يذهبوا إلى أي مكان آخر يختارونه.
ويستطرد القبطان باشا فيقول إنه وصله من الصدر الأعظم ما يفيد أن جواب السفير الإنجليزي «إلجين» في المؤتمر الذي عقد في القسطنطينية لبحث موضوع المماليك (14 سبتمبر)؛ قطع بأنه لم يكن لدى السفير أية تعليمات من حكومته بشأن وضع البكوات تحت حماية دولته المباشرة، كما أكد السفير أنه لا يجول في خاطر «بلاط إنجلترا» بتاتا التدخل في شئون الدولة الداخلية، وتعهد بإقناع هتشنسون بذلك، على أن الصدر الأعظم أبلغه كذلك أنه بينما كان يبحث حلا لإنهاء مسألة البكوات، اتضح أن هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم لاستمالة الجنود الأرنئود (الألبانيين) إليهم، الأمر الذي دل على أنه لو تأجل موضوع المماليك أكثر من اللازم، استطاع البكوات تقوية أنفسهم بدرجة تمكنهم من إعلان عصيانهم.
فرأى الصدر الأعظم إحباطا لخطتهم أن يلقي القبض على شيخ البلد إبراهيم بك وغيره من البكوات الذين كانوا معه، وحدد لذلك يوم الثلاثاء 12 جمادى الآخرة 1216، الموافق 20 أكتوبر سنة 1801، وطلب من القبطان باشا إرسال البكوات الموجودين لديه بالإسكندرية إلى سفن الأسطول العثماني؛ وبناء على ذلك فقد نقل القبطان باشا هؤلاء في سفن إلى الأسطول يوم 14 جمادى الآخرة/22 أكتوبر، وكانوا خمسة بكوات؛ حامي إبراهيم بك، وكخيا (أو كتخدا، والمعنى واحد)، ومراد بك المنوفي، وثلاثة من الكشاف، ثم آخرين.
ويذكر القبطان باشا أن سبب المقتلة أن عثمان بك الجرجاوي هدد بإطلاق الرصاص، كما ذكر تدخل الجنرال هتشنسون لإطلاق سراح الأسرى بدعوى «أن أوامر ملكية تقتضيه أن يبسط حمايته على البكوات، وأن مليكه سوف يحارب العثمانيين ورجاله»، إذا هم لم يطلقوا سراح البكوات الذين اختطفوهم، وأن جنوده قد اجتمعت - مهيأة للقتال - وأنه يطلب بإصرار تسليم البكوات، وعندئذ سلم القبطان باشا البكوات وكانوا ثلاثة مع ثلاثة من الكشاف وأتباعهم، واستقبلهم الجنرال ستيوارت مع الترجمان تابرنا
Taberna .
وفي القسطنطينية استمر اللورد «إلجين» يتوسط لدى الباب العالي في صالح المماليك بمناسبة الحديث مع الديوان العثماني عن مقدمات الصلح المبرمة في لندن مع فرنسا في أول أكتوبر سنة 1801، وهي التي تلاها عقد صلح أميان في مارس من العام الثاني، الذي نص في مادته الثامنة على تأييد حقوق الباب العالي وسلطانه الكامل على أملاكه بتمامها، وكما كانت قبل الحرب، عظم اهتمام الإنجليز مدة وقت «مقدمات الصلح» بمسألة إنشاء الحكومة المستقرة في مصر، والتي كانوا يرون تعذر إنشائها دون استرجاع البكوات المماليك لسيطرتهم السابقة.
وقد استمر القواد الإنجليز في مصر يؤيدون البكوات ويناصرونهم، حتى إن السلطان سليم الثالث ما لبث أن بعث بكتاب شخصي إلى ملك إنجلترا جورج الثالث في 23 نوفمبر سنة 1801، يرجوه باسم الصداقة والمحالفة التي بينهما أن يأمر قواده وسائر ضباطه بمصر بأن يكفوا عن إعطاء حمايتهم للبكوات وعن إصرارهم على تمكينهم من مصر، ويكفي أن نال معظمهم الصفح والعفو عن جرائمهم وعصيانهم، وأن ترتب لهم الوظائف ويعطوا المعاشات عند دخولهم في خدمة السلطان، وقال سليم: «إن خروج البكوات من مصر بالشكل المعروض الآن يكون مبعث ارتياح له، كما كان خروج الفرنسيين وتخليص مصر من قبضتهم مصدر الارتياح الكامل الذي شعر به.»
وفي 26 يناير سنة 1802 احتج الريس أفندي على مسلك البكوات، فبعث إلى اللورد كافان
Cavan
الذي تسلم قيادة القوات البريطانية بالإسكندرية خلفا لهتشنسون، يشكو من أن البكوات وقت إقامتهم مع الجنرال ستيوارت بالجيزة (وهو الذي طلب إليه هتشنسون التوسط عند الصدر الأعظم لإطلاق سراحهم عقب مكيدة الصدر المعروفة) أشاعوا في القرى المجاورة، وأبلغوا رؤساءها والبدو كتابة أن الإنجليز «قد تكفلوا بإعادتهم إلى وضعهم السابق»، ويحذرون القرى والبدو من إطاعة أوامر رجال الباب العالي وضباطه؛ لأن مصر كانت وستظل دائما خاضعة لسلطانهم، وهددوا أهل القرى والبدو بالانتقام منهم إذا هم عارضوهم، وطلب الريس أفندي من «كافان» أن يصدر تصريحا رسميا وكتابيا يعلن فيه أن إنجلترا صديقة حميمة وحليفة مخلصة للباب العالي، ولا نسمح بأن يلحق أي أذى بصالح حكومة تركيا؛ ولذلك فإنه بدلا من حماية البكوات وهم الذين ظهر عصيانهم وثورتهم على الباب العالي، لا يسع الحكومة الإنجليزية إلا إظهار عدم موافقتها ثباتا على مسلكهم.
ونفى اللورد كافان في جوابه على رسالة الريس أفندي في 28 يناير، أنه يسمح أو يناصر بأية صورة من الصور البكوات أو غيرهم على سلوك مسلك مناوئ لسلطة «سلطانهم الشرعي، إمبراطور الأتراك، وحليف ملك بريطانيا القديم والمخلص له»، ولكنه من جهة أخرى اعتذر عن عدم إمكانه إصدار التصريح المطلوب، بدعوى أن إصداره بالشكل المقترح إنما يعني التدخل من جانبه في شئون مصر الداخلية، الأمر الذي يخالف ما لديه من تعليمات من جانب حكومته.
ومع ذلك فقد دلت الحوادث التالية على أن استمر السفير الإنجليزي بالقسطنطينية والقواد الإنجليز في مصر، ثم الوكلاء الإنجليز بعد انسحاب القوات البريطانية ؛ يبذلون قصارى جهدهم لمناصرة البكوات المماليك لأسباب أشرنا إليها وسوف يأتي ذكرها مفصلا في حينه، بينما استمر الباب العالي من جهته مصرا على موقفه منهم.
ولكن كان في مصر بسبب الخطة التي اتبعها ممثلو الباب العالي معهم، وبسبب مسلك البكوات أنفسهم واختلافاتهم وانقساماتهم أن تقرر مصيرهم في النهاية، وكان من الواضح أن رغبة الباب العالي في التخلص من المماليك وتحطيم كل قوة لهم، ثم تدبير المؤامرات التي شهدناها للإيقاع بهم، قد قضى على كل أمل في حدوث أي تفاهم بين العثمانيين والمماليك، بل إن مكائد الصدر الأعظم والقبطان باشا في شهر أكتوبر سنة 1801، كانت بمثابة إشارة لقيام الحرب الأهلية في البلاد وبداية عهد من الفوضى السياسية جعل من المتعذر إنشاء الحكومة الموطدة القوية التي تستطيع - في نظر الإنجليز خصوصا - حماية مصر من الاعتداء الخارجي إذا تجدد، ومنع الغزو الأجنبي عنها، بل وأفسحت هذه الفوضى السياسية ذاتها المجال لتدخل كل من الدولتين المتنافستين إنجلترا وفرنسا في شئون مصر لخدمة مآربهما الخاصة.
ولاية خسرو
وكان بعد حادث أكتوبر، أن غادر القبطان حسين باشا مياه «أبي قير» إلى القسطنطينية في أواخر نوفمبر سنة 1801، ثم ما لبث الصدر الأعظم يوسف ضيا أن غادر القاهرة في 8 فبراير سنة 1802، في طريقه إلى الشام، وتوسط القبطان باشا قبل رحيله في تعيين محمد خسرو باشا واليا عثمانيا في مصر، وزوده بالتعليمات اللازمة لإنجاز مهمة «الصدر» مع المماليك وتنفيذ تعليمات الباب العالي بشأنهم، ودخل خسرو القاهرة - وبمعيته محمد علي - في 25 فبراير سنة 1802، وشرع يعمل فورا لتوطيد حكومته وتوسيع سلطان باشويته، وكان المماليك هم العقبة الكأداء التي اعترضت طريقه، فقد ظل هؤلاء يعتمدون على القواد الإنجليز، الذين بقوا مرابطين بقواتهم بمنطقة الإسكندرية، ولم يرحل من البلاد سوى جيشهم الذي حضر من الهند بقيادة الجنرال بيرد
Baird
وقت الحرب مع الفرنسيين، وبقي معسكرا بالجيزة حتى غادرها في 10 مايو سنة 1802، وأبحر من السويس نهائيا في يونيو، كما وجد فريق من البكوات في اهتمام نابليون بأمر مصر وحضور مندوبه إليها في أكتوبر من السنة نفسها، وتعيين قومسييريين - أو مندوبين - تجاريين بالبلاد؛ فرصة لتوثيق علاقاتهم بفرنسا.
ورفضوا في هذه الظروف الاستجابة لرغبات الباب العالي، وصمموا على المقاومة، ووجد خسرو نفسه مضطرا إلى الالتحام معهم، واللجوء إلى المخادعة لإضعافهم ببذر بذور التفرقة بينهم وتحطيم جيشهم.
وبدأ خسرو من أجل توطيد حكومته بتأليف حرس خاص من النوبيين ومن الرقيق الأسود اشتراهم من الجلابة (تجار الرقيق) وعهد بتعليمهم وتدريبهم إلى طائفة من الفرنسيين الذين آثروا البقاء بالبلاد بعد خروج جيش الشرق منها، ثم وجد أن لا سبيل إلى مطاردة المماليك إلا باعتماده على الجند الأرنئود (الألبانيين) بقيادة طاهر باشا ومحمد علي، وكان الأول قد بعث به الصدر الأعظم وقت مكيدته المعروفة لقتال البكوات بالصعيد وتعقب الألفي.
ولما كان البكوات منقسمين على أنفسهم، وتشتد المنافسة - على وجه الخصوص - بين محمد الألفي وبين عثمان البرديسي؛ فقد استطاع خسرو أن يستميل للتفاهم معه عثمان بك حسن، وكان هذا رجلا مسالما ظل بمنأى عن مشاحنات البكوات ومنافساتهم، واستند خسرو في مفاتحة عثمان بك حسن في موضوع التفاهم والاتفاق معه على كتاب بعث به إليه قائمقام الصدارة العظمى بالآستانة سيد عبد الله باشا في 30 يوليو سنة 1802، يبلغه فيه رسميا قرار الباب العالي بشأن المماليك بعد أن صفح عنهم بسبب وساطة حلفائه وأصدقائه الإنجليز، وهو يطلب من البكوات الخروج من مصر والانسحاب إلى أي مكان يختارونه من بين رودس وكريت وسالونيك وأزمير والقسطنطينية، وأن ينالوا من المرتبات ضعف ما اقترحه لهم الصدر الأعظم سابقا، وقد طلب عبد الله باشا من خسرو أن يعلن للمماليك عفو الباب العالي عنهم إذا قرروا قبول هذه الشروط، وأن يهيئ لهم أسباب الانتقال من مصر مع قبول من يعثر عليه منهم بعد انسحاب البكوات كجند في جيش الدولة.
وكان غرض خسرو من استمالة عثمان بك حسن إغراء البكوات زملائه الآخرين على الحضور إلى القاهرة لإرسالهم إلى القسطنطينية أو إلى أي مكان آخر يريدونه حسب التعليمات المرسلة إليه من الباب العالي، وأفلح مسعى خسرو مع عثمان بك حسن، فحضر إلى القاهرة مع صالح بك الكبير (أو العجوز) وصالح بك الصغير في أواخر يوليو سنة 1802، ومعهم حوالي الثلاثمائة مملوك، وصرحوا لخسروا بأنهم تركوا البكوات الآخرين؛ لأنه لا يجوز في نظرهم مخالفة أوامر السلطان، ولاعتقادهم بأن إخوانهم عاجزون عن مقاومة حكومة السلطان العثماني في مصر.
واعتزم خسرو أن يتخذ من عثمان بك حسن تكأة في تدابيره مع سائر البكوات، فأكرمه إكراما كبيرا على أمل أن تغري هذه المعاملة البكوات الآخرين على الاقتداء به والمجيء إلى القاهرة.
ولكن خسرو - الذي عزا إليه معاصروه الجهل بفنون الحرب والسياسة وشئون الحكم والإدارة - لم يلبث أن ارتكب في معاملته مع المماليك خطأين ظاهرين؛ وذلك أن بكوات الصعيد الذين استمر يطاردهم طاهر باشا بعثوا إلى القاهرة يطلبون هدنة لمدة خمسة شهور، فاتخذ خسرو من هذا الطلب دليلا على أنهم وصلوا إلى درجة من الضعف والبؤس جعلتهم يقبلون التسليم والخضوع لحكومته، فطلب إليهم بدوره أن يحضروا إلى القاهرة حتى يعيشوا بها كرعايا للسلطان العثماني، خاضعين لسيادته إذا شاءوا أن يعيشوا في أمن وسلام كما فعل عثمان بك حسن، وأبلغهم أنه لما كان الباب العالي قد أصدر صفحه وعفوه عنهم، ففي وسعهم إذا قبلوا عروضه عليهم أن يعتمدوا على حماية الباب العالي لهم.
وكان خطأ خسرو الظاهر أنه استثنى من هذا العفو الذي وعد به، ومن هذه الحماية التي ذكرها، رؤساء البكوات وكبارهم: عثمان البرديسي، ومحمد الألفي، وإبراهيم بك (الكبير)، وسليم بك أبو دياب؛ الأمر الذي قرب بين البكوات ثانية، فجمعوا كلمتهم ونبذوا عروضه وأوقعوا بجيشه هزيمة كبيرة في أوائل سبتمبر سنة 1802، في «ألهوه-أولهو» بإقليم بني سويف، ومكنهم هذا النصر من النزول إلى الوجه البحري ينهبون ويسلبون ويفرضون على القرى الغرامات والإتاوات الفادحة.
وأخطأ خسرو مرة ثانية عندما استمر في استعداداته العسكرية للانتقام من هذه الهزيمة، في الوقت الذي اعتزم فيه مفاتحة البكوات في الصلح والاتفاق معهم، فعرض عليهم بواسطة عثمان بك حسن، دون أن يأمر بوقف القتال، إقطاعهم الأراضي الممتدة من إسنا إلى آخر الحدود المصرية، ولما كان هؤلاء قد ساورتهم الشكوك في نواياه، ولم تشتمل عروض خسرو على إقليم جرجا الذي كان قد اقترح الوسطاء الإنجليز على الباب العالي إعطاءه لهم، فقد صمموا على ضم هذا الإقليم بأسره إليهم، ورفض خسرو وصمم بدوره مناجزتهم.
وكان خسرو في أثناء مفاوضته مع البكوات قد سير جيشين إلى الوجه البحري؛ أحدهما بقيادة يوسف بك من أعوانه ومعه طاهر باشا، والآخر بقيادة محمد علي؛ وذلك للإطباق على دمنهور، المكان الذي اجتمعت به - منذ نزولها من الصعيد - قوات المماليك بقيادة البرديسي والألفي، وقصد خسرو من إرسال جيشيه تعزيز مفاوضاته، فلما فشلت هذه المفاوضات ظهر جيش يوسف بك أمام دمنهور، وكان جيشا كبيرا أزعج الإنجليز أصدقاء البكوات، وكانوا - كما قدمنا - لا يزالون مرابطين بالإسكندرية، فنصحوا للألفي أقرب أصدقائهم بضرورة تجنب الالتحام مع الأتراك؛ توقيا للهزيمة التي توقعوها، ولكن الألفي عجز عن إقناع زملائه، وانقسم البكوات مرة أخرى؛ فغادر الألفي دمنهور بأتباعه متجها صوب الإسكندرية، وترك البرديسي لقتال العثمانيين.
واعتمد يوسف بك على اشتراك جيش محمد علي معه في المعركة المنتظرة، ولكن محمد علي لم يجد في سيره، وآثر عند وصوله أن ينال جنده قسطا من الراحة، فخاض يوسف بك المعركة وحده في 23 نوفمبر سنة 1802، ودار القتال في سهل منبسط بالقرب من دمنهور، مكن المماليك من استخدام فرسانهم بصورة ألحقت بجيش يوسف بك هزيمة كبيرة، ونجا يوسف بك نفسه من الهلاك بمشقة عظيمة، ثم صار يشكو شكوى مرة من إبطاء محمد علي وتقاعسه وعدم الدخول بقواته في المعركة.
وفي رأي كثيرين من المعاصرين أن معركة دمنهور تحدد بداية ذلك التطور الذي أخذ يحدث تدريجيا في تفكير محمد علي، وبداية تعيين موقفه من مجريات الأمور في مصر؛ إذ من الثابت أنه لو اشترك في معركة دمنهور لكانت النتيجة على خلاف ما حدث، ولكنه تعمد عدم الدخول في هذه المعركة لإنقاذ البكوات من هزيمة محققة، وذلك لأسباب عدة: فقد لاحظ محمد علي أن الأمور صارت تجري في مصر منذ عودة العثمانيين إليها، كما لو كانت مصر «بلدا مفتوحا»، تخضع لنهب وطغيان عصابات من اللصوص وقطاع الطرق الذين لا هم لهم سوى استنزاف مواردها والاستبداد بالسلطة فيها؛ لتنفيذ مآربهم حتى أضحت الأطماع والمصلحة الذاتية وحدها هي المتسلطة وسط هذه الفوضى الشاملة.
ورسخ في ذهن محمد علي أن الباشا العثماني خسرو محمد رجل محكوم عليه بالفشل سلفا؛ لأنه لن يستطيع جمع زمام الأمور في يده بسبب ما هو واقع فعلا من تنازع على السلطة بينه وبين المماليك من جهة، ثم بينه وبين رؤساء الجند من جهة أخرى، ويعتمد هؤلاء الأخيرون على ما لديهم من قوات يعجز خسرو عن إخضاعها له بسبب مطالبة الجند المستمرة بمرتباتهم المتأخرة، وخلو خزانة الباشا من المال اللازم لدفعها، وفضلا عن ذلك فقد رأى محمد علي أن البكوات مستأثرون بإيرادات البلاد بسبب خضوع القسم الأكبر من الأقاليم المصرية لسلطانهم، ولهم فوق ذلك من الإرادة والعزم - كعنصر شهد بنفسه نشاطه - ما يضمن تفوقهم على الباشا العثماني؛ وعلى ذلك، فقد كان من رأي محمد علي قبل المساعدة على تحطيم البكوات أن يتم أولا تقرير المسألة في القاهرة ذاتها موئل السلطة العثمانية التي يمثلها خسرو باشا؛ أي تحرير خسرو من العوامل المتعددة الضاغطة عليه والتي حكم محمد علي سلفا بأنها قاضية عليه لا محالة.
ولم يفت على خسرو مغزى امتناع محمد علي عن الاشتراك في معركة دمنهور، وكان مما زاد في حنقه عليه أنه اعتبر «محمد علي» مدينا له بكل شيء، فأضمر له العداوة والكراهية في ذلك الوقت، بل وحاول البطش به عند عودته بعد ذلك من دمنهور، فطلب حضوره في «المساء» إلى القلعة، ولكن «محمد علي» أجابه بأنه يحضر في «وضح النهار» ومعه جنده.
وأما المماليك فإنهم لم يستفيدوا من النصر الذي أحرزوه لعدم زحفهم على القاهرة مباشرة، فآثر البرديسي وزملاؤه أن يجعلوا مركز عملياتهم العسكرية قريبا من الإسكندرية ومن أصدقائهم الإنجليز، ولم يحاولوا الانضمام إلى بكوات الصعيد لتعزيز قوات هؤلاء بهم في وقت كان للأتراك فيه بالصعيد ثلاثة مراكز رئيسية : في المنيا وأسيوط وجرجا ، ولكن الإنجليز ما لبثوا أن أخلوا الإسكندرية وغادرها أسطولهم في 16 مارس سنة 1803، وتسلم أحمد خورشيد باشا حكومتها في اليوم التالي، وكان قد عينه خسرو في هذا المنصب، فأنهى جلاء الإنجليز تردد البكوات فانسحبوا من دمنهور إلى الصعيد، وكان أول أثر لانسحابهم سقوط «المنيا» التي هاجمها البرديسي مع إبراهيم بك.
وكان للمنيا أهمية «استراتيجية» كبيرة؛ لوقوعها على مسافة أربعين فرسخا من حدود الصعيد السفلى، ولتحكمها - إذا وجدت بها حامية قوية - على الملاحة في النهر الأعلى بسبب ضيق مجرى النهر أمامها؛ الأمر الذي يترتب عليه عند استيلاء العدو عليها قطع المواصلات النهرية بين الصعيد وسائر الأقاليم الوسطى والبحرية وتقسيم البلاد إلى شطرين، كما يؤدي سقوطها إلى سقوط أسيوط وجرجا، وعلى ذلك فقد جمع البكوات قواتهم في أبريل سنة 1803، وهاجموا المنيا هجوما عنيفا لم تقو على دفعه بسبب ضعف تحصيناتها فسقطت في يد البرديسي، وبلغ الخبر القاهرة في 17 أبريل ففزع القاهريون فزعا كبيرا؛ لأنهم باتوا يتوقعون الآن عدم مجيء المؤن من الصعيد، وهي التي تعتمد عليها القاهرة في تموينها، وخاف الناس من انتشار المجاعة، وخاف خسرو من سقوط أسيوط وجرجا تبعا لتسليم المنيا فاستدعى جند طاهر باشا ومحمد علي من إقليم البحيرة إلى القاهرة.
وأخطأ خسرو عندما فرق بين جند طاهر باشا وجند محمد علي، وهم المشتبه في أمرهم، فأجاز للأولين أن يدخلوا العاصمة، بينما أبقى «محمد علي» وجنده خارجها معسكرين بالجيزة، وكان وجه الخطأ في هذا التمييز بين الفريقين في المعاملة، مع أنه لم يكن قد بدا من جانب طاهر باشا ما يدل على أنه مخلص حقا لخسرو باشا.
ثم أخطأ مرة ثانية عندما أراد إرجاع الجند الأرنئود إلى أوطانهم من غير أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، فقال «مسيت» في رسالته إلى حكومته بتاريخ 4 مايو: «إن سلوك الأرنئود المنطوي على الجبن، كما ظهر في التحاماتهم مع المماليك عدا ما يتكلفونه من نفقات طائلة، جعل الباب العالي يأمر من مدة بإخراجهم من مصر، وعندما وصل فرمان الباب العالي بذلك كان قد صار للأرنئود متأخرات كثيرة، فحصلت «الحكومة» إتاوات عظيمة من أهل البلاد لدفعها، ولكنه ما وضعت هذه المبالغ في خزينتها حتى طمع ضباط الباشا فيها ونصحوه بطرد الألبانيين (الأرنئود) دون دفع مرتباتهم، فجمع خسرو باشا قوات كافية حوله ثم استدعى إليه طاهر باشا زعيم الأرنئود ليبلغهم الأمر بإخلاء القاهرة حالا، وإلا أطلق الباشا عليهم النار إذا عصوا أمره، فكان طاهر باشا الذي آثره خسرو على محمد علي هو الذي تزعم حركة تمرد الجند وعصيانهم، فقد ثار هؤلاء في 23 أبريل يطالبون بمرتباتهم المتأخرة.»
وارتكب خسرو حماقة أخرى عندما أساء التصرف مع هؤلاء الأرنئود الثائرين، فقال «روشتي» (أو راشته كما يسميه الجبرتي) قنصل النمسا في القاهرة في رسالته إلى البارون شتورمر
Stürmer
السفير النمساوي في القسطنطينية في 30 أبريل 1803، إن خسرو باشا أحال الجنود على الدفتردار خليل أفندي الرجائي، فأحالهم هذا بدوره على محمد علي بدعوى أن محمد علي لا بد أن يكون قد جمع بعض المال من تحصيل الضرائب أثناء مروره بالوجه البحري، فلما نفى محمد علي ذلك قويت الفتنة، وحاصر الجند منزل الدفتردار (29 أبريل)، وطلب هذا من خسرو أن يعجل بفك إساره، ويدفع - دون إمهال - للجند مرتباتهم، ولكن خسرو وعد بأن يدفع بعد عشرة أيام، ورفض الجند إمهال خسرو والدفتردار.
وخيل إلى خسرو أن بوسعه المقاومة من القلعة، وعندئذ اقتحم طاهر باشا القلعة معلنا أنه إنما يفعل ذلك «تنفيذا لأوامر الباب العالي»، فكان في ذلك ختام باشوية خسرو، فكتب الوكيل الفرنسي «كاف»
Caffe
من رشيد في 5 مايو: «إن الأرنئود (جند طاهر باشا الثائرين) هاجموا سراي خسرو وتبادلوا مع حرسه وأعوانه إطلاق المدافع والقنابل، كما استخدم الفريقان البنادق والسيوف، فانتصر الثوار وأحرقوا منزل الباشا - وهو نفس المنزل الذي جعله الفرنسيون مقر قيادتهم العامة بالقاهرة، وكان بيت الألفي القديم بالأزبكية - وانفض جماعة خسرو من حوله، ما عدا بعض الفرنسيين الذين كانوا في خدمته وبعض الضباط الترك، فاضطر الباشا إلى الفرار في 2 مايو، وخرج من القاهرة قاصدا المنصورة ودمياط.»
ولزم محمد علي جانب الحيطة والحذر في أثناء هذه الحوادث ، فترك طاهر باشا يتهور في إعلان عصيانه على ممثل الباب العالي الشرعي في مصر، وقد كان من صالح محمد علي أن يرقب ما يترتب على ذلك من آثار في القسطنطينية، وملاحظة وقع هذا «الانقلاب» على الدول ذات المصلحة في استقرار الأمور في البلاد، ثم موقف البكوات المماليك ومراقبة مسلك الإنكشارية؛ وهم طوائف الأجناد الأخرى الذين لم يشتركوا في هذا الحادث.
وقد دل فرار خسرو من القاهرة على أن العثمانيين عاجزون عن إنشاء تلك الحكومة القوية التي في وسعها صون البلاد من أي غزو أجنبي جديد قد يقع عليها، كما دل عصيان الجند وتمردهم، على أن هذه القوات الألبانية (عماد الجيش العثماني في مصر) لا يمكن الاعتماد عليها في الدفاع عن مصر، وعزز عصيانهم هذا رأي القواد الإنجليز فيهم من أيام القتال ضد الفرنسيين لإخراجهم من هذه البلاد، لا سيما بعد أن دلت هزيمتهم في دمنهور والمنيا على أن المماليك وبكواتهم هم القوة العسكرية المفضلة التي في وسعها رد الغزو الأجنبي، على نحو ما اعتقد القواد والوكلاء الإنجليز خصوصا، فأقبلوا الآن أكثر من ذي قبل على مناصرتهم، وانصرف الوكلاء الفرنسيون بدورهم إلى تعطيل مساعي خصومهم الإنجليز ومحاولة إنشاء الصلات الوثيقة مع البكوات؛ حتى يستطيعوا كذلك تأييد المصالح الفرنسية عن طريقهم، فصارت البلاد مسرحا للصراع بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية من أجل الظفر بالنفوذ الأعلى فيها، وكان هذا الصراع من أسباب زيادة حدة الفوضى السياسية في مصر في السنوات التالية.
الفصل الثاني
فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
بدأت المفاوضات بين إنجلترا وفرنسا من أجل الاتفاق على إخلاء الفرنسيين لمصر منذ أن ذاعت وتأكدت أخبار انتصار الإنجليز في موقعة كانوب، فعقدت مقدمات الصلح في لندن في أول أكتوبر سنة 1801 بين الدولتين، على أساس إرجاع مصر إلى تركيا والاحتفاظ بممتلكات العثمانيين للباب العالي بتمامها، وكما كانت قبل الحرب الراهنة. ونجح تاليران وزير الخارجية الفرنسية في عقد مقدمات الصلح بين دولته وتركيا مع السيد علي أفندي السفير العثماني في باريس في 9 أكتوبر من العام نفسه، على أساس إخلاء الفرنسيين لمصر وإرجاعها لتركيا. ولما كانت فرنسا تريد استعادة ما كان لها من سطوة قديمة في حوض البحر الأبيض وأساكل الليفانت، فقد نصت المادة الرابعة من هذه المقدمات على أن يمنع الإنجليز من إطالة بقائهم في مصر، فتبطل بفضل ذلك مساعيهم بها مع البكوات المماليك، وهي المساعي التي خشي بونابرت أن يفيد الإنجليز منها تعزيز نفوذهم بها وإلحاق الأذى بالمصالح الفرنسية، بل إن القنصل الأول في هذه الفترة التي سبقت عقد الصلح العام في أميان في 27 مارس سنة 1802، كان يرى ضرورة طرد البكوات من مصر كلية، وإتاحة الفرصة للباب العالي لإقامة حكومة «عثمانية» قوية في مصر، عقد بونابرت آمالا كبيرة على رعايتها للمصالح الفرنسية، إذا استطاع أن يكسب ود وصداقة الباب العالي بعد عودة السلام بين فرنسا وتركيا.
وعلى ذلك، فقد بادر بإرسال الكولونيل هوراس سباستياني
Sebastiani
إلى القسطنطينية في 21 أكتوبر سنة 1801 مزودا بكتاب من القنصل الأول إلى السلطان سليم الثالث يحمل نفس التاريخ، واستطاع سباستياني في محادثاته مع الريس أفندي ورجال الديوان العثماني أن يوضح لهم مدى الخطر الذي يستهدف له العثمانيون في مصر، وهم الذين لا يحتلون منها سوى القاهرة وما حولها، بينما لدى الإنجليز سبعة آلاف من قوات الهند يحتلون الجيزة والسويس، وألفان وخمسمائة من الإنجليز يحتلون الإسكندرية ودمياط، وأرغم الجنرال هتشنسون القبطان باشا والصدر الأعظم بعد «المكيدة» المعروفة على تسليم البكوات للإنجليز، واستطاع المماليك بفضل ذلك أن يحشدوا قواتهم بالصعيد، واستمع رجال الديوان العثماني لتحذيرات سباستياني، وأكد له «وكيل وزارة الداخلية» بالقسطنطينية أن السير سدني سميث قد عقد معاهدة مع البكوات تحتفظ الحكومة الإنجليزية بالاعتراف بها أو إنكارها حسب الظروف، ورجا الريس أفندي (وزير الخارجية العثمانية) سباستياني ضرورة عدم إغفال هذه المسألة عند عقد مؤتمر الصلح المنتظر في أميان، وأفاد سباستياني من خوف العثمانيين الظاهر من مساعي الإنجليز مع البكوات المماليك، فطلب أن يشترط في معاهدة الصلح النهائية إلغاء «حكومة البكوات» نهائيا وطرد البكوات من مصر إلى الأبد، وتم الاتفاق بينه وبين الحكومة العثمانية على نفس المادة المتعلقة بهذا الموضوع لإدخالها في معاهدة الصلح.
غير أنه سرعان ما تبدل موقف القنصل الأول من البكوات المماليك عند إبرام صلح إميان في 27 مارس من العام التالي، فقد جاء هذا الصلح خلوا من هذه المادة، ولعل السبب في ذلك ما ذكره سباستياني نفسه في تقريره الذي قدمه إلى القنصل الأول عن نتيجة مهمته في القسطنطينية في نهاية عام 1801، أو في بداية العام التالي؛ فقد ذكر في هذا التقرير أن الريس أفندي عندما طلب إليه سباستياني أن يسري مفعول «الامتيازات» على الفرنسيين حتى يستطيعوا الاستفادة منها في معاملاتهم التجارية في مصر كسائر رعايا الدول الأوروبية الأخرى، «لم يخف الريس أفندي أن سكان مصر يشعرون بالود والصداقة نحو الجمهورية الفرنسية، حتى إن اللورد إلجين
Elgin
عند كلامه مع الريس أفندي عن مصر قال: «إن أهلها يأسفون أسفا شديدا على ذهابهم».»
ولذلك فقد قوي أمل القنصل الأول بعد إبرام الصلح في إمكان إنشاء العلاقات التجارية والسياسية الوثيقة مع مصر، واقتضت سياسته إلى جانب ذلك حمل الإنجليز على تعجيل جلائهم عن مصر وعن سائر المواقع التي يحتلونها في البحر الأبيض المتوسط، واتجهت سياسته منذ مارس سنة 1802 نحو تنفيذ معاهدة الصلح دون إبطاء.
ولما كان المماليك بزعامة مراد بك قد أبرموا الاتفاقات مع القواد الفرنسيين وتعاهدوا معهم أيام الحملة الفرنسية، وذلك قبل انضمام البكوات إلى جانب العثمانيين والإنجليز في القتال الذي دار من أجل طرد جيش الشرق من مصر نهائيا؛ فقد اعتقد بونابرت أن في وسعه أن يستأنف بسهولة علاقاته مع المماليك، وأن يعتمد عليهم في تأييد النفوذ الفرنسي وخدمة المصالح التجارية الفرنسية، فلم يعد من أهدافه الآن طرد البكوات من مصر، بل صار يتوسط لدى الباب العالي من أجل الوصول إلى تفاهم بينه وبينهم يكفل للبكوات ليس البقاء في مصر فحسب، بل واسترجاع نفوذهم وسلطتهم السابقة في الحكومة.
وقد زاد من اهتمامه بهذه المسألة أنه كان يتوقع قيام الحرب بينه وبين إنجلترا سريعا، فصار يرقب باهتمام زائد نشاط الإنجليز خوفا من أن ينزل هؤلاء حملة إنجليزية في مصر، كما فعل الفرنسيون أنفسهم من قبل وبخاصة عندما كان صلح «أميان» هدنة مسلمة في الحقيقة، ومن المتوقع استئناف الحرب بين إنجلترا وفرنسا في أية لحظة، ثم عظم اهتمام القنصل الأول بمصر عندما قامت الحرب فعلا في مايو سنة 1803.
غير أن نشاط بونابرت فيما يتعلق بمصر ظل - بعد صلح إميان - سلبيا في جوهره ولا يعدو إظهار عنايته بدقائق الموقف في مصر، ثم بذل الوعود الطيبة للبكوات وإبداء استعداده لنجدتهم وتمكينهم من استرجاع سلطتهم المفقودة في البلاد، ولكن دون أن «يتورط» معهم في أي عمل إيجابي سوف يكون موجها في هذه الحالة ولا شك ضد الباب العالي، الذي حرص بونابرت كل الحرص بسبب اشتعال الحرب على منعه من الانضمام إلى صفوف أعدائه، فاكتفى بالتوسط من أجل تسوية الخلافات بين الباب العالي وبين المماليك، ثم استمر يبذل الوعود الطيبة فحسب لطائفة البكوات الذين انحازوا برياسة عثمان البرديسي إلى جانب فرنسا بعد حضور ممثليها ومندوبيها إلى مصر، وانحصر اهتمامه في تبصير الباب العالي بجسامة الأخطار التي يتعرض لها سلطانه في مصر بسبب نشاط الإنجليز الذين أفلحوا في كسب جماعة المماليك الأخرى التي يتزعمها محمد الألفي.
ولم يعرض بونابرت على الباب العالي حلولا إيجابية أو عملية لإزالة هذه الأخطار، وكان طبيعيا أن تظل السياسة الفرنسية في مصر سياسة سلبية؛ لأنه تعذر في الحقيقة على بونابرت أن يرتبط مع البكوات أو يشترك معهم في أي عمل قد يدل - ولو من بعيد - على أن فرنسا تعتزم معارضة مصالح الباب العالي في مصر، في الوقت الذي حرص فيه بونابرت - وقبل أي اعتبار آخر - على الحيلولة دون انضمام تركيا إلى أعدائه.
وتفسر هذه السلبية نشاط الدبلوماسية الفرنسية في القاهرة والقسطنطينية في فترة الفوضى السياسية في مصر.
فقد بادر القنصل الأول «وقت عقد الصلح في أميان» بترشيح الجنرال برون
Brune
منذ مارس 1802، سفيرا لفرنسا بالقسطنطينية وأصدر إليه تعليماته نهائيا في 18 أكتوبر 1802، وفي 29 أغسطس أبلغ رغبته إلى تاليران وزير خارجيته بإيفاد المواطن هوراس سباستياني في مهمة إلى طرابلس الغرب ليحمل الحاكم بها على الاعتراف براية الجمهورية الإيطالية، ثم إلى الإسكندرية للتعرف على الحالة في مصر، ثم منها إلى يافا ليتفقد شئون فلسطين، ثم إلى عكا وأزمير وزنطة وكيفالونيا وكورفو، ومن الأخيرة إلى فرنسا، وفي 5 سبتمبر أصدر إليه تعليماته.
ومع أن بونابرت أراد أن يرسل سريعا قومسييرين (أو مندوبين) تجاريين إلى مصر، لكنه اعتبر ملء منصب القومسيير العام عملا يمس كرامة فرنسا في وقت كان لا يزال فيه الجيش البريطاني بمصر؛ ولذلك فقد اكتفى القنصل الأول بإصدار أوامر من «سان كلو» بتعيين المواطن دروفتي
Drovetti «القاضي بمحكمة تورين» مساعد قومسيير للعلاقات التجارية بالإسكندرية في 20 أكتوبر، ولو أن ذهاب دروفتي إلى مصر قد تعطل إلى أوائل العام التالي.
ويتضح من التعليمات التي أعطاها القنصل الأول لهؤلاء جميعا اهتمامه بتعجيل جلاء القوات الإنجليزية عن مصر، والإبقاء على الصلات التجارية والسياسية بين فرنسا ومصر، واستمالة البكوات المماليك لمناصرة المصالح الفرنسية دون أن يتسبب عن ذلك إغضاب الباب العالي، فطلب بونابرت من الجنرال برون (تعليمات 18 أكتوبر 1802) أن يبعث إليه بكل ما يستطيع جمعه من معلومات عن مجريات الأمور في مصر يوما بيوم مع العناية - على وجه الخصوص - ببيان العوامل التي يعتبرها السفير الفرنسي معوقة لإقامة السيطرة العثمانية في مصر، ثم طلب إليه الوقوف على وجهة نظر البريطانيين بشأن انسحاب قواتهم من مصر وإخلاء البلاد، وبيان مدى ما للإنجليز من علاقات مع البكوات المماليك، مع إظهار ما قد يعتمدون عليه من وسائل للاحتفاظ بمراكزهم في مصر إذا أرادوا البقاء بها بدلا من الجلاء عنها.
وفي التقرير الذي صدر لتاليران في 29 أغسطس 1802 بصدد بعثة سباستياني، طلب إليه القنصل الأول تزويد سباستياني بخطاب إلى باشا القاهرة يخطره بوصول قومسيير (أو مندوب) للعلاقات التجارية إلى الإسكندرية والقاهرة قريبا، كما طلب بونابرت من وزير خارجيته أن يسبق ذلك إيفاد أحد الضباط إلى مصر لمعرفة ما إذا كان الإنجليز قد أخلوا البلاد وفقا لمعاهدة أميان، وأن الهدوء مستتب ولا يوجد ما يمنع ذهاب القومسيير التجاري لملء منصبه في مصر .
ورأى بونابرت أن يحمل سباستياني معه كتابا من السفير العثماني إلى باشا القاهرة يوضح له فيه الغرض الأعظم أهمية من رحلته؛ وهو ملاحظة ما إذا كان الإنجليز قد أخلوا الإسكندرية أو لا يزالون في احتلالها، وطلب القنصل الأول أن تصحب الفرقاطة التي تحمل سباستياني إلى الإسكندرية مركب بريد حتى يتسنى له إبلاغ حكومته كافة المعلومات الخاصة بمركز الإنجليز، وكل ما يهم الحكومة الفرنسية معرفته عن حالة مصر.
وفي التعليمات التي صدرت لسباستياني نفسه في 5 سبتمبر سنة 1802 طلب إليه بونابرت بمجرد وصوله إلى الإسكندرية أن يدون مذكرات وافية عما قد يجده في مينائها من سفن الحرب، وعن قوات الإنجليز بهذا الثغر، وكذلك قوات الأتراك وحال التحصينات، وأن يسجل تاريخ كل ما وقع من حوادث منذ خروج الفرنسيين من الإسكندرية ومن مصر، وأن يجمع معلومات مفصلة عن حالة البلاد الراهنة، وأن يجتمع بالشيخ المسيري (وهو من أنصار الفرنسيين المعروفين، ومن كبار رؤساء الإسكندرية وأصحاب النفوذ بها) ومع رئيسي القوات الإنجليزية والعثمانية، فيسجل أحاديثه مع هؤلاء جميعا ويبعث بها إلى القنصل الأول.
وأشار عليه بونابرت إذا كان الإنجليز عند وصوله لا يزالون كذلك بالجيزة (وقد سبق أن غادرها هؤلاء منذ 10 مايو)، أن يذهب إليها في حراسة متينة، وأن يتمهل في انتقاله من بلدة إلى أخرى، وأن يتحدث في أثناء سيره مع الأهالي في الرحمانية وطرانة والأماكن الأخرى التي يمر بها ويدون مذكرات بمحادثاته معهم، حتى إذا بلغ الجيزة بادر بالاجتماع بالمشايخ: المصري والشرقاوي والفيومي وغيرهم - وهم المشايخ الذين تعاونوا راضين أو مكرهين مع الحملة الفرنسية - ويسجل محادثاته معهم كذلك، ويدون مذكرات وافية عن حالة قلعة القاهرة والتحصينات المجاورة، وينقل إلى الأهلين الذين يراهم أقوالا طيبة عن لسان القنصل الأول، ولكن دون أن «يورط» حكومته في شيء، كأن يقول مثلا: «إن بونابرت يحب أهل مصر ويريد لهم السعادة والرفاهية، ولا يزال يذكرهم ويتحدث دائما عنهم.»
وأما فيما يتعلق بالبكوات المماليك، الذين اعتمد بونابرت على كسبهم إلى جانبهم لتعطيل مساعي الإنجليز ووقف نشاطهم وتأييد المصالح الفرنسية في مصر، فقد ذكر بصددهم في تعليماته إلى سباستياني: أنه يجب أن يكون لديه (أي سباستياني) كتاب من «تاليران» إلى باشا القاهرة يبلغه رغبة القنصل الأول في إرسال قومسيير إلى القاهرة حالا، واهتمامه بمعرفة ما إذا كانت الأمور هادئة ومستقرة في مصر لحرصه على إسعادها وضمان السلام لها، وحتى يعرف إذا كان في استطاعته (أي بونابرت) التدخل مع البكوات المماليك من أجل تحقيق هذه السعادة، حتى إذا رغب الباشا أن يذهب سباستياني إلى الصعيد للحديث مع البكوات، ذهب بعد أن يمكث في القاهرة ثمانية أيام أو عشرة، يكون قد استطاع في أثنائها مشاهدة كل شيء والحديث مع الناس، وأن يصطحب معه في عودته الفرنسيين الذين بقوا بالمستشفيات، أو أولئك الذين بقوا مع البكوات المماليك ويريدون العودة إلى فرنسا.
وعلى ذلك فقد بدأت - عقب عقد معاهدة إميان واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وتركيا - مساعي القنصل الأول من أجل تحقيق غرضه الجوهري؛ إجلاء الإنجليز عن الإسكندرية بكل سرعة، ثم التوسط للبكوات المماليك لدى الباب العالي حتى يستطيع الاعتماد عليهم إذا عادت السلطة إليهم في رعاية مصالح فرنسا التجارية والسياسية في مصر.
تقابل روسان
Roussin
القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية مع الريس أفندي، واستفسر منه عن سبب تأخر رحيل القوات البريطانية عن مصر، وظفر منه بجواب يوضح وجهة النظر البريطانية. بادر روسان بإرساله إلى «تاليران» في 26 نوفمبر سنة 1802، ويؤخذ منه - كما جاء في إجابة الريس أفندي - أن تأجيل الجلاء عن مصر مبعثه رغبة الحكومة الإنجليزية في الاطمئنان على مصير البكوات المماليك قبل رحيل قواتهم البرية والبحرية من البلاد، وعندما أوضح الريس أفندي للسفير الإنجليزي اللورد «إلجين» أن رعاية شروط المحالفة الأولية المبرمة بين إنجلترا وتركيا منذ يناير سنة 1799 توجب على الإنجليز الانسحاب من مصر مباشرة بعد خروج الفرنسيين منها، قال «إلجين» إنه حدث بناء على اتفاق لاحق أن أضاف الباب العالي وحكومته (أي إنجلترا) أن هذا الانسحاب يحدث «بعد أن يتوطد السلام والهدوء تماما في مصر ويسترضى جميع الملاك بها»، ومع أن الريس أفندي أجاب بأنه لا يجوز تسمية البكوات ب «الملاك» وتمييزهم بذلك عن غيرهم، وهم الذين يؤلفون من قديم الزمان جزءا متمما من حكومة مصر، رفض اللورد إلجين الأخذ بوجهة النظر هذه، ثم استند في معارضته لها على ما أحرزه البكوات من انتصارات على قوات الباب العالي في مصر. فكان من الواضح حينئذ أنه لا معدى من انتظار ما قد تسفر عنه بعثة سباستياني من حيث إقناع الإنجليز من جهة بتعجيل انسحابهم من مصر، ثم الوقوف على حقيقة الأوضاع في هذه البلاد من جهة أخرى.
بعثة سباستياني
أما سباستياني، فكان قد غادر طولون في 21 سبتمبر 1802 قاصدا إلى طرابلس فبلغها في 30 سبتمبر، ثم غادرها بعد يومين فوصل الإسكندرية يوم 16 أكتوبر، وفي نفس اليوم كتب - بوصفه وزيرا مفوضا من القنصل الأول في الليفانت - يطلب مقابلة الجنرال ستيوارت قائد القوات البريطانية بالإسكندرية للتحدث إليه في أمور هامة كلفه بها القنصل الأول، وفي هذه المقابلة أبلغه ما لديه من أوامر من وزير خارجية حكومته «تاليران» الذي طلب إليه الذهاب إلى الإسكندرية حتى إذا وجد الإنجليز لا يزالون بها، طلب منهم إخلاءها بوجه السرعة وتنفيذ معاهدة أميان، ثم أبلغ الجنرال ستيوارت دهشة القنصل الأول من استمرار الإنجليز في احتلال مصر، وسأله عن الأسباب التي دعت إلى إطالة مدة هذا الاحتلال، وحاول ستيوارت التخلص بإجابة مبهمة عن أنه لا خوف من تأخير الانسحاب الذي سوف يحدث فعلا، ولكن سباستياني أصر على جواب أقل إبهاما وغموضا، فذكر ستيوارت أنه ليست لديه أية أوامر من حكومته بإخلاء الإسكندرية، ويعتقد أنه سوف يمضي بها فصل الشتاء، وأنهم (أي الإنجليز) لا يخلون مصر ومالطة - حسب اعتقاده - إلا بعد إبرام معاهدة تجارية بين إنجلترا وفرنسا، فاكتفى سباستياني بهذه البيانات واعتبر مهمته بالنسبة للجنرال ستيوارت ومعرفة نوايا الإنجليز في موضوع الجلاء عن الإسكندرية منتهية.
ولم تترك هذه المقابلة أثرا طيبا في نفس سباستياني عن شخصية القائد الإنجليزي وكفاءته، فقال عنه إنه رجل قليل الذكاء، يتخيل أن بقاءه على رأس القوات البريطانية في مصر يلفت إليه أنظار أوروبا، وأكد سباستياني أنه يعلم يقينا أن ستيوارت يفتش عن إزعاج الوزارة الإنجليزية بكل الوسائل من الموقف في البلاد حتى يمنع الجلاء أو يطيل أمد الاحتلال، وكان في رأي سباستياني أن الجنرال ستيوارت يقع تحت تأثير ياوره الفارس دي ساد
Chevalier de Sades
من المهاجرين الفرنسيين، له ذكاء وعدو لفرنسا.
وفي نفس اليوم قابل خورشيد أحمد باشا حاكم الإسكندرية و«القبطان بك» قائد القوات البحرية العثمانية، فأبلغهما سباستياني بقرب مجيء الوكلاء التجاريين الفرنسيين إلى مصر، وقال سباستياني: «إنهما قد سرا لهذا النبأ سرورا عظيما.» ولم يخفيا عليه أنهما يتألمان من بقاء الإنجليز في هذه البلاد، وأكد لهما سباستياني أن مكثهم بها لن يطول الآن، ولا يترك إبرام الصلح العام (معاهدة إميان) أي شك في أن رحيلهم بات قريبا.
وقابل سباستياني في اليوم التالي (17 أكتوبر) الشيخ المسيري الذي ذكر لسباستياني اعتقاد الناس لحظة وصوله أنه أغا حضر للاستيلاء على المدينة، وأن سكانها قد فرحوا لذلك فرحا عظيما؛ الأمر الذي قال سباستياني إنه لاحظه وشهده بنفسه، ثم قابل في نفس اليوم الشيخ إبراهيم المفتي، وهو رجل قال عنه إنه مخلص كل الإخلاص لفرنسا، وينال من حكومتها معاشا، ولكنه مذموم من الأهالي ويكاد لا يكون له أي نفوذ عليهم.
وأمضى سباستياني يومه التالي (18 أكتوبر) في زيارة سد أبي قير الذي قطعه الجنرال هتشنسون عند امتناع الجنرال «منو» بالإسكندرية، وأتلف قطع السد ترعة الإسكندرية التي كانت تجري فوقه وتدفقت مياه البحر من ترعة المعدية (أو ترعة أبي قير) إلى بحيرة مريوط التي كان يحجزها هذا السد، وكانت البحيرة الأخيرة تكاد تكون جافة قبل القطع فغمرتها المياه الآن، وذهب عدد كبير من القرى ضحية هذه المياه، وأرسل الباب العالي المهندس السويدي «رودن»
Rhoden
لإصلاحه، وشك سباستياني في قدرته وكفاءته، وقال إن الإسكندرية بسبب قطع السد صارت تعتمد الآن على المياه المجلوبة من آبار مرابط، ويوجد بقلعة مرابط المحصنة الصغيرة حرس من الإنجليز والأتراك لحماية الأهالي الذين يحضرون لأخذ المياه من الآبار، ثم أمضى يوم 19 أكتوبر بالإسكندرية لمشاهدتها ولاستقبال زائريه.
وفي 20 أكتوبر غادرها في طريقه إلى القاهرة في حراسة ضابطين فرنسيين من الفرقاطة التي أحضرته، فقضى في أبي قير اليوم التالي ومساءه وانتهز فرصة إقامته بها لزيارة قلعتها التي وجدها في حالة تخريب كبير. وفي 22 أكتوبر وصل رشيد بعد أن زار قلعة جوليان، فقابل أغا المدينة ومدير جمركها «عثمان» ثم جميع المسيحيين بها، «وأكد له كل من قابلهم أن الأهالي يأسفون أسفا عظيما على ذهاب الفرنسيين، ويقدسون اسم القنصل الأول». وفي 23 أكتوبر كان سباستياني في «فوه»؛ حيث قابل حاكمها والقاضي والمشايخ، وقد أكد له من قابلهم من المشايخ ولاءهم وصداقتهم للقنصل الأول، وفي اليوم التالي وصل سباستياني إلى «الرحمانية» وقابل بها الشيخ «محمد أبو علي»، ولاحظ أن قلعة الرحمانية تكاد تكون مهدمة تماما. وفي 25 أكتوبر بلغ منوف فاجتمع بالشيخ عابدين الذي عينه القنصل الأول قاضيا بها، وقد أكد له الشيخ «أن مصر ترغب في الدخول مرة أخرى تحت سيطرة بونابرت»، وأكد له سباستياني بدوره ما كان يؤكده دائما للمصريين الذين قابلهم؛ وهو اهتمام القنصل الأول بسعادة أهل مصر ورفاهيتهم ومحبته لهم. وقال سباستياني إن الشيخ عابدين وسائر مشايخ منوف الذين جاءوا لزيارته في بيت هذا الشيخ حدثوه في نفس ما حدثه به مشايخ «فوه»، وكان جواب سباستياني: «إن القنصل الأول يشعر نحو بلادكم بحب عظيم، ويتحدث عنها كثيرا، ويهتم بكل ما فيه سعادتكم ولا ينساكم أبدا، وقد أوصى بكم خيرا لدى الباب العالي، وإن «بونابرت» يحكم أغنى وأقوى دولتين في أوروبا: فرنسا وإيطاليا، وقد عقد السلام مع أوروبا، وسوف ترى هذه البلاد مدى اهتمامه بها ومدى الأثر الذي تركته في نفسه ذكرياته الطيبة عن مشايخ مصر السيئي الحظ ...» وقد ذكر سباستياني فيما بعد أن «محمد كاشف» حاكم منوف كان نصيبه القتل وقطع رأسه - بعد مرور سباستياني - بتهمة وجود علاقات بينه وبين المماليك، وأما قلعتا منوف فقد وجدهما سباستياني مخربتين تماما.
وفي نفس اليوم (25 أكتوبر) وصل سباستياني إلى بولاق، وبعث في التو والساعة المواطن جوبير لإخطار باشا القاهرة خسرو محمد بوصوله، فأرسل إليه في صبيحة اليوم التالي (26 أكتوبر 1802) قوة من ثلاثمائة فارس ومائتي جندي من المشاة لاصطحابه في أثناء سيره إلى بيت خسرو باشا، وأطلقت المدافع ترحيبا به.
وكان أول ما فعله سباستياني عند دخوله القاهرة، ومقابلته لخسرو باشا؛ أن أبلغه عقد الصلح بين فرنسا والباب العالي، واستئناف صلات المودة والصداقة والعلاقات التجارية بينهما، وأن بونابرت القنصل الأول قد كلفه بأن يؤكد لخسرو باشا حسن نواياه، وأن ينبئه بخبر وصول المندوبين التجاريين الفرنسيين قريبا إلى مصر.
وشكر خسرو باشا للقنصل الأول نواياه الطيبة ورحب بقدوم مندوبيه التجاريين، وبعد هذه المقابلة انتقل سباستياني إلى المنزل الذي أعده له الباشا، وجاء لزيارته كبار المدينة ورؤساؤها والمباشرون أو المعلمون الأقباط، ثم اجتمع بالباشا مرة أخرى في 27 أكتوبر، وكان اجتماعا طويلا، وذكر له «أن القنصل الأول مهتم به وبالبلاد التي يحكمها أبلغ الاهتمام، ويريد أن يوفر له وللبلاد أسباب السعادة، وأنه لذلك قد كلف «سباستياني» بعرض وساطته على «خسرو باشا» من أجل الصلح بينه وبين البكوات المماليك»، فشكره خسرو على عنايته واهتمام القنصل الأول، ولكنه قال: «إن تعليمات حكومته القاطعة هي حرب الفناء ضد البكوات، وعدم الدخول بتاتا في أية اتفاقات معهم.»
وعندئذ لاحظ سباستياني أن سبب انهزام الأتراك في عملياتهم العسكرية الأخيرة مع البكوات لا أقل من خمس مرات، أن الحالة النفسية التي صار عليها الجنود العثمانيون جعلت مركزهم دقيقا للغاية، وأن العناد والإصرار على المضي في قتال المماليك من شأنه أن يمهد في النهاية لضياع مصر ذاتها، وقال سباستياني: إن الباشا يدرك تمام الإدراك أنه لا يستطيع مقاومة البكوات طويلا، وطلب إليه أن يرجو القنصل الأول حتى يبدأ هذه المفاوضة في القسطنطينية، وأن يصل إلى نتيجة سريعة من هذه المفاوضة (لأجل الصلح مع البكوات)، ثم أطلع سباستياني على ما لديه من أوامر الباب العالي، وكان من رأي سباستياني عندئذ أنه يستحيل على خسرو باشا بسببها قبول أي اتفاق مع البكوات، وفي هذه المقابلة أبلغه سباستياتي عزمه على الاجتماع بمشايخ القاهرة ، وأرملة مراد بك، وكذلك زيارة الجهات المجاورة للقاهرة وتحصينات المدينة، وأمر خسرو بأن يصحب سباستياني في كل مكان يقصد إليه الحرس الذي كان قد خصصه له قائلا: إنه يسره دائما أن يقضي الأخير المدة التي يمكثها بالقاهرة في راحة وسرور.
وفي 27 أكتوبر بدأ سباستياني زياراته بزيارة الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر للاجتماع به في بيت الشيخ عدد كبير من المشايخ، ودار الحديث حول اهتمام القنصل الأول بمصر، وعظم قوته وما كسبه من أكاليل المجد والفخار، وتقديره واحترامه ورعايته لعلماء القاهرة، وانسجام العلاقات بين السلطان سليم الثالث وبونابرت، وقد أظهر المشايخ في كلامهم مقدار ما يكنونه لشخص القنصل الأول من محبة وود. وعلق سباستياني على هذا الحديث بقوله: «إنه دهش مما أبداه المشايخ من شجاعة في إعلان رغبتهم في أن يصبحوا مرة أخرى رعايا للقنصل الأول.» وفضلا عن ذلك فإنه يكفي للتأكد من صدق رغبتهم هذه وعواطفهم نحو القنصل الأول؛ ملاحظة ذلك الحماس العظيم الذي شاهده سباستياني بنفسه، والذي أظهره المشايخ عند إهدائهم صورة بونابرت. وقد أهدى سباستياني صورة بونابرت لكل كبار المشايخ ليس في القاهرة فحسب، بل وفي البلدان الأخرى التي مر بها، وقد ظهر مثل هذا الحماس في كل مكان مر به.
وفي 28 أكتوبر زار سباستياني السيد «الشيخ» عمر مكرم نقيب الأشراف، وكان مريضا فقابله ابنه، وأما الشيخ الآخر الذي أراد سباستياني زيارته فكان الشيخ البكري، وكان على علاقات سيئة مع الباشا، فرجاه عدم زيارته خوفا من زيادة هذه العلاقات سوءا، وقد قال لسباستياني مثل هذا القول كل من المشايخ: أحمد العريشي ومحمد المهدي ومحمد الأمير، وأما الشيخ سليمان الفيومي فقد رحب بزيارته ترحيبا كبيرا، وأبدى له «إعجابه الذي يفوق كل الحدود بالقنصل الأول».
وقال سباستياني تعليقا على ما صادفه من ترحيب: «إن مواطنيه جوبير
Jaubert
وبرج
Berge
قد شهدا بأنه لم يسبق بتاتا أن أظهر سكان القاهرة مثل هذه العواطف الودية نحو فرنسا قبل مجيء سباستياني.» وحتى إن كل الناس كانوا ينهضون واقفين عند مرور سباستياني وركبه في شوارع المدينة ، وصار فلكيوها (أو منجموها) يقرءون طالع القنصل الأول.
وزار سباستياني في 29 أكتوبر أرملة مراد بك، وكان في عزم هذه السيدة أن تزور سباستياني في بيته، وقد اشتكت بشدة عند اجتماعه بها من مظالم الأتراك، وألحت عليه في الرجاء أن يعمل لإعادة حكومة البكوات الذين يحفظون في نظير ذلك للفرنسيين وللقنصل الأول حسن صنيعهم معهم إلى أبد الآبدين، فأبلغها سباستياني رغبة بونابرت في توسيطه من أجل الوصول إلى السلام بين البكوات والباب العالي.
ولكن خسرو باشا كانت لديه أوامر قاطعة بمنعه من الدخول في أية مفاوضات معهم، ومع ذلك ففي وسع السيدة أن تؤكد للبكوات - وهي التي قال سباستياني عنها: إنها بمثابة الوكيل لهم في القاهرة - أن القنصل الأول قد تسلم خطاب إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي الذي بعثا به إلى بونابرت مؤرخا في 1217ه عقب مكيدتي الصدر الأعظم والقبطان باشا ضد البكوات في أكتوبر سنة 1801، وقد طلب إبراهيم والبرديسي في هذا الخطاب نجدة بونابرت وحمايته للبكوات الذين عقد رئيسهم المتوفى مراد بك معاهدته المعروفة مع الجنرال كليبر، وأبلغوه استعدادهم لقتال العثمانيين إذا منحهم حمايته، واثقين من الانتصار على هؤلاء إذا ظفروا بهذه الحماية، ويرجون القنصل الأول مساعدتهم على الاستمرار في البقاء بمصر، واسترجاع سلطتهم وحكومتهم.
وقد عهدا بتسليم هذا الخطاب لبونابرت إلى المسيو جوزيبي
Guiseppi (يوسف) الذي قالا عنه إنه علم بأحوال البكوات وفي استطاعته تزويد بونابرت بتفصيلات أوفى لا يجرءون على تدوينها خوفا من سقوط رسالتهم في أيدي الإنجليز أو الأتراك الذين يملئون الموانئ؛ السبب نفسه الذي جعلهم لا يرسلون أحد كشافيهم بهذه الرسالة.
فأبلغ سباستياني أرملة مراد بك رد بونابرت على هذه الرسالة، وهو اعتزام التدخل لإنهاء خلافاتهم مع الباب العالي بما يناسب الفريقين.
وزار سباستياني في هذا اليوم والأيام التالية القلعة وجزيرة الروضة والجيزة وبولاق وكل القلاع الصغيرة حول المدينة، وتذمر الجند الأتراك من مشاهدته يزور القلاع، ولكنه تظاهر بعدم الانتباه والالتفات لهذا التذمر، ولكن حدث في أثناء عودته من زيارة قلعة «ديبوي»
Dupuy
في 29 أكتوبر أن هدده أحد هؤلاء الجنود برفع «يطقانه» عليه، ولكنه كان سكرانا، ثم أظهر الأهالي سخطهم الشديد عليه، فلم يهتم سباستياني بهذا الحادث، ولكن ما لبث أحد أعيان القاهرة «مصطفى الوكيل» أن اعترض طريقه بعد ذلك وأنب أحد سياسه لسيره أمام فرنسي، وهدده بالجلد بعد رحيل هذا الفرنسي، فشكا سباستياني لخسرو باشا وطلب أن يعتذر مصطفى الوكيل له، ولكنه سرعان ما تبين له أن هذا الرجل كان من المقربين للباشا ويتمتع بحمايته، فكان بعد أن هدد سباستياني بمبارحة البلاد فورا وإبلاغ شكواه إلى حكومته، أن حضر إليه مصطفى الوكيل في اليوم التالي بصحبة «راشته»
Rossetti (قنصل النمسا في مصر) يطلب الصفح.
وقال سباستياني إنه حدث في نفس اليوم تهييج الألبانيين (الجند الأرنئود) ضده، وأن المحميين الإنجليز في رشيد قد بعثوا بكتابين يؤكدون فيهما مشاهدة أسطول فرنسي قريبا من شواطئ الأناضول في طريقه إلى القسطنطينية، وأن زيارة سباستياني لمصر لا غرض لها سوى خديعة المسئولين بهذه البلاد وصرفهم عن اتخاذ الحيطة لدفع الخطر الذي يهددهم، فعمل سباستياني على تكذيب هذه الإشاعات، واستدعى لمقابلته التاجر الذي وصلته رسالة رشيد، وسلمه هذا الأخير الرسالة التي بعث بها سباستياني إلى خسرو باشا مبينا له ما تستهدفه هذه الإشاعات الكاذبة والأخبار المغرضة من إحداث الاضطرابات لتكدير صفو العلاقات بين فرنسا والباب العالي، ولكن خسرو - على حد قول سباستياني - لم يقع في الشرك، بل أطلعه على رسالة وصلته من الجنرال ستيوارت كان مرفقا بها أمر يومي (أو بلاغ) من القنصل الأول وقت قيادته لجيش الشرق في مصر بتاريخ فركتيدور من سنة الجمهورية السابعة، يذكر للمصريين أن القسطنطينية كانت تابعة لبلاد العرب، وأنه قد حان الوقت لإعادة سيطرة القاهرة القديمة إليها والقضاء على إمبراطورية العثمانيين في الشرق، ورجا ستيوارت من خسرو أن يتمعن مليا فيما جاء بهذا الأمر اليومي؛ حتى يدرك مدى إخلاص الفرنسيين للباب العالي وقيمة صلحهم مع تركيا.
ثم اعتقد سباستياني أن الإنجليز يدبرون اغتياله، ولكن أثلج صدره أن يرى خسرو باشا يغمره بأنواع التكريم منذ وصوله إلى وقت مغادرته للبلاد ، وشهد بنفسه الوكيل التجاري الإنجليزي بالقاهرة «مسيت»
Missett
هذا التكريم، كما شاهد ما يظهره أهل القاهرة من محبة للفرنسيين.
ولاحظ سباستياني أن أصحاب النفوذ الأكبر في القاهرة - بعد خسرو باشا - كان «راشته» والسيد أحمد المحروقي، وقال عنهما إنهما يكرهان كلاهما فرنسا، وإن العداء - مع ذلك - مستحكم بينهما، والمعتقد أن «روشتي» أو «راشته» قد خان قضية البكوات المماليك، وانحاز الآن إلى جانب العثمانيين، ومع ذلك فإن هذا «الداهية» يعرف كيف يكسب صداقة وعطف المماليك إذا استعادوا نفوذهم، وهو الآن يتاجر مع خسرو باشا في الزعفران والحبوب، وهي تجارة عادت عليه بالربح الوفير حتى أثرى ثراء فاحشا في وقت قصير، ويتذمر من نفوذ المحروقي وروشتي الدفتردار شريف أفندي، وهو ذو سمعة طيبة، قابله سباستياني وأثنى عليه، وقال عنه إنه كان دائما من الحزب الموالي لفرنسا في الديوان العثماني بالقسطنطينية، وقت عضويته به قبل مجيئه إلى هذه البلاد، وقد عينه الباب العالي - قبل مغادرة سباستياني لمصر - باشا على جدة، ولكنه اعتبر هذا التعيين دون ما يستحق، فرفضه، وعين الباب العالي في منصب الدفتردارية رجائي أفندي الذي غادر القسطنطينية في طريقه إلى القاهرة.
وقد عاون سباستياني في نشاطه أثناء إقامته بالقاهرة، ترجمان الباشا «ستفاناكي»
Stefanachi
الذي قال عنه إنه يوناني من المورة وصاحب ثروة عريضة وشديد الولاء لفرنسا والتحمس لشخص القنصل الأول؛ لاعتقاده أن الإمبراطورية العثمانية آيلة للزوال، وأن اليونان عند سقوط الدولة سوف تكون تابعة لفرنسا.
وذكر سباستياني أن الشيخ محمد السادات بالرغم مما ناله من إيذاء بعد رحيل الجنرال بونابرت من مصر، رجاه أن يبعث إليه بالمواطن «جوبيير»
Jaubert ، حتى إذا ذهب إليه «جوبيير» صار الشيخ السادات يؤكد له مبلغ ولائه ومحبته للقنصل الأول ولفرنسا، وأن المدة التي أقامها هذا الرجل العظيم في مصر كانت عهد خيرات عميمة، وأن مصر لا يسعها كلما ذكرت هذه النعم إلا مباركة هذا الرجل العادل والرحيم، وأنه (أي الشيخ السادات) لا غاية له إلا أن تسنح له الفرصة لإظهار ولائه وإخلاصه له.
وقابل سباستياني عددا من رؤساء ومشايخ البدو ، وقد أظهر جميعهم تذمرهم من العثمانيين.
وفي 2 نوفمبر قابل سباستياني خسرو باشا مودعا، وفي 3 نوفمبر نزل في النيل (في ذهبية خصصها له الباشا) من بولاق في طريقه إلى دمياط للسفر منها إلى الشام، وانتهت مهمته في القاهرة.
وكان رأي سباستياني في خسرو باشا أنه «رجل يحب المجد دون أن يعرف ما هو المجد؛ ولذلك فقد صرف كل جهوده للعناية بتوافه الأمور، مثل كساء الجنود وما إلى ذلك، وهو رجل يجهل كل الجهل فنون الحرب والسياسة وشئون الحكم وأساليب الإدارة، ولا يتقن سوى قطع الرءوس.» حقيقة قد أصدرت إليه حكومته أوامر على غاية من الوحشية، كما ذكر سباستياني أن «ستفاناكي» ترجمان خسرو قد أطلعه على أوامر من الباب العالي تطلب من باشا القاهرة إهلاك كل المماليك المنتشرين في مختلف الجهات في مصر، سواء احتفظ هؤلاء بعلاقاتهم مع البكوات أو قطعوها، كما طلب إليه الباب العالي إذلال رؤساء المشايخ وكبارهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم بقدر استطاعته، وإيذاء الشيخين البكري والسادات، على وجه الخصوص.
كما ذكر سباستياني نتيجة لملاحظاته في القاهرة أن الإشاعات تروج بها عن عودة الفرنسيين إليها قبل مضي عامين، وأن القنصل الأول سوف يكون عندئذ سيد مصر والشام معا، وتنبأ «منجموهم» بذلك، ويتكلم الناس في هذا الموضوع كأنه حقيقة ثابتة لا مفر من حدوثها، وقال سباستياني: «إن من يعرف البلاد وأوضاعها لا يشك في مدى ما يحدثه ذيوع مثل هذه الآراء فيها.»
وكان في أثناء رحلته إلى دمياط، أن وقف سباستياني بعض الوقت في سمنود في 5 نوفمبر، ثم في المنصورة في اليوم التالي، وقابل حاكمها والشيخ السيد محمد الشناوي، وقد زاره كلاهما مع «كل المشايخ» بالمنصورة، وتحدث معهم بنفس الكلام الذي تحدث به مع مشايخ القاهرة وغيرها، وأظهروا نفس الولاء والمحبة لفرنسا ولقنصلها الأول، وفي مساء اليوم نفسه وصل سباستياني دمياط.
وفي أثناء وجوده بدمياط زار قلعة «العزبة» - عزبة البرج - وأبراج البوغاز (7 نوفمبر) ولاحظ أن القلعة في حالة سيئة ولو أن أبراج البوغاز تنال قسطا طيبا من العناية، وتقيم بالقلعة والأبراج حامية من مائتي رجل. وفي 8 نوفمبر زاره ابن حسن طوبار الذي لا يزال يتمتع بنفس النفوذ دائما على أهل المنزلة، وقد شكا شكوى مرة مما يلحقه به الأتراك من أذى؛ بسبب ما أظهره من ولاء للجيش الفرنسي، وأعلن لسباستياني أنه يتربص للفرصة التي تتيح له البرهنة من جديد على صدق عواطفه نحو فرنسا.
وعند زيارته لإحدى القرى المجاورة (9 نوفمبر) قابل الشيخ إبراهيم البهلول الذي اشتهر عنه مسلكه الطيب وقت محنة الفرنسيين بقيادة الجنرال فيال
Vial
عندما حوصروا في هذه الجهات، فأعفى بونابرت قريته من الضرائب مكافأة لها، وصار الشيخ من أصدق أصدقاء فرنسا.
وفي دمياط قابل سباستياني جميع مشايخها، وخصوصا الشيخ علي خفاجي الذي كان بونابرت قد أنعم عليه بفروة من السمور، وهو رجل قال عنه سباستياني إنه يتمتع بسمعة ونفوذ كبيرين، ولا يزال على ولائه لفرنسا.
وفي دمياط كذلك تسلم سباستياني في 11 نوفمبر رسالة من عثمان بك البرديسي بادر سباستياني بالرد عليها، فأبلغه أن القنصل الأول قد كلفه بإنهاء الخلافات بين البكوات والعثمانيين، ولكن هذه المسألة لا يمكن الكلام فيها إلا في القسطنطينية، وأن القنصل الأول لا يزال يرجو لهم الخير ويبغى مساعدتهم.
وفي 14 نوفمبر 1802 غادر سباستياني دمياط قاصدا إلى عكا لإنجاز مهمته، فقابل الجزار باشا، ثم غادر عكا في 17 نوفمبر، فوصل زنطة بعد ثلاثة عشر يوما ثم غادرها إلى مسينا.
وكان لبعثة سباستياني في القاهرة آثار بعيدة؛ فقد سببت «الحفاوة» التي قوبل بها رسميا في القاهرة من جانب الباشا العثماني عند وصوله إليها ثم عند مغادرته لها القلق للإنجليز؛ لا سيما وأن سباستياني قد أظهر للجنرال ستيوارت ما جعل الأخير يعتقد أن القنصل الأول مصمم على خروجهم بكل السرعة، وأنه يبغي من الصلح مع الباب العالي استئناف فرنسا لنشاطها التجاري واستعادتها لنفوذها السياسي في مصر، وأزعجت القائد الإنجليزي رغبة بونابرت في التوسط لإنهاء الخلافات بين الباب العالي والبكوات، ومسعى سباستياني نفسه لكسب مودة الأخيرين ومقابلته - لهذه الغاية - لأرملة مراد بك الست نفيسة، بالقاهرة، وتراسله مع البرديسي؛ الأمر الذي هدد بفشل سياسة الإنجليز في مصر، وهم «الذين استطاعوا استمالة البكوات إلى الوثوق بهم والاعتماد عليهم في بلوغهم السلطة والحكم في مصر». وكان القواد والوكلاء الإنجليز بدورهم يعتمدون عليهم كالقوة المحاربة التي في استطاعتها عند استقرار الأوضاع الجديدة دفع خطر الغزو الأجنبي عن البلاد، وخصوصا من ناحية الفرنسيين أنفسهم، وفضلا عن ذلك فقد دل اجتماع سباستياني بالمشايخ في القاهرة وغيرها، على أن هؤلاء أو فريقا كبيرا منهم أصدقاء لفرنسا، وقد يرضون بحكم بونابرت في مصر مرة أخرى، يشاركهم في هذا الشعور أكثرية السكان المتذمرين من مظالم العثمانيين واعتداء الجند عليهم.
وعلى ذلك فقد اهتم «ستيوارت» بأمر هذه «البعثة» منذ مجيء سباستياني إلى وقت مغادرته البلاد، فنقل إلى حكومته في 18 أكتوبر سنة 1802 كل ما دار بينه وبين سباستياني من حديث في مقابلتهما، وكان من رأي ستيوارت أن الفرنسيين يدبرون بعض الخطط التي تمكنهم - سواء بالمفاوضة أو بطريق آخر أكثر صراحة وعلانية - من استعادة سلطانهم ونفوذهم الممقوت في مصر، وأن الغرض من محاولة «سباستياني» مع خسرو باشا من أجل الاتفاق والصلح مع المماليك؛ هو تحقيق هذا المأرب.
وزاد من قلق «ستيوارت» أن خسرو كتب إليه في 9 نوفمبر - دليلا على الود والصداقة القائمة بينه وبين ستيوارت - يبلغه اقتراح سباستياني عليه توسط القنصل الأول من أجل الاتفاق مع البكوات، وكيف أنه ألح على خسرو في الاتصال بالبكوات، أو على الأقل الكتابة إليهم، ولكن خسرو رفض التدخل في مسألة من خصائص الباب العالي نفسه، ثم أضاف أنه ذكر لسباستياني «أنه لما لم يكن لديه أية سلطات تخوله الاتفاق مع الجنرال ستيوارت (في هذه المسألة)، وهو يمثل دولة حليفة لتركيا، فإن معنى قبوله لوساطة فرنسا الإقدام على عمل لا يتفق والاعتراف بالجميل نحو حلفاء الدولة، فضلا عن أنه مخالف لأوامر السلطان»، وتعددت رسائل ستيوارت إلى حكومته وإلى اللورد إلجين سفيرها بالقسطنطينية عن نشاط سباستياني، بناء على المعلومات التي بلغته عنه من الوكلاء الإنجليز طوال شهري أكتوبر ونوفمبر.
وكان مما أبلغه هؤلاء الأخيرون من القاهرة إلى الجنرال ستيوارت (15 نوفمبر) «أن سباستياني يريد الاتصال بالمماليك، ولا يهمل أية وسيلة قد تعينه على بلوغ غرضه، وأنه بعد أن حاول عبثا إقناع خسرو باشا بأن الإنجليز على الأقل سوف يتحدون بقواتهم مع المماليك، متخذا من بقاء الإنجليز بالإسكندرية - بالرغم من انتهاء المدة المنصوص عليها في معاهدة صلح «أميان» لجلائهم - برهانا على صدق مزاعمه؛ لم يلبث أن صار يهدد خسرو باشا بجلب سخط القنصل الأول عليه قائلا: إن نفوذ القنصل الأول لدى الباب العالي قد يبلغ درجة يستطيع بها طلب استدعاء خسرو إذا ظل يعارض سباستياني في أغراضه.»
واهتم اللورد إلجين السفير البريطاني بالقسطنطينية بهذه الأخبار، فأبلغها إلى الريس أفندي الذي أظهر دهشته من زيارة سباستياني للقاهرة؛ لأن الريس أفندي كان يعتقد أن سباستياني سوف يذهب إلى الجزائر وتونس وربما زار المورة وكورفو، ولكنه يجهل أنه كان مكلفا بزيارة مصر والشام، ويجهل أكثر من ذلك «مهمته الدبلوماسية» التي لم يبلغ شيء عنها لحكومته.
وكان من أثر ذلك أن زاد نشاط مساعي الإنجليز في مصر وفي القسطنطينية معا، من أجل توثيق علاقاتهم بالبكوات من ناحية، والوصول إلى اتفاق يحسم خلافاتهم مع الباب العالي من ناحية أخرى، وقد خطت الدبلوماسية الإنجليزية خطوات واسعة في هذا السبيل عندما أمر القنصل الأول بنشر تقرير سباستياني عن مهمته، فنشرته الجريدة الرسمية
Moniteur ، بعد حذف فقرات منه اقتضت «الحكمة السياسية» حذفها، في 30 يناير 1803.
وذكر التقرير المنشور نشاط سباستياني ومقابلاته التي سبق الحديث عنها، وكان مما جاء فيه أن هناك سوء تفاهم كبيرا بين خسرو باشا والجنرال ستيوارت. وتضمن - علاوة على ذلك - تفصيلات هامة عن حالة الأبراج والقلاع في المراكز المختلفة، وأكثرها مهدم ولا توجد به سوى حاميات ضعيفة وضئيلة، كما هو الحال في حصون وقلاع «أبي قير»، و«جوليان»، والبرلس، والرحمانية، ومنوف، وبولاق، والجيزة، وبركة الحاج، وبلبيس، والصالحية، والمنصورة، وبرجي البوغاز، و«دمياط»، والديبة، والقطية، والعريش، والسويس. بينما لا يوجد في الإسكندرية من القوات العثمانية سوى ستمائة رجل، وفي أبي قير مائة، وفي قلعة جوليان خمسة عشر، وفي رشيد مائتان، وفي الرحمانية خمسة وعشرون، وفي إقليم منوف خمسمائة، وفي القاهرة وبولاق والجيزة خمسمائة، وفي السويس مائة، وفي إقليم المنصورة خمسمائة، وفي إقليمي دمياط والغربية ستمائة، وعددهم جميعا في كل المراكز 7640 فحسب، كما تبلغ قوات العثمانيين العاملة 600 من المشاة، و2000 من الفرسان، و500 من المدفعية، والمجموع 3100.
وأما القوات العثمانية فتبلغ كلها حوالي الستة عشر ألفا، ويؤلف الألبانيون أو الأرنئود القسم الأكبر منها تحت قيادة طاهر باشا، وأضاف التقرير: «أنه من العبث وصف هذه القوات بأنها جيش؛ لأنهم رجال ينقصهم السلاح، ولا نظام لهم ولا يثقون في رؤسائهم وضباطهم، وقد أنهكت قواهم بسبب انغماسهم في الملذات والموبقات، ويتساوى الرؤساء مع جنودهم في جهلهم التام بفنون الحرب والقتال الأولية، ولا يستأثر باهتمامهم سوى الرغبة الملحة في جمع المال والإثراء سريعا، حتى يتسنى لهم عند التقاعد العيش في يسر وطمأنينة.»
وفي هذه المناسبة جاء في التقرير: «أنه يكفي اليوم لفتح مصر ستة آلاف فرنسي فحسب.»
وأما القوات الإنجليزية فقد ذكر التقرير أنها تبلغ 4430 تحتل الإسكندرية والحصون المجاورة لها التي أهمل الإنجليز العناية بها.
وأما المماليك، فكان جيشهم يتألف من 300 من المماليك، و3500 من الأعراب من قبيلة العبايدة في الشرق، و3500 من قبيلة بني علي، وقد تزوج محمد بك الألفي من ابنة شيخ القبيلة الأولى، بينما تزوج مرزوق بك ابن إبراهيم بك من ابنة شيخ القبيلة الثانية، ويقتسم الألفي وإبراهيم والبرديسي السلطة في هذا الجيش، ويتخذون جميعهم مقرهم العام في جرجا، ولديهم أربع وعشرون فرنسيا من الذين تخلفوا في البلاد وقت خروج جيش الشرق منها، ويؤلف هؤلاء «مدفعية» صغيرة، وقد انتصر المماليك - حتى كتابة هذا التقرير - في جميع المعارك التي اشتركوا فيها على الأتراك، ويفضلهم المصريون على العثمانيين، بينما يخضع الوجه القبلي بأسره لهم، ويعتبر عثمان بك البرديسي صاحب أعظم ميول ودية نحو فرنسا؛ الأمر الذي أكسبه - على حد قول سباستياني - نفوذا كبيرا.
وقد أظهر تقرير سباستياني عند نشره أن الباشا العثماني بالقاهرة «خسرو محمد» كان مصرا على متابعة «حرب الفناء» ضد المماليك، وأن البكوات من ناحيتهم كانوا مصرين أيضا على استعادة نفوذهم وسلطانهم السابق، وأنهم يطلبون وساطة فرنسا لبلوغهم مقصدهم. أضف إلى هذا أن نشر التقرير دل على أن فرنسا لا تزال مهتمة بأمر مصر، بل وساد الاعتقاد بأنها لا تزال ذات أطماع صريحة في امتلاك هذه البلاد مرة أخرى؛ بدليل كل تلك البيانات المفصلة عن حالة الحصون والقلاع وعن عدد قوات الجيوش، سواء البريطانية منها أو العثمانية أو المملوكية، التي لم يكن من المنتظر - حسب ما يستدل مما جاء بالتقرير - أنها سوف تستطيع مقاومة أي غزو فرنسي؛ لضعفها من ناحية، ولما كان متوقعا من انضمام البكوات للجيش الفرنسي عند غزوه لهذه البلاد، إلى جانب ترحيب أهل البلاد ومشايخهم بعودة الحكم الفرنسي من ناحية أخرى، وكان مما قوى الاعتقاد بأن فرنسا تنوي غزو مصر ما ذكره التقرير من «أنه يكفي اليوم لفتح هذه البلاد ستة آلاف فرنسي فحسب.»
وعلى ذلك فقد أحدث نشر تقرير سباستياني ضجة كبيرة في جميع الدوائر السياسية، وخصوصا في لندن والقسطنطينية، فنشرته الجريدة الرسمية في لندن، وكان موضع تعليقات جميع سفراء الدول وممثليها في القسطنطينية، وكتب الجنرال برون في 10 مارس 1803 أن هؤلاء جميعا اتخذوا منه دليلا لإقناع الباب العالي ب «نوايا فرنسا» التي كشفت في هذا التقرير عن خططها المرسومة نحو مصر، واضطر برون للدخول في تفسيرات يبغي منها إزالة الآثار السيئة «التي ترتبت على هذه الأقوال»، والتي من شأنها إلحاق الأذى من طرق خفية بذلك المركز الممتاز الذي بدأ يناله في القسطنطينية، ولكن جهود «برون» لم تنجح؛ لأن رسوخ الاعتقاد - نتيجة لنشر تقرير سباستياني - بأن فرنسا تريد غزو مصر، لم يلبث أن أثر تأثيرا مباشرا على سياسة كل من تركيا وإنجلترا نحوها.
ثم زاد هذا الاعتقاد رسوخا أن القنصل الأول ما لبث أن أظهر بصورة عملية اهتمامه بمصر ورغبته في استعادة علاقاته معها، ودعمها عندما أصدر أمره في 7 مارس 1803 بتعيين المواطن «ماثيو لسبس» - مأمور القنصلية السابق في قادش - نائب قومسيير للعلاقات التجارية الفرنسية بدمياط، على أن يذهب إلى القاهرة ليملأ بها مؤقتا منصب القومسيير العام للعلاقات التجارية حتى يتم تعيين من يشغله، كما أوفد القنصل الأول معه إلى مصر «دروفتي» مساعد قومسيير العلاقات التجارية المعين للإسكندرية منذ 20 أكتوبر 1802.
ماثيو لسبس
ولبعثتي ماثيو لسبس
Mathieu Lesseps
أهمية خاصة من ناحية ارتباط هذا التعيين بسياسة القنصل الأول نحو مصر بعد بعثة سباستياني؛ ولأنه كان حول شخص «لسبس» نفسه أن ابتكر الفرنسيون تلك الأسطورة التي ادعت أن «لسبس» لم يلبث عند حضوره إلى مصر أن أخذ بعبقرية محمد علي ونبوغه، لما شهد منه من رجاحة العقل وحسن التدبير وصدق العزيمة، فأقبل على تشجيع هذا القائد الألباني ومساعدته على الوصول إلى ذلك المركز الرفيع الذي استطاع بفضله فيما بعد أن يؤسس أسرة وراثية للحكم في مصر.
وعندما أرسل «ماثيو لسبس» إلى مصر كان يبلغ حوالي الثلاثين عاما؛ ولد في همبرج في مارس سنة 1774، ونشأ في أسرة شغل أعضاؤها - والده وعمومته - وظائف هامة في السلك السياسي من مدة طويلة، ومنذ سنة 1791 تقلد «ماثيو لسبس» نفسه مناصب سياسية هامة في مراكش، وكان عند إرساله إلى مصر نائب قومسيير للعلاقات التجارية في قادش.
ويؤخذ من التعليمات التي صدرت له في 22 مارس سنة 1803 أنه كان عليه القيام من طولون إلى الإسكندرية مع المواطن دروفتي - وللأخير شأن يذكر كذلك في تاريخ هذه الفترة - فيذهب «لسبس» إلى دمياط ومنها إلى القاهرة، ولا يبقى بالإسكندرية إلا ما يكفي من الوقت لتقديم نفسه إلى السلطات العليا بها وتعريفهم - إذا رأى ذلك - بالصفة التي أعطيت له؛ أي تعيينه نائب قومسيير للشئون التجارية للجمهورية الفرنسية، حتى إذا انتهت هذه الرسميات غادر الإسكندرية فورا إلى القاهرة. وهنا نصت التعليمات على أنه بمجرد وصوله إلى القاهرة، عليه أن يؤكد للسلطات القائمة إخلاص الحكومة الفرنسية وصدق نواياها الطيبة.
واستطردت التعليمات المعطاة له، فذكرت كيف أن الموقف في مصر لا يزال ينقصه الاستقرار بسبب إطالة الإنجليز بقاءهم بها، وبسبب الحرب القائمة بين الجند العثمانيين والمماليك مما يقتضي «ماثيو لسبس» أن يتخذ جانب الحيطة والحذر بكل ما يسعه من جهد في علاقاته ومسلكه مع الرؤساء النائبين عن الباب العالي في هذه البلاد، فيعمل جادا للظفر باحترامهم وكسب ثقتهم، وذلك بتجنبه التدخل في المنازعات السائدة بين فريقي العثمانيين والمماليك، وعليه - علاوة على ذلك - ملاحظة «الامتيازات» المبرمة بين فرنسا والباب العالي ويطلب تنفيذها بكل دقة، وكان لرعاية المصالح الفرنسية أن أجاز له القنصل الأول أن يعين «مؤقتا» - وإذا رأى ضرورة لذلك - خدمة لهذه المصالح وكلاء للقومسييرية العامة في الموانئ المصرية التي لم تعين بها حكومته وكلاء لها، ويعرض اختياره على حكومته للموافقة عليه.
وذكرت التعليمات أن «سباستياني» وقت وجوده بدمياط كان قد عين «باسيلي فخري» من أثرياء المسيحيين نائب قومسيير مؤقتا، فأشارت التعليمات ببقاء باسيلي تحت إشراف «لسبس» حتى يتسنى للأخير استلام هذا المنصب نفسه في دمياط، ولما كان القنصل الأول ينتوي تعيين نائب قومسيير في رشيد، فقد طلب إلى «لسبس» أن يختار شخصا لهذا المنصب، إذا وجد ذلك ضروريا، ويعرض هذا الاختيار على الوزير المختص للتصديق عليه.
وهكذا دلت هذه التعليمات على أن أعظم اهتمام القنصل الأول كان موجها لاستعادة العلاقات التجارية مع مصر، على أنه مما تجب ملاحظته لتفهم مسلك «لسبس» في أثناء قيامه بمهمته:
أولا:
أن القنصل الأول أراد أن يكون مقره بالقاهرة، فلا يمكث بالإسكندرية إلا أقصر وقت ممكن.
ثانيا:
أنه مع اهتمام القنصل الأول بمسألة المماليك وسعيه بواسطة سفيره «برون» في القسطنطينية من أجل حسم الخلاف بينهم وبين الباب العالي؛ فقد طلب من «لسبس» عدم التدخل في الخلافات السائدة بين الفريقين، وكان السبب في ذلك أن القنصل الأول اعتبر مهمة «لسبس» ثم زميله «دروفتي» كذلك تجارية بحتة، وجرت تقاليد الحكومة الفرنسية على الفصل بين المهام التجارية والسياسية.
ثالثا:
أن هذه التعليمات دلت على أن القنصل الأول كان يجهل ما يمكن أن تتمخض عنه الحوادث في مصر، شأنه في ذلك شأن سائر معاصريه لهذه الحوادث، فلم يلبث أن وجد «لسبس» ثم زميله وخلفه «دروفتي» أنفسهما في حاجة ملحة إلى تعليمات جديدة من حكومتهما لتحديد مسلكهما وموقفهما من الحوادث التي تلاحقت في إثر بعضها بعضا بسرعة عظيمة.
رابعا:
أن القنصل الأول حرص على إبقاء علاقاته الودية مع الباب العالي، لا سيما وقد وقع تاليران مع السيد محمد سعيد غالب أفندي السفير العثماني الجديد في باريس في 25 يونيو سنة 1802 (أي بعد معاهدة إميان بثلاثة شهور)، معاهدة تحالف دفاعية هجومية بين الدولتين صدق عليها الباب العالي في 25 أغسطس من العام نفسه، فحرص القنصل الأول على أن يطلب من «لسبس» كسب ثقة مندوبي الباب العالي في مصر، وهم الذين اعتقد «بونابرت» فضلا عن ذلك أنهم أصحاب السلطة الفعلية في البلاد، فلم يكن ظاهرا عند صدور هذه التعليمات أن الباشا العثماني «خسرو محمد» - ممثل السلطان وصاحب السلطة الشرعية في مصر - محروم من كل نفوذ وسلطة فعلية بها، فكان بسبب ذلك كله أن وجد «لسبس» نفسه عند وصوله في موقف لا يحسد عليه وفي حيرة من أمره.
وعند وصول «لسبس» إلى الإسكندرية في أواخر مايو سنة 1803 كان الجنرال «ستيوارت» قد غادر مصر منذ مارس سنة 1803، ونحي خسرو باشا عن الولاية، وصارت السلطة الفعلية في القاهرة في يد الألبانيين (الأرنئود) والبكوات المماليك، وأن البدو يقطعون باعتداءاتهم المواصلات النهرية بين الإسكندرية والقاهرة، وأنه لا يستطيع تنفيذ ذلك القسم من تعليماته الذي يطلب إليه الذهاب فورا إلى القاهرة مقر ممثلي الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على البلاد، والذين اعتقد القنصل الأول خطأ أنهم أصحاب السلطة الفعلية بها، فكتب «لسبس» من الإسكندرية إلى الجنرال «برون» في 9 يونيو سنة 1803 يشرح له «المركز الدقيق» الذي وجد فيه نفسه بسبب العقبات التي تحول دون ذهابه إلى القاهرة، وأثار «لسبس» في هذه الرسالة موضوعا يتصل بجوهر تعليماته هو في إغضاب مندوبي الباب العالي إذا ذهب إلى القاهرة، وأصر أصحاب السلطة الفعلية بها، الذين ذكر «لسبس» أنهم الأرنئود والبكوات المماليك، على أن يقوم بوظائفه في القاهرة بصفته الرسمية؛ أي نائب قومسيير للشئون التجارية للحكومة الفرنسية؛ ولذلك طلب «لسبس» تعليمات جديدة من حكومته، ثم لم يلبث أن كتب في اليوم التالي: «إن طاهر باشا الذي يتزعم حوالي الثمانية أو العشرة آلاف جندي ألباني بالقرب من القاهرة؛ قد أعلن فجأة عداءه لخسرو باشا وطرده من القاهرة.» وقال «لسبس» إنه يخشى أن يكون للإنجليز يد فيما حدث.
وكانت هذه الحوادث التي ذكرها «لسبس» قد وقعت في أثناء شهر مايو، وتأخر وصول أخبارها إلى الإسكندرية كما هو ظاهر بسبب قطع المواصلات في النهر بينها وبين القاهرة - كما سبقت الإشارة إليه - ولذلك ففي الوقت الذي بعث فيه «لسبس» رسالته الأخيرة بتاريخ 10 يونيو، لم يكن خسرو باشا قد طرد من القاهرة، وأعلنت قائمقامية طاهر باشا في القاهرة فحسب، بل وكان الإنكشارية قد ثاروا على طاهر باشا وقتلوه في 25 مايو سنة 1803، وحاول الإنكشارية تنصيب أحمد باشا (والي جدة والمدينة) وأخفقوا في مسعاهم، وطرد أحمد باشا بدوره من القاهرة، واستأثر بالسيطرة والنفوذ بها محمد علي والبكوات المماليك «إبراهيم والبرديسي»، وتهيأ محمد علي والبرديسي لمطاردة خسرو باشا والزحف على دمياط لقتاله.
وعلى ذلك فإنه ما بلغت «لسبس» معلومات أوفى عن مجريات الأمور، حتى بعث يذكر للجنرال «برون» في القسطنطينية في 12 يونيو «أن الأخبار التي وصلته أمس تقول إن الهدوء والسلام مستتبان في القاهرة بفضل مسلك وتدابير البكوات الحكيمة»، وأما دمياط التي كانت التعليمات قد طلبت إليه الذهاب إليها قبل المضي في طريقه إلى القاهرة، فقد كتب «لسبس» في نفس هذه الرسالة: «إن الأرنئود يحاصرونها ونجحوا في الاستيلاء على مواقع الدفاع الأمامية عنها، كما استولوا على مدفعين وعلى سفينتين من سفن المدفعية في النيل»؛ أي إنه يتعذر عليه كذلك الذهاب إلى دمياط.
وفي هذه الظروف إذن بقي «لسبس» في الإسكندرية، وصرف وقته في جمع المعلومات ومراقبة الحوادث، واهتم أكثر ما اهتم بملاحظة نشاط الوكلاء الإنجليز من ناحية، ومعرفة غايات البكوات المماليك ورغائبهم والصلات القائمة بين الوكلاء الإنجليز وبينهم، وقد تبين له أن الإنجليز يولون المماليك حمايتهم ويبذلون قصارى جهدهم لكسبهم حتى يجعلوا من مصر ميدانا لتصريف تجارتهم، وبلدا تخضع حياته التجارية لنشاط الإنجليز التجاري، وذلك بإنشاء الحكومة التي تمكنهم من بلوغ هذه الغاية، وهم يعتمدون في ذلك على نفوذهم السياسي وعلى مؤامراتهم حتى يفوز البكوات المماليك صنائعهم بالسلطة العليا والحكومة في مصر، ويتعارض ذلك كله - كما رأى لسبس - مع مصالح فرنسا التجارية. وأما البكوات فكانوا يسعون لاسترجاع سلطتهم السابقة، ويجتمع إبراهيم بك مع الرسل الذين قال لسبس إن الباب العالي كان يوفدهم لمقابلة إبراهيم، كما صار إبراهيم بك ينهج طريق «مراعاة الخواطر كثيرا» مع الباب العالي؛ الأمر الذي جعل لسبس يعتقد بسير المفاوضات بين الفريقين بنشاط وهمة كبيرة، وأنها قد تنتهي في صالح البكوات، ينهض في رأيه دليلا على ذلك أن الباب العالي صار يبطئ في إرسال النجدات إلى مصر لتأييد سلطة باشا القاهرة، بعد أن وصلت عمارة عثمانية صغيرة إلى الإسكندرية من أربع فرقاطات.
وكان من رأي «لسبس» أن البكوات يريدون الوصول إلى السلطة والحكم، سواء عن طريق الاتفاق مع الباب العالي وإبرام المعاهدات معه، أو الانتقاض على تركيا واللجوء إلى القوة والحرب السافرة لتحقيق هذه الغاية، مع الاحتفاظ في كل الحالات بالتبعية لصاحب السيادة الشرعية، ودفع الخراج السنوي، والقيام بالالتزامات الأخرى نحوه على غرار ما حدث في الماضي. واعتقد «لسبس» أنه في استطاعة البكوات الظفر بحكومة القاهرة إن لم يكن بحكومة مصر بأسرها؛ لأنهم يحتلون القلاع والمراكز الرئيسية في داخل القطر؛ مما يحفظ لهم التفوق على الأتراك دائما.
ولكنه اتضح ل «ماثيو لسبس» أن هؤلاء البكوات أنفسهم يعتقدون - كما قال في كتابه إلى حكومته في 20 يونيو سنة 1803 - «أنهم لا يصبحون حقا أصحاب السلطة في مصر وسادتها إلا إذا وافق القنصل الأول واعتمد ما قد يتم من ترتيبات في صالحهم؛ لأنهم يعرفون قوة القنصل الأول وسلطانه ونشاطه، وهم الذين شهدوه عن كثب، وتعودوا الخوف منه واحترامه.»
ولما كان لسبس مقيدا بتعليماته التي قصرت نشاطه على رعاية المصالح التجارية الفرنسية، وأوصته بكسب ثقة واحترام ممثلي الباب العالي الشرعيين في البلاد، وأزعجه ما شاهده من نشاط الوكلاء الإنجليز مع البكوات، واعتقد أن الأخيرين يطلبون صداقة فرنسا ومساعدتها، وهم في رأيه - كما قدمنا - الذين كان من المنتظر أن تصبح لهم السلطة والحكومة الفعلية في مصر، فقد عز لذلك كله على المندوب التجاري الفرنسي أن يمتنع عن مصارحة حكومته برأيه، فقال إن الفكرة أو الاعتقاد الذي يجعل المماليك يطلبون في واقع الأمر وساطة القنصل الأول ومساعدته لهم «إنما هي فكرة مفيدة لنا، وقد تكفي وحدها لإحباط مشاريع الإنجليز.» ثم استدرك فقال: «ولو أن ما يذكره لا يعدو أن يكون مجرد ملاحظة فحسب تبعا ل «نص تعليماته»، ولكنه يرى من واجبه أن يحيط «تاليران» وزير الخارجية علما بأن كل ما شاهده يحمله على الاعتقاد بأن المماليك سوف يقابلون بنهم زائد كل مفاتحة «في موضوع مساعدتهم» قد تأتيهم من جانب الحكومة الفرنسية.»
وكان في أثناء وجود «لسبس» بالإسكندرية أن وصله من عثمان البرديسي من القاهرة كتاب يظهر فيه صداقته للحكومة الفرنسية، ويدعو «لسبس» للمجيء إلى القاهرة والإقامة بها، وصار لسبس في حيرة من أمره؛ لأن «الحكومة» القائمة بالقاهرة وقتئذ بزعامة إبراهيم والبرديسي ومحمد علي لم تكن «حكومة» شرعية، وكان «الباشا» العثماني خسرو هاربا من القاهرة، بينما كان «ضباط أو مندوبو الباب العالي» الشرعيون يمثلهم في هذه الظروف أحمد خورشيد حاكم الإسكندرية، ويجب على لسبس بمقتضى تعليماته أن يحصر اتصالاته مع مندوبي الباب العالي، بل ويجب عليه كذلك «عدم التدخل» في أية نزاعات قد تقوم بين هؤلاء الأخيرين، وبين البكوات المماليك وغيرهم ممن قد ينازعونهم السلطة كالجند الأرنئود الذين صار زعيمهم محمد علي متضامنا مع البكوات في إقامة «حكومة» القاهرة غير القانونية.
يقابل ذلك كله أن هذه «الحكومة القاهرية غير القانونية كانت السلطات القائمة» فعلا، وقد نصت التعليمات على وجوب مقابلته ل «السلطات القائمة» بالقاهرة ليؤكد إخلاص وصدق نوايا حكومته لها، فصح عزم «لسبس» على الذهاب إلى القاهرة بعد أن جاءته دعوة البرديسي، وبخاصة لأنه «حسب الأوضاع القائمة قد ينجم تعريض الفرنسيين للخطر وإيذاء مصالحهم التجارية، إذا هو أغضب الحزب الذي يحكم القاهرة يقينا، والذي من المحتمل أن يصبح صاحب السلطان على مصر بأسرها»، وعلاوة على ذلك فقد كان من رأي «لسبس » إذا هو أهمل الجواب على كتاب البرديسي فقد فرصة استمالة البكوات إلى جانب فرنسا وتعطيل نشاط الوكلاء الإنجليز؛ وعلى ذلك فقد وجد من حسن السياسة، وتمشيا مع تعليماته التي أوصته بكسب ثقة واحترام مندوبي الباب العالي وممثلي صاحب السلطان الشرعي في البلاد، أن يطلع أحمد خورشيد على كتاب البرديسي، وأن يستشيره في أمره مؤملا إقناع خورشيد بفضل ما يظهره له من «ثقة» ينم عليها اطلاعه على الرسالة بتمكينه من السفر إلى القاهرة.
وعندئذ طلب «لسبس» أن يجتمع سرا بخورشيد باشا، وأطلعه على «جزء» من كتاب البرديسي، راجيا منه الكتمان والسرية، وسأله رأيه في الجواب عليه، «فأظهر الباشا تأثره من هذه الثقة» التي وضعها المندوب التجاري الفرنسي في شخصه، وأشار عليه بأن يجيب على رسالة البرديسي بعبارات الملاطفة والمسايرة فحسب؛ لأن «لسبس» - كما قال خورشيد - لا يجب أن يغيب عن ذهنه «أن المماليك أعداء الباب العالي حليف فرنسا، ولا يجب أن يكون لأحد أية علاقات وثيقة معهم»، وحاول «لسبس» أن يظفر من خورشيد - بناء على هذه «الثقة» التي توهم أن خورشيد باشا صار يقدرها حق قدرها - بإجازة السفر له إلى القاهرة، ولكن خورشيد رفض، بل استطاع أن يفهم محدثه أنه لن يتوانى عن استخدام كل وسيلة لمنع «لسبس» من السفر، وكان في استطاعة خورشيد أن يفعل ذلك؛ لأن «براءة» اعتماد الباب العالي ل «ماثيو لسبس» التي تخوله مباشرة مهام وظيفته لم تكن قد جاءته بعد، ولأن خورشيد اعترض على إقامة «لسبس» بالقاهرة «بالقرب ممن سماهم عصاة» ثائرين على الباب العالي، واضطر «لسبس» إزاء ذلك إلى التصريح بأنه لا رغبة له بتاتا في الذهاب إلى القاهرة، وأجاب على رسالة البرديسي بعبارات ملؤها الأدب والود، منتحلا في الوقت نفسه مختلف الأعذار عن تأخره بالإسكندرية.
وارتكب «لسبس» خطأ كبيرا ب «كشف» البرديسي الذي يسعى لكسب صداقة حكومته وخيانة ثقته به، واعتقد أن في وسعه تبرير هذا المسلك الشائن إذا ادعى - على نحو ما كتب إلى «تاليران» في 20 يونيو 1803 - أنه خشي أن تكون الرغبة في جس نبض الحكومة الفرنسية هي التي جعلت البرديسي يدعوه للحضور إلى القاهرة، أو أن يكون في عزم البرديسي «حمله على إتيان شيء قد يكون موضع استنكار حكومته فيما بعد، فضلا عن أنه كان يخشى إذا علمت الحكومة العثمانية استلامه هذا الكتاب - وهي التي لا يمكن أن تجهل ذلك - أن يسيئها استلامه له، وأن تخرج بسبب ذلك إلى نتائج غير حميدة»، بينما هو إذا أطلع مندوبي الباب العالي على رسالة البرديسي، استطاع «أن يكسب ثقة قوات أو مندوبي السلطان العثماني، وإعطاءهم فكرة عظيمة عن نوايا «فرنسا» الصريحة والموالية لهم».
ثم زادت حيرة «لسبس» عندما وصل أخيرا إلى الإسكندرية في 8 يوليو سنة 1803 «علي باشا الجزائرلي» الوالي الجديد الذي اختاره الباب العالي لباشوية مصر، وكان من أسباب حيرة «لسبس» أنه صار - بقدوم علي باشا - ممثلا ومندوبا شرعيا للسلطان في مصر، ولا يبدو أنه بوسع هذا الباشا العثماني الذهاب إلى القاهرة لتسلم منصبه بها بسبب «الحكومة» التي أوجدها بها الحلفاء الجدد محمد علي والبكوات المماليك، إلا إذا أذن له هؤلاء بالحضور إليها، وقبلوا تنصيبه واليا عليهم، وكانت قواتهم في الوقت نفسه قد استولت على دمياط وبعثت بخسرو محمد باشا أسيرا إلى القاهرة، وكان واضحا أن «محمد علي» والبكوات هم أصحاب السلطة الفعلية، أو أن المماليك - على حد قول لسبس نفسه - «أسياد مصر بأسرها ما عدا الإسكندرية»، وكان عليه حينئذ أن يختار بين الإقامة بالإسكندرية، وقد باتت مقر «السلطة الرسمية»، ويقيم بها ممثل الباب العالي، ويكون في هذه الحالة قد نفذ تعليمات حكومته، وبين الذهاب إلى القاهرة، مقر «السلطة الفعلية» الموزعة بين محمد علي وإبراهيم والبرديسي بالاتفاق فيما بينهم جميعا، وفي ذهابه إلى القاهرة مخالفة صريحة لتعليماته.
واختار «لسبس» ترك الإسكندرية إلى القاهرة، وكان «لسبس» إلى جانب هذه الحيرة، في حالة نفسية سيئة على ما يبدو مبعثها خوفه من امتداد عمليات الأرنئود العسكرية إلى الإسكندرية، بعد أن سقطت دمياط في أيدي محمد علي والبرديسي في 3 يوليو ، ولم تبلغه أية تعليمات عن الوكيل الفرنسي بدمياط «باسيلي فخري» الذي نهب منزله في حادث سقوطها، ثم بعد أن صارت رشيد في يد البكوات الذين لم يخلوها حتى منتصف يوليو تقريبا، وكان إخلاؤهم لها بسبب انتشار إذاعة في القاهرة عن اعتزام الوهابيين الهجوم على مصر، جعلت إبراهيم بك يحشد قواته بالقاهرة، وعلى ذلك فقد كان الذعر منتشرا بالإسكندرية عند وصول علي باشا الجزائرلي من قدوم الأرنئود إليها من رشيد التي لم يوجد بها ماء صالح للشرب أو أغذية تكفي هؤلاء، فيضطر الأرنئود والعربان للنزوح إلى الإسكندرية، أضف إلى هذا أن «براءته وبراءة زميله دروفتي» لا زالت لم تصل من القسطنطينية، كما لم يصل التراجمة المخصصون للعمل بالقاهرة والإسكندرية، فصح عزم «لسبس» على ترك الإسكندرية.
وطلب «لسبس» مقابلة علي الجزائرلي، في نفس اليوم الذي وصل فيه، وتحدث إليه في موضوع سفره إلى القاهرة، وفي 15 يوليو كتب إلى «برون» في القسطنطينية ينقل إليه ما دار بينه وبين الجزائرلي، فقال «إنه اجتمع به طويلا ويبدو له - بالرغم من حذر علي باشا الجزائرلي في حديثه - أنه يميل لمناصرة الإنجليز، أو يريد استخدامهم في الوساطة بينه وبين البكوات للوصول إلى اتفاق معهم.»
ثم إنه عندما تحدث إليه «لسبس» في مسألة سفره إلى القاهرة، لم يلبث أن صار يهول كثيرا في جسامة الأخطار التي سوف يتعرض لها، واستند علي الجزائرلي في تهويله هذا على ما هو قائم من علاقات وثيقة الآن بين الإنجليز والمماليك، وغرضه من ذلك منع «لسبس» بكل الوسائل من الذهاب إلى القاهرة.
ثم استطرد «لسبس» يقول «إنه أعلمه بتصميمه على الذهاب إليها دون أن يذكر له أن المماليك لا يريدون إهلاكه أو إفساد أعماله، ولكنه تذرع بأسباب أخرى، كرغبته في القيام بواجبه وحماية الفرنسيين الموجودين بها، فوافق «علي الجزائرلي»، ولو أنه قال «إنه يعرف أن وجود «لسبس» بالقاهرة لا يمكن أن يفيد لا أطماع دولته ولا صالح حكومة علي باشا نفسه».»
ويبدو أن «علي الجزائرلي» ظل ممانعا في سفر «لسبس» إلى القاهرة، كما فعل خورشيد من قبل، وساعد قطع المواصلات بين القاهرة والإسكندرية - بسبب انسحاب المماليك من رشيد في طريقهم إلى القاهرة - على تعطيل «لسبس» الذي خشي كذلك أن يجد نفسه إذا هو غادر الإسكندرية في هذه الظروف وسط بعض المناوشات أو المعارك، ولو أنه كان أكثر خوفا من دخول الأرنئود والمماليك إلى الإسكندرية في وقت كان حلفاء القاهرة «محمد علي - إبراهيم - البرديسي» يستعدون للزحف عليها وحصارها.
وعلى ذلك فقد تريث «لسبس» حتى علم أن الطريق قد صار مؤمنا، فخشي من ضياع الفرصة، وراح يلح من جديد على «علي الجزائرلي» حتى يسمح له بالسفر، ولم يجد في هذه المرة وسيلة أفضل من «التشاور معه في مسألة العقبة الوحيدة التي كان يثيرها لمنعه من السفر، وهي تعرضه للأخطار»، وظفر منه «لسبس» بجواز سفر، فغادر الإسكندرية في 24 يوليو 1803، ولكنه ما لبث أن علم بأن «علي الجزائرلي» كتب إلى البكوات بالقاهرة حتى لا يقابلوه، وأنذرهم بأنهم إذا رحبوا به أثاروا عليهم غضب الباب العالي «وعدم رضا دولة أخرى لم يذكرها»، فدهش «لسبس» وكان من حقه أن يدهش.
ذلك بأن «لسبس» ارتكب في مقابلته هذه مع الجزائرلي نفس الخطأ الذي ارتكبه عند محاولته التأثير على «أحمد خورشيد» لتسهيل حصوله على جواز للسفر إلى القاهرة، فقد حدث أن صار البرديسي يلح في طلب مقابلته بعد أن بعث إليه رسالته، وتردد «لسبس» طويلا خوفا من إثارة غضب «علي الجزائرلي»، ولكنه اقتنع أخيرا بمقابلته صونا للمصالح الفرنسية، فاجتمع به سرا وتحدث البرديسي بصراحة عن آماله ومشروعاته، وعن كراهيته للإنجليز وصداقته لفرنسا، فرأى «لسبس» في «مشاورته» مع علي باشا لإزالة «العقبة» التي أثارها الأخير دائما لمنعه من السفر؛ أن ينقل إليه كل ما تحدث به البرديسي.
ومع أن «لسبس» تذرع بحجج كثيرة في رسالته التي كتبها في القاهرة في 19 أغسطس إلى «تاليران»، ينقل إليه خبر حصوله على جواز سفر إلى القاهرة من «علي باشا»، فإنه لم يذكر شيئا عن هذه الخيانة الجديدة للعهد مع المماليك.
ولكن المؤرخين الفرنسيين أنفسهم يؤكدون هذه الخيانة؛ فقد قال أصحاب التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية في مصر (المجلد التاسع)، إنه بعد مقابلة البرديسي لماثيو لسبس التي ذكرناها، «إن لسبس نسي الواجب الذي تفرضه عليه فرضا ثقة «البرديسي» المطلقة به، فلم ير ما يمنعه من طلب مقابلة سرية مع الوالي «علي الجزائرلي» في اليوم التالي، وأبلغه كل تفاصيل ما دار بينه وبين الزعيم المملوكي، فألح الإنجليز في ضرورة استبقاء «لسبس» في الإسكندرية، وكان غرض «لسبس» من هذه الخطوة أن يحصل بسرعة على جواز المرور الذي كان قد ظل يطلبه من مدة طويلة للسفر إلى القاهرة. حقيقة انتهى الأمر ب «علي الجزائرلي» بإعطائه هذا الجواز، ولكنه حرص في الوقت نفسه على الكتابة إلى البكوات يطلب منهم منع «لسبس» من الوصول إلى القاهرة حتى لا يجلبوا عليهم سخط الباب العالي وبريطانيا العظمى.»
وقد قابل «لسبس» في طريقه إلى القاهرة عثمان بك البرديسي في بلدة «فوة» واجتمع به، وذكر «لسبس» في رسالته السالفة الذكر إلى تاليران «أنه تبين له أن البرديسي أمين في ولائه للفرنسيين، ومتذمر من الإنجليز، ولكنه لا يستطيع الجهر بعدائه لهم إلا إذا وقف على حقيقة نوايا القنصل الأول.»
وعند وصول «لسبس» إلى القاهرة قوبل - على حد قوله - بترحيب عظيم، وأرسل إليه إبراهيم بك يطلب الاجتماع به سرا، وتم هذا الاجتماع في بيت إبراهيم بك في 7 أغسطس، فقال له إبراهيم بك: «إن الفرنسيين تسببوا في إيذاء المماليك وأفقدوهم سلطانهم، وغادروا مصر دون أن يفعلوا شيئا لتمكين البكوات من استرجاع نفوذهم وسلطتهم، ولم يجيبوا بشيء على مقترحات وكلاء البكوات الذين لم يطلبوا سوى مؤازرة من كانوا بالأمس أعداءهم، فقد حارب البكوات وتمسكوا بمعاهدة مراد بك مع «كليبر»، وإذا كان البكوات الآن غير متحدين فإنما ذلك خطؤهم هم وحدهم، وقد كلفهم قصر نظرهم هذا ثمنا غاليا، ولقد عرفوا الآن حقيقة الإنجليز والعثمانلي، وخدعهم الإنجليز بوعودهم الخلابة، ولا غرض لهم سوى صرف البكوات عن صداقة ومحبة الفرنسيين، ولكنهم يعرفون مصالحهم، وهم (أي البكوات) لا يريدون رئيسا لهم وحاميا سوى السلطان العظيم بونابرت.»
ورجا إبراهيم بك «لسبس» أن يوفد رسولا يثق به إلى فرنسا؛ «لأن كل خطابات البكوات التي أرسلوها إلى فرنسا لم تصل، وهم لا يعرفون لذلك نوايا القنصل الأول أو ما يريده منهم، وطلب إبراهيم أن يبلغ هذا الرسول «بونابرت» أنهم على استعداد لقبول أية حلول قد يراها، فإذا شاء إعطاءهم الشام تركوا له مصر وقاموا هم بفتح الشام، وإذا شاء بقاءهم بالقاهرة كما كانوا سابقا في نظير دفع الميري للسلطان كانوا طوع إرادته، وإذا شاء أن يعودوا إلى الصعيد أجابوه إلى ذلك أيضا، وإذا شاء أن يساعدهم سرا ودون أن تفسد علاقته بالباب العالي قبلوا مساعدته ونصحه وإرشاداته، وإذا شاء جهرا أن يستقلوا حاربوا من أجله ومعه وهم واثقون من النصر، وأخيرا إذا فرض عليهم «بونابرت» شروطا فهم يطيعون كل ما يمليه عليهم.»
وكثر اجتماع «لسبس» بالبكوات في القاهرة، وتردد البكوات «أصدقاء» فرنسا عليه، وكان من هؤلاء الأخيرين «حسين بك الزنطاوي»، وهو يوناني الأصل كسب ثقة عثمان البرديسي رئيس المرادية، وأخفقت مساعي الوكيل الإنجليزي «مسيت»
Missett
في استمالته، فنصب نفسه لمقاومة مساعي الإنجليز مع البكوات، ويبدو أنه كان صاحب الفضل في استمالة جماعة البرديسي إلى فرنسا؛ لما كان يؤمله اليونانيون وقتئذ من تحرير بلادهم على يد بونابرت، واسترعى نظر الوكيل الإنجليزي بالقاهرة ما شهده من ترحيب البكوات بخصمه الفرنسي وتردد المماليك عليه واجتماع رؤسائهم به، فكتب «مسيت» إلى حكومته في 25 أغسطس بأن هناك ما يدعو للاعتقاد «أن تعليمات القنصل الفرنسي ليست مقصورة على حماية التجارة «الفرنسية»، بل وهناك من القرائن ما يدعوه لتصديق أقوال أذيعت قبل رحيل الجيش البريطاني من الإسكندرية تفيد أن البكوات قدموا طلبا إلى فرنسا يطلبون حمايتها»، وكان «مسيت» قد كلف قبل ذلك في 8 أغسطس إلى نائب القنصل الإنجليزي في رشيد «بتروتشي»
(أو البطروشي أو بطروش كما سماه الجبرتي) أن يتصل بعثمان بك البرديسي وقت وجوده بتلك الجهة، حتى يقف منه على حقيقة نواياه وأن يصرفه عن صداقة الفرنسيين.
ولكن ترحيب البكوات بالمندوب أو «القنصل» الفرنسي ، وحسن معاملتهم له ما لبثت أن تغيرت في الشهور التالية، وأما سبب تغير مسلك البكوات معه فهو وقوفهم - على ما يبدو - على «خيانة» لسبس و«كشفه» لهم مع الجزائرلي، وقد شكا «لسبس» من مسلك البكوات معه ومع المحميين الفرنسيين في القاهرة.
ولا شك في أن خيانة «لسبس» لثقة البكوات به كانت خطأ جسيما - كما ذكرنا - بل إن «تاليران» وزير خارجية حكومته ما لبث أن وجه إليه اللوم الشديد عندما علم بما فعله، فكتب إليه في 26 سبتمبر أنه أخطأ في إطلاع «علي الجزائرلي» على كتاب عثمان بك، ولما كان تاليران يعتقد أنه ما زال بالإسكندرية، فقد أبلغه إرادة القنصل الأول الذي يطلب منه الإسراع بالذهاب إلى القاهرة. وأما القنصل الأول فقد ثارت ثائرته عندما بلغه ما فعله «لسبس»، فكتب إلى تاليران في 24 نوفمبر أن يبلغ «لسبس» «أنه كان مخطئا عندما أطلع باشا القاهرة (علي باشا الجزائرلي) على خطاب المماليك (عثمان البرديسي)، وأنه يجب عليه أن يرسل إلى فرنسا كل ما قد يعرضه عليه البكوات بعد ذلك، من غير أن يخبر الأتراك بشيء من ذلك.»
وقد ظهر تغير البكوات من ناحيته، عندما فرضت «حكومة القاهرة» في أغسطس إتاوات شديدة على المسيحيين دون استثناء المحميين الفرنسيين، الذين تعفيهم فرمانات الباب العالي - أو الامتيازات - من هذه الإتاوات والمغارم، وتدخل «لسبس» لإعفاء هؤلاء والمحميين التابعين للسويد، والذين لم يكن لهم قنصل بالقاهرة، كما نجح في تخفيف الإتاوات على سائر المسيحيين، وانتهز هذه الفرصة حتى يبلغ إبراهيم بك أنه يعده هو وعثمان البرديسي - الذي كان مع محمد علي بدمنهور وقتئذ استعدادا للزحف على الإسكندرية وحصارها - مسئولين عن أمن الفرنسيين بها عند سقوطها، وطلب إلى إبراهيم أن يصدر «أوامر» صريحة بذلك إلى البرديسي، كما أبدى اهتمامه بصالح وكيل الجمهورية الفرنسية بدمياط «باسيلي فخري» وتعويضه عما ناله من أضرار وقت سقوط دمياط.
وأساء البكوات عموما تمسك «لسبس» بالفرمان - أو الامتيازات - وعندما فرض البكوات في أكتوبر «قرضا» على المسيحيين، لم يفلح «لسبس» هذه المرة في إعفاء «الرعايا» الفرنسيين منه فدفعوا نصيبهم منه، وشكا من عثمان بك الذي وصفه بأنه «رجل أهواء وظالم»، وكان «لسبس» قد أبلغ حكومته عن تقرير هذا القرض وقدره 200 كيس منذ 20 سبتمبر، وقال إنه لم يجد مناصا من قبول «الرعايا» الفرنسيين لدفع نصيبهم منه؛ تفاديا للمخاطر التي قال البكوات: «إن هؤلاء والمسيحيين عموما سوف يعرضون أنفسهم لها إذا امتنعوا عن الدفع.» فقبلوا الدفع أو إقراض «الحكومة» بضمانة الميري «خوفا مما يلحق من أذى بالرعايا الفرنسيين وبالراية الفرنسية.»
وحاول «لسبس» استرضاء عثمان البرديسي منذ عودته إلى القاهرة في 20 سبتمبر، فهنأه على سلامة العودة وبعث إليه بالهدايا كسائر الوكلاء، وطلب مقابلته، ولكنه انتظر أياما كثيرة حتى نفد صبره، وأراد الاتصال بإبراهيم بك «شيخ البلد» للبحث معه في المصالح الفرنسية، ولكن هذا الأخير أحاله دائما على البرديسي، فلم يجد «لسبس» مناصا من أن يبعث إليه بترجمانه، وتردد هذا الأخير في شهر أكتوبر مرات كثيرة على البرديسي دون طائل، ولما ذكر له الترجمان بناء على أمر «لسبس» أن هناك معاهدات (امتيازات) قائمة بين الباب العالي وفرنسا، كان جواب البرديسي: «وهل عقدتم معاهدات معي؟ فإني لا أعتقد بغير المعاهدات المعقودة معي، لقد سلبتمونا «سلطاتنا»، وطردتمونا «من القاهرة ومن الحكم»، وذلك هو كل ما نحن مدينون لكم به.» وعندئذ هدد لسبس بمغادرة القاهرة حالا إذا كان البكوات لا يعتبرون فرنسا صديقة لهم، فأكد له البرديسي عندئذ صداقته لفرنسا وصداقته الشخصية له، وادعى أن المرض وحده هو الذي جعله شديدا في كلامه.
ولكن الواقع - كما أشرنا - أن لسبس قد فقد مركزه مع البكوات المماليك، وشعر بامتهان هؤلاء له، ومنذ 20 سبتمبر صار يكتب لحكومته حتى تنقله من القاهرة للعمل في أي ميناء أو مكان آخر في أوروبا متعللا بمرضه وسوء صحته حتى قبل مغادرته باريس، وبحرارة الجو المحرق في مصر وحاجته إلى العلاج وإلا أهلكه المرض، ويطلب عرض مسألته على القنصل الأول، وفي 24 أكتوبر شكا ل «تاليران» من سوء معاملة البرديسي له الذي رفض الاجتماع به بينما هو يقابل الوكيلين؛ النمساوي «روشتي» والإنجليزي «مسيت »، ويجتمع الأخير على وجه الخصوص برؤساء «الحكومة» المملوكية، وينال التجار البريطانيون في رشيد كل التزامات الاحتكارات، وينعمون بمزايا «الامتيازات» وحدهم، ويبغي «روشتي» السيطرة على تجارة البلاد وحده، حتى إن «لسبس» شكا هذه الحالة للست نفيسة المرادية، فقابله في اليوم التالي لزيارته لها عثمان البرديسي في بيته ورحب به، وشكا له بدوره من عدم وصول جواب من بونابرت على رسائله له، وفي 3 نوفمبر شكا «لسبس» لزميله «دروفتي» بالإسكندرية من بقائه بالقاهرة مهددا بالقتل والنهب على أيدي القتلة المهيجين في الوقت الذي لا يستطيع فيه أن يفعل شيئا في مسألة «الامتيازات» ورعاية المصالح التجارية الفرنسية، وشكا له من البكوات الذين أعلنوه أنهم لا يعترفون بالامتيازات التي يتكلم عنها، وقال «لسبس» مهتما إنه «لا يجد نفسه سعيدا في وكر اللصوص هذا الذي يتظاهرون فيه بالحيدة الكاذبة والمزيفة، بينما هم جميعا قد باعوا أنفسهم للإنجليز». وفي 22 نوفمبر أخطر «دروفتي» أنه يفكر في مغادرة القاهرة وما عاد يمكنه البقاء بها، ويظن أن بوسعه الالتجاء إلى «علي باشا الجزائرلي» بالإسكندرية، ويوصي دروفتي بملاطفته وملاينته.
ومنذ 28 أكتوبر كتب «مسيت» أن لسبس قد لقي من البكوات في القاهرة معاملة غير تلك التي يتوقعها، حتى إنه طلب فعلا من حكومته أن تبعث في استدعائه من مصر، وحتى إنه قال ذات مرة عندما نفد صبره بسبب إهمال البكوات له «إنه من المتعذر تماما تفسير مسلك هؤلاء معه بعد كل تلك الخطابات التي كتبوها للقنصل الأول، والتي قرأها «لسبس» نفسه، والتي قالوا فيها إنهم جنوده، وإنه والدهم، وإنهم يرجونه ألا يتركهم أبدا»، ثم أضاف: «إن مسلك حسين بك الزنطاوي لا يقل في غرابته عن مسلك الآخرين؛ لأنه عند وصول «لسبس» القاهرة قال له إنه جعله يمر بطريق يمكنه من السير تحت نوافذ بيت القنصل الإنجليزي، حتى يعرف هذا الأخير مدى تعلق الناس ومحبتهم لفرنسا، واليوم يرفض حسين بك الزنطاوي السماح ل «ماثيو لسبس» بشراء بعض القمح لحاجته الخاصة.»
وبقي «لسبس» بالقاهرة على مضض، ووقعت - وهو لا يزال بها - حوادث قتل علي باشا الجزائرلي في يناير سنة 1804، وإعلان «قائمقامية» إبراهيم بك في القاهرة، وخشي «لسبس» على حياته بسبب الاضطرابات التي وقعت في القاهرة وقتئذ نتيجة لاصطدام «الأرنئود وزعيمهم محمد علي» مع البكوات البرديسي وإبراهيم بك، وانهيار المحالفة التي كانت بين هؤلاء البكوات ومحمد علي لأسباب سوف يأتي ذكرها في حينه.
وفي أثناء هذه الاضطرابات التي بدأت من أواخر يناير واستمرت طيلة شهر فبراير، صمم «لسبس» على مغادرة القاهرة، ولكن البكوات حاولوا منعه، فبعث إليه حسين بك الزنطاوي حتى يصرفه عن عزمه.
وكان في أثناء هذه الاضطرابات أن خطا محمد علي خطوته العملية والإيجابية الأولى لاستمالة الوكلاء الفرنسيين وكسب ثقتهم، فأخبره - بعد أن طلب منه الكتمان والسرية - «أن جميع الأرنئود يريدون مرتباتهم، وأنهم بمجرد حصولهم على بعض المال سوف يقومون بحركة جليلة تكسبهم رضاء الباب العالي عليهم ثانية، وتقضي قضاء مبرما على المماليك.»
وعندما تحرجت الأمور في القاهرة منذ 27 يناير، أسرع التجار الأوروبيون الذين بقوا في القاهرة بمغادرتها إلى الإسكندرية، فبعث محمد علي والزعماء الأرنئود إلى «لسبس» أنهم عاجزون عن توجيه الجند الأرنئود وإرشادهم، وليسوا لذلك مسئولين عن فعالهم، وأن انفجار العاصمة على وشك الوقوع في أية لحظة؛ ولذلك فهم - لصداقتهم له - ينصحونه بالذهاب إلى الإسكندرية، وأعطاه محمد علي كتاب توصية لسلامته في أثناء رحلته، معنونا باسم عمر بك في رشيد، وهو من رؤساء الأرنئود وصديق لمحمد علي، وصديق كذلك - على حد قول لسبس - لفرنسا، فغادر «لسبس» القاهرة وبيده كتاب محمد علي، فرحب به عمر بك في رشيد، واستطاع الدخول إلى الإسكندرية بسلام في 4 مارس سنة 1804، وفي اليوم التالي كتب يطلب تعليمات من حكومته.
وتمسك محمد علي برغبته في توثيق أواصر العلاقات الودية مع الوكيل الفرنسي، وظهر حرصه على إرضائه عندما طلب من جوهري من رعايا أو محميي فرنسا يدعى «سيبي
Siepie » مبلغا عظيما من المال بعد حوادث طرد البكوات من القاهرة، بدعوى أن لديه مجوهرات ونقود عثمان البرديسي وحسين الزنطاوي، وحصل الاتفاق بين محمد علي وبين سكرتير القومسييرية الفرنسية بالقاهرة - وهو من أقرباء «لسبس»، طلب أن يصطحبه معه إلى القاهرة وأذن بذلك القنصل الأول، وحضر مع «لسبس» - على أن يدفع «سيبي» مبلغا من المال، وبعث محمد علي جنديين إلى مقر القنصلية العامة يأمرهما بعدم مغادرة المكان حتى يظفرا بالمبلغ، فتدخل «لسبس» من الإسكندرية، وانتهت المسألة، وكتب لسبس إلى حكومته في أول أبريل تعليقا على هذا الحادث: إن «محمد علي» بالرغم مما حدث «يبدو له مخلصا كل إخلاص ممكن لفرنسا، وإن هذا الحادث إنما يدل على حقيقة واحدة؛ هي أنه يسترشد في أعماله ونشاطه بمبدأ رئيسي هو المصلحة أو النفع الذاتي.» ثم عاد فكتب من الإسكندرية في 10 أبريل «إن «محمد علي» قد أعطاه كل الترضية اللازمة والممكنة، وإنه أعلن في حضور الفرنسيين الذين تركهم «لسبس» في القاهرة، وفي حضور الزعماء والضباط، أن قطع العلاقات الطيبة والتفاهم مع الفرنسيين يزعجه إزعاجا كبيرا، وأنه يكن دائما الود والاحترام لشخص القنصل الأول وللأمة الفرنسية، ويقدر شخص لسبس.» وقد بعث لسبس بكتاب محمد علي إليه إلى حكومته، وفي أواخر مايو أرسل إليه محمد علي يؤكد له مرة أخرى أن في وسع القنصل الأول الاعتماد عليه وعلى جماعته، وأنه علم بفعال «بونابرت» العظيمة، ويكلف «لسبس» أن ينقل إليه ما يشعر به من إعجاب عظيم بشخص القنصل الأول.
وحضر «لسبس» عهدا من حكومة خورشيد باشا بالإسكندرية، وحصل منه على وعود طيبة باحترام «الامتيازات» وعدم إيذاء المحميين أو الرعايا الفرنسيين بها، وتدخل «لسبس» حتى يعيد خورشيد إلى هؤلاء الأموال التي اغتصبها منهم باسم «القروض» وأعادها خورشيد فعلا، وشهد «لسبس» ذهاب خورشيد إلى القاهرة وتوليه الباشوية بها، وظل يرسل إلى حكومته كل ما وقف عليه من معلومات عن الحوادث التي وقعت بالقاهرة بعد طرد البكوات منها، إلى وقت المناداة بخورشيد باشا واليا على مصر، ثم ما وقع من حوادث بين المماليك والباشا العثماني. وقد عاد من الإسكندرية إلى القاهرة حسب تعليمات بونابرت، لكنه لم يمكث بها إلا قليلا فارتحل إلى الإسكندرية في يوليو، وكان الإمبراطور نابليون قد أمر بإعطائه إجازة للعودة إلى فرنسا منذ 7 يوليو سنة 1804، وكان آخر نشاط له أن استقدم من القاهرة إلى الإسكندرية جميع الفرنسيين الذين كانوا بها بسبب الاضطرابات في القاهرة والخوف على أنفسهم وسلامتهم، فوصلوا الإسكندرية في 17 سبتمبر سنة 1804، وفي 19 نوفمبر غادر «لسبس» الإسكندرية.
وأخفق «لسبس» في مهمته في مصر، فهو لم يستطع منع اعتداءات السلطات القائمة بالقاهرة على المحميين أو الرعايا الفرنسيين، ولم يفلح في إقناع هؤلاء باحترام «الامتيازات» التي تصون التجارة الفرنسية، وكان كل ما أدركه من نجاح في هذه المسألة إقناعه خورشيد باشا بالإسكندرية بإرجاع الأموال التي اغتصبها من المحميين بالإسكندرية تحت ستار «القروض»، ثم بذل الوعود الطيبة والمبهمة بعد ذلك باحترام «الامتيازات»، وأخفق «لسبس» في الظفر بثقة البكوات المماليك وإن ظل هؤلاء وخصوصا عثمان البرديسي يرجون الاعتماد على فرنسا ومناصرتها لهم، وأخفق «لسبس» في كسب احترام وثقة «السلطات العثمانية»، وممثلي الباب العالي الشرعيين في مصر، وأخفق في إحباط مساعي الإنجليز الذين نجحوا في استمالة فريق من البكوات لتأييد سياستهم ومصالحهم في مصر.
وفضلا عن ذلك فقد ارتكب «لسبس» أخطاء كثيرة، أبشعها «خيانة» عهد البكوات المماليك، وأظهر في مهمته عجزا وقصر نظر كبيرين، وخصوصا في علاقاته مع رؤساء الأرنئود ومع محمد علي، على وجه أخص، وفات الوكيل الفرنسي أن يدرك أن السلطة - لا مفر - من نصيب محمد علي عاجلا أو آجلا، ولم يفعل شيئا لمساعدة محمد علي، ولم يخط خطوة من جانبه لاستمالته، بل كان لمحمد علي فضل السبق في محاولة استرعاء انتباه الوكيل الفرنسي له، وجذبه إليه وتوسيطه لدى القنصل الأول حتى يكسب الحكومة الفرنسية لمؤازرته. وأما رأي «لسبس» في محمد علي فقد عبر عنه صراحة في رسالته إلى تاليران من القاهرة في 23 فبراير 1804 - أي قبيل الحوادث التي أفضت إلى طرد البكوات من القاهرة بأيام معدودات - فقال: «إن «محمد علي» زعيم الأرنئود يريد حماية فرنسا وتوسطها لدى السلطان العثماني، وفي وسعي أن أؤكد لك سلفا أنه لا لبس ولا إبهام في مقاصده، وأنه يريد الاستيلاء على السلطة العليا، ولكني لا أعتقد بتاتا أن هذا الزعيم «الألباني» - ولو أنه يقل قسوة وتوحشا عن نظرائه ويبدو مواليا لنا - يتمتع بعبقرية أو نبوغ يمكنه من ابتكار خطة واسعة وبرنامج شامل والوسائل اللازمة لتنفيذه.»
وكان السبب الأكبر في فشل «لسبس» في مهمته إصرار القنصل الأول على المضي في سياسته السلبية نحو مصر، بالرغم مما بذله «لسبس» نفسه لتوجيه أنظار حكومته لحقيقة الموقف في مصر، وكان مبعث هذه الخطة السلبية محاولة بونابرت - قبل أي اعتبار آخر - في الإبقاء على علاقاته الودية مع الباب العالي، ومنع تركيا من الانضمام إلى أعدائه، أضف إلى هذا توهمه أن ممثلي السلطان العثماني كانوا أصحاب السلطة في مصر، فانحصرت سياسته بالنسبة لمصر في عدم إغضاب أو إزعاج مندوبي الباب العالي صاحب السيادة الشرعية فيها، ثم مداراة البكوات المماليك، واستعادة صلاته بهم، وجذبهم إلى جانب فرنسا خدمة لمصالحها التجارية في مصر، ولكن دون أن يقوم بأي عمل «إيجابي» من أجل تحقيق رغبة البكوات الرئيسية؛ وهي استرجاعهم لنفوذهم وسلطتهم السابقة، وعودتهم إلى الحكم في الوضع الذي كانوا عليه قبل الغزو الفرنسي في عام 1798، وطلب البكوات نجدة فرنسية من ثلاثة آلاف رجل، وخمسمائة بندقية بالسونكي، وعشرة مدافع ميدان، وألف سيف، وغير ذلك من الأسلحة، إلى جانب قرض «مائتي مليون» من الفرنكات أو ما يمكن إقراضه (يونيو 1804)، وبطبيعة الحال لم يجب «نابليون» على شيء من ذلك، ثم اهتم بونابرت بضرورة ملاحظة نشاط الوكلاء الإنجليز في هذه البلاد؛ خوفا من أن يقدم الإنجليز على غزو مصر واحتلالها، إذا اضطروا بسبب تطور النضال بينهم وبين بونابرت إلى مثل ذلك. ومع أن السفير الإنجليزي بات يبذل قصارى جهده في القسطنطينية من أجل الوصول إلى اتفاق وحل «إيجابي» يحسم الخلاف بين الباب العالي والمماليك، ويهيئ للأخيرين فرصة العودة إلى الحكم في مصر، ونجحوا فعلا في هذه الفترة في سياستهم - على نحو ما سيأتي ذكره بعد - فقد اكتفى بونابرت بعرض وساطته في القسطنطينية، دون أن يعرض حلولا إيجابية على الديوان العثماني، متحاشيا إزعاج الديوان للاعتبارات التي ذكرناها، وقيد هذا الموقف «السلبي» ولا شك نشاط «لسبس» في القاهرة.
فقد طلب «لسبس» تعليمات جديدة من حكومته منذ وصوله إلى الإسكندرية، وتغير الموقف عن الوقت الذي صدرت إليه تعليماته الأولى فيه في مارس 1803، وظل يطلب هذه التعليمات في الشهور التالية حتى نهاية عام 1803، وكتب الجنرال «برون» من القسطنطينية في 25 أكتوبر 1803 يذكر لتاليران، أنه بناء على التقارير التي وصلته من مصر «قد بات الموقف بها في حالة يجعل ضروريا «أن يوضح وزير الخارجية رأيه ورأي حكومته» بشأن هذه البلاد التي قد تكون مبعث إما آمال عظيمة، وإما خيبة وأسف كبيرين»، وضاق صدر «لسبس» من تحرج الموقف وعدم ظفره من حكومته بما ينير له الطريق وسط الاضطرابات السائدة بالقاهرة في أواخر عام 1803، فكتب في 2 نوفمبر من هذا العام يطلب تعليمات جديدة، بل وقال: «أما إذا كانت نوايا الحكومة ألا يدخل «لسبس» في أية علاقات أو صلات مع البكوات، فإنه يرى لزاما عليه أن يصرح لحكومته أنه لا يرى داعيا مطلقا لوجود وكيل فرنسي هنا تحت رحمة خناجر القتلة والسفاكين.»
وكان كل ما ظفر به «لسبس» من تعليمات - توضح كذلك سياسة القنصل الأول - رسالة من الجنرال «برون» في القسطنطينية بتاريخ 11 أغسطس 1803 ينبئه باستلام رسائل «لسبس» المؤرخة في 9 و10 يونيو، ويبدي ارتياحه لمسلك الوكيل الفرنسي وملاحظته لتقدم النفوذ الإنجليزي في البلاد ونشاط الجماعات التي تخضع لهذا النفوذ، ثم يطلب منه ألا يغيب عن ذهنه أنه مندوب للحكومة الفرنسية لدى الباب العالي، وبالتالي لدى وكلائه (أي وكلاء الباب العالي) المخلصين في مصر؛ أي أن «برون» صار يحضه على التزام تعليماته الأولى، ثم أكد «تاليران» هذا الواجب عندما بعث إليه بتعليماته في 26 سبتمبر 1803 بمناسبة إطلاع لسبس «علي باشا الجزائرلي» على كتاب عثمان البرديسي، فطلب منه عدم تكدير علاقاته مع العثمانيين وإثارة شكوك هؤلاء من جهته؛ «لأنه من المنتظر بسبب النجدات التي سوف يرسلها الباب العالي أن تصبح لهم السلطة في لحظة واحدة.»
ومع أن «لسبس» كتب أكثر من مرة على أثر مقابلته مع البرديسي وإبراهيم بك أن البكوات يريدون معرفة نوايا القنصل الأول الصريحة، ومدى استعداده لمناصرتهم وإرسال النجدات التي طلبوها من مال ورجال وأسلحة، فقد اكتفى القنصل الأول بتكليف «لسبس» أن يبلغهم وصول رسائلهم إلى بونابرت وأن يؤكد محبته لهم، وفي أواخر أكتوبر 1803 أمر بذهاب المواطن فراميري
Frameri
إلى مصر ليسلم «لسبس» رسالة بالشفرة، ولما لم يكن من سياسة القنصل الأول «السلبية» فعل شيء جدي في صالح البكوات بالتوسط لهم في القسطنطينية من أجل إنهاء خلافاتهم مع الباب العالي، وهو التوسط الذي لم يأت بأية نتيجة، فقد طلب إلى «برون» في أكتوبر أن يستمر في إلفات نظر الباب العالي إلى ضرورة استتباب السلام في ممتلكاته، وأن يجعله يدرك ويفهم أن انفصال بعض ممتلكاته من جثمان الدولة، الذي ينجم عن نجاح الثورات المحلية، لا يساعد على استقلال هذه الأجزاء المنفصلة بقدر ما يساعد على استفادة دولة أخرى من الخسارة التي تتحملها وقتئذ الإمبراطورية العثمانية، كما طلب القنصل الأول من «برون» أن يلفت نظر الباب العالي إلى ضرورة تأمين سلامة مصر؛ لأن الإنجليز لم يخلوها إلا مرغمين، ولأن فرنسا طلبت «إخلاءها» في معاهدة أميان، وأن الإنجليز لا يمكن أن يكونوا غير عارفين بالاضطرابات التي صارت تظهر في مصر منذ خروجهم منها، أو أنه لا يد لهم في تحريكها، وواجب الباب العالي أن يشعر بالانزعاج والقلق بسبب مشروعاتهم العدوانية على هذه البلاد ما دام لم يستطع إعادة الأمن والهدوء إلى مصر.
وكانت التعليمات التي أصدرها بونابرت للرسول الذي أوفده إلى مصر غريبة حقا، «يطلب إليه بعد أن يسلم خطاب الشفرة إلى «لسبس» أن يستفيد من وجوده بالبلاد، فيجمع المعلومات الخاصة بقوات المماليك والباب العالي، وحالة الإسكندرية؛ الميناء والشواطئ القريبة، ويقف على الأغراض أو الدوافع التي توجه سياسة كل من المماليك والعثمانيين، ونوع العلاقات السائدة بين الفريقين، ونتائج الصراع المنتظر بينهما، ثم مقدار ما صار لدى المماليك من ثقة بأنفسهم تحت تأثير النفوذ الإنجليزي السري في مصر، ثم معرفة مدى الأثر الذي يحدثه هذا النفوذ فيما قد يقرره البكوات، كما طلب إليه الوقوف على الرأي الذائع في مصر عن الإنجليز، ورأي الأهلين بالبلاد عموما، وحقيقة ميول البكوات خصوصا من ناحية الفرنسيين.»
الفصل الثالث
إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
تمهيد
اختلفت الأغراض التي هدفت السياسة الإنجليزية لتحقيقها بالنسبة لهذه البلاد عن أغراض السياسة الفرنسية، وكان اختلافا جوهريا مبعثه حاجة الحكومة الإنجليزية للاطمئنان إلى أن مصر سوف تستطيع - بعد انتهاء الحرب مع فرنسا وخروج الجيش البريطاني منها - الدفاع عن أرضها ومنع الفرنسيين من تجديد غزوهم عليها، بينما كان غرض فرنسا منذ أن أبرمت مقدمات الصلح مع تركيا أن تستأنف صلتها بمصر حتى تدعم علاقاتها التجارية معها وتبني فيها من النفوذ ما يصرف هذه البلاد عن مؤازرة الإنجليز إذا اضطرتهم ظروف الحرب والسياسة في نضالهم مع فرنسا إلى النزول مرة أخرى في مصر بعد جلائهم عنها؛ ولذلك فإنه بينما اهتم الفرنسيون - كما شاهدنا - بعد صلحهم مع الأتراك، ثم بعد عقد معاهدة أميان بأن تجلو القوات البريطانية سريعا عن مصر، تباطأ الإنجليز في خروجهم وأطالوا مكثهم بها بعد الصلح العام سنة بتمامها.
وكان سبب ذلك أنهم أرادوا للوصول إلى غايتهم التي ذكرناها: العمل لإنشاء حكومة مستقرة موطدة تتسلم زمام الأمور في مصر، يكون في قدرتها الذود عنها ودفع أي اعتداء قد يقع عليها من ناحية الفرنسيين خصوصا، ثم الحيلولة دون وقوع البلاد فريسة للفوضى السياسية فتصبح عاجزة عن الدفاع عن نفسها.
وبينما لم يستطع الفرنسيون أن يكونوا أصحاب سياسة إيجابية؛ لأنهم جعلوا المسألة المصرية في المرتبة الثانوية أو التالية لسياستهم وجهودهم الحربية التي ارتكزت على كسب التفوق في القارة الأوروبية، والانتصار الحاسم على إنجلترا قبل أي عدو آخر من أعدائها، كان في مقدور الإنجليز أن يختطوا لأنفسهم سياسة إيجابية واضحة نحو مصر؛ لأن منع الفرنسيين من الاستيلاء عليها مرة ثانية، يضمن لهم استمرار تفوق أسطولهم في مياه البحر الأبيض، ويبطل مشروعات القنصل الأول والإمبراطور في الشرق، ويحفظ لهم أملاكهم في الهند، وقد ترتب على هذه الحقيقة أن صارت سياستهم نحو تركيا ومصر - والأخيرة من أملاك الإمبراطورية العثمانية - تسلك طريقا مرسوما هو إقناع الأولى بالمحالفة معها، كما حدث في 5 يناير 1799؛ وذلك لإخراج الفرنسيين من مصر بعد أن احتلوها في حملة بونابرت المعروفة، أو استمالتها إلى عدم الانضمام إلى فرنسا وانشقاقها على الإنجليز أنفسهم، كما حدث خصوصا بعد استئناف الحرب بين إنجلترا وفرنسا في مايو 1803، حتى إذا انحازت تركيا إلى جانب فرنسا، ثم ساءت العلاقات بينها وبين روسيا فقامت الحرب بينهما في ديسمبر 1806، وانفصمت العلاقات بين إنجلترا حليفة روسيا وبين تركيا، بدأت الأولى عملياتها العسكرية بإرسال حملة إلى مياه الدردنيل والبسفور، وأخرى إلى مصر في عام 1807، وهي «حملة فريزر» المعروفة.
فقد اقتضت سياسة الإنجليز الإيجابية - منذ أن نزل جيش «أبر كرومبي» في مصر في مارس 1801 لطرد الفرنسيين منها بمعاونة العثمانيين بقيادة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا والقبطان حسين باشا؛ لتأمين الأغراض التي ذكرناها - محاولة تحقيق الاتفاق بين الباب العالي وبين المماليك، وهم القوة التي اعتقد العسكريون - ثم السياسيون - الإنجليز أن في استطاعتها الدفاع عن البلاد، وكان غرض الإنجليز من ذلك حسم الخلافات بين العثمانيين وبينهم؛ لأنهم رأوا أن هذه الخلافات إذا استمرت، فإنها لا تلبث أن تنشر الفوضى في مصر، وتحول دون إقامة الحكومة القوية التي وجب إنشاؤها لضمان الاستقرار في مصر، والقدرة على الدفاع عنها، وكان ارتباط الإنجليز في معاهدة إميان في 25 مارس سنة 1802 بإخلاء البلاد وتسليمها للأتراك من الأسباب التي زادتهم اقتناعا بإنشاء هذه الحكومة الموطدة والمستقرة بها، وقامت جهودهم في التوفيق بين الباب العالي والمماليك في هذه المرحلة على أساس إعطاء المماليك بعض أقاليم الصعيد مع الاحتفاظ بسيادة الباب العالي، على أن تكون للعثمانيين السلطة الفعلية في القاهرة وسائر القطر، ولكن هذه الجهود باءت بالفشل.
ثم لم يلبث أن ازداد قلق الإنجليز وانزعاجهم عندما استؤنفت الحرب بينهم وبين الفرنسيين في مايو 1803 - كما قدمنا - وشهدوا في مصر حربا أهلية أثارها التنازع على السلطة بين الأتراك والأرنئود والمماليك، الذي استمر أربع سنوات من 1803 إلى 1807، وأشاع الفوضى السياسية في البلاد، ولم يقنعهم استلام محمد علي لشئون الحكم بأن قوة جديدة قد ظهرت في هذا الميدان السياسي المضطرب منذ 1805 في وسعها إذا أتيحت لها الفرصة أن تنهي هذه الفوضى السياسية، وتؤمن البلاد ضد أي اعتداء أجنبي عليها؛ لأن الباب العالي كان يناوئ «محمد علي»، ولأن المماليك كانوا يحاربونه، بينما اعتقد الوكلاء الإنجليز في مصر أنه «محمد علي» يميل إلى الجانب الفرنسي، وأن المماليك بالرغم من انحياز فريق منهم إليهم لا يترددون في مناصرة الفرنسيين إذا هم جاءوا إلى البلاد مرة ثانية، وكان نابليون لا يزال يمني النفس بتحقيق مشروعه الشرقي العظيم والخطر يتهدد الإنجليز لذلك من ناحية هذه المشروعات إذا نزل بمصر في أثناء نضالهم الذي هو نضال الحياة أو الموت معه.
وكان لهذه الاعتبارات إذن أن صار الإنجليز في مرحلة سياستهم الإيجابية الثابتة منذ 1804؛ يعملون لتمكين المماليك من الاستيلاء على السلطة الفعلية في البلاد بأسرها سواء رضي الباب العالي بذلك أو لم يرض، وفوت عليهم غرضهم انقسام المماليك على أنفسهم، والصراع الذي نشب بين وكلائهم والوكلاء الفرنسيين في مصر - ولا نقول الحكومة الفرنسية - من أجل الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، ووجود تلك القوة التي أشرنا إليها في شخص محمد علي الذي كان له من الدهاء ما جعله يفيد في تثبيت ولايته سنة بعد أخرى من كل تلك العوامل التي نشرت الفوضى السياسية في البلاد، وهي الفوضى التي كان الإنجليز كذلك برغم أنوفهم، وعلى غير ما يريدون أو يتوقعون من عواملها بسبب سياستهم الإيجابية.
ولكنه لما كانت إنجلترا تحرص دائما على تأمين مصر من غزو الفرنسيين لها، ولم يكن في نطاق سياستها احتلال مصر وامتلاكها، فقد قررت - على الأقل - أن تمنع منافستها القديمة فرنسا من الظفر بالنفوذ الأعلى في البلاد ودعم مصالحها التجارية والسياسية بها، وانحصرت جهود الوكلاء الإنجليز وساستها وقوادها البريين والبحريين في تحقيق هذه الغاية، حتى إذا يئست إنجلترا من ذلك بين عامي 1804 و1806 خصوصا، واعتقدت أن مصر لن تستطيع وحدها وبوسائلها الدفاع عن نفسها ضد الغزو الفرنسي الذي توقعته فقد بادرت بإرسال حملة فريزر في عام 1807، ولم تكن هذه سوى حملة وقائية أو حملة مانعة، ولم يكن غرض الحكومة الإنجليزية منها احتلال مصر وامتلاكها.
وهذه السياسة الإنجليزية الإيجابية مرت - كما شاهدنا - في أثناء تطورها في مراحل عدة، وخضع تطورها لتفاعل هذه السياسة الإيجابية ذاتها مع العوامل الأخرى التي تضافرت وإياها على إشاعة الفوضى في البلاد، ثم مهدت في الوقت نفسه لظهور محمد علي، واتخذت في مرحلتها الأولى شكل الوساطة بين الباب العالي والمماليك من أجل الوصول إلى اتفاق بينهما يكفل إقامة الحكومة الموطدة المستقرة.
أصول السياسة الإنجليزية
وترتد هذه السياسة الإيجابية في أصولها القريبة إلى معاهدة التحالف التي أبرمتها إنجلترا مع تركيا في 5 يناير 1799، والتي كان سبب عقدها - كما ذكرنا - رغبة الإنجليز في إخراج الفرنسيين من مصر، ثم إبطال مشروعات بونابرت في الشرق، وفي هذه المعاهدة ضمن كلا الطرفين المتعاقدين أملاك الآخر، وتعهد جورج الثالث ملك إنجلترا بضمان جميع ممتلكات الإمبراطورية العثمانية دون استثناء ما وكما كانت قبل الغزو الفرنسي لمصر، ومعنى ذلك تعهد الإنجليز بإرجاع مصر إلى تركيا بعد طرد الفرنسيين منها، وأن أمر الدفاع عن هذه البلاد سوف يكون عندئذ موكولا للعثمانيين.
وبدأت القوات الإنجليزية والعثمانية العمليات العسكرية ضد العدو المشترك، وكان في أثناء هذه العمليات أن نبتت فكرة الاعتماد على المماليك في الدفاع عن البلاد بعد ذهاب جيش الشرق وبعد ذهاب الإنجليز أنفسهم، ثم التوسط لدى الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر، والذي تعهد الإنجليز بموجب معاهدة التحالف معه على إرجاع البلاد إليه، وذلك من أجل الوصول إلى اتفاق بينه وبين المماليك يترتب عليه تهيؤ هؤلاء الأخيرين للدفاع عن مصر، وقد ارتبطت مسألة الدفاع عن مصر بالبحث كذلك في نوع الحكومة المستقرة التي تجب إقامتها والتي يكفل تأسيسها نفسه بقاء سيطرة العثمانيين في البلاد فلا يطردون منها مرة ثانية إذا حدث غزو أجنبي آخر، ومن ناحية فرنسا ذاتها التي يعمل الحلفاء الآن على إخراج جيشها.
وكان مبعث هذا التفكير أن القواد الإنجليز فقدوا كل ثقة في قدرة العثمانيين بفضل ضعف جيوشهم وانعدام النظام بين صفوف الجند، وعجز قوادهم وضباطهم، واعتقدوا كذلك أن أدواء الانحلال المتفشية في الإمبراطورية العثمانية لا سبيل إلى علاجها، بل سوف تقضي عليها، فبدلا من إزالة المساوئ التي تمنع من تشكيل جيش نظامي قوي يستطيع الدفاع عن مصر، صار من المتوقع - في نظرهم - أن تفقد الإمبراطورية العثمانية أملاكها وتفقد مصر ذاتها، التي تصبح عندئذ من نصيب فرنسا الطامعة أبدا في امتلاكها، والتي لن تفتر لها همة - حتى بعد هزيمتها وخروجها منها - في العمل على العودة إليها.
فكان من وقت نزول الجيش البريطاني في الأراضي المصرية أن علت شكوى السير «رالف أبر كرومبي» قائد قواته البرية والأميرال «كيث
Keith » قائد قواته البحرية، من عدم تعاون الأتراك معهم ومساعدتهم لهم، وأبلغ اللورد «إلجين
Elgin » السفير الإنجليزي بالقسطنطينية حكومته تذمر هذين القائدين وخيبة أملهما في الحلفاء العثمانيين، وقال السفير عندئذ (9 فبراير 1801) إنه يرى لزاما عليه فعل ذلك حتى يكون لدى حكومته فكرة صحيحة عندما يحين الوقت - بعد انتهاء الحرب - للبحث في المسائل المتعلقة، ليس فقط بمصر وحدها من حيث ارتباط حكومته بواجب إرجاعها إلى تركيا، بل وبالإمبراطورية العثمانية ذاتها التي توافرت الأدلة على انحلالها، ومنها ضعف جيش الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا الذي نقصت قواته من الأربعة عشر ألفا إلى الاثني عشر ألفا بالرغم من تقويته بالإمدادات من الرجال والمؤن، بفرار رجاله وانضمامهم إلى جيش باشا عكا أحمد الجزار الذي جمع قوات عظيمة، ومنها خروج «باشوان أوغلو
» الملقب «ببونابرت الشرق»، على طاعة السلطان، والذي وقعت الرومللي والبغدان
Moldavia
تحت سيطرته وعاث فيهما فسادا وتخريبا، ومنها طرد شريف مكة لكل العمال والضباط الأتراك، ثم ما فعله باشوات بغداد وحلب وغيرهم من الحكام البعيدين الذين هم في ثورة فعلية اعترفت بها السلطنة إذعانا للأمر الواقع بضعفها وعجزها.
وكان في هذه الرسالة أن قال إلجين: «وعلى ذلك فإذا كان الأتراك لا يساهمون فيما ندركه من نجاح في عملياتنا العسكرية ضد الفرنسيين في مصر فسوف يكون من حقنا بكل تأكيد التصرف بحرية أوسع عند بحث الترتيبات التي نجد من الحكمة اتخاذها في مصر سواء فيما يتعلق منها بالحكومة العثمانية، أو البكوات المماليك أو مصالحنا البريطانية المباشرة ذاتها.»
وما إن تسلم السير جون هيلي هتشنسون
Sir John Hely Hutchinson
القيادة في مصر بعد مقتل أبر كرومبي في معركة كانوب (21 مارس 1801)، حتى بادر القائد الجديد يبين لحكومته عبث الاعتماد على الأتراك والإمبراطورية العثمانية في الاحتفاظ بمصر والدفاع عنها بعد خروج الفرنسيين منها، فكتب إلى هنري دنداس
Henry Dundas
عضو الوزارة الإنجليزية في 3 أبريل 1801 «أن الحلفاء الأتراك ضعاف ولا عبقرية لهم تعينهم على وضع الخطط وتنظيمها ولا نشاط ولا قدرة على تنفيذها، وهم إلى ذلك يسيئون الظن بأصدقائهم ويخشون من أعدائهم، ولا يمكن الاعتماد عليهم إذا تم الاتفاق معهم على عمل شيء ولا يوثق بأية وعود يعطونها.»
بل إن هتشنسون ليشك كثيرا في مقدرة الأتراك على الاحتفاظ بمصر حتى ضد بقايا المماليك وسكان البلاد الذين قال عنهم: ولو أنهم يكرهون الفرنسيين فكراهيتهم للأتراك أشد وأعظم ويرفضون بتاتا سيطرتهم، ولا أمل في استطاعة الأتراك بسط سلطانهم على هذه البلاد بسبب انحلال إمبراطوريتهم التي تسود فيها الخلافات الداخلية حتى لم يبق لحكومتها سوى مظهرها، وانتشرت الفوضى بها وصار الباشوات الحكام في شتى أملاكها مستقلين في شئونهم، ولا يفكرون في شيء غير النهب والسلب وتمكين سلطتهم في مقاطعاتهم؛ حيث يقاومون سلطة الباب العالي ولا يطيعون أوامره، وليس من المنتظر - لذلك - أن تستمر مصر في قبضة الدولة طويلا، بل سوف تسقط في يد دولة أوروبية.
ويعتذر هتشنسون عن ذكر هذه التفصيلات، ولكنه يرى لزاما عليه أن يبلغ ملاحظاته إلى حكومته حتى تتخذ الاحتياطات اللازمة ضد وقوع مصر في يد الفرنسيين مرة أخرى، وفي هذه الرسالة أثار هتشنسون للمرة الأولى مسألة استبقاء الإسكندرية في أيدي الإنجليز حتى بعد تسليم مصر للعثمانيين، فقال: إنه لا يشك في أن حكومته تدرك - تمام الإدراك - أن بقاء حاميات إنجليزية بالإسكندرية وأماكن أخرى ضروري «وإلا فإن الأتراك وحدهم سوف يعجزون عن الاحتفاظ بمصر»، وسوف تخرج هذه من أيديهم.
وكان هذا الخوف نفسه من عودة الفرنسيين إلى هذه البلاد بعد خروجهم منها ، ورسوخ الاعتقاد بعجز العثمانيين عن الاحتفاظ بمصر والدفاع عنها هو الذي جعل هتشنسون يقلب وجوه الرأي في مسألة تنظيم الحكومة المنتظرة لتسلم زمام الأمور في مصر بعد انتهاء مهمة الجيش الإنجليزي وتسليم البلاد لتركيا، فكتب في 25 أبريل سنة 1801 إلى اللورد إلجين يقول: ولو أن حكومته قد أصدرت إليه تعليماتها بعدم التدخل في شئون ممتلكات السلطان العثماني الداخلية، فقد رأى من واجبه أن يطلع الوزراء الإنجليز على رأيه في المسائل المتصلة بتنظيم شئون مصر، فصار يؤكد لهم وجود احتمال عظيم بأن الأتراك لن يستطيعوا الاحتفاظ بهذه البلاد لأسباب، منها: سوء سيرة الأتراك أنفسهم الذين لا مال ولا مؤن ولا مورد لديهم، والذين ينهبون ويسلبون ويستولون غصبا على كل ما تقع عليه أيديهم، وجندهم شراذم من الدهماء أكثر منهم جيشا بالمعنى المعروف، ومنها أن سلطان الأتراك في مصر سلطان اسمي، «ويكاد يكون كذلك من أيام الفتح الأول في عهد السلطان سليم»؛ ولذلك فإن الإنجليز «سوف يعطونه في مصر بإرجاع هذه البلاد إليه سلطة لم تكن له قط من قبل»، وفي اعتقاد هتشنسون «أن هذه السلطة الوقتية سوف تضعف سلطانه بدلا من تقويته، وإذا لم يضع الأتراك نظاما سياسيا متسقا في مصر - والأمل ضعيف في أنهم سوف يفعلون ذلك - فإنهم سوف يطردون منها مرة ثانية حتى بعد إعطائهم هذه السلطة، ويواجه الإنجليز عندئذ خطرا يظهر في محاولة إحدى الدول الأوروبية، ومن المحتمل جدا أن تكون فرنسا هذه الدولة التي سوف تبذل قصارى جهدها للاستيلاء على مصر، ولا أمل في أن يستطيع الأتراك مقاومة هذا الغزو لما هو معروف عن نظامهم وجيشهم.»
ثم استطرد هتشنسون يقول: «وأخشى أن مصر سوف تصبح مبعث ارتباكات ومتاعب لنا أكثر مما ندركه، وإذا تمكنت فرنسا من الاحتفاظ بسيطرتها التي نالتها في القارة «أوروبا» فسوف يصبح عسيرا منع مصر من الوقوع في قبضتها، والاحتمالات عديدة لوقوع هذا الحادث إذا أخذنا بعين الاعتبار قبل كل شيء حاجة تركيا في حالة ضعفها الراهنة إلى حام يحميها، وليس هناك سوى فرنسا للقيام بهذا الدور؛ لما لها من مصلحة طبيعية وقوية أكثر من غيرها لتصبح هي هذا الحامي. ففرنسا تريد أن تسند هذا البناء المتداعي؛ أي تركيا حتى تمنع دولة أكثر نشاطا وحيوية من امتلاك تجارة الليفانت وحرمان فرنسا مما كان بمثابة أكبر مورد نافع لتجارتها في وقت من الأوقات.»
وقال هتشنسون: «إنه يعتقد كذلك أن كثيرين من الأتراك أنفسهم يفكرون هذا التفكير نفسه»، وكان في هذه الرسالة أن ذكر هتشنسون أنه من المتعذر الاحتفاظ بالإسكندرية عند سقوطها دون أن يكون للقوات البريطانية مواصلات مفتوحة مع أجزاء مصر المزروعة الأمر الذي لا يتأتى إلا بسيطرة الإنجليز على مصبات النيل في فرعيه الاثنين.
وأزعج رأي العسكريين هذا، الذي تناول البحث في وضع البلاد، والتشكك في قدرة الأتراك على الاحتفاظ بها إذا تركوا وشأنهم؛ الحكومتين الإنجليزية والعثمانية على السواء، الأولى لأنها مرتبطة بإرجاع مصر إلى تركيا بعد طرد الفرنسيين منها، والثانية لما بدأ يساورها من ظنون في نوايا حلفائها الإنجليز من ناحية تنفيذ الضمان الذي نصت عليه معاهدة «يناير سنة 1799» لأملاك كل من الدولتين المتحالفتين.
ولذلك فقد بادرت الحكومة الإنجليزية تؤكد من جديد سياسة عدم التدخل في شئون ممتلكات الباب العالي الداخلية، وعدم نبذ العهد الذي قطعته على نفسها بإرجاع مصر إلى تركيا، وقصرت الحكومة الإنجليزية اهتمامها فيما يتعلق بمسألة منع الفرنسيين من محاولة غزو هذه البلاد ثانية على البحث في بعض الإجراءات العسكرية فحسب عند نظر هذا الموضوع، فأصدرت في 19 مايو سنة 1801 تعليماتها إلى كل من سفيرها «إلجين» بالقسطنطينية وقائد قواتها «هتشنسون» في مصر بهذا المعنى، فطلبت في تعليماتها للورد «إلجين» «أن يعلن لوزراء الباب العالي بوضوح وجلاء أن قرار الحكومة الإنجليزية قطعا عند طرد الفرنسيين من مصر، هو إرجاع تلك المقاطعة بأسرها إلى الباب العالي وعدم الاشتراك في توجيه شيء من شئونها، إلا فيما يتعلق بوضع حامية بريطانية فحسب في جزء من الساحل حتى وقت عقد الصلح العام، أو لمدة أقصر من ذلك يتم الاتفاق عليها بين الباب العالي وإنجلترا؛ وذلك من أجل التعاون مع الباب العالي في الوسائل التي يمكن بفضلها تأمين مصر ضد مشروعات الغزو الأخرى التي قد تكون لدى الحكومة الفرنسية والتي يحمل ما يبديه حكام فرنسا الحاليون من ميول ظاهرة على الاعتقاد، جزما بأن فرنسا سوف تنتهز أول فرصة سانحة لتنفيذه.»
وفي تعليماتها للجنرال هتشنسون، قالت الحكومة الإنجليزية: إنه بمجرد طرد الفرنسيين من مصر سوف يكون موضع التفكير العميق؛ النظر في القوة التي توجب الضرورة تركها في مصر للحيلولة دون تجدد خطر محاولات الغزو من جانب فرنسا، ويصبح الاحتراس والحذر من مشروعات الحكومة الفرنسية هو الغرض الأول حينئذ من البحث في هذه المسألة، وقالت التعليمات ردا على مسألة الاستيلاء على مصبات النيل: إن الحكومة الإنجليزية ترى أن وضع قوة في مركز أبي قير هو كل ما يجب فعله للاحتفاظ بالإسكندرية عند سقوطها ولذلك تجد من واجبها إبلاغ هتشنسون «أن هناك خدمات أخرى تتطلب انسحاب أكبر جزء مستطاع من القوات التي لديه في مصر» إلى مالطة، ويقول صاحب هذه الرسالة اللورد «هوبارت
Hobart » وزير الحربية والمستعمرات في الوزارة الإنجليزية: إنه عند النظر في هذه المسألة يجب أن يتذكر هتشنسون دائما أن «غرض الحكومة الإنجليزية الوحيد هو الاحتراس من مشروعات الحكومة الفرنسية العدائية على مصر، وأن الإنجليز في هذا الأمر ليسوا مرتبطين مع الأتراك أو مدفوعين بآراء خاصة بهم؛ للنظر إلى أبعد من هذا الغرض.»
وبهذه الصورة رسمت الحكومة الإنجليزية لسفيرها ولقائدها ولسائر الوكلاء والعملاء الإنجليز الخطة التي يجب عليهم انتهاجها في موضوع الجلاء وتسليم مصر للأتراك عند الانتصار على جيش الشرق نهائيا، وكانت لحمة هذه الخطة وسداها عدم التدخل في شئون مصر الداخلية؛ أي في شئون مقاطعة من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية الواجب عليهم ردها إلى هذه الإمبراطورية كما كانت قبل الغزو الفرنسي، حسب الضمان الذي نصت عليه معاهدة التحالف في يناير سنة 1799 بين إنجلترا وتركيا، ومعنى عدم التدخل هو عدم البحث في نوع الحكومة التي تجب إقامتها في البلاد بعد جلاء القوات البريطانية عنها، والتي كان واجبها الرئيسي في نظر العسكريين خصوصا، ثم فريق من السياسيين أخذ يكثر عددهم تدريجيا، الدفاع عن مصر عند تعرضها لغزو جديد.
ولكنه سرعان ما اتضح أن هذا الوعد الذي قطعته الحكومة الإنجليزية على نفسها بعدم التدخل في شئون مصر الداخلية؛ صار من المتعذر التمسك به، ولما تنقض أسابيع قليلة على صدوره، ومبعث ذلك أن الباب العالي نفسه منذ آخر مايو صار يطلب من ناحيته المباحثة مع الإنجليز في نظام الحكومة الواجب إنشاؤها في مصر لتحقيق الغرض الذي سعت إليه الحكومة الإنجليزية ذاتها، والذي اهتم به الأتراك أنفسهم وهو دفع أي غزو جديد على مصر، كما أن العسكريين، وعلى رأسهم الجنرال «هتشنسون»، لم يروا مناصا من بحث موضوع الحكومة المستقبلة في مصر للغرض نفسه، وعلى ذلك فقد حدث في الشهور التالية أن الحكومة الإنجليزية لم تعدل عن وعدها السابق فحسب، بل صارت كذلك تتوسط من أجل الوصول إلى اتفاق بين الباب العالي والمماليك، على اعتبار أن المماليك هم القوة التي في وسعها الدفاع عن مصر، والتي يجب عدم إغفال حقوقها وامتيازاتها في أي نظام قد يوضع للحكومة المنتظرة لها؛ أي إرجاع ممتلكاتهم ووضعهم السابق في حكومة هذه البلاد الفعلية، وكما كانوا إلى وقت الغزو الفرنسي.
أما فيما يتعلق بالأمر الأول، فقد كتب «إلجين» إلى حكومته من القسطنطينية في 10 يونيو أن الريس أفندي وزير الخارجية التركية قد طلب مقابلة السفير البريطاني حتى يبحث معه موضوع بقاء قسم من الجيش البريطاني في مصر وفي المياه السورية بعد طرد الفرنسيين لمنع العدو من الهجوم على هذه الجهات مرة أخرى، وحتى يستشيره في أفضل الخطط أو الأنظمة التي يجب اتباعها لتأسيس الحكومة المنتظرة في مصر، وقد اجتمع «إلجين» بالريس أفندي، وفي 20 يونيو قدم الأول للثاني مذكرة بشأن هذه الحكومة المنتظرة، امتدح فيها سلوك المماليك الذين ناضلوا ضد الاحتلال الفرنسي وتحملوا متاعب ومشقات كثيرة في أثناء هذا النضال، ثم تقدم القليلون الذين بقوا منهم لمعاونة القوات المشتركة «الأتراك والإنجليز» بإخلاص، وانتفعت القوات المشتركة من معاونتهم لها، وقال «إلجين» إنه يمكن لذلك الاعتماد على المماليك، ويمكن الاستفادة من تأليف قوة من فرسانهم للذود عن البلاد، لا سيما وأن المماليك يعرفون البلاد معرفة طيبة، واقترح السفير البريطاني إعطاءهم حكومة الأقاليم الواقعة بعد جرجا في الصعيد كمكافأة لهم على ولائهم وما تحملوه من مشقة ونصب، فضلا عن أن هذا الإجراء من شأنه أن يزود هذه الأقاليم بقوة تستطيع الدفاع عنها.
وفي 27 يونيو كتب «إلجين» إلى اللورد «هوكسبري
Hawkesbury » ردا على رسالته الأخيرة إليه بتاريخ 19 مايو - وهي الرسالة التي سبق ذكرها والتي ترسم خطة عدم تدخل الحكومة الإنجليزية واقتصارها على الرغبة في إبقاء قسم من قواتها في احتلال الإسكندرية للدفاع عن مصر، فقال: «إنه بدلا من أن يرجو «الإنجليز» الباب العالي السماح لهم بوضع هذه القوة؛ فإن الباب العالي نفسه يطلب ذلك كخدمة إضافية من جانب بريطانيا له.»
واستمر «إلجين» يقول: إنه رأى من واجبه عدم تنفيذ أمر الوزير الصادر في تعليماته إليه في 19 مايو؛ لأنه إذا كانت هذه التعليمات قد اشتملت على تصريح رسمي في الواقع بأن الحكومة الإنجليزية لا مأرب لها ولا صالح، فإن تغير الظروف بعد مقتل بول الأول قيصر روسيا في 24 مايو وإطلاق «نلسن» مدافع أسطوله على «كوبنهاجن» في 2 أبريل 1801 وما تبع ذلك من انحلال حلف المحايدين الذي أحياه هذا القيصر لمقاومة أي اعتداء قد يقع على أعضاء هذا الحلف: «روسيا، السويد، الدانمارك، بروسيا» من جانب إنجلترا، وتبدل أحوال دول أوروبا الشمالية في صالح الإنجليز، كل ذلك يجعل إعلان عدم اهتمام الحكومة الإنجليزية في هذه الظروف من الأسباب التي سوف تؤكد الشك وسوء الظن لدى الحكومة العثمانية من ناحية التأكيدات التي أعطيت دائما من جهة إنجلترا بشأن ضمان أملاك العثمانيين وإرجاع مصر إليهم؛ لأن تقديم تصريح الوزارة الإنجليزية - كما جاء في تعليمات 19 مايو - من شأنه أن يجعل العثمانيين يعتقدون أن هذه التأكيدات القاطعة لم تصدر عن نية خالصة وعزم صحيح لا يخضع لتقلبات الموقف وظروف السياسة الأوروبية.
وكان من أثر إغفال «إلجين» تقديم تصريح حكومته إلى الباب العالي أن الوزارة الإنجليزية وجدت من السهل عليها الآن أن تبت بصورة صريحة في موقفها من مسألة الدفاع عن مصر بعد خروج الفرنسيين منها، وما كان يستتبع ذلك من ضرورة البحث والتدخل في موضوع الحكومة الواجب إنشاؤها في مصر لتحقيق هذه الغاية، فكتب «هوكسبري» إلى «إلجين» في 28 يوليو سنة 1801 «أن الحكومة البريطانية ترغب في بقاء جزء من الجيش البريطاني في مصر حتى موعد عقد السلام العام، وفيما يتعلق بتسوية مسألة الحكومة الداخلية في مصر، فسياسية الحكومة الإنجليزية هي أن تقوم بدور الوسيط بين الأحزاب المختلفة في مصر فتبذل قصارى جهدها لإنهاء الخلافات القائمة بين هذه الأحزاب وديا»، والمقصود بهذه الأحزاب العثمانيون والمماليك، ثم استطرد هوكسبري فقال: «ومن واجبنا أن نذكر دائما أنه مهما كانت نتائج العمليات العسكرية فالمتوقع - أو المحتمل - أن الحكومة الفرنسية لن تتخلى عن فكرة إقامة الحكم الفرنسي في مصر عند سنوح الفرصة؛ ولذلك فغرضها هو بذر بذور الشقاق بين الجماعات أو الأحزاب المختلفة» أي العمل لمنع إقامة الحكومة القوية التي في وسعها الدفاع عن مصر.
وهكذا بدأ - بصورة رسمية - التدخل في شئون مصر، واتخذ هذا التدخل شكل الوساطة بين الباب العالي وبين المماليك.
على أنه كان من أهم أسباب التحول كذلك، من إظهار عدم الاهتمام إلى التدخل الرسمي ما ظل يلح فيه الجنرال هتشنسون من وجوب هذا التدخل وفي صالح البكوات المماليك أيضا.
مشروع هتشنسون
بينا فيما تقدم كيف أن هتشنسون كان يرى من خطل الرأي الاعتماد على الأتراك وحدهم في الدفاع عن البلاد بعد نجاح العمليات العسكرية وانتهائها بطرد الفرنسيين من مصر، ويرى من الحكمة أن يعهد بهذه المهمة إلى المماليك الأمر الذي استلزم ترضيتهم مبدئيا حتى يتسنى الاطمئنان لقيامهم بهذه المهمة على خير وجه، والأمر الذي اقتضى لهذا السبب نفسه التدخل في شئون مصر الداخلية والبحث سلفا في نوع الحكومة المنتظر إقامتها في مصر بحثا جديا.
واعتمد هتشنسون في مسعاه على رسالة خاصة كان قد بعث بها «هسكيسون
Huskisson » وكيل وزارة الحرب في وزارة المستر بت
إلى السير رالف أبر كرومبي في 23 ديسمبر سنة 1800، يذكر لها فيها بعض المقترحات التي بدت لرجل أقام في مصر وتركيا عشرين عاما «بشأن السياسة التي يجب اتباعها نحو البكوات المماليك الذين سوف يزيدون صعوبات العمليات العسكرية في الحرب - ضد جيشي الشرق في مصر - وأخطار هذه العمليات إذا استمر متعذرا فصل أولئك الذين انضموا منهم إلى الفرنسيين، واستمالتهم مع غيرهم من البكوات إلى الاشتراك في العمل من أجل طرد الفرنسيين من مصر.»
وقد جاء في هذه الرسالة أنه من رأي «هسكيسون» أن البكوات إذا تقدموا للتعاون مع الجيوش البريطانية والعثمانية، ففي وسعهم المساهمة بقدر كبير - في طرد الفرنسيين - يفوق أثره كل الجهود التي قد تبذلها الإمبراطورية العثمانية لهذه الغاية. كما كان من رأيه أنهم إذا لم يتقدموا للتعاون، فسوف يكون لوزنهم نفس الأثر وبالنسبة ذاتها في ترجيح الكفة المضادة، ثم استمر «هسكيسون» يقول: إنه يخشى الآن من أن هؤلاء البكوات والمماليك الذين كانوا قبل الغزو الفرنسي أسياد البلاد الحقيقيين؛ قد يستبد الخوف بهم اليوم أكثر من أي وقت مضى من تلك الآراء المناوئة لمصالحهم والتي صار يذيعها الباب العالي بعجلة ودون تبصر بعد معاهدة العريش - وهي المعاهدة المعروفة التي كان الجنرال كليبر قد أبرمها في 24 يناير سنة 1800 لجلاء الفرنسيين عن البلاد وتسليمها للعثمانيين ثم نقضت بعد ذلك - وذلك فيما يتعلق بحكومة مصر المستقبلة أكثر مما يتعلق بطرد الفرنسيين أو بتأسيس نفوذهم في مصر بعد خروجهم منها، وعلاوة على ذلك فقد أكد «هسكيسون» في هذه الرسالة أن القبط واليونان وسكان مصر يفضلون ظلم المماليك على ظلم الأتراك الذين يكرهونهم، «ومن المحتمل جدا أن يعد الصدر الأعظم «يوسف ضيا» - لرغبته في التخلص من الفرنسيين - البكوات بعودة امتيازاتهم وسلطاتهم السابقة إليهم، وأن الباب العالي سوف يكتفي بالاعتراف القديم بسيادته على مصر ودفع الخراج بنظام أكثر من الأول، ولكن من المؤكد أن البكوات سوف لا يثقون بهذه الوعود إلا إذا فهموا كذلك من قائد القوات البريطانية أبر كرومبي نفسه أنهم في نظير انضمامهم إلى القوات الإنجليزية والعثمانية سوف يرون العدالة تجري مجراها في هذه الشئون بقدر المساعدة التي يبذلونها في طرد الفرنسيين.»
ونصح «هسكيسون» قائد القوات البريطانية بأن يجذب إليه مراد بك ويضمن تعاونه معه تعاونا إيجابيا على أن يكون ذلك - إذا أمكن - بموافقة الصدر الأعظم، وأما إذا ظل الصدر الأعظم عنيدا وظل في عماه لا يريد أن يدرك مزايا استمالة مراد بك وصداقته، وهي قضية تهتم بها إنجلترا اهتماما عظيما، بل ويجب كذلك عدم تضحية مصالح تركيا نفسها بسبب غرور وصلف وغطرسة رجالها؛ فالواجب على «إنجلترا» أن ترعى مصالح الأتراك في هذه الحالة بالرغم منهم.
وعلى ذلك فإنه ما إن تسلم «هتشنسون» القيادة منذ مارس سنة 1801، حتى وضع نصب عينيه في الحقيقة تنفيذ هذا «البرنامج» الذي رسمه «هسكيسون» وإن كان هذا البرنامج لا يعدو مجرد آراء خاصة بسطها الوزير الإنجليزي في رسالة خاصة للسير «رالف أبر كرومبي»، وقد فسر «هتشنسون» ما تضمنته هذه الرسالة بأنه كان تعليمات إلى «السير رالف» تطلب فيها حكومته أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة «لترضية» البكوات واستمالتهم إلى الحكومة البريطانية، وأن «هسكيسون» على ما ظهر «لهتشنسون» كان يتوقع أن يثير الأتراك صعوبات عدة لإبطال هذا المسعى، ولكنه قال بوجود ضرورة قاطعة لرفض الرضوخ لهم، بل ويذكر أن الواجب يقتضي التغلب على هذه الصعوبات خدمة للأتراك أنفسهم.
وواتت الفرص الجنرال «هتشنسون» لبدء هذا المسعى، عندما بعث إليه عثمان الطنبورجي برسالة ينبئه فيها بوفاة مراد بك، ويعرض عليه انضمام المماليك إلى الجيش البريطاني إذا وعدتهم الحكومة الإنجليزية بالعفو عنهم، وتعهدت بحمايتهم؛ لأنهم؛ أي المماليك لا يثقون في الأتراك ووعودهم، وقد وصلت هذه الرسالة «هتشنسون» في 5 مايو سنة 1801، في وقت قال القائد الإنجليزي: «إنه كان من أشد لحظات حملته حروجة»؛ حيث كان يتأهب للزحف ومهاجمة الفرنسيين في الرحمانية، وقد تفوق عليه هؤلاء بمدفعيتهم وفرسانهم، بينما تساوت قواتهم العددية مع قواته؛ ولذلك رأى «هتشنسون» أن يحرمهم من حلفاء أقوياء؛ أي المماليك يمدون الفرنسيين بفرسانهم، ويفيدونهم بمعلوماتهم المحلية فائدة كبرى، فاستند على كتاب «هسكيسون» السالف الذكر، والذي وجد على حد قوله هو نفسه إنه ملزم باعتباره تعليمات من حكومته، وبدأ صلته بعثمان بك الطنبورجي فورا، فكتب إليه في اليوم نفسه من مقر قيادته برشيد في 5 مايو سنة 1801 أنه «مخول من الحكومة البريطانية بمنحه العفو والحماية، وإعطائه الضمان لأملاكه وأملاك أتباعه.»
ورسالة «هتشنسون» لعثمان الطنبورجي هذه ذات أهمية كبيرة؛ نظرا لما اشتملت عليه من توكيدات وارتباطات، صار من المتعذر على الحكومة الإنجليزية الإغضاء عنها أو التحلل منها، سواء في علاقاتها مع البكوات المماليك أو مع الباب العالي، بل وجدت في هذه الارتباطات التي ظل كثيرون من رجالها لا يعرفون مداها على وجه الدقة فترة من الوقت، مبررا لنبذ سياسة عدم الاهتمام واستبدال سياسة التدخل بها، والتوسط من أجل الوصول إلى اتفاق بين الباب العالي والمماليك.
ففي هذه الرسالة كتب «هتشنسون»، أنه تسلم خطاب عثمان الطنبورجي، وأسف لوفاة مراد، وسر لاختيار المماليك للطنبورجي خلفا له، ثم قال: «وقد وصلتني تعليمات قاطعة وحاسمة من حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى أن أظفر بودك وصداقتك، وأظفر بمحالفتك، وأبذل قصارى جهدي في العمل لصالحك، ويجب عليك أن تعرف أنه عندما يتكلم قائد إنجليزي باسم مليكه فإن كلمته تصبح مقدسة، فكن واثقا من أني سأنتهز كل فرصة كي أصبح نافعا لك وللجنود الشجعان تحت قيادتك.
وتقول إنك تخشى الأتراك، ولكن هؤلاء حلفاؤنا، وقد كتب القبطان باشا لمراد بك كتابا في لهجة ودية جدا، وتفصل بيني وبين القبطان باشا مسافة كبيرة وأنا بعيد عنه حتى أعرف ما يفعله، ولكنني أعتقد أنه يميل للانتصاف لكم، وأما من جهتنا فإني أعطيك حمايتي وحماية الجيش الإنجليزي وأعدك بذلك وعدا أعظم ما يكون قدسية، ولك أن تعرف أن الأمة الإنجليزية أمة تقوى وورع، تخشى الله وتعدل مع الإنسان، ولم نعبر البحر حتى نأتي عملا سيئا مع أولئك الذين كانوا أصدقاءنا، ولكننا جئنا لغرض واحد فحسب هو طرد الفرنسيين المغتصبين الذين خربوا البلاد، وإعادة ما كان للجميع من أملاك وحقوق، فكن واثقا من أني ساهر على مصالحك، وأنكم لا أنتم ولا أسركم يجب أن تخافوا من أن يلحق بكم أي ضرر أو أذى، فإذا تفضلت بالحضور إلى معسكري أو بإرسال أحد بكواتك، فسوف يتسنى لنا عندئذ وضع الترتيبات التي تريدها، وإني أعدك بذلك قاطعا على نفسي أقدس المواثيق والعهود، ويسرني جدا أن أشرك جيشي مع جيشك في محاربة العدو معا، ولكني أعتقد أن الحرب سوف تنتهي قريبا وأن الفرنسيين سوف يعجزون عن مقاومة الأعداء المتحدين ضدهم.»
وفي ختام رسالته أكد «هتشنسون» على «الطنبورجي» بضرورة إرسال أحد البكوات سريعا وأوصاه بالكتمان والسرية في كل أعماله، كما طلب أن يكون لدى هذا المندوب السلطات التي تخوله إبرام الاتفاق مع «هتشنسون» وعمل الترتيبات اللازمة.
ومن الآن فصاعدا اعتبر المماليك هذا الخطاب بمثابة الوثيقة الكبرى أو العهد الأعظم، وتمسكوا به في كل علاقاتهم المقبلة مع الإنجليز؛ لأنه العهد الذي أوجب على الإنجليز - في نظرهم - أن يعيدوا إليهم أملاكهم السابقة، وامتيازاتهم أو حقوقهم التي كانت لهم قبل الغزو الفرنسي؛ أي معاونتهم على استرجاع سلطتهم الفعلية في حكومة البلاد، ومع أن بعض السياسيين الإنجليز - كما فعل ستراتون
Straton
من رجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية وأوفد في مهمة بعد قليل إلى مصر على نحو ما سيأتي ذكره - حاولوا التحلل من شطر من هذا العهد على الأقل بدعوى أن العهود التي قطعها هتشنسون على نفسه كانت لضمان الطنبورجي وجماعته فقط، بدليل أن الكتاب كان موجها إليه وحده، وبدليل أن هذا العهد لم يذكر شيئا عن إبراهيم بك وجماعته، فصمت من ناحية هؤلاء، وليس لإبراهيم - لذلك؛ أي حق في مطالبة الإنجليز بتحقيق الوعد الذي أعطى للطنبورجي، ولا يكون هتشنسون ملزما باتباعه بالنسبة للطنبورجي وجماعته، فقد اتضح كما اعترف «ستراتون» نفسه في رسالته إلى إلجين في 29 يناير 1802 أن هتشنسون على نحو ما يذاع في القاهرة قد أعطى وعودا شفوية لإبراهيم بك وجماعته مشابهة لوعوده المكتوبة للطنبورجي بواسطة الترجمان فيشنزو تابرنا
Vicenzo Taberna
وبحضور «روشتي» قنصل النمسا.
وأما هتشنسون فقد صار يعلل هذه الارتباطات التي ارتبط بها مع المماليك، أو العهود التي قطعها على نفسه بإعادة سلطتهم السابقة إليهم بقوله - كما جاء في رسالته إلى اللورد هوبارت من علقام في 2 يونيو سنة 1801 - «إنه لما كان رجاؤه عظيما في أنه سوف يلقى مساعدة كبيرة من جانب المماليك الذين يفهمون البلاد أفضل من سواهم؛ فقد رأى استنادا على ما جاء في خطاب «هسكيسون» المؤرخ في 22 ديسمبر سنة 1800 أنه ليس هناك ما يمنعه من أن يعرض على المماليك حماية وضمان الحكومة الإنجليزية؛ لا سيما وأنهم أنفسهم قد طلبوا منه ذلك قطعا قبل الانضمام إلى صفوف الإنجليز، ثم قال: وليس لدي أي شك في أنهم يفضلون الفرنسيين على الأتراك الذين لا يثقون بتاتا في وعودهم ولا يعتمدون على هذه الوعود إطلاقا؛ لأنهم مقتنعون تماما بأن الأتراك إنما يريدون إنهاء سلطتهم في مصر بل وإبادة جنسهم وإفناءهم تماما، وهذا بينما يصبح التأكد من استقرار حكومة هذه البلاد بعد مغادرة الفرنسيين لها الغرض الذي تعمل له الحكومة الإنجليزية لما له من أهمية وخطورة»، وقد سبق لهتشنسون - كما قال - أنه ذكر في رسالته لحكومته بتاريخ 3 أبريل سنة 1801: «أن الأتراك لن يستطيعوا الاحتفاظ بمصر، وأنه ليزداد الآن يقينا من ذلك؛ لأن المماليك والعرب والقبط واليونان، بل وكل إنسان في هذه البلاد؛ يكرهون الأتراك كرها عظيما، فإذا خرج الفرنسيون والإنجليز قتل الأتراك نصف هؤلاء واستبدوا في طغيان عظيم بالنصف الآخر، أما الآن - وقد استمال المماليك بالتعهدات التي أعطاها لهم - فإن المماليك والعرب واليونان سوف يصيرون قوة يصعب على الأتراك التغلب عليها.»
بل وذهب هتشنسون في تبرير مسلكه إلى أبعد من ذلك، فقال في رسالته إلى اللورد هوبارت من الإسكندرية في 21 سبتمبر 1801: إنه لم يتجاوز فيما فعله الأوامر والتعليمات التي ادعى ادعاء أنها صدرت إليه والسلطات المخولة له، فقال: «ولقد أمرت بأن أفعل ذلك فصدعت بما أمرت به، إن الظروف الملحة هي التي أوجبت ذلك وألزمته إلزاما، فالحكمة والسياسة الرشيدة تسوغان هذا الإجراء في كل الأوقات.»
على أن من الثابت أنه لم تصدر إليه أية تعليمات في ذلك من حكومته، بل كل ما استند إليه هتشنسون في خطوته هذه هو خطاب «هسكيسون» السالف الذكر للسير أبر كرومبي، كما كان من الواضح أنه قطع على نفسه هذه العهود لقاء ما كان ينتظره من مساعدة المماليك له في الحرب الدائرة ضد الفرنسيين، ومع ذلك فقد كتب هتشنسون إلى إلجين قبل ذلك في 25 يوليو 1801: «إنه بالرغم من هذه التأكيدات بالعمل من أجل منح المماليك العفو وإعطائهم أملاكهم وسلطاتهم السابقة؛ فقد ظلت الأمور معلقة وتبودلت الخطابات بين هتشنسون وبينهم، وكان من الظاهر أن المماليك قد اعتزموا التريث والانتظار حتى يروا أي الكفتين ستكون هي الراجحة في القتال حتى ينضموا إليها»، وفي الواقع لم يهرع المماليك لمساعدة هتشنسون في ساحة المعركة الفاصلة، فاستولى القائد الإنجليزي على العطف في 7 مايو من غير اشتراكهم في القتال معه، ثم استولى بدونهم كذلك على الرحمانية وقبض عند قرية كوم شريف على «كفالييه»
Cavalier
قائد قوات الهجانة الفرنسي في 17 مايو، وكان الأخير قد خرج إلى إقليم البحيرة يجمع من القرى المؤن والأغذية، فلما وجد المماليك أن كفة الإنجليز هي الراجحة، وأنهم صاروا يزحفون على القاهرة اضطروا عندئذ لاتخاذ قرار أخير فكتبوا «هتشنسون» بنفس الأسلوب الذي كتبوا به خطابهم الأول، وقال هتشنسون: «إنه أعطاهم نفس الوعود التي أعطاهم إياها سابقا»، ولم تنضم طلائع المماليك إلى الإنجليز إلا في 29 مايو عند طرانة؛ حيث استمر الزحف منها إلى القاهرة دون حادث، ومن المعروف أن القاهرة سلبت من غير قتال في 27 يونيو سنة 1801 أي من غير أن يكون للمماليك أي نصيب كذلك في هذا الحادث الهام.
ومع ذلك فقد بلغ اهتمام هتشنسون بتنفيذ وعوده مع المماليك حدا جعله يضع مشروعا أو خطة لتنظيم حكومة مصر المستقبلة لتهيئة وسائل الدفاع عن مصر ومنع سقوطها في يد الفرنسيين مرة ثانية، والغرض الذي استهدفه هتشنسون دائما في نشاطه «وذلك بعد أن انضم البكوات إلى الجيش البريطاني على بعد خمس مراحل من القاهرة» يرتكز على عودة امتيازات؛ أي سلطات المماليك وأملاكهم إليهم بعد طرد الفرنسيين من البلاد، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه سابقا؛ أي استرجاع المماليك لسلطتهم الفعلية في الحكومة وهي السلطة التي فقدوها عند الغزو الفرنسي، وقد ذكر هذا المشروع مفصلا الكلونيل «آرثر أنستروثر
Arther Anstruther » من ضباط الجيش البريطاني وقتئذ، في كتاب له بعث به إلى اللورد هوبارت بعد هذه الحوادث بسنة تقريبا (8 مايو 1802) عندما استشارته حكومته في نتائج مسعاها مع تركيا لتسوية مسألة المماليك، ومع أنه لم يذكر تاريخا معينا لهذا المشروع، فالظاهر أنه وضع وقت انضمام البكوات إلى القوات البريطانية عند طرانة؛ أي حوالي 29 مايو سنة 1801، كما يستدل مما جاء في هذه الرسالة ذاتها.
وأما تفصيلات هذا المشروع فهي، أولا: أن يكون للأتراك وحدهم امتلاك الإسكندرية ورشيد ودمياط، وأن يحتفظوا بحامية في قلعة القاهرة، وثانيا: أن يعين الباب العالي كما كان يحدث في الماضي باشا؛ أي واليا يفصل في المنازعات التي تقوم بين البكوات، ويعين رئيسهم - أو زعيمهم - عند خلو هذا المنصب، وأن يكون له؛ أي لهذا الباشا حكومة البلاد العامة، وثالثا: أن تزاد قيمة الميري - أو الخراج - الذي يدفعه البكوات، وأن يدفع هذا الميري دون أي استنزال منه، فيتسلمه محصل عام يعينه الباب العالي، ورابعا: أن يسترد البكوات جميع أملاكهم، وأن يعود لهم الحق كاملا في تصريف شئون هذه الأملاك كما كان الحال سابقا، مع الخضوع لقيود معينة فيما يتعلق بالضرائب أو المال الذي يجبى من السكان، وعلى شريطة أن يحتفظوا بعدد معين من الرجال يتناسب مع اتساع أملاك كل «بك» منهم.
وظاهر من هذا المشروع - كما أسلفنا - أن القاعدة الأساسية التي ارتكز عليها كانت استرجاع المماليك لجميع امتيازاتهم وحقوقهم التي تمتعوا بها قبل مجيء الحملة الفرنسية، ثم وضع حكومة البلاد الفعلية في أيديهم مع بقائهم تحت سيادة تركيا الاسمية التي يمثلها رسميا وجود الباشا العثماني في مصر، ودفع الخراج للباب العالي، وظاهر كذلك أن هذا المشروع كان في صالح المماليك، وهم الذين اعتقد «هتشنسون» واعتقدت الحكومة الإنجليزية كذلك أن في وسعهم الدفاع عن مصر.
على أنه مما يجدر ذكره أن «هتشنسون» لم يستشر حلفاءه الأتراك في هذا الترتيب وقت وضعه، مع العلم بأن القبطان حسين باشا كان معه عندما أكد القائد الإنجليزي وعوده للمماليك وقت مقابلتهم له بعد حادث «كفالييه»، بل وجعل القبطان باشا يعدهم في حضوره بإرجاع ممتلكاتهم وامتيازاتهم السابقة إليهم بضمان «هتشنسون».
غير أن المماليك «اشتكوا من هذه الشروط في أول الأمر واعتبروها غير مفيدة لهم، بل وتضعهم في مركز يقل كثيرا عن ذلك المركز الأول الذي تمتعوا به سابقا»، وكان بعد تردد أن وافقوا عليها، ولما كان «هتشنسون» لم يستشر القبطان باشا أو الصدر الأعظم يوسف ضيا في أمرها فقد امتنع كلاهما عن قبولها ولكنهما وافقا عليها بعد تردد، وكان ذلك - ولا شك - نتيجة لضغط «هتشنسون» عليهما؛ لأنه كما قال: «قد أوضح للقبطان باشا مبلغ اهتمام الحكومة البريطانية بهذا الموضوع ورغبتها في حماية المماليك، وجعله يعطي كتابة كل التأكيدات اللازمة للمماليك»، وعلى ذلك فإنه بمجرد تسليم القاهرة في 27 يونيو صار الصدر الأعظم والقبطان باشا ينتحلان مختلف الأعذار للتحلل من هذه الشروط وعدم تنفيذها.
وكانت مهمة «هتشنسون» في الشهور التالية حتى وقت رحيله من مصر أن يطالب الصدر الأعظم والقبطان باشا، ثم «الريس أفندي» بتنفيذ الارتباطات التي ارتبط بها مع البكوات المماليك أمام إلحاح هؤلاء في مطالبة «هتشنسون» بتنفيذ وعوده لهم.
فقابل القائد الإنجليزي ومعه سكرتير «إلجين» الخاص المستر «هاملتون»
William Richard Hamilton
الصدر والقبطان، وكان «إلجين» قد بعث سكرتيره من القسطنطينية عندما طلب «الريس أفندي» بقاء جزء من الجيش البريطاني في مصر بعد طرد الفرنسيين منها، فتمت المقابلة في 9 يوليو ووعد الصدر والقبطان بالنظر في مطالب المماليك وإعادة قراهم وأملاكهم إليهم سريعا، ولكن «هتشنسون» اعتقد أن القبطان باشا على وجه الخصوص كان مخاتلا وغير مخلص في وعوده، وقال «هتشنسون» إنه اكتشف بعد ذلك أن القبطان باشا لم يكن معاديا للمماليك فحسب، بل وشديد العداوة لأي تدخل في موضوع الحكومة المنتظر إقامتها في البلاد، أو التسوية النهائية التي يجب إقرارها.
وكان «هتشنسون» محقا فيما ذهب إليه؛ لأن تعليمات وأوامر الباب العالي كانت وقتئذ - وعلى نحو ما ذكرنا عند الكلام عن تركيا والمماليك - إرجاع البلاد إلى حظيرة الدولة العثمانية كمقاطعة من مقاطعات هذه الدولة فحسب، مع إلقاء القبض على أكبر عدد مستطاع من هؤلاء المماليك وإرسالهم إلى القسطنطينية، وعلى ذلك فقد بعث المماليك في 14 يوليو يشكون إلى «هتشنسون» من عدم تنفيذ الصدر الأعظم لوعوده وانتفاء أي ضمان يطمئنهم على أرواحهم أو أملاكهم، ويبلغونه عزمهم على الذهاب إلى الصعيد؛ حيث يستطيعون الدفاع عن أنفسهم بقدر المستطاع في هذه الجهات البعيدة.
وأزعج قرار المماليك هذا هتشنسون إزعاجا كبيرا؛ لأنه يحرمه من القوة التي اعتقد أن في وسعها وحدها الدفاع عن البلاد في وقت كان لا يزال فيه الجنرال «منو» متحصنا بالإسكندرية، وليس هناك في نظر هتشنسون ما يمنع الفرنسيين من إنزال قوات جديدة في مصر، وخشي القائد الإنجليزي إذا حدث ذلك أن يقبل المماليك على مساعدتهم مساعدة جدية، «ولذلك - كما قال هتشنسون - رأى لزاما عليه إذا تعذر إنشاء صلات ود وصداقة بينهم وبين الأتراك، أن يبذل قصارى جهده على الأقل حتى يجعل المماليك معادين للفرنسيين»، فكتب إلى الريس أفندي في 17 يوليو إنه علم - بكل أسف - أن الصدر الأعظم بالرغم من وعده له بإرجاع قرى وأملاك المماليك إليهم لم يكتف بعدم السماح للمماليك بتسلم بيوتهم في القاهرة، بل في طردهم منها بما في ذلك أرملة مراد بك، ومهمتي إبلاغك أن المماليك تحت حماية «إنجلترا»، وحسب الأوامر التي وصلته قد وعدهم بالعفو والحماية وكسبهم إلى جانبه وجانب حلفائه الأتراك بفضل الوعود التي يعتبرها مقدسة أعظم تقديس، ولا يريد خيانتهم في اللحظة التي يعتبر انضمامهم فيها إلى البريطانيين والأتراك على جانب عظيم من الأهمية؛ ولذلك فهو يطلب من الريس أفندي رسميا أن يعطي الصدر الأعظم وعدا كتابيا إلى المماليك بإعادة أملاكهم وقراهم إليهم فورا، وقال هتشنسون: «وأما إذا كان «الريس أفندي» يعتقد أنه بالقضاء على المماليك يستطيع الاستقرار في مصر، فإنه يخطئ خطأ كبيرا؛ لأن هذه إنما هي الطريقة الأكيدة لإثارة الحرب الأهلية، والتي بها يفقد «العثمانيون» مصر كذلك؛ لأن «الإنجليز» لا يمكنهم أن يعودوا مرة ثانية لفتح البلاد وإعادتها إليهم ...»
وبعد يومين من إرسال هذا الكتاب طلب الصدر الأعظم مقابلة «هتشنسون»، وطلب إليه؛ حيث إنه يرغب في إجابة رغباته بشأن المماليك، أن يبين له الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الترتيب الذي ذكر «هتشنسون» للصدر قبل ذلك أنه موجود بينهم وبين الباب العالي، فذكر هتشنسون موجز مشروعه الذي سبقت الإشارة إليه والذي يهدف - كما قال - «لإقامة حكومة في مصر على دعائم ثابتة مستديمة، الأمر الذي لا يتسنى بتاتا تحقيقه بدون معاونة أو مساعدة المماليك، ولو أن «هتشنسون» يعتبر من واجبه أن يعلن للصدر الأعظم أنه ينظر دائما للمماليك كرعايا للسلطان العثماني، وأن مصر ملك للسلطان العثماني لا المماليك، وأن هؤلاء قد اعترفوا بهذه السيادة، وأنه كان على هذا الأساس أن أعطيت لهم حماية بريطانيا»، على أن يقوم المماليك من جهتهم بدفع الخراج مع زيادة قيمته لتعويض السلطان عن نفقات الحرب، وعلى أن لا يكون الباشا المرسل من القسطنطينية سجينا في القلعة، فوعد الصدر بإرجاع بيوت المماليك وأملاكهم إليهم، ودعا هؤلاء لمقابلته وأكد لهم ذلك (22 يوليو)، وبدأ ينفذه فعلا، وأبدى المماليك ارتياحهم، «وبدا أن كل شيء في هذه اللحظة قد سوي».
ولما كان «هتشنسون» يعتزم مغادرة القاهرة إلى الإسكندرية، فقد بعث بكتاب إلى الريس أفندي في 23 يوليو يخبره بما حدث ويوضح مزايا ترضية المماليك «الذين في وسعهم أن يصبحوا إما حلفاء نافعين كل النفع، وإما أعداء خطرين كل الخطر»، وقال إن هؤلاء قد تركوه في هذه اللحظة وهم شاكرون، «ويريدون إظهار مبلغ خضوعهم كرعايا مخلصين دائما للحكومة العثمانية.»
وقد علق «هتشنسون» نفسه على خطابه «للريس أفندي» عندما كتب إلى اللورد «إلجين» من القاهرة في 25 يوليو يعرض الأسباب التي دعت إلى الارتباط مع المماليك، والخطوات التي قام بها من أجل الوصول إلى اتفاق بين هؤلاء وبين الصدر الأعظم والقبطان باشا على أساس المشروع الذي ارتبط به «هتشنسون» فيما يتعلق بإرجاع سلطة المماليك الفعلية في الحكومة المنتظر إنشاؤها إلى ما كانت عليه عند الغزو الفرنسي، فقال «هتشنسون » في تعليقه: إن رسالته إلى «الريس أفندي» لا تعدو كونها مظاهرة فحسب؛ لأنه لا يريد أن يلزم نفسه بارتباطات أبعد مما فعل، وحاول جهد طاقته أن ينقذ أكثر ما يمكن إنقاذه من شرف الحكومة العثمانية؛ لأنه حرص قبل كل شيء على مداراة كبريائهم وغرورهم دون التسليم بشيء جوهري؛ ولذلك فقد صاغ كتابه في عبارات عامة بقدر المستطاع.
ومعنى ذلك - كما هو واضح - أن «التسوية» التي وصل إليها «هتشنسون» والتي اعتقد أنها نهائية، كانت في صالح «المماليك»، وأن «هتشنسون» أرغم الصدر الأعظم والقبطان باشا على قبولها دون أن يسلم بشيء قد ينال من شروطها الجوهرية، وأنه عندما ذكر خضوع المماليك واعترافهم بسيادة الباب العالي كان يعتقد أن هذا الوعد من جانب المماليك لا بد أن يكفي في نظر الصدر الأعظم والقبطان باشا لرضوخهم لإلحاحات «هتشنسون» بإرضاء كبريائهما، وقد أظهرت الحوادث بعد ذلك أن «هتشنسون» كان مخطئا في كل ما ذهب إليه، ولعل مبعث هذا الخطأ اعتراف «هتشنسون» نفسه بأنه يتعذر عليه أن يرى طريقه واضحا في هذه المسألة الخطيرة.
فقد قال في كتابه هذا إلى «إلجين» في 25 يوليو سنة 1801 إن السبب في إزعاجه بكل تفصيلات مساعيه التي قام بها من أجل الوصول إلى تسوية مسألة المماليك، هو خطورة هذه المسألة ذاتها؛ لأن التعليمات التي لديه «شبه رسمية على أقل تقدير»، ونحن كما رأينا لم تصدر إليه تعليمات من حكومته سوى تلك التي بعث بها إليه اللورد هوبارت في 19 مايو وقد وصلته في 21 منه، وهي مبنية على عدم التدخل في شئون مصر إلا فيما يتعلق بوضع قسم من الجيش بالإسكندرية وأبي قير «للاحتراس من مشروعات الحكومة الفرنسية العدوانية على مصر» - ولكنه كما استمر يقول: «وجد لزاما عليه، ومن واجبه تحت مسئوليته الخاصة حتى ولو لم تكن لديه تعليمات بالمرة - وهو ما وقع - تحت ضغط الظروف، أن يعد المماليك بالعفو والحماية، وبالاختصار أن يمنعهم من إلقاء أنفسهم في أحضان الفرنسيين»، ثم راح يكرر نفس الحجج والدعاوى التي تذرع بها سابقا من حيث «أن المماليك في وسعهم أن يصبحوا حلفاء نافعين أو أعداء خطرين، وأنه مهما تكن وجهات نظرهم فهم جنود تتغلغل فيهم روح الجندية الصحيحة، وأصحاب نفوذ عظيم في البلاد ولهم أتباع عديدون، والسبب في ذلك أنهم مسلحون.
وسبب آخر، هو أن البلاد تكره الأتراك، فالقبط والمسيحيون واليهود واليونانيون والمصريون يكرهونهم ويكرهون حكومتهم، وأن الأتراك عاجزون عن الاحتفاظ بهذه البلاد، ولن يستطيعوا ذلك بتاتا بقواتهم هم وحدهم؛ ولذلك فالواجب يقتضيهم أن يربطوا أنفسهم بحلفاء نافعين هم المماليك الذين يفهمون - بحكم العادة - أساليب حكم المصريين والعرب أعظم بكثير جدا مما يدعيه الأتراك، ولا جدال في أنه من الصواب في الوقت الحاضر أن يطرد الفرنسيون من مصر، ولكن يتوقف منع عودتهم في المستقبل على الأقل على «المماليك»، كما يتوقف على «البريطانيين»، ولا يقيم «هتشنسون» للأتراك وزنا في هذه المسألة كلية، ومن المحزن حقا أن يشهد الإنسان تلك الشراذم من الدهماء التي يسمونها جيشا، وحتى يستطيع المرء أن يرى الغباء والخمول المسيطر على رؤسائهم يجب عليه أن يقيم بنفسه بينهم، فهم - بعبارة عامة - أشرار عجزة ولا كفاءة لهم، ولا يستطيع الإنسان أن يتعامل معهم كما يتعامل مع أناس عاديين، فلا عقل ولا تدبير ولا عواطف إنسانية لهم.»
وقد غادر «هتشنسون» القاهرة في 26 يوليو قاصدا إلى رشيد، ومنها إلى الإسكندرية، وبعث من الإسكندرية في 21 سبتمبر بكتاب إلى اللورد «هوبارت» لا يخرج في معناه عما جاء في كتابه إلى اللورد «إلجين»، يذكر ما حدث، ويحاول أن يبرر مسلكه في ارتباطاته مع المماليك، ولكنه ما كاد يمضي شهر واحد على كتابة رسالته الأخيرة هذه، حتى وقعت مكيدة الصدر الأعظم والقبطان باشا في أكتوبر، وهي المكيدة المعروفة التي ذهب ضحيتها عدد من المماليك وسجن آخرون، لإرسالهم إلى القسطنطينية، وأثبتت فشل التسوية التي وضعها «هتشنسون»، وكان لها أثر كبير من ناحية أخرى على احتضان الحكومة الإنجليزية لجوهر مشروع «هتشنسون»، على أساس ترضية المماليك، والوصول إلى اتفاق اعتقدت الحكومة الإنجليزية أنه أكثر استدامة وبقاء من الاتفاق الذي توصل إليه «هتشنسون».
وساطة الإنجليز لصالح المماليك
فقد كان من أثر التقارير والرسائل التي بعث بها «هتشنسون وإلجين» إلى حكومتهما، استرعاء لنظر الحكومة الإنجليزية، وإقناعها بضرورة أخذها بعين الاعتبار لمسألة البكوات عند بحث موضوع الحكومة المنتظرة في مصر والتي يجب ضمان استقرارها حتى تستطيع دفع الغزو الفرنسي إذا تجدد، أن اهتمت لندن ببحث هذا الموضوع، وزاد اهتمامها - على وجه الخصوص - عندما علمت بأن هناك ارتباطات من جانب قائد قواتها في مصر مع البكوات المماليك لم تكن تعرف مداها، حتى إن اللورد «هوبارت» عندما وصلته في 22 يوليو رسالة «هتشنسون» التي بعث بها إليه من علقام في 2 يونيو يتحدث فيها عن كتاب «هسكيسون» المعروف إلى السير «رالف أبركرومبي»، ويذكر رأيه في الأتراك والمماليك، والوعود التي بذلها للأخيرين، لم يلبث أن أجاب في 22 يوليو بأنه من الصعب على الوزير بسبب بعد مسرح العمليات العسكرية وطبيعة الخدمة أو العمل الذي يقوم به «هتشنسون»، أن يصدر إليه تعليمات ما، ولكنه يكتفي بإبداء بعض الملاحظات، فيقول فيما يتعلق بمسلك «عثمان بك الطنبورجي» وشجاعة فرسان المماليك الذين يسدون خدمات هامة، إنه لما كان لا يعرف مدى ما فعله «هتشنسون» بخصوص الارتباطات والتعهدات التي دخل فيها وقطعها على نفسه «إنه يجب المحافظة بدقة على سمعة بريطانيا وشرف كلمتها، ليس في هذه المسألة فحسب، بل وفي كل المسائل وجميع الحالات التي يكون من الحكمة والمفيد صدورها من جانبها؛ ولذلك يجب الاحتياط عند إعطاء مثل هذه الكلمة فلا يكون ذلك إلا عند الضرورة القصوى.»
وعلى ذلك فإنه بينما كان «هتشنسون» يحاول وضع اتفاق ينظم شئون مصر الداخلية كانت هذه المسألة محل عناية الحكومة الإنجليزية، لا سيما وأن «إلجين» قد بادر بإبلاغ حكومته منذ يونيو برغبة الباب العالي في معرفة رأي الحكومة الإنجليزية بصدد «الحكومة المنتظر إنشاؤها في مصر عند طرد الفرنسيين منها»، فقدم «مورييه
J. J. Morier » بعد عودته من مصر مذكرة لحكومته في 7 يوليو سنة 1801 «فيما يتعلق بآرائه خاصة»، وكان «مورييه» سكرتيرا للورد إلجين، أوفد في العام السابق في مهمة لدى جيش الصدر الأعظم الزاحف على مصر ، ودخل «مورييه» القاهرة مع الأتراك بعد اتفاق العريش، ثم استطاع الذهاب إلى دمياط بعد هزيمة الصدر الأعظم في معركة هليوبوليس، وحاول السفر منها بحرا للحاق بالسير سدني سميث، ولكن العواصف أرغمته على الالتجاء إلى بحيرة البرلس، ثم أخذه الفرنسيون منها إلى رشيد، ثم سمحوا له بالذهاب إلى السير سدني على ظهر بارجته «تيجر».
وكان موضوع المذكرة التي قدمها مورييه حينذاك هو بحث الحلول التي يتسنى بفضلها لبريطانيا أن تمنع الفرنسيين من العودة إلى مصر، فاقترح مورييه حلولا ثلاثة: أولها: إعطاء مصر للأتراك مع بقاء حامية بريطانية فيها لقاء أن ينال الإنجليز مزايا تجارية، وفي هذه الحالة يجب القضاء على المماليك. وثانيها: احتلال البريطانيين لمصر كما فعل الفرنسيون، ولو أن هذا الاحتلال سوف يتخذ حينئذ مظهر الفتح ويثير أهل البلاد ضده، ويرى «مورييه» من الحكمة والسياسة عند قبول هذا الحل، أن يعاد بعض بكوات المماليك إلى الحكم، مع تعيين قومسيير - أو مندوب - إنجليزي إلى جنب كل واحد منهم. وثالثها: امتلاك البريطانيين لمصر، وقد علل «مورييه» هذا الحل بأنه خير من تخريب البلاد بالفيضان، الأمر الذي لا ندحة عنه في رأيه على ما يظهر إذا تعذر الحلان الأولان، فضلا عن أنه يقرب البريطانيين من أملاكهم في الهند.
والنقطة البارزة في هذه الحلول التي اقترحها «مورييه» القضاء على المماليك إذا أعيدت مصر إلى تركيا، واستبقاؤهم إذا خضعت البلاد لاحتلال البريطانيين أو امتلاك البريطانيين لها، ثم بقاء قوات بريطانية في مصر إذا استرجعها الأتراك على اعتبار أنه من المتعذر الدفاع عن البلاد بدون معاونة الجيش البريطاني، كما أخذت هذه المقترحات في الحل الثاني وفي الحل الثالث ضمنا مسألة الاستعانة بالمماليك في الحكم والدفاع بعين الاعتبار، وترتكز جميع هذه الحلول على مبدأ جوهري هو عدم استطاعة الأتراك وحدهم الاحتفاظ بمصر أو الدفاع عنها ضد الغزو الفرنسي إذا تجدد.
وكانت مقترحات «مورييه» فيما انطوت عليه من معنى الاعتماد على الجيش البريطاني في الدفاع، ثم على المماليك سواء في المساهمة في الحكم أو في الدفاع كذلك عن البلاد متمشية مع مجرى السياسة البريطانية ذاتها، ومتفقة في مرماها مع الغايات التي استرشدت بها الوزارة الإنجليزية وقتئذ.
فقد بحثت الوزارة الإنجليزية موضوع أفضل الحكومات التي يجب إنشاؤها في مصر؛ لإسداء الرأي للباب العالي - على نحو ما طلب - بعد الوصول إلى قرار بشأنها، واسترشدت من أول الأمر بقاعدة الوساطة على نحو ما أوضحها اللورد هوكسبري إلى إلجين في 28 يوليو بين الجماعات أو الأحزاب المختلفة، وقد أسفر بحث الوزارة عن «مشروع لحكومة مصر بعد خروج الحملة الفرنسية» يتألف من تسع مواد استهلته بقولها: إنه يؤخذ من كتابات الرحالة الذين زاروا مصر أن الحكومة التي قامت فيها قبل امتلاك الفرنسيين لها كانت تتميز بثلاث ميزات ظاهرة: أولها: أن سيادة الباب العالي كانت اسمية. وثانيها: أن سلطة المماليك كانت مطلقة. وثالثها: أن سواد الشعب كان يعيش في بؤس وتعاسة، على أن هذا النظام السيئ كان لا محالة من تغيره تغيرا ملحوظا لو أن الفرنسيين استمروا في امتلاك البلاد بضع سنوات أخرى؛ لأنه كان من المنتظر عندئذ أن تملي عليهم سياستهم ومصلحتهم خطة تشجيع وحماية القبط واليونان والعرب على العمل والاستفادة من الزراعة والتجارة، ثم تخضع قوة المماليك لأغراض الأمن والسلامة والدفاع الهامة.
وعرض المشروع لمسألة احتلال البريطانيين للبلاد، فقال إنه إذا أتيح «للإنجليز» أن يخلفوا الفرنسيين في ممارسة حقوق السيادة في مصر، فمن المحتمل الوصول إلى هذه النتائج؛ لأن حكومتهم التي ينشئونها في مصر عندئذ سوف تكون مشبعة بروح لا يمكن أن تسمح بتقوية رعاياها إلى الدرجة التي يستطيعون بها مقاومة سلطان الدولة - كما فعل المماليك في بعض الشئون المالية - ولا يمكن أن ترضى بتعرض الطبقات الدنيا والفقيرة والعاملة للنهب والسلب والظلم كما كان الحال في ذلك الوقت، وما دام الجيش البريطاني يظل باقيا في مصر فليس من المتوقع أن يحدث ذلك، وقد أثبتت التجارب أنه يخشى إذا استعاد العثمانيون سلطانهم وتركوا وشأنهم أن يخيم الخمول على البلاد، وأن تنتشر بها المفاسد والمساوئ، وأن يستأنف المماليك استغلالهم للبلاد جريا على عادتهم القديمة نتيجة لذلك، فيتعرض السكان لأنواع المظالم والمغارم التي يفرضها عليهم الفريقان: «العثمانيون والمماليك» على السواء، ويعودون إلى حالة البؤس والشقاء التي كانوا عليها، ولا يحول دون وقوع هذا كله سوى نفوذ «الحكومة الإنجليزية» وحده، وإذا لم يستخدم هذا النفوذ الآن لمعاونة وزراء الباب العالي في إدخال نظام جديد للحكم، وإذا لم يكن هذا النظام مؤسسا على مبادئ تؤمن للشعب الامتيازات والحقوق التي يجب أن ينالها الآن، ويمهد - بوسائل إجبارية - إقامة قوة عسكرية تحت نظام دقيق صارم؛ فإنه من المحتمل كثيرا أن يلقى الفرنسيون ما يشجعهم على القيام بمحاولة أخرى لغزو مصر، وأن ينجحوا في آخر الأمر في إخضاع هذه البلاد لسلطانهم.
ثم استطرد المشروع يقول: «إنه لا يبدو من المتعذر موافقة الوزراء العثمانيين - بسبب ما ظهر من ميول هؤلاء لسؤالهم رأي الحكومة الإنجليزية - على المقترحات التي تقدمها الحكومة الإنجليزية إليهم لتأييد سلطانهم في مصر؛ ولذلك رأت الوزارة الإنجليزية عرض النقاط التسع الآتية كشرائط لقبولها الاشتراك في وضع ترتيب الحكومة المنتظر تأسيسها في مصر.»
أما أول هذه الشروط فهو تحديد حقوق وامتيازات المماليك ومدى ولايتهم القضائية على أراضيهم، وتحديد طبيعة ومدى عسكريتهم، وجعل امتلاكهم لأراضيهم مشروطا بقيامهم بخدماتهم العسكرية. وثانيها: وضع قواعد ثابتة لإيرادات الدولة، سواء من البيوع أو الضرائب على التجارة، أو من أي مورد آخر، فتنظم هذه القواعد فئاتها، وتوقع عقوبة رادعة على موظفي الحكومة الذين يحصلون غصبا مبالغ غير التي تحددها هذه الفئات الرسمية. وثالثها: أن يخصص جزء معين من إيرادات مصر العامة لسد نفقات القوات العسكرية النظامية التي تتشكل تحت إشراف وهيمنة ضباط بريطانيين. ورابعها: أن يستمر استخدام القوات العثمانية النظامية الموجودة الآن في مصر، وتؤلف جزءا من القوات العسكرية المنصوص عليها في الشرط السابق. وخامسها: أن يجرى جمع قوات أخرى من ألبانيا وغيرها من أملاك السلطان العثماني الأوروبية، ومن مصر كذلك لهذه الخدمة، وأن يستمر جمع هذه القوات حتى يكتمل تأليف القوات العسكرية النظامية المنصوص عليها. وسادسها: أن يتسلم القيادة العليا لهذا الجيش - إذا كان ممكنا - ضابط بريطاني، وأن لا يدفع شيء من الأموال المخصصة لهذا الجيش إلا بأمر منه. وسابعها: أن تخول التعليمات هذا الضابط «البريطاني» الاحتجاج لدى ممثلي الباب العالي في مصر في كل الحالات التي تتخذ فيها إجراءات خارقة للمبادئ التي يجب وضعها الآن فيما يتعلق بالامتيازات التي للمماليك، وحقوق الشعب المعترف بها، أو تحصيل الأموال المخصصة للشئون العسكرية ووجوه إنفاقها عليها. وثامنها: أن تجرى الترقيات في الجيش النظامي بناء على توصية الضابط البريطاني، وأن يرجع إليه في كل تفصيلات الشئون العسكرية. وتاسعها: وضع حامية من الجنود الذين في خدمة بريطانيا العظمى في حصن - أو قلعة - الإسكندرية طوال الحرب الحاضرة، يقوم الباب العالي بسداد نفقاتها، على أن يؤخذ ذلك من الأموال المخصصة للقوات العسكرية النظامية التي سبق ذكرها.
وقال المشروع إن فتح مصر قد صار الموضوع المحبب إلى الحكومة الفرنسية، ويلحق تحقيقه أبلغ الأذى بمصالح الإمبراطورية البريطانية الجوهرية؛ ولذلك فمن الحكمة أن تفيد الحكومة الإنجليزية من هذه الفرصة المواتية لها لتضع في يد الباب العالي الوسائل التي تمكنه من إحباط أغراض فرنسا دون حاجة للالتجاء إلى جيش بريطاني؛ لأنه مهما كان ضغط الظروف التي سوغت المجهود العظيم الذي قامت به بريطانيا في الحالة الراهنة؛ لطرد الفرنسيين من مصر؛ فليس من المتوقع في المستقبل أن تبذل بريطانيا هذا المجهود مرة أخرى.
واختتم الوزراء الإنجليز مشروعهم بإظهار تفاؤلهم، حسبما بلغهم من اللورد إلجين، بأن الباب العالي سوف يقبل هذا البرنامج الذي يحقق الأغراض المباشرة المنشودة، والذي يمكن من تفوق واستعلاء النفوذ الإنجليزي في القسطنطينية، الأمر الذي يعود بالنفع كذلك على التجارة البريطانية في الليفانت، فاعتد الوزراء الإنجليز بمشروعهم لما كانوا ينتظرونه من مزايا عند تحقيقه، وضرورته في تحسين أحوال أناس يعيشون في بؤس وتعاسة لا نظير لهما على وجه الأرض، وتعطيل أعظم مشروع قامت به فرنسا حتى هذا الوقت، وفتح أسواق مصر لتجارة بريطانيا.
ولكن الوزراء الإنجليز كانوا واهمين في كل ما ذهبوا إليه؛ لأن مشروعهم لو نفذ لوضع مصر بأسرها تحت نفوذهم، وأخضعها لسيطرتهم العسكرية والاقتصادية، وذلك كله دون أن يتحمل الإنجليز شيئا من النفقات التي يستلزمها تنفيذ هذا الترتيب الذي ابتكروه، ولا تجني تركيا نفعا منه، بل يعود عليها تنفيذه - من وجهة نظرها - بكل الضرر؛ لأن المشروع - في أبسط صورة - يحرمها حتى من ذلك النفوذ الضئيل الذي ضمنه لها وضع البلاد قبل الغزو الفرنسي، وهو وضع لم ترض به تركيا وأرادت على نحو ما سبق القول أن تستبدل به وضعا آخر يخضع مصر لسيطرتها التامة كمقاطعة عادية من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية.
زد على ذلك أن الباب العالي عندما سأل الحكومة الإنجليزية رأيها - عن طريق سفيرها بالقسطنطينية - إنما كان يريد في واقع الأمر جس نبض اللورد إلجين وحكومته؛ لمعرفة مدى ما يريد الإنجليز أن يذهبوا إليه في إرضاء المماليك وما يريدون إعطاءه لهم.
وقد أيدت الأخبار الواصلة من مصر مخاوف الأتراك من ناحية الإنجليز ونشاطهم مع المماليك، ومساعي الجنرال «هتشنسون» معهم على وجه الخصوص، وقد أبلغ «كيث
Keith » قائد القوات البحرية اللورد إلجين في أول أغسطس أن القبطان باشا «شديد الغيرة مما يبديه «هتشنسون» من اهتمام بالمماليك وعناية زائدة بهم»، لا سيما وقد صارت تردد الإشاعات في مصر - كما ذكر كيث - «أن المماليك يقولون إنه بمجرد مغادرة البريطانيين سوف يطردون؛ أي المماليك الأتراك من مصر»، وأدرك الصدر الأعظم خطورة ما فعله عندما رضي - تحت ضغط «هتشنسون» - بأن يعد المماليك بإرجاع أملاكهم وامتيازاتهم إليهم، وصار يسعى آنذاك لإقناع الديوان العثماني بضآلة التأكيدات التي أعطاها لهم، ويحاول التخفيف من وطأة ما فعله، ويعزو مسلكه لتدخل «هتشنسون» وإلحاحه في الرجاء عليه، وأما القبطان باشا فقد نفي بتاتا اشتراكه في هذه الفعلة، وشعر «إلجين» بهذا التطور عندما اجتمع بالريس أفندي في 14 سبتمبر سنة 1801، وهي المقابلة التي سبق الحديث عنها عند الكلام عن موقف الباب العالي من المماليك،
1
وقد أسفرت هذه المقابلة عن فشل وساطة الحكومة الإنجليزية وقتئذ، وعن سوء تفاهم كبير مبعثه أن «إلجين» كان لا يعرف - معرفة صحيحة - مدى الارتباطات أو التعهدات التي أعطاها «هتشنسون» للمماليك، كما اعتقد الوزراء العثمانيون - أو تظاهروا بأنهم يعتقدون - أن قبول «إلجين» الكتابة من جديد إلى «هتشنسون» معناه أنه قد تعهد بتعديل التعهدات التي أعطيت في القاهرة؛ وذلك لأنه كان قد تم الاتفاق في الاجتماع الذي عقد في 14 سبتمبر على أن يكتب «إلجين» إلى «هتشنسون» ليبلغه آراء الباب العالي في مسألة المماليك، وتصميم الريس أفندي على أن يعمل «هتشنسون» بالاتفاق مع الصدر الأعظم لإنهاء هذه المسألة وما يتفق مع وجهات نظر الباب العالي، ولم ير «إلجين» فيما دار في هذه المقابلة إلا حديثا لا نتيجة له، وفكر في الذهاب بنفسه إلى مصر على أمل إيجاد حل سريع للمسألة.
على أنه بينما كانت الحكومة الإنجليزية تسعى للتوسط لدى الباب العالي لإنهاء مسألة المماليك، كان الصدر الأعظم والقبطان باشا يدبران مكيدتهما المعروفة في مصر، فقد وجد الباب العالي في تعهد «إلجين» بالكتابة إلى «هتشنسون» مبررا للمضي في خطته المرسومة نحو المماليك، فأصدر تعليماته إلى الصدر الأعظم والقبطان باشا بإلقاء القبض على البكوات وإرسالهم إلى القسطنطينية، ومن أوائل أكتوبر عرف «هتشنسون» أن الأتراك قد صح عزمهم على القبض على البكوات وتجريد بقية المماليك من السلاح، فعرض عليهم حمايته «وأوصاهم - قبل كل شيء - بعدم الذهاب إلى أية سفينة أو قارب عثماني.»
وفي 15 أكتوبر زار عثمان بك الطنبورجي خليفة مراد بك وأربعة من البكوات الآخرين القبطان باشا وعسكروا بجندهم وسط الجند الأتراك، فنصحهم «هتشنسون» بنقل معسكرهم إلى خلف مخيمه، ولكنهم لم يرضوا إغضاب القبطان باشا الذي وعدهم بالعفو والحماية، حتى إذا كان يوم 22 أكتوبر أوقع بهم، وقد سبقه الصدر الأعظم في الوقيعة بالبكوات بيومين قبل ذلك، وقد تحدثنا عن آثار هذه المكيدة وتدخل هتشنسون من أجل تسليم جثث الموتى في مكيدة أبي قير وإطلاق سراح الأسرى منهم، على أن هتشنسون اضطر بسبب مرضه إلى مغادرة البلاد في 7 نوفمبر، وتسلم اللورد «كافان
Cavan » القيادة، وكان بعد وصول الجنرال ستيوارت إلى القاهرة موفدا من قبل «كافان» أن أطلق الصدر الأعظم سراح البكوات المأسورين في مكيدة القاهرة، وعسكر هؤلاء بالجيزة تحت حماية الإنجليز في 13 نوفمبر.
وقد أثارت هذه المكيدة ثائرة الإنجليز، وزاد انزعاجهم بسبب كتاب السلطان سليم إلى ملك إنجلترا، وهو الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه،
2
وقد أظهر هذا الكتاب تصميم الباب العالي على إخراج المماليك من البلاد كلية، الأمر الذي يتنافى مع أغراض السياسة الإنجليزية، لا سيما وأن مقدمات الصلح في لندن كانت قد أبرمت بين إنجلترا وفرنسا منذ أول أكتوبر، ونصت مادتها الخامسة على إرجاع مصر إلى تركيا وضمان كيان الإمبراطورية العثمانية، فضلا عن وصول «سباستياني» إلى القسطنطينية بعد عقد مقدمات الصلح بين تركيا وفرنسا في باريس في 11 أكتوبر، فعرض وساطة القنصل الأول بين الباب العالي والمماليك، واعتقد «إلجين» أن القنصل الأول يريد منع تأسيس أي نظام حكومي أو اتخاذ داخلي في مصر، أو تنظيم أي دفاع قد يحاوله الإنجليز، على أمل أن يستطيع إذا نجح في ذلك تجديد مشروعات فتوحه بمجرد نقل القوات الإنجليزية من البحر الأبيض، ولما كان من المنتظر حسب مقدمات الصلح بين إنجلترا وفرنسا أن يعقد مؤتمر في أميان لتقرير السلام النهائي، فقد اقتنع «إلجين» بضرورة ذهابه هو نفسه إلى مصر حتى ينهي مسألة المماليك بالاتفاق مع اللورد «كافان» والصدر الأعظم والقبطان باشا، ولكنه اضطر إلى العدول عن السفر بسبب إلحاح الباب العالي عليه بعد السفر، فاختار لهذه المهمة سكرتير السفارة البريطانية في القسطنطينية «ألكسندر ستراتون
Alexander Straton » وبذهاب ستراتون إلى الإسكندرية والقاهرة دخل التوسط البريطاني بين الباب العالي والمماليك في مرحلته الثانية لحسم الخلافات بينهما من أجل التوصل لإنشاء الحكومة المستقرة والقوية في مصر، والتي تستطيع رد الغزو الفرنسي عنها إذا تجدد، وكانت هذه المحاولة فاشلة كسابقتها.
مهمة ستراتون
وكان ذهاب «ستراتون» في مهمته بناء على اتفاق الوزراء العثمانيين مع «إلجين» وموافقتهم على إرساله، فقد صدرت إليه تعليمات من الباب العالي كما أصدر «إلجين» إليه تعليماته، وكانت تعليمات الأخير إليه قسمين: أحدهما عادي والآخر سري، ويتضح من تعليمات الباب العالي التي صاغها في «مذكرة مرسلة إلى «ستراتون» بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1801، أن الفكرة أو «الاعتقاد» الذي خرج به الوزراء العثمانيون من مؤتمرهم مع «إلجين» في 14 سبتمبر والتي دعت لتدبير مكيدة أكتوبر ولكتابة السلطان سليم إلى ملك إنجلترا في نوفمبر؛ كانت المسيطرة على سياستهم، بينما تدل تعليمات إلجين العادية والسرية، والاثنان بتاريخ 12 ديسمبر كذلك؛ أولا: على أن هدفه الرئيسي كان الوصول إلى تسوية تنهي الخلاف بين الباب العالي والمماليك حتى يتسنى الغرض المباشر من مساعي الدبلوماسية الإنجليزية وهو إنشاء حكومة موطدة في مصر تستطيع الدفاع عنها ضد الغزو الأجنبي «الفرنسي». وثانيا: أن إلجين في سبيل تحقيق هذه الغاية قد تخلى عن المبدأ الذي عمل له منذ بداية الوساطة البريطانية في القسطنطينية وهو إرجاع أملاك وامتيازات البكوات إليهم؛ أي بقاؤهم في مصر، يؤلفون عنصرا هاما من عناصر الحكومة المزمعة، في نظير اشتراكهم في واجب الدفاع عن البلاد. وثالثا: أن إلجين كان يجهل مدى الارتباطات التي ارتبط بها هتشنسون مع البكوات، وصار يعتقد أنه لا يجب أن تحول أية ارتباطات مهما كان نوعها دون تحقيق رغبة حكومته وسياستها التي اعتبر أنها كانت دائما إرجاع مصر إلى تركيا.
أما في مذكرة الباب العالي لإسكندر ستراتون، فقد طلب الوزراء العثمانيون أن يجري تسليم البكوات المقيمين لدى القائد والضباط الإنجليز إلى الصدر الأعظم دون استثناء أحد منهم حتى يصير إرسالهم إلى القسطنطينية، وهذا إذا لم يشأ القائد الإنجليزي أن يقوم هو نفسه بإرسالهم، ثم وعدوا باحترام وعدم مساس أملاك الرؤساء المماليك، وأن تباع بيوت هؤلاء في مصر ويعطوا أثمانها، كما وعدوا بإعطاء معاشات لهم وإغداق ألقاب الشرف عليهم.
وأما «إلجين» فقد طلب من «ستراتون» في تعليماته العادية أن يقوم بفحص الحوادث التي وقعت فحصا دقيقا، وأن يناقش فيها الضباط الإنجليز لمعرفة حقيقتها ومغزاها، ثم قال: «ويبدو لي مما أراه أمامي كله، أنه من الواضح، بعد إمعان النظر، أن غرض «الحكومة الإنجليزية» كان دائما إعادة مصر إلى تركيا؛ ولذلك فإنه لا يتفق بتاتا مع اللياقة أن نجيز التفكير في مناسبة تسليمها تسليما فعليا إلى البكوات بدلا من الأتراك»، فإن الباب العالي سوف يظل يعمل ويناضل لطرد البكوات من مصر؛ ولذلك فالمطلوب من ستراتون أن يبذل قصارى جهده للوصول إلى اتفاق أو تسوية تحقق في وقت واحد غرض الباب العالي، وغرض الحكومة الإنجليزية، وعليه أن يعمل لإقناع البكوات بالأخطار التي يتعرضون لها إذا بقوا في مصر، ولما كان من الواجب اتخاذ الحيطة لمجابهة الموقف في حالة الإخفاق فقد زود «إلجين» رسوله بتعليمات سرية، كانت أكثر تفصيلا وأوضح معنى في إظهار الغرض من مهمة «ستراتون»، فقال إنه من الواضح أن ملك إنجلترا قد وعد دائما وجديا بإرجاع مصر إلى صاحب السيادة الشرعية عليها، وأنه رفض دائما كذلك التدخل في شئون مصر الداخلية، ينهض دليلا على ذلك توقيع مقدمات الصلح في لندن في أول أكتوبر 1801 التي هي تأكيد لوعود جلالته، يقابل ذلك طبيعة تلك الارتباطات التي دخل فيها «السير جون هتشنسون» مع البكوات المماليك، لاعتبارات عسكرية هامة، وهي ارتباطات وعهود قطعها «هتشنسون» على نفسه في قدسية عظيمة، ويستمد منها البكوات حقا مضاعفا بسبب قدسيتها أولا، ولأنهم قاموا من ناحيتهم بتنفيذ ارتباطاتهم ثانيا، ومع ذلك فإذا كانت هذه الارتباطات - كما بلغ «إلجين» - قد ذهبت في مداها إلى الوعد بإعادة أملاك ونفوذ البكوات إليهم بالصورة التي تجعل ذلك اغتصابا للسلطة، الأمر الذي وجد أنه يهدم دائما سيادة الباب العالي، فإن للباب العالي الحق يقينا أن يعارض من جهته هذه الارتباطات أو أية ارتباطات تسلبه سلطانه كمناقضة وهادمة لتأكيدات الحكومة الإنجليزية له، ومن حقه كذلك أن يعتبر نفسه مهددا حتى يتم القضاء على البكوات وإبادتهم، وعلى ذلك، وفي ضوء الظروف القائمة؛ لا مفر من أن يصبح واجب بريطانيا وسياستها أن تسوي هذه الخلافات بين الباب العالي والمماليك، قبل إخلاء الجيش البريطاني للبلاد، أولا: محافظة على سمعة بريطانيا، وثانيا: لعدم ترك البلاد في حال من الفوضى قد يجد الفرنسيون بسببها فرصة التدخل في شئون مصر، وأخيرا الاستئثار بالنفوذ - دون الإنجليز - في الليفانت؛ ولذلك فقد وجب على ستراتون أن يسعى جهده لإقناع البكوات بالخطر الذي يتعرضون له إذا أصروا على بقائهم وإقامتهم في مصر ، فالقوات الإنجليزية سوف تنسحب حتما منها، وعندئذ يفقدون حمايتها لهم، وفضلا عن ذلك فإن الأتراك سوف يستخدمون كل ما بيدهم من وسائل لإرهاقهم والعدوان عليهم، ولا فائدة من قول البكوات: إن الأتراك لا قوة لهم، «ويترتب على ذلك طبعا أن الواجب يقتضي البكوات إذا أخذوا بمحجة الصواب والحكمة أن يبادروا بالاستفادة من الحماية التي لا زال «الإنجليز» قادرين على أن يشملوهم بها؛ حتى يضمنوا لأنفسهم الوصول إلى تسوية مع الباب العالي، هي بعد تقليب جميع وجوه الرأي أفضل وسيلة لإنهاء النزاع، وأما إذا وجد ذلك متعذرا فإن «إلجين» يرى أن نقل البكوات من مصر أمر ضروري ضرورة قصوى؛ ولذلك فهو يطلب إلى ستراتون أن يتعهد باسمه للبكوات بأنهم سوف يقابلون بكل ترحاب: إما في إنجلترا وإما في ممتلكاتها في الهند؛ حيث ينالون معاشا سنويا مساويا لذلك الذي عرضه عليهم الباب العالي، مقابل ما يؤدونه من خدمات عسكرية، علاوة على تمتعهم بحماية بريطانيا وبجميع المزايا والمنافع التي ينالها كل رعاياها.»
وقد أوضح «إلجين» الغرض الجوهري من مهمة «ستراتون»، والذي يفسر سبب تعليماته السرية إليه في كتاب بعث به في اليوم نفسه (12 ديسمبر) إلى اللورد هوكسبري قال فيه: «إنه كان من بين الأفكار التي عنت له بشأن البكوات أنه إذا تعذر حل مسألتهم فإنه يصير عندئذ دعوتهم للانسحاب والخروج من البلاد إلى إنجلترا أو إلى الهند على الأخص؛ حيث يمكن الاستفادة هناك من مواهبهم العسكرية، وتعوض خدماتهم التي يؤدونها النفقات التي تتكلفها الحكومة الإنجليزية بسببهم، كما رأى في الوقت نفسه أن اللجوء إلى هذه الوسيلة يؤكد رغبة الحكومة الإنجليزية في تنفيذ عزمها على إرجاع مصر إلى الباب العالي.»
وهكذا تحددت مهمة «ستراتون»: إما تسوية النزاع بين الباب العالي والمماليك بالطريقة التي يرضى عنها الطرفان - وهو أمر متعذر؛ لتعارض وجهات نظر الفريقين، وإما إخراج البكوات من مصر - وهو كذلك أمر متعذر لتعارضه مع رغبات المماليك الذين استندوا في دعاواهم على ارتباطات «هتشنسون» معهم، وكانوا يرجون من وساطة الإنجليز تمكينهم من السيطرة الفعلية على الحكومة، وليس إقصاءهم من البلاد كلية، واتخذوا من «وثيقة العهد الأعظم » - خطاب «هتشنسون» إلى عثمان الطنبورجي - مبررا لادعاءاتهم عليهم، ومطالبهم منهم.
ووصل «ستراتون» إلى الإسكندرية في 10 يناير سنة 1802 بعد رحلة دامت ثلاثة أسابيع، ورفض «كافان» طلب الوزراء العثمانيين تسليم البكوات المماليك بدعوى أن ارتباطات سلفه «هتشنسون» تمنعه من ذلك، وعندما أظهر له «ستراتون» تعليمات «إلجين» السرية وسأله رأيه في الطريقة العملية لإقناع البكوات بإخلاء مصر بالشروط المبينة، ثم طلب إليه مساعدته للتأثير عليهم بقبولها لضمان سلامتهم، وحتى يتسنى للحكومة الإنجليزية تنفيذ وعودها للباب العالي بشأن إرجاع مصر إلى السلطان العثماني بعد طرد الفرنسيين منها، أظهر «كافان» أنه لا يريد استخدام أي عنف مع البكوات بطردهم من مصر، أو حتى لإرغامهم على البقاء في الجيزة أكثر مما يريدون، ولكنه أخذ على عاتقه بذل النصح لهم راجيا أن يصغوا لنصحه إذا عرضت عليهم مقترحات معتدلة، وفي 15 يناير قرر «كافان» الذهاب إلى القاهرة لإنهاء هذه المسألة واصطحب معه «ستراتون» فبلغاها في 20 يناير، وتعددت الاجتماعات من يوم وصولهما حتى يوم 24 يناير مع الصدر الأعظم والقبطان باشا والريس أفندي، وحضر بعض هذه الاجتماعات كذلك خسرو باشا والكخيا بك والدفتردار، وقابل «شابير»
Chabert
ترجمان «كافان» و«ستراتون» البكوات، ورفض البكوات رفضا قاطعا الذهاب إلى القسطنطينية أو غيرها، وعبثا صار «كافان» يحاول إقناعهم بخطأ معارضتهم للباب العالي، وأخيرا أعلنوا أنه إذا لم يمنحهم الباب العالي حق الإقامة في الصعيد، فلا يسعهم سوى شكر الضباط البريطانيين الذين أولوهم حمايتهم، ثم مغادرة الجيزة والانسحاب إلى مكان آخر، وطلب البكوات أن يعطوا الصعيد ابتداء من اثني عشر أو أربعة عشر فرسخا من القاهرة، ورفض الصدر الأعظم، وعندئذ قرر البكوات الرحيل فورا، وكان بعد لأي وعناء أن توسط «كافان» و«ستراتون» لحملهم على البقاء خمسة أيام أخرى، فقبلوا على شريطة ضمان سلامتهم، ووعد الصدر بذلك، ونصح «كافان» البكوات باجتناب أي عمل سريع من شأنه إثارة الحرب الأهلية، فوعد البكوات بالتشاور فيما بينهم وإبلاغه قرارهم في اليوم التالي، ولكن البكوات رحلوا في مساء اليوم نفسه 24 يناير متجهين صوب الصعيد، وبعث إبراهيم بك وعثمان البرديسي «الذي تزعم بيت مراد بعد مقتل عثمان الطنبورجي في مكيدة أكتوبر المعروفة» بخطاب إلى الجنرال «ستيوارت» في 25 يناير يعللان فيه سبب رحيلهما بقولهما: «إنه لا فائدة ترجى من بقاء البكوات بينما بلغهم من الصدر الأعظم بناء على أوامر حكومته أن لا يعطوا أرضا في مصر، وأنهم إنما قرروا الرحيل حتى يطمئنوا على أنفسهم»، ثم استطرد إبراهيم والبرديسي يذكران الإنجليز بوعودهم فقالا: «ولقد وعدنا ملك بريطانيا العظمى بالحماية والأمن على أرواحنا وأموالنا وأسرنا، ومع ذلك فإن شيئا من هذه الوعود لم ينفذ، ولا تزال أسرنا وأملاكنا في أيدي الأتراك»، ثم صارا يرجوان أن يطلع اللورد «كافان» على حالتهم «وهم الذين يطلبون دائما حماية الجيش البريطاني، ويوصونه خيرا بأسرهم التي تركوها في القاهرة في حمايته»، ثم قال إبراهيم والبرديسي «إن البكوات حتى يبرهنوا على استعدادهم لقبول أي شيء، فهم يرضون بمديرية جرجا التي دافعوا عنها ضد الفرنسيين»، وحاول «ستيوارت» - دون جدوى - إقناعهم بالنزول من الصعيد والعودة، ولكن هؤلاء أجابوا في 27 يناير بأنهم قرروا البقاء به حتى يتسنى «لأولئك الذين وضع البكوات أنفسهم تحت حمايتهم؛ أي الإنجليز تقرير مكان ثابت ومحدد لإقامتهم في مصر.»
وأما الصدر الأعظم فقد اعتزم مطاردتهم، وطلب من «كافان» إمداده بقوات إنجليزية لهذه الغاية، ورفض «كافان» بدعوى عدم وجود تعليمات لديه تمكنه من ذلك، وكتب الريس أفندي في 26 يناير إلى «كافان» يشكو من أن المماليك عند إقامتهم مع الجنرال ستيوارت في الجيزة صاروا يشيعون في كتب مدونة أن إنجلترا قد تعهدت بإرجاعهم إلى حالهم الأولى، ويحذرون رؤساء القرى والعزب المجاورة من إطاعة ضباط الباب العالي؛ لأن مصر «دائما تحت سلطانهم، وإذا عارضوهم فسوف يقتصون وينتقمون منهم»، وطلب الريس أفندي من «كافان» أن يصدر تصريحا كتابيا ورسميا بأن إنجلترا صديقة حميمة وحليفة مخلصة للباب العالي ولا تسمح بأي ضرر يلحق بمصالح الحكومة العثمانية، وأنه بدلا من حماية البكوات، بل وبعيدا كل البعد من ذلك؛ فإن حكومة إنجلترا لا يسعها إلا إظهار استنكارها كل الاستنكار لمسلك البكوات الذين ظهروا عصاة ثائرين ، ولكن «كافان» امتنع عن إصدار هذا التصريح؛ لأن معناه - كما قال في جوابه على رسالة الريس أفندي في 28 يناير: «التدخل في شئون مصر الداخلية، الأمر الذي يتنافى مع التعليمات المعطاة له»، ولكن «كافان» أعلن في الوقت نفسه، أنه لا يتردد عن التصريح بأن غرضه لم يكن أبدا ولن يكون تشجيع أو تأييد البكوات والمماليك بصورة ما أو أي طبقة أخرى من الأفراد عند اتخاذهم مسلكا معاديا لسلطة سلطانهم الشرعي إمبراطور الأتراك والحليف المخلص القديم للملك البريطاني.
ولم تفد شيئا هذه التصريحات بطبيعة الحال، واستمر البكوات في سيرهم إلى الصعيد؛ حيث كان الألفي رابضا به وعبثا حاول طاهر باشا رئيس الأرنئود إقناع البكوات بالعودة، وإطاعة الصدر الأعظم الذي يعدهم بالصفح ويؤمنهم على أشخاصهم وأملاكهم وأسراتهم باسم حكومته وباسم عظماء الجيش العثماني بأسرهم، ولكن هؤلاء أجابوه بأن الإنجليز - ولو أنهم أصدقاء للباب العالي - قد تحملوا مشقات عظيمة من أجل فكاكهم من الأسر، وبالرغم من الجهود التي بذلوها حتى يحصلوا على حق الإقامة في مصر فقد ذهبت هذه الجهود جميعها سدى، فكيف يطلب العثمانيون بعد هذا كله أن يثق البكوات فيهم وفي وعودهم؟ وكتب إبراهيم بك إلى ستيوارت في 29 يناير أن الغرض من محاولة طاهر باشا نصب الفخاخ لهم لحرمانهم من حماية الجيش البريطاني، وقد أقسم له البكوات: «لو أن الصدر الأعظم عرض عليهم مصر بأسرها من غير حماية الإنجليز كضمان لهم ما نزلوا الصعيد.»
فكان انسحاب البكوات بهذه الصورة مؤذنا ببداية الحرب الأهلية؛ لأنهم عندما غادروا الجيزة كانوا حوالي الألفين، بينما كان لدى الألفي في الصعيد حوالي الخمسمائة، ولم ينشق على إخوانه سوى واحد منهم فقط هو «قاسم بك» الذي طلب الصفح من الصدر، واستعد طاهر باشا للزحف عليهم بجيش يتراوح بين الأربعة آلاف والخمسة آلاف، ويعتمد على أسطول مدفعية نهرية.
وهكذا فشلت مهمة «ستراتون» ووقع ما كان يخشاه الإنجليز من نشوب «الحرب الأهلية» وعدم استقرار الحكومة وتعرض مصر للغزو الأجنبي نتيجة لذلك، إذا أخلاها الإنجليز، ولم يبق على موعد عقد الصلح العام سوى شهور قليلة.
وغادر «ستراتون» الإسكندرية في 15 فبراير سنة 1802 قاصدا القسطنطينية، فوصلها في 18 مارس، وفي آخر مارس كتب إلجين إلى «هوكسبري»، يعلل في الحقيقة الأسباب التي نجم عنها فشل «ستراتون» في مهمته - كما رآها - ويذكر النتائج المترتبة على هذا الفشل، فقال: إن مبعث الارتباك الذي شعر به عند إصدار تعليماته إلى ستراتون «أنه كان يجهل جهلا تاما أسباب النزاع أو تطوراته؛ لأنه لم ير مطلقا خطاب السير جون هتشنسون لعثمان بك الطنبورجي والذي يرتكز عليه الموضوع كله ...» ثم علق على مسألة الارتباطات التي ارتطمت بصخرتها - في نظره - كل المحاولات التي بذلت من أجل الوصول إلى تسوية بين المماليك والباب العالي، فقال: «إن الأتراك يدركون تمام الإدراك أن مطالب البكوات إنما هي الظفر بالسيادة على مصر، وأن جميع المنازعات التي وقعت في الماضي بين الأتراك والمماليك انتهت جميعها بفوز المماليك وخسارة الأتراك خسارة جسيمة، وفضلا عن ذلك فإن البكوات في أثناء المؤتمرات التي عقدها «ستراتون» رفضوا - في الوقت الذي طالبوا فيه بالصعيد - أن يتركوا بيوتهم في القاهرة يريدون أن يوحوا بذلك أنه سوف تجيء سريعا الفرصة لاستخدامها.» وهكذا بدأت الحرب الأهلية فعلا؛ لأن الجنود العثمانيين في القاهرة قد غادروها جميعهم مع أسطول من سفن المدفعية، لمطاردة المماليك، وذلك بعد عشرة أيام من مغادرة ستراتون القاهرة.
ولا جدال في أن «إلجين» منذ أن أصدر تعليماته إلى ستراتون، وعلى نحو ما يتضح من رسالته هذه الأخيرة، كان قد صار يؤيد وجهة النظر التركية، أضف إلى هذا أنه لم يطلع الباب العالي على آراء حكومته بصدد مسألة البكوات؛ لأنه كان يبني آمالا كبيرة على نجاح ستراتون في مهمته ويرجو أن لا يجد نفسه في حاجة إلى إطلاع الباب العالي عليها إذا نجح ستراتون، أما وقد فشل هذا في مهمته، فقد ترك «إلجين» لهذا السياسي الهادئ إخراجه من هذا المأزق، فترك له شئون السفارة وأبحر في 29 مارس سنة 1802 إلى أثينا ينشد الراحة.
وأما سياسة حكومته فلم يطرأ عليها أي تبدل، بل استمرت تبغي الوصول إلى تسوية بين البكوات والباب العالي، لا على أساس إخراج البكوات من مصر، بل على أساس الارتباطات التي أعطاها لهم هتشنسون، وذلك لإنشاء الحكومة المستقرة التي تستطيع دفع الغزو الفرنسي عن البلاد إذا تجدد - هدف الحكومة الإنجليزية دائما - وكانت الحكومة الإنجليزية لا ترى أي تناقض بين تحقيق هذه الرغبة، وبين إرجاع مصر إلى تركيا، بل ارتبط الأمران في نظرها أحدهما بالآخر، وصح عزمها على الوصول إلى هذه التسوية بين المماليك وتركيا عندما وصلت أنباء بمكيدة القبطان باشا والصدر الأعظم إلى لندن، فقد بادر هوكسبري بالكتابة إلى إلجين في 27 يناير سنة 1802 يبحث عن الأثر الذي أحدثته هذه المكيدة في الدوائر المسئولة بلندن، ورأى لزاما عليه أن يفسر بصورة أوضح التعليمات التي أصدرها إلى «إلجين» في 19 مايو، وفي 28 يوليو سنة 1801 لإظهار تمسك حكومته بالمبدأ الذي اشتملت عليه تعليمات «19 مايو» وهو إرجاع مقاطعة مصر إلى الباب العالي، وعدم التدخل في شئونها، اللهم إلا فيما يتعلق بوضع قوة بريطانية على شاطئها حتى يحين موعد عقد السلام العام؛ وذلك للدفاع عنها ضد أي غزو فرنسي جديد، كما أن غرض حكومته للسبب نفسه هو إبطال مساعي الفرنسيين الذين يحاولون إضعاف البلاد بإشاعة التفرقة والانقسام بين أحزابها وجماعاتها حتى تعجز عن الدفاع عن نفسها، وقد استطرد هوكسبري بعد ذلك يقول: «إنه عند إصدار هذه التعليمات لم يكن غرض الحكومة الإنجليزية أن تملى هذه الخطة إملاء على الحكومة العثمانية، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن «هتشنسون» قد تدخل من غير ضرورة في شئون مصر الداخلية، ولو أن الظاهر قطعا من الآراء التي أبداها أن الفضل لدرجة كبيرة في نجاح الأتراك والبريطانيين في طرد الفرنسيين منسوب لتعاون البكوات معهم، وكان في هذه الظروف إذن أن صار تشجيع المماليك للانضواء تحت الراية البريطانية وأعطيت الحماية لهم، وهم لوثوقهم في كلمتنا قد أقبلوا على مساعدتنا، وكل ما فعله «هتشنسون» كان حماية أرواحهم وأملاكهم من اعتداءات الأتراك، وفي وسع كل إنسان أن يدرك مبلغ وقع هذه المكيدة في نفس «هتشنسون»، ولا شك في أن الحكومة الفرنسية سوف تفيد من هذا الظرف لاسترجاع نفوذها لدى الباب العالي، وسوف يقدمون هذا دليلا لتأييد ما يقولونه من أن البكوات قد استندوا في ثورتهم على النفوذ الإنجليزي، الذي حركهم عليها، وأن الفرنسيين لم يحتلوا مصر إلا لضمان المصالح العثمانية ضد المماليك.» وقال «هوكسبري»: إن على اللورد إلجين أن يبذل قصارى جهده لمحو آثار مثل هذه الأقوال من ذهن الباب العالي.
ثم كان في 16 فبراير سنة 1802 أن بعث جورج الثالث برده على كتاب السلطان سليم الذي بعث به إليه في 23 نوفمبر سنة 1801 بعد حادث المكيدة، يرجوه إصدار أوامره إلى قواده وسائر العسكريين البريطانيين في مصر؛ حتى يكفوا عن مناصرة المماليك، ولا يصروا على بقائهم في مصر فأكد «جورج الثالث» في كتابه حينذاك «أنه لم يجل في خاطره بتاتا التدخل في شئون مصر الداخلية، إلا فيما يتعلق بتنفيذ التعهدات التي يكون قد حصل الارتباط فيها باسمه، ولكن عزمه هو أن تترك هذه البلاد؛ أي مصر تحت تصرف «السلطان سليم» إطلاقا في كل أمر من أمورها عدا ما ذكره.»
وكان معنى هذا أن الحكومة الإنجليزية - مع ارتباطها بإرجاع مصر إلى تركيا - لا تزال متمسكة بضرورة تسوية مسألة المماليك على أساس إبقائهم في مصر وعدم إخراجهم منها، على خلاف ما يريد الباب العالي، واستتبع ذلك تجديد الوساطة مرة أخرى لإنهاء الخلافات بين الباب العالي والمماليك.
بعثة ستيوارت
وتعين بعثة «ستيوارت» في الحقيقة آخر أدوار أو مراحل الوساطة التي بذلت الحكومة الإنجليزية في سبيلها جهودا متصلة من أيام حملة أبركرومبي سنة 1800، حتى إذا فشلت وساطة ستيوارت، وتتابعت الحوادث في مصر بعد ذلك بصورة أقنعت الحكومة الإنجليزية بأن البلاد قد وقعت فريسة للفوضى - أو الحرب الأهلية - وتعرضت أكثر من ذي قبل لخطر الغزو الفرنسي عليها بسبب جلاء الجنود البريطانية عنها، اتجه تفكير السياسيين والعسكريين الإنجليز إلى ابتكار شتى المشروعات التي تحقق أغراضهم سواء جاء تنفيذها بموافقة الباب العالي أو بالرغم منه ، وثمة ملاحظة أخرى هي أن ارتباطات هتشنسون على أساس إرجاع السيطرة الفعلية في البلاد إلى المماليك، صارت من الآن فصاعدا نقطة الارتكاز في كل الحلول أو المشروعات التي ارتأتها الحكومة الإنجليزية لتأمين الدفاع عن مصر.
وكان عقد الصلح العام في إميان في 25 مارس سنة 1802 حافزا للحكومة الإنجليزية على تجديد مسعى الوساطة؛ لأنه تحتم عليهم بموجب هذا الصلح إخلاء مصر وتسليمها للعثمانيين، فدعت الضرورة الملحة - الآن أكثر من أي وقت مضى - إلى تنظيم شئون مصر، قبل الإخلاء نهائيا، بصورة تمكن الإنجليز من تنفيذ ارتباطاتهم مع الباب العالي؛ أي إرجاع هذه البلاد إليهم، ثم تمكنهم في الوقت نفسه من الاحتفاظ «بالشرف البريطاني» وتنفيذ ارتباطاتهم أيضا مع البكوات المماليك.
واختير لهذه المهمة الجنرال السير جون ستيوارت، وهو الذي حضر المكيدة المعروفة، وقام بدور هام في إطلاق سراح بكوات القاهرة، وتراسل معه البكوات في أثناء وجود ستراتون بها، وقد غادر ستيوارت مصر بعد ذلك، وكان بإنجلترا عندما وقع اختيار حكومته عليه لهذه المهمة، وقد اتصل به المسئولون منذ أبريل سنة 1802، فاستشاره اللورد هوبارت في موضوع حكومة مصر المستقبلة، وكان رأي ستيوارت الذي أدلى به إلى حكومته في 29 أبريل هو إرجاع حكومة البكوات بروحها الحقيقية والصحيحة، فيدفعون للباب العالي خراجا يزيد زيادة كبيرة على ما كانوا يدفعونه في الماضي، وعلى أن تكون هذه الحكومة المملوكية تحت حماية بريطانيا، كما أشار بإقامة ضابط إنجليزي في مصر يشرف على تنفيذ تعهدات البكوات مهمته التدخل لضمان قيامهم بالتزاماتهم وتسلم الخراج المستحق للسلطان العثماني، وكان ستيوارت يرى في هذا الترتيب جملة فوائد؛ أولها: تجنب قيام الحرب الأهلية؛ لأنه بمجرد رحيل الجيش البريطاني من البلاد سوف يشتبك المماليك في معارك طاحنة مع الأتراك لطردهم من الوجه البحري، وثانيها: الاطمئنان إلى أن مصر في وسعها رد الغزو الفرنسي عنها، وثالثها: أن إقامة حكومة مملوكية في مصر بواسطة الإنجليز سوف يوجد بها جماعة طيعة تمتثل لإرادة الإنجليز وتخلص في رعاية مصالحهم.
فكان عندئذ أن سعت الحكومة لمعرفة مدى الارتباطات التي ارتبط بها «هتشنسون» مع البكوات المماليك، فاستشارت في هذا الشأن الكلونيل «روبرت أنستروثر » الذي تقدمت الإشارة إليه، وقد قدم هذا مذكرة إلى حكومته في 8 مايو سنة 1802 تضمنت «مشروع هتشنسون» على نحو ما ذكرناه سابقا.
وأخذت الحكومة بنصيحة «ستيوارت» فأصدرت تعليماتها إليه في 10 مايو تحدد الغرض من إرساله إلى مصر «لمحاولة عقد اتفاق ودي بين ممثلي الحكومة العثمانية في مصر وبين المماليك»، وبالرغم من احتمال فشل هذا المسعى بسبب الاستعدادات التي يقوم بها العثمانيون لمطاردة البكوات في الصعيد، فإنه من المحتمل كذلك من ناحية أخرى استمالة الباب العالي والبكوات للاتفاق الأول لأن مغادرة الجنود البريطانيين لمصر قد تحدد لها وقت معين، والآخرين يجعلهم يدركون أنه إذا لم يمكن الوصول إلى اتفاق بتوسط الإنجليز الآن، فقد يتحول النزاع بينهم وبين العثمانيين إلى حرب إبادة وفناء تقضي على الفريقين، وأما الاتفاق الذي يبدو أكثر قبولا من غيره بالنسبة لمصلحة الباب العالي وتأمين البكوات وصيانة المصالح البريطانية بطرد النفوذ الفرنسي من مصر، فهو «إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي» مع زيادة قيمة الخراج الذي يجب أن يدفعه البكوات في المستقبل، اعترافا منهم بحقوق السيادة التي للحكومة العثمانية عليهم»، وأما إذا رفض الباب العالي هذا الحل، فيجري حينئذ الاتفاق على إعطاء البكوات إقليم الصعيد ابتداء من جرجا جنوبا.
وطلب هوكسبري في تعليماته هذه أن يذهب ستيوارت إلى القسطنطينية في طريقه إلى مصر حتى يبلغ «إلجين» رغبات حكومته، وحتى يتضافر الاثنان في جهودهما لإقناع الباب العالي بقبول أحد هذين الحلين أو غيرهما من المقترحات التي تكفل إرجاع الهدوء والسلام إلى مصر، وذلك قبل أن يحين موعد جلاء الجيش البريطاني عنها، والذي لا تستطيع الحكومة الإنجليزية إبقاءه فيها بعد شهر يوليو؛ ولذلك فقد طلب إلى ستيوارت الذهاب بسرعة إلى الإسكندرية حتى يجد من الوقت ما يكفي لتنفيذ التعليمات ولإبحار الجنود منها.
وأرسل هوكسبري في الوقت نفسه تعليماته إلى «إلجين» حتى يسترعي انتباه الباب العالي لضرورة فحص مسألة الاتفاق بينه وبين البكوات، وحتى يوضح للأتراك مدى الأخطار التي لا مفر من تعرض مصلحة الحكومة العثمانية ذاتها لها إذا هي لم تستطع الإفادة من فرصة وجود القوات البريطانية في هذا الوقت في مصر لإنهاء الخلافات بينها وبين البكوات.
فوصل ستيوارت القسطنطينية في 19 يوليو، وكان رأي الباب العالي عند وصوله وعلى نحو ما أوضحه في مذكرة بعث بها إلى «ستراتون» منذ 8 مايو عدم السماح باسترداد البكوات لأملاكهم وأراضيهم وعودتهم إلى وضعهم السابق؛ لأن من شأن ذلك «إثارة متاعب لا نهاية لها في الحاضر والمستقبل لتركيا، ويدعو لحدوث انقلاب كلي في نظام البلاد الداخلي»، وفضلا عن ذلك فقد حددت تركيا موقفها من تدخل إنجلترا في هذه المسألة بقولها: «إن ملك بريطانيا قد أعطى تأكيدات قاطعة بأنه لا رغبة له في التدخل بأية صورة من الصور في شئون مصر الداخلية، وأن نواياه الصادقة هي ضمان عودة هذه المقاطعة إلى الباب العالي وخضوعها لتصرفه المطلق»، وعلى ذلك فقد لقي «ستيوارت وستراتون» - الذي صحبه - عند مقابلة الريس أفندي في 22 و29 يوليو رفضا باتا للمقترحات التي عرضاها عليه بشطريها: إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي أو إعطاء البكوات إقليم الصعيد ابتداء من جرجا جنوبا، فكان جواب الريس أفندي «إنه يستحيل على الباب العالي أن يقبل أي اتفاق يسمح للبكوات بالإقامة والبقاء في مصر، فذلك شر استمر من زمن طويل مصدر متاعب ومبعث قلق للباب العالي ومن الحكمة والسياسة استئصاله، ولا خطر على الباب العالي من قتالهم ومحاربتهم لنقص أعدادهم، ولأن استمرار المعارك سوف يبيدهم في النهاية، وكل ما يفعله الباب العالي هو أن يعفو عن جرائمهم وأن يقلدهم مناصب شرف ويجري عليهم معاشات يضاعفها لهم على شريطة أن يغادروا مصر بسلام ويذهبوا للعيش في أي بلد يريدونه»، وقد أوضح «ستراتون» سياسة الأتراك هذه، فكتب إلى هوكسبري في 3 أغسطس «أنه يبدو له أن لدى الحكومة العثمانية مبدأ أساسيا يقوم على أن بقاء وإقامة البكوات في مصر متناقض تماما مع سلطة السلطان العثماني الفعلية في هذه المقاطعة، وهم يرون أن النزاع بين الحكومة العثمانية وبين البكوات لا يدور حول ازدياد ثراء وقوة البكوات كرعايا للسلطان ، ولكن حول الفصل فيما إذا كان السلطان العثماني أو البكوات هم الذين تصبح لهم السيادة في مصر؛ ولذلك فمن رأيه؛ أي رأي ستراتون أن إبادة وفناء أحد هذين الفريقين المتنازعين هو وحده السبيل إلى إعادة الهدوء والسلام إلى مصر، وفي مثل هذه الظروف لا يمكن تحقيق مهمة «ستيوارت».»
وقبل مغادرته القسطنطينية، سلم قائمقام الصدارة الجنرال ستيوارت كتاب توصية منه إلى خسرو باشا في القاهرة بتاريخ 30 يوليو، يذكر فيه عفو الباب العالي عن البكوات وصفحه عن جرائمهم، وأن للبكوات أن يذهبوا إلى أي مكان يختارونه خارج مصر، إلى رودس أو كريت أو سالونيك أو أزمير أو جنوبها في «آيدين
Aïdin » أو في القسطنطينية، «يعيشون في سلام ويدعون للسلطان»، ويصرف الباب العالي لهم معاشات ضعف ما عرضه قبلا، وفوض الباب العالي خسرو باشا في إعطاء البكوات الأمان وجوازات المرور اللازمة، كما أجاز له إذا رغب المماليك - بعد خروج البكوات - أن يلتحقوا بخدمة الجيش العثماني، أن يقبلهم خسرو في هذه الخدمة لقاء مرتبات يدفعها لهم.
ومع أن ستيوارت وستراتون ظلا يحاولان إقناع الباب العالي بالعدول عن رأيه، فقد رفض الريس أفندي كل مقترحاتهما، حتى إن ستراتون صار يعتقد أن الإرغام وحده هو الوسيلة لحملهم على الاتفاق، وأما ستيوارت فقد كتب إلى هوبارت في 17 أغسطس يعلل سبب إخفاقه في مهمته في القسطنطينية، بأن التعليمات المعطاة له لم تجعل إخلاء الجنود البريطانيين لمصر مرتهنا بقبول الأتراك للاتفاق، وفي اليوم نفسه غادر ستيوارت القسطنطينية وهو لا يزال يعتقد أن الفرصة لما تفلت من يده بعد، ويحدوه الأمل في النجاح عند وصوله إلى الإسكندرية.
وكان ستيوارت في أثناء رحلته إلى القسطنطينية قد كتب إلى «كافان» من مالطة ينبئنه بمهمته، فبادر «كافان» بإبلاغ خسرو في 18 يوليو بمهمة ستيوارت في القسطنطينية وفي مصر «للوصول إلى السلام والاتفاق الودي بين الباب العالي والبكوات المماليك»، وطلب «كافان» مساعدة خسرو ومعاونته في ذلك؛ لأن مصلحة الباب العالي تقتضي إنهاء الخلافات بينه وبين البكوات، كما طلب منه جواز مرور لترجمانه «فنشينتزو تابرنا» وياوره «ديساد
Desade » حتى يذهبا إلى البكوات لإبلاغهم الموقف ولرجائهم أن يرسلوا مندوبين عنهم إلى الإسكندرية مخولين سلطات كاملة للمفاوضة والاتفاق عند وصول الجنرال «ستيوارت» وسماع شروط الاتفاق التي يعرضها عليهم الباب العالي، كما زود «كافان» في الوقت نفسه ياوره «ديساد» برسالة إلى إبراهيم بك يبلغه إيفاد الجنرال «ستيوارت» إلى القسطنطينية من قبل حكومته والمهمة المكلف بها، ويطلب إليه إرسال المندوبين اللازمين للمفاوضة والاتفاق.
ولكن خسرو رفض أن يسمح لياور اللورد «كافان» بالذهاب إلى البكوات والاتصال بهم، وتعهد بإيصال رسائل «كافان» إليهم، دون أن يفضها، ولكن «كافان» رفض بدوره لعدم ثقته به، واستند خسرو فيما فعل إلى أن تعليمات حكومته له تمنعه من كل اتصال بالمماليك، وتأمره بالاستمرار في الحرب ضدهم، وأنه لا مبرر في الحقيقة لخرق هذه التعليمات الآن ما دام من المنتظر حضور «ستيوارت» قريبا، ومن المتوقع أن يأتي معه بأوامر الباب العالي في هذه المسألة، وعلى ذلك فقد رجع «ديساد» إلى الإسكندرية، وكان كل ما وعد به خسرو باشا - برهانا على حسن نواياه - هو وقف زحف طاهر باشا ضد البكوات حتى يحضر الجنرال «ستيوارت»، ووقف كل العمليات العسكرية ضدهم إذا وعد اللورد «كافان» من جانبه وعد صدق وشرف، أن المماليك يقبلون الانسحاب إلى ما بعد «إسنا» دون أن يؤذوا القرى والسكان في أثناء انسحابهم، وعلى أن يحترموا جنود الباب العالي في أي مكان قد يقابلونهم فيه.
وعلى ذلك فإنه عندما وصل «ستيوارت» إلى الإسكندرية في 27 أغسطس لم يجد أحدا من مندوبي البكوات في انتظاره، ولكنه لم يفقد الأمل؛ ذلك أن المماليك الذين أغضبهم إصرار الباب العالي على الانتقام منهم، وإصرار خسرو باشا على تعقبهم وعزمه على مطاردتهم؛ ما لبثوا أن ولوا وجوهم شطر القاهرة، وزحفوا صوب الشمال حتى وصلوا إلى منتصف المسافة بين جرجا والقاهرة بعد أن هزموا الأتراك في معارك شديدة وحملوهم خسائر كبيرة، فوجد «ستيوارت» في هذه الحوادث ما يشجعه على بدء مساعيه، فأرسل في 30 أغسطس اللورد «بلانتاير»
Blantyre
ياوره لمقابلة خسرو في القاهرة، وفضلا عن ذلك فقد شعر «ستيوارت» بعد انتصارات المماليك الأخيرة بأنه صار يشق عليه كثيرا أن يبلغ البكوات نتائج مفاوضاته في القسطنطينية؛ أي فشلها وإصرار الباب العالي على خروجهم من مصر؛ لأنه تذكر - كما قال في رسالة بعث بها من الإسكندرية إلى اللورد هوبارت في 3 سبتمبر - الوعود التي أغرتهم أصلا على ترك أماكنهم الأمينة بالصعيد، وشعر بصعوبة إعلان قرار إليهم لا يمكن أن يؤثر عليهم أو يكون بمثابة النصيحة لهم الآن، ولكنه يحمل في الوقت نفسه فكرة أنهم قد صاروا متروكين لرحمة الظروف والمقادير، وقد حداه هذا الشعور نفسه إلى الكتابة للرئيس أفندي في 3 سبتمبر أيضا بأن شروط الاتفاق التي تضمنتها مذكرة الباب العالي له في 10 ديسمبر غير مجدية، بينما كانت هناك ارتباطات مع البكوات وتعهدات أعطيت لهم باسم ملك إنجلترا، يتساءل «ستيوارت» الآن عما إذا كان الريس أفندي يعتقد أن لها من القدسية ما يجعلها مقبولة كأساس للاتفاق بين الباب العالي والمماليك، وعما إذا كانت المقترحات التي بعث بها «ستيوارت» نفسه إلى الريس أفندي قبل مبارحته القسطنطينية بتاريخ 6 أغسطس تصلح أساسا لهذا الاتفاق، وقد كانت هذه المقترحات مطابقة لما جاء في تعليمات هوكسبري له (10 مايو)، فاشتملت على إعطاء الصعيد للبكوات ليس كإقليم يستقلون به، ولكن كحكومة تابعة للسلطان العثماني، وتخضع لرقابة وإشراف الباشا العثماني في القاهرة، وعلى أن يمارس البك الحاكم وظيفته باسم الباب العالي فيبقيه أو يعزله حسب مشيئته، وأن يدفع البكوات الخراج المعقول للباب العالي، ويسمح لهم بنقل أموالهم والتصرف في أملاكهم التي بالقاهرة، وذلك كله مع إدخال تعديلات في نظام المماليك بصورة تكفل ارتياح الباب العالي لها ونفع سكان البلاد.
ولا شك في أن مبعث هذا الشعور بإخفاق مهمته سلفا، ما توقعه من رفض خسرو باشا لأي اتفاق مع البكوات على أساس غير إخراجهم من مصر، على أن «ستيوارت» لم يعدم الأمل في حمل خسرو على الموافقة إذا تسنى له إقناعه بأن تصميمه على رفض المفاوضة مع المماليك من شأنه تأجيل خروج الإنجليز من البلاد، ولم يتوان «ستيوارت» عن التلميح بهذا الرأي لحكومته، والإيحاء إليها بأنه الوسيلة المجدية لحمل الأتراك على الاتفاق، فقال في رسالته إلى «هوبارت» في 3 سبتمبر - وهي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها - «وأما إذا كانت هذه؛ أي تأخير الجلاء حتى يتم الاتفاق، هي رغبة حكومة جلالة الملك الحقيقية، فالجيش البريطاني في مصر يجد صعوبات لا ندحة عن إخبار حكومته بها؛ لأن الجيش في حاجة قصوى إلى مختلف أنواع المؤن والاستعدادات اللازمة لإقامته، حيث إن تسليم القلاع الرئيسية مع مخازنها للأتراك واشتراك الحاميات مع الجنود الأتراك يعرض الجيش بعد هذا لارتباكات خطيرة لا حصر ولا عد لها.»
وفي الواقع صح ما توقعه ستيوارت، ورفض خسرو كل ما عرضه عليه، ورفض أن يسمح له بالاتصال بالبكوات على نحو ما فعل «كافان»، وضاق ستيوارت ذرعا عندما وصلته ووصلت اللورد «كافان» رسائل من البكوات يوم 28 سبتمبر تحمل إليهما أخبار وصولهم إلى مديرية الفيوم حتى صاروا على مسافة يومين من القاهرة، بعد أن انتصروا على الأتراك في خمس معارك، ومع أن البكوات قالوا إنهم ليسوا في حاجة إلى مؤن فقد أشاروا إلى تعاسة الحرب المستمرة، وأكدوا رغبتهم في السلام على أساس تعيين مكان ثابت لإقامتهم في مصر، واعتقد ستيوارت في هذه الظروف أن البكوات لن يرضوا بأي اتفاق يقوم على أساس نفيهم إلى خارج البلاد، كما صار يعتقد أن ممثلي الباب العالي ورجاله أصحاب السلطة في مصر، يخفون حقيقة الأمور عن الوزراء العثمانيين في القسطنطينية، كما كان راسخا في ذهنه أن الباب العالي نفسه مصمم على تنفيذ أغراضه بالقوة المسلحة، ينهض دليلا على ذلك نزول حوالي الخمسة آلاف أو الستة آلاف جندي ألباني ومقدوني وغير ذلك في أبي قير ورشيد في غضون شهري أغسطس وسبتمبر، علاوة على ثمانية آلاف وصلوا إلى دمياط من جهات الشام، أضف إلى هذا كله أن اللورد «كافان» صار مصمما على الاستقالة، وبات من المنتظر مبارحته للبلاد عند أول فرصة سانحة، فكان لهذه الأسباب جميعها أن أعلن ستيوارت رغبته في التزام الحياد من الآن فصاعدا، تاركا للورد «إلجين» في القسطنطينية مهمة إقناع الباب العالي، وكتب إليه بتفصيلات كل ما وقع في 29 سبتمبر 1802.
وشغل «ستيوارت» منذ أن تسلم القيادة بعد مغادرة اللورد «كافان» للبلاد في 10 أكتوبر، باسترجاع قلعة الفنار
«طابية قايتباي»، وكان أحمد خورشيد حاكم الإسكندرية قد بادر باحتلالها بعد تنازل «كافان» عنها على اعتبار أن الجيش البريطاني سوف يخلي الإسكندرية تباعا، فطالب ستيوارت الآن باستردادها مستندا إلى أن كافان إنما أخلاها على شريطة استعادتها في أي وقت يشاء، فدارت المكاتبات بينه وبين خورشيد مدة، شعر ستيوارت في أثنائها بازدياد علاقاته سوءا مع ممثلي الباب العالي، ولكنه استطاع أن يدخل بهذه القلعة قوة كبيرة (19 أكتوبر)، واستاء خورشيد واحتج خسرو، ولكن دون جدوى؛ لأنه؛ أي ستيوارت، كان يخشى من الطاعون الذي أخذ يتفشى وقتئذ بسبب مجيء السفن اليونانية والتركية دون انقطاع إلى الميناء الغربية من كافة موانئ الليفانت الموبوءة. ولأنه كان يعتقد - في قرارة نفسه - أن ما تنطوي عليه هذه الخطوة من إظهار عزمه على البقاء وتأخير الجلاء قد يحمل خسرو والباب العالي على الاتفاق مع المماليك، وفي 19 أكتوبر طلب «ستيوارت» من حكومته «تعليمات نهائية توضح ما يجب أن يكون عليه مسلكه شخصيا» في الظروف القائمة.
ذلك كان الموقف إذن عندما وصل «هوراس سباستياني» إلى الإسكندرية في 16 أكتوبر سنة 1802 يظهر دهشته - كما قدمنا - من استمرار الجيش البريطاني في مصر وعدم جلائه عنها، وقد ذكرنا عند الكلام عن بعثة سباستياني في مصر مبلغ الأثر الذي تركه نشاطه في نفس «ستيوارت»، وكيف أن هذا الأخير قد اتخذ من مجيء «سباستياني» إلى مصر وقرب وصول «القنصل الفرنسي» دروفتي دليلا على نوايا فرنسا العدوانية نحو مصر، واهتم ستيوارت باستجلاء أغراض هذه البعثة، وقال «ستيوارت» في رسالته التي فصل فيها إلى اللورد هوبارت في 18 أكتوبر أخبار هذه البعثة «إنه يجرؤ للمرة الثانية فيعبر عن اعتقاده الراسخ بأن الفرنسيين ينوون سواء بطريق المفاوضة أو بطريق أكثر صراحة ووضوحا استرجاع سلطانهم وتفوق نفوذهم في هذه البلاد ، وليس مجيء سباستياني إلا تمهيدا لذلك، ولكن الفرنسيين لا يزالون في حاجة إلى إنشاء صلات تربط السكان والمماليك بهم في مصلحة مشتركة، بخلاف الحال مع الإنجليز الذين أوجدوا هذه المصلحة فعلا لدرجة أن أقل كلمة تشجيع تبدر في هذه اللحظة من جانب الحكومة الإنجليزية تمكن الإنجليز من السيطرة على البلاد، وإذا أرادت «الحكومة الإنجليزية» الاستفادة من هذا النفوذ الذي تستمتع به؛ فإن إهمال كل لحظة تمر إنما يكون كسبا ومغنما لمنافسيهم «الفرنسيين».» وكان واضحا من هذا الكلام أن ستيوارت لا يزال يرجو إذا وافقت حكومته على تأخير الجلاء ودخل في روع العثمانيين أن تسليم الإسكندرية مرتهن بقبولهم الاتفاق مع البكوات حسب الشروط التي تريدها بريطانيا، أن يستطيع تحقيق الغرض من مهمته.
ولكنه كان من الواضح بسبب إصرار الباب العالي على موقفه كما عاد فأكده للحكومة الإنجليزية في لندن وللجنرال «ستيوارت» نفسه في الإسكندرية، وبسبب ما أبداه «سباستياني» من نشاط في القسطنطينية والقاهرة، أن فضلت لندن إغفال نصيحة «ستيوارت»، وأصدرت أوامرها بالإخلاء في 26 نوفمبر سنة 1802، مستندة في ذلك إلى سبب جوهري في نظرها، هو أن مهمة «ستيوارت» كانت حسم الخلافات بين الباب العالي وبين البكوات قبل انسحاب الجيش البريطاني من مصر في موعد أقصاه شهر يوليو، ولكن «ستيوارت» قد فشل في مهمته؛ ولذلك انتفى أي مسوغ لبقاء الجيش البريطاني في مصر أكثر من المدة التي قضاها بها، عندما دعت الحاجة إلى استخدامه في ميادين ومهام أخرى.
غير أنه في الوقت الذي صدرت فيه تعليمات لندن بالإخلاء، كان ستيوارت قد استطاع الاتصال بالبكوات بل وتوثيق علاقاته بهم؛ ذلك أن المماليك بعد وصولهم إلى الفيوم ما لبثوا أن استأنفوا زحفهم إلى الدلتا وتوغلوا في الوجه البحري، وفي 13 نوفمبر علم «ستيوارت» أنهم نزلوا في الحوش على مسافة مرحلتين من دمنهور في قوات تبلغ الألفين عدا حوالي أربعة آلاف أو خمسة آلاف من البدو، وفي 15 نوفمبر ظهر فجأة محمد الألفي في مراكز الإنجليز الأمامية عند بركة غطاس وطلب مقابلة «ستيوارت» بالإسكندرية فسمح له بذلك، وقد علم منه «ستيوارت» أن حال المماليك قد بلغ من السوء نهايته، وأن مواردهم قد استنفدت، ولا يمكن تعويض خسائرهم بسبب الحرب المستمرة، وأنهم قد جاءوا ليرجوه مرة أخرى أن يشفع وأن يتوسط لهم لدى الباب العالي، أو أن يفصل «ستيوارت» في مصيرهم حسبما يراه وأربك هذا الرجاء «ستيوارت» الذي لم تكن لديه تعليمات، فلم يسعه إلا أن يعد الألفي ببذل الجهد في التوسط لصالحهم ثانية، وأن يعرض على البكوات إذا عاكستهم المقادير الاحتماء في مراكزه العسكرية حتى يحصل على أوامر أخرى من حكومته، وعاد الألفي إلى معسكره في مساء اليوم نفسه، ثم ما لبث البكوات أن كتبوا «لستيوارت» من الحوش في 17 نوفمبر يبلغونه اقترابهم من الرحمانية، ويرجونه التوسط لدى خسرو باشا الذي كانوا قد كتبوا له من مدة سابقة برغبتهم في النزول إلى الوجه البحري لتسهيل المفاوضات، ولكنه بدلا من الجواب على رسالتهم أغلق في وجوههم كل الطرق وسير جنده ضدهم.
وكان موقف «ستيوارت» حرجا؛ لأن خسرو منذ 13-15 نوفمبر كان قد رفض بتاتا الاستجابة لمساعي «ديساد» ياور الجنرال «ستيوارت» الذي أوفد إلى القاهرة للحصول على معلومات من الباشا عن مهمة «سباستياني» ثم التوسط في مسألة البكوات، فقال خسرو: «إنه واثق الثقة كلها من أن حماية الجنرال «ستيوارت» للبكوات لا تعدو تمني الخير لهم والتوسط من أجل الحصول على مكان إقليم لإقامتهم، ولكنه يمتنع عليه؛ أي خسرو بسبب ما لديه من أوامر الإصغاء إلى أي حديث في هذه المسألة، بل يمتنع عليه بسبب صرامة هذه التعليمات؛ أن يدخل في مفاوضات أو مباحثات مع البكوات حتى ولو كانوا تحت أسوار القاهرة ذاتها»، وفضلا عن ذلك فقد كان خسرو ينتظر وصول نجدات من الدلاة من الشام، حوالي ثلاثة آلاف فارس، كما بلغ «ستيوارت» أنه أنفذ جيشا من حوالي الخمسة آلاف بقيادة الكخيا «يوسف بك» من القاهرة لقطع خط الرجعة على المماليك ومطاردتهم.
ومع ذلك لم يفقد «ستيوارت» الأمل، فبعث في 21 نوفمبر يقترح على خسرو باشا «كخطوة تمهيدية في سبيل السلام» وقف القتال بين الجانبين، على أن يضمن «ستيوارت» التزام البكوات للهدوء والسكينة، وبشريطة أن يتخلى الأتراك من جانبهم عن أية عمليات قد تستفز المماليك وتستثيرهم، ولكن اقتراح هذه الهدنة جاء متأخرا؛ لأن جيش يوسف بك - كما عرفنا - لم يلبث أن وصل دمنهور في 19 نوفمبر، وفي اليوم التالي وقعت معركة دمنهور أو الحوش التي انتصر فيها المماليك، وفي 22 نوفمبر ظهر الألفي من جديد في خطوط الإنجليز الأمامية عند بركة غطاس، يعلن نبأ الانتصار ويطلب مقابلة «ستيوارت»، كما أن البكوات بعثوا بكتاب في 21 نوفمبر إلى القائد الإنجليزي يخبرونه بأنه بعد أن تركهم صديقهم الميجور «مسيت
Missett » ياور الجنرال «ستيوارت»، صبيحة يوم 20 نوفمبر وقعت المعركة التي انتصروا فيها، بعد أن فشلوا في إقناع الأتراك بوقف القتال مدة يومين أو ثلاثة حتى تصل البكوات «أخبار من أصدقائهم الإنجليز؛ لأنهم لا زالوا يرجون ويلتمسون الصفح والرضى عنهم من الباب العالي وخسرو باشا»، وقال البكوات إنهم برغم هزيمتهم للأتراك هزيمة بالغة «لا يطلبون سوى كسب رضاء الباب العالي وجنده، وأنهم لم يضعوا أنفسهم تحت حماية «ستيوارت» إلا لما يعرفونه عن محبته وخالص وده لهم؛ ولذلك فهم يرجونه من جديد أن يحصل على السلام لهم وعلى اتفاق أو تسوية» لحسم خلافاتهم مع الباب العالي، ويبلغونه أنهم أرسلوا إليه أخاهم - الألفي - لينقل إليه نبأ المعركة «وهو مفوض للموافقة على أية تسوية أو ترتيب في استطاعة «ستيوارت» أن يصل إليه في صالحهم»، وكان هذا الكتاب بتوقيع إبراهيم بك شيخ البلد وعثمان بك مراد البرديسي.
فأوفد «سيتوارت» إليهم الميجور «مسيت» وهو «ضابط - قال عنه «ستيوارت» - إنه ينتمي لأسرته»، فقابل الألفي في بركة غطاس ليقف على سبب المعركة وتفصيلها، ولعل أهم ما تجدر ملاحظته هنا على نحو ما بينا سابقا تأكيد الألفي له انشقاقه على إخوانه الذين صح عزمهم على الاشتباك مع الأتراك، فلم يشترك في القتال «خوفا من عدم رضاء «ستيوارت»» عليه إذا فعل، وقد ألح الألفي في ضرورة مقابلة ليس «ستيوارت» وحده فحسب، بل والقبطان بك قائد البحرية العثمانية بالإسكندرية وخورشيد باشا حاكمها ، ولم يفد احتجاج «مسيت» بأن «ستيوارت» قد قرر التزام الحيدة وعدم التدخل ، ولكن الألفي صمم على عدم مغادرة المكان حتى يصله جواب «ستيوارت» وقال إنه مزود برسائل من البكوات، ورغب القبطان وخورشيد في مقابلة الألفي شخصيا وتسلم الخطابات التي قال إنه جاء بها من إخوانه فدخل الألفي الإسكندرية في 24 نوفمبر، وتمت المقابلة مساء اليوم نفسه، فتكلم الألفي طويلا عن مقاومته للفرنسيين، والخدمات التي أسدتها جماعته للجيوش المتحالفة والوعود التي أعطيت للبكوات، والاضطهادات التي تحملوها، والنجاح المستمر الذي أحرزوه في عملياتهم العسكرية ضد الأتراك، ومع ذلك، وبالرغم مما حدث جميعه، فإنه لا يزال يؤكد ولاءه وولاء سائر البكوات للسلطان العثماني، ولم يترك الصعيد إلى الوجه البحري إلا لرغبته في أن يكون قريبا من الإنجليز وليرجوهم التوسط في مسألة البكوات حرصا على راحة البلاد وإعادة الهدوء إليها.
وكان مقال الألفي مقنعا في حججه الظاهرة، ولكن القبطان وخورشيد لم يسعهما سوى الوعد بإبلاغ ذلك كله إلى خسرو باشا؛ لأنه لم تكن لديهما أية تعليمات - كما قالا - لإبرام أي اتفاق معه ومع إخوانه، ولخسرو وحده أن يتصرف حسب تعليمات حكومته، وكان معنى ذلك أنه لا أمل ولا رجاء في الحقيقة في الوصول إلى أية تسوية، وأما ستيوارت فقد تمسك بحيدته؛ حيث إنه أخفق في الحصول على الاتفاق الذي سعى كثيرا من أجله أو لوقف القتال، كما صرح بأنه لا يستطيع ولا يريد أن يضغط على البكوات ليمنعهم من اتخاذ الوسائل التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، أو ليحول دون متابعتهم لانتصارهم، ولكنه إذا حدث أن ساءت حال أحد الفريقين لدرجة تحملهم على الالتجاء لحمياته داخل مراكزه فإنه سوف يرحب بهم دون تفرقة أو تمييز، وقد علل ستيوارت السبب في تشجيعه على عقد هذا الاجتماع بقوله في رسالته إلى اللورد هوبارت في 24 نوفمبر «بأنه لم يكن بحال من الأحوال لتوقعه الوصول إلى أية نتيجة حاسمة، ولكن لإزالة الغيرة من صدور «الأتراك» وسوء الظن أو التفسير الذي قد تسببه مراسلات «ستيوارت» المنفصلة مع البكوات.»
ولكن ستيوارت في الوقت الذي وقف فيه ذلك الموقف السلبي من خلافات الأتراك والمماليك ، وهو الحياد الذي كان يراه متفقا مع كرامته؛ لم يلبث أن أرسل ياوره اللورد «بلانتاير» إلى القسطنطينية مزودا بتعليماته في 21 نوفمبر حتى يطلع «إلجين» على حقيقة الموقف في مصر، وكي يلح عليه في ضرورة الوصول إلى أي اتفاق أو تسوية مع الباب العالي بشأن البكوات، وقال ستيوارت في هذه التعليمات: «إن البكوات سوف يقبلون راضخين أية شروط تعرض عليهم ما دامت لا تطلب نفيهم من مصر»، ثم كتب للصدر الأعظم في 26 نوفمبر يخبره بمهمة «بلانتاير»، «حتى يطلعه على تفاصيل الحوادث التي وقعت أخيرا في مصر، والتي تهم الصدر الأعظم بلا شك، كما تهم الدول الحليفة لتركيا، وحتى يتحدث إليه عن ذلك النضال المميت، والذي استعر أواره بين الباب العالي حليف إنجلترا، وبين البكوات الذين أعطى لهم الملك وعده، بينما يرى «ستيوارت» أناسا هم رعايا سلطان واحد وإخوة في دين واحد، وأبناء آباء واحدة، يتطاحنون ويتقاتلون ولا يصغون لأصدقائهم الذين يريدون أن يسود السلام والوئام بينهم»، ورجا ستيوارت الصدر الأعظم أن يتوسط في السلام بين الباب العالي والمماليك.
وفي 22 نوفمبر غادر «بلانتاير» الإسكندرية إلى أزمير ومنها إلى القسطنطينية فوصلها في 24 ديسمبر، وهناك وجد أن «إلجين» كان قد استأنف مباحثاته مع الباب العالي بشأن المماليك نتيجة لما أظهره سباستياني من نشاط - وقد انتهت مهمته في مصر وغادرها في 14 نوفمبر كما هو معروف - ولو أن الباب العالي لم يتأثر - على ما يبدو - ببعثته، بل ظل مصمما على المضي في طريقه، وقرر إرسال أحد موظفيه «صدقي أفندي» إلى لندن؛ ليوضح للورد «هوكسبري» شعور الباب العالي نحو مسلك «ستيوارت» في مصر، ويجدد عروضه السابقة بشأن المماليك - وهي العروض القائمة على نقلهم وإبعادهم من مصر - وفي 30 نوفمبر كتب «إلجين» إلى «هوكسبري» يقدم إليه صدقي أفندي «المفاوض العثماني» الذي اختاره الباب العالي للمباحثة مع الوزراء الإنجليز في مسألة المماليك، ويخبر «هوكسبري» أن الباب العالي قد أوفد إلى مصر أيضا مفاوضا آخر للاشتراك مع «الدفتردار حاتم أفندي» بها لتسوية هذه المسألة مع الجنرال «ستيوارت»، وحاول «إلجين» إحباط قرار الباب العالي وعرض في الوقت نفسه أن يذهب إلى الإسكندرية لعقد اتفاق مناسب للطرفين، ولكن جهوده ذهبت سدى، حتى إذا أرسل خسرو باشا إلى القسطنطينية تفصيلات مقابلته مع سباستياني، تبدل اطمئنان الباب العالي إلى قلق وانزعاج شديدين؛ لأنه لم يكن من المتعذر إدراك الغاية من إلحاح سباستياني باسم القنصل الأول في التوسط وإنشاء العلاقات الودية مع البكوات، وزاد انزعاج الباب العالي عندما عرف من مبعوثه «في عقد السلام بين تركيا وفرنسا» بعد عودته من باريس أن «بونابرت أبلغه مرتين برغبته في التدخل واستخدام نفوذه لإعادة سلطان البكوات في مصر»، فصار واضحا أنه من المحتمل كثيرا أن تتدخل فرنسا الآن في شئون مصر الداخلية، واعتقد الباب العالي انه صار من مصلحته المبادرة بكل سرعة لتنظيم شئون مصر الداخلية، كما اعتقد أن في وسعه الوصول إلى تسوية أو تنظيم يطلق يده تماما ويمكنه من حرية العمل في مصر إذا هو نجح في إقناع الإنجليز الذين أعلنوا أن لا مصلحة لهم في هذه البلاد، بقبول التنظيم الذي تبغيه ثم تبع ذلك انسحاب جيشهم، وعلى ذلك فقد اجتمع الريس أفندي بإلجين في 19 ديسمبر، وبدأت من ثم المحادثات التي أفضت إلى الاتفاق أخيرا، وإن كان هذا الاتفاق قد جاء متأخرا وفي وقت كانت قد تغيرت فيه الظروف، واختلف الموقف تماما عما كان عليه عندما بدأ الإنجليز وساطتهم من عامين مضيا وبصورة جعلت البكوات يرفضون هذا الاتفاق فخسروا بذلك قضيتهم نهائيا.
اتفاق «3-6 يناير سنة 1803»
وبدأت المباحثات بأن صار الريس أفندي يعرض الحجج والدعاوى التي حاول بها التأثير على الإنجليز حتى يتركوا اهتمامهم بمسألة المماليك، وبنى الأتراك أملهم في النجاح على ما قدموه من براهين تدل على أن القنصل الأول يسعى جاهدا حتى يعيد إلى البكوات سلطتهم السابقة، ومن هذه البراهين محضر لما حدث في المباحثات التي دارت بين خسرو باشا وسباستياني في القاهرة بشأن رغبة القنصل الأول في التوسط بين الباب العالي وبين المماليك ، ومحاولة سباستياني مقابلة البكوات، ومنها مفاتحة بونابرت - التي أشرنا إليها - للمندوب أو المفاوض التركي في باريس، ثم وجود تفاهم سري بين بونابرت وإبراهيم بك، قال الأتراك إنهم علموا به من مراسلات سرية أكدوا للورد إلجين وثوقهم من حدوثها، وهي عبارة عن خطابات تبودلت بين بونابرت وإبراهيم بك، وكان الواسطة في ذلك «يعقوب القبطي» - المشهور بالجنرال يعقوب والذي غادر مصر مع «منو
Menou » - وقد أثبتت هذه المراسلات على نحوها أبلغ إلجين اللورد هوكسبري في 15 يناير سنة 1803 - طلب يعقوب مساعدة القنصل الأول للبكوات، ووعد الأخير بمساعدتهم وتأييدهم.
والمعروف عن الجنرال يعقوب أو المعلم يعقوب حنا أنه من كبار الذين أيدوا الفرنسيين وناصروهم في أثناء احتلالهم لمصر، وجعله الفرنسيون ساري عسكر القبط من الشبان الذين جمعوا من الصعيد وأحضروا إلى القاهرة وكانوا حوالي الألفين، وعندما سلم «بليار» القاهرة خرج يعقوب مع من خرج من الفرنسيين وقتئذ من مصر، وكان مزودا بتفويض من المعلمين جرجس جوهري وأنطون أبو طاقية وفلتاءوس وملطي لمطالبة الحكومة الفرنسية برد المبالغ التي أقرضوها مشتركين مع المعلم يعقوب نفسه للجنرال «منو»، وقد صحبه في خروجه أهله، وكان «ثيودور لاسكاريس
Lascaris » ممن خرجوا كذلك ونقلتهم الفرقاطة «بالاس
» الإنجليزية، نفس الفرقاطة التي حملت يعقوب وجماعته، والمعروف عن «لاسكاريس» أنه مغامر كان بمالطة «مع فرسان القديس يوحنا» عندما استولى بونابرت عليها (1798) وحضر معه إلى مصر، عرف بالخيال الواسع، والشذوذ، واستمر طيلة حياته صاحب مشروعات، كما وصف هو نفسه، تولى الترجمة بين يعقوب وبين «جوزيف إدموندس
Joseph Edmonds » ربان هذه الفرقاطة الإنجليزية، فكان بفضل هذه الترجمة - على ما يبدو - أن ذاعت فكرة أن الجنرال يعقوب إنما أراد الذهاب إلى فرنسا كي يطالب باستقلال مصر، الأمر الذي لا يوجد أي دليل على صحته سوى بعض العبارات التي نقلها «لاسكاريس» لربان السفينة بوصفه مترجما بين الاثنين، وبعض المذكرات التي وضعها «لاسكاريس» نفسه بوصفه - كما قال - أحد أعضاء الوفد المصري الذاهب إلى فرنسا للمطالبة باستقلال مصر، ثم لإقناع الإنجليز باحتضان مشروع الاستقلال وموافقتهم عليه، ولو أنه من الثابت أن الفرقاطة بالاس غادرت الإسكندرية يوم أول أغسطس سنة 1801، وفي 3 أغسطس مرض يعقوب، ثم اشتدت وطأة المرض عليه فتوفي في 16 أغسطس، ووصلت الفرقاطة إلى طولون في 17 سبتمبر، وبدأ من ثم الاتصال بين الوفد المصري الذي أوجده خيال «لاسكاريس» الخصيب وبين الحكومة الفرنسية، والذي كانت نتيجة على نحو ما سبق ذكره، أن الباب العالي صار متأكدا من وجود تفاهم سري بين بونابرت وإبراهيم بك.
ومهما يكن من أمر هذا التفاهم السري، الذي أكد الباب العالي بصورة قاطعة في أثناء مباحثاته مع إلجين منذ 19 ديسمبر «أن هناك مراسلات سرية «بشأن التفاهم والاتفاق» بين إبراهيم بك وبونابرت عن طريق قبطي يدعى يعقوب موجود بباريس»، تدل على وجود تلك المراسلات، فقد أجاب إلجين الريس أفندي «بأن بونابرت يريد إعادة النفوذ الفرنسي في مصر على حساب تركيا، وأن الوسيلة لمنع ذلك هي الوصول إلى اتفاق ودي مع البكوات على أساس المقترحات التي قدمتها إنجلترا، أو ترك النزاع على حاله حتى إذا خرج الإنجليز من مصر استطاع الفرنسيون إنهاءه.»
وفي 3 يناير سنة 1803 عقد اجتماع آخر بين الريس أفندي واللورد «إلجين»، وكان في هذا الاجتماع أن قال الريس أفندي: إن رأي الباب العالي الخاص بعدم السماح للمماليك بالبقاء في مصر لا يزال كما هو، ولكنه لما كان الضباط الإنجليز قد ارتبطوا مع البكوات بارتباطات معينة، وتريد الحكومة الإنجليزية المحافظة على هذه التعهدات، فقد قرر الباب العالي إعطاء مديرية أسوان للبكوات لإقامتهم بها وزيادة المعاشات المعروضة عليهم إلى الضعف على شريطة التزامهم الهدوء وعدم التدخل في شئون الحكومة أو جمع الضرائب التي يقوم بتحصيلها ضباط الباب العالي، وقال الريس أفندي إن هذه التسوية مطابقة لرغبة البكوات أنفسهم، وقد أفصحت عنها عريضة تقدموا بها عن طريق الجنرال ستيوارت إلى الصدر الأعظم، وأمام هذا التأكيد لم يسع إلجين سوى الموافقة، ولو أنه قال: إنه يجهل تماما أن البكوات قد قدموا مثل هذه المقترحات، وحصل من الباب العالي في 5 يناير على أن يترك للبكوات التمتع بإيرادات «مديرية أسوان» نظير دفع خراج خفضت قيمته بعض الشيء، وذلك بدلا من المعاشات التي أراد الباب العالي إعطاءها لهم، وعلى ذلك فإنه عندما وصل «برون
Brune » السفير الفرنسي إلى القسطنطينية في 6 يناير كان قد تم الاتفاق، ووجد «برون» نفسه أمام الأمر الواقع.
وفي 15 يناير بعث إلجين إلى هوكسبري برسالة طويلة يذكر فيها المفاوضات التي بدأت في 19 ديسمبر من العام السابق وانتهت بالوصول إلى هذا الاتفاق، وتحدث عن مسألة التفاهم السري بين إبراهيم بك وبونابرت بإسهاب، وقال: إن «بلانتاير
Blantyre » «الذي وصل القسطنطينية في 24 ديسمبر» اعترف بأن الفرنسيين حقيقة يحاولون التدخل في شئون مصر، الأمر الذي جعل «إلجين» بدوره يصمم على إنهاء المسألة قبل وصول سباستياني أو السفير الفرنسي إلى القسطنطينية، وبخاصة عندما أكد الوزراء العثمانيون أنهم تسلموا عن طريق الجنرال ستيوارت عريضة من البكوات يرجون فيها الباب العالي قبول هذا الحل ذاته؛ أي إعطاءهم مديرية أسوان لإقامتهم بها وتخصيص معاشات لهم، ولو أن إلجين وبلانتاير قد أكدا للوزراء العثمانيين جهلهما بأمر هذه العريضة، وكان بناء على المعلومات التي أدلى بها «بلانتاير» عن فقر مديرية أسوان أن أمكن التوسط لدى الباب العالي لتخفيض قيمة الخراج الذي يدفعه البكوات، وقد علل إلجين في رسالته هذه السبب الذي دعا الباب العالي إلى رضائه بإقامة المماليك في إقليم من أقاليم مصر بالشروط الآنفة، بأن الوزراء العثمانيين أدركوا أهمية وقف النزاع القائم بين الباب العالي والبكوات، ولو أنهم كانوا لا يريدون الاعتراف بأن خضوع البكوات لسلطان الباب العالي أمر ضروري؛ لأنه عندما اجتمع إلجين بهم في 19 ديسمبر، وعندما وعده الريس أفندي بتخصيص مديرية أسوان لإقامة المماليك بالشروط التي سبق ذكرها لم يكن قد بلغ الباب العالي شيء عن الالتحامات التي وقعت في مصر بين البكوات والأتراك وانهزم فيها الأخيرون، زد على ذلك أن الوزراء العثمانيين - على نحو ما أبلغ المبعوث الروسي «تامارا
Tamara » اللورد إلجين - كانوا يريدون مبارحة الجيش البريطاني للبلاد بكل سرعة حتى يشرعوا فورا في مناجزة المماليك، ولا يتردد الأتراك في تحمل أية تضحيات في سبيل إنقاص عدد المماليك تدريجيا، ثم القضاء عليهم وإفنائهم نهائيا، أضف إلى هذا كله - على نحو ما اعتقد إلجين وأكده له الباب العالي - أن الأتراك إنما أرادوا من هذه التسوية إرضاء إنجلترا، وأن لا دخل لفرنسا في ذلك.
على أنه من الثابت من جهة أخرى، في تعليل هذا الاتفاق الذي لم يعترض عليه إلجين وقبله، أن إلجين نفسه كان يريد حدوثه قبل وصول السفير الفرنسي حتى يتجنب المخاطرة والفشل، ففضل عدم التريث أو سؤال «ستيوارت» في موضوع تلك العريضة التي أكد الوزراء العثمانيون أنها وصلتهم عن طريق هذا الأخير، تتضمن مطالبة البكوات أنفسهم بهذا الحل أو الترتيب.
ولم يتمسك «إلجين» بضرورة إعطاء البكوات كل إقليم الصعيد، لا سيما وأن ستيوارت نفسه قال في تعليماته لمبعوثه إلى القسطنطينية «بلانتاير»: إن البكوات سوف يقبلون أي حل يعرض عليهم ما دام لا يطلب نفيهم وإبعادهم من البلاد، وقد عارض الباب العالي في إعطاء الصعيد للبكوات بدعوى الحاجة الملحة إلى الاحتفاظ بالمواصلات مع ميناء القصير على البحر الأحمر، والذي يتسنى بواسطته الاحتفاظ بالمواصلات مع أقاليم الصعيد التي تنتج القمح، واعتقد إلجين أن الاتفاق كان لا يخلو من مزايا هامة، منها أن البكوات لم يجبروا على تصفية أملاكهم في القاهرة وفي الوجه البحري، زد على ذلك أن الباب العالي لم يصر على إدخال تعديل في نظام المماليك ووضعهم يتم نفاذه بضمان الإنجليز أو جيشهم في مصر، وعظم رجاء إلجين في أن المماليك سوف يقبلون هذا الاتفاق الذي لم يشترط نفيهم من مصر.
غير أنه كان من الواضح أن تنازل الباب العالي عن موقفه كان تنازلا ظاهريا أو وهميا، لم يرغمه عليه سوى تفوق المماليك وانتصارهم على جيشه في مصر، في وقت ينقصه فيه وجود القوات العثمانية الكافية التي إذا قوى ساعدها سوف تمكنه في الظروف المواتية من مطاردة البكوات والعمل من أجل القضاء عليهم، وعلاوة على ذلك فإن مديرية أسوان كانت لفقرها أملاكا لا يمكن أن تكفي لبقاء المماليك وعيشهم، فلم يكن هذا الاتفاق السريع في نظر الباب العالي سوى هدنة تعطيه فسحة من الوقت في نضاله المميت مع المماليك، وإرضاء شعور العزة والكرامة لدى البريطانيين الذين أعطوا كلمتهم للبكوات، وارتبطوا معهم، أضف إلى هذا أن الباب العالي كان يريد التخلص من جيش الاحتلال البريطاني بكل سرعة وتجنب المسألة المربكة التي سوف يثيرها قطعا السفير الفرنسي عند حضوره إذا وجد أن الباب لم يغلق بعد في وجه التدخل الفرنسي في صالح البكوات.
أما الباب العالي فقد أبلغ الحكومة الإنجليزية هذا الاتفاق في يناير وأرسل الأوامر اللازمة، إلى صدقي أفندي مبعوثه في لندن لإطلاعه على قرار حكومته، كما كتب «الصدر الأعظم» في التاريخ نفسه إلى الجنرال ستيوارت بما حدث، وأرسل تعليماته إلى خسرو باشا، وطلب إلى «ستيوارت» إخبار المماليك بالاتفاق ثم بانتهاء تدخل الإنجليز لحمايتهم، وقال إن «بلانتاير» سوف يعطيه؛ أي ستيوارت كل التفصيلات المتعلقة بهذا الاتفاق.
ووصل «بلانتاير» الإسكندرية في 3 مارس سنة 1803، وفي اليوم نفسه قدم تقريره إلى «ستيوارت» وأوضح فيه اعتراضه على اختيار مديرية أسوان لإقامة المماليك، كما قال إن الأتراك إنما أرادوا من الانتهاء من مسألة البكوات بهذه السرعة منع تدخل السفير الفرنسي الذي كان منتظرا وصوله قريبا؛ لأنهم توقعوا هذا التدخل بسبب ما ظهر لهم من مسلك «سباستياني» في مصر، وبدليل أن الجنرال «برون» كان أول سؤال له عند وصوله إلى القسطنطينية «هل انتهت مسألة المماليك أم لم تنته بعد؟» •••
أما في مصر فقد حدث بعد ذهاب «بلانتاير» إلى القسطنطينية، أن جعلت هزيمة الأتراك في معركة دمنهور أو الحوش خسرو باشا يبعث مندوبا من قبله مع ترجمانه إلى «ستيوارت» بالإسكندرية يقترح عليه حلا لمسألة المماليك أن يبقى هؤلاء في مصر ولكن على شريطة تسليمه رؤساءهم الأربعة فيخرج هؤلاء من مصر للعيش في أي مكان آخر من أملاك الدولة مع إعطاء معاشات لهم، أو يتوسط «ستيوارت» لوقف القتال حتى تحال المسألة على القسطنطينية للبت فيها، ووصل مندوبا خسرو إلى الإسكندرية في 10 ديسمبر 1802، ولما كان «ستيوارت» يعتقد أن غرض خسرو من ذلك التسويف والمماطلة، فقد رفض الاتفاق على غير القواعد التي وضعتها حكومة لندن، وظل «ستيوارت» يطلب من حكومته تخويله التدخل بنشاط لوقف القتال بين العثمانيين والبكوات، ووضع حد للحرب الأهلية، وقال في رسالته إلى هوبارت في 7 ديسمبر إن غرضه من ذلك «أن يكون لإنجلترا النفوذ الذي كان يجب أن يكون من نصيبها من مدة طويلة بسبب جهودها التي بذلتها وأعمالها التي قامت بها في مصر»، ولكن الحكومة الإنجليزية - كما سبق القول - اعتبرت أن ستيوارت قد فشل في مهمته، واتخذت قرار الإخلاء المعروف في 27 نوفمبر، ووصل هذا القرار ستيوارت في 20 يناير سنة 1803، وحاول ستيوارت محاولة أخيرة قبل جلاء قواته من مصر، فبعث «بالميجور مسيت» إلى خسرو باشا يبلغه هذا القرار ويحاول - كما كتب سيتوارت لهوبارت في 20 يناير - أن يقنعه بإبرام اتفاق في صالح البكوات، ولكن دون جدوى، وحدد خسرو شروط النفي كأساس لأي اتفاق معهم، وفي 28 فبراير كتب ستيوارت إلى هوبارت يذكر له أنه ذهب إلى معسكر البكوات فجمع زعماءهم شيوخ العرب وبين لهم «أنه وإن كان يكن لهم صداقة كبيرة إلا أن واجبه قد صار يحتم عليه إنهاء المساوئ التي وقعت في الأزمة الحالية - بسبب وجودهم - على السكان في الوجه البحري، ثم ذكر لهم أنه إذا استمر الباب العالي مترددا في مسألة شروط صلحه معهم، فإن أرض الصعيد مفتوحة أمامهم، وأنه ينتظر منهم عودتهم ثانية إلى الصعيد في سلام وأن ينتظروا هناك نتائج ما يبدونه من اعتدال إلى جانب توسط الإنجليز الذي سوف يستمر في صالحهم.
ومما يجدر ذكره أن البكوات طلبوا في هذه المقابلة أن يذهب واحد منهم إلى لندن كممثل لهم ليعرض شكاياتهم على الحكومة الإنجليزية ويرجوها عدم التخلي عنهم ومواصلة الاهتمام بأمرهم، وقال ستيوارت ومع أنه اعترض على ذهاب واحد منهم بهذا الوضع؛ أي كممثل لهم في لندن، فقد اعتبر أن وجود أحد البكوات في لندن «يكون بمثابة الحلقة الأولى من سلسلة ذلك النفوذ «الإنجليزي» الذي قد يمكن تعهده بالرعاية وتعزيزه، ولما كان الألفي بك قد أبدى رغبة في الانسحاب إلى إنجلترا، استجاب ستيوارت لإلحاحه في قوة وشدة أنه يسمح له بالسفر مع الجيش «البريطاني»، والألفي يتمتع باحترام كبير بين المماليك والعرب «البدو»، وقد يصبح لذلك أداة قوية في يد الحكومة الإنجليزية في حالة وقوع تلك الحوادث التي أبدت الحكومة الإنجليزية رغبتها في الاستعداد لمواجهتها، وفي الوقت نفسه لمعارضة أو مقاومة الفرنسيين ومنعهم من تأسيس نفوذهم مع «المماليك» الذين سوف يشعرون بخيبة الأمل بعد رحيل الإنجليز، فيتسنى للفرنسيين عندئذ أن يصبحوا منافسين أقوياء لهم.»
وكان البكوات قد كتبوا له كذلك في 20 فبراير بعد زيارته لهم في معسكرهم، أنهم قد وافقوا على الذهاب إلى الصعيد ليقيموا بأسيوط، ولكنهم رجوه «أن يسمح لأحد إخوانهم بأن يصحب الجيش الإنجليزي إلى إنجلترا؛ حتى يعرض على جلالة ملك بريطانية كل ما قاسوه منذ أن نزلوا من الصعيد حتى يضموا قواتهم إلى قوات جلالته لطرد الفرنسيين الذين كانوا أعداء جلالته وكذلك أعداء سلطانهم المعظم، وحتى يرجوا جلالته أن يهتم بأمرهم ويتوسط لدى السلطان المعظم حتى يصفح عن الأخطاء التي يكونون قد ارتكبوها في الماضي، وأن يعطيهم السلام الذي يريدونه ويطلبونه من كل قلوبهم»، ومنذ أوائل مارس سنة 1803 بدأ البكوات انسحابهم صوب الصعيد.
ولما وقف ستيوارت على نتائج بعثة بلانتاير إلى القسطنطينية، وعرف الاتفاق الذي تم هناك في 3-5 يناير، واعتبر أن اختيار مديرية أسوان التي تتألف من جزيرتين أو ثلاث جزر في مجرى النهر وشريط ضيق من الأرض بين شاطئ النهر الغربي والصحراء، إن هو إلا برهان جديد على خداع الباب العالي، فقد رفض أن يكون له شرف تقديم هذا الاتفاق إلى البكوات، وفي 11 مارس سنة 1803 غادر ستيوارت الإسكندرية إلى مالطة وأبحر معه الألفي في طريقه إلى إنجلترا، وتم إبحار الجيش في 12 مارس.
وقد ترك ستيوارت في مصر بعثة تتألف من الميجر «مسيت» وكيلا بريطانيا في القاهرة والكابتن «هايز
Hayes » من سلاح المهندسين، وكان خسرو قد طلب ضابطا لمدة بضعة أسابيع للإشراف على أعمال التحصينات في القاهرة ورشيد، ثم السيد «بريجز
Briggs » وهو رئيس بيت تجاري بالإسكندرية، عينه ستيوارت مؤقتا ليقوم بأعمال القنصل بالإسكندرية حتى تأتي موافقة الحكومة ، وفي تعليماته إلى «مسيت» في 8 مارس، طلب منه أن «يستخدم كل ما لديه من نفوذ لإبطال المكائد الفرنسية، وأن يثير دائما العقبات في طريق الفرنسيين حتى يحول دون اتساع علاقاتهم مع الأتراك، وأما فيما يتعلق بالمماليك فقد أوصاه بعدم التدخل في مسألة علاقاتهم مع الأتراك كما أوصاه بعدم التدخل في الشئون الداخلية إلا إذا وصلته من حكومته في لندن أوامر تجيز له ذلك»، وأوصى ستيوارت الكابتن «هايز» في تعليماته إليه في التاريخ نفسه بعدم التدخل إلا إذا جاءته تعليمات بذلك، كما طلب منه الامتناع عن الاشتراك مباشرة أو غير مباشرة في أية مشروعات قد يقترحها عليه «الباشا» ضد المماليك.
وكانت الحكومة الإنجليزية نفسها هي المسئولة في واقع الأمر عن فشل «ستيوارت» في مهمته؛ ذلك أنه عندما استمر قواد الجيش البريطاني في مصر في أثناء عام 1801، وأرادت أن تنتهز فرصة ما أدركته من سمعة طيبة أكسبتها إياها انتصاراتها حتى تعمل لتنظيم شئون مصر الداخلية، بالصورة التي تتفق مع مصلحة إنجلترا؛ رفضت الحكومة الإنجليزية التدخل، واقتصرت على إبداء النصح للباب العالي فحسب، ولم يأخذ الباب العالي بطبيعة الحال بالنصائح التي قدمتها له، فلم تتخذ الحكومة الإنجليزية موقفا معينا في مسألة البكوات على أساس إشراكهم في حكومة مصر إلا في غضون عام 1802، ولكن هذا التدخل كان قد فات أوانه، وجاء في وقت كانت ذكريات النصر والخدمات التي أسدتها إنجلترا للباب العالي قد تنوسيت وعفت آثارها، وعندما بدأت المفاوضات الجدية لبحث هذه المسألة، ظهر تضارب المصالح بين الدول - خصوصا إنجلترا وفرنسا - واستطاع الباب العالي أن ينتفع من هذا التضارب للتحرر في الحقيقة من سلطان صديق وحليف ظاهر «إنجلترا» لتنفيذ الخطة التي رسمها الوزراء العثمانيون، فلم يكن الاتفاق أو التسوية التي ابتكروها في 3-6 يناير سنة 1803 للتخلص قبل كل شيء من تدخل القنصل الأول، سوى خطوة لا جدوى منها ولا طائل تحتها، وكان هذا الفشل من الأسباب التي حملت الإنجليز فيما بعد على اللجوء إلى توثيق عرى صلاتهم بالمماليك مباشرة، عن طريق الألفي خصوصا، ثم إذا تبين عدم نفع هذه الوسيلة كذلك، محاولة التدخل المسلح بإرسال حملة فريزر المعروفة، وقد فشلوا في ذلك أيضا لأسباب سوف يأتي ذكرها في حينه.
سفارة الألفي في لندن
وصل الأسطول الإنجليزي الذي نقل الجيش والألفي إلى مالطة في 27، 28 مارس سنة 1803، ووجد الألفي نفسه على غير ما كان ينتظر، يكاد يكون في شبه اعتقال صارم، ومرغما على البقاء بمالطة زمنا طالت مدته بدلا من الذهاب فورا إلى لندن، ولم تجده نفعا صفة السفير التي اتخذها لنفسه في إثارة اهتمام السلطات الإنجليزية في مالطة، بل فرضت هذه السلطات رقابة شديدة عليه؛ لمنعه من الاتصال بالحزب الفرنسي في الجزيرة في وقت كان من المتوقع فيه قيام الحرب قريبا بين إنجلترا وفرنسا، وتتوقف سيطرة الإنجليز في البحر الأبيض وبالتالي منع تجدد الغزو الفرنسي عن مصر خصوصا على مصير هذه الجزيرة، واحتج الألفي على احتجازه في مالطة، وعلى الرقابة الصارمة التي فرضت عليه ولكن دون طائل، فبقي بها حوالي الشهرين حتى قامت الحرب فعلا بين إنجلترا وفرنسا في مايو سنة 1803، ثم جاءت في بداية يونيو الأخبار من «مسيت» و«هايز» تنبئ بما وقع في مصر من طرد خسرو باشا من القاهرة وعصيان الجند الأرنئود، وأنه قد بات من المحتمل جدا في هذه الظروف أن البكوات سوف لا يقفون مكتوفي الأيدي ويدعون هذه الحوادث تمر دون الاستفادة منها لصالحهم، وعندئذ صار من رأي «السير ألكسندر بول
Alexander Ball » حاكم مالطة أن في وسع حكومته الانتفاع بالألفي كأداة للديبلوماسية الإنجليزية، واقترح لذلك تركه يذهب إلى لندن يونيو سنة 1803، ووافق اللورد نلسن وأصدر أمره بذلك في 10 يوليو، ووصل الألفي أخيرا إلى ميناء بورتثموت بعد رحلة بطيئة في 3 أكتوبر سنة 1803، تنقله سفينة حربية إنجليزية.
وأطلقت المدافع عند وصوله تكريما له ورحبت به السلطات في بورتثموت ترحيبا كبيرا، وفي اليوم التالي استأنف الرحلة إلى لندن، فبلغها في 7 أكتوبر ومعه اللورد «بلانتاير» والكولونيل «بيرسفورد
Beresford » وأعلنت الصحف وصوله في مهمة ديبلوماسية، ونشرت المقالات الطوال عن أوصافه وعاداته، ونضاله مع الفرنسيين وعدم مسالمتهم أبدا، ولكنه بدلا من أن يحظى الألفي بمقابلة الملك جورج الثالث، كما كان يرجو ، ظلت هذه المقابلة تتأجل من يوم إلى آخر، والسبب في ذلك ما أظهره الباب العالي من قلق وانزعاج كبيرين عندما علم بسفر الألفي، حتى إن «دراموند
Drummond » القائم بأعمال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية لم يلبث أن نقل صدى هذا القلق البالغ إلى لندن، وكتب إلى حكومته في 11 يوليو سنة 1803 أن الجماعة الفرنسية في القسطنطينية عملت على الاستفادة من حادث هذه الرحلة، فصور «برون» السفير الفرنسي الألفي سفيرا قوبل لدى البلاط الإنجليزي بهذه الصفة، وذاعت الفكرة في القسطنطينية أن غرض هذه السفارة إنما هو اقتسام مصر بين الإنجليز وبين المماليك.
ولما كانت الحكومة الإنجليزية لا تزال متحذرة من إثارة مخاوف الباب العالي وشكوكه في نواياها ولا تريد تعكير صفو علاقاتها مع تركيا، وبخاصة وقد قامت الحرب بينها وبين فرنسا، فقد بادرت بتهدئة الأتراك حلفائها وتسكين خواطرهم، وطلبت إلى «دراموند» في 18 أكتوبر أن يبلغ الباب العالي «أن الرئيس المملوكي قد وصل إلى إنجلترا دون علم الحكومة الإنجليزية ومن غير موافقتها على ذلك، وأن رغبة الملك الأكيدة والتي لا تتغير هي عدم سماع أي اقتراح من جانب هذا الرئيس من شانه التأثير على مصالح وحقوق الباب العالي في مصر»، ثم وزعت الحكومة مذكرة على الصحف (18 أكتوبر) لإخبار الجمهور بأنه لا يمكن تقديم الألفي لدى البلاط؛ «لأن العرف والتقاليد يمنعان استقبال الملك رسميا وزيرا لدولة غير معترف بها وفي ثورة علنية ضد السلطة التي تعتبرها بريطانيا العظمى السلطة الشرعية الوحيدة في مصر.»
وعلى ذلك، فقد امتنعت الحكومة الإنجليزية عن الدخول في أية أحاديث أو مفاوضات مع الألفي، وعبثا حاول هذا أن يلفت نظرها إلى النتائج التي يجب توقعها من تعيين علي باشا الجزائرلي لباشوية القاهرة، ومن مكائد هذا الأخير التي قال الألفي إنها سوف تربك المماليك وتساعد على تعزيز النفوذ الفرنسي، وأمام هذا البرود من جانب الحكومة الإنجليزية لم يسع الألفي سوى تمضية وقته في الزيارات خصوصا لبلانتاير «ياور الجنرال ستيوارت» والجنرال هتشنسون ، وحضور الحفلات، واستمر الحال على ذلك حتى بداية شهر نوفمبر، عندما وصلت لندن الأخبار منبئة بالانقلابات والاضطرابات التي وقعت حديثا في مصر، فقد قتل الإنكشارية طاهر باشا في مايو، واستدعى الأرنئود المماليك مع الصعيد لمعاونتهم في نضالهم مع الإنكشارية ودخل هؤلاء القاهرة بالطبول، ثم استطاعوا الاستيلاء على دمياط التي كان خسرو متحصنا بها في أول يوليو، ووقع الكابتن «هايز» - وكان مع خسرو - في قبضتهم، وقد توفي «هايز» بعد أن أطلق سراحه وذهب إلى رشيد حتى يلحق بمسيت في الإسكندرية فأصيب بالحمى وكانت وفاته في 26 يوليو، وحوالي هذا التاريخ استولى المماليك على رشيد منذ 3 يوليو فصارت مصر بأسرها في قبضتهم، ولم يبق في يد الأتراك سوى مركز واحد هو الإسكندرية، وكان أهم هذه الأخبار - ولا شك - استعادة المماليك للقاهرة الحكومة الثلاثية: محمد علي، البرديسي، إبراهيم، وصار من الواضح أن الباب العالي بعد توالي هذه النكبات، سوف يشعر بضرورة الاتفاق مع البكوات على أساس الشروط التي ظل يرفضها طيلة السنوات الثلاث الماضية، بل إن «دراموند» ما لبث أن كتب إلى حكومته في 7 نوفمبر سنة 1803 يبلغها قرار الباب العالي الذي بعث به إلى علي باشا الجزائرلي الوالي الجديد في مصر لتنفيذه، ولكن الحكومة الإنجليزية كانت قد قررت العمل قبل أن يبلغها ذلك.
ذلك أن الألفي سرعان ما رأى في الحوادث التي وقعت أخيرا في مصر فرصة مواتية للقيام بمحاولة أخيرة مع الحكومة الإنجليزية، فطلب من الكولونيل مور
Moore - وكان من ضباط الجيش الإنجليزي في مصر وألحق بمعية الألفي الآن كترجمان له؛ أن يعد مذكرة لتقديمها إلى الحكومة في نوفمبر، وفي هذه المذكرة بسط الألفي مسألته وقضية البكوات المماليك الذين قال إنه يتكلم باسمهم وكممثل لهم، فأجمل الخدمات التي قام بها المماليك ومعاونتهم للإنجليز في طرد الفرنسيين من مصر، كما بين ما أصابهم من أضرار ولحق بهم من أذى - غدر أو خيانة - على يد الأتراك الذين يرفضون الاتفاق معهم ويعتزمون قتالهم إلى النهاية وحتى يتمكنوا من إفنائهم.
على أن أهم ما ذكره الألفي في هذه المذكرة - وكان يدل في نظر بعض المؤرخين على تمتعه بقسط وافر من نضج التفكير السياسي - قوله: إنه لم يحضر إلى لندن حتى يعرض على حكومتها مشروعا أو يقترح عليها مبادئ من شأنها إدخال عامل الاضطراب فيما بين الحكومة الإنجليزية والدول الأجنبية الأخرى من علاقات أو أن تسبب لها صعوبات جديدة، وإنما هو قد حضر حتى يدفع عن نفسه وعن زملائه التهمة التي ألصقت بهم، تهمة الثورة على السلطان «العثماني» صاحب السيادة الشرعية عليهم، كما أنه حضر حتى يبسط للحكومة الإنجليزية الأسباب العادلة التي دفعته هو وزملاؤه إلى المطالبة بحماية الحكومة الإنجليزية ومساعدتها لهم، واختتم الألفي مذكرته ببيان مدى الاحترام الذي قابل به المماليك نصائح الجنرال ستيوارت حتى يلزموا جانب الاعتدال وقت انتصارهم على الأتراك في المعارك التي اشتبكوا فيها معهم، ثم طالب الحكومة الإنجليزية بتأييد الوعود التي أعطاها لهم الجنرال هتشنسون بإعادة حقوقهم السابقة إليهم، ولم تكن هذه وعودا شفوية، بل وعودا مكتوبة - كما قال الألفي - ومصاغة في قالب رسمي، كما طلب من الحكومة الإنجليزية أن تبين - بوضوح وجلاء - مدى المساعدة التي ترى أن في وسعها إعطاءها للبكوات.
وفي 15 ديسمبر سنة 1803 قررت الحكومة الإنجليزية أن ترد على مذكرة الألفي، وكان معنى ذلك أنها انتوت أن تفيد نهائيا من وجود الألفي في لندن لتتخذ منه أداة لديبلوماسيتها، «كالحلقة الأولى من سلسلة ذلك النفوذ «الإنجليزي» الذي يمكن تعهده بالرعاية وتعزيزه» على نحو ما أشار به ستيوارت نفسه على حكومته منذ 20 يناير سنة 1803، وأما السياسة التي انتوت الحكومة الإنجليزية اتباعها وقتئذ فقد رسمت معالمها في ردها على مذكرة الألفي، ثم في تعليماتها إلى «دراموند» بالقسطنطينية، فقالت في كتابها إلى الألفي في 15 ديسمبر «إنه لمما يسرها كثيرا أن تؤكد له اقتناعها التام بالمسلك السليم الذي سلكه البكوات والخدمات التي أسدوها بإخلاص عند اتحادهم في العمل مع القوات البريطانية في مصر، وإن جلالة الملك سوف يقوم فورا بالسعي لدى الباب العالي واستخدام نفوذه عن طريق سفيره بالقسطنطينية حتى يصل إلى صلح بين البكوات وبين صاحب السيادة الشرعي عليهم سلطانهم «العثماني» حليف «إنجلترا» الصادق الأمين، وأن يبذل «جلالة الملك» قصارى جهده لإعادة تأسيس مصالح البكوات في مصر، على أساس يكفل لهم وضعا لا يقل في مزاياه عن الوضع الذي كان لهم وقت غزو الفرنسيين للبلاد.»
وقالت الحكومة الإنجليزية في رسالتها «لدراموند» في 20 ديسمبر، إن سلطة تركيا في مصر تكاد تكون معدومة تماما وإن الموقف في هذه البلاد قد أثار اهتمام الحكومة الإنجليزية التي تريد استتباب الأمن في مصر، ومن حق إنجلترا - بفضل ما أسدته من خدمات للباب العالي - أن تتحدث إليه في وضوح وصراحة فتذكر الخدمات الجوهرية التي أداها البكوات المماليك للجيش البريطاني وقت أن كلف بفتح مصر من جديد، وترى الحكومة الإنجليزية لذلك أن من حق هؤلاء البكوات أن يسترجعوا المركز الذي كان لهم وقت الغزو الفرنسي، وعلى ذلك فإن كل اتفاق آخر من طراز ذلك الذي اقترحه الباب العالي على اللورد «إلجين» في يناير سنة 1803 إنما هو اتفاق ناقص ولا يحقق الغرض المنشود، فإنه إذا نظرت الحكومة العثمانية إلى مركز المماليك بهدوء ودون التأثر بعواطف جامحة، واعترفت بأن جندها الأتراك انهزموا دائما على أيدي المماليك الذين يستولون الآن على مصر بأسرها ما عدا الإسكندرية، وأنه لم يعد في قدرة الباب العالي توطيد سيطرته في مصر؛ لاتضح لها؛ أي الحكومة العثمانية أن من صالح الباب العالي نفسه أن يصل إلى اتفاق وتسوية مع المماليك وأن يقتسم السلطة معهم في مصر.
وفي نظر الحكومة الإنجليزية، لا يوجد سوى أساس واحد للاتفاق هو: أن يعترف البكوات بسيادة الباب العالي وأن يدفعوا له خراجا سنويا يزيد على الخراج القديم إذا رغب السلطان العثماني في ذلك، وأن يعتبر البكوات أنفسهم ملزمين أمام جلالة ملك بريطانيا بتنفيذ هذا الاتفاق، وبهذه الشروط يترك للبكوات ممارسة السلطة والانتفاع بالمزايا التي كانت لهم قبل مجيء الفرنسيين إلى مصر.»
وهكذا يكون الألفي، بفضل تضافر العوامل التي ذكرناها، قد نجح في مهمته في لندن، وفي 20 ديسمبر غادر لندن إلى بورتثموت، ومنها نقلته السفينة الحربية «أرجو
Argo » بقيادة «بنيامين هالويل
Benhamin Hallowell » في آخر ديسمبر إلى مصر، فمرت بمالطة، ثم أنزل الألفي في 14 فبراير سنة 1804 في إدكو بين الإسكندرية ورشيد.
وقد تأثر الألفي بمشاهداته وتجاربه في هذه السفارة فقال الجبرتي: إنه كان من أثر رحلته إلى بلاد الإنكليز وغيابه بها سنة وشهورا أن تهذبت أخلاقه بما اطلع عليه من عمارة بلادهم وحسن سياسة أحكامهم وكثرة أموالهم ورفاهيتهم وصنائعهم وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم بحيث لا يوجد فيهم ولا مستجد ولا ذو فاقة ولا محتاج، وقد أهدوا له هدايا وجواهر وآلات فلكية وأشكالا هندسية وأسطرلابات وكرات ونظارات، وفيها ما إذا نظر الإنسان فيها في الظلمة يرى أعيان الأشكال كما يراها في النور، وفيها بخصوص النظر في الكواكب، فيرى بها الإنسان الكوكب الصغير عظيم الجرم وحوله عدة كواكب لا تدرك بالبصر الحديد.
ومن أنواع الأسلحة الحربية أشياء كثيرة ... وأخبرني بعض من خرج لملاقاته عند منوف العلا أنه لما طلع إليها وقابله سليمان بك البواب ... وكان قد بلغ «الألفي» كل أفعاله بالمنوفية من العسف والتكاليف وكذا باقي إخوانه وأفعالهم بالأقاليم، فكانت مسامرتهم معه في تلك الليلة في ذكر العدالة الموجبة لعمار البلاد، ويقول لسليمان بك في التمثيل: «الإنسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسمنها وجبنها يلزمه أن يرفق بها في العلف حتى تدر وتسمن وتنتج له النتائج، بخلاف ما إذا أجاعها وأجحفها وأتعبها وأشقاها وأضعفها حتى إذا ذبحها لا يجد بها لحما ولا دهنا، فقال هذا ما اعتدناه وربينا عليه، إن أعطاني الله سيادة مصر والإمارة في هذا القطر لأمنعن هذه الوقائع وأجري فيها العدل ليكثر خيره وتعمر بلاده، ويرتاح أهله، ويكون أحسن بلاد الله.»
ولكن الألفي لم تتح له فرصة الإمارة على مصر، ولم تفده أو سائر البكوات شيئا تلك الوعود التي قطعها الإنجليز على أنفسهم بمؤازرتهم لاسترجاع سيطرتهم القديمة على حكومة البلاد.
مشروعا دراموند وألكسندر بول
وترتد أصول ما حدث من تطور ظاهر في السياسة الإنجليزية نحو مصر بعد جلاء الجيش البريطاني عنها، إلى ما سبق بيانه عند ذكر الأسباب التي ساعدت الألفي على النجاح في مهمته؛ ذلك أن جلاء الجنرال ستيوارت مع القوات الإنجليزية من مصر لم يكن معناه أن إنجلترا صارت مطمئنة إلى حالة الدفاع عن هذه البلاد أو أنها صارت لا تخشى من تجدد نزول الفرنسيين بها وإغارتهم عليها، أو أنها اعتقدت أن صلح أميان قد نجح في تسوية الأمور في أوروبا وفي مصر معا، بل على العكس من ذلك لم تلبث أن ازدادت مخاوف الإنجليز بسبب فشل مساعيهم من أجل التوفيق بين الباب العالي والمماليك، وإلحاح الحكومة الفرنسية - كما رأينا - في ضرورة تنفيذ معاهدة الصلح فيما يتعلق بإخلاء مصر، ثم نشر تقرير سباستياني منذ يناير 1803، وذيوع الاعتقاد بين السياسيين والعسكريين الإنجليز على السواء بسبب ذلك كله بأن فرنسا لا زالت طامعة في احتلال مصر وامتلاكها فتمسكوا بمالطة كمركز هام يمكنهم من مراقبة نشاط الفرنسيين في الليفانت وفي المياه المصرية خصوصا.
ومنذ أن تجددت الحرب بين فرنسا وإنجلترا (مايو 1803) استأثرت مصر بشطر كبير من تفكير الحكومة الإنجليزية، لا سيما وقد ظلت العلاقات مستمرة بين الحكومة الفرنسية والمصريين بعد صلح أميان - على نحو ما سبق توضيحه.
فمع أن الأثر الذي أحدثه تدخل وكلاء القنصل الأول في مصر، وعلى رأسهم «ماثيو لسبس»، كان سلبيا؛ فقد أثار نشاطهم مخاوف الوكيل الإنجليزي «مسيت» الذي اعتقد أن فريقا كبيرا من المماليك بزعامة عثمان البرديسي قد انحاز نهائيا إلى جانب الفرنسيين، وأن فريقا آخر من أولئك الذين يظهرون - بزعامة إبراهيم بك - ميولا ودية نحو إنجلترا؛ قد صاروا هم كذلك على استعداد للترحيب مع إخوانهم بالفرنسيين إذا جاء هؤلاء إلى البلاد واستولوا على الإسكندرية ثانية وذلك حتى يضعوا أنفسهم تحت حمايتهم «على اعتبار أنه من المتعذر عليهم - كما قال مسيت - الاحتفاظ بمصر لأنفسهم من جهة، والوصول إلى اتفاق مع الباب العالي من جهة أخرى، من غير الاستناد إلى قوة دولة أوروبية ووساطتها.»
وقد حدث ذلك في الوقت الذي اشتد فيه ساعد البكوات بعد دخولهم القاهرة وإنشاء حكومة محمد علي - البرديسي - إبراهيم الثلاثية بها، ورفضهم عروض علي باشا الجزائرلي - وصاروا يلومون الإنجليز على أنهم لم يحافظوا على وعودهم ولم يؤيدوهم.
وكان لما أكده بتروتشي ومسيت من استعداد البكوات للانضمام إلى فرنسا إذا غزت مصر، أبلغ الأثر على «دراموند» وعلى «السير ألكسندر بول» خصوصا، وفي أكتوبر 1803 كان لكل منهما رأي يخالف رأي الآخر، بصدد معالجة مسألة المماليك على ضوء الغزو الفرنسي المتوقع، فكتب «دراموند» من بلغراد في 25 أكتوبر 1803 - وقد خلفه «ستراتون» وقتئذ في القيام بأعمال السفارة - «يبدي تعجبه من وجود أناس لا يزالون يثقون في المماليك ويمتدحون أخلاقهم وشجاعتهم ... وهم زعماء غادرون لعصابات من قطاع الطرق لا تعرف القانون ولا تخضع له ...» ويدعو لعدم تركهم مستقلين بحكومة مصر أو امتلاك البلاد «ليس لأنه يريد الدفاع عن الأتراك، ولكن بسبب حكومة المماليك السيئة نحو الأهالي في مصر.»
وكان من رأيه أن ترك المماليك في حكومة مصر لا يتفق مع صالح السياسة الإنجليزية؛ لأن المماليك الذين يعلمون بمحالفة الإنجليز للباب العالي سوف يجدون في آخر الأمر أن من صالحهم الاعتماد على فرنسا وطلب المساعدة منها، حقيقة تفيد إنجلترا من عودة المماليك إلى الحكم؛ لأن ذلك يكسبها في رأيه القدرة - بفضل مالها من تفوق بحري - على التدخل والمحافظة على التوازن بين قوى البكوات والعثمانيين في مصر، ويأسف لأن الحكومة الإنجليزية لم تهتم قبل الآن بمسألة توطيد سيادة الأتراك في مصر قبل انسحاب الجيش البريطاني.
ولكنه لما كان قد وقع هذا الخطأ، وصار البكوات منتصرين الآن، ونشأ عن ذلك خطر توطيد النفوذ الفرنسي على أيديهم؛ لم يعد هناك سوى طريقة واحدة لدرء هذا الخطر، هي أن يقترح الإنجليز على الباب العالي أن يتفق مع البكوات بإعطائهم ما يرضيهم في عروض أكثر اعتدالا وفي وسعهم أن يقبلوها.
وفي 6 نوفمبر عاد «دراموند» يكتب إلى اللورد هوكسبري من بلغراد يتحدث في نفس الموضوع مرة أخرى، ولكن رسالته في هذه المرة نقلت أخبارا هامة لحكومته، ذلك أن «دراموند» الذي أكد أن الفرنسيين قد صاروا أصحاب النفوذ المتوثق في دوائر المماليك في مصر - وجد من واجبه أن يعرض على القسطنطينية وساطة إنجليزية لتسوية العلاقات بين الباب العالي والمماليك وحسم الخلافات القائمة بينهما، ولو أنه - كما اعترف هو نفسه - «لم يكن مفوضا من حكومته بعرض هذه الوساطة» على الحكومة العثمانية، وفضلا عن ذلك قال «دراموند» إن الباب العالي قبل التسوية التي اقترحها؛ أي دراموند دون تغيير تقريبا، وبات الباب العالي لذلك يخشى من أن تقف فرنسا على حقيقة الأمر، وهي تسوية تقوم على «تعيين باشا عثماني في مصر، وترك البكوات يمتلكون القاهرة، وسحب الأرنئود العصاة من البلاد»، واعترف «دراموند» بأنه عندما اقترح هذا الحل لم يكن لديه في أول الأمر أمل كبير في النجاح، ولكنه وقد وافق الأتراك عليه فقد صار يخشى أن يرفضه البكوات، ويحطموا برفضهم كل سلطة لهم في مصر في آخر الأمر.
واستند «دراموند» في تأييد ما فعله إلى أسباب عدة: منها اعتقاده الجازم بأن مصلحة بريطانيا في الظروف الحاضرة تتطلب أن تصبح للباب العالي السيادة في مصر، ومن المستحيل طالما ظلت الإمبراطورية العثمانية باقية أن يؤسس البكوات دولة مستقلة؛ لمنافاة ذلك لطبيعة الأشياء، ولا ندحة عن أن تحميهم دولة أو قوة أكبر من دولتهم أو القوة التي لهم، وعلى ذلك فهم - حتما - سوف يطلبون مساعدة إنجلترا أو فرنسا إذا صاروا مستقلين ولم يعودوا رعايا للسلطان العثماني بينما تدل الحوادث الأخيرة على أنهم يفضلون مساعدة الفرنسيين على اعتبار أن فرنسا - وليست إنجلترا - هي الدولة التي من المحتمل أن تساعدهم على الثورة ضد الباب العالي؛ ولذلك فقد وجب بذل كل جهد لإعادة سلطة الباب العالي في مصر، ورأى «دراموند» من الخطوات اللازمة لذلك استدعاء الأرنئود من مصر؛ لأنه - كما قال - «لا بد من حل حزمة القضبان حتى يتسنى كسر العصا»، وعلاوة على ذلك فإن «دراموند» «لم يكن في وقت من الأوقات راضيا عن المعاهدة الأخيرة» اتفاق «3-6 يناير 1803»؛ وهو الاتفاق الذي تم تحت تأثير السفارة الإنجليزية في القسطنطينية فهو يعجب ويدهش لإبرام هذا الاتفاق الذي جعل البكوات يتهمون الإنجليز بأنهم تخلوا عنهم، وجعل الباب العالي يحمل بريطانيا العظمى وزر هذا الاتفاق كله، ولو أن اللورد هوكسبري علم بحقيقته لما كان وافق عليه بتاتا، وحتى إن الجنرال ستيوارت لم يشأ أن يكون الواسطة في تبليغه للبكوات رسميا، ولكنه من المعروف أن البكوات وافقوا على محتويات هذا الاتفاق وعرفوا الدور الذي قامت به الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة.
وفي 7 نوفمبر بعث «دراموند» بشروط الاتفاق التي أغفل ذكرها في رسالته السابقة، وهي أن تعاد للبكوات حقوقهم وامتيازاتهم، وأن يعين إبراهيم بك شيخا للبلد ومقره هو وسائر البكوات القاهرة، وأن يجرى دفع الخراج - كالسابق - للباب العالي ويحصل ضابط عثماني الميري، وأن يعاد تحصيل الضرائب المخصصة لخدمة الحرمين الشريفين «مكة المكرمة والمدينة المنورة»، وأن يقيم الباشا العثماني بالإسكندرية، وقال «دراموند»: وكما سبق أن أوضح للورد هوكسبري رأيه في ضرورة تقييد سلطة البكوات، فهو يرى لزاما عليه كذلك أن يؤكد له أنه ليبعد كل البعد عن الرغبة في اقتراح أي إجراء قد يفضي إلى إبادة هذا الجيش؛ أي المماليك، وكان لهذا السبب نفسه أنه استنكر في عبارات لا لبس فيها ولا إبهام معاهدة القسطنطينية؛ أي اتفاق «3-6 يناير 1803».
وبعد أيام قلائل كان «دراموند» قد عاد إلى القسطنطينية، فقابل الريس أفندي في 15 نوفمبر، وأكد له الريس أفندي أن مسائل مصر قد سويت نهائيا، ومع ذلك فقد ظل «دراموند» ضعيف الأمل في نجاح هذه التسوية؛ لأن الريس أفندي - كما أبلغه «دراموند» - قد ارتكب خطأ جسيما في عدم الإصرار على تعيين حكام أتراك في كل الموانئ المصرية.
وقد أبلغ الباب العالي موجزا لصيغة الاتفاق النهائي بينه وبين البكوات بتاريخ 26 نوفمبر 1803، إلى السفير الفرنسي، جاء فيه: «إنه لما كان بكوات القاهرة قد بعثوا بمندوب خاص عنهم إلى الباب العالي، وقدموا عرائض يلتمسون فيها الصفح عن خطاياهم السابقة جميعها بشريطة أن يقدموا الأموال - أو الضرائب - في مواعيدها دائما، المخصصة منها لخدمة الحرمين الشريفين والميري، وكل ما يطلبه «الباب العالي» وإطاعة أوامره في كل الظروف، وإرادته هي العليا؛ لذلك صدرت إرادة سنية بتاريخ منتصف شهر جمادى الآخرة سنة 1218 هجرية (2 أكتوبر 1803)، تمنحهم العفو والصفح عن كل ما ارتكبه بكوات القاهرة المذكورون من أخطاء سابقا، وتجديد لقب شيخ البلد لإبراهيم بك على شريطة أن ينفذ البكوات ما وعدوا به، وأن يدفعوا الضرائب والميري وما يلزم لخدمة الحرمين الشريفين ... إلخ. بعدم الخلط، بعذر من الأعذار بينها وبين جمارك القاهرة وغيرها من الضرائب التي يجب أن يأخذها الباب العالي كإيرادات، طبقا للإدارة الجديدة، وأن يقوموا أخيرا بتنفيذ الشروط سالفة الذكر بكل دقة.»
ومع أن الباب العالي نفى أن للإنجليز دخلا في إبرام هذا الاتفاق، فقد اعتقد السفير الفرنسي «برون» - وكان محقا في اعتقاده - أن الإنجليز توسطوا لعقده، وكتب برون لتاليران في 26 نوفمبر أنه من المشهور والمعروف لكل إنسان أن تركيا لا تقوم بواجبها كدولة محايدة باستخدامها الإنجليز من أجل المفاوضة مع البكوات، لقد نفى الريس أفندي ذلك، ولكن «علي باشا الجزائرلي» اعترف للوكلاء الفرنسيين في مصر بأنه يعرف من القنصل الإنجليزي «الميجور مسيت» أن الباب العالي استخدم الإنجليز في المفاوضة مع البكوات.
وفي الوقت الذي كان يسعى فيه «دراموند» في القسطنطينية ومن بلغراد، من أجل الوصول إلى اتفاق بين البكوات وبين الباب العالي، على أساس إرجاع سلطان المماليك السابق في الحكومة إليهم، كخطوة لا مفر منها لبقاء مصر تحت سيادة الباب العالي وفي نطاق الإمبراطورية العثمانية، وكحل يبطل مساعي الفرنسيين، ويمكن البلاد من الدفاع عن نفسها بقواتها - من المماليك والعثمانيين - ضد الغزو الفرنسي المتوقع، كان السير ألكسندر بول في مالطة يقترح مشروعا آخر يجعل لبريطانيا الإشراف الفعلي على شئون الدفاع عن مصر ضد هذا الغزو الفرنسي المتوقع، وكان مبعث مشروع ألكسندر بول، نفس الحوادث والظروف التي حركت «دراموند» للعمل وأفضت إلى اتفاق «أكتوبر-نوفمبر 1803».
فقد قدم السير ألكسندر بول مذكرة مسهبة من مالطة في 27 أكتوبر 1803 استهلها بأن الحكومة الفرنسية قد أقامت الدليل على أنها احتضنت فيما يتعلق بمصر مشروع ليبنتز
Leibnitz ، ويدرك الوزراء الإنجليز تماما ما هنالك من ضرورة لليقظة والانتباه الكاملين للحيلولة دون وقوع هذه البلاد مرة أخرى تحت سلطان فرنسا، ولما كان من المتعذر أن تصبح مصر مستعمرة فرنسية من غير استيلاء الفرنسيين على ميناء الإسكندرية، الميناء الهام الوحيد على ساحلها الشمالي، فقد صار ضروريا تحصين الإسكندرية ومينائها بدرجة تكفي لرد أي هجوم قد يقع عليها، أو مقاومة أي حصار قد يضرب عليها لبضعة شهور، ومن المحتمل جدا عند وصول هذه الرسالة إلى إنجلترا أن تكون الإسكندرية ومصر بأسرها قد صارت من ممتلكات المماليك، ولكن سواء امتلكها الترك أو المماليك؛ فإن السير ألكسندر بول يوصي باتباع نفس المبدأ.
والموقف في مصر حرج ودقيق بسبب الحرب الأخيرة بين المماليك والأتراك، ومن المنتظر وقوعها قريبا فريسة في قبضة أول غاز يغزوها، وذلك إذا امتنع الإنجليز عن تأسيس نفوذ لهم في مصر وعن إعطاء حكومتها الاستقرار اللازم، الأمر الذي يجب أن يتم مع اتخاذ الحيطة والحذر لعدم إثارة الأتراك أو أية دولة أوروبية أخرى، والمماليك يشعرون تماما بأنهم في حاجة إلى حليف يحميهم، حتى إن وجود حامية قوية بالإسكندرية من قبل دولة أوروبية سوف يكون مبعث سرور وارتياح لهم.
وهناك ما يدل على أنهم يفضلون محالفة الإنجليز؛ لأنهم يعرفون جيدا أن غرض بريطانيا العظمى من الاهتمام بأمر مصر ليس سوى منع الفرنسيين من تنفيذ مشروعاتهم لامتلاك واستعمار مصر، وهي مشروعات يعترف هؤلاء بها، ويعلنونها دون مواربة، ولا يرضون أن تكون مصر من نصيب أية دولة أخرى؛ ولذلك فهم لا يحترمون المماليك إلا إذا كان هؤلاء خاضعين لأطماعهم.
ومن المحتمل أن الحكومة البريطانية سوف ترفض وضع حامية «إنجليزية» في الإسكندرية، وإذا وافقت على ذلك فالنفقات لا تقل عن مائة ألف من الجنيهات سنويا؛ ولذلك «فالسير ألكسندر بول» يرى أنه من الممكن بنفقات أقل كثيرا من هذه الدفاع عن الإسكندرية، وذلك باستخدام جنود أجانب؛ أي من غير الإنجليز، ومن غير إثارة شعور أي دولة من الدول.
وعلى ذلك فهو يقترح تعيين رجل كفء، صاحب خلق وديع مسالم، ومن طراز يمكن الاعتماد عليه، قوي الخلق متينه؛ ليتخذ مقره بالإسكندرية، مكلفا في الظاهر بأية مهمة أو عمل آخر، ويكون مفوضا في إمداد حاكم الإسكندرية بما يكفي من مال لدفع مرتبات أربعة آلاف جندي، وعليه؛ أي هذا الرجل الكفء ... إلخ، أن يقوم بالتفتيش عليهم سرا، وأن يكون لديه أي عدد من الضباط الذين يستطيع الاعتماد عليهم، ويأخذ أكثر هؤلاء من بين فرق الجيش البريطاني الأجنبية من غير إثارة شكوك أحد ... ويمكن استخدام تاجر إنجليزي لتزويد حاكم الإسكندرية بالمال اللازم لنفقات الحامية في صورة قرض نظير إعطائه التزام الجمارك، كما يمكن في الوقت نفسه إعطاء قسم من الرسوم التي تحصلها هذه الجمارك لحاكم الإسكندرية بمقتضى اتفاق يبرم لهذه الغاية.
ويجب على المقيم الإنجليزي أن يقدم النصح للحاكم في كل الشئون المدنية ويضع قوانين وقواعد تؤمن حريات الأفراد وأملاكهم، فسوف يجد الأهلون أو السكان عندئذ أن من صالحهم تأليف قوات عسكرية أهلية أو مرابطة - ميليشيا - ومساعدة الحامية إذا هوجمت، ويجب أن يحصل الإنجليز على امتيازات تجارية لتعويض الحكومة عن نفقات الحامية وهي نفقات تدفع كذلك شركة الهند التجارية الشرقية جانبا منها؛ إذ إن الغرض الرئيس من إنشاء هذه الحامية هو أن تصبح حاجزا ضد أية دولة قد تريد إلحاق الأذى بأملاك «الإنجليز» في الهند من هذا المكان.
ويدرك السير ألكسندر بول أن الحكومة العثمانية سوف تحتج على «الإنجليز» إذا اكتشفت أنهم يحمون المماليك، ولكن لما كان من المنتظر قريبا أن يرسخ في ذهن رجال الدولة العثمانية استحالة تقييد تجارة «الإنجليز» الضخمة بالصورة التي عليها هذه التجارة الآن، فمن المحتمل أنها سوف تميل إلى قبول وساطة إنجلترا، وفي هذه الحالة سوف تنقذ الدولة العثمانية من أي اعتداء آخر يقع عليها من جانب المماليك الذين يصبحون على استعداد لأن يصغوا لأية اقتراحات تقترح عليهم طالما أمن الإنجليز لهم فتوحاتهم الحالية.
وفي استطاعة السفير الإنجليزي لدى الباب العالي أن يبين له أنه من صالح تركيا قطعا أن تقبل إنشاء هذه الحامية؛ لأن مصر من غيرها سوف تدخل سريعا تحت سلطان فرنسا التي سوف تقدم من الأدلة وقتئذ ما يثبت أن جيرتها «للدولة العثمانية» أشد خطرا عليها من جيرة المماليك لها؛ لأن فرنسا بمجرد أن تمتلك مصر سوف تتطلع إلى الشام وتمد سلطانها صوب البحر الأسود.
ولذلك فمن الواجب إقناع تركيا بأن الغرض من هذا الترتيب المعروض ليس خدمة المماليك على حساب الإمبراطورية العثمانية وضد مصالحها، وإنما إبعاد الفرنسيين عن التدخل في شئون مصر والدولة بصورة نافذة.
وقد يقال إنه كان ينبغي اقتراح هذا الإجراء على تركيا وقت امتلاكها للإسكندرية لو أنه كان لا يبدو أن مفاتحتها في هذا الموضوع قد يجرح كرامة وشعور الحكومة العثمانية؛ لانطوائه على معنى عدم الاعتقاد بقدرة هذه الحكومة على الدفاع عن أملاكها، فلو أن حالة الدفاع عن الإسكندرية في سنة 1798 كانت طيبة؛ لما هاجمها الفرنسيون، ولوفرت بريطانيا العظمى جملة ملايين من الجنيهات، ولأمكن استخدام ذلك الجيش من الجنود الشجعان الذين أنقذوا مصر، في وقف تقدم الفرنسيين في إيطاليا وفي بلاد غيرها.
وأما إذا سألت الدول الأخرى «الحكومة الإنجليزية» تفسيرا لهذا المسلك، فالجواب يكون عندئذ أن هذا الترتيب بوضعه مصر بمنأى عن الغزو والفتح إنما يسدي إلى أوروبا خدمة جليلة بتوفير أسباب الهدوء والسلام لها.
وواضح أن الهدف الرئيسي من مشروع السير ألكسندر بول منع تعرض مصر للغزو الفرنسي وتهيئة وسائل الدفاع عنها، وواضح أن المماليك كانوا هم القوة التي اعتمد عليها هذا المشروع في الدفاع عن مصر، كما أنه من الواضح كذلك أن الإشراف على شئون الدفاع سوف يكون من نصيب بريطانيا وهي أيضا التي سوف تتحمل نفقاته، وزيادة على ذلك فقد استند المشروع بأكمله على اتخاذ الإسكندرية قاعدة للدفاع ضد الغزو المنتظر.
آثار مشروع «بول» في القاهرة
وكان لهذا المشروع آثار معينة في كل من القاهرة والقسطنطينية، وذلك أن السير ألكسندر بول، قرر أن يوفد إلى مصر الكابتن «فيشنتزو تابرنا» كي يجس نبض المماليك لمعرفة ما إذا كانوا يميلون لعقد اتفاق على الأسس التي تضمنها مشروعه في حالة موافقة الحكومة الإنجليزية على هذا المشروع، وقد زود السير ألكسندر الكابتن تابرنا بتعليمات تحدث عنها هذا الأخير في رسالة له إلى الجنرال ستيوارت في 6 نوفمبر 1803، فقال: «إنها كانت لجعل البكوات يسألون الحكومة الإنجليزية أن ترسل شخصا ذا كفاءة لمساعدتهم، ليس فقط في تحصين الساحل المصري، بل ولتدريب وتنظيم قوة من أربعة آلاف رجل يجندون من البلاد وفق شروط معينة تعرض على الحكومة البريطانية التي تتحمل نفقات هذه القوة»، وكان تابرنا مكلفا بإبلاغ هذه الفكرة إلى «مسيت» عند وصوله إلى مصر، «أي تأمين الإسكندرية بوضع حاميتها الوطنية تحت إشراف وإدارة ضباط بريطانيين يدخلون في خدمة الحكومة المصرية وتتحمل بريطانيا العظمى كل أو بعض نفقاتهم».
ومما يجدر ذكره أن «تابرنا» لم يكن مكلفا بعرض هذا المشروع على البكوات على أنه مسألة قد انتهت الحكومة الإنجليزية من تقريرها، وغادر تابرنا مالطة في 6 أكتوبر 1803.
وأثار وصول تابرنا إلى مصر حماس البكوات، واتصل من فوره بهم، ولكنه بدلا من أن يقتصر على جس نبضهم رأى كي يضمن استمالة البكوات إلى المشروع وربطهم بعجلة المصالح البريطانية، أن يتجاوز تعليماته في اتصالاته بهم، وأن يبلغ إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي أنه كان مفوضا من قبل حكومته في المباحثة والاتفاق معهم على هذا الترتيب، فبادر البكوات بإرسال «سليم أفندي» أحد الكشاف التابعين لعثمان بك البرديسي، إلى مالطة للمفاوضة مع السير ألكسندر بول، ولعقد الاتفاق أو المعاهدة المنتظرة ولطلب الإمدادات من المال والأسلحة التي تمكنهم من تأليف القوة اللازمة لحامية الإسكندرية؛ أي الاستيلاء عليها، مقصد البكوات منذ دخولهم القاهرة واستيلائهم على رشيد.
وعلى ذلك فقد كتب «تابرنا» في رسالته السالفة الذكر للجنرال ستيوارت، أن البكوات لدى وصوله وافقوا على كل ما نصحهم به، ثم استطرد يقول: «ولكن مركزهم أو موقفهم جعلهم يزيدون في طلباتهم.»
وقد تحدث تابرنا في رسالة بعث بها إلى السير ألكسندر بول في هذا التاريخ عن الموقف في مصر، وعن الأثر الذي أحدثه اتصاله بالبكوات، فقال: إن المماليك الآن سادة مصر ما عدا الإسكندرية التي لعلي باشا الجزائرلي بها سلطان مزعزع، وأما عثمان البرديسي فقد هاجم دمياط ونهبها، وخرب الحرب والمرض نصف قرى الصعيد، بينما سببت الإتاوات التي جمعها العثمانلي انتشار البؤس والشقاء في الوجه البحري، والأرنئود في ثورة ضد الأتراك بسبب مرتباتهم المتأخرة عن ستة شهور، وقد تعهد المماليك بدفعها، واضطر أخيرا كل بك وكل كاشف منهم إلى بيع مجوهرات وحلي زوجاته لدفع هذه المرتبات، وهم الآن يشعرون بارتباك عظيم بسبب مطالب الشهر المقبل، بينما يستحيل على القاهرة أن تقدم إتاوات أخرى تؤخذ منها لدفع مرتبات الأرنئود ولذلك فالأرنئود يهددون بالثورة.
ولما كانت كل التحصينات في أيدي المماليك، فالمنتظر - من غير شك - أن ينهزم الأرنئود في كل محاولة يقومون بها ضد المماليك، ولكن القاهرة سوف تصبح عندئذ تحت رحمة المنتصرين، وسوف يكون مصيرها التخريب التام، ويجد الميجور «مسيت» نفسه في مركز دقيق ومحرج وهو في حيرته لا يعرف ماذا يفعل، ومن جهة أخرى يخشى المماليك من أن يتخلى عنهم أنصارهم «الإنجليز». «وأما الفرنسيون الذين لا يفوتهم شيء فقد أرسلوا إلى هذه البلاد «ماثيو لسبس» وهو رجل ماهر عرض باسم بونابرت على البكوات إرسال خمسة آلاف رجل لمساعدتهم، وكاد البكوات في يأسهم أن ينخدعوا بذلك، ولكن عثمان البرديسي وهو أقدرهم بلا جدال، لم يلبث أن تساءل: كيف يستطيع بونابرت إرسال خمسة آلاف رجل ومراكب الإنجليز تملأ البحر، وقد أجاب «لسبس» من غير أن يوضح له كيف يمكن ذلك، إنه لا يستحيل شيء على بونابرت، وإن الآلهة والملائكة والقديسين راضون عنه دائما، وإن البكوات إذا أرادوا مجيء هؤلاء الخمسة آلاف فإنهم سوف يحضرون في أقل من شهر واحد، وكل ما يخشاه «تابرنا» أن يلقي البكوات بأنفسهم في أحضان العدو بسبب يأسهم، ويرجو أن لا يحيدوا عن اتباع النصائح التي زودهم بها هو والميجور مسيت.»
ثم تحدث «تابرنا» عن الأثر الذي تركه في نفوس البكوات من ناحيته شخصيا، فقال: إنهم جميعا يحترمونه والتفاهم تام بينه وبينهم، «ويعتقد يقينا أن نفوذه معهم سوف يمكنه من تحقيق بعض الفائدة، ولما كان «تابرنا» قد أقنعهم بأن «الإنجليز» لن يتخلوا عنهم فقد صاروا يعاملونه والميجور مسيت معاملة صداقة وود عظيمين»، وقد أكد «لسبس» نفسه وجود هذا الود بين البكوات والوكلاء الإنجليز في رسالته إلى دروفتي (3 نوفمبر سنة 1803).
ولكن «تابرنا» ارتكب خطأ كبيرا عندما تحدث في مشروع ألكسندر بول مع البكوات المماليك على أنه ترتيب أو اتفاق وافقت عليه الحكومة الإنجليزية نهائيا، فقد أوفد البكوات إلى مالطة - كما ذكرنا - سليم أفندي نائبا عنهم للمفاوضة مع السير ألكسندر، وكي يطلب منه الإمدادات التي تمكن البكوات من الاستيلاء على الإسكندرية، ووصل سليم أفندي إلى مالطة في يناير سنة 1804 حتى يعقد مع حاكمها الاتفاق أو المعاهدة المزعومة، واضطر السير ألكسندر إلى تبصير سليم أفندي بالحقيقة، وأنه لا يستطيع عقد أي اتفاق مع البكوات، وعندما وصل الكابتن هالويل يحمل على ظهر سفينته «أرجو
Argo » الألفي بك في طريقه إلى مصر في آخر يناير وجد سليم أفندي بها، ووقف منه «هالويل» على معلومات متعلقة بسفارة الألفي في لندن، كان من أثرها أن تغير نظر «هالويل» إلى الألفي، فقد كتب؛ أي هالويل، من مالطة في 3 فبراير يقول: إن عثمان البرديسي وإبراهيم بك أرسلا سليم أفندي بخطاب إلى «ملك إنجلترا» يطلب مساعدة الحكومة الإنجليزية وإمداده بالمال والرجال، ويرجو تدخل الإنجليز لمنع الألفي من العودة إلى مصر، مما آثار دهشة «هالويل» العظيمة؛ لأنه فهم دائما أن الألفي هو الشخص الذي يحتل المكانة الأولى في مصر، وأن البكوات الآخرين أنابوه عنهم وأوفدوه إلى إنجلترا للمفاوضة باسمهم مع الحكومة ولكن تبين له من حديثه مع سليم أفندي أن المماليك جميعهم يكرهون الألفي، وأنهم ذكروا للجنرال ستيوارت صفاته الخلقية المزعجة، وألحفوا عليه في الرجاء أن يأخذه معه إلى أي مكان خارج البلاد وإلا لتعذر أن تعود السكينة والهدوء إلى مصر بتاتا.
وكان خوف الألفي من وصول القبطان باشا مع خمسين أو ستين ألف جندي جعله يفكر في ترك مصر، ولكن البكوات الآخرين أوضحوا له عدم لياقة ذلك، بينما تدعو الضرورة الملحة لاتحادهم جميعا ووقوفهم ضد أية قوة قد ترسلها القسطنطينية، ولكن عندما أعلن لهم الألفي أنه إذا منع من النزول إلى البحر فسوف ينسحب إلى القسطنطينية مع مماليكه، ولما خشي البكوات أن يترتب على فعله ذلك أذى كبير فقد وافقوا على ذهابه إلى إنجلترا على أمل أن لا يرجع ثانية، ولكنهم لم يخولوه مطلقا أية سلطات كسفير لهم ويتحدونه أن يظهر أي كتابة ممهورة بإمضاء أي «بك» من البكوات لإثبات ذلك، ثم ما لبثوا أن اعترفوا بأنهم أعطوه ورقا على بياض يحمل إمضاءاتهم، ويجهلون كيف تصرف بهذه الأوراق كما يجهلون الكتابة التي ملأها بها، ويشتبهون في أنه منحاز إلى جانب فرنسا ...
وأما سليم أفندي فقد آثر الابتعاد عن الألفي أثناء وجوده بمالطة، ولم يذهب لزيارته على ظهر السفينة «أرجو» إلا بعد إلحاح السير ألكسندر عليه، ووقف الألفي منه على التغييرات الكبيرة التي حدثت في مصر في غير صالحه، ولما كان مماليكه قد أبلغوا سليم أفندي أن الحكومة الإنجليزية أكدت للألفي أنه إذا لقي معارضة من عثمان البرديسي فسوف تمده فورا بخمسة عشر ألف رجل لإرغام البرديسي على الطاعة؛ فقد نفى الكابتن هالويل لسليم أفندي ذلك نفيا قاطعا وأكد له أن الحكومة الإنجليزية صديقة لجميع المماليك، ولا يمكن - بحال - أن تتدخل في منازعاتهم الداخلية، ولكن إذا هاجم الفرنسيون حزبا من حزبي الألفي والبرديسي فإن الإنجليز يمدون الحزب المتعرض لهجومهم بالنجدة.
وقد حاول الألفي بعد مقابلته مع سليم أفندي الحصول على ستة مدافع إما بالشراء وإما كهدية له، واعتقد هالويل أنه ربما كان يبغي عند عودته إلى مصر الانسحاب بها إلى الصعيد أو الحبشة والانتظار حتى تأتيه النجدات من فرنسا، وقد غادر الألفي مالطة على ظهر الأرجو في 4 فبراير، وأما سليم أفندي، فقد بقي بها على أمل أن يعود إلى مصر مع شارلس لوك
Lock
المعين حديثا في 30 يناير سنة 1804 قنصلا عاما بريطانيا في مصر مع بقاء «مسيت» إلى جانبه، ولكن «لوك» الذي كان على وشك الذهاب إلى القسطنطينية قبل تسلم منصبه في مصر لم يشأ - إذا هو اصطحب معه سليم أفندي - أن يظهر بمظهر من يريد تشجيع المماليك الثائرين على الباب العالي، وفي يونيو غادر مالطة إلى القسطنطينية، واضطر سليم أفندي للعودة بعد ذلك إلى مصر دون أن يظفر بشيء من السير ألكسندر بول.
وكان من أثر مساعي «تابرنا» ومناوراته أن صار الوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» يبذل قصارى جهده مع البكوات حتى يرفض هؤلاء كل ما قد يقدمه لهم «مسيت» أو «تابرنا» من عروض، ولكنه لما رأى البكوات منصرفين عنه؛ للأسباب التي ذكرناها في حينها، فقد صار يسعى لاستمالة زعماء الألبانيين، فكتب «مسيت» إلى حكومته منذ 18 نوفمبر سنة 1803، أن «لسبس» يعمل لتأليف حزب منهم، كما كتب عن هذا المسعى بإسهاب في رسالة أخرى بعث بها إلى حكومته من الإسكندرية في 12 مارس سنة 1804، ثم قال: «إن لديه من الأسباب القوية ما يحمله على الاعتقاد بأنه قد تم «لماثيو لسبس» استمالة اثنين من زعماء الألبانيين «محمد علي وأحمد بك» إلى تأييد المصلحة الفرنسية نهائيا، وإن زعماء الألبانيين لن يحجموا عن مساعدة جيش من الفرنسيين ينزل في هذه البلاد لفتحها.»
ثم استطرد يقول بسبب الحوادث التي أفضت إلى مقتل علي باشا الجزائرلي: «إنه لما كان محمد علي وأحمد بك قد ثارا ضد الباب العالي، فمن المحتمل أنهما يظنان أن هذا الذنب سوف لا يغتفر لهما تماما، وإنه - وإن صرح لهما بالعودة إلى بلادهما - لا يبعد أن تتخذ ضدهما بعض الوسائل السرية للقضاء عليهما، ولا جدال - لذلك وبسبب هذه الظروف - في أن تحدث العروض المغرية التي يتقدم بها الوكيل الفرنسي إليهما الأثر المطلوب منها حتما.»
وعلى ذلك، فقد كان بسبب هذه الحوادث والمناورات التي أظهرت استعداد الإنجليز - بفضل مساعي «تابرنا ومسيت» - لمؤازرة المماليك، واعتماد البكوات على هذه المؤازرة، أن بدأ الاتصال بين الوكلاء الفرنسيين في مصر وبين محمد علي، والذي كان من آثاره الأولى - على نحو ما رأينا - نصح محمد علي والزعماء الأرنئود لماثيو لسبس بمغادرة القاهرة عندما صح عزم هؤلاء على تدمير الانقلاب الذي أخرج البرديسي وإبراهيم من القاهرة.
وقد كان لمشروع ألكسندر بول - ومساعي تابرنا - أثر آخر لا يقل أهمية عما ذكرنا، هو زيادة الخلاف واتساع شقة الانقسام بين البكوات أنفسهم، بسبب المفاوضات التي صحبت هذا المشروع في مالطة وفي مصر، وقد كشف «لسليم أفندي» عن وجود هذا الانقسام في مقابلته مع الكابتن «هالويل» في مالطة، ومبعثه المنافسة الشديدة بين الألفي والبرديسي على الاستئثار بالسلطة العليا بين المماليك في حكومة البلاد الفعلية، وكان هذا الانقسام منشأ الأخطاء التي ارتكبها البكوات من ناحية، فأضاعت عليهم فرصة الحكم في مصر نهائيا، كما أنه أفاد «محمد علي» فائدة كبرى، عندما استطاع أن يغري البرديسي بالألفي وكان يخشى خطره، ثم تخلص من «حليفه» البرديسي بعد ذلك ومضى في طريقه خطوة أخرى نحو الاستئثار بالسلطة بفضل ذلك كله.
آثار مشروع «بول» في القسطنطينية
تلك إذن كانت آثار مشروع ألكسندر بول المباشرة في مصر، أما في القسطنطينية فقد لقيت مقترحاته كل قبول من رجال السفارة الإنجليزية بها، الذين أرادوا تكميل هذه المقترحات حينئذ بأن صاروا يحاولون إقناع الباب العالي حتى يتقدم من جانبه إلى الحكومة الإنجليزية بطلب إرسال قوة إنجليزية لاحتلال الإسكندرية، فقد انخدع «ستراتون» بدوره بالتعليمات التي أعطاها «السير ألكسندر بول» للكابتن «تابرنا» واعتقد أنها تفصح عن رغبة الحكومة الإنجليزية في الاستيلاء على الإسكندرية تحت ستار أي عذر يكون معقولا في ظاهره، لا سيما وأنه كان قد ذكر للورد هوكسبري منذ 25 أكتوبر 1803 أن رأيه كان دائما «أنه لا يرجى استقرار السلام في مصر طالما بقي المماليك والأتراك يتنازعونها، إلا إذا أقيمت بهذه المقاطعة «العثمانية» قوة أجنبية تتبع دولة ثالثة تكفي لإرغام كل من هاتين الجماعتين على احترام ما قد يعقدانه فيما بينهما من اتفاقات.»
وعلى ذلك، فقد ظن «ستراتون» أنه قد يكون من الخير أو أنه استطاع أن يسبق ما توقع أن تبديه حكومته من آراء تعرضها رسميا على الباب العالي، فكتب إلى هوكسبري في 21 يناير 1804 أنه لما كانت قد وصلته من «مسيت» في القاهرة رسالة بتاريخ 30 نوفمبر من العام السابق ومعها نسخة من رسالته إلى «هوبارت» مشتملة على مجمل تعليمات ألكسندر بول إلى تابرنا، فقد قابل الريس أفندي واقترح عليه أن يتقدم الباب العالي بطلب إلى ملك إنجلترا يرجوه أن يرسل - دون إبطاء - قوة بريطانية إلى الإسكندرية للمحافظة على الهدوء والسلام في مصر والدفاع عنها ضد هجوم الفرنسيين المتوقع عليها، وعلل ستراتون السبب في خطوته هذه بأن مضمون تعليمات السير ألكسندر يؤيد أن غرض الحكومة الإنجليزية إنما هو امتلاك الإسكندرية بأي عذر من الأعذار، وأنه وجد أن خير عذر أو وسيلة لذلك هو أن يتقدم الباب العالي نفسه بهذا الطلب.
ولكن الريس أفندي رفض هذا الاقتراح، وقد علل ستراتون نفسه هذا الرفض بقوله: إن الديوان العثماني «لديه فكرة غريبة هي اعتقاده أن إنجلترا إنما تريد الزج بتركيا في حرب مع فرنسا؛ ولذلك «فالأتراك» يرون في أية خطوة يمليها الاحتراس والحيطة، وأي اقتراح يقترح عليهم من هذا القبيل، فخا أو شركا ينصب لهم لإخراجهم من خطة الحيدة التي يزعمون أنهم بالتزامهم الدقيق لها قد يتجنبون أخطار الحرب التي تتهددهم»، وعلى ذلك فإنه عندما وصلت إليه تعليمات حكومته بشأن التدخل رسميا مع الباب العالي، من أجل إقناعه بالاتفاق مع المماليك، على أساس إرجاع نفوذهم السابق في حكومة مصر إليهم - نتيجة لسفارة الألفي في لندن - وجد «ستراتون» أن مركزه قد ضعف كثيرا لدى الباب العالي بسبب الشكوك التي أثارها اقتراحه وسوء الظن الذي أوجده.
والواقع أنه صار من المتعذر بعد ذلك على الحكومة الإنجليزية - نتيجة لنشاط ستراتون الذي أثار شكوك الباب العالي - أن تعمل بنجاح من أجل التوسط لإبرام اتفاق ودي بين الباب العالي والمماليك، وبالفعل كان الباب العالي مصمما على رفض أية وساطة من هذا النوع لأسباب عدة: منها خوفه من إمعان المماليك في معارضتهم له اعتمادا على التشجيع الذي يلقونه من جانب إنجلترا، فتعجز تركيا - إذا هي استجابت لمساعي الإنجليز - عن فرض سيادتها عليهم، زد على ذلك أن الأتراك كانوا لا يريدون إغضاب بونابرت وهم الذين كانوا قد رفضوا وساطته من قبل بينهم وبين المماليك، ومع أن الأتراك كانوا يخشون مشروعات بونابرت فقد كانوا يرجون الخلاص من ناحية أخرى في النهاية إذا هم تمسكوا بموقف الحياد الدقيق في الحرب القائمة.
وأخفقت جهود «ستراتون» في إقناع الباب العالي بإجابة رغبة الحكومة الإنجليزية في فبراير سنة 1804، وفي 2 مارس كتب لحكومته موضحا الأسباب التي تدعو الباب العالي إلى التمسك برفضه فيما لا يخرج عما سبق بيانه، بل إن الباب العالي بدلا من الاتفاق مع المماليك؛ كان مصمما على تعيين أحمد الجزار - باشا عكا - لباشوية مصر عندما بلغه خبر مقتل علي الجزائرلي، كما أرسل - على نحو ما كتب ستراتون في 10 مارس - سفينة حربية من نوع القرويت إلى مصر للحصول على معلومات دقيقة عن الموقف هناك، وأظهر استعداده لإرسال أسطول من أربع سفن حربية إلى الإسكندرية تحمل ألف جندي لتعزيز حاميتها، وأبلغ الريس أفندي ستراتون عند اجتماعه به في 19 مارس نبأ تعيين الجزار باشا، وعبثا حاول ستراتون إقناعه بأن هذا التعيين سوف يلقي مصر في أحضان الحرب الأهلية، وأن من المصلحة تسوية علاقاته مع البكوات على الأساس الذي تقترحه بريطانيا.
ولكن الريس أفندي الذي كان قد رفض وساطة فرنسا عند اجتماعه بسفيرها «برون» في 8 مارس؛ أصر على رفض وساطة إنجلترا كذلك، ثم استند الريس أفندي في تمسكه برفضه على ما بلغ الباب العالي من أنباء عن طرد البكوات «البرديسي وإبراهيم بك» من القاهرة في حوادث مارس وعن اتفاق الأرنئود على استدعاء أحمد خورشيد لتولي منصب الباشوية، وقد كتب ستراتون بعد ذلك في 25 مايو أن الباب العالي قد سمح بتثبيت خورشيد باشا في باشوية مصر فعلا.
وهكذا عندما وصل «شارلس لوك» - القنصل العام المعين لمصر - إلى القسطنطينية وعرض على الريس أفندي مقترحات السير ألكسندر بول في 16 يوليو، قوبلت هذه المقترحات بالرفض، واستندت تركيا في رفضها لها على رغبتها في ملاحظة موقف الحياد الدقيق في الحرب القائمة بين إنجلترا وفرنسا.
وهكذا أخفقت محاولة الإنجليز في الوساطة بين الباب العالي والمماليك لتسوية الخلافات القائمة بينهما على أساس يعيد للأخيرين سلطانهم الفعلي في الحكومة كوسيلة مثلى تهيئ سبيل الدفاع عن مصر، كما أخفقت محاولة الإنجليز في إقناع الباب العالي بالموافقة على مشروع السير ألكسندر بول ووضع حامية بالإسكندرية تحت إشراف البريطانيين ، أو طلب قوة إنجليزية أو أجنبية؛ لتعزيز حاميتها على نحو ما اقترحه ستراتون لغرض الدفاع عن مصر ضد الغزو الفرنسي.
وعلى ذلك فقد كان الأثر الثاني الذي ترتب على إثارة مشروع ألكسندر بول بالقسطنطينية سواء في صورته الأصلية أو على النحو الذي فهمه ستراتون، ثم ما عرف عن موقف الأتراك تجاهه، أن نظرية احتلال الإسكندرية سرعان ما وجدت أنصارا كثيرين يؤيدونها من بين السياسيين والعسكريين الإنجليز، ثم لم تلبث أن اتخذت شكلا واضحا في آخر الأمر من حيث ضرورة العمل بها سواء رضي الباب فكان الاحتلال بموافقته، أم رفض فكان الاحتلال عندئذ من شئون السياسة الإنجليزية ومن صميم الوسائل التي يجب عليها اتخاذها لمنع الفرنسيين من غزو البلاد وللدفاع عن مصر.
ولا جدال في أن مرد ذلك كان إلى تطور الحوادث في مصر ذاتها، بسبب الأخطاء التي ارتكبها البكوات الذين رفضوا الحل أو الترتيب الذي اقترحه «دراموند» وتحدثنا عنه سابقا، وقتلوا علي باشا الجزائرلي، وانقسموا على أنفسهم، فطارد البرديسي الألفي، وساءت إدارتهم حتى تمكن محمد علي من طردهم من القاهرة، وأحبط انحلال حكومتهم توسط إنجلترا ومساعيها في القسطنطينية للتدخل في صالحهم، وكان من المتعذر في هذه الظروف أن يكتفي الإنجليز بالاعتماد على الألفي؛ لتأسيس نفوذهم في مصر أو أن يتوقعوا لهذه الأسباب جميعها استطاعة المماليك الدفاع عن البلاد إذا تعرضت للغزو الفرنسي، لا سيما وقد ساورتهم الشكوك في ولاء الألفي نفسه لهم، عدا أنه صار مطاردا وهاربا، وحاول «هالويل» عند وصوله مع الألفي إلى الشاطئ المصري إقناع أحمد خورشيد في 19فبراير بأن الطريقة المثلى لإحباط مشروعات الفرنسيين إغراق عدد من السفن في مداخل الميناء القديمة؛ لمنع سفن العدو من الدخول إليها، ولكن دون طائل.
وقال «هالويل» في كتابه إلى «نلسن» في 16 مارس بعد عودته إلى مالطة: «إن الوقاحة بلغت بخورشيد باشا حدا جعله يقول له إنه إنما يحاول أن يجذب انتباهه إلى الفرنسيين حتى يشغله الحذر والاحتياط لدفع هجوم المماليك والألبانيين الذين يهددون من مدة بمحاصرة الإسكندرية»، وتدخل القنصل الفرنسي «دروفتي » لإحباط مشروع هالويل.
وهكذا كان واضحا أن الإنجليز لا يمكنهم الاعتماد على الألفي، ولا يمكنهم الاعتماد على البرديسي وإبراهيم، اللذين كانا قد أبديا ميولا طيبة نحو إنجلترا - بسبب وعود «تابرنا» لهما - فقد كتب مسيت في 29 مارس و13 مايو أنه لا يمكن الوثوق بهما، وأن البرديسي منحاز إلى فرنسا بسبب نشاط «لسبس»، فضلا عن توقع تواطؤ البكوات مع الفرنسيين ومؤازرتهم المنتظرة لجيشهم إذا جاء إلى مصر لما هو معروف عن خلقهم الغادر وخيانتهم، بل إن البرديسي لا يتورع عن التضحية بأي شيء بسبب أطماعه الشعبية في سبيل مصالحه الخاصة، وكذلك لا يمكن الاعتماد على خورشيد باشا، وهو الذي رفض مقترحات «هالويل».
ويشك مسيت علاوة على ذلك في أن لديه من الكفاءة والمواهب ما يجعله قادرا على شغل منصب الباشوية بنجاح، ولا نفوذ ولا جند له، ويستأثر محمد علي بالسلطة الفعلية منذ وصول خورشيد إلى القاهرة - رسالتا مسيت إلى هوبارت في 19 أبريل و28 مايو - ومن المتوقع حدوث اصطدام بين خورشيد ومحمد علي، ولا يمكن كذلك الاعتماد على محمد علي، وهو الذي اعتقد مسيت أنه قد انحاز نهائيا إلى جانب فرنسا - وقال مسيت في كتابه إلى ستراتون في 4 أبريل: «إنه عندما كلف ترجمانه في القاهرة بأن يبلغ الأرنئود نوايا الجمهورية الفرنسية ويشرح لهم آراءها وأغراضها العدوانية ضد مصر، وضد المورة ويرجوهم وضع عدد كاف من الجند على الساحل لمقاومة نزول أي جيش غاز، أبلغ محمد علي الوكيل الفرنسي هذه الرسالة المرسلة من «مسيت» إليه»، بل إن مسيت ما لبث أن أكد للورد هوبارت في 13 مايو بعد ثورة 11-13 مارس في القاهرة ضد البرديسي وإبراهيم بك «أنه من المعروف للخاص والعام أن الوكيل الفرنسي قد وعد «محمد علي» وأحمد بك بمبلغ ثلاثين ألفا من الجنيهات لإغرائهما بطرد المماليك من القاهرة»، وفي 5 مايو كان قد قال عنه: «إن هذا الزعيم «الألباني» كبير الولاء لفرنسا التي يبغي عن طريق وساطة وكلائها الوصول إلى باشوية مصر، ولن يتردد محمد علي لضمان هذه الوساطة عن اتباع أية خطة أو السير في أي طريق»، ولما كان من المنتظر أن تبذل فرنسا قصارى جهدها لمنع المماليك من استرجاع سلطانهم في الوجه البحري، وأن تؤيد - في الوقت نفسه - أغراض محمد علي الذي يعمل عندئذ - اعترافا بجميل فرنسا عليه، وخدمة لمآربه الخاصة - على تعزيز المصالح الفرنسية؛ فقد اقترح «مسيت» على حكومته في رسالته هذه «أن تتخذ ما يلزم من خطوات لإبعاده من «مصر»؛ لأنه - كما قال - رجل لا مبادئ له بدليل ما صرح به «لمسيت» نفسه من أن الحكومة التي تدفع له أكثر من غيرها هي التي تظفر بخدمته لها، الأمر الذي يجعل «مسيت» يعتقد يقينا أن «محمد علي» قادر على مناصرة جيش فرنسي يغزو البلاد إذا وجد في ذلك مزايا كافية لإغرائه وتحقيق مطامعه، وفضلا عن ذلك فإن «مسيت» يعتقد أن إبعاده من مصر يمكنه من الاستمتاع غاية الاستمتاع بذلك النفوذ الذي له على خورشيد باشا»، وقد استطاع «مسيت» فعلا أن يجعل خورشيد باشا يسعى لدى الباب العالي من أجل إبعاد محمد علي، وكتب إلى اللورد هوبارت في 16 أغسطس: «إن خورشيد - بفضل مساعيه - قد أوصى الديوان العثماني بتعيين محمد علي لباشوية سالونيك.»
وعلى ذلك فقد كان واضحا أن السلطة صارت موزعة في مصر بين أربعة أحزاب على رأسها البرديسي، والألفي، ومحمد علي، وخورشيد باشا، وأن الحكومة الإنجليزية لا تستطيع الاعتماد في شيء على أي حزب من هذه الأحزاب الأربعة، وكان حينئذ أن كتب مسيت إلى حكومته في 28 مايو: «إنه لا يمكن أن يكون هناك أي استقرار في الحقيقة أو أن يستتب الهدوء والسلام في مصر إلا في حالة واحدة هي أن تقدم الحكومة الإنجليزية على اتخاذ الوسائل النشيطة والفعالة للدفاع عن إقليم يعجز صاحب السلطان عليه عن صونه وحمايته والذود عن سلامته»، ومعنى ذلك بعبارة أخرى: أنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار في مصر إلا إذا صح عزم الحكومة الإنجليزية نهائيا على إرسال جيش «بريطاني» لاحتلال الإسكندرية.
وكان هذا الرأي الذي نادى به «مسيت» هو رأي «شارلس لوك» كذلك، لا سيما وقد فشل - كما سبق ذكره - منذ أن وصل القسطنطينية في يوليو في إقناع الباب العالي بالأخذ بمشروع ألكسندر بول وإدخال قوة نظامية أوروبية إلى الإسكندرية، وقد صار من رأي «لوك» بعد إخفاق محاولته، أنه سوف يكون من العبث من الآن فصاعدا - كما كتب «اللورد هاروبي»
Harrowby
وزير الخارجية منذ مايو 1804 في وزارة المستر بيت
من القسطنطينية إلى حكومته في 19 يوليو - أن تتوقع حكومته نوال موافقة وزراء الباب العالي سلفا على أي إجراء قد تجد من الحكمة اتخاذه فيما يتعلق بمصر، ولو أنه لا يشك بتاتا في أن الباب العالي سوف يرضى أمام الأمر الواقع بالموافقة على ما يكون قد تم اتخاذه من خطوات فعلا.
وقد حمل هذا الأمل الأخير «لوك» على الإسراع بالذهاب إلى مالطة؛ حيث كان ينتظر وصول حاجياته من إنجلترا ليبحر من مالطة إلى مصر، ولكنه توفي بالمحجر الصحي بمالطة في 12 سبتمبر.
نظرية احتلال الإسكندرية
أما هذه النتيجة التي وصلت إليها الدبلوماسية الإنجليزية في مصر وفي القسطنطينية - في مصر تبين عبث محاولة الاستناد على الأحزاب المتنازعة على السلطة بها، وفي القسطنطينية عبث محاولة إقناع الباب العالي بضرورة الاتفاق مع المماليك على أساس إرجاع السلطة لهم في مصر، أو الموافقة على وضع حامية أجنبية أو جيش بريطاني بالإسكندرية، وكل هذه المحاولات من أجل استقرار الهدوء والسلام في مصر، وتمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الغزو الفرنسي الذي توقعت الحكومة الإنجليزية حدوثه - فقد كان من أثرها أن قررت الحكومة الإنجليزية أنه لا غنى لها عن احتلال الإسكندرية لمنع الفرنسيين من غزو مصر سواء وافق الباب العالي على ذلك أم لم يوافق.
ولما كان ستراتون قد عرض على الباب العالي دون أن يأذن له وزير خارجية حكومته بذلك، أن يطلب من إنجلترا إرسال قوة من جيشها لاحتلال الإسكندرية، وعرف رفض الباب العالي لهذا الاقتراح في لندن، فقد بادر اللورد هاروبي في 19 أكتوبر 1804 بلوم ستراتون على اتخاذ هذه الخطوة التي لا أثر لها سوى إثارة مخاوف وحسد الباب العالي، وطلب إليه من الآن فصاعدا عدم اقتراح أي إجراء من شأنه إدخال جنود إنجليز إلى الإسكندرية على الأقل إذا لم يفاتحه الباب العالي نفسه في هذا الموضوع، «وأن يقصر نشاطه على إعطاء التأكيدات العامة عن رغبة «إنجلترا» في أن ترى الهدوء يعود إلى مصر وأن تصبح هذه البلاد في وضع يمكنها من الدفاع عن نفسها ومقاومة مشروعات «فرنسا» العدوانية.»
على أنه كان في هذه التعليمات أن أوضحت الحكومة الإنجليزية موقفها من مسألة احتلال الإسكندرية، فقال «هاروبي»: «وأما إذا حدث أن وصل «ستراتون» - مفاجأة وعلى غير انتظار - نبأ من قواد جلالة ملك «بريطانيا» في البحر الأبيض، مترتب على الخوف من توقع هجوم من ناحية الفرنسيين في وقت قصير، بحيث يكون من المستحيل الانتظار حتى يعطي الباب العالي موافقته الصريحة - بأن جنودا «بريطانيين» قد نزلوا فعلا بالإسكندرية، أو على وشك النزول بها لحمايتها أو حماية أي مكان مهدد آخر، فالواجب على «ستراتون» أن يصور هذا العمل أحسن صورة، وأن يعزو مبعثه إلى الضرورة الملحة التي لا تجيز الانتظار أو تسمح بالتأخير، وأن يؤكد للباب العالي أن الغرض من ذلك ليس سوى المحافظة على موقع هام وحمايته ضد دولة هي في الواقع عدوة لتركيا كما هي عدوة لإنجلترا، وأن هذا الموقع سوف يعاد إلى صاحب السيادة الشرعية عليه في أول فرصة تسنح ودون إمهال لإعادته في حالة زوال كل خطر يتهدده.»
وهكذا تكون قد أثمرت نصائح مسيت، وستراتون، والسير ألكسندر بول، واللورد نلسن، وغير هؤلاء من السياسيين والعسكريين الإنجليز، واحتضنت الحكومة الإنجليزية نهائيا مشروع احتلال الإسكندرية وأخذت به رسميا كخطوة حاسمة لمنع خطر الغزو الفرنسي عن مصر وسواء جاء هذا الاحتلال بموافقة الباب العالي أم حدث بالرغم من عدم موافقته أو معارضته له، وعندما أرسلت النجدات إلى البحر الأبيض بقيادة الجنرال السير جيمس كريج
James Craig
لفتت الحكومة الإنجليزية نظره في التعليمات التي أصدرتها إليه في 29 مارس 1805 إلى المحاولات التي قد يقوم بها الفرنسيون ضد أملاك السلطان العثماني وخصوصا ضد مصر، وقالت: إن احتلال قوة إنجليزية للإسكندرية يصبح في هذه الحالة أمرا ضروريا.
وأما تنفيذ مشروع احتلال الإسكندرية فقد ارتهن من أول الأمر بتطور الظروف والحوادث، فلم يرجئ العمل به مباشرة سوى انتصار الإنجليز في معركة الطرف الأغر البحرية في 21 أكتوبر 1805؛ لأن هذا النصر أكسبهم السيادة على البحار فانتفى مؤقتا أي خطر قد يهدد الشرق من جانب فرنسا، على أن الظروف ما لبثت أن تغيرت في العام نفسه وفي العام التالي حتى بات إرسال حملة إنجليزية لاحتلال الإسكندرية مسألة وقت فحسب، وكان بعض هذه الظروف ناشئا عن الحوادث التي وقعت في أوروبا، بينما نشأ بعضها الآخر عن الحوادث التي وقعت في مصر وأسفرت عن المناداة بولاية محمد علي.
الفصل الرابع
ظهور محمد علي: الخطوات الأولى
تمهيد
قام الصراع بين السياستين الإنجليزية الإيجابية والفرنسية السلبية بين عامي 1801-1805، من أجل الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، وتوجيه الأحزاب التي اعتقدت حكومتا لندن وباريس أن بوسعها رعاية مصالحها في البلاد: لندن لإنشاء حكومة قوية مستقرة تستطيع الدفاع عن مصر ضد الغزو الفرنسي الذي توقع الإنجليز حدوثه، وباريس لتأسيس النفوذ الفرنسي بعد أن كاد يتلاشى كلية عقب هزيمة جيش الشرق وخروج الفرنسيين من مصر، وكان مقصد القنصل الأول استئناف العلاقات التجارية بين البلدين، وفتح الأسواق المصرية للمنتجات الفرنسية، ثم إبطال مساعي ونشاط الوكلاء الإنجليز ومنع خصومهم من أن يكون لهم أي نفوذ سياسي في مصر.
ومع أن الإنجليز والفرنسيين - على السواء - راعوا في نشاطهم دائما عدم تنفير الأتراك أصحاب السيادة الشرعية على مصر، واستبقاء علاقات المودة معهم، الأولون حتى لا تنضم تركيا إلى فرنسا، والأخيرون حتى ينحاز إليهم الباب العالي في النضال القائم بينهم وبين إنجلترا؛ فقد ظهر أن الفريقين كانا يعتقدان أن المماليك وحدهم هم القوة الفعالة في مصر والتي في وسعها أن تحقق مآرب من يتيسر له منهما كسبها إلى جانبه.
وعلى ذلك فقد انحصر نشاط السياستين: الإنجليزية والفرنسية في توثيق الصلات مع البكوات، وأسفر هذا النشاط فيما يتعلق بالسياسة الفرنسية عن إخفاق «ماثيو لسبس» في مهمته للأسباب التي ذكرناها في حينها، والتي كان أهمها سلبية السياسة الفرنسية ذاتها، واقتصارها على بذل الوعود وإظهار النوايا الطيبة وترديد عبارات الود والصداقة ومحبة القنصل الأول للبكوات، ولم يقطع البكوات كل صلة لهم بالوكلاء الفرنسيين لسبب واحد هو أملهم في أن تستطيع الحكومة الفرنسية التوسط لهم بنجاح لدى الباب العالي لإعادة امتيازاتهم وسلطتهم السابقة في حكومة مصر إليهم بالصورة التي كانت عليها قبل الغزو الفرنسي، وقد أوضحنا كيف أن الفرنسيين عجزوا عن تحقيق ذلك.
وأما فيما يتعلق بالسياسة الإنجليزية فقد رأينا كيف تعددت أساليب ديبلوماسية الإنجليز في القسطنطينية والقاهرة، وقد تعددت مشاريعهم من أجل إنشاء الحكومة «المملوكية» التي رأوا قيامها ضروريا للدفاع عن مصر، ثم كيف تقدموا بمشروعاتهم لتنظيم هذا الدفاع نفسه، الأمر الذي انتهى بهم إلى الاقتناع بضرورة احتلال الإسكندرية كخطوة لا غنى عنها لصد أي هجوم قد يقع على مصر من ناحية الفرنسيين.
وقد أسفر الصراع بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية عن جملة أمور: أولها أن صلات الوكلاء الإنجليز والفرنسيين بالبكوات في مصر ومسعى رجال سفارتيهم في القسطنطينية في صالح هؤلاء؛ قد جعل البكوات يصرون على استمساكهم بما اعتبروه حقا لهم في أن يستأثروا بالحكومة الفعلية في مصر، كما نجم عن توسط الإنجليز والفرنسيين في القسطنطينية في مسألتهم أن ازداد الباب العالي تشبثا بموقفه فلم ينزل عن إصراره على طرد البكوات وإخراجهم من مصر كلية إلا عندما وجد زمام الأمور يفلت من يده في مصر، وصار البكوات أصحاب السلطة الفعلية في القاهرة وفي البلاد بأسرها، فلم يبق خارجا عن سيطرتهم سوى الإسكندرية، بل وصاروا يهددون الإسكندرية ذاتها، وعندئذ لم يكن لتسليم الباب العالي بالأمر الواقع الأثر الذي توقعته تركيا؛ لأن البكوات لم يثقوا في نواياها وقتلوا «الباشا» الذي عينته القسطنطينية «علي الجزائرلي»، كما لم يحدث الأثر الذي ظلت ترجوه الحكومة الإنجليزية من مدة طويلة؛ أي قيام الحكومة المستقرة في مصر؛ لأن البكوات كانوا منقسمين على أنفسهم وتعذر اتحادهم بسبب المنافسة الشديدة بين الألفي صنيعة الإنجليز، والبرديسي الممالئ للإنجليز وللفرنسيين على السواء سعيا وراء نفعه الخاص ومصلحته الشخصية، ففقد البكوات بعد ذلك حكومة القاهرة في انقلاب «مارس 1804»، واستؤنف النضال بينهم وبين «الباشا» الجديد أحمد خورشيد، الذي اضطر الباب العالي لتثبيته نزولا على الأمر الواقع بعد أن زيف أصحاب الانقلاب تقليده الولاية تزييفا، واستمرت الحرب الأهلية على شدتها، وعجزت حكومة أحمد خورشيد عن القضاء على الفوضى السياسية المنتشرة في البلاد.
وفي أثناء الصراع السياسي بين إنجلترا وفرنسا في مصر، اعتبرت كلا الدولتين أن وجود الأجناد الألبانيين «أو الأرنئود» ورؤسائهم من أشد عوامل الفوضى السياسية خطورة، ولم يفطن الوكلاء الإنجليز والفرنسيون في غمرة نشاطهم مع البكوات المماليك إلى ما قد يمكن أن يؤديه أحد رؤساء هؤلاء الأرنئود «محمد علي» من خدمات قد تساعد على استقرار الأوضاع في مصر وإقامة حكومة موطدة بها، فاعتبره «ماثيو لسبس» رجلا لا عبقرية ولا كفاءة له، وبذل «مسيت» قصارى جهده لإبعاده عن مصر.
وعندما نودي بولاية محمد علي في 1805، ظل «مسيت» يعتبره خصما لدودا للمصالح الإنجليزية في مصر ومناصرا للمصالح الفرنسية، واستمر يسعى لعزله وإبعاده، بينما كان بفضل تنبه الوكيل الفرنسي «دروفتي» أخيرا إلى ضرورة تأييد محمد علي لتعطيل نشاط الإنجليز كسياسة إيجابية اتبعها القنصل الفرنسي على مسئوليته الشخصية، أن نشأ ذلك التعاون الوثيق بين «دروفتي» وحكومة محمد علي لدفع العدوان الإنجليزي عندما جاءت حملة فريزر إلى الإسكندرية بعد ذلك بعامين تقريبا.
وقد ترتب على ما حدث من تضارب بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية، ثم عجز الباب العالي عن فرض سيطرته على مصر، وعجز البكوات المماليك بسبب انقسامهم - أكثر من أي سبب آخر - عن الظفر بحكومة البلاد الفعلية، أن ظلت الفوضى السياسية ضاربة أطنابها في البلاد، فلم يفلح تعيين علي الجزائرلي أو صفح الباب العالي عن البكوات واعترافه بحكومتهم في القاهرة في إنهاء هذه الفوضى، بل زاد من حدتها، كما لم يفلح تثبيته لأحمد خورشيد في باشوية القاهرة، في إقامة صرح الحكومة الموطدة المستقرة.
ولم يكن لما وقع من حوادث في فترة هذه الفوضى السياسية منذ أن خرج الفرنسيون من البلاد واسترجع السلطان العثماني سيادته الشرعية عليها، سوى أثر واقعي واحد هو تهيئة الأسباب التي ساعدت على ظهور محمد علي، عندما عرف هذا كيف يفيد من ظروف الفوضى السياسية؛ لشق طريقه إلى الولاية.
وقد يعتقد بعض الناس - اعتقادا مبعثه الميل لإطلاق العنان للخيال حتى يسبح في عالم الأقاصيص والأساطير الوهمية - عند الكلام عن حدث من الأحداث الفريدة، أن «محمد علي» وقف متفرجا يشهد ما يمر به من حوادث دون أن يكون له شأن بها ودون أن يكون له يد فيها، حتى هب الشعب بتوجيه زعمائه ورؤسائه يطلب من هذا الزعيم الألباني الذي واساه في محنته أيام حكومة البكوات في القاهرة، ثم أيام باشوية أحمد خورشيد بعد ذلك أن يتولى هو منصب الولاية، هكذا من تلقاء نفسه ودون أن يسعى محمد علي نفسه لهذه الباشوية.
ومع ذلك فقد آن الأوان لتصحيح هذه الصورة الخيالية، التي إلى جانب أنها لا تظهر «محمد علي» على حقيقته كرجل له من صفات المغامر الحربي ما يمنعه من الوقوف مكتوف اليدين أمام ما يقع يوميا من حوادث لا يمكن أن يغيب عن فطنته مغزاها، فهي صورة لا تتفق مع الحقيقة والواقع، وقد ذكرنا كيف أن معركة دمنهور (20 نوفمبر 1802) قد حددت قطعا بداية ذلك التطور الذي طرأ على موقف محمد علي من مجريات الأمور في مصر.
والحقيقة أنه صار لمحمد علي من ذلك الحين برنامج للعمل واضح المعالم، يهدف بصورة رتيبة متسقة إلى غرض واحد هو الوصول إلى الولاية، فقد أدرك من أول الأمر أن هناك عقبات معينة قد تحول دون وصوله إلى الحكم إذا ظلت محتفظة بقواها كعوامل لا سبيل لنكران أثرها في تكييف وضع البلاد، وهو وضع يبقي الفوضى السياسية على حالها، بل ويزيد من حدتها، ثم إنها قد تساعده على الوصول إلى الحكم إذا عرف كيف يتدبر أمرها ويخضد من شوكتها، ويترتب على نجاحه عندئذ إنهاء هذه الفوضى السياسية ذاتها وإقامة صرح الحكومة المستقرة الموطدة، وأما هذه العوامل أو القوى فكانت أولا الباشا العثماني: ويستند هذا في ممارسة سلطته سواء أكانت حقيقية أم وهمية على فرمان الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على البلاد. وقد يكون هذا الباشا صاحب قدرة ودهاء أو صاحب أطماع ويعتمد في دعم أركان باشويته على ما قد ينتظره من نجدات من تركيا، أو ما قد يستقدمه هو فعلا من عسكر لمعاضدته، أو يستند في قيام حكومته على طائفة معينة من الأجناد.
ثم هناك ثانيا: الأرنئود، وهؤلاء كانت لهم الكثرة العددية على سائر الأجناد من إنكشارية وغيرهم، وكانوا عنصر فوضى واضطراب، يعيثون فسادا في البلاد، وينهبون ويسلبون ويقيلون، عجز الباشوات عن ردعهم عندما عجزوا بسبب خلو الخزانة دائما من المال عن دفع مرتباتهم المتأخرة لهم.
ثم هناك ثالثا: البكوات المماليك، وهؤلاء - مهما عظمت انقساماتهم واشتدت خلافاتهم فيما بينهم - كان يجمعهم أمر واحد هو رغبتهم في استرداد سلطانهم المفقود، والسيطرة على حكومة البلاد الفعلية، والعودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي.
أضف إلى هذا كله وجود ذلك الصراع السياسي المستعر بين إنجلترا وفرنسا لإحراز النفوذ الأعلى في مصر، وكان هذا الصراع من عوامل الفوضى السياسية، وقد يمكن من المهارة استغلاله والاستفادة منه لتأسيس حكومة موطدة قوية، ثم هناك أخيرا الباب العالي نفسه، وقد دلت التجارب على أنه يرضخ دائما للأمر الواقع بسبب عجزه وضعفه، ولو أنه لا يمكن الوثوق به أو بوعوده، وقد يمكن توقي شره بمداورته ومداراته.
وقد عرف محمد علي - خصوصا في السنوات الثلاث التي سبقت المناداة بولايته في مصر - كيف يتغلب شيئا فشيئا على هذه الصعوبات، ويزيل تلك العقبات من طريقه واحدة بعد الأخرى؛ فهو قد اتبع مع الباشوات - أو الولاة - طريقا واحدا من ثلاث: إما التخلص ممن ظهر بأسهم وتمرسهم في المكائد، كخسرو باشا وعلي باشا الجزائرلي فاشترك في تأليب الأرنئود على الأول، وكان خسرو يعتمد على الإنكشارية وتأليب البكوات على الثاني، وكان هؤلاء يريدون استمرار سلطانهم في القاهرة، وإما إضعافهم بالابتعاد عن شئون الحكم والتخلي عن مؤازرتهم كما فعل مع طاهر باشا في أثناء قائمقاميته، وإما جعلهم يعتمدون عليه شخصيا، حتى إذا استكمل العدة سعى لتدبير طردهم من الولاية كما فعل مع أحمد خورشيد باشا.
وفطن محمد علي لقوة الأرنئود كعامل هام من عوامل هذه الانقلابات، فحرص أولا على أن لا يزيد من كانوا منهم تحت قيادته المباشرة على العدد الذي يستطيع أن يدفع له مرتباته، وقد استمر الحال على ذلك إلى أن قتل زعيمهم الآخر طاهر باشا، وعندئذ صارت شكاوى الأرنئود من عدم دفع مرتباتهم مسألة تتحمل الحكومة أو «الباشا» وحدها مسئوليتها، ويطالب محمد علي نفسه هذه الحكومة بدفع مرتبات الجند، بل وصار يتخذ من مسألة المرتبات المتأخرة ذريعة لتحريك الأرنئود ضد الحكومة، ليس فقط حكومة الباشوات، بل وحكومة البكوات المماليك، ثم إنه إلى جانب ذلك عرف كيف يوثق صلاته مع سائر رؤساء الأرنئود من إخوة وأقرباء طاهر باشا خصوصا بعد موته، فظل أكثر هؤلاء الرؤساء إلى جانبه في أشد الأوقات حروجة؛ أي في أثناء أزمة المناداة بولايته على مصر.
وأما البكوات المماليك فقد استعان بهم في التخلص من خسرو نهائيا، ثم من علي الجزائرلي. كما عرف كيف يستغل ما بينهم من خلافات لكسر شوكتهم وزيادة شقة هوة الخلافات اتساعا بينهم، فشجع البرديسي على مطاردة الألفي، حتى إذا اطمأن إلى ضعف البكوات في القاهرة طردهم جنده منها، وقد عرف محمد علي كيف يستغل غضب المشايخ والعلماء على حكومة البكوات بسبب المظالم التي أوقعها البرديسي وإبراهيم بالقاهريين ومشايخهم وأعيانهم؛ لتأليب العامة عليهم، وكان تحريكه لهذه القوة الشعبية من العوامل ذات الأثر المباشر في وصوله إلى الولاية أخيرا وعزل أحمد خورشيد، وتزويد الباب العالي بالمبرر الذي يمكنه من المحافظة على هيبته عند تثبيته «محمد علي» في الولاية نزولا على حكم الأمر الواقع.
وشهد محمد علي أثر الصراع السياسي بين إنجلترا وفرنسا، في اعتماد طوائف المماليك على هاتين الدولتين للتوسط لدى الباب العالي من أجل حسم الخلافات القائمة بين البكوات وبين السلطان العثماني، وإعطاء البكوات الحكم في مصر. وكان نجاح الألفي في سفارته في لندن مبعث خوف شديد له وخشي أن يستطيع الألفي بفضل ما اتضح من مؤازرة الإنجليز له أن يستولي على الحكومة، وعده محمد علي أخطر منافس له، ولا سبيل لدفع هذا الخطر سوى اتحاد البرديسي معه في مطاردته، ثم شهد كيف أثمرت مساعي الديبلوماسية الإنجليزية في القسطنطينية، فكانت تلك الحلول التي عرضها الباب العالي على البكوات ورفضها هؤلاء. زد على ذلك محاولة خسرو باشا الاستعانة بالإنجليز لاسترداد باشويته في مصر، فكان لذلك إذن أن وجد محمد علي لزاما عليه إذا أراد النجاح أن يكسب مناصرة إحدى هاتين الدولتين: إنجلترا أو فرنسا لتأييده. ولما كان ظاهرا بسبب السياسة الإيجابية التي اتبعتها إنجلترا دائما في صالح البكوات المماليك؛ أنه من المتعذر عليه استمالة هؤلاء إلى جانبه أو التفاهم معه.
وقد تقدم كيف أن قنصلهم «مسيت» في مصر كان يطلب إبعاده، فقد بذل قصارى جهده للتودد إلى القنصل الفرنسي «ماثيو لسبس» ثم إلى «دروفتي» من بعده، وقد تكللت مساعيه بالنجاح مع دروفتي بعد المناداة بولايته في مايو 1805 عندما وجد دروفتي نفسه أنه قد بات من واجبه تعضيد محمد علي وقد صار «باشا» مصر - لتأييد المصالح الفرنسية، ولتعطيل مشاريع الإنجليز، ثم بعد ذلك لإحباط حملتهم المعروفة في عام 1807.
وأما من جهة الباب العالي، فقد استعان محمد علي في تحقيق مآربه بالهدايا التي صار يبعث بها إلى رجال الديوان العثماني منذ أن بدأ مسعاه جديا لدى الباب العالي في أثناء حكومة خورشيد لنوال باشوية مصر، قبل انقلاب «مايو 1805» بمدة طويلة، حتى إذا حدث الانقلاب صار يعزز مسعاه في القسطنطينية من أجل تثبيته في الولاية بالاستناد على ثقة المشايخ والعلماء والشعب به، ورغبتهم في أن يكون واليا عليهم، وقد انتفع محمد علي بهذه المؤازرة الشعبية في الأزمات التي واجهها في علاقاته مع الباب العالي كذلك في أثناء عام 1806. (1) قائمقامية طاهر باشا
كان طرد خسرو من باشوية القاهرة أول انقلاب من نوعه حدث منذ أن استرجع الباب العالي مصر، وثورة صريحة ضد الممثل الشرعي لسلطانه في البلاد، ووقف طاهر باشا متزعم هذا الانقلاب موقف الثائر على الباب العالي؛ ولذلك صار لزاما عليه أن يفسر لأولي الأمر في القسطنطينية الأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب، وأن يستصدر من الباب العالي فرمانا بتقليده الولاية، وأن يضفي على حكمه المظهر الشرعي أو القانوني حتى يأتيه فرمان الولاية، فطلب من المشايخ والقاضي وعلماء الشريعة والقانون تلبيسه قائمقام، وفي 6 مايو «اجتمع المشايخ عند القاضي وركبوا صحبته وذهبوا عند طاهر باشا وعملوا ديوانا وأحضر القاضي فروة سمور ألبسها لطاهر باشا ليكون قائمقام حتى تحضر له الولاية أو يأتي وال.»
وذكر «روشتي» في رسالته إلى البارون «شتورمر
Stürmer » في 6 مايو 1803 ما دار في هذا الاجتماع، فقال: «إن طاهر باشا قد طلب من القاضي كتابة إعلام كوثيقة شرعية تسرد ما وقع من حوادث أفضت إلى طرد خسرو باشا، وكانت صورة هذا الإعلام معدة في عبارات تنعي على خسرو باشا إسرافه في بناء سرايه وتحصينه، بينما ترك الجنود الألبانيين دون أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، وصار يماطلهم وأحالهم على الدفتردار: ثم أراد أن يفتك بالأرنئود في مذبحة كبيرة لم ينقذهم منها لحسن الحظ سوى تذمر الشعب الذي أثقلته المظالم والإتاوات، والذي بمجرد أن أدراك ما يتعرض له من الأخطار فزع إلى حمل السلاح ولم تهدأ ثورته إلا بفضل نصح طاهر باشا بالتزام الهدوء والسكينة، وقد اضطر طاهر باشا والأرنئود إلى المحافظة على الهدوء والسكينة للاستيلاء على القلعة.»
وواضح أن هذا التفسير الذي أراد طاهر باشا أن يعلل به الثورة على خسرو لم يكن صحيحا فيما يتعلق بقيام الشعب؛ لأنه من الثابت في أثناء الاصطدام الذي وقع بين طاهر باشا وجنده الأرنئود وبين خسرو باشا وجنده من العبيد السود والتكرور - الذين ألف منهم حرسا خاصا له في بداية ولايته - أن الشعب لم يشترك في شيء من ذلك، بل صار بعض أولاد البلد يذهب إلى الفرجة ويدخل بينهم ويمر من وسطهم فلا يتعرضون لهم ويقولون نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا، ومع ذلك فقد وقع المشايخ والقاضي والوجاقلية على هذا الإعلام وبصورته المحضرة في 9 مايو وأرسلوه إلى إسلامبول.
وكان في اجتماع «5 مايو» الذي ألبس في أثنائه طاهر باشا «فروة» القائمقامية، أن تحدث السيد عمر مكرم عن المظالم والإتاوات التي يشكو منها الشعب، «وكلموه على رفعها وظنوا فيه الخير»، فوعدهم طاهر باشا والدفتردار خليل أفندي الرجائي برفعها، واصدر طاهر باشا منشورا طمأن فيه الناس على أموالهم وأرواحهم، ويبدو أن طاهر باشا كان في عزمه أن يحكم حكما طيبا، فنودي في الناس بالأمان، ومنع الجند من التعرض للأهلين، وأمر الباشا بأن تعرض عليه شكاوى الأهلين إذا وقع عليهم اعتداء من الجند حتى ينتصف لهم وينتقم بنفسه من الجنود المعتدين، وبدا في الأيام الأولى من قائمقاميته أن السلطة قد دانت له تماما حتى لم يعد هناك - على حد قول مسيت - ما يدل على أنه من الممكن طرده منها.
وحرص طاهر باشا على إظهار ولائه للباب العالي، كما حرص على تطمين الأوروبيين بالقاهرة فصار يهدئ من روعهم ويؤكد لهم اهتمامه بالمحافظة على سلامة أرواحهم واحترامه لأشخاصهم وعدم إلحاق أي أذى بأموالهم وأملاكهم، وصار يبذل قصارى جهده حتى لا يغادر هؤلاء القاهرة إلى الإسكندرية، ولما كان «مسيت» الوكيل الإنجليزي قد وصل إلى بولاق من الإسكندرية وقت قيام الثورة، فقد احتجزه الأرنئود هو ورفيقيه: الكابتن «هايز» والمستر «أدريان» الطبيب مدة يومين، حتى إذا هدأت الأمور أطلقوا سراحهم، ووجد «مسيت» نفسه في حيرة من أمره، لا يدري كيف يكون مسلكه من طاهر باشا، وهل يعتبره عاصيا وثائرا على الدولة أم أحد رعايا الباب العالي المخلصين، وكتب إلى حكومته منذ 4 مايو أنه «سيبقى في قلقه وحيرته هذه حتى يعرف من هو ممثل السلطان سليم الثالث في مصر»؛ لأن خسرو باشا كان لا يزال «الباشا» الشرعي، ولم يصل أمر من الباب العالي بعزله.
ورأى طاهر باشا لدعم سلطانه في القاهرة أن يتفق مع البكوات المماليك ويتحالف معهم، وكان خسرو - على نحو ما قدمنا - قد بدأ مفاوضاته معهم منذ أن وصله أمر الباب العالي بالقبض على رؤسائهم الأربعة: إبراهيم والألفي والبرديسي وأبي دياب وإرسالهم إلى القسطنطينية، ثم الاتفاق مع سائر البكوات والمماليك على أساس خروجهم من البلاد، والانسحاب للعيش في أي مكان يختارونه - غير مصر - مع إعطائهم المرتبات والمعاشات.
ومع أن خسرو أفلح في استمالة عثمان بك حسن وصالح بك الصغير، فحضرا مع أتباعهما إلى القاهرة للاستفادة من صفح الباب العالي وعفوه وللتفاهم مع خسرو؛ فقد ظل سائر البكوات لا يرضون بالتفاهم مع الباشا على غير ما طالبوا به، وهو بقاؤهم وأتباعهم في مصر، واسترجاعهم لنفوذهم السابق في الحكومة، وتجددت مفاوضات خسرو معهم منذ سبتمبر سنة 1802 وعرض على البكوات «إقطاع إسنا» إذا رفض رؤساؤهم الذهاب إلى إسلامبول ورفض سائر البكوات والمماليك مغادرة البلاد، ولكن دون نتيجة، حتى حدث في 19 نوفمبر من العام نفسه أن وصل إلى القاهرة فرمان من الباب العالي يطلب من خسرو «قتال الخائنين، وإخراج الأربعة أنفار؛ أي البكوات الأربعة المعروفين، من الإقليم المصري بشرط الأمان عليهم من القتل وتقليدهم ما يختارونه من المناصب في غير إقليم مصر.»
وقد وصل هذا الفرمان قبل وقوع معركة دمنهور بيوم واحد، وهي المعركة التي انتصر فيها البكوات، وقد تتابعت الحوادث مسرعة بعدها، فلم يعرف البكوات كيف يفيدون من النصر الذي أحرزوه، ثم دب الانقسام بينهم - كما هي عادتهم - وخرج الألفي مع جيش الإنجليز في مارس، وحاول البكوات توسيط المشايخ، فبعثوا برسالة من الصعيد إليهم على يد الشيخ «سليمان الفيومي»، وكان البكوات قد انسحبوا إلى الصعيد؛ بناء على نصح الجنرال ستيوارت لهم في الظروف التي ذكرناها سابقا، وسلم الفيومي رسالة البكوات إلى خسرو، وفي أبريل سنة 1803 استولى البكوات على المنيا عنوة، وفي مايو طرد خسرو من القاهرة، وأوفد البكوات رسولا هو جعفر كاشف تابع إبراهيم بك يحمل منهم كتابا إلى المشايخ، ووصل جعفر كاشف القاهرة في أثناء مرحلة الحوادث الأخيرة التي انتهت بفرار خسرو، وصار يجتمع بطاهر باشا، ويبدو أن «طاهر باشا» قد بدأ من ذلك الحين سياسة التفاهم مع البكوات للتحالف معهم.
وكان عند اجتماع المشايخ والقاضي بطاهر باشا لإعلان قائمقاميته في 5 مايو، أن قرأ هؤلاء المكتوب الذي حضر من عند الأمراء القبالى يعلنون فيه طاعتهم وامتثالهم، وينفون عن أنفسهم تهمة «التعدي والمحاربة»، ويشكون من تصدي الجند والحكام لقتالهم في كل مكان يقصدون إليه أو يبغون المرور منه وهم في طريق انسحابهم إلى الجنوب حتى وقع حادث المنيا، وانهزم العسكر في كل التحاماتهم معهم، ويلقون تبعة ما حدث على الوزير «خسرو باشا» الذي رفض - على حد قولهم - وساطة «سادتهم المشايخ الذين رجوهم أن يتشفعوا لهم عنده ... وأبى إلا إخراجهم من القطر المصري كله.»
ثم قالوا: «وبعثتم؛ أي الوزير خسرو، تحذروننا مخالفة الدولة العلية مستدلين علينا بقوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، ولم تذكروا لنا آية تدل على أننا نخرج من تحت السماء ولا آية تدل على أننا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ...» وسأل المشايخ عن الجواب الذي يردون به على كتاب البكوات، فقال طاهر باشا: حتى نتروى ثم لم يلبث أن كتب هو بعد ذلك كتابا إلى البكوات «يخبرهم فيه بما وقع من طرد خسرو وإعلان قائمقاميته، ويأمرهم أن يحضروا بالقرب من مصر؛ فربما اقتضى الحال المعاونة»، وكان البكوات يريدون بقاء إقليم البهنسا - على وجه الخصوص - في أيديهم؛ ليعيشوا من إيراداته بدل حياة السلب والتخريب التي قالوا إنهم أرغموا عليها إرغاما بسبب إصرار الباب العالي والباشا العثماني على إخراجهم وطردهم من مصر، وذلك حتى تتضح نتائج سفارة الألفي في لندن، وانتظار الأمر من الباب العالي، وحضر البكوات؛ تلبية لدعوة طاهر باشا، وعسكروا أمام الجيزة (22 مايو) ولكن الحوادث لم تمهل «طاهر باشا» لتنفيذ سياسته.
ذلك أن الصعوبات سرعان ما أحاطت بقائمقاميته من كل جانب، فقد كان خسرو باشا الذي لم يصدر فرمان بعزله هو ممثل السلطان العثماني الشرعي في البلاد، وقد استطاع أن يقيم معسكره بالمنصورة، وأن يضع حامية قوية في الرحمانية للسيطرة على الملاحة في فرع رشيد، بينما أقامت حامية أخرى بمنوف، ولو أنه أهمل الاستيلاء على مدينة رشيد وقلعتها التي بقيت في أيدي جماعة من الأرنئود أرسلوا من القاهرة لاحتلالها بعد حادث فراره من القاهرة.
ثم إن حاكم الإسكندرية أحمد خورشيد لم يلبث أن عقد مع القناصل اجتماعا حوالي 4 مايو، قرروا فيه قطع المواصلات مع القاهرة، وذلك بتحطيم الجسور عند بحيرة المعدية والسد، وحراسة الممرات والمسالك المؤدية إلى المدينة؛ خوفا من أن ينتهز المماليك فرصة الاضطرابات الناجمة عن الانقلاب الأخير، فيغيرون عليها.
ومما يجدر ذكره أن خورشيد باشا عند بداية الحوادث التي انتهت بفرار خسرو من القاهرة كان قد غادر الإسكندرية متجها صوب القاهرة، حتى يرقب - عن كثب - تطورها، فكان قريبا من بولاق عند خروج خسرو في 2 مايو، وأسرع بالعودة إلى الإسكندرية مع أتباعه، عندما تبين له أن زمام الأمور قد أصبح في يد طاهر باشا، وكان أول عمل له بالاشتراك مع قناصل الدول ومع أمير البحر العثماني في مياه الإسكندرية، تعزيز الدفاع عن المدينة بإقامة البطاريات في كل مكان، وقطع كل اتصال مع رشيد.
ثم أخيرا عقد ذلك الاجتماع الذي تحدثنا عنه والذي تقرر فيه قفل المواصلات مع القاهرة، فصارت القاهرة معزولة عن الإسكندرية، إلى جانب عزلتها عن سائر أقاليم الوجه البحري والصعيد، الوجه البحري بسبب نشاط خسرو باشا خصوصا وقتئذ (مايو)، والصعيد بسبب ما كان للبكوات من سيطرة في تلك الأقاليم، وهكذا كتب «مسيت» من القاهرة إلى حكومته في 14 مايو؛ أي بعد أقل من أسبوعين من إعلان القائمقامية الجديدة، «إن حكومة طاهر باشا لا تتعدى القاهرة ومساحة بسيطة من الأرض حولها.»
على أن «مسيت» قال كذلك في رسالته هذه: «إن طاهر باشا لا يمكنه بحال أن يدعي - إلى جانب ما تقدم - أنه يتمتع بسيطرة وسلطة كاملتين داخل أسوار القاهرة ذاتها»؛ وذلك لأن طاهرا لم يلبث أن واجهته نفس الصعوبات التي واجهت خسرو من قبل والتي كان مبعثها - في واقع الأمر - خلو الخزانة من المال، وكان طاهر في حاجة ملحة إلى المال لسد نفقات الإدارة وهي نفقات متزايدة بسبب الظروف الاستثنائية التي اقترنت بالانقلاب الأخير، ثم لدفع مرتبات الجند، وللإنفاق على التجريدة التي أعدها بقيادة أخيه حسن بك لمطاردة خسرو باشا .
وقد بدأت هذه سيرها في النيل من بولاق وفي البر كذلك منذ 18 مايو، فاشتط طاهر في طلب المال، وفرض المغارم على أنصار خسرو باشا وعلى رأسهم السيد أحمد المحروقي كبير التجار، وكان هذا قد حاول مع ابنه الهرب مع خسرو، فلحق به الأرنئود وأرجعوه قسرا بعد أن «عروه وشلحوه هو وأتباعه وابنه، وأخذوا منهم نحو عشرين ألف دينار».
ثم فرض طاهر باشا علي المحروقي بعد ذلك ستمائة كيس بعد أن تشفع له المشايخ، وأخرج طاهر عنه، وكان قد حبسه في القلعة مع نفر من أنصار خسرو وهم: أغاة الإنكشارية ومصطفى كتخدا الرزاز كتخدا العزب ومصطفى أغا الوكيل وأيوب كتخدا الفلاح وأحمد كتخدا علي باش اختيار الإنكشارية كما أن «طاهرا» سرعان ما تشاجر مع الشيخ السادات، وكان الشيخ قد تشفع في أحد المقبوض عليهم وهو «مصطفى أغا الوكيل» فنكث طاهر بعهده بدعوى مصادرة مكاتبة من خسرو إليه وأنزله من بيت الشيخ، ولكنه أمام غضب السادات وافق على أن لا يقتله ولا يطلقه.
وفرض طاهر باشا على مصطفى أغا مائتين وعشرين كيسا، واستمر طاهر في مظالمه، فسجن في 13 مايو «يوسف بك» كتخدا خسرو باشا وألزمه بدفع غرامة كبيرة، وفي 15 مايو «قبضوا على أنفار من الوجاقلية أيضا المستورين وطلبوا منهم دراهم، وعملوا على طائفة القبط الكتبة خمسمائة كيس بالتوزيع»، وفي 17 مايو «قبضوا على جماعة منهم وحبسوهم، وكذلك عملوا على طائفة اليهود مائة كيس»، وفي 19 مايو «قبضوا على المعلم ملطي القبطي من أعيان كتبة القبط وفرموا رقبته عند باب زويلة، وكذلك قطعوا رأس المعلم حنا الصبحاني أخي يوسف الصبحاني - من تجار الشوام - عند باب الخرق».
وفي 22 مايو أفرج عن يوسف بك بعد أن دفع ثمانين كيسا، ونزل من القلعة إلى داره، وفي ليلة 25-26 مايو خنقوا - بالقلعة - أحمد كتخدا علي ومصطفى كتخدا الرزاز.
وهكذا كانت قائمقامية طاهر باشا سلسلة من حوادث الفتك والمظالم، وبلغ من اضطراب الأحوال، وضعف سلطان الباشا بالرغم من أعمال المصادرة والحبس والقتل، أن القاهرة ذاتها خضعت لسلطة رئيس الجند الأرنئود المباشر الذي قال عنه «مسيت» إنه صار يفرض الإتاوات على الأهلين باسمه «ويدعي لنفسه درجة مساوية للباشا ومنفصلة عن درجة الباشا نفسه.»
وكان اعتماد طاهر باشا الظاهر في دعم أركان قائمقاميته على الأجناد الأرنئود الذين تم الانقلاب بزعامته على أيديهم، فآثرهم على الإنكشارية، وكان جماعة من هؤلاء قد جاءوا إلى القاهرة منذ 23 أبريل، قبل الانقلاب الذي طوح بحكومة خسرو باشا، وكانوا في طريقهم إلى جدة بسبب فتنة «الوهابيين» في الحجاز، ومع أن هؤلاء ظلوا ساكنين هادئين في المكان الذي أنزلوا فيه بجامع الظاهر خارج الحسينية، «وحصلت كائنة محمد باشا خسرو وهم مقيمون على ما هم عليه»، ولم يشتركوا في حوادثها، فقد اعتبرهم طاهر باشا من جماعة خسرو وأنصاره؛ لأن الأخير من العثمانلي الذين يعتمدون على الإنكشارية «فخذ السلطنة».
وعلى ذلك فقد صار يدفع لطائفة الأرنئود - عندما فرض الفرض «وصادر الناس في جماكيهم المنكسرة - أو يحولهم بأوراق على المصادرين، وكلما طلب الإنكشارية شيئا من جماكيهم قال لهم ليس لكم عندي شيء ولا أعطيكم إلا من وقت ولايتي، فإن كان لكم شيء فاذهبوا وخذوه من محمد باشا»، ثم ازداد حنق الإنكشارية عندما استعلى عليهم الأرنئود وازدروا بهم، وكان الإنكشارية يعدونهم خدمهم وعسكرهم وأتباعهم.
وعلى ذلك فقد بيت الإنكشارية النية على الظفر بمرتباتهم وإنهاء شموخ الأرنئود عليهم، أو الخلاص من طاهر باشا نفسه، وعاونهم في هذا التدبير أو المؤامرة أحمد باشا والي المدينة المنورة، والذي كان بالقاهرة منذ أواخر مارس ثم بقي بها حتى وقع انقلاب مايو، ووجد في تذمر الإنكشارية فرصة مواتية للتدخل في شئون القاهرة والظفر بباشويتها، فانحاز إليهم - ولو أنه كان هو وأتباعه من الأرنئود.
وفي 26 مايو خرج الإنكشارية لمقابلة طاهر باشا وهو على أهبة الذهاب لمقابلة البكوات المماليك الذين كانوا قد حضروا بناء على دعوته لهم، وربضوا أمام الجيزة، فطالب الإنكشارية بمرتباتهم، ولكن طاهرا أصر على أنه «ليس لهم عنده شيء إلا من وقت ولايته ، وإن كان لهم شيء مكسور فهو مطلوب لهم من باشتهم محمد باشا خسرو»، فلما ألحوا عليه نثر فيهم فعاجلوه بالحسام وقطعوا رأسه، وانتهى عهد طاهر باشا.
ويصف «روشتي» ما وقع من حوادث بعد ذلك - في كتابه إلى البارون شتورمر في 27 مايو - ويؤيده في روايته الشيخ الجبرتي، وكلاهما يصف ما حل بالأرنئود من الفزع والرعب عقب قتل طاهر باشا وفتك الإنكشارية بكل من وقع منهم في أيديهم، ثم التفاف الأرنئود حول زعيمهم محمد علي.
وبادر أحمد باشا في أول الأمر بالكتابة إلى محمد خسرو «يعلمه بصورة الواقعة ويستعجله في الحضور»، وظن الموالون لخسرو باشا أن في استطاعته استرجاع منصبه في القاهرة، فكتب إليه السيد أحمد المحروقي يستعجله كذلك في الحضور، كما كتب له بذلك غيره، حتى إذا أعلن الإنكشارية تأييدهم لأحمد باشا وقلدوه المنصب الذي كان يشغله طاهر باشا، أسرع من فوره يعمل لتعزيز مركزه الجديد، «فأحضر المشايخ وأعلمهم بما وقع وأمرهم بالذهاب إلى محمد علي»، حتى يطلبوا منه الإذعان والطاعة.
وكان محمد علي طوال قائمقامية طاهر باشا، قد استمر بمعزل عن الأمور، لما كان واضحا من زعزعة مركز طاهر باشا نفسه، وخروجه الظاهر على سيادة السلطان العثماني، بسبب الانقلاب الذي أفضى إلى طرد ممثل الباب العالي الشرعي من القاهرة، ولكن مقتل طاهر باشا واستعلاء الإنكشارية الذين نصبوا - الآن - أحمد باشا قائمقام؛ كان معناه إذا استتبت الأمور لهم إنهاء سيطرة الأرنئود، ومن المحتمل كذلك إخراجه من مصر كلية، فلم يكن في صالح محمد علي الاعتراف بحكومة أحمد باشا، وعلى ذلك فقد رفض الإذعان والطاعة، فكان جوابه للمشايخ الذين وسطهم أحمد باشا عنده أن الأخير لم يكن واليا على مصر بل هو والي المدينة المنورة، وليست له علاقة بمصر، وقال محمد علي: «إنه وإن كان هو الذي ولى «طاهر باشا» فذلك لكونه محافظ الديار المصرية من طرف الدولة وله شبهة في الجملة، وأما أحمد باشا فليست له جرة ولا شبهة»، وطلب خروجه إلى مقر ولايته «الحجاز» على أن يأخذ معه الإنكشارية ويقوم محمد علي بتجهيز ما يلزم لسفره.
ثم إن «محمد علي» لم يلبث أن اتصل بالبكوات ، وكان منذ أن بلغه تنصيب أحمد باشا قد انتقل إلى الجيزة، فأقنع إبراهيم بك بأنه أحق بالقائمقامية؛ حيث قد انعدمت كل سلطة عليا بالبلاد، بدلا من أن يتولى هذا المنصب أجنبي لا نفوذ ولا أنصار له، واقترح عليه أن يكتب إلى أحمد باشا يدعوه لمغادرة البلاد فورا وتسليمه قتلة طاهر باشا، وكان غرض محمد علي من التعاون مع البكوات في هذه الأزمة التغلب على الإنكشارية المسيطرين في القاهرة، وفي صبيحة اليوم التالي (27 مايو) دخل كثير من المماليك والكشاف القاهرة، وتترس الإنكشارية وتحصنوا في الجهات والنواحي التي كانت بأيديهم، واستمروا على ما هم عليه من النهب وتتبع الأرنئود، وكتب إبراهيم بك إلى أحمد باشا يقول: إنه كان من المنتظر عند قتل طاهر باشا أن يكون أحمد باشا مع أتباعه الأرنئود حالا واحدا ولا يتداخلون مع الإنكشارية، وحاول أحمد باشا استخدام المشايخ في إثارة القاهريين ضد الأرنئود وقتلهم.
ولما كان الإنكشارية قد تركوا القلعة في أيدي الأرنئود وأغفلوا الاستيلاء عليها؛ فإن هؤلاء بمجرد أن هدأ روعهم، واستفاقوا من أثر الكارثة التي حلت بهم بمقتل طاهر باشا، ثم شهدوا المماليك يتجولون في أنحاء القاهرة، بينما احتشد عدد عظيم منهم ومن العربان خارج بابي النصر والفتوح، سرعان ما استردوا شجاعتهم، وأطلقوا المدافع من القلعة على الإنكشارية الذين أرادوا - بعد فوات الوقت - مهاجمتها من ميدان الرميلة، كما صاروا يطلقون المدافع على بيت أحمد باشا نفسه، وعندئذ أخذ أمره في الانحلال وتفرق عنه غالب الإنكشارية البلدية.
وتفرق المشايخ الذين كانوا قد اجتمعوا بالأزهر للنظر في مسألة إثارة الرعية ضد الأرنئود، فذهبوا إلى بيوتهم، وبعث إبراهيم بك ينذر أحمد باشا من جديد بتسليمه قتلة طاهر باشا ويمهله للخروج من القاهرة خلال ساعات قليلة، وإلا فلا يلومن إلا نفسه، فلم يجد بدا من التسليم والإذعان عندئذ، وطلب من إبراهيم بك تهيئة وسائل سفره إلى بلاد العرب، فلما أصر إبراهيم على خروجه غادر؛ أي أحمد باشا، القاهرة في حالة شنيعة، فكانت مدة ولايته يوما وليلة، وفي مساء اليوم نفسه (27 مايو) نودي في القاهرة «بالأمان حسب ما رسم إبراهيم بك حاكم الولاية وأفندينا محمد علي»، وبدأت من ثم حكومة المماليك في القاهرة، وفي 28 مايو قتل الأرنئود الدفتردار خليل أفندي الرجائي، ويوسف بك كتخدا خسرو باشا، وكانا قد ناصرا أحمد باشا عقب مقتل طاهر، وفي 31 مايو إسماعيل أغا وموسى أغا قاتلي طاهر باشا.
وأما أحمد باشا فكان بعد خروجه من باب الفتوح قد تحصن بقلعة الظاهر - وهي جامع بيبرس الذي أحاله الفرنسيون وقت احتلالهم إلى قلعة سلكوسكي - ولكنه اضطر إلى التسليم بعد أن ضيق الأرنئود الحصار عليه وضربوا قلعة الظاهر بالمدافع، وانتهى الأمر بإرسال الإنكشارية الذين كانوا بها إلى الصالحية في طريق إبعادهم من مصر، وخرج أحمد باشا بمن بقي من العساكر الإنكشارية بالقاهرة في طريقه إلى بلاد العرب في 25 يونيو. (2) الحكومة الثلاثية في القاهرة «إبراهيم، البرديسي، محمد علي»
ودلت حوادث «26-27 مايو»، ولا سيما التجاء أحمد باشا لتوسيط المشايخ لدى محمد علي، على ما صار يتمتع به محمد علي وقتئذ من نفوذ ظاهر، وكان من عوامل قوته - ولا شك - أن الأرنئود الذين تركهم مقتل طاهر باشا من غير رئيس لهم سرعان ما انضموا إلى محمد علي فانحصرت قيادتهم العليا في يده وكان ازدياد قوته العسكرية من الأسباب التي شجعته على تجربة حظه في هذه الأزمة، وقد اجتازها منتصرا، على أنه كان من أسباب هذا الانتصار كذلك، تلك المحالفة التي عقدها مع البكوات المماليك، والتي ارتكزت عليها في الحقيقة الحكومة المملوكية الجديدة، أو الثلاثية الحاكمة في القاهرة.
وقد علل «مسيت» السبب في عقد هذه المحالفة بقوله - في رسالته إلى هوبارت من القاهرة في 2 يونيو 1803 - «إن الأرنئود بعد مقتل طاهر باشا لم يعتبروا أنفسهم أقوياء لدرجة تمكنهم من مقاومة قوات خسرو باشا من الخارج، ودفع الهجمات الجزئية التي يقوم بها الإنكشارية في داخل المدينة ذاتها؛ ولذلك دعوا المماليك للانضمام إليهم والعمل متحدين معهم في قضية واحدة، وقبل هؤلاء ما اقترحه الألبانيون عليهم، وعلى ذلك، فقد عادوا إلى القاهرة مرة ثانية بعد غيبتهم عنها مدة سنتين تقريبا.»
ومع ذلك فقد توقع «مسيت» أن عقد المحالفة بين محمد علي والبكوات سوف ينفرط قريبا بالرغم من هذا الاتحاد الظاهر؛ لأن كلا من الفريقين يشك في الآخر، ولأن المماليك يحتلون مراكز كثيرة خارج القاهرة، بينما لا يزال الأرنئود يرفضون تسليم القلعة لهم، على أنه لما كان البكوات يريدون ضمانا لاستقرار الأمور في أيديهم، وبرهانا على حسن نوايا محمد علي، وكان لا يزال موقف الباب العالي من الحوادث الأخيرة مجهولا، وليس هناك ما يدل على أن الباب العالي سوف يبقي الأرنئود بمصر بعد هذين الانقلابين - طرد خسرو ومقتل طاهر باشا - وقد يطلب إبعادهم من البلاد كلية، ولا يزال محمد علي عاجزا عن الانفراد بالسلطة؛ فقد وجد محمد علي من الحكمة وأصالة الرأي توثيق عرا التحالف بينه وبين البكوات لمواجهة الأخطار المتوقعة من ناحية، ولمناجزة خسرو باشا - الذي لا يزال مبعث الخطر المباشر على حكومة التحالف الجديدة - من ناحية أخرى.
وعلى ذلك فقد وافق محمد علي على وضع القلعة في أيدي البكوات فسلمت لهم في 6 يونيو، كما وافق على أن يعينوا من يشاءون في وظائف الضبط والربط الرئيسية في القاهرة، واستطاعت الحكومة الجديدة أن تحزم أمرها لمواجهة الأخطار التي تعرضت لها والتي كان مبعثها، أولا: سعي خسرو لاسترجاع منصبه في القاهرة، وثانيا: تعيين علي باشا الجزائرلي لولاية مصر، وثالثا: بقاء الإسكندرية خارج نطاق حكومتهم، ورابعا: عودة الألفي الكبير من سفارته في لندن، وخامسا: وأخيرا، معالجة شئون الإدارة الداخلية وأهمها تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند.
أولا: مطاردة خسرو
أما خسرو فكان بعد خروجه من القاهرة قد استقر بالمنصورة، وجمع حوله ما يقرب من الثلاثة آلاف فارس، وكان يرجو - إذا استطاع الاحتفاظ بالمنصورة - أن يخضع لسلطانه الوجه البحري تدريجيا، وكان كل ما يخشاه أن يجد البكوات المماليك فيما حدث فرصة لتجديد مسعاهم لدى الباب العالي، ويظفروا منه بموافقته على إرجاع حقوقهم وسلطانهم السابق في حكومة القاهرة إليهم.
وقد نصحه «هايز» وقتئذ بأن يبذل قصارى جهده للاتصال بالبكوات والتفاهم معهم بأقصى سرعة حتى يعاونوه على استرجاع باشويته، ولكن ما إن وصل الأرنئود الذين كانوا قد خرجوا لمطاردته بقيادة حسن بك أخي طاهر باشا إلى المنصورة حتى انتقل منها خسرو إلى دمياط، وانفض من حوله جماعة من العسكر وانضموا إلى جند حسن بك، وفي دمياط جاءت خسرو رسائل أحمد باشا والسيد أحمد المحروقي وغيرها تنبئه بمقتل طاهر باشا وتستعجله للحضور إلى القاهرة، فخيل إليه أن الفرصة قد سنحت لاسترداد ولايته، فخرج من دمياط قاصدا إلى القاهرة، ولم تصادفه أية عقبات حتى بلغ فارسكور، وهناك وجد حسن بك بجنده مرابطا بها فهزمه خسرو ودخل فارسكور ونهبها جنده، غير أنه سرعان ما عرف وهو بها أن أحمد باشا قد صار طرده كذلك من القاهرة وأن البكوات المماليك قد تسلموا قلعتها، فقرر العودة إلى دمياط، وعندئذ صار حسن بك يلاحقه في مناوشات بسيطة مع مؤخرة جيشه، ثم التحم الجيشان في معركة كبيرة تحت أسوار دمياط، انهزم فيها خسرو ولكنه استطاع الدخول إلى المدينة فتحصن بها ووقف حسن بك على حصارها، وفي يوم 2 يوليو وصلت النجدات إلى حسن بك بقيادة البرديسي نفسه ومحمد علي، فسقطت دمياط وتحصن خسرو بقلعة العزبة «عزبة البرج»، ولكنه انهزم في اليوم التالي، وأمر البرديسي بإرساله إلى القاهرة؛ حيث يقوم بشئون الحكم بها أثناء غيابهما إبراهيم بك، فاقتيد خسرو أسيرا إليها في 8 يوليو.
وقرر البرديسي ومحمد علي أن تكون خطوتهما التالية إخضاع رشيد والإسكندرية، وهما الموقعان الباقيان الآن في يد الأتراك في مصر بأسرها، واتفقا على تلاقي جيشيهما عند الرحمانية، وسبق إليها البرديسي على رأس فرسانه، بينما تبعه محمد علي مع المشاة والمدفعية.
على أنه في نفس اليوم الذي اقتيد فيه خسرو أسيرا من دمياط إلى القاهرة، كان قد نزل في الإسكندرية علي الجزائرلي، معينا من قبل الباب العالي لباشوية مصر، فواجهت الحكومة الثلاثية خطرا جديدا على كيانها، اقتضى منها توفير كل جهودها لتلافيه، كما كان من أهم الأسباب التي زادت في توثيق أواصر المحالفة بين البكوات وبين محمد علي.
ثانيا: باشوية علي الجزائرلي
وذلك أن الباب العالي عندما بلغه طرد خسرو من القاهرة، وتنصيب طاهر باشا قائمقام أصدر - نزولا على الأمر الواقع - فرمانا اعترف فيه «بجور خسرو باشا وظلمه»، واعترف ضمنا بحق الجنود في الثورة على الباشوات عندما قال: «إنه قطع علوفات العسكر وإنهم قاموا عليه فأخرجوه، وهذه عادة العساكر إذا انقطعت علوفاتهم!»
وعلى ذلك فقد أسند الباب العالي ولاية سالونيك إلى خسرو باشا، وأبقى «طاهر باشا» مستمرا على المحافظة ثم نصب أحمد باشا قائمقام إلى أن يأتي المتولي، وظاهر أن الباب العالي قد رفض تثبيت طاهر باشا في قائمقاميته أو تعيينه في باشوية مصر؛ ومرد ذلك إلى أن «طاهر باشا» كان من الأرنئود، «وليس له إلا طوخان ومن قواعد «العثمانيين» القديمة أنهم لا يقلدون الأرنئود ثلاثة أطواخ أبدا»، ولعل هذه الحقيقة كانت أحد الأسباب التي جعلت «محمد علي» وهو أرنئودي يتريث في أمره، وسط هذا الخضم المتلاطم من الحوادث الهوجاء، ووسط هذه الفوضى السياسية الشاملة التي ما كان يعرف إنسان ما ستتمخض عنه.
وقد وصل هذا الفرمان القاهرة في 19 يونيو، فكان فرمانا «غير ذي موضوع»؛ لأن «طاهر باشا» كان قد قتل، وأحمد باشا كان مطرودا من القاهرة، والبكوات المماليك كانوا مسيطرين على حكومتها، بينما يطارد جيش حسن بك خسرو باشا.
وقد خرجت البلاد بأسرها، ما عدا رشيد والإسكندرية، من أيدي العثمانيين ولا حول ولا طول للباب العالي في مصر، وفضلا عن ذلك فقد دل خروج البرديسي ومحمد علي لمناجزة خسرو على أن الثلاثية الحاكمة في القاهرة لا تقيم وزنا لأوامر الباب العالي، زد على ذلك أن إبراهيم بك ظل أثناء ذلك كله يعلن تمسكه بالولاء للباب العالي، بل وكتب «ماثيو لسبس» من الإسكندرية في 20 يونيو، أن إبطاء الباب العالي في إرسال النجدات إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها، ثم ما صار يشاهده من مجيء الرسل إلى القسطنطينية وتعدد مقابلاتهم مع إبراهيم، «ومراعاة الخواطر» الظاهرة والمستمرة من إبراهيم حيال الباب العالي؛ لتنهض دليلا على وجود مفاوضة بين الطرفين قد تنتهي في صالح البكوات أنفسهم، لا سيما وهم يمتلكون الحصون والقلاع الرئيسية في داخل البلاد، وسواء رضي الباب العالي فنجحت هذه المفاوضة وتم الاتفاق وديا مع البكوات، أم لم يرض فلجأ هؤلاء إلى القوة؛ فإنهم سوف يظلون أسياد القاهرة، وربما دانت لهم مصر بأسرها؛ أي ما بقي منها خارجا عن سيطرتهم، فينالون الوضع الذي كان لهم سابقا في حكومة البلاد.
وكانت القسطنطينية لا تزال تبحث مسألة تعيين الوالي الجديد الذي يخلف خسرو باشا، عندما بلغها نبأ مقتل طاهر باشا «ففرح رجال الديوان العثماني فرحا عظيما»، وظنوا أنهم إذا أصدروا أوامرهم إلى القاهرة بدفع مرتبات الجند الأرنئود أن المسألة تكون قد سويت نهائيا، وأنهم إذا عينوا باشا جديدا للقاهرة استطاع تنفيذ إرادة الباب العالي وإخراج البكوات من البلاد؛ أي إقناعهم سلما أو حربا بقبول ذلك الحل الذي سبق أن عرضه الباب العالي عليهم أيام خسرو باشا ورفضه البكوات وقت أن لم تكن في أيديهم حكومة القاهرة.
وكان تظاهر الباب العالي بأن معالجة الموقف في مصر لا تتطلب سوى تعيين وال جديد، وأن الخطر قد زال دليلا آخر على الضعف الذي ينطوي على إعطاء مثال سيئ - كما كتب دراموند من القسطنطينية إلى حكومته في 7 يونيو - لجيش ثائر، لا تستطيع الحكومة ردعه، فتترك الجنود يعزلون ويولون ويقتلون من يشاءون، فتقر أعمالهم ولا تجرؤ على تحريك ساكن لقمع تمردهم وعصيانهم.
ومع أن القبطان باشا حامي خسرو قد حاول استبقاء صنيعته في الولاية؛ فقد تغلب عليه الصدر الأعظم في التأثير على الديوان العثماني وطلب تعيين علي الجزائرلي المعروف كذلك باسم علي برغل، وانحاز إلى الصدر الأعظم السلطان نفسه، وكتب «برون» السفير الفرنسي من القسطنطينية في 10 أغسطس أن هذا الحادث قد سبب استياء القبطان باشا من الصدر الأعظم، ولكنه جلب على نفسه بسبب معارضته غضب السلطان والإنجليز والحزب الذي يؤويهم في السلطنة، وقد انتهى الأمر بتقرير عزل خسرو باشا وتعيين علي الجزائرلي، وتثبت الأخير في منصبه في 17 يونيو ثم غادر القسطنطينية إلى مصر ولايته في 17 يونيو.
وكان اختيار الجزائرلي الذي حدثت بسببه هذه الأزمة، اختيارا جانبه التوفيق كلية؛ ذلك أن الباشا الجديد كان معروفا بالمخاتلة والخداع، وصاحب سوابق كثيرة في الدس والوقيعة، لا يؤهله ماضي خيانته لملء هذا المنصب، في وقت كان الموقف في مصر يتطلب رجلا قوي الشكيمة في وسعه أن يفرض احترامه الشخصي على البكوات والأرنئود حتى يستطيع استرجاع سيطرة العثمانيين في مصر، وأن يطرد البكوات من حكومة القاهرة، بل ويبعدهم من البلاد بأسرها على نحو ما كان يريد الباب العالي وقتئذ، ولم يكن علي باشا شيئا من ذلك.
فالمعروف من سيرته - وقد فصلها تفصيلا المؤرخ الفرنسي «فيرو»
Féraud
في كتابه عن طرابلس الغرب،
1
وذكر شيئا عنها الشيخ الجبرتي - أنه كان من أصل جزائري مملوكا لأحد حكامها، أوفد في مهمة إلى القسطنطينية، فاستطاع هناك بدهائه ودسائسه أن يظفر بتوليته على طرابلس الغرب (يوليو 1793)، فأساء إلى أهل طرابلس إساءات بالغة حتى انتهى الأمر بطرده منها في يناير 1795، فلم يجرؤ على العودة إلى القسطنطينية لسوء سيرته ونزل بالإسكندرية لاجئا في حماية مراد بك، وظل في حمايته حتى جاء الفرنسيون فقاتل مع مراد بك ثم فضل الذهاب إلى الشام للإقامة بها مع إبراهيم بك، ومن هناك بعث به الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا بمكاتبات إلى القسطنطينية، فبقي بها وحظي بعطف الصدر وحمايته له حتى إذا وقعت الحوادث الأخيرة توسط الصدر في تعيينه لباشوية القاهرة.
وهكذا لم يكن علي الجزائرلي غريبا عن القاهرة، ويعرف البكوات حق المعرفة، ويعرفون مكره وخداعه، وكان من المنتظر أن يثير وجوده الخلافات الكثيرة بين البكوات أنفسهم، كما كان معروفا عن خلقه أنه لا يتورع عن الانحياز إلى الفرنسيين إذا وجد في ذلك ما يحقق مطامعه بالرغم من انتمائه للحزب المناصر للنفوذ الإنجليزي بالقسطنطينية.
على أن تعيين علي الجزائرلي - بسبب علاقاته السابقة نفسها مع البكوات المماليك - كان مبعث تعليقات مختلفة عن مهمته، وعن مغزى تعيينه، فكتب «مسيت» إلى حكومته في 30 يوليو أنه يبدو له بسبب اختيار علي الجزائرلي لملء منصب الولاية أن الباب العالي قد اكتشف في آخر الأمر أن وسائل القمع العنيفة التي أوصى بها القبطان باشا، وظل الباب العالي يتبعها مدة طويلة، ليست أجدى الوسائل لإعادة الهدوء والسكينة إلى مصر؛ لأن علي باشا الذي مكث بالبلاد قبل ذلك سنوات طويلة تحت حماية البكوات، قد ظل طوال هذا النضال الذي عاد بالكوارث على الفريقين المتناضلين: الأتراك والمماليك، ينصح بفض النزاع «بطرق سلمية»، ولكن «مسيت» ما لبث أن قال في نفس رسالته هذه «إن تعيين علي باشا لهذا المنصب قد جاء متأخرا وبعد فوات الأوان؛ لأن البكوات يكادون يمتلكون البلاد بأسرها، وآمالهم عظيمة في إمكانهم إخضاع الإسكندرية كذلك، وقد رفضوا فعلا الاستجابة لرغبة علي باشا الذي فاتحهم في موضوع الوصول إلى اتفاق وتسوية بينهم وبين الباب العالي.»
وواقع الأمر أن علي الجزائرلي بمجرد وصوله إلى الإسكندرية في 8 يوليو، بادر بالكتابة إلى البكوات في القاهرة يلومهم على دخول القاهرة «بمعاونة الأرنئودية وقتل رجال الدولة والإنكشارية وقتل من معهم وإخراج من بقي منهم على غير صورة»، وأنه ما كان يصح لهم «دخول المدينة إلا بإذن من الدولة»، ثم استند على ما كان له «من عشرة سابقة معهم ومحبة أكيدة لهم» وحرصه على راحتهم؛ ليطلب منهم تنفيذ أوامر الباب العالي، ثم حذرهم من عصيان أمر السلطان الذي «ربما استعان عليهم ببعض المخالفين الذين لا طاقة لهم بهم» وهددهم إذا هم عصوا أمر السلطنة «بسيفها الطويل»؛ أي أنه طلب منهم الإذعان والخروج من مصر كلية حسب مشيئة الباب العالي، ووصلت رسالة علي باشا القاهرة في 10 يوليو، ولم يكن من المنتظر أن يذعن البكوات لإرادة الباب العالي.
بل إن هؤلاء سرعان ما استدعوا - على عجل - كل قواتهم من الدلتا إلى القاهرة، فبدأت هذه سيرها نحو العاصمة في ليل 11-12 يوليو بحجة أن «الوهابي» شرع يزحف بسرعة من الحجاز إلى مصر، وكانت قد وصلت أوراق «تتضمن دعوته وعقيدته» إلى القاهرة مع الحجاج العائدين من الحجاز منذ 18 يونيو وذلك لجمع قواتهم وتركيزها بالقاهرة استعدادا للطوارئ.
وفي اليوم الذي وصل فيه كتاب علي باشا (10 يوليو)، أجاب البكوات برسالة مسهبة عزوا فيها سبب دخولهم إلى القاهرة إلى «استغاثة المشايخ والعلماء واختيارية الوجاقلية» بهم، وبقاء المدينة بعد مقتل طاهر باشا ظلما على يد الإنكشارية «رعية من غير راع وخوف الرعية من جور العساكر وتعديهم»، ولكنهم أعلنوا تصميمهم على عدم الخروج من البلاد «حيث لا تطاوعهم جماعتهم وعساكرهم على الخروج من أوطانهم بعد استقرارهم فيها.»
ولم يأبهوا لتهديدات علي باشا واستعانة السلطان عليهم ببعض المخالفين، وقالوا في الوقت نفسه: إنهم قد بعثوا بعريضة - أو عرضحال - إلى الباب العالي يطلبون الصفح والرضا، وينتظرون جوابه عليها، وقال «مسيت» عندما أبلغ حكومته هذه الأشياء: إن البكوات قد أوضحوا لعلي باشا أنهم قرروا عدم الإذعان أو قبول أية حكومة غير تلك التي كانت قائمة فعلا عند غزو الفرنسيين للبلاد.
وهكذا رفض البكوات الرضوخ لأمر الباب العالي، وقرروا المضي في عملياتهم العسكرية لإخضاع الموقعين الباقيين في حوزة العثمانيين: رشيد والإسكندرية، وكان أهم ما عني به البكوات أن يحولوا أولا دون سقوط رشيد في يد علي باشا حتى لا يعطيه استيلاؤه عليها فرصة السيطرة على الملاحة في النيل وجلب المؤن بطريقها إلى الإسكندرية، فبعث إبراهيم بك بقوة إلى رشيد، وخرج البرديسي من المنصورة، وكان قد غادر دمياط بعد إرسال خسرو أسيرا إلى القاهرة - على نحو ما قدمنا - فقصد إلى الرحمانية المكان المتفق عليه مع محمد علي لتلاقي قواتهما به قبل الزحف على رشيد، وأدرك علي باشا الجزائرلي بدوره أهمية الاستيلاء على رشيد، فبعث هو الآخر بأخيه «ريس القباطين» السيد علي باشا إليها، واستطاع سليمان أغا رئيس قوات البرديسي احتلال رشيد قبل وصول السيد علي، وتحصن حاكمها «العثمانلي» إبراهيم أفندي بقلعة جوليان، أو برج مغيزل أو رشيد، ولكن السيد علي لم يلبث أن أقنع سليمان أغا بالارتداد عن رشيد؛ بدعوى أن هناك مفاوضات بين الجزائرلي والبرديسي، وأن هذين بسبيل الاتفاق والتراضي، وكان من أسباب انسحاب سليمان أغا خوفه من أن يجد نفسه محاطا بالعدو من ناحيتي قلعة جوليان والإسكندرية، فأخلى رشيد منسحبا إلى الرحمانية، واحتلها السيد علي.
غير أن البرديسي «ومحمد علي» في الرحمانية، سرعان ما قررا الزحف على رشيد، واضطر السيد علي أمام قواتهما الكبيرة إلى إخلاء البلدة والتحصن في برج مغيزل «قلعة جوليان»، فدخل القائدان رشيد وبادرا بمحاصرة البرج، وأرسل الجزائرلي الإمدادات إلى أخيه، كما أرسل مركبا حربيا من نوع القرويت وآخر من سفن المدفعية للوقوف عند مدخل البوغاز لحماية مرور النجدات من الإسكندرية إلى قلعة جوليان من جهة، ولإحباط أية محاولة قد يقوم بها العدو لإرسال حملة نهرية ضد القلعة من جهة أخرى، وحاول السيد علي المفاوضة والاتفاق مع البرديسي، كما سعى الجزائرلي من ناحيته لهذا الغرض، فإنه لما كان قد صح عزمه منذ قدومه إلى الإسكندرية على الاستعانة بالوكلاء الإنجليز في علاقاته مع البكوات، فقد وسط نائب القنصل البريطاني بالإسكندرية «بريجز»
Briggs
للتفاهم كذلك مع البرديسي، ولكن دون جدوى، ذلك أن البرديسي أعلن أنه لن يقبل إلا أن يأتي علي باشا الجزائرلي إلى القاهرة «على الشرط والقانون القديم» إذا أراد أن يعترف البكوات بباشويته، وشدد الحصار على القلعة، فلم يجد السيد علي مناصا في آخر الأمر من التسليم، فتم ذلك في 12 أغسطس سنة 1803 واقتيد أسيرا إلى القاهرة.
وأخاف سقوط رشيد علي الجزائرلي بالإسكندرية، فنشط في تحصينها، وكسر السد الذي يفصل بين بحيرتي المعدية ومريوط لإغراق الأرض حول الإسكندرية، ثم لجأ من جديد لتوسيط الوكلاء الإنجليز لدى البرديسي وإبراهيم بك، فكتب الوكلاء الفرنسيون في نشرة أخبارهم بتاريخ 22 أغسطس أن الجزائرلي اقترح على البكوات الوصول إلى تسوية واتفاق، «ولكن البرديسي وإبراهيم شيخ البلد يرفضان كل سلام لا يكون على قاعدة إرجاع الحكومة إلى ما كانت عليه قبل مجيء الفرنسيين، فهما يوافقان على وجود باشا في القاهرة، ولكن بشريطة تقييد سلطته بكل القيود التي فرضت عليها في الماضي، ثم يوافقان على دفع الميري للسلطان.»
وأبدى الوكلاء الفرنسيون شكوكهم في موافقة الجزائرلي على هذه الشروط، ولو أنه صار يعرض الآن على البكوات انسحابهم إلى الصعيد الذي وافق على أن يترك لهم امتلاكه نظير مغادرتهم للقاهرة وخروجهم منها ، وكتب السفير الفرنسي «برون» من القسطنطينية إلى حكومته في 25 سبتمبر عن هذه المساعي فقال: إن الجزائرلي بعد سقوط رشيد أوفد «بريجز» للمفاوضة مع البرديسي، فقام برحلتين لمقابلته، وأصر البرديسي في المرة الأولى على ضرورة عودة الوضع السياسي في البلاد إلى ما كان عليه قبل الغزو الفرنسي، كما طلب إعادة تنصيب محمد خسرو باشا في ولاية القاهرة، ثم أظهر في المرة الثانية «نوايا أقل عداء لعلي باشا الجزائرلي؛ حيث قال إنه لا يجد بأسا من استقباله في القاهرة واليا عليها، ولكن بنفس القيود التي فرضت على سلطة الباشوات العثمانيين في مصر من قديم الزمن»، ثم أردف «برون» يقول: وفيما عدا ذلك فإنه لا يعرف شيء عن نتيجة هذه المفاوضة؛ لأن «بريجز» قد لزم الصمت بعد ذلك.
ومع ذلك فقد كان معروفا أن البكوات لن ينزلوا عن مطالبهم، كما كان واضحا أنهم قد صح عزمهم على مهاجمة الإسكندرية بعد استيلائهم على رشيد؛ ولذلك فقد صار يهم الوكلاء الإنجليز معرفة نوايا البكوات الصحيحة، ومدى تأثرهم بالنفوذ الفرنسي، لما كانوا يخشونه من تعرض الإسكندرية لخطر الاحتلال الفرنسي إذا انتهزت فرنسا فرصة امتلاك البكوات لها وأرسلت جيشها لغزو البلاد من جديد، الأمر الذي ظل يقض مضاجع الإنجليز منذ جلائهم عن الإسكندرية في شهر مارس سنة 1803، وعلى نحو ما أوضحنا في الفصول السابقة، وعلى ذلك فقد كلف «مسيت» نائب القنصل البريطاني «بتروتشي» أو البطروشي أثناء وجود البرديسي برشيد، بالاتصال بالأخير لمعرفة مدى انحياز البكوات للإنجليز أو لخصومهم الفرنسيين، فقابل «البطروشي» البرديسي وسليمان أغا، ووصل من أحاديثه معهما إلى أن مماليك إبراهيم بك موالون للإنجليز، بينما يعتمد البرديسي وجماعته المرادية على فرنسا اعتمادا كليا، حتى إن البطروشي بعث من رشيد في 13 أغسطس يقول: «إنه لن يدهشه بتاتا - إذا استولى البكوات على الإسكندرية - أن يطلبوا حماية فرنسا لاعتقادهم الراسخ أنه يستحيل عليهم الاحتفاظ بمصر من غير مناصرة فرنسا لهم، كما أنهم يعتمدون عليها في الوصول إلى اتفاق مع الباب العالي.»
واعتقد البرديسي أن الاستيلاء على الإسكندرية سوف ينهي تماما كل سيطرة للعثمانيين في مصر، بل ويترتب عليه طردهم من البلاد في النهاية؛ ولذلك فقد بادر بالذهاب إلى دمنهور واستعد للزحف على الإسكندرية، معتمدا على قوات حليفه محمد علي في الهجوم عليها، ولم يكن من المنتظر أن يستطيع علي الجزائرلي الدفاع عنها طويلا إذا اتحد جيشاهما ضده، فمع أن الإسكندرية كانت مهددة بخطر دخول الأرنئود والعربان إليها منذ وصول سليمان أغا إلى رشيد، وقبل سقوطها مع قلعتها نهائيا في أيدي البرديسي ومحمد علي؛ فقد كان أول عمل قام به علي الجزائرلي عند وصوله إلى الإسكندرية في يوليو أن سرح الجنود الذين كانوا بها ممن كانوا تحت قيادة خسرو باشا وأحمد باشا خورشيد ونقلهم إلى السفن، مع أنه لم يحضر معه سوى قوة بسيطة من ألف وخمسمائة رجل فحسب «جمعوا على عجل في القسطنطينية».
وقد عزا «ماثيو لسبس» هذا العمل الذي قال عنه - في رسالته وقتذاك إلى الجنرال برون بالقسطنطينية في 15 يوليو - إنه حرم علي باشا نفسه من القوات اللازمة لحمايته هو شخصيا إلى «قلة اهتمام «الجزائرلي» بمراعاة خاطر القبطان باشا «حامي خسرو باشا»، كما يدل على سعة الهوة التي تفصل بين القبطان باشا والصدر الأعظم»، فباتت الإسكندرية ولا قدرة لها على دفع أي هجوم يقع عليها، زد على ذلك أن كسر السد قد أشاع الاضطراب في داخل المدينة التي امتنع عنها بسبب ذلك وصول ماء النيل والأقوات والأرزاق، واضطر كثيرون من أهلها للجلاء عنها والخروج إما إلى أزمير وإما إلى قبرص أو رودس، ولم ينقذ الإسكندرية من الوقوع في قبضة المماليك سوى انسحاب محمد علي بقواته من دمنهور، واضطرار البرديسي بعد ذلك إلى الانسحاب من دمنهور إلى القاهرة.
ولانسحاب محمد علي من دمنهور - بالرغم من محالفته مع البكوات المماليك - أهمية كبيرة في شرح خطة الزعيم الألباني وسط هذا الخضم المتلاطم من الفوضى السياسية؛ إذ لا تقل أهمية هذا الانسحاب من هذه الناحية؛ أي إلقاء الضوء على سياسته في هذه السنوات الأولى عن امتناعه عن الاشتراك في معركة دمنهور المعروفة في 20 نوفمبر سنة 1802، ذلك أن نفس السبب الذي أغرى البرديسي بفتح الإسكندرية؛ أي سيطرة المماليك المنتظرة وطرد العثمانيين من البلاد نهائيا نتيجة لهذا الفتح، كان الدافع لانسحاب محمد علي من دمنهور؛ لأن ظفر المماليك بالسيطرة وإخراج البلاد من حوزة العثمانيين، الأمر المترتب على سقوط الإسكندرية كان نتيجة سريعة وحاسمة لم تدخل وقتئذ في حساب محمد علي ولا في تفكيره؛ فقد دلت الحوادث القريبة على أنه كان بوسعه، دون صعوبة تذكر التغلب على الباشوات العثمانيين الذين يبعث بهم الباب العالي إلى مصر، وكان من الواضح أنه سوف يظل قادرا على ذلك بسبب ضعف سلطان الباب العالي في مصر وضعف «الباشا» المرسل، وهو لا جند ولا مال عنده لتعزيز باشويته، وفي استطاعة محمد علي ليس فقط شراء بطانته بالمال، بل والقضاء على «الباشا» نفسه، لا سيما وقد صارت له وحده زعامة الأرنئود أكبر قوة عسكرية عاملة في البلاد، وأما البكوات والمماليك، فقد كان الحال معهم يختلف تماما عن الحال مع الباشا العثماني، فهم أصحاب الحكومة في القاهرة، ويمتلكون القلعة وينبسط نفوذهم على الصعيد، معقلهم القوي، كما صار منبسطا الآن على الوجه البحري بأكمله، فلم يكن خارجا عن سلطانهم به سوى الإسكندرية، ولديهم بفضل اتحادهم وقتئذ من القوتين المادية والمعنوية ما يجعل التغلب عليهم مستحيلا وبخاصة إذا دانت لهم الإسكندرية، زد على ذلك أن البكوات كانوا يعتمدون على مناصرة إنجلترا وفرنسا لهم، ويتوسط هؤلاء لحل مسألتهم مع الباب العالي، ولا يعرف محمد علي ما قد تسفر عنه هذه الوساطة من نتائج ربما جاءت في صالح البكوات، بينما كان محمد علي نفسه لا يزال مفتقرا إلى مناصرة هاتين الدولتين القويتين أو إحداهما له، ففضل في هذه الظروف اتباع خطة «كسب الوقت» دائما، حتى تتاح له فرصة إشاعة التفرقة بين صفوف البكوات ببذر بذور الخلاف والشقاق بينهم، وتقويض دعائم حكومتهم في القاهرة، وصار مما يلائمه كل الملاءمة بقاء الإسكندرية في يد علي الجزائرلي من جهة، وإلزام الجزائرلي نفسه من جهة أخرى بالبقاء بها وعدم الخروج منها والذهاب إلى القاهرة قبل أن يتم له نهائيا إضعاف حكومة البكوات، كي يضمن سيطرته هو الشخصية عندئذ على البكوات وعلى الجزائرلي نفسه عند حضوره إلى القاهرة، وقد اعتمد محمد علي في تنفيذ خطته على محالفته مع البكوات التي تمكنه من بذل النصيحة لهم تحت ستارها، ولم يتوقع محمد علي أن يهمل البكوات نصحه وإرشاده لهم؛ لوثوق عثمان البرديسي به ثقة كاملة طغت على حذر زميله إبراهيم بك الذي لم يرتح في قرارة نفسه للمحالفة مع زعيم الأرنئود، وظلت تساوره الشكوك من جهته، ويخامره سوء الظن من ناحية نواياه، وينظر بعين الريبة لما يسديه للبكوات من نصح وإرشاد.
وإلى جانب هذا كله اعتمد محمد علي في نجاح خططه على ما كان لديه من قوات عسكرية من المشاة والمدفعية بوصفه القائد الأعلى للأرنئود، القوة التي تعتمد على مؤازرتها حكومة البكوات أو الثلاثية الحاكمة في القاهرة.
ولم تعوز «محمد علي» الوسيلة التي يستطيع بها تنفيذ هذه الخطة، فقد كانت مسألة دفع مرتبات الجند المتأخرة مشكلة عويصة مزمنة، وكان من الميسور إثارتها في كل وقت وعند الحاجة، وكما كانت أزمة مرتبات الجند من العوامل المباشرة والرئيسية في طرد خسرو من القاهرة وفي مقتل طاهر باشا؛ فقد كان من الميسور كذلك إثارة هذه الأزمة واستخدامها في شتى الظروف والمناسبات لإضعاف البكوات وإشاعة التفرقة في صفوفهم وتقويض عروش حكومتهم في القاهرة، وقبل كل شيء في الوضع الراهن تفويت فرصة امتلاك الإسكندرية على هؤلاء البكوات المماليك.
وعلى ذلك فإنه بينما كان البرديسي يستعد للزحف على الإسكندرية، إذا بالجنود الأرنئود في معسكره بدمنهور وهم الذين يؤلفون القسم الأكبر من جيشه، يعلنون العصيان والتمرد، ويطالبون بمرتباتهم المتأخرة والتي تجمعت لهم عن أربعة شهور ونصف وبلغت قيمتها عشرة آلاف كيس، وكان من السهل أن يثور الأرنئود عندما يعرفون أن الإتاوات والمغارم الثقيلة التي فرضت على أهل رشيد ودمياط وكل قرى الوجه البحري تتسرب إلى جيب البرديسي وبعض خاصته من البكوات ولا ينالون هم منها شيئا، وكانت ثورة جامحة قتل عدد من المماليك كما قتل خازندار البرديسي نفسه عند محاولة البرديسي إخمادها، وتدخل محمد علي وسيطا بين الجند الثائرين وبين عثمان البرديسي متظاهرا دائما بالولاء الصادق له حتى يستطيع الانسحاب من دمنهور وهو على وئام معه.
ولكن الأرنئود صمموا على عدم الاستمرار في الخدمة ما لم تدفع لهم مرتباتهم، ولم يستطع محمد علي فعل شيء أمام إصرارهم، ورأى البرديسي؛ إنهاء لهذه الفتنة أن يجيز للأرنئود الذهاب إلى القاهرة، فغادر هؤلاء دمنهور وعلى رأسهم محمد علي الذي استمر متمتعا بثقة البرديسي، وأتقن تمثيلية بشكل جعل «مسيت» يكتب عند إبلاغه هذه الحوادث إلى حكومته في 30 سبتمبر «أنه لولا تدخل محمد علي رئيس الأرنئود في الوقت المناسب؛ لكان من المحتمل وقوع معركة بين الأرنئود والمماليك» في معسكر دمنهور، وكان دخول محمد علي إلى القاهرة في 16 سبتمبر.
وأنهى انسحاب الأرنئود ومحمد علي العمليات العسكرية ضد الإسكندرية، كما أبطل الحصار المضروب عليها، فقد اضطر البرديسي في 25 سبتمبر إلى مغادرة دمنهور وهو «يعلن الظروف القاهرة التي أضاعت من يده هذه الفرصة الثمينة» - فرصة الاستيلاء على الإسكندرية - فدخل بدوره القاهرة في 24 سبتمبر، ولكن مأساة المرتبات المتأخرة لم تكن قد تمت فصولها بعد، فكتب «ماثيو لسبس» في 20 سبتمبر «إن هناك انقسامات كبيرة بين البكوات، ثم بينهم وبين الأرنئود، وقد انسحب عدد من الكشاف المتذمرين من المماليك إلى الصعيد»، ثم استمر يقول: «وفرض البكوات «البرديسي وإبراهيم» في القاهرة إتاوات مرهقة على المسيحيين»، وطلبوا منهم مائتي كيس قرضا، وهددوهم إذا هم امتنعوا بتعريض أنفسهم للمخاطر، كما صار الأرنئود يهددون علنا بنهب المدينة - وحي الإفرنج بها على وجه الخصوص - إذا لم تدفع لهم مرتباتهم، وهكذا بدأ الانحلال يدب في كيان الحكومة المملوكية في القاهرة، وكان من عوامل هذا الانحلال - ولا شك - سوء حكم البكوات أنفسهم.
فقد كان من أسباب عودة البرديسي إلى القاهرة أن زمام الأمور أفلت من يد إبراهيم بك لعجزه، فكثرت اعتداءات المماليك على الأهلين، واستبد الألفي الصغير - وكان قد انضم إلى إبراهيم والبرديسي عقب سفر الألفي الكبير إلى لندن ريثما يعود رئيسه من سفارته، فبقي بالقاهرة يشارك إبراهيم السلطة، وانتهز فرصة غياب البرديسي فأطلق العنان لنزواته، فقطع رأس قاضي القاهرة وحذا حذوه حسين أغا رئيس الشرطة، فقتل أحد المشايخ على الرغم من وساطة إبراهيم، وأقام حسين بك الزنطاوي مجزرة حقيقية عند مقياس الروضة عندما تحصن بالجزيرة، وصارت قوارب مدفعيته تصادر السفن الآتية من الصعيد فتنهب ما تحمله وتفتك بأصحابها.
ثم زاد البلاء بسبب انخفاض النيل الذي هدد القاهرة بالمجاعة، وحاول البرديسي إصلاح الحال عند تسلمه السلطة العليا في القاهرة، واستطاع مؤقتا تهدئة روع الأهلين، وساعده محمد علي في ذلك «ففتحوا الحواصل التي ببولاق ومصر العتيقة وأخرجوا منها الغلال إلى السواحل، واجتمع العالم الكثير من الرجال والنساء فأذنوا لكل شخص من الفقراء بويبة غلة لا غير»، واشترى الأفراد والخبازون، وسعر القمح والفول والشعير، ومع أن القاهريين ما كانوا يحصلون على أذون الشراء من خازندار البرديسي إلا بعد مشقة ومزاحمة كبيرة، فقد تمكن كثيرون من الحصول على حاجتهم من «السوق السوداء» التي أوجدها عدم التزام أصحاب الغلال للأثمان المحددة، «فسكن روع الناس واطمأنت نفوسهم وشبعت عيونهم، ودعوا لعثماني بك البرديسي».
ولكن مصاعب «الحكومة المملوكية» لم تنته بهذا الانفراج الوقتي لأزمة تموين القاهرة، كما لم يستمر دعاء القاهريين لعثمان البرديسي طويلا؛ لأن البكوات والكشاف صاروا يستولون على القمح ويخزنونه في بيوتهم حتى يبيعوه للأهلين بأثمان باهظة، فبدأت شكايات الأهلين من جديد، زد على ذلك أن مشكلة دفع مرتبات الجند ظلت قائمة، وظل الجند بدورهم يكثرون من اعتداءاتهم على القاهريين، وبذل البرديسي قصارى جهده لعلاج هذه الأدواء، فكان ينجح حينا ويفشل في أكثر الأحايين، وكان البكوات البرديسي وإبراهيم والألفي الصغير، قد قرروا غداة وصول الأول إلى القاهرة أن يجعلوا على كل فرد من البكوات والكشاف والأجناد قدرا من المال كل منهم «على قدر حالته في الإيراد والمراعاة» لدفع مرتبات الجند منها، ولكنهم قرروا فئات صغيرة تتراوح بين عشرين كيسا ونصف كيس، وفضلوا مصادرة متاجر التجار وفرض الإتاوات عليهم، وعلى أرباب الحرف والأهلين عموما دفع شيء من جيوبهم، فضج الناس بالشكوى وأغلقت الحوانيت.
ثم اشتد الضيق بالقاهريين عندما ظهرت آثار استيلاء البكوات على الحبوب وتخزينهم لها وارتفاع الأسعار تبعا لذلك، فانقلب الدعاء للبرديسي إلى استمطار اللعنات عليه وعلى البكوات قاطبة، وابتعد محمد علي عن هذه المسائل جميعها، فتظاهر بأنه لا غاية ولا مأرب له تاركا مظاهر السلطة في أيدي البرديسي وإبراهيم، ولو أنه ظل يوجه البرديسي من وراء ستار ويبذل النصح والإرشاد له، ويتوسط بينه وبين الجند، دون أن يفطن البرديسي لحقيقة نواياه لثقته العمياء به، بينما ظل الأرنئود يجأرون بالشكوى من عدم دفع مرتباتهم لهم.
ولا يرى البكوات بأسا - لاعتمادهم على صداقة زعيمهم لهم - في الاستمرار على عدم المبالاة بضجيجهم حتى تحرجت الأمور بينهم وبين الجند، الأمر الذي استرعى انتباه «مسيت» فكتب إلى حكومته في 28 أكتوبر «إن البكوات لا يبالون بصياح الأرنئود المطالبين بمرتباتهم، فأخذوا هم لأنفسهم القسم الأعظم مما جمعوه من الإتاوات التي فرضوها على الأهلين، مع أنهم يدركون تماما أن من شأن ذلك تعريض أنفسهم وأهل القاهرة معهم للمخاطر؛ لأن الألبانيين يعرفون أن هذه الأموال إنما جمعت بدعوى دفع مرتباتهم.»
ثم استطرد يقول: ولا شك في أن «طمع البكوات وعنادهم هما مبعث خلافاتهم مع الأرنئود، وسوف يفضي ذلك إلى قطع العلاقات بينهم، ولما كان من المتعذر أن يخرج بعض هذا المال الذي جمعوه من أيديهم، فلا مناص حينئذ من أن ينتقم الأرنئود لأنفسهم»، ولكن موعد هذا الانتقام كان لا يزال وقتئذ بعيدا؛ لأنه لم يكن من مصلحة محمد علي زعيمهم تحريك الفتنة الآن على البكوات بصورة حاسمة تفضي إلى انهيار حكومتهم.
وكان من عوامل ازدياد الفوضى حدة على حدتها تدخل الوكلاء الإنجليز والفرنسيين الذين صاروا يشيرون على البكوات بضرورة تقوية مراكزهم ويقترحون عليهم التخلص من الجنود الأرنئود ورؤسائهم، ويؤكدون لهم استعداد حكومتهم لنجدتهم، فعرض «مسيت» على عثمان البرديسي إحضار جيش من الهند لنجدته، بينما راح «ماثيو لسبس» يوضح لصديقه حسين بك الزنطاوي مزايا تعزيز قواتهم وتمكين حكومتهم، وصار يسدي إليه النصح حتى يتخذ البكوات جانب الحيطة والحذر دائما في علاقاتهم مع الأرنئود.
ولم تلق هذه النصائح قبولا؛ لاستمرار حاجة البكوات إلى مؤازرة الألبانيين وزعيمهم لهم عندما كان الباشا العثماني «علي الجزائرلي» لا يزال رابضا بالإسكندرية، وعندما كان البكوات - من جهتهم - لا يزالون يرجون تسليم الباب العالي بالأمر الواقع والاعتراف بحكومتهم، وعندما كانت القاهرة لا تزال خاضعة بسكانها من وطنيين وأوروبيين لسلطانهم يفرضون عليها ما يشاءون من إتاوات، ويجمعون منها ما يريدون من مال.
وشكا «ماثيو لسبس» مر الشكوى من حسين الزنطاوي الذي كان جوابه على النصيحة التي أسداها إليه: «يا لتعاسة الضعيف الذي يجد نفسه في حاجة لحماية الرجل القوي! إن الفرنسيين إذا عادوا إلى مصر مرة أخرى فلن يكون ذلك إلا لاستعبادنا من جديد.»
وأما المسألة التي شغلت البكوات أكثر من غيرها منذ عودة البرديسي إلى القاهرة فكانت تدبير أمر علي باشا الجزائرلي وتقليب وجوه الرأي في الوسائل التي تمكنهم من الاستيلاء على الإسكندرية، وكان الفصل في أمر علي الجزائرلي من المسائل التي بات يهتم بها محمد علي نفسه بعد أن بدأت تضعف حكومة البكوات في القاهرة، كما كان أخشى ما يخشاه وقتئذ أن يستمع البكوات لنصح الوكلاء الإنجليز والفرنسيين، فبذل قصارى جهده حتى يبطل مساعي هؤلاء، ولم يجد صعوبة في إقناع البرديسي بأن أي تدخل أجنبي قد يثير مخاطر أشد من المخاطر الراهنة، ثم أوضح له أن المصلحة إنما تقضي الآن بالتفرغ لإنهاء مسألة علي الجزائرلي قبل أي شيء آخر.
ولما كان الجزائرلي قد حاول استمالة محمد علي وصار يبذل له الوعود السخية، فقد أوقف محمد علي البرديسي على هذه الوعود، واقترح عليه إخراج الجزائرلي من الإسكندرية وجذبه إلى القاهرة؛ للحد من نشاطه ووضعه تحت رقابة حكومة البكوات من جهة، ولتسهيل مهمة الاستيلاء على الإسكندرية من جهة أخرى، وكان الجزائرلي قد حصن موقع السد الذي كسره وأنشأ خط دفاع من خندق كبير محصن بقضبان قوية، كما أقام مركزين للدفاع بين قلعة الترك
Leturcq
وبحيرة مريوط، ومع أن هذه كانت - في واقع الأمر - تحصينات بسيطة، ولم يكن من المنتظر أن يستطيع الجزائرلي الدفاع طويلا عن الإسكندرية بسبب ما كان بينه وبين الضباط الأتراك وقتئذ من خلافات، وبسبب ما كان فيه من مسيس الحاجة إلى المال والرجال؛ فقد ظل البكوات ومحمد علي يجهلون حقيقة الوضع بالإسكندرية وضعف الجزائرلي من الناحية العسكرية؛ ولذلك فقد لقي اقتراحه قبولا لدى البرديسي، وعلاوة على ذلك عمل محمد علي على كسب ثقة المشايخ والعلماء وتأييدهم لفكرته، بدعوى أن وجود علي باشا بالقاهرة - وهو ممثل السلطان الشرعي - ضروري لنشر السكينة والهدوء في البلاد، وفتح المواصلات بين القاهرة والإسكندرية، ومن شأنه إنهاء العمليات العسكرية والتخلص من اعتداءات الجند التي لا أمل في وقفها ما دامت الحاجة ملحة لاستخدامهم، وما دامت مرتباتهم لا تدفع لهم.
وأفلح محمد علي في أن يجعل المشايخ يقررون التوسط مع علي الجزائرلي وتوجيه الدعوة له - تحت مسئوليتهم - للحضور إلى القاهرة، وفي 24 أكتوبر كتب المشايخ للجزائرلي يطلبونه «لمنصبه والحضور إلى مصر ليحصل الاطمئنان والسكون وتأمين الطرقات، ويبطل أمر الاهتمام بالعساكر والتجاريد، ولأجل الأخذ في تسهيل أمور الحج» الذي قالوا إنه: «ربما تعطل في هذه السنة إذا هو لم يحضر، فيكون السبب في ذلك.»
وواتت الفرصة لجذب الجزائرلي إلى القاهرة عندما وصلها في 16 نوفمبر كاتب ديوان علي باشا «وعلي يده مكاتبة هي صورة خط شريف وصل من الدولة، مضمونه الرضا عن الأمراء المصرلية بشفاعة صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف باشا ضياء وشفاعة علي باشا والي مصر»، وأن يقيم البكوات بأرض مصر، على أن يكون «لكل أمير؛ أي لكل بك من البكوات فائظ خمسة عشر كيسا لا غير، وحلوان المحلول ثمان سنوات، وأن الأوسية والمضاف والبراني يضم إلى الميري، وأن الكلام في الميري والأحكام والثغور إلى الباشا والروزنامجي الذي يأتي صحبته والجمارك والمقاطعات على النظام الجديد للدفتردار الذي يحضر أيضا.»
فاتفق الرأي بعد قراءة هذه الرسالة بحضور المشايخ على أن يبعث البكوات إلى علي باشا يظهرون اغتباطهم بصدور عفو الباب العالي وصفحه، ويلحون عليه في الحضور إلى القاهرة «لتنظيم الأحوال وأعظمها تشهيل الحج الشريف»، وأرسلوا بكتابهم إلى الإسكندرية رضوان كتخدا إبراهيم بك وأحد ضباط الإنكشارية «وصحبهما من الفقهاء السيد محمد بن الدواخلي من طرف الشيخ الشرقاوي».
ثم لم تمض أيام قلائل حتى وصل القاهرة رسول من القسطنطينية، يحمل فرمانين من الباب العالي: أحدهما - بتاريخ 2 سبتمبر 1803 - معنون باسم محمد علي وأحمد بك وعمر بك وسائر الرؤساء الألبانيين «الأرنئود» بالقاهرة، والآخر - بتاريخ 5 سبتمبر - معنون باسم علي باشا الجزائرلي والي مصر، مع توجيه الكلام إليه وإلى إبراهيم بك حاكم القاهرة ومساعده عثمان بك البرديسي وإلى القضاة ورؤساء الإنكشارية ومضمونه صدور العفو عن البكوات والصفح عما سبق من فعالهم، وعدول الباب العالي عن إرسال الحملات التي كان يعتزم إرسالها ضدهم، وتعيين إبراهيم بك شيخا للبلد كما كان في السابق وجعله مسئولا عن حكومة القاهرة وعن تنفيذ الترتيب الذي اشتمل عليه الفرمان للأوضاع الجديدة وهي لا تخرج عما سبق ذكره، على أن يرسل الباب العالي مديري الجمارك من القسطنطينية إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر العتيقة والسويس والقصير.
وعلى هذه الصورة اعترف الباب العالي بحكومة البكوات، على أساس أن يحتفظ الباب العالي بالقسم الأعظم من إيرادات البلاد لنفسه ويترك للبكوات تدبير الوسائل التي تمكنهم من سد حاجة حكومتهم بأية وسيلة كانت؛ أي المضي في مصادرة أموال الأهلين واستنزاف مواردهم، وكان ذلك هو الحل الذي ارتآه الباب العالي لإنهاء مسألة البكوات، وبادر «دراموند» ثم «برون» بإبلاغ حكومتيهما عنه بمجرد وقوفهما عليه في الظروف التي سبق ذكرها عند الحديث عن مساعي الإنجليز والفرنسيين لصالح البكوات في القسطنطينية.
غير أن صدور عفو السلطان العثماني عن البكوات المماليك بهذه الشروط غير المعقولة؛ أي حرمانهم في الحقيقة من إيرادات البلاد التي يسيطرون عليها فعلا، سواء كانت هذه الإيرادات جمركية أو من ريع الأرض التي يمتلكونها، زد على ذلك تعزيز سلطان باشا القاهرة في هذه الأوضاع الجديدة - لم يكن له في نظر البكوات سوى تفسير واحد هو أن الباب العالي لا يزال يتعمد غشهم وخديعتهم، وأنه لم يصدر عفوه عنهم إلا لفشله في إخضاعهم بالقوة، وأنه إنما يريد - بفضل حرمانهم من الموارد التي تكفل لهم العيش والبقاء - أن يخضعهم لسلطانه تحت ستار الرغبة في حسم خلافاته معهم وإدخال الطمأنينة الكاذبة إلى نفوسهم في ظل هذا الصلح الغادر الذي يعرضه عليهم.
وقد علق «مسيت» على ما سماه «بالمعاهدة» التي غرضها إخطار البكوات بعفو السلطان عنهم، وإعلانهم باستمرار حكومتهم بشروط معينة، فقال في كتابه إلى حكومته في 18 نوفمبر: «من الواضح أن الباب العالي قد شعر بعجزه عن امتلاك هذه البلاد وإن كان لا يزال برغم ذلك مصمما على عدم التسليم بها كلية وتركها دفعة واحدة في أيدي البكوات، فإنه عندما كان البكوات يمتلكون البلاد بأسرها ويشددون الحصار على العثمانيين في الأماكن المحصنة التي بقيت في أيديهم، عرض الباب العالي عليهم مديرية أسوان فحسب، وعندما أصبح البكوات أسياد القاهرة ودمياط ورشيد اقترحت الحكومة العثمانية إعطاءهم الصعيد، فلما رفض البكوات هذا العرض وافق الأتراك أخيرا على طلبهم، ولكنهم وضعوا قيودا لتعطيل سلطانهم والحد من سلطتهم»، مما ينهض دليلا على مبلغ ممانعة الديوان العثماني في هذه التنازلات التي تنتزع منه انتزاعا، وكان رأي «مسيت» أن البكوات لن يقبلوا هذه «المعاهدة».
ولم يقبل البكوات هذه «المعاهدة» فعلا، وزادهم تشككا في نوايا الباب العالي، ما جاء في ذلك الفرمان الموجه لمحمد علي ورؤساء الأرنئود، يطلب منهم مغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم، فقد أفرغ هذا الفرمان في العبارات التالية: «لقد تحملنا - أي الباب العالي - في فتح مصر للمرة الثانية وانتزاعها من قبضة الفرنسيين تضحيات كثيرة، ومع ذلك فإنه ما إن نجحنا في استرجاعها حتى عمد بعض الأفراد من ذوي النوايا السيئة إلى إخضاعها مرة أخرى لسلطان المماليك وسيطرتهم. وليس مقصدنا من هذا القول نسبة ما وقع من خطأ إليكم - أي رؤساء الأرنئود وجندهم - وعلى كل حال فقد أسدل الستار على الماضي وتناسيناه، وصفحنا عن كل ما ارتكب من ذنوب؛ رحمة منا وشفقة بالمذنبين الخاطئين، ونحن ندعوكم لذلك لمغادرة مصر والعودة مع جنودكم الأرنئود إلى أوطانكم، فهل يا ترى ترفضون العودة إلى أسركم التي تمد أيديها لكم متوسلة تطلب رجوعكم إليها؟ إن الماضي قد صار نسيا منسيا، ولكم أن تثقوا بذلك، فما عاد يذكر إنسان شيئا مما وقع أيام خسرو باشا، ولا شك لدينا في أنكم سوف تفيدون من رحمتنا وتطيعون أوامرنا التي يتحتم عليكم أن تخضعوا لها.»
وعلى ذلك، فقد كان معنى خروج محمد علي من مصر إذا هو استجاب لنداء الباب العالي، حرمان البكوات من القوة التي لم يخامر البرديسي على وجه الخصوص - وهو صاحب الكلمة العليا بينهم؛ أي شك في أنها تؤيدهم كل التأييد، ولا غنى عن مؤازرتها لهم في الخلاص من الباشا العثماني والاستيلاء على الإسكندرية؛ ذلك أن البرديسي وإبراهيم كانا قد قررا البطش بعلي باشا الجزائرلي، ورفض «المعاهدة» التي بعثت بها القسطنطينية على نحو ما تنبأ به الوكيل الإنجليزي، فلم يصدع محمد علي أو غيره من رؤساء الأرنئود بما أمروا به، وانتظر البكوات بفارغ الصبر ما قد تسفر عنه خطوتهم الأخيرة مع علي باشا، ولم يفت «مسيت» إدراك نواياهم الصحيحة أو غرضهم من جذب الجزائرلي إلى القاهرة، فقد علم؛ أي مسيت من أحاديثه مع البرديسي وإبراهيم أنهما يشكان في قبول الجزائرلي لدعوتهما إلا إذا سلما إليه رهائن؛ ضمانا لسلامته، ولكنهما لن يرسلا له أية رهائن إذا طلب ذلك فعلا، كما أظهرا له أنهما يعتزمان الكتابة إلى القسطنطينية لإرسال باشا آخر للقاهرة غير علي الجزائرلي، الأمر الذي جعل «مسيت» يجزم باستحالة رضا البكوات به، وهو الذي أثيرت حرب شعواء ضده، وبأن البكوات لا يبغون سوى كسب الوقت حتى يتدبروا أمرهم بسرعة، بسبب حروجة مركزهم لحاجتهم الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند وبخاصة؛ لأن هؤلاء ما زالوا متمردين عليهم، وقد يتصدع اتحادهم مع الأرنئود في أي وقت، وعلى ذلك فلم يكن هناك مناص في هذه الظروف من أن يقوم البكوات بعمل حاسم وسريع ضد الجزائرلي حتى يستطيعوا التفرغ لمناجزة الأرنئود إذا تحطمت محالفتهم معهم وانشق هؤلاء عليهم، واعتمد البكوات على ما عرضه عليهم «مسيت » من إرسال حكومته النجدات إليهم في إرغام الأرنئود حينئذ على مبارحة البلاد بعد إلحاق الهزيمة بهم.
وكان على ضوء ما وقف عليه «مسيت» من معلومات واستخلصه من نتائج؛ أن وجد من الواجب عليه أن يوضح لحكومته «أغراض البكوات ونواياهم الخفية حتى لا يبدو أن هناك تضارب في مسلكهم» من دعوتهم الجزائرلي للحضور إلى القاهرة، فقال في رسالته السالفة الذكر في 18 نوفمبر «إن امتلاك الإسكندرية هو غرض البكوات الرئيسي في الوقت الحاضر، ثم اتخاذ الحيطة في الوقت نفسه ضد المؤامرات والمكائد التي يعلمون أن علي باشا سوف يدبرها ويحيك خيوطها إذا سمح له بالدخول إلى القاهرة، ولتحقيق هذا الغرض المزدوج دعوه للحضور في صحبة عدد قليل من الجند بدعوى عجز القاهرة عن إعالة عدد كبير منهم وتموينهم، فإذا استجاب علي باشا لهذه الرغبة وحضر بقليل من الجند قبض البكوات عليه وعلى جماعته وأرسلوهم إلى القسطنطينية عن طريق يافا. وينتهز المماليك والأرنئود فرصة شعور حامية الإسكندرية بالطمأنينة بعد خروج علي باشا إلى القاهرة وإغفالها الحيطة والحذر، فيهاجمونها ويستولون على الإسكندرية، وأما إذا فكر علي باشا في المجيء إلى القاهر مع كل قواته - وتبلغ هذه حوالي الألفين - فسوف يعامله البكوات كعدو؛ على أساس أنه ما كان يجب عليه أن يحضر بهذه الأعداد الكبيرة بعد أن أوضحوا له أن القاهرة في حالة من الفقر تجعلها عاجزة عن تموينهم، وأنه ما كان ليحضر على رأس جيش في هذه الظروف إلا إذا كانت له نوايا سيئة ومريبة، والبكوات يرجون كسب الوقت على أمل أن تصلهم النجدات التي طلبوها من الحكومة الإنجليزية في الوقت المناسب، فتساعدهم على طرد الأرنئود.»
وفي أوائل ديسمبر وصل الخبر من رضوان كتخدا إبراهيم بك أنه وصل الإسكندرية وقابل علي الجزائرلي الذي «وعد بالحضور إلى مصر؛ أي القاهرة، وأنه يأمر بتشهيل أدوات الحج ولوازمه»، وكما كان البكوات يريدون من توجيه دعوتهم لعلي باشا الكيد له، والتخلص منه بطرده من البلاد وإبعاده إلى القسطنطينية، فقد كان علي باشا - وهو رجل مكائد ودسائس بطبعه - يريد هو الآخر الكيد لهم بتقويض عروش حكومتهم في القاهرة، ويرجو أن يتسنى له - بفضل ذلك - دعم أركان باشويته؛ ولذلك فقد بادر بإرسال فرمان العفو السلطاني إلى البكوات على نحو ما سبق ذكره، ثم لم يتردد في إجابة الدعوة التي وجهها له البكوات على يد رضوان كتخدا إبراهيم بك، وقد شرح «دروفتي» سياسة علي باشا أو بالأحرى الأسباب التي دعته إلى قبول هذه الدعوة، فقال في رسالته إلى الجنرال «برون» في القسطنطينية في 18 ديسمبر ما معناه: إن علي باشا كان يعلم بالنزاع القائم في القاهرة بين الأرنئود والمماليك، وإن الأولين يشعرون بازدياد قوتهم منذ قيامهم بثورتهم ضد ممثل الباب العالي الشرعي في البلاد، تلك الثورة التي كانت في صالح البكوات، والتي مكنتهم من الحكم في القاهرة، وإن البكوات يدركون أنهم في ثورة صريحة على الباب العالي، وإنهم لذلك سوف يقبلون كل تسوية تساعد على تصحيح وضعهم، لا سيما وقد صدر الآن عفو الباب العالي عنهم، واعتقد علي باشا أن الأرنئود لم يعتادوا الحياة في القطر المصري بالدرجة التي تجعلهم يتخلون عن كل أمل في العودة إلى أوطانهم وبخاصة بعد أن عفا السلطان عنهم، وأصدر أمره الأخير بخروجهم من مصر والرجوع إلى أسرهم.
وكان من رأي علي باشا أنهم لن يدعوا فرصة هذا العفو العام تمر دون الاستفادة منها، وفي وسعه لذلك أن يفيد من هذه الظروف جميعها، أضف إلى هذا أن البكوات لم يدفعوا لهم مرتباتهم المتأخرة عن ستة شهور بتمامها، ولا سبيل إلى دفع هذه المرتبات إلا إذا أمعن البكوات في إرهاق البلاد في وقت لا تكفي فيه مواردها لسد نفقات إدارتهم وحاجاتها اليومية، بينما صارت الفوضى تعم كل فروع هذه الإدارة المدنية والعسكرية على السواء، وانعدمت تلك الروح المعنوية التي أمدتهم بالقوة دائما، وتضعضع كيان حكومتهم بسبب كبر سن إبراهيم بك الذي صار لا يحمل من الزعامة سوى اسمها، وفضلا عن ذلك، فقد اعتمد علي باشا في نجاح أغراضه على مهارته في الدس والوقيعة؛ لبذر بذور التفرقة بين الألبانيين وبين المماليك من جهة، وبين البكوات بعضهم وبعض من جهة أخرى، فخيل إليه أن في استطاعته جذب محمد علي وسائر رؤساء الأرنئود سواء في القاهرة أو في رشيد، وقد تقدم كيف كشف محمد علي دسائسه معه لعثمان البرديسي، كما كان من المنتظر أن تفشل مساعيه مع رؤساء الأرنئود في رشيد، وكما خيل إليه أن في وسعه أيضا جذب عثمان بك حسن وحمله على تأييده، فكان لذلك كله أن قرر علي الجزائرلي الخروج إلى القاهرة، فغادر الإسكندرية في طريقه إليها في 26 ديسمبر 1803.
ومع أن البكوات كانوا قد رسموا له خط السير الذي يجب عليه اتباعه، وحددوا له عدد الجند الذين سمحوا له باصطحابهم معه في سيره، فكان عليه أن يأخذ طريق دمنهور والطرانة إلى القاهرة، وأن لا يزيد عدد مرافقيه على الألف، فقد خالف علي باشا اتفاقه مع البكوات، وخرج في قوة من 2500 من المشاة و500 من الفرسان، ثم إنه بدلا من أن يقصد دمنهور لم يلبث - بعد خروجه من الإسكندرية وتظاهره بالسير إلى دمنهور - أن تحول فجأة بمجرد وصوله إلى إدكو يريد الزحف على رشيد، وبادر يحيى بك حاكمها، وعمر بك الأرنئودي رئيس حاميتها بالخروج منها لمقابلته، فأدركاه وهو لا يزال بإدكو، فأكد لهما علي باشا أنه لن يقترب من رشيد، فعادا أدراجهما، ولكن حدث في المساء نفسه (27 ديسمبر) أن قبض على جنديين من الأتراك يحملان رسالة من علي باشا إلى عمر بك يدعوه فيها لمناصرته والانشقاق على المماليك، وخرجت الحامية لمقابلته، ولكنه لم يجرؤ على الالتحام في معركة معهم، وفضل استئناف السير إلى القاهرة، وسار بمحاذاة شاطئ النهر الأيسر وانتشر جنوده في القرى والدساكر ينهبون ويرتكبون مع الأهلين فظائع شديدة، ثم انتقل بجنده إلى الجانب الآخر من النهر بدعوى عدم وجود مؤن أو أقوات في الضفة اليسرى، فصار بجيشه في قلب الدلتا، واستمر الأهلون يقاسون شدائد عظيمة على أيدي جنده حتى وصل إلى منوف .
وهكذا لم يتبع علي باشا خط السير الذي رسمه له البكوات، ومنذ 3 يناير سنة 1804 كانت قد بلغت هؤلاء في القاهرة أخبار محاولاته في رشيد، كما تأكد لديهم سوء نواياه بسبب القوة الكبيرة التي كانت معه والتي خرج بها من الإسكندرية على الرغم من اتفاقهم السابق معه على أن لا يزيد عددها على ألف بحال من الأحوال، فأرسل البكوات جيشا بقيادة الألفي الصغير إلى شبرا؛ لمنع الجزائرلي من دخول القاهرة وإرغامه على الوقوف عند «شلقان»، وكان؛ أي علي باشا، قد بلغها في 14 يناير، وخرج كذلك محمد علي وحسن بك مع الأرنئود وعسكروا بين شلقان وشبرا، وبلغ الخبر القاهرة في 16 يناير أنه قد تحرك فجأة من منوف وصار على مسافة قريبة من معسكر المماليك والأرنئود، فخرج عثمان البرديسي من القاهرة بمن بقي بها من المماليك والأرنئود، تاركا بالقاهرة إبراهيم بك ومعه حسين بك الزنطاوي على رأس رجاله السود واليونان حوالي الخمسمائة لحمايتها.
واجتمع الألفي الصغير بعلي باشا، وطلب منه أن يسير جنده إما إلى الشام وإما إلى الحجاز وأن لا يدخل القاهرة إلا بمائة فقط من أتباعه، وأرسل البرديسي إلى القاهرة في 20 يناير يقول إنه سيجتمع بعلي باشا في اليوم التالي، ويصر على وجوب تنفيذ «علي باشا» لما أمره به الألفي الصغير، وكتب «لسبس» من القاهرة في 21 يناير «إنه من الثابت قطعا أن هناك تفاهما سريا بين علي باشا وبين الأرنئود، وأن أكثر هؤلاء - إن لم يكونوا كلهم - موالون له، وعدد هؤلاء الأرنئود كبير، وبينهم عدد من العثمانلي مستخفين في ملابس الأرنئود، وقد بلغ ما مع علي باشا حوالي الأربعة آلاف ... وهو يرفض ما طلبه الألفي الصغير منه ويؤكد في الوقت نفسه حسن نواياه ... وكان يرجو عند خروجه من الإسكندرية أن يستطيع الدخول إلى القاهرة بسهولة واستلام حكومتها، وأما المماليك وعددهم الألف فهم يؤملون القضاء عليه قضاء مبرما، ولديهم كذلك حوالي الألف من الفرسان المغاربة، عدا جملة قبائل من العرب البدو في الجهات المجاورة للقاهرة موالين لهم.»
وطلب علي باشا العودة إلى الإسكندرية ولكن دون طائل، ورفض جنده الاشتباك في معركة مع المماليك والأرنئود بدعوى عدم وصول أمر من الأستانة بالقتال، ولأن عددهم يقل كثيرا عن عدد أعدائهم، وخشي الجزائرلي على نفسه من جنده أنفسهم، كما رأى عبث المقاومة بعد أن سقطت مراكبه في يد أعدائه من جهة، وكشف الأرنئود سر محاولاته معهم للبكوات المماليك، ووجد نفسه محاطا بجيش المماليك والأرنئود، فقرر الرضوخ لإرادة البرديسي وانتقل إلى معسكره في 21 يناير وفي نفس الليلة الأولى التي قضاها علي باشا في معسكر البرديسي أرسل خفية رسولا برسالة إلى عثمان بك حسن بقنا «يطلبه للحضور إلى مصر ليكون معينا له ويعده بإمارة مصر».
ولكنه حدث أن قبض البكوات على هذا الرسول بجهة «البساتين» ووقعوا على الرسالة، كما ضبطوا رسائل له إلى الشيخ السادات بالقاهرة يطلب منه تحريك القاهريين على المماليك، وإثارة الشغب للثورة ضدهم، فواجهوا الجزائرلي بهذه الرسائل (25 يناير) ولم يستطع نفيها، فاستقر الرأي عندئذ على إرساله إلى الشام في طريقه إلى القسطنطينية، وأمر من فوره بالخروج مع العسكر من أتباعه إلى غزة، لأنه لا أمان لهم معه.
وفي نفس اليوم كتب البرديسي إلى «ماثيو لسبس» يذكر له ما حدث، فقال: «إنه بالرغم من صنوف التكريم والتعظيم التي أحيط بها علي باشا، فإنه لم يقابل ذلك إلا بالكتابة إلى أشخاص مختلفين في القاهرة وإلى البكوات في الصعيد، وقد استولى «البرديسي» على هذه الرسائل التي تأكد له منها غدر الباشا وسوء نواياه، وقد كان الاتفاق معه أنه إذا أخطأ مع البكوات فليس له أن يؤاخذهم على عواقب خطئه ويكون مستحقا عندئذ للموت، ولكن «البرديسي» اكتفى بإعادته إلى المكان الذي جاء منه قبل الاتفاق معهم، وأرسلوه عن طريق غزة إلى القسطنطينية في صحبة السناجق سليمان بك صهر إبراهيم بك ومحمد بك الملواني «المنفوخ» ظهر اليوم نفسه.»
وفي 26 يناير عاد البرديسي ومحمد علي إلى القاهرة، وفي 27 يناير كتب «لسبس» يؤكد أن الجزائرلي قد قطعت رأسه في أثناء السير كما قتل قريبه حسن بك ووقع كبار ضباطه أسرى في أيدي البكوات، وكان مقتله عند «القرين» بين بلبيس والصالحية.
ومع أن البكوات أذاعوا أن علي باشا أراد في أثناء الطريق الغدر بالصناجق والمماليك الذين صحبوه لإبعاده خارج الحدود المصرية، وأنه أراد «أن يكسبهم بمن معه ليلا»، فكشف أمره سائس يعرف التركية «فتحذروا منه، فلما كسبوهم وقعت بينهم محاربة وقتل منهم عدة من المماليك وخازندار محمد بك المنفوخ، وانجرح المنفوخ أيضا جرحا بليغا، وأصيب الباشا وصاحبه من غير قصد والليل ليس له صاحب فقضي عليه، وكان ذلك مقدورا وفي الكتاب مسطورا»، فقد ذكر الشيخ الجبرتي أن العسكر المغاربة «عملوا مع خدم الباشا مشاجرة وجسموها إلى أن تضاربوا بالسلاح فقامت الأجناد المصرية من خلفهم فصار الباشا ومن معه في الوسط والتحموا عليهم بالقتال، وضرب الباشا بعض المماليك منهم بقرابينه فأصابته، وقتل معه ابن أخيه حسن بك وكتخدا.»
وسواء قتل علي الجزائرلي قضاء وقدرا أم كان مقتله عن عمد وإصرار سابق، فقد كان هو نفسه المسئول الأول عن هذه الخاتمة المروعة التي اختتم بها حياته بسبب دسائسه ومكائده، فقد كتب «دروفتي» إلى الجنرال «برون» منذ 12 يناير: «أن الوكيل الإنجليزي بالإسكندرية قد أكد له أن لديه ما يحمله على الاعتقاد بأن علي باشا لن يدخل القاهرة بسهولة ويخشى أنه سوف يرغم على النكوص على أعقابه»، ولكن البكوات الذين كان أحد أغراضهم الرئيسية من إخراج علي الجزائرلي من الإسكندرية، تهيئة الفرصة لاستيلائهم عليها ذاتها ما كانوا ليوافقوا بتاتا على عودته إليها؛ ولذلك فقد أصروا على إخراجه من البلاد، ثم فتكوا به للخلاص من شره دفعة واحدة، وتنفذ بذلك الشطر الأول من برنامجهم الذي كشف عنه «مسيت» منذ 18 نوفمبر سنة 1803، وكانت خطوة البكوات التالية هي محاولة الاستيلاء على الإسكندرية.
ثالثا: البكوات ومسألة الإسكندرية
وكان علي الجزائرلي بسبب سوء حكمه في الإسكندرية قد سبب تذمر الأهلين منه وسخط القناصل عليه، أما فيما يتعلق بالأولين فقد ذكر الشيخ الجبرتي أن مدة إقامة علي باشا بالإسكندرية كانت عهدا من «الجور والظلم ومصادرات الناس في أموالهم وبضائعهم وتسلط عساكره عليهم بالجور والخطف والفسق. هذا إلى جانب ترذيله لأهل العلم وإهانته لهم، حتى إنه كان يسجن الشيخ محمد المسيري الذي هو أجل مذكور بالثغر المزور، وإذا دخل عليه مع أمثاله وكان جالسا اتكأ ومد رجليه قصدا لإهانتهم».
وأما فيما يتعلق بالأخيرين، فإنه لم يحترم حقوقهم التي خولتهم إياها «الامتيازات»، فأهان أعلامهم وشاراتهم الموضوعة على متاجر ومنازل رعايا دولهم، وانتهز جنده الخروج للتدريب يوميا في ساحة المنشية، فصاروا يمرون بحي الإفرنج، ويطلقون الرصاص على المساكن ووكالات القناصل حتى ضج هؤلاء بالشكوى، وعندما فشلوا في منع هذه الاعتداءات ومصادرة أموال رعاياهم أو محمي دولهم؛ قرروا أن ينسحب هؤلاء جميعا إلى السفن الأجنبية الراسية بالإسكندرية، بينما انسحب القناصل أنفسهم إلى سفينة القبطان بك رئيس العمارة العثمانية بالميناء ورفعوا شكاواهم إلى سفراء دولهم بالقسطنطينية وعندئذ اضطر علي باشا إلى توسيط أحمد خورشيد وجاثم أفندي رئيس الجمرك والقبطان بك وغيرهم من كبار العثمانيين بالثغر لفض هذه الأزمة، وكان بعد أن وعد علي باشا باحترام الامتيازات، وإزالة أسباب الشكوى أن قبل هؤلاء النزول إلى البر واستئناف حياتهم العادية بالإسكندرية، فتم الصلح قبل مغادرة الجزائرلي للإسكندرية في طريقه إلى القاهرة بأيام قليلة، ومنذ مبارحة علي الجزائرلي الإسكندرية؛ انفرد بشئونها أحمد خورشيد، وكانت مهمة هذا أن يمنع سقوط الإسكندرية في أيدي البكوات.
واختلفت أساليب البكوات عندما استأنفوا مسعاهم من أجل الاستيلاء على الإسكندرية عن أساليبهم السابقة؛ فقد أرادوا الآن أن يجيء تسليم الإسكندرية طوعا لا كرها، ووجدوا أن خير وسيلة لذلك هي أن يتسلم حاكمها أحمد خورشيد نفسه باشوية القاهرة؛ وذلك لأسباب عدة، منها: اضطرارهم لعقد صلح جديد مع الباب العالي بعد أن نقضوا الصلح السابق بأيديهم لقتلهم علي الجزائرلي، وفي وجود ممثل للسلطان في القاهرة في شخص أحمد خورشيد، ما يمهد لإبرام هذا الصلح الجديد مع الباب العالي.
زد على ذلك أنه كان من المتعذر عليهم إقناع «الأرنئود» بالخروج في حملة ضد الإسكندرية، وهم عاجزون عن دفع مرتباتهم لهم، ولا يزال الأرنئود متمردين عليهم ويعيثون في العاصمة فسادا منذ عودتهم إليها، بل وعظمت الفوضى في القاهرة بعد حادث مقتل علي الجزائرلي، واعتقد البكوات إذا هم استقدموا خورشيد باشا إلى القاهرة واعترفوا بولايته على مصر، أن في وسعهم عندئذ أن يفرضوه على الأرنئود ليكبح جماحهم، وربما تمكنوا بمساعدته من إبعاد الأرنئود من القاهرة وإخراجهم من البلاد كلية، لا سيما بعد صدور العفو السلطاني عنهم، أضف إلى هذا أن وجود خورشيد بالقاهرة يستتبع - بالضرورة - خضوع الإسكندرية لسلطانهم؛ حيث يستطيعون عندئذ تعيين حاكم لها رجلا يكون طوع إرادتهم، وعلى ذلك فقد شرع البكوات يفاوضون خورشيد عقب مقتل علي الجزائرلي في الحضور إلى القاهرة واليا على مصر، وكتب «لسبس» من القاهرة إلى حكومته منذ 25 يناير: «إن المخابرات دائرة بين البكوات وبين الباب العالي ... وإنه علم من عدد من رؤساء البكوات أنهم طلبوا من الباب العالي تنصيب خورشيد باشا حاكم الإسكندرية باشا للقاهرة أي واليا على مصر، واعتمد البكوات في الوصول إلى غايتهم على استطاعتهم توسيط الوكلاء الإنجليز لدى خورشيد، وكان غرضهم المباشر - على نحو ما بينا - الاستيلاء على الإسكندرية.»
وكان من الأسباب التي ساعدتهم على بدء المفاوضة مع حاكم الإسكندرية، أنه هو نفسه صار يطمع في باشوية القاهرة منذ مقتل علي الجزائرلي، ويسعى هو الآخر لتوسيط الوكلاء الإنجليز لدى إبراهيم والبرديسي للظفر بهذه الباشوية، وقد كتب «مسيت» إلى هوبارت بعد ذلك (20 فبراير): «أن إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي قد أخبراه بعد أيام قليلة من وفاة علي باشا الجزائرلي أنهما يريدان عرض مركز الباشوية علي أحمد باشا خورشيد حاكم الإسكندرية، ثم رجواه أن يبذل نفوذه معه كي يحمله على تسليم الإسكندرية لهما عند قبوله عرضهما.»
ثم استطرد «مسيت» يقول: «وفي نفس اليوم وصله خطاب من «بريجز» يبلغه فيه أن خورشيد باشا قد رجاه أن يطلب من «مسيت» أن يوصي البكوات باختياره لمنصب الولاية الذي يصبو إليه.»
ولما كان مما يهم السياسة الإنجليزية وقتئذ أن تكون الإسكندرية في أيدي البكوات المماليك القوة الوطنية التي اعتقد السيد ألكسندر بول ومؤيدو مشروعه المعروف، أن بوسعها الدفاع عن الإسكندرية وعن البلاد ضد الغزو الفرنسي الذي توقعوا حدوثه؛ فقد أيد الوكلاء الإنجليز مساعي البكوات وقبلوا هذه الوساطة، وصار «مسيت» يكثر من الاجتماع بالبرديسي سرا على نحو ما لاحظ «لسبس» ثم قر الرأي على إرسال «ريجيو»
Reggio
ترجمان القنصلية الإنجليزية لمقابلة خورشيد باشا، بينما صار «بريجز»
Briggs
نائب القنصل البريطاني بالإسكندرية يجتمع هو الآخر بخورشيد باشا.
ولم يفطن «دروفتي» إلى المقصود من هذا النشاط في بادئ الأمر، فقال في 6 فبراير: «إنه يبدو أن البكوات قد أحبوا في خورشيد باشا خلقه الموسوم بالاعتدال وحب السلام، حتى إنه؛ أي دروفتي ليجرؤ على القول بأنه إذا تقرر وضع الأمور في نصابها السابق والقديم؛ أي عودة الحكومة المملوكية، وإعطاء مصر فترة قصيرة من الهدوء الداخلي؛ كان من المحتمل أن يصبح خورشيد الرجل الذي يصلح لباشوية مصر في عهد هذه الحكومة المملوكية»، ولكنه ما إن وقف من «لسبس» على حقيقة مساعي الوكلاء الإنجليز وتأييدهم لهذه الخطوة، وطلب إليه «لسبس» أن يحاول جس نبض خورشيد باشا؛ ليقف منه على مدى الدور الذي يقوم به هؤلاء للتقريب بين خورشيد والبكوات؛ حتى تنبه لخطورة هذه المساعي، فانتهز زيارة خورشيد باشا له يوم 8 نوفمبر، وتحدث إليه عن وصول «ريجيو» إلى الإسكندرية، وقال «دروفتي» إنه ربما كان هناك احتمال في بلوغ خورشيد منصب باشوية القاهرة، ولكن خورشيد أجاب بأنه لا يريد الحديث في هذه المسألة ولا يريد أن يعرف شيئا عنها، والواجب انتظار قرار القسطنطينية، فحذره دروفتي من مساعي الإنجليز الذين يعملون دائما ضد مصالح الباب العالي ويريدون احتلال مصر، وأكد خورشيد أنه «لا موضوع في هذه اللحظة عن أي كلام في إعطاء الإسكندرية للبكوات أو السماح لجند أجانب باحتلال حاميتها.»
ويبدو أن خورشيد - وقد اتضحت له نوايا البكوات وعرف أن غرضهم المباشر من عرض باشوية القاهرة عليه إنما هو الاستيلاء على الإسكندرية وإخضاعه لسلطان حكومتهم في القاهرة - قد أدرك خطورة قبوله هذا المنصب في الظروف الراهنة، ورفض أن يكون تسليم الإسكندرية ثمنا لهذه الباشوية، أضف إلى هذا أن حادث الفتك بعلي الجزائرلي كان لا يزال ماثلا في الأذهان، كما أن موقف الباب العالي من البكوات بعد هذا الحادث لم يكن قد عرف بعد، فصمم خورشيد على عدم تسليم الإسكندرية للبكوات، وعلى ذلك، فقد كتب دروفتي من الإسكندرية إلى «ماثيو لسبس» في 9 فبراير 1804 «إن خورشيد باشا لا يستطيع فعل شيء دون أن يصله فرمان الباب العالي بالباشوية على مصر، كما أظهر جاثم أفندي خوفه من أن يحاول المماليك الاستيلاء على الإسكندرية عنوة وبقوة السلاح إذا رفض خورشيد اقتراحهم، وسأل «دروفتي» عما إذا كان في وسعه أن يجعل القناصل بالإسكندرية والقاهرة يتدخلون لمنع البكوات من القيام بأي عمل، ووقف كل الخطوات التي يريدون اتخاذها سواء بطريق المفاوضة أم بطريق العمليات العسكرية للاستيلاء على الإسكندرية حتى تأتي تعليمات الباب العالي.»
وعاد «دروفتي» فكتب بعد يومين إلى «لسبس»: «إن جاثم أفندي قد أكد له أنه من المفهوم طبعا استحالة الاستماع لمقترحات البكوات حتى يحال الأمر على الباب العالي وتأتي التعليمات من الأستانة. وفضلا عن ذلك فإن خورشيد سوف يضمن للبكوات أن الفرنسيين لن يحضروا للاستيلاء على الإسكندرية، كما عاد جاثم أفندي إلى الحديث في مسألة تدخل القناصل مع البكوات لإرجاعهم عن محاولة الاستيلاء عنوة على الإسكندرية»، واستطاع «دروفتي» أن يقف على الغرض من إرسال «ريجيو» إلى الإسكندرية، فقال: «إن مهمته الأساسية تنحصر في أن يطلب من خورشيد قبول باشوية القاهرة، وقبول احتلال الإسكندرية بجند تابعين للبكوات، ولكنه تقرر - كما استطرد دروفتي يقول، وبناء على ما أبلغه إياه كل من خورشيد باشا نفسه وجاثم أفندي والقبطان بك - «أن يجيب هؤلاء على مقترحات البكوات بأنه لم تكن لديهم أية تعليمات من الباب العالي بإعطاء الإسكندرية للمماليك، وأنهم سوف يضطرون للدفاع عنها إذا حاول إنسان دخولها عنوة وبقوة السلاح.»
وبالفعل بدأت منذ 12 فبراير حركة الأسطول العثماني في الميناء القديمة، «دليلا على أنه يريد الخروج إلى عرض البحر، استعدادا للحركات العسكرية وقت الحاجة» على نحو ما كتب دروفتي إلى «ماثيو لسبس» بعد ذلك.
وكان في أثناء هذه الحوادث أن وصلت السفينة الإنجليزية «أرجو» بقيادة الكابتن «هالويل» تحمل «محمد الألفي» إلى الشواطئ المصرية، وقد قابل «هالويل» - بعد إنزال الألفي عند أدكو - ومعه «بريجز» خورشيد باشا، وأكدا له قرب وصول جيش فرنسي إلى مصر، فكتب «دروفتي» للجنرال «برون» في 18 فبراير عن أثر هذه المقابلة في نفس خورشيد باشا، قال: «إنه صار مصمما الآن أكثر من أي وقت مضى؛ على الدفاع عن الإسكندرية ضد المماليك وضد الإنجليز وضد الفرنسيين؛ حيث إنه ليس لديه أوامر ما بتسليم الإسكندرية»، وهكذا أخفق «ريجيو» في مهمته وغادر الإسكندرية دون أن يظفر بإجابة مرضية واتخذ خورشيد خطوات معينة لدفع القوة بمثلها.»
ولما كان «مسيت» قد غادر القاهرة إلى الإسكندرية في 23 فبراير فقد اجتمع عند وصوله إليها بخورشيد باشا، ولكنه أخفق كذلك في محاولة إقناعه؛ أي خورشيد بتسليم الإسكندرية فأبلغ حكومته في 2 مارس معللا سبب إخفاقه بأنه قد تأكد لديه من محادثاته مع خورشيد «أن الباب العالي لم يكن مخلصا في صلحه مع البكوات، وأنه في فرماناته الأخيرة إنما رضي بالتنازل لهم عن الأماكن التي لم تصبح في قبضته هو فحسب، ويعلن خورشيد باشا أن لديه أوامر قاطعة بعدم السماح للمماليك أو الأرنئود بالدخول إلى الإسكندرية، ويقول إنه تثبت في مركزه كحاكم للإسكندرية في نفس الوقت الذي كان فيه كل جزء من أجزاء مصر الأخرى في قبضة البكوات وتحت سيطرتهم، فلو أن الإسكندرية كانت معدودة فعلا من هذه الأماكن لنحى الباب العالي خورشيد عنها، ولكان من حق البكوات أن يعينوا كاشفا يحكمها - كما كان الحال قبل الغزو الفرنسي.»
وقد أقر الباب العالي خورشيد واعتبر من حسن الحظ أن يكون هذا مواليا لتركيا، وقد ظهر ارتياح الباب العالي عندما وقف الجنرال «برون» من الريس أفندي عند اجتماعه به على تفصيلات ما حدث، ثم كتب إلى حكومته في 12 مارس «أن الباب العالي قد أصدر أمره إلى خورشيد باشا بأن لا يقبل جنود البكوات في المدينة وأن يحافظ على الإسكندرية، ويحول دون دخول أية نجدات إليها عدا تلك التي ترسلها إليه حكومته برا وبحرا، ثم استطرد يقول: وهناك ست سفن في مياه القسطنطينية مستعدة للسفر إلى الإسكندرية؛ إذ قال الريس أفندي إن الإنجليز منذ حادث خسرو باشا قد دأبوا على الرغبة في التدخل في شئون مصر.»
وأما البكوات فقد شغلهم عن مسألة الإسكندرية، وعرض باشوية القاهرة على خورشيد باشا وصول الألفي من سفارته في لندن.
رابعا: مطاردة الألفي
أنزل المركب الحربي «أراجو» محمد الألفي عند أبي قير، ووصل الألفي إلى إدكو سيرا على قدميه، وفي 14 فبراير وصل إلى رشيد، فخرج لمقابلته في منتصف الطريق يحيى بك البرديسي حاكمها وعمر بك رئيس الأرنئود، وحيت المدينة دخول الألفي إليها بعد منتصف الليل بإطلاق المدافع من السفن في النيل، وقابله أهلها في صبيحة اليوم التالي واحتفوا به، كما قابله القناصل، ونزل الألفي في مركب «البطروشي» نائب القنصل البريطاني قاصدا السير في النيل إلى القاهرة، وبادر يحيى بك بإبلاغ البكوات في القاهرة نبأ وصول الألفي، فعلمت به القاهرة في 17 فبراير، وأسرع الألفي الصغير بإطلاق المدافع من موقعه بالجيزة تحية لرئيسه، كما أرسل أوامره للبكوات والكشاف من بيت الألفي بالذهاب لاستقباله، ولبى هؤلاء هذه الدعوة بحماس شديد حتى إن أحد البكوات مع ثلاثة من الكشاف سرعان ما خرجوا في مساء اليوم نفسه يعسكرون بين إمبابة والجيزة في انتظار وصوله.
غير أن نبأ وصول الألفي كان مفاجأة سيئة للبرديسي ولإبراهيم، اللذين كانا قد بذلا قصارى جهدهما مع الإنجليز لمحاولة إقناعهم باحتجاز الألفي ومنعه من العودة إلى مصر، ثم نفى رسولهما «سليم أفندي» للكابتن «هالويل» في مالطة أن الألفي كان مفوضا من البكوات في سفارته المزعومة في لندن على نحو ما سبق ذكره، وكان البرديسي وإبراهيم قد سمحا للألفي الصغير ساعد الألفي الكبير الأيمن ونائبه في غيبته، بمشاركتهما في الحكم؛ تعمية له من جهة، حتى لا يفطن لمقاصدهما، ومحافظة على مظهر الاتحاد بين مختلف الطوائف المملوكية لدعم أركان حكومتهما في القاهرة من جهة أخرى.
ولكنه حدث منذ أن تسلم البرديسي زمام السلطة العليا في القاهرة بعد انسحابه من دمنهور في سبتمبر 1803 أن صار الألفي الصغير يجد نفسه مبعدا رويدا رويدا عن شئون الحكم والإدارة، ولا جدال في أن البرديسي كان على حق في سلب كل سلطة منه بسبب ما ظهر من شطط في معاملته للأهلين وما أنزله من مظالم بهم، ولكن الألفي الصغير سرعان ما فسر ذلك بأن البرديسي إنما يريد إبعاد السلطة عن بيت الألفي، وأظهر استياءه من حكومة البرديسي وإبراهيم، وصار يعلن رجاءه في أن تسفر سفارة سيده في لندن عن جمع السلطة في بيت الألفي، وساد سوء التفاهم بينه وبين البرديسي، وجمع الألفي الصغير مماليكه ومشاته من السود واليونان ومدفعيته بالجيزة، وقبع هناك في انتظار عودة محمد بك الألفي، حتى إذا بلغه خبر وصوله أطلق مدافعه لإعلان هذا النبأ وتحية لسيده، وخرج من الجيزة لمقابلته.
وقد أزعج مسلك الألفي الصغير عثمان بك البرديسي، الذي استبد به القلق، بسب ذيوع الاعتقاد بأن الألفي الكبير إنما حضر يسنده الإنجليز بقوتهم، ولا يلبث - لذلك - أن يستولي على أسباب السلطة ويظفر باحترام سائر البكوات له، ولن يستطيع البرديسي عندئذ استرجاع نفوذه إلا إذا اشتبك في معارك شديدة وحالفه النصر في نضاله من غريمه ومنافسه.
وعلى ذلك فإنه بدلا من إطلاق المدافع ابتهاجا بنبأ وصول الألفي، هرع البرديسي إلى محمد علي ينشد النصح والإرشاد عند الرجل الذي أولاه البرديسي ثقته دائما، والذي تظاهر في كل المناسبات السابقة بأنه لا غايات ولا مآرب شخصية له، وظل مبتعدا عن المنافسات والمشاحنات المملوكية، ولديه - إلى جانب هذا كله - القوة العسكرية التي تمكن البرديسي من مطاردة خصمه، ووجد محمد علي في لجوء البرديسي إليه يطلب منه النصيحة فرصة مواتية للمضي في تنفيذ خطته، وهي العمل في هذه المرحلة وبعد أن تم الخلاص من علي باشا الجزائرلي، على إضعاف المماليك وكسر شوكتهم بتأليبهم ضد بعضهم بعضا.
وعلى ذلك فقد كثر انعقاد المؤتمرات بين البرديسي ومحمد علي طوال اليومين التاليين، وأسفرت هذه المؤتمرات عن تدبير تلك الخطة التي خالف فيها البرديسي تقاليد وعادات المماليك القديمة ، وهي تقاليد قال عنها «ماثيو لسبس» إنها تجعل المماليك ما داموا أتباعا لسيد واحد يعتبرون أنفسهم من بيت واحد، فلا يرتكبون أعمالا عدوانية تتسم بطابع الفظاعة والغدر المشين ضد بعضهم بعضا، ومع أن البرديسي والألفي كانا من بيت مراد، فقد رأى البرديسي بعد مشاوراته مع محمد علي واتفاقه معه على الغدر والفتك بالألفي الكبير وبرجاله، فأرسلت الأوامر في 19 فبراير إلى رشيد وحاكمها يحيى بك البرديسي بقتل الألفي، ثم إلى سائر الأعيان في تلك الجهة بوقفه والقبض عليه.
وفي ليل 19-20 فبراير قامت ثلاث حملات في وقت واحد، إحداها بقيادة البرديسي ضد حسين بك الوشاش الألفي في إمبابة، والأخريان بقيادة محمد علي ضد الألفي الصغير ومماليكه بالجيزة، ففوجئ حسين الوشاش، وقتله مماليك وكشاف عثمان البرديسي غدرا، وأما جيشا الأرنئود فقد استولى أحدهما على خيول الألفي الصغير في سهل الجيزة، بينما انقض الآخر على الجيزة نفسها، وهرب الألفي الصغير، ولكن الأرنئود بدلا من مطاردته دخلوا الجيزة ونهبوها، واستمر النهب حتى يوم 22 فبراير.
وعلم البرديسي في 21 فبراير أن الأوامر التي بعث بها إلى يحيى بك قد وصلت رشيد بعد فوات الفرصة، وأن الألفي قد غادرها قاصدا إلى القاهرة، فخرج البرديسي ومحمد علي لملاقاته، وحشدا في النهر «النيل» قوارب كثيرة ملأى بالجند الأرنئود، وكان الألفي يجهل كل ما حدث وينطلق على ظهر «قنجة» أو ذهبية الوكيل الإنجليزي البطروشي رافعا عليها العلم البريطاني، ففاجأه الأرنئود، وكان لم يبتعد عن منوف كثيرا، واستطاع «الألفي» الإفلات، بينما انقض الأرنئود على مراكبه المحملة بعتاده وبالهدايا التي جلبها معه من لندن، وقد بيعت هذه في أسواق القاهرة بعد ذلك.
واستمر الألفي في سيره حتى وصل قريبا من «شبرا شهاب» أو الشهابية، وهناك علم بما وقع في القاهرة من رسول كان في طريقه إلى كاشف أو حاكم منوف سليمان بك البواب لإبلاغه بما وقع، فنزل الألفي من فوره إلى الشاطئ الشرقي ومشى مع مماليكه حتى وصلوا إلى ناحية «قرنفيل» ودخلوا إلى نجع عرب الحويطات وآوته امرأة من الحويطات ثم أركبته فرسا ، وأصحبته دليلين هجانين، فساروا إلى قرب الخانكة، وهناك هاجمه أعراب من قبيلة «بلي» وتبودل بين الفريقين إطلاق النار، وأسرع البرديسي - الذي كان مع بعض البكوات في القليوبية يبحثون عن الألفي إلى مكان المعركة عند سماعه الطلقات الأولى، ولكن بعد فوات الفرصة؛ لأن الألفي كان قد استطاع النجاة مع دليليه وتوغلوا في الصحراء.
وأما محمد علي فقد سار بجنده إلى منوف للقبض على سليمان كاشف البواب، ولكن هذا الأخير كان قد غادر المكان فاستولى محمد علي على معسكره، وأما البرديسي فقد بادر بإبلاغ «مسيت» منذ 22 فبراير خبر مطاردته للألفي راجيا أن لا يكون قد أغضب «جلالة ملك الإنجليز» بعمله هذا؛ «لأن «مسيت» نفسه يعرف جيدا - كما قال البرديسي - أن عودة الألفي إلى السلطة سوف يترتب عليها استمرار الحرب ذات النتائج السيئة بين المماليك، علاوة على أن الألفي عدو للإنجليز؛ كما يدل على ذلك مسلكه في مالطة من جهة ثم صداقة أتباعه للوكيل الفرنسي من جهة أخرى»، وأما الألفي فقد اختفى «بشرقية بلبيس برأس الوادي عند شخص من العربان يسمى عشيبة.»
وكتب لسبس إلى تاليران في 23 فبراير معلقا على هذه الحوادث «أن الأرنئود في شدة الفرح لما حدث؛ إذ شاهدوا المماليك يبيدون أنفسهم بأنفسهم وساهموا هم؛ أي الأرنئود في هلاكهم، وصاروا لا يخشون الآن بأس من بقي منهم؛ ولذلك فإن زعماء الأرنئود يؤكدون له؛ أي لماثيو لسبس أنه بمجرد الانتهاء تماما من مسألة الألفي، فإنهم سوف يبلغون البرديسي بأنهم سيفعلون معه نفس ما فعلوه مع الألفي إذا لم يدفع لهم مرتبات ثمانية شهور، وينهبون القاهرة ...» وكانت مشكلة مرتبات الجند هي المسألة التي واجهت حكومة البكوات مباشرة بعد القضاء على نفوذ الألفي وتشتيت أتباعه، وذلك في وقت كانت هذه الحكومة فيه قد ضعفت ضعفا كبيرا وتألب القاهريون ضدها بسبب سوء إدارتها.
خامسا: سوء الحكم والإدارة
فقد عجز البكوات منذ أن دانت لهم السلطة في القاهرة عقب مقتل طاهر باشا عن إقامة الحكومة القوية التي تستطيع إعادة الهدوء والسكينة إلى العاصمة، وتعمل على استقرار الأوضاع بها، وقد عرضنا في أثناء هذه الدراسة بعض أسباب هذا العجز، ومنها تقدم السن بإبراهيم بك لدرجة أفقدته القدرة على كبح جماح سائر البكوات، أمثال حسين الزنطاوي والألفي الصغي، الذين اشتطوا في إساءة معاملة الأهلين وابتزاز الأموال منهم، بينما شغل البرديسي بمطاردة خسرو باشا أولا ثم مناجزة علي الجزائرلي وأخيرا مطاردة الألفي، ومنها خلو الخزينة من المال بسبب الفتن الأخيرة المنتشرة في طول البلاد وعرضها والتي نجم عنها كساد التجارة وتعطيل الزراعة، فنضب معين الإيرادات العامة، كما زاد الحال سوءا نقص النيل نقصا فاحشا (سبتمبر 1803) وتهديد القاهرة بالمجاعة.
ثم ما جرى عليه البكوات والكشاف والمماليك من الاستيلاء على الغلال والحبوب وتخزينها؛ لبيعها بأثمان مرتفعة للأهلين، فعم الاضطراب القاهرة، ثم زاد من حدته انتشار الجند الأرنئود حلفاء البكوات يعتدون على القاهريين ويؤذونهم في أرواحهم وأموالهم، وعجز البكوات عن كبح جماح الأرنئود لأنهم لم يستطيعوا دفع مرتباتهم لهم، ولأنهم كانوا في حاجة مستمرة لتحالفهم معهم.
ولم يشأ البكوات - على نحو ما أوضحنا سابقا - أن يتحملوا هم نفقات هؤلاء الأجناد من جيوشهم، أو على الأقل شطرا منها، بل استأثروا لأنفسهم - على النقيض من ذلك - بكل ما وصلت إليه أيديهم من المغارم التي حصلوها أو الأموال التي صادروها في دمياط ورشيد وسائر البلدان والقرى في الوجه البحري، خصوصا في أثناء عملياتهم العسكرية ضد خسرو وعلي الجزائرلي، واعتمدوا لذلك على ما قد يستطيعون الحصول عليه من المغارم والإتاوات التي صاروا يفرضونها على الأهلين وسكان القاهرة من وطنيين وأجانب.
ويذكر الشيخ الجبرتي كما يذكر الوكلاء الإنجليز في القاهرة الشيء الكثير من هذه المظالم التي زادت من حروجة الحال في القاهرة والأقاليم على السواء، وانتهى بها الأمر بتحريك الأهلين على الثورة ضد البكوات، وأعطت «محمد علي» الفرصة لتدبير طردهم من العاصمة وإنهاء سلطانهم بها، فذكر الشيخ الجبرتي في حوادث «شهر ربيع الأول 1218ه/13 يوليو 1803م» أن جوخدار البرديسي سافر «إلى ولاية الغربية، وكان شاهين كاشف المرادي هناك يجمع الفردة، وتوجه إلى طنتدا «طنطا» وعمل على أولاد الخادم ثمانين ألف ريال، فحضروا إلى مصر ومعهم مفاتيح مقام سيدي أحمد البدوي هاربين، وتشكوا وتظلموا وقالوا لإبراهيم بك لم يبق عندنا شيء؛ فإن الفرنساوية نهبوا وأخذوا أموالنا.»
وذكر في حوادث «شهر جمادى الأولى 1218ه/27 أغسطس 1803م»، أن البكوات «أرادوا عمل فردة وأشيع بين الناس ذلك فانزعجوا منه، واستمر الرجاء والخوف أياما، ثم انحط الرأي على قبض مال الجهات ورفع المظالم والتحرير من البلاد والميري عن سنة تاريخه من الملتزمين ويؤخذ من القبط ألف وأربعمائة كيس، هذا مع توالي وتتابع الفرد والكلف على البلاد حتى خرب الكثير من القرى والبلاد وجلا أهلها عنها خصوصا إقليم البحيرة فإنه خرب عن آخره.»
واستمر الحال على ذلك حتى إذا ظهر نقص النيل «في منتصف هذا الشهر» (3 سبتمبر) «وصار الأمراء يأخذون الغلال القادمة إلى بولاق بمراكبها قهرا عن أصحابها ويخزنونها لأنفسهم قلت الغلة وعز وجودها في العرصات والسواحل، وقل الخبز من الأسواق والطوابين وداخل الناس وهم عظيم ... واجتمع بعض المشايخ وتشاوروا في الخروج إلى الاستسقاء فلم يمكنهم ذلك لفقد شروطها، وذهبوا إلى إبراهيم بك وتكلموا معه في ذلك، فقال لهم وأنا أحب ذلك، فقالوا له وأين الشروط التي من جملتها رفع المظالم وردها والتوبة والإقلاع عن الذنوب؟ فقال لهم هذا أمر لا يمكن ولا يتصور، ولا أقدر عليه، ولا أحكم إلا على نفسي. فقالوا إذن نهاجر من مصر، فقال: وأنا معكم، ثم قاموا وذهبوا.»
ولم تسفر مساعي المشايخ عن شيء، بل لم يلبث البكوات - في أول أكتوبر - أن أنزلوا فردة أيضا على أهل البلد ووزعوها على التجار وأرباب الحرف، كل طائفة قدر من الأكياس خمسون فما دونها إلى عشرة وخمسة، وبث الأغوات للمطالبة فضج الناس وأغلقوا حوانيتهم وطلبوا التخفيف بالشفاعات للوسايط والنصارى ... واشتدت أزمة الغلال وارتفعت أسعارها في «السوق السوداء»، فضج الناس وشح الخبر من الأسواق «وخاطب بعض الناس الأمراء الكبار في شأن ذلك واستمر الحال على ذلك إلى آخر الشهر (6 أكتوبر)، وتسلط العسكر والمماليك على خطف ما يصادفونه من الغلة أو التبن أو السمن ... وإن حضرت مركب بها غلال وسمن وغنم من قبلي أو بحري؛ أخذوها ونهبوا ما فيها جملة، فكان ذلك من أعظم أسباب القحط والبلاء».
وفي 20 أكتوبر «اجتمع المشايخ وذهبوا إلى إبراهيم بك وكلموه بسبب ما أخذوه من حصة الالتزام بالحلوان أيام العثمانيين ثم استولى على ذلك جماعتهم»؛ أي جماعة البكوات، وقد استمرت هذه المظالم ولم يغن توسط المشايخ أو احتجاجهم فتيلا في رفعها، وفي نوفمبر كتب الشيخ الجبرتي: «كثر عبث العسكر وعربدتهم في الناس فخطفوا عمائم وثيابا وقبضوا على بعض أفراد وأخذوا ثيابهم وما في جيوبهم من الدراهم»، ولم يستطع البكوات منع اعتداءات العسكر، ولم تفد مناداتهم «بالأمن والأمان للرعية» أو تنبيههم على الناس «إن وقع من العسكر أو المماليك خطف شيء يضربوه وإن لم يقدروا عليه فليأخذوه إلى حاكمه، ومثل هذا الكلام الفارغ»؛ لأن العسكر «بعد مرور الحكام بالمناداة خطفوا عمائم ونساء!»
وفي 16 ديسمبر «قرروا فردة على البلاد برسم نفقة العسكر ... وعبث العسكر وخصوصا بالأرياف»، وفي 27 يناير 1804 حاول البرديسي أن يحصل عنوة من الشيخ السادات على «عشرين ألف ريال سلفة» ولم يرده عن الشيخ سوى تدخل عديلة هانم ابنة إبراهيم بك، وانتهز المشايخ فرصة وصول صالح أغاقابجي باشا من القسطنطينية يحمل فرمانا بتاريخ 20 يناير 1804 باسم علي الجزائرلي والقاضي في مصر وإبراهيم بك شيخ البلد وعثمان بك البرديسي وسائر البكوات ومفتي المذاهب الأربعة وعلماء الأزهر الشريف وضباط الوجاقات السبع ورؤساء القضاة في القاهرة، ويتضمن «ولاية علي باشا والأوامر المعتادة» وانعقاد الديوان لقراءة هذا الفرمان في 2 فبراير 1804 «فتكلم الشيخ الأمير في ذلك المجلس وذكر بعض كلمات ونصائح في اتباع العدل وترك الظلم وما يترتب عليه من الدمار والخراب، وشكا الأمراء المتآمرون من أفعال بعضهم البعض وتعدي الكشاف النازلين في الأقاليم وجورهم على البلاد وأنه لا يتحصل لهم من التزامهم وحصصهم ما يقوم بنفقاتهم «فاتفق الحال على إرسال مكاتبات للكشاف بالحضور والكف عن البلاد»، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث واستمرت المظالم واستمرت الفوضى.
وأما الوكلاء الأجانب، فقد ظلوا يشكون كذلك من عسف الحكومة المملوكية، ومن المظالم والإتاوات التي فرضوها على رعايا دولهم والداخلين تحت حمايتها، فشكا «ماثيو لسبس» في 22 أغسطس 1803 من الإتاوات الشديدة التي فرضها البكوات على المسيحيين بما في ذلك المحميين الفرنسيين، وصار يطالب البكوات بدفع تعويض للمسيو «مانجان»
Mengin
الذي ظل يزاول التجارة في مصر بعد خروج الفرنسيين منها، كما استمر يبذل قصارى جهده لحماية مصالح البيوت التجارية الفرنسية في القاهرة لأصحابها «كاستينل ولونيل»
Castinel er Lionel ، «وكاف»
Caffe ، و«روييه»
Royer
إلى جانب «مانجان»، ثم بيت المحميين الفرنسيين جورج عبده وإلياس عبده، ثم استمر يشكو في 24 أكتوبر 1803 من مظالم البكوات وسوء الحالة العظيم في القاهرة، وقال إن مبعث ذلك حاجة البكوات إلى المال لدفع مرتبات الأرنئود.
وقد فرض البكوات قرضا على الأجانب من مائتي كيس بضمانة الجمرك والميري، واضطر القنصل النمساوي «روشتي» والقنصلان الإنجليزي «مسيت» والفرنسي «لسبس» إلى الموافقة على النصح لمواطنيهم ومحمييهم بدفعها إزاء تهديد الأرنئود خصوصا بنهب المدينة، وبسبب عجز البكوات الظاهر عن ردعهم لضعفهم، ولانتشار الخلافات والانقسامات بينهم، وفي يناير 1804 ظلت شكاوى لسبس تترى على حكومته من فظائع الأرنئود الذين ينهبون ويقتلون السكان في وسط الأسواق ذاتها، وفي 7 فبراير كتب إلى حكومته أن هؤلاء الأرنئود الذين لم تدفع لهم مرتباتهم صاروا يهددون بالقيام بحركة عنيفة في القاهرة، ثم عاد في 23 فبراير يردد ما قاله ويذكر كيف أن الأرنئود قد تطرفوا في فظائعهم التي يرتكبونها ضد الأهلين وسكان القاهرة عموما وبخاصة بعد عودتهم إليها عقب مقتل علي باشا الجزائرلي، فضلا عن مطالبتهم المستمرة بمرتباتهم المتأخرة، بمائتي كيس بدعوى إرسال قافلة الحج بالمحمل إلى الحجاز.
وأما «مسيت» الوكيل الإنجليزي فإنه لم ينقطع هو الآخر عن إظهار أسباب ضعف حكومة البكوات في رسائله التي بعث بها إلى حكومته من وقت دخول هؤلاء إلى القاهرة، والتي أشرنا إليها في مواضع كثيرة سابقة، ومنذ 28 أكتوبر 1803 كتب إلى «هوبارت» يقيم الدليل الساطع على فساد حكومة البكوات في نظره بذكر مثال واحد هو ما بلغه «روشتي» قنصل النمسا والروسيا العام في مصر من شأو في عهدهم، فقال: «إن روشتي كان في عهد حكومة خسرو باشا من جملة الأغنياء المعروفين بعدائهم للبكوات، ولكنه صار الآن - بفضل أمواله - صاحب نفوذ عظيم معهم، فقد سمع «مسيت» البكوات أنفسهم عندما كانوا بالجيزة مع الجنرال ستيوارت، وكذلك في أثناء حملتهم في الدلتا، يعلنون أن «روشتي» هذا سوف يكافأ على خيانته وعدم عرفانه بجميلهم عليه إذا استرجعوا السلطة في البلاد، ومع ذلك فقد استطاع «روشتي» بسبب توزيعه المال والهدايا عليهم وعلى كبار ضباطهم منذ عودتهم إلى القاهرة أن يستل سخيمتهم وأن يزيل نفورهم منه، بل وأنشأ معهم صلات لخيره ومصالحه على أساس ثابت مكين، وعلى غرار ما كان الحال بينه وبينهم عليه قبل الغزو الفرنسي.»
وفي فبراير 1804 بعث مسيت برسالة مطولة إلى حكومته يشكو من محاولة البرديسي إلزام بعض الرعايا البريطانيين الذين يزاولون التجارة في القاهرة بدفع رسوم على بن مستورد من مخا لحسابهم، زيادة على الرسم المقرر عليه وهو 3٪، وذلك كما قال «مسيت» بتحريض من حسين بك الزنطاوي، وخشي التجار على أنفسهم وأموالهم فدفعوا ما طلبه البرديسي منهم، ثم لم تمض أيام قليلة حتى طلب البكوات من وكلاء الدول الأجنبية قرضا بمائة وخمسين كيسا، يجمع من كل الأوروبيين ومحميي دولهم في القاهرة، وهدد البرديسي بإنقاذ حسين الزنطاوي إلى حي الإفرنج ليجمع منهم 200 كيس عنوة سواء وافق القناصل أم لم يوافقوا، واضطر مسيت إلى التهديد بالدفاع عن بيته بقوة السلاح إذا حصل اعتداء عليه، واعتذر البكوات، ولكنه وجد أن الحياة لم تعد آمنة بالقاهرة، فغادرها في 23 فبراير إلى الإسكندرية، وكتب «ماثيو لسبس» في اليوم نفسه «إن مسيت بعد أن احتج بشدة لدى البرديسي وإبراهيم بك على ما فعلاه ضد الألفي الذي هو تحت الحماية الإنجليزية لم يلبث أن أعلن إليهما أن «هالويل» قائد الفرقاطة الإنجليزية التي حملت الألفي إلى أبي قير قد دعاه لمقابلته ...»
وأما «لسبس» فقد استطاع هو الآخر مغادرة القاهرة في 27 فبراير، فبلغ الإسكندرية في 4 مارس وكتب في اليوم التالي لوصوله يشرح الأسباب التي دعته لاتخاذ هذه الخطوة، ومنها «إمعان البكوات في إهاناتهم للمواطنين والمحميين الفرنسيين، وفي وقاحاتهم، وأن عثمان البرديسي الذي أراد قبل ذلك إرغام المواطن كاف على دفع خمسة آلاف ريال أبو طاقية؛ بدعوى حاجته إليها لدفعها للجند الأرنئود وتسريحهم؛ قد أعطى حوالة عليه بهذا المبلغ لحسين بك الزنطاوي حتى يتولى هذا الأخير إرغامه على دفعها، ثم إن البرديسي لا يزال يطلب من تاجر نمساوي ظل مقيما بالقاهرة - ثلاثين كيسا، ويطلب من «روشتي» خمسين كيسا بدعوى دفع مرتبات الجند منها، كما طلب الخراج من المحميين الفرنسيين»، وفي هذه الرسالة ذكر «لسبس» أن «روشتي» يستعد للرحيل من القاهرة بحجة تبديل الهواء في الإسكندرية، بينما غادر القاهرة أو صار على وشك مغادرتها كل الأوروبيين الذين لم ترغمهم ظروفهم على البقاء بها.
تلك إذن كانت حال القاهرة، بعد أن استمر حكام البكوات بها أقل من عام واحد فحسب: مظالم ومصادرات، واعتداءات من الجند على الأهلين، وتذمر وسخط شديد من جانب الأهلين والمشايخ على حكومة البرديسي وإبراهيم المستبدة والضعيفة. وليس من شك في أن مبعث أكبر الصعوبات التي صادفتها هذه الحكومة كان تمرد الجند وعصيانهم ومطالبتهم بمرتباتهم المتأخرة، وعجز البكوات عن دفعها، وكانت أزمة المرتبات هذه الصخرة التي تحطمت عليها حكومتهم العاجزة أخيرا. (3) انقلاب «12-13 مارس» وطرد البكوات من القاهرة
اعترف الباب العالي بحكومة البكوات الفعلية منذ وصول فرمانه إليهم في نوفمبر 1803 يحمل ترتيبات الوضع الجديد وعفو السلطان العثماني وصفحه عنهم، ومع أن البكوات لم يرضوا عن هذه الترتيبات للأسباب التي ذكرناها في موضعها؛ فقد عقدوا العزم على مواصلة مساعيهم في القسطنطينية للحصول على شروط أفضل، ولم ينعدم الرجاء في إمكان إقناع الباب العالي بالتسليم والرضوخ للأمر الواقع، إذا ثابر البكوات على هذا المسعى، واستمر يتوسط الإنجليز والفرنسيون لصالحهم في القسطنطينية.
وفضلا عن ذلك فإنه لم يبد من جانب الباب العالي - منذ أن بعث بعلي باشا الجزائرلي واليا على مصر وقرر ترتيباته الأخيرة لحكومة البلاد - ما يدل على أنه قد اعتزم تغيير هذه السياسة، بل إن الفرمان الذي أصدره الباب العالي في 20 يناير 1804، وحمله صالح أغاقابجي باشا إلى مصر جاء خلوا من ذكر الجمارك والالتزام وغيره - على حد تعبير الشيخ الجبرتي - مما كان ذكره «علي باشا الجزائرلي»، أو ما جاء - بتعبير أدق - في الفرمان الصادر في 5 سبتمبر 1803 والذي سبق الحديث عنه.
وفي فبراير 1804 قرأ البكوات فرمانا «وصل من الدولة لعلي باشا الجزائرلي والأمراء بتشهيل أربعة آلاف عسكري وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وإرسال ثلاثين ألف إردب غلال إلى الحرمين»؛ أي أن اعتراف الباب العالي بحكومة البكوات أو مشيختهم استمر إلى الوقت الذي كانت قد أخذت تبدأ فيه الحوادث التي انتهت بطرد حكومتهم من القاهرة.
وسواء كان اعتراف الباب العالي بحكومتهم وقتيا - ولا يثق البكوات في إخلاص الوزراء العثمانيين وصدق نواياهم نحوهم بالرغم من وعود الصفح والغفران، وقد أشار مسيت إلى ذلك عندما ذكر لحكومته في 4 فبراير أن ذلك كان موقف البكوات من الباب العالي بالرغم «من الفرمانات الكثيرة التي صارت تصل إليهم من الباب العالي في هذه الأيام تخولهم امتلاك مصر» - أم كان الباب العالي مخلصا في نواياه؛ فقد كان لدى البكوات الفرصة السانحة لتعزيز حكومتهم الفعلية في مصر لو أنهم لم يرتكبوا تلك الجريمة السياسية التي أودت بحياة علي الجزائرلي، ممثل الباب العالي الشرعي في البلاد، فقد كانوا أصحاب السيطرة الفعلية في البلاد بأسرها ما عدا الإسكندرية، وكان من المحتمل - وعلى نحو ما استهدف البكوات أنفسهم في أول الأمر - أن تخضع الإسكندرية ذاتها لسلطانهم بعد انتقال الجزائرلي إلى القاهرة، ولكنهم بقتل علي الجزائرلي، خلقوا لأنفسهم متاعب ومشاكل كثيرة لم يستطيعوا التغلب عليها، وأفضت إلى سقوطهم.
ولعل أهم النتائج التي ترتبت على الفتك بعلي الجزائرلي من حيث مصير الحكومة المملوكية أن صفح الباب العالي عنهم واعترافه بحكومتهم في النظام الذي صدر به فرمانه إليهم وإلى علي باشا في 5 سبتمبر 1803 قد سقط الآن في الهواء، ووقف البكوات بفعلتهم موقف الثوار والعصاة من صاحب السيادة الشرعية على البلاد، وحرمت حكومتهم من ذلك السند الشرعي الذي كان لا غنى لها عنه في نظر الأهلين خصوصا لاستقامة أوضاع الحكم في مصر، فقد تقدم كيف أن أصحاب كل انقلاب من الانقلابات الماضية كانوا يستكتبون المشايخ والعلماء رجال الشرع العرائض للسلطان ؛ لتبرير ما حدث، ولحمل الباب العالي على إقرار الأوضاع الجديدة.
أما البكوات فلم يستطيعوا بعد قتلهم علي باشا استكتاب المشايخ مثل هذه العرائض، واستمر الأهلون ينظرون إليهم كمجرمين، ثم ازداد حنقهم على البكوات بسبب سوء إدارتهم وما وقع على الأهلين من مظالم فادحة في عهدهم.
وقد نجم عن افتقار حكومتهم إلى هذا السند الشرعي، وإقدامهم على ارتكاب هذه الجريمة السياسية - مقتل علي الجزائرلي - أن زاد اعتمادهم من الآن فصاعدا على الأرنئود وزعيمهم محمد علي بالرغم من اقتناعهم بأن الواجب يقتضيهم التخلص من هؤلاء الأرنئود بكل وسيلة وبأقصى سرعة ممكنة، وكان في اعتمادهم على الأرنئود وزعيمهم محمد علي هلاكهم.
فقد ازدادت شرور الأرنئود في القاهرة خصوصا عقب مقتل الجزائرلي، وعجز البكوات عن ردعهم؛ لأنهم بعد فتكهم بعلي باشا لم يكونوا في وضع يمكنهم من تحطيم محالفتهم معهم، بسبب بقاء الإسكندرية معقلا عثمانيا بعيدا عن سلطانهم، وبسبب تفرق كلمتهم وعزمهم على مطاردة الألفي، بل إن البكوات إزاء مطالبة الأرنئود الصاخبة والمتكررة بمرتباتهم المتأخرة؛ لم يجدوا مناصا من فرض الإتاوات والمغارم على الأهلين.
وعبثا صار المشايخ يتوسطون لديهم لرفعها، ويذكر «ماثيو لسبس» في رسالة له إلى «دروفتي» في 21 يناير 1804 ثم في رسالة أخرى إلى «تاليران» في اليوم نفسه أن المشايخ عندما شكوا إلى البكوات من أعمال النهب والقتل التي تقع يوميا من الأرنئود، أجاب البكوات بأنهم ليسوا على درجة من القوة تمكنهم من محاصرة الأرنئود داخل أسوار القاهرة والقضاء عليهم، ولكنهم وعدوا المشايخ «بأن يوم الانتقام قريب.»
واعتقد «لسبس» أن البكوات سوف ينتهزون فرصة إرسال جند على الجزائرلي إلى الشام أو إلى مكة بحراسة عدد كبير من الأرنئود، وابتعاد هؤلاء الأخيرين عن القاهرة تبعا لذلك، فيوقعون بالباقين منهم بالقاهرة والجهات الأخرى ويهلكونهم رويدا رويدا.
وكان وقوف البكوات على محاولات علي الجزائرلي مع الأرنئود لاستمالتهم إلى تأييده؛ من الأسباب التي جعلتهم يبيتون النية على الفتك بهم في أول فرصة سانحة، ولكن ذيوع مثل هذه الشائعات جعل الأرنئود وقتئذ يصممون على العودة إلى القاهرة مع جند علي باشا، وقال «لسبس» «ويا لويل القاهرة التعيسة عندئذ من رجوع الأرنئود إليها!»
وزادت غطرسة الأرنئود بعد عودتهم إلى القاهرة واشتطوا في اعتداءاتهم على الأهلين، ثم لم يلبث أن زاد الحال سوءا بعد حادث مطاردة الألفي الكبير، وفي فبراير 1804 كتب «مسيت» إلى حكومته أن البرديسي يشكو مر الشكوى من عجزه عن اتخاذ أية وسائل لحفظ البلاد من الغزو الأجنبي - الموضوع الذي يهتم به مسيت قبل أي شيء آخر للأسباب المعروفة - وذلك بسبب وجود الأرنئود الذين لا نظام لهم والذين كانوا متمردين على البكوات، والذين لا يمكن الاعتماد عليهم بحال من الأحوال؛ لما يثيره وجود البرديسي نفسه على رأس الحكم من عوامل الحسد والغيرة في نفوسهم، وصار البرديسي - لذلك - ينتظر وصول نجدة بريطانية «ومن الهند على نحو ما مناه به مسيت نفسه» لطرد الأرنئود وإعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد.
وأما الأرنئود فقد استمروا في غيهم، كما زاد من عجرفتهم أنهم صاروا كذلك ينظرون للبكوات بعين الاحتقار الشديد بعد أن شاهدوا انقسامهم على أنفسهم، وخروج البرديسي لمطاردة الألفي ضاربا عرض الحائط بكل الاعتبارات التي كان من الواجب أن تمنعه من مقاتلة أخ وشقيق له.
وتوقف مصير حكومة البكوات في القاهرة على مسلك محمد علي زعيم هؤلاء الأرنئود، وكان محمد علي قد صح عزمه هو الآخر على القضاء على حكومتهم وطردهم من القاهرة، واستهدف محمد علي من القيام بهذا الانقلاب الذي بيت النية عليه تحقيق مزايا عدة، فقد كان واجبا عليه وعلى سائر الرؤساء الألبانيين مغادرة البلاد؛ نزولا على رغبة الباب العالي التي أفصح عنها في فرمانه أو أمره الصادر للأرنئود في 2 سبتمبر سنة 1803، وكان معنى خروجه ضياع كل ما بذله من جهود لتمكينه من السيطرة والنفوذ في البلاد منذ مقتل طاهر باشا، لا سيما وقد صار في ظل الحكومة المملوكية وتحت ستارها القوة المحركة في مصر، وفي استطاعته - كما أوضحنا سابقا - إذا هو عرف كيف يفيد من المركز الذي صار له - أن يستأثر في آخر الأمر بالباشوية ذاتها.
زد على ذلك - وعلى نحو ما كتب «مسيت» في 12 مارس 1804 - أنه وقد سبق له أن شق عصا الطاعة على السلطان، لم يكن واثقا من صدق نوايا الباب العالي نحوه وأن الباب العالي سوف يغفر له ولسائر الرؤساء الأرنئود - الذين كانوا في وضع مشابه لوضعه - كل ذنوبهم وخطاياهم السابقة.
بل إن مسيت لم يلبث أن عزا في رسالته هذه السبب الذي جعل «محمد علي» يتودد إلى «ماثيو لسبس» ويسعى لكسب صداقته، إلى رغبة محمد علي في الاستناد على مناصرة فرنسا له ضد مكائد الباب العالي الذي توقع محمد علي أنه لن يعدم الوسيلة - إذا هو عاد إلى وطنه - للقضاء عليه واغتياله سرا فلم يكن في نيته لذلك مغادرة مصر وتركها.
واشترك محمد علي في مؤامرة دعوة علي الجزائرلي إلى القاهرة، وكان في صالحه - ولا شك - التخلص من الجزائرلي، ولو أنه لم يشترك في تدبير تلك الجريمة السياسية التي ارتكبها البرديسي، وكان هو وحده المسئول عنها، والتي أوقفت المماليك والبكوات وجها لوجه وفي عداء سافر أمام القسطنطينية، ومع ذلك فقد كان واضحا بسبب محالفته مع البكوات أنه لا مفر من أن يتحمل هو الآخر شطرا من هذه المسئولية سوف تزداد خطورته بمرور الأيام، وطالما بقي إلى جانب البكوات، يعمل معهم ويشد من أزرهم، وطالما ظل ممتنعا عن إطاعة أوامر السلطان، ومبارحة القطر للعودة إلى وطنه مع سائر الرؤساء والجند الأرنئود، فكان لا مناص حينئذ من أن يقوم بعمل أو انقلاب يتوخى منه زوال صفة العصيان والتمرد عنه، ويقيم الدليل على أنه إنما يريد إرجاع هذه البلاد إلى حظيرة الدولة ويقضي على خصومها، فيسترد بذلك رضا الباب العالي عنه، وحتى يضرب الباب العالي صفحا عن أوامره السابقة لإبعاده من مصر، ويصير ينظر إليه كالرجل الذي لا غنى عن بقائه في مصر لتعزيز سلطان صاحب السيادة الشرعية عليها.
وكان لا سبيل لتحقيق هذه الأغراض كلها إلا بطرد البكوات من القاهرة، وبعد حادث انقسام البكوات الأخير ومطاردة البرديسي للألفي لم تعد هذه بالمهمة الشاقة العسيرة.
ووجد محمد علي المسوغ لانتقاضه على البكوات وفصم عرا محالفته معهم عندما قال «لماثيو لسبس» - وأبلغ «لسبس» ذلك إلى حكومته في 5 مارس 1804 - «كيف يمكنني الاعتماد على هؤلاء البكوات؟ لقد ارتكبوا جرما لا يغتفر هو أشد ما يمكن أن يحدث فظاعة وبشاعة، عندما غدروا بأخيهم ورفيقهم وصديقهم «محمد الألفي»، ونحن أعداؤهم الطبيعيون، فماذا ننتظر منهم؟»
واعتمد محمد علي في تدبير انقلابه على الأرنئود الذين تحت زعامته، كما وجد في تذمر المشايخ والقاهريين من البكوات وسخطهم عليهم لمظالمهم فرصة مواتية لزيادة متاعب البكوات وإرباكهم بتحريض المشايخ والرؤساء الشعبيين على الثورة عليهم، وكان ذلك كله سهلا ميسورا بسبب عجز البكوات عن دفع مرتبات الجند، وبسبب لجوء البكوات لفرض الإتاوات والمغارم على الأهلين لدفع هذه المرتبات ذاتها.
ولا جدال في أن «محمد علي» كان هو بنفسه محرك الثورة التي بلغت ذروتها في القاهرة بين 8 و13 مارس وأنهت حكومة البكوات في مصر وقضت قضاء مبرما على كل أمل في استرجاع سلطانهم السابق، بالرغم من كل المحاولات التي قاموا بها لاسترداد هذا السلطان المفقود بعد ذلك.
وكان مما ساعده في خطته، أن عثمان البرديسي ظل يثق في صداقته وولائه له ويستمع لنصحه حتى اللحظة الأخيرة، كما حرص محمد علي منذ أن صح عزمه على تدبير هذا الانقلاب، على أن يظهر دائما بمظهر من يريد مواساة القاهريين في محنتهم التي سببتها مظالم البكوات، وأن ينشئ صلاته بالمشايخ ويعمل على توثيقها.
وكان أول اضطراب كبير أحدثه الأرنئود بسبب مرتباتهم المتأخرة في 27 يناير 1804، ذكر «لسبس» حوادثه مفصلة في رسالته التي أشرنا إليها سابقا (5 مارس)، فقال: إن الأرنئود احتشدوا أمام بيوت رؤسائهم: محمد علي وأحمد بك وحسن بك، وحبسوهم بها «وأعلنوا عزمهم على ذبحهم إذا لم تدفع لهم مرتباتهم»، وكذلك حاصر الأرنئود الحي الذي به منزل عثمان بك البرديسي، فاضطر هذا لدفع جزء من هذه المرتبات للجند ووعد بأن يدفع بعد عشرين يوما مرتبات شهرين، ثم بعد أربعين يوما دفعة أخرى بشريطة تنازل العسكر عن باقي المتأخر من رواتبهم، ووافق ضباط الأرنئود على هذا الحل، ولكنها - كما قال «لسبس» - «كانت موافقة في الظاهر فقط، واستمر مرجل الاضطراب يغلي من الباطن، وأغلقت الأحياء وأغلق الأهلون بيوتهم على أنفسهم، وظل التعدي على الناس في تطرفه، وتوقع الجميع نهب المدينة.»
واستمرت الاضطرابات في القاهرة، وتجدد تمرد الأرنئود على البكوات عندما طلب البرديسي منهم في أواخر فبراير السير إلى الفيوم لمطاردة أتباع الألفي الذين اجتمعوا بها، وأصدر زعماء الأرنئود أمرهم إلى جندهم بذلك، ولكن هؤلاء - كما ذكر «مسيت» في رسالة له إلى «هوبارت» من الإسكندرية في 6 مارس - سرعان ما حاصروا منازل قوادهم «وكان موجودا بأحدها - بوجه الصدفة - عثمان بك البرديسي، وأظهر الأرنئود تصميمهم على أن يلزموه بالبقاء في هذا المنزل محاصرا حتى ينالوا مرتباتهم، ثم هددوا بنهب القاهرة» إذا ظل البرديسي لا يدفع لهم هذه المرتبات.
وسلك محمد علي في أثناء الأزمات التي أثارها الجنود الأرنئود مسلك من يريد التهدئة والتسكين، وقام دائما بدور الوسيط بين الجند والبكوات، بل إنه في سبيل حسم الخلاف بين الفريقين لم يتردد عن الذهاب مع الأرنئود الذين قصدوا البرديسي في بيته في 24 فبراير يطالبونه بدفع مرتباتهم، وأتيحت لمحمد علي الفرصة حتى يظهر بمظهر من لا حيلة له ولا قوة إزاء إصرار الجند على نوال حقهم، وأنه مرغم على الانصياع لهم ولا سلطان له عليهم في هذه المسألة، مشيرا على البرديسي في الوقت نفسه لتهدئة الجند بضرورة طرق كل سبيل لجمع اللازم لدفع مرتباتهم.
فكان لدفع هذه المرتبات أن فرض البرديسي - أو حكومة البكوات - تلك الإتاوات على التجار والرعايا والمحميين الأجانب - التي سبقت الإشارة إليها - وقد أرغم «روشتي» على إقراض البكوات 25000 قرش بهذه المناسبة، ولكن ما جمعه البكوات من طريق القروض أو المصادرة والمغارم لم يكف لدفع مرتبات الجند عندما بلغ المطلوب 3700 كيس، على نحو ما ذكر «روشتي» نفسه بوصفه قنصل روسيا العام في مصر للمبعوث الروسي في القسطنطينية «ديتالنسكي»
D’Italinsky
في 12 مارس 1804.
ولذلك اضطر البرديسي في 7 مارس إلى «عمل فردة على أهل البلد، وتصدى لذلك المحروقي، وشرعوا في كتابة قوائم لذلك ووزعوها على العقار والأملاك أجرة سنة يقوم بدفع نصفها المستأجر والنصف الثاني يدفعه صاحب الملك»، فثارت القاهرة.
فقد تحمل القاهريون مظالم البكوات السابقة، وتوسط مشايخهم لدى البكوات مرارا لرفعها دون جدوى، ولما كان الضنك والبؤس قد بلغا منتهاهما، فقد «نزل بالناس ما لا يوصف من الكدر مع ما فيهم من الغلاء ووقف الحال» عندما شاهدوا كتاب الفردة والمهندسين «ومع كل جماعة شخص من الأجناد يطوفون بالأخطاط يكتبون قوائم الأملاك ويصقعون الأجر»، فكثرت الاحتجاجات ورفض الفقراء والجسورون الدفع، واشتبك الأهلون مع عمال الفردة في مناقشات حادة، واجتمعت الجماهير في الجوامع وخرج الفقراء والعامة والنساء «طوائف يصرخون وبأيديهم دفوف يضربون عليها، والنساء يندبن وينعين ويقلن كلاما على البكوات مثل قولهن «أيش تأخذ من تفليسي يا برديسي؟» وصبغن أيديهن بالنيلة»، وذهبت الجماهير إلى الأزهر يطلبون وساطة المشايخ لدى البكوات، واضطر البكوات إلى إبطالها (8 مارس).
وكان لهذه الثورة نتائج خطيرة مباشرة، فقد أخافت البكوات الذين أربكتهم هذه المقاومة الغير المنتظرة من جانب الشعب، كما بصرت «محمد علي» بعواقب إرجاء تنفيذ خطوته الأخيرة؛ لأنه كان من الواضح - إذا استمر هياج القاهريين أن ينقلب هذا الهياج كذلك ضد الأرنئود بسبب اعتداءاتهم على هؤلاء وفظائعهم التي ارتكبوها معهم، فيصبح الأرنئود محصورين بين قوتين: قوة البكوات والمماليك الذين كانوا يريدون - على نحو ما أوضحنا سابقا - التخلص منهم بقدر رغبة محمد علي نفسه في التخلص من البكوات وحكومتهم، وقوة الشعب الذي يسهل عليه في ثورته أن يفتك بالجند الأرنئود لانتشارهم بين أفراده، وقد أخافت هذه الثورة فعلا الأرنئود «فصاروا يقولون للقاهريين نحن معكم «سوا سوا»، أنتم رعية ونحن عسكر ولم نرض بهذه الفردة وعلوفتنا على الميري وليست عليكم، أنتم أناس فقراء»، ولم يتعرض أحد من الأهلين لهم.
وبادر محمد علي بالنزول وسط الجماهير، يجتمع بالمشايخ، ويسير معهم في الشوارع ويختلط بالجماهير الصاخبة والهائجة، ويتعهد لهم بإبطال الفردة كما بعث بوكيله «كتخداه» إلى الجامع الأزهر، يردد نفس ما قاله جنوده الأرنئود «ونادى به في الأسواق، ففرح الناس وانحرفت طبائعهم عن البكوات ومالوا إلى العسكر»، وكسب محمد علي المشايخ والشعب إلى جانبه.
وكان بسبب ما ظهر من موقف محمد علي وجنده الأرنئود في هذه الأزمة أن أدرك عدد كبير من البكوات والمماليك أن من صالحهم الآن إنهاء محالفتهم مع الأرنئود وأن المستقبل إنما هو للجماعة التي يكون لها سبق القضاء على الأخرى، وكان على رأس هؤلاء إبراهيم بك الذي أدرك من غيره حقيقة موقف جماعته، وظل - كما سبقت الإشارة إليه - يحذر البرديسي في كل المناسبات من محمد علي واستمرار المحالفة مع الأرنئود، وأشار إبراهيم في اجتماع سري عقده مع سائر البكوات عقب حوادث «7 و8 مارس» إلى ضرورة فصم علاقاتهم مع محمد علي والأرنئود وتوجيه ضربة قاصمة للأرنئود وزعمائهم «دفعة واحدة وفي يوم واحد»، حتى يتخلصوا منهم نهائيا وبكل سرعة، وكان محمد علي بسبب الدور الذي قام به في حوادث «7 و8 مارس»؛ قد أثار شكوك كثيرين منهم في ولائه، ولكن البرديسي عارض اقتراح إبراهيم بشدة، وأشاد بذكر الخدمات التي أداها الأرنئود وزعيمهم محمد علي للمماليك، وسقط اقتراح إبراهيم.
وترامى لمحمد علي أن البكوات وأكثرية أتباعهم صاروا يشكون في أمره، كما صارت تتزايد في الأيام التالية اتهامات هؤلاء ضده ولو أن البرديسي استمر يدفع عنه هذه التهم ويناصره، ثم بلغ من ثقة البرديسي العمياء به أنه استمع لآخر «نصيحة زوده بها محمد علي، فتخلص البرديسي من أكبر خدامه شجاعة وأصدقهم ولاء له «المملوك» الفرنسي «سليم كومب»
Combe ، كما جدد رجال مدفعيته، فاستبدل برجال اكتسبوا خبرة ومرانا طويلا جماعة من «الترك» لم يتوخ الدقة في اختيارهم، فلم يلبث محمد علي أن اشترى ولاءهم بالمال، ووجد حينئذ أن الفرصة قد صارت سانحة لتنفيذ خطوته الأخيرة والخامسة والتي فكر فيها طويلا ضد حكومة البكوات المماليك.
وفي 12 مارس 1804 علم البرديسي من جواسيسه أن الأرنئود يعتزمون مهاجمته في بيته، فجمع حوله كل مماليكه وخلع «محمد علي» القناع وبدأ الانقلاب في منتصف الليل، عندما ذهب محمد علي بنفسه على رأس فريق من الأرنئود لمحاصرة البرديسي، بينما ذهب حسن بك مع فريق آخر لمحاصرة إبراهيم بك، وسمع القاهريون صوت الرصاص، واستمر الضرب في اليوم التالي (13 مارس) ولم ينتفع البرديسي من مدفعيته، فلم يجد مناصا من الخروج وسط كوكبة شقوا طريقهم بالسيف وسط جموع الأرنئود حتى وصلوا إلى «قلعة المجمع العلمي» ثم انسحبوا منها إلى «البساتين»، وخرج إبراهيم بك من بيته مع جماعته يشق طريقه هو الآخر بحد السيف، فاستطاع الوصول إلى ميدان الرميلة، وانسحب إلى الصحراء، ومع أن القلعة ظلت تطلق قنابلها في أثناء هذه الحوادث على بيوت الأرنئود بالأزبكية إلا أن المغاربة الذين كانوا بحاميتها سرعان ما ثاروا على حاكمها «شاهين بك» بمجرد أن علموا بفرار البكوات، فأرغموه هو الآخر على الفرار مع رجاله من باب الجبل، ولم يبق في أيدي البكوات سوى مقياس الروضة يحتله حسين بك الزنطاوي مع مائتين من المشاة فحسب، ولكن الزنطاوي ما إن علم بمغادرة البرديسي لقلعة المجمع العلمي حتى أحرق سفن مدفعيته، وغادر الروضة بسرعة. وهكذا باتت القاهرة بأسرها في قبضة محمد علي.
ويفسر الشيخ الجبرتي هذا الانقلاب الذي بدأ تدبيره جديا منذ ثورة القاهريين في 8 مارس، وهي الثورة التي مكنت «محمد علي» من كسب الشعب والمشايخ إلى جانبه بقوله: إن هذه الفعلة؛ أي مواساة محمد علي للشعب، وتعهده بإبطال «الفردة» وإرسال كتخداه إلى الأزهر، مما تسبب عنه فرح الناس وانحراف طباعهم عن البكوات وميلهم إلى العسكر - كانت من جملة الدسائس الشيطانية، فإن «محمد علي» لما حرش العساكر على محمد باشا خسرو وأزال دولته وأوقع به ما تقدم ذكره بمعونة طاهر باشا والأرنئود، ثم بالأتراك عليه حتى أوقع به أيضا وظهر أمر أحمد باشا وعرف أنه إن تم له الأمر ونما أمر الأتراك؛ أي الإنكشارية لا يبقون عليه، فعاجله وأزاله بمعونة الأمراء المصرلية، واستقر معهم حتى أوقع - باشتراكهم - قتل الدفتردار والكتخدا، ثم محاربة محمد باشا بدمياط حتى أخذوه أسيرا، ثم التحيل على علي باشا الطرابلسي «الجزائرلي» حتى أوقعوه في فخهم وقتلوه ونهبوه.
كل ذلك وهو يظهر المصافاة والمصادقة للمصريين وخصوصا للبرديسي، فإنه تآخى معه وجرح كل منهما نفسه ولحس من دم الآخر، واغتر به البرديسي وراج سوقه عليه وصدقه، وتعضد به واصطفاه دون خشداشينه، وتحصن بعساكره وأقامهم حوله في الأبراج وفعل بمعونتهم ما فعله بالألفي وأتباعه وشردهم وقص جناحه بيده وشتت البواقي وفرقهم بالنواحي في طلبهم، فعند ذلك استقلوهم في أعينهم وزالت هيبتهم من قلوبهم وعلموا خيانتهم وسفهوا رأيهم واستعفوا جانبهم وشمخوا عليهم وفتحوا باب الشر بطلب العلوفة مع الإحجام خوفا من قيام أهل البلد معهم ولعلهم بميلهم الباطني إليهم فاضطروهم إلى عمل هذه الفردة ونسب فعلها للبرديسي فثارت العامة وحصل ما حصل، وعند ذلك تبرأ محمد علي والعسكر من ذلك وساعدوهم في رفعها عنهم فمالت قلوبهم إليهم ونسوا قبائحهم وابتهلوا إلى الله في إزالة الأمراء وكرهوهم وجهروا بالدعاء عليهم وتحقق العسكر منهم ذلك ...» فكانت الواقعة التي قوضت عروش الحكومة المملوكية. (4) ولاية خورشيد
وأغضب «مسيت» سقوط حكومة البكوات، وقسا في لومهم؛ لأنهم - كما قال عندما بعث بتفاصيل ما وقع إلى حكومته من الإسكندرية في 18 مارس 1804 - قد تسببوا هم أنفسهم في إضعاف حكومتهم «عندما صاروا - بالرغم من نصائحه المتكررة لهم أن لا يفعلوا ذلك - يعملون على القضاء على الإنكشارية - وهم الذين قتلوا زعيم الأرنئود السابق طاهر باشا، ونادوا بولاية أحمد باشا وكانوا خصوم الأرنئود وخصوم محمد علي - وصاروا يطردونهم من القاهرة بدلا من أن يبذلوا قصارى جهدهم لكسب صداقتهم كضمان لهم ضد ذبذبة الأرنئود وعدم ثباتهم على مبدأ واحد.
ولكن البكوات كما استطرد «مسيت» يقول - اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى جعلهم بحكمته وقدرته يمتلكون مصر، فأصمهم حسن الحظ الذي واتاهم عن الإصغاء إلى كل نصح مبعثه السياسة الرشيدة ...»
ومهما يكن من أمر فقد قضي الآن على حكومتهم، واستطاع محمد علي أن يقوم بتلك الحركة التي ذكر «لماثيو لسبس» منذ أوائل مارس أن الأرنئود إنما يعتزمون القيام بها للقضاء على المماليك ولجلب رضاء الباب العالي عليهم، وكانت الخطوة التالية هي إرجاع مظاهر سيادة الباب العالي في القاهرة بعد طرد البكوات منها، ثم العمل لملء منصب الباشوية الذي ظل شاغرا منذ مقتل علي باشا الجزائرلي.
وكان مما يهم «محمد علي» أن يتم ملء هذا المنصب بكل سرعة أولا كدليل على أنه لا يبغي من تدبيره الانقلاب الأخير أن يستأثر لنفسه بالسلطة، بل إن مقصده تحقيق أماني الباب العالي بطرد البكوات والقضاء على حكومتهم، وتوطيد سيادة الباب العالي الشرعية، بوضع ممثل للسلطان العثماني على رأس الحكومة في القاهرة، وثانيا كإجراء لا غنى عنه في الحقيقة إذا شاء محمد علي أن يفوت على القسطنطينية فرصة اختيار أحد الولاة الأقوياء وتزويده بالنجدات الكافية لتعزيز سلطته؛ لوثوقه من أن الباب العالي سوف يرضى - على سابق عادته - بتقرير الأمر الواقع إذا نجح محمد علي في ملء منصب الباشوية، وأخيرا كخطوة تكفل لمحمد علي اختيار الرجل الذي يريده هو لهذا المنصب، فيظل محمد علي صاحب السلطة الفعلية في البلاد، وفي وسعه أن يبقيه أو أن يخلعه حسبما تمليه مصالحه في ضوء ما قد يجد من حوادث بعدئذ.
وكان محمد علي قد طلع إلى القلعة يوم 13 مارس «ونزل وبجانبه محمد باشا خسرو ورفقاؤه وأمامهم المنادي ينادي بالأمان حكم ما رسم محمد باشا ومحمد علي إعلانا لعودة خسرو باشا إلى الولاية، وأشيع في الناس فعلا رجوع محمد باشا إلى ولاية مصر، ثم بادر المحروقي إلى المشايخ فركبوا إلى بيت محمد علي يهنئون الباشا بالسلامة والولاية» بعد أن استمر في حبسه ثمانية شهور كاملة.
ولكن «إخوة طاهر باشا سرعان ما داخلهم غيظ شديد، ورأى محمد علي نفرتهم وانقباضهم من ذلك وعلم أن «خسرو» لن يستقيم حاله معهم وربما تولد من ذلك شر»، واستند الرؤساء الأرنئود في معارضتهم إلى أن حكومة مصر كانت قد انتقلت إلى علي الجزائرلي منذ أن كان خسرو سجينا بالقلعة، وأنه قد تعين لباشوية أخرى، ويشير الأرنئود بذلك إلى الفرمان الذي وصل القاهرة في 19 يونيو 1803 بإسناد ولاية سالونيك إلى خسرو باشا، وقد سبق الكلام عن هذا الفرمان عند الحديث عن باشوية علي الجزائرلي، وقال الأرنئود إنه لا يستطيع لذلك الحكم في مصر وأن الأفضل إرساله إلى الإسكندرية ؛ ليبحر منها إلى القسطنطينية.
وعلى ذلك فقد أنزله محمد علي إلى بولاق، وفي 15 مارس «عزل خسرو باشا للمرة الثانية واقتيد إلى رشيد فأبحر منها إلى القسطنطينية وهكذا - على حد تعبير الشيخ الجبرتي - انتهت هذه الولاية الكذابة الشبيهة بولاية أحمد باشا الذي تولى بعد قتل طاهر باشا يوما ونصف.»
ووقع الاختيار على أحمد خورشيد باشا حاكم الإسكندرية.
ويبد أنه كان هناك اتفاق بين محمد علي وبين أحمد خورشيد على أن يملأ الأخير منصب الولاية، فمن المعروف أن خورشيد كان يتطلع لباشوية القاهرة من مدة طويلة، تبدأ في الواقع من وقت الحوادث التي أفضت إلى طرد خسرو من الولاية في أوائل مايو 1803، فقد توهم خورشيد وقتذاك أن في وسعه الاستفادة من الاضطرابات التي سادت القاهرة في أواخر أيام خسرو، فغادر الإسكندرية صوب القاهرة في جماعة من أتباعه، ولكنه ما إن وصل قريبا من بولاق حتى كان خسرو قد فر من القاهرة وتولى طاهر باشا «القائمقامية»، فنكص خورشيد على عقبيه، وعاد مسرعا مع جماعته إلى الإسكندرية، وأبلغ «كاف»
Caffe
الوكيل الفرنسي تفصيلات هذا الحادث إلى حكومته في رسالة بعث بها إليها من رشيد في 8 مايو 1803.
وقد تقدم كيف سعى خورشيد يوسط الوكلاء الإنجليز لدى البكوات بعد مقتل علي الجزائرلي، حتى يرضى به هؤلاء واليا على مصر في المكان الذي شعر بوفاة علي باشا، وقامت المفاوضات بينه وبين البكوات حول هذا الموضوع فترة من الزمن، وتولى الوكلاء الإنجليز الوساطة بين الفريقين، ولكن هذه المفاوضات لم تلبث أن أخفقت - كما أوضحنا - عندما جعل البكوات تولي الباشوية مشروطا بتسليم الإسكندرية لهم.
ولكن خورشيد سرعان ما استأنف - على ما يبدو - مفاوضاته من أجل تولي منصب الباشوية عندما زادت الاضطرابات في القاهرة، وظهر ضعف حكومة البكوات، وصار من المتوقع أن يحدث الاصطدام قريبا بين البكوات والأرنئود، غير أن المفاوضات في هذه المرة كانت مع محمد علي .
وهناك ما يحمل على الاعتقاد قطعا بأن ثمة تفاهما أو اتفاقا قد تم فعلا بين محمد علي وخورشيد على أن يتولى الأخير باشوية القاهرة، يؤيد ذلك أن «محمد علي» في منتصف ليل 12 مارس؛ أي في الوقت الذي كان فيه جنده يحاصرون بيتي البرديسي وإبراهيم بك «أرسل جماعة من العسكر ومعهم فرمان وصل من أحمد باشا خورشيد حاكم الإسكندرية بولايته على مصر، فذهبوا به إلى القاضي، وأطلعوه عليه وأمروه بأن يجمع المشايخ في الصباح ويقرأه عليهم ليحيط الناس علما بذلك، فلما أصبح؛ أي يوم 12 مارس - وهو اليوم الذي استطاع فيه كل من البرديسي وإبراهيم بك الخروج من القاهرة بشق الأنفس - أرسل إليهم؛ أي أرسل القاضي إلى المشايخ يدعوهم للاجتماع، فقالوا لا تفتح الجمعية في مثل هذا اليوم مع قيام الفتنة، فأرسله؛ أي الفرمان إليهم، وأطلعوا عليه وأشيع ذلك بين الناس.»
وفضلا عن ذلك فإنه لم يمض يومان على إذاعة خبر هذا الفرمان، حتى كان جماعة من العسكر الأرنئود قد جاءوا إلى الإسكندرية يبلغونه إلى خورشيد، فقال «ماثيو لسبس» في رسالته إلى حكومته في 16 مارس، «إن جندا من الأرنئود حضروا إلى الإسكندرية مساء يوم 15 مارس يعلنون إلى خورشيد خبر قراءة فرمانات من الباب العالي في القاهرة بتنصيبه واليا على مصر، كما قالوا إن القاهرة في هدوء شامل.»
واستطرد «ماثيو لسبس» يقول: «ويبدو أن خورشيد قد تعاون مع محمد علي في تدبير هذه الحركة»، كما قال «لسبس» إن خورشيد قد أكد له صحة هذا الخبر وأنه سوف يغادر الإسكندرية فورا إلى القاهرة في صحبة حرس من الأرنئود يبلغون الخمسمائة في انتظاره، وقد ذكر «لسبس» أيضا أن طابيات الإسكندرية قد أطلقت مدافعها لإعلان ولاية خورشيد على مصر، «وإيذانا بأن هذه البلاد قد خضعت لقوانين وسيطرة السلطان العثماني»، وعندما وصلت القسطنطينية أخبار طرد حكومة البكوات وتولية خورشيد في القاهرة، كتب «ستراتون» من السفارة الإنجليزية بالقسطنطينية إلى اللورد «هوكسيري» في 10 أبريل يبلغه ما وقع، ويعزو حدوث هذه الحركة برمتها إلى اتفاق سابق بين الأرنئود وخورشيد باشا ، فقال: «إن حركة الأرنئود لا يبدو أنها كانت بإيعاز من الباب العالي، وإنما مبعثها أن الأرنئود لا يثقون في المماليك، ولأنهم غير راضين عن مركزهم في مصر لشعورهم بأنهم خانوا مصالح السلطان، ولما كان قد عظم قلقهم ورغبوا في العودة إلى ساحة الرضا السلطاني؛ فقد دبروا بأنفسهم الخطة التي أقصت البكوات عن حكومة القاهرة وعرضوها على خورشيد باشا، وأظهروا استعدادهم لتنفيذها إذا لم يعارضها خورشيد نفسه؛ برهانا على ندمهم الصحيح، وكعمل يستطيعون به التكفير عن خطاياهم الماضية ووسيلة لإزالة الأثر الذي خلفه مسلكهم السيئ في الماضي، وهكذا، فإنهم بعد الفراغ من تنفيذ هذه الخطة بادروا بدعوة خورشيد باشا الذي لم يبد عدم رضاه عن هذا المشروع، كما لم يبد في الوقت نفسه موافقته عليه، وقابلوه بكل مظاهر الاحترام.»
ولا يقلل من الاعتقاد بوجود هذا التفاهم أو الاتفاق بين خورشيد ومحمد علي أن الأخير بالرغم من إذاعته خبر الفرمان الذي وصله من خورشيد باشا قد عمد بعد ساعات قليلة إلى المناداة بولاية خسرو باشا؛ إذ يبدو أن «محمد علي» كان مطمئنا سلفا إلى أن زعماء الأرنئود لن يرضوا بولاية رجل ينتمي لأولئك الإنكشارية الذين فتكوا بطاهر باشا، وقد حدث فعلا - كما رأينا - أن عارض أقرباء طاهر باشا في ولاية خسرو معارضة شديدة، فلم يكن غرضه من هذه الخطوة إذن وفي ضوء ما وقع من حوادث في أثناء الانقلاب أو بعده؛ سوى المبادرة بإعلان نزاهة الدوافع التي جعلته ينقلب على حكومة البكوات حلفائه، والتي مبعثها رغبته في إخضاع القاهرة مرة أخرى لسيادة السلطان العثماني الشرعية، وأنه لا يرجو نفعا خاصا لشخصه من هذه الفعلة.
ولا جدال في أن المناداة بولاية خسرو قد سببت زيادة انعطاف أهل القاهرة ومشايخهم إلى محمد علي وازدياد وثوقهم بخلوص نواياه؛ فقد قابلوا هذه الولاية بالفرح وذهب المشايخ والرؤساء الشعبيون - كما قدمنا - لتهنئة خسرو باشا، ورأى القاهريون في إعادته إلى الولاية عدلا وتعويضا له عن تنحيته السابقة وسجنه.
فلما عارض الأرنئود وصمموا على إبعاده «تركهم محمد علي - على حد قول «مانجان» - يفعلون ما يريدون بعد أن نال بغيته»، وفضلا عن ذلك فقد كانت المناداة بولاية خسرو تنطوي على معنى أعمق لم يكن من المنتظر أن يفوت مغزاه على خورشيد نفسه، هو أن «محمد علي» قد بلغ من القوة ما يجعله قادرا على تنصيب الولاة وعزلهم، وأن خورشيد باشا لا مندوحة له عند استلام مهام منصبه عن أن يدخل في حسابه هذه القوة التي تتوافر الأدلة على أنها لن تتخلى عن السلطة التي لها في تصريف شئون الحكم والإدارة.
وهكذا أوجز المعاصرون ما اعتبروه مقاصد محمد علي من مبادرته بتولية خسرو باشا، فقالوا: «إن اتخاذ هذه الخطوة قد أسدل حجابا كثيفا على مشروعاته، وأبرز - في جلاء - احترامه للباب العالي، وقدم المسوغ الضروري لتبرير تلك الخيانة التي ارتكبت في حق البرديسي وزادت من مكانة محمد علي أكثر من أي وقت مضى مع الشعب والعلماء، وجعلته لذلك ينظر في اطمئنان وثقة إلى المستقبل.»
على أن هناك إلى جانب هذا كله ما يدل - دون شك أو ريب - على أن تولية خورشيد باشا كانت بناء على اتفاق وتدبير سابقين بين خورشيد ومحمد علي ودون انتظار لمعرفة إرادة الباب العالي بسبب بسيط واحد، هو أن الفرمان الذي بعث به خورشيد إلى محمد علي، وطلب محمد علي من القاضي في منتصف ليل 12 مارس أن يدعو المشايخ لقراءته، ثم أشيع أمره بين الناس في اليوم التالي، كان من صنع خورشيد باشا نفسه، وليس هناك ما يفيد أن الباب العالي قد أرسل وقتذاك فرمانا يسمي خورشيد باشا للولاية.
فمن الثابت قطعا أن الباب العالي عندما وصله خبر مقتل علي باشا الجزائرلي، بادر باختيار أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية مصر؛ لرغبته في أن يعين لهذه الباشوية واليا يستطيع إقامة الحكومة القوية بها والتي يكون في قدرتها إخماد الفتن والثورات والقضاء على القوات العسكرية المملوكية، ثم الزود عن البلاد ضد الغزو الأجنبي، سواء جاء هذا الغزو من ناحية إنجلترا، التي يبدو أن الباب العالي كان يتوقع حدوثه من ناحيتها أكثر من ناحية أي دولة أخرى، أم جاء من ناحية فرنسا.
فقد كتب «ستراتون» القائم بأعمال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية إلى اللورد «هوكسبري» في 10 مارس 1804 «أن أخبارا مشوشة عن علي باشا الجزائرلي وصلت القسطنطينية، وأن الباب العالي قد أرسل مركبا من نوع القرويت إلى الإسكندرية لإحضار أخبار دقيقة عما يجري من حوادث هناك، وتقوم الاستعدادات لإرسال أسطول من أربع سفن إلى الإسكندرية تحمل ألف جندي تركي لتعزيز حاميتها، وقد قرر الديوان العثماني تعيين الجزار صاحب الشهرة المعروفة وباشا عكا واليا لمصر في المكان الذي شغر بوفاة علي باشا الجزائرلي.»
وفي 24 مارس عاد «ستراتون» يقول: «إن الريس أفندي قد أبلغه تعيين الجزار باشا ليخلف علي باشا الجزائرلي، وقد ساق الريس أفندي الحجج التي استند عليها في تبرير هذا الاختيار غير العادي، ولكن «ستراتون» ما لبث أن أبدى هو الآخر رأيه في هذا الموضوع، وهو أن اختيار رجل من طراز الجزار باشا لولاية مصر في الظروف الراهنة معناه إلقاء البلاد في أحضان الحروب الأهلية؛ لأنه إذا طرحت جانبا مسألة الغزو الفرنسي فإنه من الممكن أن يتوقع المرء أنه إما أن يتفق الجزار مع البكوات على امتلاك البلاد واقتسامها فيما بينهم دون الباب العالي، وإما أن يتنازع الفريقان امتلاك هذه المقاطعة، زد على ذلك أنه من غير المحتمل إذا رجحت كفة الجزار أن يبقى على ولائه للسلطان؛ ينهض دليلا على ذلك سيرته في عكا، وفي غيرها. وأما إذا نجح البكوات فمن المتوقع أنهم سوف يمعنون - عندئذ - في امتهان أوامر السلطان وعدم طاعتها.»
ثم استطرد «ستراتون» يقول: «ولكن تكليف أحد العصاة بإخضاع عاص آخر إنما هو إجراء قد ثبتت دعائمه من آماد طويلة في هذه الدولة العثمانية ومبعث ذلك ضعف الدولة، ثم زاد في رسوخه كبرياء حكومة تحرص على التمسك بمظاهر جوفاء لسلطة تشعر بأنها قد فقدتها ولم تعد لها - في الحقيقة.»
وفي 31 مايو كتب من مالطة «شارلس لوك» وهو القنصل الذي عين لمصر ثم توفي قبل ذهابه إليها - كما سبقت الإشارة إليه في موضعه - «إنه يبدو أن تعيين الباب العالي الجزار باشا لولاية مصر كان معروفا في مصر وقت وصول آخر ما جاء من أنباء منها.»
ومن مصر، أسرع «مسيت» عند المناداة بولاية خورشيد باشا التي حدثت في 15 مارس؛ يبلغ حكومته في اليوم التالي هذا النبأ من الإسكندرية، فقال: «إنه نودي به واليا على مصر بناء على فرمان من الباب العالي يبدو أنه كان لدى خورشيد باشا الذي ظل محتفظا به من عدة أيام سابقة ولم يمنعه من إظهاره سوى انتظار الفرصة المناسبة لإعلانه»، ولكن «مسيت» لم يلبث أن تحقق من أنه لم يكن لدى خورشيد باشا أي فرمان بالولاية من الباب العالي، فكتب إلى حكومته في 29 مارس «أن خورشيد باشا عندما غادر الإسكندرية إلى القاهرة لتسلم مهام منصبه قد نصح له بالبقاء بالإسكندرية وعدم الذهاب إلى القاهرة حتى يبلغ «مسيت» من «خورشيد» نفسه أن الاضطرابات قد انتهت هناك.»
ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولكن هذه العواطف الجميلة التي أبداها خورشيد قد جعلته يشك في أنه ليس لديه - كما يؤكد هو - أي فرمان من الباب العالي لتعيينه في باشوية مصر؛ ولذلك فإن خورشيد لم يكن واثقا من مركزه ومن موقف الأحزاب المختلفة في القاهرة تجاهه، وقد تأيدت شكوك «مسيت» بسبب ما وقع من حوادث، وما توفر من قرائن أهمها أن «محمد علي» أطلق سراح محمد خسرو يوم 12 مارس من حبسه الطويل ونادى به واليا على مصر، ولكن إخوة طاهر باشا وأتباعهم العديدين لم يرتاحوا لهذا الاختيار، وصمموا على مغادرة خسرو باشا للقاهرة وأمهلوه ساعة واحدة بعد إنذاره بضرورة خروجه منها، فترك خسرو القاهرة ولكنه لم يذهب إلى أبعد من رشيد؛ حيث لا يزال باقيا بها إلى الآن بدعوى انتظاره لأوامر الباب العالي بشأنه.»
ويؤكد «مسيت» في نفس رسالته هذه «أن لديه معلومات وثيقة بأن هناك مراسلات تدور بنشاط بين خسرو ومحمد علي بواسطة ترجمانه الذي ترك القاهرة لهذا الغرض، ومحمد علي والإنكشارية ينحازون إلى محمد خسرو باشا، بينما يؤيد الأرنئود عموما ادعاءات خورشيد باشا الذي أذاع أن الديوان العثماني قد عينه للباشوية، وذلك حتى يسكت جميع الأحزاب ويلزمهم بالصمت.»
ولما كان اتحاد محمد علي مع الإنكشارية أمرا شاذا ولا يتفق مع طبيعة الأشياء؛ فقد راح «مسيت» يعلل ذلك بقوله: «إن هذه الصلة الغير الطبيعية التي ربطت بين الإنكشارية وبين محمد علي، لم يكن منشؤها مجرد الرغبة في تعيين أحد الولاة لباشوية مصر فحسب؛ لأن من المتعذر أن يكون هذا وحده هو الغرض الذي اتحد محمد علي من أجله مع هؤلاء الجند الإنكشارية.»
وقد كان «مسيت» - ولا شك - محقا في ملاحظته؛ لأنه لم يكن بوسع محمد علي أن يفقد مؤازرة الأرنئود ورؤسائهم - وهم عماد قوته فضلا عن أنهم من جنسه - ليتحد مع جماعة كانوا قلة ولا سلطان ولا نفوذ لهم في شيء، وبرهنت الحوادث منذ طرد «باشتهم» محمد خسرو من القاهرة في المرة الأولى (مايو 1803) إلى حادث طرده في هذه المرة الأخيرة على أنهم لا حول ولا قوة لهم أمام الأرنئود، فلم يكن اتحاد «محمد علي» - غير الطبيعي - معهم سوى مظاهرة قصد بها محمد علي إلى بلوغ الأغراض بعينها التي توخاها من توليته محمد خسرو.
وفي 24 أبريل عاد مسيت للكتابة مرة أخرى في هذا الموضوع نفسه، فقال: «إنه قد أذيع بالإسكندرية خبر تعيين الجزار باشا لولاية مصر.»
تلك إذن كانت أقوال الوكلاء الإنجليز ورجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية عن ولاية خورشيد باشا، وهي تنفي صدور فرمان من الباب العالي يسمي خورشيد لباشوية القاهرة.
على أن أقوال الوكلاء الفرنسيين ورجال السفارة الفرنسية في القسطنطينية، تنفي هي كذلك صدور هذا الفرمان لخورشيد وتؤكد تعيين أحمد باشا الجزار لولاية مصر في نفس الوقت الذي راح فيه خورشيد يذيع في القاهرة والإسكندرية نبأ تعيينه ويساعده محمد علي على الوصول إلى غايته؛ فقد كتب «دروفتي» من الإسكندرية إلى الجنرال «برون» في 17 فبراير 1804 أنه «علم أن خورشيد قد وصلته بتواريخ حديثة العهد جدا فرمانات من الباب العالي لتعيينه لباشوية رودس، ومن ضمن هذه الفرمانات، فرمان صدر بتثبيت علي باشا الجزائرلي في ولاية مصر.»
وعندما بلغ القسطنطينية نبأ قتل علي باشا الجزائرلي، كتب «برون» إلى حكومته في 10 مارس «أن الريس أفندي موافق على أن هذا الحادث كان نتيجة مكائد «مسيت» - ثم أردف يقول: وقد تعين الجزار باشا واليا على مصر، ويصرحون في الدوائر السياسية العليا بأن الإنجليز يريدون احتلال الإسكندرية احتلالا عسكريا، ولكن الريس أفندي قد أكد له أن بالإسكندرية سفنا حربية وجندا كافين لرد أي اعتداء يقع عليها، ولإبقائها في حوزة الباب العالي ومن ذلك تنشأ فكرة تعيين الجزار باشا لحكومة مصر.
وقد سجل «برون» ما دار من أحاديث بينه وبين الريس أفندي في مؤتمر عقد بعد ذلك بيومين (12 مارس) تناول الاثنان فيه البحث في مسألة محاولة المماليك الاستيلاء على الإسكندرية، وتوسط الوكلاء الإنجليز وذهاب «ريجيو» ترجمان القنصلية الإنجليزية لمفاوضة خورشيد باشا في ذلك، وإرسال الباب العالي أوامره إلى خورشيد باشا؛ لرفض دخول جند البكوات إلى الإسكندرية، كما تحدث الريس أفندي عن محاولة الإنجليز التدخل في شئون مصر منذ حادث طرد خسرو باشا في مايو من العام السابق، وتصميم الباب العالي على دفع كل غزو قد يقع على مصر، فذكر «برون» عند تسجيله هذه الأحاديث ما يؤخذ منه أن فكرة تعيين الجزار باشا كان مبعثها تلافي هذه الأخطار جميعها.
وفضلا عن ذلك فقد كتب «برون» إلى «تاليران» في 24 مارس «أن الباب العالي يعقد آمالا عظيمة على نجاح سياسته في إسناد حكومة مصر إلى الجزار باشا، وهو - كما يؤكد الوزراء العثمانيون - برهان على أنهم لا يرضون عن تدخل «الإنجليز» في شئون مصر.
وما إن بلغت القسطنطينية أنباء الانقلاب الأخير وطرد البكوات من القاهرة، ثم تنصيب خورشيد باشا واليا على مصر حتى كتب «برون» في 10 أبريل «أن الأخبار قد جاءت القسطنطينية تنبئ بأن الأرنئود قد انفصلوا عن البكوات وأوقعوا بهم الهزيمة، ثم اضطروهم للانسحاب إلى الصعيد، وأنهم؛ أي الأرنئود قد قدموا خضوعهم للباب العالي الذي صفح عنهم، وأن «علي باشا الجزائرلي» قد قتل، وخلفه خورشيد باشا.»
وقد ذكر «برون» تاريخ وصول هذه الأنباء إلى القسطنطينية على وجه التحديد، فقال في رسالة تالية له في 17 أبريل إن «ططريا قد وصل من القاهرة في 7 أبريل؛ أي بعد إعلان ولاية خورشيد باشا في الإسكندرية والقاهرة واستلامه شئون الحكم فعلا - بأنباء تفيد أن الأرنئود قد قتلوا البكوات جميعهم! وأن خورشيد باشا قد ذهب إلى القاهرة بوصفه واليا على مصر. ثم استطرد «برون» يقول: إن الريس أفندي قد أبلغه في 8 أبريل أن البكوات قد قتلوا، ما عدا الألفي الكبير والألفي الصغير وعثمان البرديسي، وأن مصر قد عادت أخيرا إلى حظيرة الإمبراطورية العثمانية.»
وأما الوكلاء الفرنسيون في مصر فقد حرصوا من جانبهم على إبلاغ حكومتهم أن خورشيد باشا أغا تولى باشوية مصر، من غير أن يصدر له أي فرمان من الباب العالي يخوله ذلك، فقد كتب «ماثيو لسبس» من الإسكندرية في 16 مارس؛ أي غداة إعلان ولاية خورشيد رسميا؛ أنه ذكر لخورشيد أن «هذا الحادث السعيد يحتم عليه العودة إلى القاهرة ليشغل منصبه بها، ولكن خورشيد طلب منه البقاء بالإسكندرية إلى أن يبعث إليه بخطابات من القاهرة» يدعوه فيها للمجيء إليها؛ أي أن خورشيد قد فعل مع «لسبس» نفس ما فعله مع «مسيت» وللأسباب نفسها التي أوضحها «مسيت» لحكومته.
ثم لم يلبث «ماثيو لسبس» أن أكد «لتاليران» في 9 أبريل «أن خورشيد ليس لديه أي فرمان من الباب العالي، وأنه دخل القاهرة دون أن يصله أمر قاطع من حكومته بأن يفعل ذلك، ثم استطرد «لسبس» يقول: إنه وصلته في هذه اللحظة رسالة من دمياط تعلن أن مركبا قد وصل إلى دمياط من عكا في 4 أبريل تذيع أن السلطان العثماني قد أعطى الجزار باشا حكومة مصر والشام بأسرها بما في ذلك حلب، وأن الجزار قد أرسل ستة من الرسل على ظهر الهجن لإعلان هذا النبأ في القاهرة.»
وفي 22 أبريل عاد «لسبس» يؤكد في كتابه إلى «برون» أن خورشيد ليس لديه فرمان من الباب العالي، وأن خورشيد قد كتب له كما كتب للوكيل الإنجليزي يدعوهما للحضور إلى القاهرة لغرض واحد فحسب هو أن يضعهما تحت سلطانه، وكي يستخدمهما كأدوات لإنقاذ أعماله ضد الأوروبيين ويلقي بهما فريسة للأرنئود الذين ازداد جشعهم بعد خطوتهم التي قاموا بها لنوال صفح الباب العالي عنهم.
على أنه مما يسترعي الانتباه حقا، قول «لسبس» في رسالته هذه، إنه لما لم يكن لدى خورشيد فرمان من الباب العالي، ولما لم يكن لديه من الجند سوى الأرنئود؛ فقد أصبح في أيدي هؤلاء مجرد أداة يحركونها كما يشاءون، ثم قوله: «وأما محمد علي فقد أعلن أمام «خورشيد باشا» وأمام تراجمة الوكلاء الأوروبيين الذين كانوا مجتمعين في بيت الباشا أن خورشيد ليس لديه أي فرمان من الباب العالي، وأنه؛ أي محمد علي، هو الذي يأمر وينهى، وأنه يريد أن يمده الأوروبيون بالمال فورا.»
وقد كتب «لسبس» إلى «تاليران» في 25 أبريل يؤكد من جديد «أن الجزار باشا قد عين قطعا لولاية مصر وأنه قد أرسل جنده إليها وأن بعض هؤلاء موجودون فعلا بالعريش، وأن هناك من يتساءل الآن: إلى أي جانب سوف ينحاز الأرنئود؟ وهل يحكم الجزار باشا في مصر؟ أو أن الباب العالي سوف يبعث بتثبيت أحمد خورشيد باشا الذي يحكم اليوم فعلا؟»
غير أن هذا التساؤل لم يدم طويلا؛ ذلك أن «ماثيو لسبس» لم يلبث أن كتب بعد ذلك وفي اليوم نفسه إلى الجنرال برون «أن طاهر بك حاكم الإسكندرية المؤقت قد أرسل إليه في هذه اللحظة ذاتها يبلغه أن خورشيد باشا قد تعين واليا على مصر بمقتضى فرمانات وصلت اليوم من الباب العالي وأرسلت إلى القاهرة»، ثم أكد الوكلاء الفرنسيون هذا الخبر؛ أي وصول فرمان تثبيت خورشيد في ولايته، في نشرتين من نشراتهم الإخبارية: الأولى عن حوادث مصر بين «10، 30 أبريل 1804»، والثانية عن هذه الحوادث بين «21، 30 مايو 1804».
ذلك أن الباب العالي قد قرر أخيرا تثبيت أحمد خورشيد باشا في ولاية مصر، فذكر «ستراتون» في رسالته إلى اللورد «هوكسبري» في 25 مايو «أن السلطان قد سلم - أو رضي - بتثبيت خورشيد باشا في ولاية مصر، وهي الولاية التي - كما يعرف هوكسبري - قد رفعه إليها الزعماء الأرنئود.»
وفضلا عن ذلك، فقد تناول غير هؤلاء من المعاصرين قصة هذا الفرمان، فقال «مانجان» إن الفرمان الذي أرسله محمد علي في منتصف ليل 12 مارس 1804 إلى القاضي لقراءته في حضور المشايخ كان طريقة ماهرة لإظهار شرعية مسلكه أمام المشايخ الذين كان في استطاعتهم تقرير اتجاه الحركة الشعبية، وهذا في وقت كان لا يزال فيه أكثر البكوات متحصنين في بيوتهم ولا تزال مقاومتهم مستمرة، كما كان في وسع البرديسي إذا وجد مناصرين له يدعونه للدخول إلى القاهرة أن يقتحمها بقواته المسلحة.
ومع ذلك فهناك طائفة من الأسئلة يحار المرء في الجواب عليها، من ذلك معرفة كيف حضر هذا الفرمان؟ وأي قابجي أو رسول من القسطنطينية أحضره؟ وكيف تسنى ورود هذا الفرمان مع العلم بأنه قد مضى على وفاة - أو قتل - علي باشا الجزائرلي اثنان وأربعون يوما فحسب حتى يوم 12 مارس، ومن المتعذر في هذه الأثناء الوقوف على ميول ورغبات الباب العالي؛ لأن الوقت كان شتاء، والمواصلات في هذا الفصل عسيرة وصعبة وتكاد تكون مقطوعة.
وأما «روشتي» فقد ذكر قصة هذا الفرمان في رسالة مسهبة سجل فيها الحوادث التي أفضت إلى إنهاء حكم البكوات من القاهرة، وبعث بها إلى البارون شتورمر السفير النمساوي بالقسطنطينية في 12 مارس 1804، فقال: إن «محمد علي» الذي كان اتحاده وثيقا مع السيد عمر مكرم نقيب الأشراف وسائر العلماء لم يلبث أن اجتمع بالمشايخ وحمل حملة شديدة على البرديسي لخيانة عهد أخيه الألفي، وقال إن جنده الألبانيين ورؤسائهم قد روعتهم هذه الخيانة حتى صاروا ينقمون عليه نقمة شديدة ويريدون إنهاء سلطان المماليك في القاهرة، فوافق الحاضرون على ذلك بالإجماع، «وعندئذ أبرز لهم محمد علي صورة فرمان بعث بها إليه خورشيد باشا من الإسكندرية، وبهذه الحجة أو العذر صار تدبير مهاجمة البكوات فجأة في بيوتهم وفي لحظة واحدة والقضاء عليهم مع مماليكهم.»
وأما الشيخ الجبرتي فقد أوجز هذه القصة عندما سجل، في بساطة ووضوح كذلك، في حوادث «يوم الاثنين تاسع عشرة» (أي من شهر محرم عام 1219، والموافق لأول مايو 1804) أنه قد «ورد ططري وعلى يده بشارة للباشا «خورشيد» بتقليده ولاية مصر، ووصول القابجي الذي معه التقليد والطوخ الثالث إلى رشيد وطوخان لمحمد علي وحسن بك أخي طاهر باشا وأحمد بك من رؤساء الأرنئود فضربوا عدة مدافع وذهب المشايخ والأعيان للتهنئة.»
وعلى ذلك، فإنه لا ندحة - في ضوء كل ما تقدم - عن التسلم بعدد من الأمور المعينة، أولها: أن الباب العالي عين أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية مصر في الوقت الذي حدث فيه انقلاب «12-13 مارس»، فلم يكن هناك فرمان في يد خورشيد باشا يخوله الحق في ملء منصب الولاية، ولم يصدر فرمان الباب العالي له إلا بعد أن جاءت الأخبار من القسطنطينية منبئة بدخوله إلى القاهرة وممارسته شئون الحكم فعلا، فأبطل الباب العالي تعيين الجزار باشا وبادر بالاعتراف بالأمر الواقع، وأقر خورشيد باشا في ولايته، وكان لذلك أسباب، منها أن الباب العالي بالرغم من رغبته في تعيين حاكم قوي لمصر يقضي على الفوضى السائدة بها والتي عزاها لسيطرة المماليك العسكرية كان متخوفا من الآثار المترتبة على اجتماع حكومتي مصر والشام في يد الجزار باشا الرجل الذي أعلن العصيان والتمرد على سلطان الباب العالي مرات كثيرة سابقة؛ ولأن الباب العالي كان مشدودا إلى عجلة سياسته العتيقة في مصر التي جعلته لضعفه وعجزه عن مواجهة الأمور؛ يرضى بمظاهر السيادة التي له من الناحية القانونية والشرعية على مصر، وإن فقد كل سلطة وسيطرة بها، بدلا من اتخاذ إجراءات حاسمة حازمة تثقل كاهله بأعباء لا يريد أن يتحملها في وقت اجتاح فيه الوهابيون الحجاز، وصار الباشوات في سائر أنحاء الإمبراطورية في شبه ثورة على سلطانه، ولا يأمن شر الدول الأوروبية الطامعة في تقسيم أملاكه.
وقد أوضح هذه الحقيقة أصحاب «تاريخ الحملة الفرنسية العلمي والعسكري في مصر، الجزء التاسع»، فقالوا: «إنه بعد ثلاثة أسابيع من دخول خورشيد باشا القاهرة عاد أحد ضباطه من القسطنطينية يحمل فرمانا سمح بمقتضاه الباب العالي بإعطاء باشوية مصر إلى سيده، ومما يستدعي الانتباه لغرابته الفريدة أن هذا الإخطار برغبات وإرادة السلطان العليا كان رابع إخطار من نوعه وصل إلى هذا الجزء من الإمبراطورية في أقل من عام واحد، والفرمان الأول الذي ثبت خسرو محمد في ممارسة سلطانه لم يصل إلى القاهرة إلا بعد سقوط دمياط بعدة أسابيع، وفي أثناء وجود خسرو في الأسر وعندما وصل الفرمان الثاني الذي يحوي تسمية طاهر باشا للولاية كان هذا الزعيم الألباني قد لقي حتفه، وأخيرا الفرمان الثالث الذي صدر لعلي الجزائرلي لم يصل إلا بعد مضي أكثر من شهر على مصرع هذا الباشا وانطراح جثته وسط رمال الصحراء.
ولكن من الواجب أن نذكر أنه في كل مرة جاء فيها رسول السلطان يحمل واحدا من هذه الأوامر كان يستقبل بإطلاق المدافع من القلعة ومن الحصون الأخرى؛ تحية له، وتذهب الوفود إلى بولاق لتأتي به، فيدخل القاهرة في احتفال رائع، ثم يؤخذ إلى الجامع الرئيسي؛ حيث يقرأ القاضي هذه الأوامر العليا في حضور المشايخ ورؤساء الجند وأعيان السكان الذين يدعون رسميا لهذا الاجتماع، ولكنه كثيرا جدا ما كان يحدث، وكما يتبين بعد ذلك أنه لا سبيل لتنفيذ الفرمان الذي قرئ إذ إنه قد بقي من غير تنفيذ، ولا يثير ذلك أقل اهتمام من جانب أولئك الذين لهم الغلبة والسلطة في القاهرة، ولقد كان إمضاء السلطان موضع كل احترام وتقديس طأطأت له الرءوس وخر الناس له سجودا، ولم يغفل أي دقيق من دقائق الاحتفال الواجب في مثل هذه المناسبات، أفلا يكفي ذلك؟ وماذا يطلب المرء بعد هذا كله؟»
وأما ما يؤخذ ثانيا من الحقائق التي ذكرناها فهو وجود تفاهم سابق بين خورشيد ومحمد علي بشأن إسناد الولاية إلى خورشيد باشا، حقيقة ظاهر محمد علي خسرو باشا ووقف إلى جانب الإنكشارية أيام الانقلاب وكان الرؤساء الأرنئود هم الذين صمموا على إنهاء ولاية «خسرو» الكذابة، وهم الذين اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ثم قر رأيهم على تنصيب خورشيد، وبعثوا إليه بالرسل يبلغونه قرارهم، كما وضع جماعة من الجند الأرنئود أنفسهم تحت تصرفه وذهبوا إلى الإسكندرية ليصحبوه منها إلى القاهرة ، ولكن كل هذا النشاط ما كان يمكن أن يحدث دون رضائه وموافقته.
ومن الثابت أنه تركهم يفعلون ما يريدون، وقد تقدم كيف اعتبر المراقبون من الوكلاء الأجانب أن اتحاد محمد علي مع الإنكشارية كان عملا شاذا ومناقضا لطبيعة الأشياء ذاتها، فلم يكن مبعث اتحاده معهم - وهم مع قلتهم وضعفهم النسبي بالقياس إلى كثرة أعداد الأرنئود أصحاب السيطرة على القلعة والذين كانوا قوة ذات وزن في كل ما يحدث من أمور، قد اعتبروا أنفسهم دائما «فخد السلطنة» وعمادها - سوى الرغبة في جذب هذه الطائفة واستمالتها إلى تأييده، أو على الأقل إلى وقوفها على الحياد أثناء الاصطدام مع البكوات المماليك.
وقد كان «مسيت» الوكيل الإنجليزي دائب النصح للبكوات المماليك بأن يقربوا منهم الإنكشارية وأن لا يستعدوهم عليهم حتى يتقووا بهم على الأرنئود، وكان لا مناص من أن يعمل محمد علي لاستلال سخيمتهم بعد أن اشترك في تدبير إقصاء «باشتهم» خسرو من الحكم، وأرغم على مغادرة البلاد أحمد باشا الرجل الذي التفوا حوله للمحافظة على كيانهم بعد مقتل طاهر باشا، وذلك إذا شاء أن يقنعهم بأنه ما كان يبغي في كل ما فعله سوى تمكين السلطان العثماني من فرض سيطرته الشرعية على البلاد - وقد كان محمد علي يبذل ما وسعه من جهد وحيلة عند إنهائه حكومة البكوات لإقامة الدليل على تشبثه بالولاء الصحيح للباب العالي، وإذا شاء أيضا أن يؤلف معهم جبهة متحدة يواجه بها خورشيد باشا نفسه إذا تبين أن هذا الأخير يبغي الاستئثار بالحكم والتخلص من الرجل الذي برهنت الحوادث الأخيرة على أنه صار يصنع بيديه الولاة، وفي وسعه أن يحطمهم - وقد كان محمد علي مطمئنا إلى قدرته على الاحتفاظ بطاعة جنده الأرنئود وولائهم له، عندما لم يكن هناك أي أمل بسبب خلو الخزينة من المال دائما في أن يدفع باشا القاهرة مرتبات الأرنئود، فلن يتسنى حينئذ أن يظفر بودهم أو أن يصرفهم عن زعمائهم، ثم كان في قدرة محمد علي أن يتخذ من مسألة المرتبات المتأخرة في أي وقت يشاء وسيلة لتأليب الأرنئود وتحريكهم للثورة على باشا القاهرة.
وثمة حقيقة ثالثة، هي رضاء محمد علي بأن يعتمد تلك الصورة التي بعث بها خورشيد إليه من الإسكندرية على أنها صورة الفرمان المزعوم الذي وصله من الباب العالي، مما ينهض دليلا آخر على تدبير أمر الولاية بين خورشيد ومحمد علي؛ فقد أبرز محمد علي هذه الصورة في منتصف أو بعد منتصف ليل 12 مارس؛ أي في نفس الوقت الذي كان جنده يحاصرون فيه البرديسي وإبراهيم، مما يدل قطعا على أن صورة هذا الفرمان وصلت «محمد علي» قبل أن يخلع القناع بمدة، ربما كانت طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل الأحوال كانت كافية لإعطائه الفرصة للتثبت من صحة هذه الوثيقة التي لا شأن للباب العالي بها ولم تصدر عنه.
ولم يكن محمد علي بالرجل الذي تجوز عليه الغفلة، وبخاصة في أثناء هذه الأزمة العصيبة التي صنعها بنفسه، بل إن مسلك محمد علي بعد أن أبرز صورة الفرمان المزعوم ليدل دلالة واضحة على أنه ما كان يعتقد بصحته؛ فلو كانت تلك في نظر محمد علي وتقديره إرادة الباب العالي الحقة لما وجد ما يدعو لرفع خسرو باشا إلى منصب الولاية؛ لأن جلب رضى الباب العالي وإعلان الولاء له - مقصد محمد علي الأعظم أهمية من خطوته هذه إنما يكون عندئذ بإطاعة أوامره مباشرة ودون التواء، ولم يكن في وسع الإنكشارية على أي حال مخالفة إرادة السلطان أو الظهور بمظهر العصاة الخارجين على أوامر الباب العالي.
أضف إلى هذا أن الرؤساء الأرنئود الذين اجتمعوا وتشاوروا واختاروا خورشيد للولاية إنما فعلوا ذلك بعد أن ذاع أمر الفرمان بين الناس، كما كان ذهاب الجند الأرنئود إلى الإسكندرية ليضعوا أنفسهم تحت تصرف خورشيد، وليكونوا حرسا له في أثناء سفره إلى القاهرة، بعد ذيوع أمره، فقد غادر هؤلاء القاهرة إلى الإسكندرية بقيادة أحمد بك في 21 مارس، وعلى ذلك فقد كانت مسألة الفرمان من تدبير خورشيد، واشترك محمد علي معه في تدبيرها.
وأما الحقيقة الرابعة فهي: أنه كان من طبيعة هذا التدبير ذاته - ولأن «محمد علي» قد أسهم فيه بنصيب وافر فضلا عن أنه قد ظل يمارس سلطة فعلية في عهد حكومة البكوات المماليك، ولو أنه ترك مقاليد الأمور في الظاهر في يد البرديسي وإبراهيم - أن ينتفي أي انسجام بين خورشيد ومحمد علي وأن تتكدر العلاقات بينهما؛ لأنه لم يكن هناك مفر من أن يشعر خورشيد بأنه مدين بمنصبه للأرنئود وزعيمهم، ولا ندحة عن إدخاله قوة هذا الزعيم في حسابه، وهو لا يزال في حاجة إلى جنده الأرنئود لمطاردة البكوات، هدف ولايته الأولى، كما لم يكن في وسع محمد علي أن يتخلى عن سلطاته وهو - كذلك - يشعر بأنه القوة التي في وسعها وحدها مطاردة المماليك، بل لقد كان إلى جانب ذلك من طبيعة النجاح الذي أدركه في رفع خورشيد إلى الولاية، وبعد أن تمرس في صناعة إقامة الحكومات وهدمها ما يجعله هو أيضا يصبو إلى منصب الولاية، أما وقد أرجع البلاد إلى حظيرة الدولة بعد أن أنهى حكم البكوات في القاهرة، ونال بفضل ذلك رضاء السلطان العثماني؛ فسوف لا يكلفه الظفر بموافقة الباب العالي وتقريره في النهاية للأمر الواقع سوى اصطناع التريث والأناة عندما يشرع في تدبير انقلابه الذي سوف يمكنه من الولاية.
وأخيرا لقد كان الاعتراف بسلطة خورشيد باشا بإصدار فرمان الولاية له يحمل معنى هاما هو أن الباب العالي بالرغم من الفوضى السياسية المنتشرة في البلاد وقتئذ كان لا يزال صاحب السلطان في مصر، وأن الأمور - في ظاهرها على الأقل - لم تخرج من يده بعد.
زد على ذلك أن وجود وال - أو باشا - في مصر يتقلد منصبه رسميا بموجب فرمان الولاية يمكن الباب العالي من تنفيذ خطته التي رسمها من أجل القضاء على المماليك واسترجاع سيطرته الفعلية على البلاد؛ لأن الواجب يقتضي هذا الوالي أو الباشا أن يصدع بأوامر الباب العالي ويعمل لتحقيق هذه الغاية، على أن توطيد سلطان الباب العالي في مصر والقضاء على المماليك يستلزم حتما أن يحالف هذا الوالي أو الباشا الرجل الذي ساد الاعتقاد وقتئذ - سواء في القسطنطينية أم في القاهرة - أنه في استطاعته وحده دون سائر القواد والرؤساء العسكريين أن يقاتل المماليك، وأن يقضي عليهم.
حقيقة لم يكن الباب العالي غافلا عن نشاط الأرنئود ورؤسائهم في مصر، أو أنه كان يجهل ما يضعه محمد علي نفسه وبالذات من عقبات في طريق الولاة ممثلي السلطان العثماني الرسميين في مصر، ولكن مسعى محمد علي الأخير في تحطيم حكومة البكوات في القاهرة قد أظهره بمظهر الخاضع للباب العالي والمتمسك بأهداب السيادة الشرعية التي لتركيا على مصر، وكان سهلا على الباب العالي حينئذ وفي الظروف القائمة أن يعترف بقيمة الخدمات التي أداها للدولة بنضاله ضد البكوات المماليك.
كما صار من صالح الدولة أن تتغاضى عما يكون قد شاب موقفه من شوائب في الماضي، وأن تعمل لاستبقائه إلى جانبها، كما صار من صالح الوالي أو الباشا العثماني في مصر أن يحرص على محالفته، وقد أدرك خورشيد هذه الحقيقة الأخيرة من اللحظة الأولى، ولكنه اعتبر - من ناحية أخرى، ومن اللحظة الأولى كذلك - أن المحالفة مع محمد علي عبء ثقيل يبهظ كاهله، ولا مندوحة له عن التخلص منه عند سنوح أول بادرة.
وقد عبر عن ذلك كله «بول مورييه»
وهو يعتمد في تاريخه على «مانجان» اعتمادا كبيرا - عندما قال: «لقد كانت القسطنطينية على دراية تامة بفعال الأرنئود التي طفح بها الكيل، وبمقاومة محمد علي المستمرة لمندوبي الباب العالي في مصر حتى أعجزهم وعطل نشاطهم، ولكنه كان يؤخذ بعين الاعتبار - من ناحية أخرى - أن هذا الزعيم الألباني قد أسدى للدولة خدمة جليلة بمهاجمته للبكوات، وكان في نظر الدولة الرجل الوحيد الذي يقدر على مناضلتهم أو إهلاكهم والقضاء عليهم.
وقد انطوى - بطبيعة الحال - الاعتراف بسلطة خورشيد؛ أي بولايته على تقرير المنبع المستمدة منه هذه السلطة، كما جعل واجبا على هذا الباشا بحكم منصبه وشرطا لبقائه به أن يواصل العمل من أجل القضاء على سلطة المماليك وإنهائها، وقد استتبع ذلك حتما أن فرضت عليه فرضا محالفة محمد علي وجماعته أثقل الأعباء التي كان عليه أن يتحملها يقينا، والتي ارتبطت بترقيته لهذا المنصب الذي لم يكن لديه أي أمل في بلوغه، ولم يكن خورشيد في حاجة لأن يمضي وقت طويل قبل أن يدرك هو نفسه هذه الحقيقة.»
وحقيقة الأمر أن المدة التي قضاها أحمد خورشيد في الولاية وهي قرابة سنة وشهرين؛ كانت فترة صراع خفي ومستتر تارة، وعلني وسافر تارة أخرى، بين خورشيد ومحمد علي، انتهى بخسارة خورشيد وغلبة محمد علي، الذي ظفر بالحكم والولاية.
الفصل الخامس
ظهور محمد علي: المناداة بولايته
تمهيد
غادر خورشيد الإسكندرية في طريقه إلى القاهرة في 17 مارس 1804، فوصل إلى بولاق في 26 مارس ودخل القاهرة في اليوم نفسه، ولكن اعتلاءه منصب الولاية في القاهرة لم يكن معناه أن الأمور قد استقرت نهائيا له؛ لأنه لم يكن قد وصله بعد فرمان الولاية من جهة، ولأن الأخطار كانت لا تزال تتهدد ولايته من جهة أخرى، من ناحية أحمد باشا الجزار ثم خسرو باشا، وقد زالت الصعوبة الأولى عندما جاءه فرمان تثبيت الولاية، وأعلنت مدافع القلعة هذا النبأ رسميا في 28 أبريل، كما زال الخطر من ناحية أحمد الجزار نهائيا عندما توفي هذا الأخير في 9 مايو ووصلت هذه الأخبار إلى القاهرة في 17 مايو، وكانت الإشاعات قبل وفاته لا تزال تروج في القاهرة بأن الجزار متمسك بولايته على مصر، كما أذيع أن قسما من جنده قد وصل فعلا إلى العريش أو الجهات القريبة منها. وأما خسرو باشا فقد أقام في رشيد بعد مغادرته القاهرة بعضا من الوقت ينتظر أوامر الباب العالي بشأنه؛ لأنه كان لا يزال يطمع في باشوية القاهرة، ويمني النفس بتأييد محمد علي والإنكشارية له في مسعاه؛ للأسباب التي سبق ذكرها.
وبذل خسرو - في الحقيقة - قصارى جهده لنيل مآربه، واعتمد في ذلك - خصوصا - على وساطة السفارة الإنجليزية في القسطنطينية، فقد اضطر خسرو لمغادرة رشيد عندما أثار المماليك الاضطرابات بالاتحاد مع البدو والعربان حول القاهرة وفي الوجه البحري بعد انحلال حكومة البكوات، واقترب البدو من رشيد يهددون بالإغارة عليها، فلجأ إلى الإسكندرية منذ 21 مايو، ثم صار يجتمع بالوكيل الإنجليزي «مسيت» ويطلب إليه أن يرجو السفير الإنجليزي بالقسطنطينية أن يستخدم نفوذه لدى الديوان العثماني لإعادة تعيينه واليا على مصر، واستند خسرو في تبرير مطلبه على نفس الأسباب التي كانت مثار اهتمام الحكومة الإنجليزية دائما؛ أي إنشاء الحكومة القوية التي تستطيع رد العدوان الأجنبي عن مصر، فقال: إن خورشيد عاجز عن وضع أية مشاريع واسعة تكفل إخضاع الثوار أو الدفاع عن البلاد، وصرح «لمسيت» بأنه سوف يطلب بمجرد تعيينه لباشوية مصر عند نجاح الإنجليز في وساطتهم جنودا من الإنجليز لوضعهم في حامية الإسكندرية، كما أخذ على عاتقه تموين مالطة المركز الإنجليزي الهام في البحر الأبيض دون إثارة حسد الدول الأوروبية، وتعهد إلى جانب ذلك برعاية المصالح البريطانية في مصر رعاية تامة والخضوع دائما لإرشادات الوكيل الإنجليزي، ولكن كل هذه المساعي ذهبت سدى؛ لأن «مسيت» كان لا يثق به، ولا يقيم وزنا لوعوده، فضلا عن شكوكه الكبيرة في ترجمان خسرو باشا «ستفاناكي»
Stephanaky ، وهو يوناني صاحب ميول فرنسية ظاهرة، ولأن «مسيت» اعتقد أن خسرو إنما يريد عند ظفره بباشوية مصر الاستقلال عن تركيا.
كما اعتقد أن «ماثيو لسبس» - الذي قال عنه منذ 29 مارس: «إنه سمع بنشاط الثورة الأخيرة ضد حكومة البكوات في القاهرة» - ربما يكون قد وعد خسرو باشا أيضا بمساعدة فرنسا له.
وأخيرا كتب «مسيت» في 16 يونيو «أن خسرو بناء على رجاء أصدقائه له بأن يذهب إلى مكان قريب من القسطنطينية؛ قد غادر الإسكندرية صباح اليوم السابق (15 يونيو) ولو أنه كان لا يزال لديه أمل في حدوث ثورة يقوم بها أنصاره للظفر بالنفوذ الأعلى في البلاد؛ ولذلك فقد اكتفى بالذهاب - كما ينوي - إلى رودس حتى يتسنى له الاستفادة في مكانه القريب هذا من أي تغيير يحدث لصالحه في مصر.»
وكان خسرو لا يزال يعتمد على مساعي «مسيت» نفسه في القاهرة، ثم السفير الإنجليزي في القسطنطينية، لتأييد دعاواه في باشوية مصر، وذلك فضلا عن اعتماده على مناصريه في القاهرة ذاتها محمد علي والإنكشارية، الذين توهم خسرو - على ما يبدو - أنهم يعملون لصالحه، ومع أن خسرو كان يتوقع كل معارضة من خورشيد وإخوة طاهر باشا وأقربائه؛ فقد كان من رأيه أن سوء الأحوال في مصر سوف يحمل الباب العالي في النهاية على إجابة مطلبه.
وقد لخص «ماثيو لسبس» رأي خسرو باشا عن الأوضاع السائدة في مصر عندما كتب إلى حكومته منذ 21 مايو: «أن خسرو الذي وصل إلى الإسكندرية يرى أن الأحوال في مصر قد بلغت درجة من السوء والخطورة تجعلها ميئسة تماما إذا لم يبادر الباب العالي بإرسال نجدات إليها بكل سرعة؛ فالقاهرة يحاصرها «المماليك»، وسلطة خورشيد باشا ضعيفة ومزعزعة، ومعظم البلاد في قبضة المماليك الذين يؤازرهم العربان، ولا يجرؤ الأرنئود على الخروج من القاهرة، ولا يزال الألفي ممتنعا عن إعلان موقفه بالرغم من محاولات خورشيد لجذبه إلى جانبه ضد إخوانه وتواجه دمياط متاعب كثيرة، وأنه؛ أي خسرو يرى أخيرا أن المماليك والبدو هم أصحاب السيطرة وأن الاضطرابات تسود البلاد.»
على أن صدور فرمان الولاية لخورشيد، ووفاة أحمد الجزار، ومغادرة خسرو البلاد لم ينه الصعوبات التي اكتنفت باشوية أحمد خورشيد وهددت كيان هذه الباشوية من البداية، ومنشأ هذه الصعوبات استمرار مقاومة المماليك وإصرارهم على الظفر بحكومة القاهرة ودعم سلطانهم في سائر أنحاء البلاد ووجود الأرنئود، وبقاء الحاجة إليهم لقتال المماليك، ثم موقف محمد علي من حكومة خورشيد، وكان قتال المماليك والقضاء عليهم، المسألة التي اهتم بها الباب العالي اهتماما بالغا، ولم يكن هناك مناص من قتالهم وإخضاعهم لسلطان الباب العالي إذا شاء أحمد خورشيد كسب رضاه، وتثبيت ولايته هو من جهة، ثم دعم أركان هذه الولاية من جهة أخرى بالتغلب على القوة العسكرية التي ظلت مصممة على مقاومته ومنازعته السلطة في البلاد، ولكنه - حتى يتمكن من هزيمتهم وإخضاعهم - لم يكن هناك مناص كذلك من اعتماده على قوات الأرنئود، وكان الاعتماد على هؤلاء مبعث متاعب عديدة؛ لأنه من المتعذر إخراجهم لقتال المماليك من غير أن تدفع لهم مرتباتهم، بينما حضر خورشيد إلى القاهرة وهو خالي الوفاض، وخلت الخزانة العامة من المال، كما أنه لم تكن هناك قوات أخرى يمكنه الاستعاضة بها عن الأرنئود ووجب - علاوة على ذلك - أن يستوثق خورشيد من موقف زعماء هؤلاء الأرنئود من حكومته وخصوصا محمد علي.
فقد كان بتشاور الزعماء الأرنئود وكبار ضباط الجند فيما بينهم أن تقرر اختيار خورشيد للولاية بدلا من خسرو، ومع أن «محمد علي» كان على تفاهم سابق مع خورشيد - على نحو ما أوضحنا - فقد استمر يظهر انحيازه إلى الإنكشارية ويتظاهر بالميل لتأييد خسرو، ولو أنه تخلى عنه في اللحظة الأخيرة، وكان من أغراض هذه المظاهرة أن يزيد اقتناع خورشيد بأنه من المتعذر أن تستقيم الأمور في صالحه إذا تنحى الأرنئود أو بالأحرى كبير زعمائهم محمد علي عن تعضيده؛ ولذلك فقد عجز التفاهم الذي أفضى إلى تنصيب خورشيد عن إشاعة الطمأنينة والثقة في نفسه من ناحية الأرنئود أو محمد علي، وأدرك خورشيد من أول الأمر أنه لا مفر من التخلص من هؤلاء الأرنئود ومحمد علي إذا أراد استقرار باشويته في مصر.
ولذلك فقد صارت خطته منذ أن تسلم مهام منصبه في القاهرة إلى جانب المضي في قتال المماليك، واستخدام الأرنئود في قتالهم، وهم القوة الموجودة فعلا؛ توطيد ولايته، بنقل اعتماده الذي بناه عليهم إلى الاستناد على جنود آخرين يستقدمهم خصيصا لهذه الغاية، فقال «مسيت» في 18 مارس؛ أي في اليوم التالي لمغادرة خورشيد الإسكندرية إلى القاهرة: «إن غرضه؛ أي غرض خورشيد، طرد أعظم عدد ممكن من الأرنئود إلى خارج البلاد»، وكان تحقيق هذا الغرض في نظر «مسيت» أمرا عسيرا؛ لأنه كما قال: «يشك كثيرا فيما إذا كان الأرنئود يرضون بطردهم هكذا ببساطة ودون مقاومة من القاهرة، بعد أن قضى طرد البكوات منها على كل رقابة عليهم، فضلا عن أنهم يفضلون البقاء في مصر التي اعتادوا على مناخها، وغنموا منها أسلابا كثيرة»، فكان في رأي «مسيت» أن تصميم خورشيد على التخلص من الأرنئود سوف يؤدي إلى فصم العلاقات بينه وبينهم، ويلقي بالبلاد في أتون الحرب الأهلية، ويتيح الفرصة للفرنسيين بسبب ذلك لتنفيذ خططهم التي أعدوها لغزو البلاد.
على أن الصعوبة الكبرى التي واجهت خورشيد، كان مبعثها في الحقيقة موقف محمد علي؛ فقد حرص على أن يصدع بأوامر خورشيد لقتال المماليك، ومع أنه تدخل لفرض نفوذه على حكومة خورشيد، فقد سلك مسلكا يدل في ظاهره على أنه لا ينوي قلب هذه الحكومة، فلم يكشف القناع عن نواياه إلا حين استقدم خورشيد جنود «الدلاة» بأعداد كبيرة لإقصاء الأرنئود وإرغامهم إرغاما على مغادرة البلاد إذا رفضوا الانسحاب منها طوعا، على أن موقف محمد علي كان لا لبس فيه ولا إبهام؛ ذلك أنه كان في صالحه هو كذلك أن يستمر النضال ضد البكوات المماليك للقضاء عليهم؛ تنفيذا لرغبة الباب العالي، وجلبا لرضا الديوان العثماني عليه، ثم لإزالة تلك القوة المملوكية العسكرية التي هددت مسند الولاية دائما سواء كان الوالي خورشيد باشا أم آخر غيره، بل كان القضاء على القوة المملوكية العسكرية مما يهتم به محمد علي اهتماما عظيما؛ لسبب جوهري، هو أنه كان قد بدأ يعمل جديا منذ أن صار الحكم لخورشيد باشا ليظفر هو بالولاية لنفسه، فقد كتب «مسيت» منذ 16 يونيو 1804 أن «محمد علي» أصدر أمرا للمصرف الذي يتعامل معه في القسطنطينية «بأن يعطي المال بسخاء من أجل الوصول إلى الولاية، كما أنه حصل من «ماثيو لسبس» على وعد بأن يبذل قصارى جهده مع الجنرال «برون» السفير الفرنسي في القسطنطينية ليقدم للديوان العثماني توصية طيبة في حقه».
وفي 10 أغسطس من العام نفسه كتب «مسيت» من الإسكندرية أنه قد جاءته رسالة من رشيد بعث بها إليه «البطروشي» يقول فيها: «إن كولونيلا ألبانيا وصل إلى رشيد من القاهرة يوم 5 أغسطس، وتحدث مع عدد من الأشخاص بما جعلهم يفهمون أن «محمد علي» يتخذ كل ما يلزم من خطوات؛ ليصبح سيدا على مصر»، كما جاء في هذه الرسالة أن ابن أخي محمد علي سوف يبحر قريبا إلى القسطنطينية ومعه مبلغ طائل من المال؛ لتجنيد قوة من العسكر، وحتى يعمل في الوقت نفسه للتأثير على وزراء الباب العالي في صالح عمه وإقناعهم بتأييد رغباته . وفضلا عن ذلك فإنه مما يقال سرا الآن: أن الأرنئود الموجودين بالشام قد قرروا الحضور إلى مصر لتجربة حظهم عندما سمعوا بالثروة الكبيرة التي جمعها مواطنوهم بها.»
وعلى ذلك، فمثلما كان خورشيد يبغي التخلص من الأرنئود ومحمد علي، كان محمد علي يبغي التخلص من خورشيد، ولم يجمع بينهما سوى العمل لتحقيق هدف واحد هو القضاء على المماليك وإنهاء كل نفوذ وسلطة لهم في مصر. واصطنع خورشيد الصبر والأناة؛ حتى يستقدم الجند «الدلاة» عماد قوته الجديدة المنتظرة، واصطنع محمد علي كذلك الصبر والأناة حتى يجد المسوغ الذي يجعله يعلن المقاومة في وجه خورشيد بصورة تضمن له النجاح من ناحية، ولا تضعه موضع الثائر على سيادة الباب العالي وسلطانه الشرعي في البلاد من ناحية أخرى، ولم يكن عسيرا على محمد علي أن يجد الفرصة المواتية وفي أي وقت يختاره، عندما كان في وسعه دائما أن يتخذ من مطالبة الأرنئود بمرتباتهم المتأخرة ذريعة للضغط على حكومة خورشيد، وإرغامها على اللجوء إلى نفس الإجراءات التعسفية لجمع المال الذي تدفع منه هذه المرتبات على غرار ما حدث أيام حكومة البكوات البائدة، كما كان خورشيد نفسه قمينا بأن يعطيه المسوغ الذي يطلبه بسبب ما عرف عن عجزه وسوء تدبيره.
ولذلك فقد كانت المدة التي قضاها خورشيد باشا في الحكم، فترة نضال مستمر بينه وبين محمد علي، وقد انتهى هذا النضال في صالح الأخير عندما أسفر عن المناداة بولايته.
حكومة خورشيد
بدأ النضال بين محمد علي وخورشيد منذ قدوم الأخير إلى القاهرة، واتخذ في هذه المرحلة الأولى صورة الرغبة من جانب محمد علي في فرض نفوذه على حكومة خورشيد؛ فقد سعى الوكلاء الإنجليز لوضع ترجمان قنصلهم «ريجيو»
Reggio
في حاشية خورشيد، وسعى الوكلاء الفرنسيون من جانبهم لإحباط هذا المسعى، وانحاز محمد علي إلى هؤلاء الأخيرين، فصار يضغط مع أحمد بك الزعيم الألباني الآخر - الذي ذهب إلى الإسكندرية لدعوة خورشيد إلى القاهرة في الظروف التي سبق ذكرها - حتى يعين الباشا في حاشيته أفرادا من «الموالين لفرنسا»، فجعلاه يعين «ستفاناكي » اليوناني ترجمانا له، وهو رجل قال عنه «مسيت» في رسالته إلى حكومته في 4 أبريل: إنه وكيل خسرو باشا الرئيسي، ويخلص إخلاصا كبيرا لفرنسا ؛ لاعتقاده أن في وسع الفرنسيين تحرير بلاد المورة من السلطان العثماني وإنشاء الجمهورية اليونانية القديمة بها مرة أخرى.
ثم قال «ماثيو لسبس» عندما أبلغ حكومته نبأ هذا التعيين في 4 أبريل أيضا: إن له أيادي كثيرة على «ستفاناكي»، ومع أن «مسيت» نجح بعد لأي وعناء في إقصاء «ستفاناكي» بعد ذلك، فقد كتب في 19 أبريل: «إن خورشيد باشا لم يلبث أن وجد نفسه في قبضة محمد علي وليس له من الباشوية سوى زخرفها وطلائها الخارجي، وذلك منذ أن دخل القاهرة دون أن يكون لديه مال أو جند، بل وبلغ من خضوعه لمحمد علي أنه لم يستطع تأليف حاشيته كما يريد ويهوى.»
ثم لم تمض أيام قلائل حتى عاد «مسيت» يكتب في 24 أبريل: «إن خورشيد يجد نفسه في صعوبات كثيرة بسبب حاجته إلى المال؛ ليدفع منه مرتبات الجند، ولاضطراره إلى اللجوء لإجراءات صارمة لجمعه، الأمر الذي جعله غير محبوب من الشعب، وأما محمد علي فقد أخذ لنفسه كل سلطة، ولو أنه ينكر دائما تحمل أية مسئولية.»
وزاد من حروجة مركز خورشيد أن البكوات منذ طردهم من القاهرة، قد عاثوا فسادا في البلاد، ينهبون ويخربون، ويفر الفلاحون من وجوههم بسبب عسفهم وظلمهم، حتى باتت قرى بأكملها خاوية ومقفرة من أهلها، وحتى صارت القاهرة مهددة بالمجاعة بسبب انتهاز العربان فرصة عجز الحكومة، فاتحدوا مع المماليك في نهب القرى، ثم صاروا يستولون على السفن المحملة بالمؤن المجلوبة إلى القاهرة من الصعيد أو من الوجه البحري. وسادت الاضطرابات في القاهرة بسبب اعتداءات الأرنئود على سكانها من وطنيين وأجانب على السواء، وعلى نحو ما كانوا يفعلونه قبل طرد حكومة البكوات من القاهرة.
ومع أن خورشيد كان يسعى جهده لتأمين الأجانب على سلامتهم ومنع الإهانات عنهم، ويدرك أن من صالحه قيام العلاقات الطيبة بين حكومته وبين الدول الأوروبية، إلا أنه كما قال «ماثيو لسبس» في 25 أبريل «لم يكن سيد نفسه، أو في وسعه أن يفعل ما يريد، بل تحتم عليه أن يخضع دائما لنزوات الأرنئود»، كما أن «خورشيد» بسبب حاجته إلى المال لدفع مرتبات هؤلاء؛ صار يفرض شتى المغارم على الأوروبيين ومحميي الدول بالقاهرة، وأخذ الجنود على عاتقهم ابتزاز المال من هؤلاء بشتى الوسائل، فحدث في أبريل أن ذهب حوالي خمسين منهم إلى بيت «روشتي» يطالبونه بدفع مبالغ كبيرة، وحبس جماعة آخرون من الأرنئود اثنين من أتباع «ماثيو لسبس» نفسه، واحتج الوكيل الفرنسي احتجاجا شديدا في 22 أبريل واضطر خورشيد إلى عمل كل ترضية لازمة له وتعهد له في 4 مايو باحترام أملاك الفرنسيين وبتأمين سلامتهم حسب الامتيازات الإمبراطورية.
وكان الأهلون هم الذين وقع على كاهلهم عبء أكثر هذه المغارم التي لجأ إليها خورشيد لدفع مرتبات الجند، وبخاصة عندما رفض هؤلاء السير ضد المماليك، وصار يتحتم عليه اللجوء إلى فرضها كلما تجددت مطالبتهم بعد ذلك وفي أثناء القتال ضد البكوات، فقد «طلب في 2 أبريل مال الميري عن السنة المقبلة لضرورة النفقة» وتحصيل ذلك من جميع المديريات، فشكا الملتزمون والفلاحون، وتدخل بعض الوجاقلية والمشايخ «فانحط الأمر بعد ذلك على طلب نصف مال الميري عن سنة تسع عشرة؛ أي السنة المقبلة، وبواقي سنة سبع عشرة وثمان عشرة، وكذلك باقي الحلوان الذي تأخر على المفلسين، وكتبوا التنابيه بذلك وقالوا: من لم يقدر على الدفع فليعرض تقسيطه على المزاد»، وفي أوائل مايو «طلبوا جملة أكياس لنفقة العسكر فوزعوا جملة أكياس على الأقباط والسيد أحمد المحروقي وتجار البهار ومياسير التجار الملتزمين، وطلبوا أيضا مال الجهات والتحرير وباقي مسميات المظالم عن سنة تاريخه معجلة.»
وفي 21 مايو طلب كتخدا الباشا؛ أي وكيل أحمد خورشيد سلفة من جماعة من الوجاقلية وطلبوا مبالغ من جماعة أخرى من الأعيان «وعملوا على الأقباط ألف كيس وحلف «أحمد خورشيد» أنها لا تنقص عن ذلك، وفردوا على البنادر مثل دمياط ورشيد وفوة ودمنهور والمنصورة وخلافها مبالغ: أكياس، ما بين ثمانين كيسا ومائة كيس وخمسين كيسا وغير ذلك لنفقة العسكر»، فبلغ من سخط الأهلين أنهم صاروا يذيعون خبر تعيين أحمد الجزار لباشوية مصر؛ نكاية في خورشيد ثم اشتد السخط عليه عندما أراد أن يحمل المماليك جزءا من النفقات مساهمة منهم - كما قال - في نفقات الحرب التي شنوها هم بأنفسهم عليه، فصار يفتش عن أنصارهم السريين في القاهرة ويفرض عليهم الإتاوات الفادحة، وصار يأخذ نساء المماليك اللواتي بقين بالقاهرة «رهائن» لديه حتى يدفع أزواجهن هذه الإتاوات، ثم انتهى به الأمر في 22 مايو بأن استقدم إلى القلعة الست نفيسة أرملة مراد بك بتهمة أنها تسعى لاستمالة رؤساء الأرنئود لتأييد المماليك نظير أن «تلتزم بالمكسور من جامكية العسكر»؛ أي أن تدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، وبعث بها للإقامة ببيت أحد المشايخ «الشيخ السحيمي» بجوار القلعة كرهينة، «فتكدرت خواطر الناس لذلك»، واحتج القاضي ونقيب الأشراف السيد عمر مكرم والمشايخ: السادات والأمير والمهدي والفيومي، ونفت السيدة التهمة التي ألصقت بها، وعندما أصر خورشيد على استبقائها بدعوى «أنها تعمل لإفساد جنده لخدمة مصالح أعدائه وتجرؤ على وعدهم بزيادة مرتباتهم، وأنها يجب لذلك أن تفي بوعدها»؛ هدد الشيخ الأمير بأن هذا أمر غير مناسب وتترتب عليه مفاسد، وبعد ذلك يتوجه اللوم إلى المشايخ فإن كان كذلك فلا علاقة للمشايخ بشيء مما قد يحدث من جانب الأهالي المتذمرين بسبب هذا الحادث، وعندئذ وافق خورشيد على أن تقيم بمنزل الشيخ السادات.
وكانت عديلة هانم ابنة إبراهيم بك قد ذهبت للإقامة عند الشيخ السادات منذ أن علمت بما حصل للست نفيسة، وفي 25 مايو عاد خورشيد يطلب دفع مال الميري «سنة تاريخه المعجلة بالكامل، وكانوا قبل ذلك طلبوا نصفها، وعملوا قوائم بتوزيع خمسة آلاف كيس استقر منها على طائفة القبطة خمسمائة كيس بعد الألف، وجملة على الملتزمين خلاف ما أخذ منهم قبل ذلك، وعلى الست نفيسة وبقية نساء الأمراء ثمانمائة كيس»، وفي 27 مايو فرض خورشيد على «أرباب الحرف والصنائع» خمسمائة كيس، فضج الناس، وأغلقت الحوانيت وقصدت الجماهير إلى الأزهر، وفي 29 مايو «اجتمع الكثير من غوغاء العامة والأطفال بالجامع الأزهر ومعهم طبول وصعدوا إلى المنارات يصرخون ويطلبون وتحلقوا بمقصورة الجامع يدعون ويتضرعون ويقولون يا لطيف وأغلقوا الأسواق والدكاكين»، فطلب خورشيد السيد عمر مكرم؛ يوسطه في إعادة الهدوء لقاء رفع هذه الغرامة عن الفقراء، واحتج عمر مكرم بأن «كل أرباب الحرف والصنائع فقراء» ويشكون من الكساد ووقف الحال، وأنه لا علاقة لهم «بمغارم الجوامق للعسكر»، ولما أصر أصحاب الحوانيت على غلق حوانيتهم واستمر هياج الخواطر في القاهرة لم ير خورشيد بدا من رفع هذه الغرامة.
ثم تنوعت أساليب خورشيد لابتزاز المال بكل وسيلة، فكان من هذه الحيل والأساليب أنه دعا في 29 يونيو المشايخ والوجاقلية إلى «الديوان الكبير المعروف بديوان الغوري» لقراءة فرمان تقليده الولاية، وفرمانين آخرين كان أحدهما أكثر كلاما من الآخر تضمن مدحا لحكومته وقدحا في البكوات «لعودهم إلى البغي والفجور» وغدرهم بعلي باشا الجزائرلي بعد أن صفح الباب العالي عنهم، وعرض لذكر طرد الأرنئود لهم من القاهرة، وعفو السلطان لذلك عن هؤلاء الأخيرين وصفحه عن أخطائهم السابقة، كما صار الباب العالي يأمر الأرنئود «بأن يلازموا الطاعة ويكونوا مع أحمد باشا خورشيد بالحفظ والصيانة والرعاية لكافة الرعية والعلماء ... ونحو ذلك من الكلام المحفوظ المعتاد المنمق» ثم خلع خورشيد باشا على الحاضرين الكساوي، على أن خورشيد أحضر في ذلك الوقت أيضا «المعلم جرجس وكبار الكتبة وعدتهم اثنان وعشرون قبطيا، ولم تجر عادة بإحضارهم فخلع عليهم أيضا»، ولكن ما إن انقضى هذا الحفل حتى «طلبهم الباشا إلى القلعة فحبسهم تلك الليلة واستمروا في الترسيم وطلب منهم ألف كيس» يدفعونها كسلفة وفي نظير ما نالهم من شرف الاستماع إلى الفرمانات التي قرئت عليهم.
وكان الغرض المباشر من جمع هذه الإتاوات والغرامات والسلف التي أثارت سخط الأهالي والمشايخ وأعيان القاهريين على خورشيد دفع مرتبات الأرنئود لحملهم على الخروج لقتال المماليك ومواصلته معهم؛ لأن محاربة المماليك كانت أولى المسائل الرئيسية التي عني بها خورشيد للأسباب التي سبق ذكرها، وقد استمر فرض الإتاوات والغرامات على الوطنيين والأجانب طوال المدة التي ظل المماليك يحاصرون في أثنائها القاهرة؛ أي منذ طردهم من القاهرة في مارس 1804 إلى وقت فيضان النيل في شهر أغسطس من العام نفسه، واضطرارهم بسبب الفيضان للانسحاب إلى الصعيد.
وواجهت خورشيد في أثناء نضاله مع المماليك صعوبات عديدة أهمها امتناع الأرنئود في أول الأمر عن الخروج لقتالهم قبل أن تدفع لهم مرتباتهم، واستمرارهم على المطالبة بهذه المرتبات أثناء القتال، ثم انقسام الأرنئود على أنفسهم، حتى بات يخشى منذ أوائل أبريل - ولما تبدأ العمليات العسكرية الجدية بعد ضد المماليك - أن ينضم فريق منهم إلى البكوات، بل حدث في أول يوليو أن انضم إليهم فعلا جماعة منهم حوالي 150 شخصا برئاسة إدريس أغا أحد كبار الأرنئود، كما انضم إليهم بعد أيام قلائل جماعة أخرى «من كبار العسكر بأتباعهم ومنهم من ذهب إلى قبلي ومنهم من ذهب إلى بحري».
أضف إلى ذلك أن القاهرة ذاتها عندما بدأت العمليات العسكرية كانت مسرحا للانقسامات والفتن والاضطرابات، يرابط المماليك دائما حولها، وقد أقام هؤلاء معسكرهم في سفح أهرام الجيزة، وعلى مرمى طلقة مدفع من المدينة، وعلاوة على ذلك فقد كان البرديسي أيضا بجهة البساتين منذ خروجه مطرودا من القاهرة في مارس، بينما غادر الألفي مخبأه في الشرقية بمجرد أن علم بما وقع للبكوات، وربض هو الآخر في مكان على الضفة اليمنى للنهر على مسافة يومين من القاهرة، وانتشر المماليك في سهول سقارة وفي جهة إمبابة، وقد تقدم كيف سبب تضييقهم الحصار على القاهرة نشر المجاعة بها.
ومع ذلك فقد استطاع خورشيد بعد لأي وعناء، وبعد أن دفع للجند قسما من مرتباتهم أن يقنعهم بالخروج لقتال المماليك؛ لفك الحصار عن القاهرة، وفتح المواصلات من الوجهين البحري والقبلي لدخول المؤن إليها وتخفيف وطأة المجاعة عنها، ووقعت مناوشات بسيطة بين الأرنئود والمماليك، حتى كمل الاستعداد للالتحام معهم في معركة كبيرة في سهول الجيزة في أول أبريل كان محمد علي يقود جنده الأرنئود أثناءها، ولكنها لم تكن في صالح الأرنئود، فاستؤنف القتال وانتصر محمد علي في هذه المرة، وأطلقت المدافع في القاهرة في 6 أبريل إعلانا لهذا الانتصار على المماليك الذين أرغموا على الانسحاب صوب الفيوم وعاد محمد علي وجيشه إلى القاهرة، وعقدت الاجتماعات لبحث الخطط والعمليات التالية، وحاول المماليك - من جهتهم - توحيد صفوفهم استعدادا للمعارك المقبلة.
فقد كان الانقسام بين البكوات لا يزال على أشده منذ حادث مطاردة الألفي، وحاول البرديسي إنهاء الخلاف مع الألفي بالرغم من الكراهية الشديدة التي فصلت دائما بينهما، ولكن الألفي كان لا يثق في نواياه، فبيت النية على استغلال النضال القائم بين خورشيد وبين البكوات بزعامة إبراهيم والبرديسي، حتى يقوم بدور مزدوج للتقرب من الفريقين والتفاهم مع كل منهما؛ لتهدئتهما من ناحية، وكسبا للوقت حتى إذا أنهكت قواهما الحروب استطاع هو أن يحتل القاهرة ويستأثر بالحكم لنفسه، متوقعا أن يأتيه التأييد الكامل من جانب الإنجليز من جهة، ومعتمدا على جهوده في كسب معاونة بعض الدول الأجنبية الأخرى من جهة ثانية.
وكان تنفيذا لهذه الخطة إذن أن أبدى الألفي رغبته في التفاهم مع البرديسي، بينما أرسل يعرض على حكومة القاهرة - كما كتب «ماثيو لسبس» في 9 أبريل - أن يقوم هو بمطاردة البكوات أعدائه؛ أي البرديسي وإبراهيم إذا وافق خورشيد على إعطائه مديرية جرجا، وقال «ماثيو لسبس» إنه من المنتظر أن يلقى هذا العرض قبولا من جانب خورشيد.
وكان خورشيد منذ تسلمه مهام منصبه في القاهرة، قد بذل قصارى جهده لفتح باب المفاوضة مع الألفي، وكان غرضه من ذلك - كما كتب «مسيت» في 13 مايو - «التأثير على الألفي حتى يبدأ عمليات عسكرية بسيطة ضد إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي في نظير أن ينال الألفي ثمنا لذلك معظم الصعيد»، وعلى ذلك فإنه ما إن وصل علي كاشف الشغب رسول الألفي إلى البساتين في 29 أبريل، وبعث إلى المشايخ ينبئهم بوصوله، وأطلع هؤلاء خورشيد على الخبر، حتى أذن الأخير بدخوله القاهرة، فذهب معه المشايخ والسيد عمر مكرم لمقابلة الباشا الذي «اختلى به حصة وقابله بالبشر ثم خلع عليه فروة سمور» واحتفى به حفاوة بالغة، وأهداه محمد علي حصانا، وغادر علي كاشف الشغب القاهرة في 3 مايو «بعد أن وافق خورشيد على إعطاء الألفي جرجا وعثمان بك حسن قنا وما فوق ذلك من البلاد.»
ولكنه لما كان غرض الألفي التمويه وكسب الوقت وتبييت النية - كما قدمنا - على الاستئثار بالحكم لنفسه، فإنه بدلا من تنفيذ اتفاقه - أو معاهدته - مع خورشيد، كتب إلى «مسيت» يطلب رأيه لعدم وثوقه في وعود الأتراك - كما قال - وبعث إليه بقوله: إن خورشيد قد كتب إليه خطابات كثيرة، وإن كثيرين من المماليك قد حضروا إلى معسكره من أسيوط لمناصرته، وإن عسكر القاهرة وأهلها يريدونه حاكما عليها مما يسهل عليه الاستيلاء على القاهرة؛ ولذلك فهو يريد من «مسيت» النصيحة؛ أي معرفة رأيه: هل يقبل عروض خورشيد أم يزحف على القاهرة، ويبدو أن الألفي كان يريد أن يعرف من «مسيت» مباشرة أو غير مباشرة ما إذا كان الإنجليز على وشك إرسال حملة إلى الإسكندرية ومصر أو أنهم على استعداد لإرسال هذه الحملة لنجدته؟
وقد فطن «مسيت» إلى غرض الألفي؛ لأنه بادر بالإجابة على رسالته في 11 مايو بصورة تنصل بها من الإدلاء برأي قاطع في الموضوع «خشية أن ينقل كلامه إلى الغير» - كما قال «مسيت» - فاكتفى بأن ذكر للألفي أنه يجهل ما لدى خورشيد من تعليمات «وأوصاه بألا يسترشد بالظروف فحسب، وألا يترك نفسه ينساق وراءها وينقاد لها».
وحتى 21 مايو لم يكن الألفي قد أعلن موقفه، فلا هو قام «بعمليات عسكرية بسيطة ضد إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي»، ولا هو اشترك مع البكوات في المعارك التي خاضوا غمارها مع جيش محمد علي.
فقد اشتبك محمد علي في مناوشات مع المماليك الذين اتخذوا مراكزهم في جهتي سقارة وإمبابة بعد هزيمتهم الأولى، وكان النصر حليفه فيها، ولكن المماليك ما لبثوا أن هزموه في معركة كبيرة في إمبابة في 26 أبريل، ولم يشأ محمد علي الاعتراف بهزيمته فيها، بل بعث يؤكد لخورشيد أن المماليك هم الذين حاقت بهم الهزيمة وأنهم اضطروا إلى الانسحاب تاركين في ميدان المعركة حوالي الأربعين من قتلاهم وأرسل إلى القاهرة سبعة رءوس علقت بباب زويلة، ثم انتهز محمد علي فرصة انشغال المماليك بنهب العتاد الذي خلفه جيشه وراءه وخرج عليهم فجأة من خنادقه المحصنة واضطرهم للتقهقر فانسحبوا إلى ناحية أهرام الجيزة، ولو أنهم ظلوا محتفظين بمراكزهم، وفقدوا في هذه المعارك حسين بك الوالي وإسماعيل بك صهر إبراهيم بك.
ولم تكن هذه المعارك حاسمة، فقد أعاد المماليك تنظيم صفوفهم، واستمروا يقطعون المواصلات مع الصعيد، ومنعوا عن القاهرة المؤن، حتى عظم البلاء والكرب بسبب اشتداد المجاعة بها، وبادر خورشيد باستدعاء الأرنئود من رشيد ودمياط، وقد زال عنهما الخطر الآن بسبب تركيز المماليك لكل جهودهم حول القاهرة لتضييق الحصار عليها، فاحتشد في القاهرة حوالي ثمانية آلاف من الجند الأرنئود.
وفي 5 مايو ترك البرديسي وإبراهيم ومماليكهم مركزهم في دهشور على الشاطئ الأيسر للنيل وعبروا النهر؛ قاصدين إلى القاهرة، بينما أبقوا حسين بك الزنطاوي مع جماعته بناحية دهشور لحماية سفنهم، وفي 9 مايو «وصل فريق منهم إلى جهة قبة باب النصر والعادلية من خلف الجبل ورمحوا خلف باب النصر من خارج وباب الفتوح ونواحي الشيخ قتمر والدمرداش، ونهبوا الوايلي وما جاوره وعبروا الدور وعروا النساء وأخذوا دسوتهم وغلالهم وزروعهم، وخرج أهل تلك القرى على وجوههم ومعهم بعض شوالي وقصاع ودخل الكثير منهم إلى مصر».
ثم تفرقوا بعد ذلك في الشرقية والقليوبية، وهاجموا بلبيس ونهبوها، كما هاجموا ونهبوا قليوب واضطر كاشف القليوبية إلى الهرب إلى بولاق، ثم اتخذوا مركزهم العام في بركة الحاج، يبعثون منه بالعربان إلى نواحي القاهرة؛ حيث وقعت بينهم وبين الأرنئود عدة مناوشات، بينما انتشر حوالي نصف المماليك يعيثون فسادا في قرى الوجه البحري، وفي 17 مايو التحم الأرنئود معهم في معركة في سهل مكشوف انهزم فيها الأرنئود، واحتفظ كل من الفريقين بمواقعه، المماليك في بركة الحاج والأرنئود عند أبواب القاهرة، وكان وقتئذ حسين الزنظاوي قد اتخذ مراكزه مع مشاته عند «زاوية المصلوب» يقطع المواصلات مع الصعيد، بينما وقف سليمان بك الخازندار «خازندار مراد بك وحاكم جرجا» عند بني سويف «والألفي الصغير في أثره بحري منية بن خصيب والألفي الكبير مستقر بأسيوط»، والانقسامات لا تزال مستحكمة بين الألفي وأتباعه «الألفي الصغير وسليمان بك» وبين البرديسي وإبراهيم وجماعتهما.
ويعزى سبب ازدياد حدة الخلاف بين الفريقين إلى أن الألفي الصغير عندما لم تصله أية معلومات عن الألفي الكبير بعد نزوله من الفرقاطة الإنجليزية التي أحضرته إلى مصر في فبراير، وأعتقد أنه مات؛ كان قد ارتحل إلى الصعيد أيام حكومة البكوات بالقاهرة واستئثار البرديسي بالسلطة العليا فيها على نحو ما سبق بيانه، فرحب به سليمان الخازندار، وطلب منه الألفي الصغير وساطته لدى البرديسي للصلح معه، فتقدم سليمان بك نحو القاهرة لهذا الغرض ومعه كميات كبيرة من القمح وألف كيس لدفع مرتبات الأرنئود، ولكنه وصل في الوقت الذي كان فيه البرديسي وإبراهيم قد طردا من القاهرة، فكانت دهشته عظيمة، وأنحى باللائحة على البرديسي الذي حمله وحده مسئولية ضياع القاهرة من قبضة المماليك، وعرف أن الألفي الكبير لم يمت، ومع أن البرديسي كان يريد الصلح مع الألفي الصغير لاستثارته ضد سيده الألفي الكبير، فقد أصر سليمان على إبلاغ الألفي الصغير أولا أن الألفي لم يمت وغادر البرديسي دون أن يترك له نقودا، وكانت خيانة البرديسي ومحاولته الغدر بالألفي الكبير سببا في انضمام سليمان الخازندار إلى الألفي، وقوي حزب الألفي؛ لاستعداد عثمان بك حسن في جرجا للانضمام إليه كذلك بسبب عدائه الشديد للبرديسي.
ولما كان الألفي قد ظل ممتنعا عن الاشتراك مع البرديسي وإبراهيم في القتال الدائر بينهما وبين خورشيد - حكومة القاهرة - بالرغم من تظاهره بالرغبة في التفاهم والاتفاق مع البرديسي، فقد صار الأخير يطلب من سليمان الخازندار قتال الألفي، ولكن دون جدوى؛ لأن سليمان صار من جهته يندد بمسلك البرديسي نحو الألفي تنديدا عنيفا، وظهر عقب معركة «17 مايو» أن لا أمل في حدوث أي اتفاق أو تفاهم بين فريقي الألفي والبرديسي.
وكان في هذه الظروف إذن أن حاول الألفي استئناف مفاوضته مع خورشيد، فبعث برسالة إليه وصلت القاهرة في 20 مايو يطلب «أتباعه الذين بمصر»، ولكن خورشيد رفض إجابة هذا الطلب محتجا «بعدم تحقق صداقة الألفي للعثمانية»، كما أشيع «صلح الألفي مع عشيرته سرا» وأنه إنما يتظاهر بخلاف ذلك «مع العثمانية» وكتب «ماثيو لسبس» في 28 مايو، أن المفاوضات مستمرة بين الألفي وخورشيد ولكن من غير نتيجة، «لأن الألفي كثير الهذر .»
ولما كان البكوات في بركة الحاج قد قوي مركزهم بعد واقعة «17 مايو» الأخيرة لانضمام جموع كبيرة من العربان إليهم، فقد تزايد خطرهم، وكثرت إغاراتهم على أطراف القاهرة وضواحيها، وطالب الأرنئود بمرتباتهم مرة أخرى قبل الخروج لصدهم وقتالهم، وتطرفوا في المطالبة إلى حد الوقاحة وذلك في وقت - كما قالت نشرة الوكلاء الفرنسيين الإخبارية عن حوادث «10-20 مايو 1804» - كانت الخزانة فيه خاوية، واختفت النقود والعملة من التداول في الأسواق، ووجد خورشيد من الحكمة للمحافظة على أمنه وسلامته أن ينتقل إلى القلعة، فنزل الأرنئود منها وطلع هو إليها في 18 مايو، «لأنه لم يكن مطمئنا من ناحية الحوادث الداخلية، بينما يغادر السكان ميسورو الحال القاهرة يوميا - على حد ما جاء في النشرة الإخبارية السالفة الذكر - فرارا من المجاعة والاضطرابات السائدة بها، ولخوفهم من أعمال السلب والنهب»، وأدرك خورشيد أن بقاءه بالمدينة يعرضه للمخاطر فآثر الانسحاب إلى القلعة مع حاشيته.
ولما كانت قد وصلت عمارة تركية في اليوم نفسه إلى أبي قير، فقد بعث يطلب 210 جنود غادروا فعلا الإسكندرية إلى القاهرة في 28 مايو وفي 21 مايو كتب «ماثيو لسبس» إلى «تاليران» أن المماليك والعربان يحاصرون القاهرة، وقد جمع المماليك عشرين ألفا من العربان وعدوهم بنهب القاهرة، وهم أسياد الصعيد بأسره، ويمتد سلطانهم من بلبيس إلى دمياط، وفي القاهرة المحاصرة ليس لخورشيد سوى سلطة ضعيفة ومزعزعة ولا يجرؤ الأرنئود على الخروج من القاهرة، وفي 2 يونيو «أشيع وقوع معركة بين المصرلية والعثمانية» في بلقس - شمال بهتيم - ووصلت طائفة من المماليك إلى ناحية شلقان يقطعون الطريق على السفار في البحر.
وحاول خورشيد دفع الخطر الداهم عن القاهرة بالخروج بنفسه وصحبته «المشايخ والرعية» دفعة واحدة؛ لقتال البكوات، وطلب المشايخ يوم 6 يونيو يعرض عليهم هذا الرأي، ولكن لما كان أكثر هؤلاء الرؤساء - في رأي «مانجان» - منحازين إلى البكوات؛ لسخطهم - ولا ريب - على خورشيد بسبب الإتاوات والمغارم التي فرضها على القاهريين، فقد رفضوا خروج خورشيد وخروجهم معه بدعوى أن أكثرية الأهالي لا يدرون شيئا من فنون القتال، «وقالوا له إذا انهزم العسكر تأمر غيرهم بالخروج وإذا كانت الهزيمة علينا وأنت معنا من يخرج بعد ذلك؟» فانفض المجلس على غير طائل.
وكان مما زاد في حروجة مركز خورشيد أنه كان من المتعذر بسبب المجاعة - نتيجة لتضييق الحصار على القاهرة - تموين الجند المرابطين في أماكنهم الحصينة على أبواب القاهرة، ويرفض هؤلاء أن يتركوا لشأنهم يموتون جوعا - كما قالوا - بينما استمرت مطالبتهم بمرتباتهم المتأخرة، والتزم البكوات من جانبهم مناوشة الأرنئود والاقتصار على الالتحام معهم في معارك في سهل مكشوف دائما؛ لضمان الاستفادة من قوم فرسانهم، وفضلوا تجويع القاهرة بتضييق الحصار عليها بدلا من الهجوم عليها وأخذها عنوة، وذلك حتى يرغموا المحاصرين بها على الخروج للالتحام معهم في سهل مكشوف، ولم يجرؤ سوى محمد علي على الخروج لمناجزتهم، فاشتبك معهم في معركة في 10 يونيو بجهة قليوب واحتل قريتين قريبتين منها، ولكن المماليك ما لبثوا أن قطعوا خط مواصلاته مع القاهرة ووصلوا إلى أبوابها، فاشتبك معهم في معركة أخرى بعد يومين استطاع بعدها الحضور إلى القاهرة؛ حيث قضى بها ليلة واحدة ثم خرج لقتالهم مرة أخرى في 13 يونيو.
وانسحب المماليك من القليوبية إلى المنوفية ينهبون ويخربون، واستولى إبراهيم كاشف عثمان بك البرديسي على منوف، وطالب الأرنئود من جديد بمرتباتهم فاضطر محمد علي إلى العودة إلى القاهرة يطلب مالا لدفع هذه المرتبات فقبض «بسلطته الخاصة» على اثنين من الأعيان هما مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وحبسهما بالقلعة ولم يفرج عنهما بعد أيام إلا بعد أن دفعا له ثلاثمائة كيس (29 يونيو).
فكان في أثناء اشتداد هذه الأزمة التي أخذت بخناق خورشيد من كل جانب؛ أن بدأ الألفي يتحرك من أسيوط؛ للزحف على القاهرة التي خيل إليه أن في وسعه الآن الاستيلاء عليها دون صعوبة، ولما كان يريد التمويه على حكومة القاهرة، حتى لا يفطن خورشيد إلى غرضه الحقيقي والمباشر من زحفه - وهو حصار القلعة والاستيلاء عليها - فقد وصل القاهرة في 15 يونيو رسول يحمل مكاتبة منه إلى خورشيد؛ يخبره «بعزمه على الحضور إلى مصر هو وعثمان بك حسن ويلتمس أن يخلوا له الجيزة وقصر العيني لينظر في هذا الأمر والفساد الواقع بمصر.»
غير أن خورشيد أصر على أن ينكص الألفي على عقبيه مرتدا إلى جرجا حسب الاتفاق بينهما إذا كان لا يزال طائعا وممتثلا، وله كما كان الولاية والحكم بالإقليم القبلي، ومع ذلك فإنه لم تمض أيام قلائل حتى جاءت الأخبار في 24 يونيو بوصوله إلى ناحية بني سويف وعثمان بك حسن في مقابلته بالبر الشرقي، ولما كان يعتقد أن القاهريين موالون له، فقد أراد تحريك المشايخ والعلماء رؤسائهم لمناصرته، بادعائه أنه لم يقصد من الحضور سوى رفع المظالم وتأمين القاهريين وباستغلاله لحادث الإهانة التي لحقت بالست نفيسة المرادية وسائر حريم البكوات، والتي كانت من عوامل زيادة السخط على خورشيد.
وعلى ذلك، فقد بعث برسول وصل القاهرة في 27 يونيو يحمل كتابا للمشايخ والعلماء كان بمثابة نداء سجل مضمونه الشيخ الجبرتي، وجاء فيه - موجها الخطاب إلى المشايخ: «لا يخفاكم أننا كنا سافرنا سابقا؛ - أي إلى لندن - لقصد راحتنا وراحة البلاد ورجعنا بأوامر، وحصل لنا ما حصل - مشيرا إلى مطاردة البرديسي ومحمد علي له - ثم توجهنا إلى قبلي واستقرينا بأسيوط بعد حصول الحادث بين إخواننا الأمراء والعسكر وخروجهم من مصر - أي القاهرة - وأرسلنا إلى أفندينا الباشا بذلك فأنعم علينا بولاية جرجا ونكون تحت الطاعة فامتثلنا ذلك وعزمنا على التوجه حسب الأمر، فبلغتنا مصادرة الحريم والتعرض لهم بما لا يليق من الغرائم وتسليط العساكر عليهم ولزومهم لهم فثنينا العزم واستخرنا الله تعالى في الحضور إلى مصر لننظر في هذه الأحوال، فإن التعرض للحريم والعرض لا تهضمه النفوس.» وهذا عدا كلام كثير في هذا المعنى.
وأطلع المشايخ خورشيد على رسالة الألفي، ولكن خورشيد ظل متمسكا بموقفه منه، ودفع حجته بقوله إن البكوات كانوا قد تركوا في الماضي نساءهم للفرنسيين، وأخذ هؤلاء منهم أموالا، وأنه كان قد أعطى للألفي جرجا ولعثمان حسن قنا وما فوق ذلك من البلاد، وكان في عزمه أن يكتب للدولة ويطلب لهم أوامر ومراسيم لاعتماد ما فعله لهم ولضمان راحتهم «فحيث إنهم لم يرضوا بفعله وغرتهم أمانيهم فليأخذوا على نواصيهم.»
وكتب «مسيت» في 28 يونيو يبرر في الحقيقة موقف خورشيد من الألفي فقال: إن الألفي على العكس مما كان يقتضيه واجب «المعاهدة المبرمة أخيرا بينه وبين خورشيد» قد دخل في نوع من التحالف مع عثمان حسن لامتلاك القاهرة سويا، وإنهما يمنيان النفس بسهولة الاستيلاء عليها بسبب الخسائر التي تكبدها الأرنئود والبكوات إبراهيم والبرديسي وبسبب تذمر أهل القاهرة من حكومة خورشيد، ونزل الألفي ومماليكه إلى ما تحت الأراضي المعينة له بمقتضى اتفاقه مع خورشيد؛ ولذلك فقد اعتبر الأخير أن الاتفاق السابق بينهما قد صار ملغى.
ومن أوائل يوليو انفصمت كل علاقة بين خورشيد والألفي، فقتل خورشيد رسولا أوفده الألفي إليه 3 يوليو، وأنقذ أحد كبراء الأرنئود اثنين من أتباع الألفي في القاهرة من قبضته، ورأى الألفي من الحكمة الآن أن يتحد مع سائر البكوات، وكان الوكلاء الفرنسيون قد ذكروا في نشرتهم الإخبارية عن حوادث «20-29 يونيو»، أنه يبدو أن البكوات «جماعة إبراهيم والبرديسي» قد وصلتهم تأكيدات قاطعة بمعاونة الألفي الكبير والألفي الصغير وعثمان بك حسن لهم، والمتوقع أن هؤلاء في طريق زحفهم على القاهرة، فالألفيان على الشاطئ الأيسر للنيل على مسيرة يوم من الجيزة، وعثمان حسن على الشاطئ الأيمن عند طره، «ولو أنه لا يعرف بعد ما إذا كان الألفيان قد حضرا لتأييد قضية المماليك عموما أو لخدمة مآربهما الخاصة دون نظر لصالح سائر البكوات»، وبالفعل لم يلبث أن عرف في القاهرة في 5 يوليو أن الألفي الصغير قد وصل إلى إمبابة وعثمان بك حسن إلى حلوان، والألفي الكبير إلى الشوبك، وأن إبراهيم والبرديسي وباقي البكوات قد رجعوا إلى ناحية بنها بعدما طافوا المنوفية والغربية وقبضوا الكلف والفرد.
واتخذ محمد علي وخورشيد تدابيرهما لمواجهة هذه القوات التي تبغي الإطباق على القاهرة من كل جانب، فخرج كثير من الجند لتعزيز معسكر شلقان، كما خرج آخرون إلى ناحية طرة والجيزة، وجاءت الأخبار بوصول «الدلاة» الذين كان قد بعث خورشيد يستقدمهم من الشام لنجدته، وهم من الفرسان؛ أي القوة، أو السلاح الذي يفتقر إليه جيش خورشيد، وكانوا من الأكراد سموا بالدلاة أو الدلاتية؛ أي المجانين بسبب ما اشتهروا به من تهور وبطش، وبنى خورشيد لذلك آمالا كبيرة على الانتفاع بهم في الوقت الذي دأب فيه الأرنئود على تعطيل العمليات العسكرية بسبب مرتباتهم.
واشتبك الأرنئود - بقيادة محمد علي وحسن بك خصوصا - مع المماليك في عدة معارك ومناوشات في طرة والبساتين والمطرية وخارج أبواب القاهرة ذاتها، وأحرز البكوات نصرا هاما عندما شتتوا شمل «الدلاة» عند قطية، ولكن «محمد علي» لم يلبث أن هزم جماعة الألفي الصغير في طرة (18 يوليو) وجماعة البرديسي في شبرا بعد أن تكبد الأرنئود خسارة كبيرة وكاد ينتصر المماليك عليهم، ثم وقعت معركة شلقان، وكانت مراكز المماليك بقيادة حسين الزنطاوي مع جنده السود ومشاته ومدفعيته تستند على النيل بالقرب من شلقان، بينما وقف إبراهيم بك في الوسط، وكانت الميسرة بقيادة البرديسي، فهاجم محمد علي قرية شلقان في ليل 22-23 يوليو واستولى عليها، وانهزم المماليك فانسحبوا «إلى جهة الشرق بالخانكة وأبي زعبل»، وفي 26 يوليو ترك البكوات الخانكة فجروا خلف القلعة والجبل في طريق انسحابهم إلى الصعيد، ووضعت معركة شلقان حدا لنشاطهم العسكري، وبدأ ينفك الحصار عن القاهرة.
وكان البكوات القبالي في أثناء العمليات العسكرية السابقة قد حاولوا توسيط المشايخ في الصلح مع خورشيد «وإخماد الحرب»، ووعدوا بالانضمام إليه وبأن يكونوا معه إذا هو فعل ذلك «على ما يحب ويأمر به، فيرتاح من علوفة العسكر التي أوجبت له المصادرات وسلب الأموال وخراب الإقليم»، فيستطيع عندئذ الاكتفاء بعدد قليل من الجند ويبعد الآخرين إلى بلادهم، ولكن خورشيد «أبى وقال ليس لهم عندي إلا الحرب» (13 يوليو) ثم حاول إبراهيم والبرديسي الصلح مع خورشيد وتوسيط أحد أعيان القاهريين «السيد بدر المقدسي» في ذلك، بدعوى أن خورشيد «لا يستقيم حاله مع العسكر ولا يرتاح معهم» ومن واجبه أن يعتبر بما فعلوه مع محمد باشا «خسرو»، وأما هم فيكونون معه على ما ينبغي من الطاعة والخدمة»، فقبض خورشيد على السيد بدر ولم يطلق سراحه إلا بعد أن شفع فيه المشايخ (أول أغسطس) ولما كان النهر قد بدأ في الارتفاع بسبب الفيضان، فقد استمر البكوات ينسحبون إلى الصعيد، وتم انفكاك الحصار عن القاهرة، وأخفقت محاولات البكوات في الاستيلاء عليها نهائيا.
وخيل إلى القاهريين بعد انسحاب المماليك ورفع الحصار عن القاهرة أن بوسعهم الآن أن يتنفسوا الصعداء، ولكن الأرنئود العائدين إلى القاهرة بعد انتهاء العمليات العسكرية، وبعض عسكر «الدلاة» الذين استطاعوا الوصول إلى القاهرة كذلك بعد هزيمتهم على يد المماليك في قطية، ما لبثوا أن نشروا «إرهابا» حقيقيا في العاصمة؛ بسبب اعتداءاتهم على سكانها من وطنيين وأجانب على حد سواء، حتى كتب «تابرنا» سكرتير البعثة الإنجليزية في القاهرة إلى «مسيت» بالإسكندرية في 23 أغسطس سنة 1804، أن حوادث القتل صارت تقع يوميا، ويكثر نهب البيوت، وصار من الخطر أن يخرج إنسان إلى الشارع، بل ولا يأمن الأهلون على أنفسهم حتى وهم قابعون في بيوتهم، وضج الأهلون بالشكوى وعظم التذمر، وقد ترتب على هذه الفوضى وهذا الذعر أن كبار المشايخ والأعيان ما لبثوا أن ذهبوا إلى «تابرنا» في 25 أغسطس يطلبون توسط الحكومة الإنجليزية لنجدتهم، «لأنها وحدها التي في وسعهم أن ينتظروا منها إقبالا على مساعدتهم وتخفيف ويلاتهم.»
وطلب المشايخ من الحكومة الإنجليزية «أن ترسل جندا إلى مصر لإنقاذ أهلها من الفناء»، وقالوا إنهم لا يمتنعون عن طلب هذه النجدة من فرنسا إذا تعذر عليهم الحصول عليها من إنجلترا، وكان من رأي «تابرنا» على نحو ما كتب في رسالة أخرى إلى «مسيت» في 26 أغسطس أن خورشيد باشا عاجز كل العجز عن فعل شيء مع هؤلاء الأرنئود «العصاة» مصدر كل هذه المتاعب.
ولقد كان خورشيد عاجزا حقا عن فرض سيطرته على الأرنئود، وكان من أسباب عجزه أن الأرنئود انقسموا إلى فريقين: أحدهما بزعامة محمد علي وهو يظهر الولاء لخورشيد، والآخر بزعامة حسن بك وعابدي بك قريب طاهر باشا وهو يظهر المداراة لخورشيد وللبكوات المماليك على السواء، ويخشى خورشيد جانب هذا الفريق؛ لأنه لو اتحد مع المماليك لا يلبث أن يهدد حتما كيان حكومته، وكان هذا الخوف من أهم الأسباب التي حملت خورشيد على الصعود إلى القلعة منذ 18 مايو والتحصن بها، وظهر عجز خورشيد مع الأرنئود عندما وصله الأمر من الباب العالي بإرسال الجند والذخائر إلى «ينبع» للمحافظة عليها ضد الوهابيين.
وجمع خورشيد رؤساء الأرنئود وكبار العسكر في 25 يوليو وقرأ عليهم أوامر الباب العالي، ولكنهم امتنعوا عن الخروج إلى الحجاز «وقالوا نحن لا نخرج من مصر ولا نتقلد منصبا خارجا عنها»، وفشلت كل محاولات خورشيد معهم عندما وصلته الأخبار بعد ذلك بسقوط «ينبع» في أيدي الوهابيين، وواتت الفرصة خورشيد للتخلص من طائفة من رؤساء الأرنئود عندما أراد هؤلاء انتهاز فرصة العفو السلطاني عنهم ودعوتهم للرجوع إلى أوطانهم، وعزموا الآن على مغادرة البلاد، فصار خورشيد يشجعهم على ذلك، واستعد هؤلاء فعلا للسفر من بولاق في 11 أغسطس، وكان من بينهم أحمد بك «رفيق محمد علي»، ولكن لم يلبث أن تدخل الجند «وأحاطوا بهم ومنعوهم من السفر قائلين لهم أعطونا علوفتنا المنكسرة وإلا عطلناكم ولا ندعكم تسافرون بأموال مصر ومنهوباتها» واضطر هؤلاء إلى الإذعان والعدول عن السفر، وضاعت وقتئذ الفرصة على خورشيد.
على أن انتقال خورشيد إلى القلعة ترك الميدان فسيحا طليقا لمحمد علي في القاهرة حتى يستأثر لنفسه بكامل السلطة والنفوذ بها.
وكان من أسباب زيادة نفوذ محمد علي، حاجة خورشيد الملحة لخدماته ولمؤازرته له ضد حزب الأرنئود الآخر الذي يخشى من انقلابه عليه من جهة، ثم ضد المماليك وقتالهم من جهة أخرى، كما كان من أسباب ذلك تعلق الشعب بمحمد علي؛ لأنه استطاع أن يفك الحصار المضروب على القاهرة، مما جعل من المتيسر دخول المؤن إليها وكسر حدة المجاعة بها، وفضلا عن ذلك فقد حرص محمد علي، على مواساة القاهريين ومشايخهم ورؤسائهم وإظهار تألمه من الإجراءات التعسفية التي اتخذها خورشيد باشا لجمع المال حتى يدفع مرتبات الجند، لا سيما وقد استمر خورشيد يفرض الإتاوات والمغارم على القاهريين بعد وقف العمليات العسكرية عقب انسحاب البكوات صوب الصعيد.
فقد أمر خورشيد في 20 أغسطس «بتوزيع فردة على أهل مصر لإغلاق جامكية العسكر» حصلت من الوجاقلية وتجار البن وخان الخليلي وأهل الغورية وغيرهم «على سبيل القرض» وارتكب عمال الباشا فظائع كثيرة في تحصيله، كما تسلط الجند على المتخلفين عن الدفع، فاعتدوا على بيوتهم وارتكبوا القبائح والمنكرات، وحبس خورشيد «الأمير على المدني صهر الشيخ الجوهري»، وتوسط المشايخ لإطلاق سراحه فأفرج عنه في أوائل سبتمبر بعد أن تقرر عليه «أربعة آلاف ريال خلاف البراني»، وحجز خورشيد قوافل البن الآتية من السويس «وأخذها وأعطى أصحاب البن وثائق بثمنه لأجل، ووكل في بيعه وحول به العسكر يأخذونه من أصل علوفاتهم فبلغ ثمن المحجوز تسعمائة كيس».
وينهض دليلا على مبلغ ما تمتع به محمد علي من نفوذ وقتئذ أنه استطاع إنهاء اضطراب كبير نجم عن اصطدام وقع بين الأرنئود والسكان الأوروبيين في حي الإفرنج بالقاهرة، ذكره الشيخ الجبرتي عند تسجيله حوادث «28 ربيع الثاني 1219ه/6 أغسطس 1804م»، فقال: «تشاجر شخص من العسكر مع شخص حكيم فرنساوي عند حارة الإفرنج بالموسكي فأراد العسكري قتل الفرنساوي فعاجله الفرنساوي فضربه فقتله وفر هاربا، فاجتمع العسكر وأرادوا نهب الحارة، فوصل الخبر إلى محمد علي فركب في الوقت ومنع العسكر من النهب وأغلق باب الحارة وقبض على وكيل قنصل الفرنساوية وأخذه معه وحبسه حتى سكن العسكر»، وتفاصيل الحادث كما يؤخذ من تقارير «ماثيو لسبس ومسيت» أن طبيبا يونانيا في خدمة خورشيد يتمتع بالحماية الإنجليزية كانت بينه وبين الطبيب الفرنسي «روير»
Royer
منافسة، فحرض اثنين من الأرنئود على قتله، ولما كان «روير» قد كان معتادا على خدمة الأرنئود الذين تعودوا على الذهاب لتناول الخمر في منزل «ماثيو لسبس» الذي قال عنه «مسيت» إنه استغل إعفاءات الامتيازات التي مكنته من بيع الأنبذة والخمور بأثمان منخفضة فافتتح حانة في بيته كوسيلة من وسائل استمالته الأرنئود إلى تأييد المصالح الفرنسية، فقد ذهب الجنديان إلى «روير» في بيته بعد أن أسكرهما الطبيب اليوناني يطلبان خمرا، فرفض «روير»، وفي المشاجرة التي حدثت جرح أحد الجنديين ونزع من الآخر سلاحه، وتصادف في هذه الأثناء مرور داورية ألبانية برئاسة ممباشي، فقبضوا على أحد خدمة «روير» وأحضروه إلى محمد علي، فقام الأخير من فوره ومعه «ديسيسار»
Desissards
القائم بأعمال القنصلية في غياب «ماثيو لسبس» بالإسكندرية، وحاول تهدئة الحالة بالقبض على قاتل الضابط الذي كان من جند حسن بك أخي طاهر باشا، ولكن دون جدوى وعاد أدراجه، ولكن كخيا حسن بك مع حوالي مائة من العسكر لم يلبث أن جاء إلى حي الإفرنج وقبض على «ديسيسار» وسكرتير أول القنصلية الفرنسية «هلدبراند»
Hildebrand
فتوسط محمد علي بصورة أفضت إلى الإفراج عن الأول ونقل الثاني إلى منزله «كرهينة»؛ لأن الأرنئود أصروا على تسليم القاتل إليهم وهددوا في الوقت نفسه بنهب القاهرة إذا لم يجب مطلبهم، وأشرك الطرفان المتنازعان خورشيد باشا في الأمر، ولكن صاحب الفضل في إنهاء هذه الفتنة كان «محمد علي» الذي أقنع الأرنئود بقبول الدية بدلا من القصاص من القاتل، فوافق زعماؤهم على إطلاق سراح خادم «روير» وكذلك «هلدبراند» نظير مبلغ من المال، كما وعدوا بعدم إيذاء «روير» أو غيره واعتبر الحادث منتهيا (10 أغسطس).
وقد علل «مسيت» ما سماه «صرامة» من جانب محمد علي في هذا الحادث بسبب إصراره على تسليم القاتل أو دفع الدية لأهل المقتول، بأن «محمد علي» كان يعلم - كما قال «مسيت» في رسالته إلى «هوبارت» في 12 أغسطس - أن الممباشي المقتول من جند حسن بك أخي طاهر باشا «وهو صاحب نفوذ كبير على الأرنئود بسبب ذلك، فإنه لما كان من الجائز أن يكون حسن بك صديقا مفيدا لمحمد علي أو عدوا يخشى الأخير خطره؛ فقد أدرك - ولا شك - أنه إذا أيد مصلحة الفرنسيين في هذا الحادث إنما يثير بذلك غضب حسن بك عليه ويحرم نفسه من تأييد هذا القائد ومناصرته له، مما قد يضطره علاوة على ذلك إلى الانسحاب من مصر كلية وضياع كل آماله»، فآثر إرضاء حسن بك على رعاية المصلحة الفرنسية، ومع ذلك ومهما يكن من أمر فقد دل نجاح محمد علي في تسكين الفتنة على مدى ما كان له من نفوذ على الأرنئود جعله يطمئن إلى قدرته على الاعتماد عليهم عند الحاجة، على أنه كان من ذيول هذا الحادث أن بعث «ماثيو لسبس» من الإسكندرية يستقدم الجالية الفرنسية وأعضاء البعثة الفرنسية كذلك من القاهرة، ورحل جميعهم إلى الإسكندرية في غضون شهري أغسطس وسبتمبر، ولم يبق بالقاهرة سوى «مانجان» فحسب؛ «لبضعة أيام ينهي فيها أعماله».
وأما محمد علي فقد جعله اطمئنانه إلى ما يتمتع به من نفوذ على الجند يقدم بعد ذلك - كما قال معاصروه - على تجربة حظه مع القوة العاملة الأخرى في داخل القاهرة، وهم القاهريون أنفسهم الذين بلغ سخطهم أشده على حكومة خورشيد باشا؛ وذلك لمعرفة مدى سلطانه ونفوذه عليهم، وقد أسفرت هذه التجربة عن اقتناع محمد علي بأن الشعب متعلق به يؤيده ويريد بقاءه.
وتفصيل ما حدث، أن «مسيت» منذ حوادث «مارس 1804» التي أفضت إلى تحطيم حكومة البكوات وطردهم من القاهرة، ظل يتهم «محمد علي» بالعمل لتعزيز المصالح الفرنسية وقبول الرشوة من الوكلاء الفرنسيين؛ لإنهاء حكم البكوات من القاهرة والحيلولة دون إقامة الحكومة القوية التي تستطيع رد عدوان الفرنسيين عن البلاد إذا جاءوا لغزوها، وزاد اعتقاده رسوخا عندما أبلغ محمد علي الوكيل الفرنسي فحوى نصيحة كان «مسيت» قد كلف بها ترجمانه بالقاهرة لينصح الأرنئود بوضع عدد كاف من الجند في المراكز الساحلية لمنع نزول الجيش الفرنسي عند حضوره، وليوضح لهم نوايا الفرنسيين العدوانية نحو مصر والمورة، وساء «مسيت» أن يستأثر محمد علي بكل سلطة في شئون الحكم دون خورشيد الذي عده «مسيت» - كما تقدم - ألعوبة في يد محمد علي.
وتزايدت مخاوف «مسيت» من زيادة نفوذ محمد علي بعد معركة شلقان، واضطرار البكوات إلى الانسحاب صوب الصعيد بسبب الفيضان، وفك الحصار نهائيا عن القاهرة تبعا لذلك رسائل «مسيت» لحكومته في 12 مارس، 4 و19 أبريل، 13 مايو، 5 أغسطس 1804، وعلى ذلك فقد دأب «مسيت» على النصح لخورشيد بالتخلص من الأرنئود وإبعاد محمد علي، كما بادر بمجرد أن علم بمساعي محمد علي في القسطنطينية من أجل الحصول على باشوية مصر بالكتابة إلى حكومته في 10 أغسطس يبلغها نبأ هذا المسعى، ويفصح عن رجائه «في أن يرفض الديوان العثماني عروض محمد علي الخادعة»، ويبدي مخاوفه من نجاح مساعيه في آخر الأمر بسبب ما هو معروف من إمكان رشوة رجال الباب العالي.
ولما كان قد بلغ «مسيت» أن الأرنئود الموجودين بالشام ينوون الحضور إلى مصر للإثراء فيها بسرعة على نحو ما فعل مواطنوهم؛ فقد صار يبذل قصارى جهده ليحمل خورشيد باشا على منع حضور هؤلاء العساكر الأرنئود إلى مصر بدعوى أن خورشيد سوف يجد نفسه وقد بات لا حول له ولا قوة إذا تزايد عدد الأرنئود، وفي وضع مشابه لوضع الباشوات العثمانيين في مصر قبل الغزو الفرنسي، وفضلا عن ذلك فقد صار «مسيت» يكرر النصح لخورشيد بضرورة السعي لدى الباب العالي لإبعاد محمد علي من مصر، واستمع خورشيد لنصيحته.
وعلى ذلك فقد كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في 16 أغسطس 1804 «أنه يشعر بسرور وارتياح عظيمين؛ لأن في وسعه الآن أن يبلغه أن الديوان العثماني قد عين «محمد علي» لباشوية سالونيك استجابة لتوصية خورشيد باشا بناء على ما أبداه «مسيت» من حجج ودعاوى» لإقناع خورشيد بعمل هذا المسعى في القسطنطينية، على أنه يبدو من إغفال «مانجان» والشيخ الجبرتي وغيرهما من المعاصرين ذكر مسألة تعيين محمد علي لولاية سالونيك، التي علم بها «مسيت» من خورشيد، أن خورشيد ربما فضل إخفاء هذا الخبر في وقت كان فيه محمد علي نفسه يبدي رغبته في العودة إلى بلاده، ويبدي غيره كذلك من رؤساء الأرنئود نفس هذه الرغبة.
زد على ذلك أنه لم يصدر فرمان من الباب العالي بتعيينه لهذا المنصب، ومن الثابت أن خورشيد ظل يبذل مسعاه بعد ذلك لتعيين محمد علي لإحدى باشويات الإمبراطورية، ولم تتكلل مساعيه بالنجاح إلا في مايو 1805 على نحو ما سيأتي ذكره، وعلى كل الأحوال فسواء أكان يعلم محمد علي بأمر هذا التعيين، أم كان يجهله وليس هناك قطعا ما يدل على علمه به ؛ فالثابت أن جماعة من كبار الأرنئود ومن الذين منعهم الجند من السفر في 11 أغسطس كانوا قد عقدوا العزم على العودة إلى بلادهم سريعا، وعلى ذلك فقد انتهز محمد علي هذه الفرصة للقيام بتلك التجربة التي أراد بها اختبار مدى تعلق الشعب به، فقابل خورشيد وأبلغه أن فوضى الجند وعدم خضوعهم للنظام جعلا من المستحيل على أية حكومة أن تقوم بوظائفها، بينما يجعل انتشار البؤس والضنك من المتعذر جمع المال اللازم لدفع مرتبات الجند؛ ولذلك فإنه لما كان مقتنعا بأنه لم تعد هناك أية فائدة من بقائه واستمرار خدماته فقد أراد العودة إلى بلاده، فبادر خورشيد بإجابته إلى طلبه، وخرج محمد علي من هذه المقابلة يعلن عزمه على السفر كما شرع يبيع بعض أثاث منزله.
وعلى ذلك فقد أشيع - على نحو ما ذكره الشيخ الجبرتي في حوادث «5 جمادى الثانية 1219ه/11 سبتمبر 1804م» - سفر محمد علي إلى بلاده وكذلك أحمد بك وغيرهما من أكابرهم، وشرعوا في بيع جمالهم ومتاعهم، وبادر خورشيد باستبدال آخرين بهم في مناصبهم، فما إن ذاع الخبر في القاهرة حتى كثر لغط الناس وعم الاضطراب، وأغلقت المدينة أبوابها وخرجت الجماهير الصاخبة إلى الشوارع والأسواق وأغلقت الدكاكين والوكائل، واعتبر القاهريون الذين تعودوا الاعتماد على محمد علي في حمايتهم من الفوضى وإرهاب الجند لهم عودته إلى بلاده كارثة عظيمة، وازدادوا تمسكا به عندما شرع الجند وسط هذا الهياج والاضطراب ينهبون ويسلبون مرة أخرى، ولجأ النساء والأطفال إلى بيت الشيخ المهدي، وسبب ما حدث دهشة عظيمة لخورشيد الذي عجز عن اتخاذ أي إجراء لإعادة الأمن والهدوء، وخرج محمد علي بنفسه لتهدئة العاصفة في اليوم التالي (12 سبتمبر) فتجول في أنحاء المدينة «وهو ماش على أقدامه»، وخلفه حسن بك أخو طاهر باشا وعابدي بك وأغاة الإنكشارية والوالي - رئيس الشرطة - وعدد كبير من الجند، يعمل لإشاعة الطمأنينة في نفوس الأهلين الذين استمعوا لنصحه فلزموا بيوتهم ومحالهم.
ووقعت عقوبة الإعدام على عدد من الجنود الذين اشتركوا في أعمال النهب والسلب، وعاود السكون القاهرة، وظهر محمد علي بمظهر الرجل الذي لا يتردد في التضحية بمصلحته الشخصية في سبيل الصالح العام، فلم يعد يذكر شيئا عن رغبته في العودة إلى بلاده، وتيقن محمد علي من تعلق الشعب به، وطويت كذلك مسألة تعيينه لولاية سالونيك، وبقي محمد علي، أما سائر الرؤساء كأحمد بك وصادق أغا وعلي بك أخي طاهر باشا فقد غادروا القاهرة في 13، 23 سبتمبر.
وكانت مهمة خورشيد التالية استئناف القتال ضد المماليك.
وقد اهتم خورشيد باستئناف القتال ضد المماليك؛ تنفيذا لرغبة الباب العالي الذي أراد إفناء المماليك والقضاء على سلطانهم، ولأن استئناف القتال ضدهم يقتضي خروج الأرنئود من القاهرة إلى الصعيد، فيتسنى لخورشيد عندئذ استقدام قوات أخرى يستعيض بها عنهم، ويتمكن بفضلها من دعم أركان حكومته، الأمر الذي استأثر بتفكيره دائما وسط كل مشاغله، وصح عزمه على تدبير هذا الانقلاب الذي سوف يخلصه منهم في أثناء غيابهم وانشغالهم بقتال المماليك في الصعيد بعيدين عن القاهرة، ولما كان قد ترك القاهرة ورحل عن مصر كثيرون من الرؤساء والجند الأرنئود حوالي الألفين فقد وجد الباقون أنهم فقدوا قدرا كبيرا من السيطرة التي كانت لهم، حتى إن «العثمانلي» الذين كانوا قد تزيوا بزي الأرنئود اتقاء لشرهم، ما لبثوا أن استعادوا زيهم العثمانلي القديم، ولم يكن من المنتظر لذلك أن يستمر الأرنئود يرفضون الخروج لقتال المماليك بالصعيد، أو يقاومون أوامر خورشيد، وبخاصة إذا دفع لهم شيئا من مرتباتهم.
فكتب الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن حوادث «12-23 سبتمبر 1804»: «أن خورشيد قد عقد اتفاقا مع زعماء الجند «الأرنئود» بأن تخرج جماعة من الجنود لقتال المماليك في الصعيد، وتذهب جماعة أخرى إلى الجيزة لتقيم بالثكنات الموجودة بها، وذلك بمجرد أن يدفع خورشيد مرتبات شهرين، وأما الذين لا يرضيهم هذا الاتفاق من الجند فيعودون إلى أوطانهم»، وشرع خورشيد يجمع المال اللازم، فلجأ إلى المشايخ يسألهم رأيهم، فتخلص هؤلاء بأن فوضوا السيد أحمد المحروقي في المسألة، فحصل خورشيد بواسطته على 150 كيسا، ووافق الوجاقلية ورؤساء النقابات على إعطائه مبلغا كبيرا من المال (2600 كيس) يشرع في تحصيله فورا على أن يجري توزيع كل ما يرد منه على الجند أولا بأول وفي مدة غايتها ثلاثون يوما، واستطاع الوجاقلية أن يدفعوا لخورشيد 1500 كيس، وبهذه الطريقة تمكن من دفع المرتبات المتفق عليها مع الأرنئود، وعندئذ لم يعد هناك مناص للجند الذين فضلوا البقاء في مصر وعدم العودة إلى بلادهم من الخروج في الحملة المزمعة ضد المماليك.»
وفي أواخر سبتمبر كان قد اجتمع الجند ورؤساؤهم في طرة، وفي 23 سبتمبر قلد خورشيد سلحداره ولاية جرجا، وفي 29 منه كان الجيش على قدم الاستعداد، فاستعرض خورشيد الجند في 2 أكتوبر، وكانوا حوالي الأربعة آلاف، تولى قيادتهم سلحداره، وفي 6 أكتوبر بدأ هذا الجيش زحفه صوب جرجا، واستعد في الوقت نفسه للخروج جيش ثان من حوالي ثلاثة آلاف من المشاة والفرسان وأعطيت قيادته لمحمد علي في 24 أكتوبر، ولكنه تعطل سيره عندما اتهم أحد ضباطه «قادري أغا» بأنه يكاتب البكوات في الصعيد، «فمنعوه من السفر إلى قبلي وأمروه بأن يسافر إلى بلاده فركب في عسكره وذهب إلى بولاق وفتح وكالة علي بك الجديدة ودخل فيها بعسكره وامتنع بها، وانضم إليه كثير من العسكر»، وعبثا حاول محمد علي وخورشيد اللذين ذهبا إليه، إقناعه بالسفر، ثم لم يلبث أن انضم إليه عدد من الأرنئود المتذمرين يتراوح عدده - حسب الروايات المختلفة - بين الستمائة والتسعمائة، وقال «مسيت» عند ذكره لهذا الحادث في رسالته إلى حكومته في 12 نوفمبر: «إن هذه القوة البسيطة من الأرنئود العصاة استطاعت أن تملي شروطها على خورشيد، وبمقتضى هذه الشروط أعدت السفن لنقل قادري أغا وجماعته إلى الإسكندرية حتى يبحروا منها إلى أوطانهم، فترك بولاق في 6 نوفمبر، ولكنهم عندما وصلوا إلى شابور لاحظوا تأخر سفينتي المدفعية اللتين كانتا في حراستهما فنزلوا إلى البر، وساروا بطريق الصحراء لغرض الانضمام إلى المماليك بمعسكر الألفي»، وقد أرسل محمد علي - على نحو ما ذكر الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية بتاريخ 24 نوفمبر - لتعقبهم والبحث عنهم ولكن دون جدوى.
وتلقى محمد علي أوامر بالتحرك في 17 نوفمبر، على أن يتبع نفس الطريق الذي سار فيه جيش السلحدار؛ أي على الضفة اليسرى للنهر، ومهمته أن يحمي جناح جيش السلحدار من تهديد قوات الألفي له عند مدخل الفيوم؛ حيث كان الألفي رابضا بهذا المكان، وكانت وجهة جيش محمد علي المنيا، وأخيرا خرج جيش ثالث في 21 نوفمبر من 1200 مقاتل، أعطيت قيادته إلى حسن بك الذي رفعه خورشيد إلى مرتبة الباشوية منذ 8 نوفمبر، وكانت مهمة حسن باشا الزحف على الشاطئ الأيمن للنهر للاستطلاع، وحتى يحمي من هذا الجانب زحف الجيشين السابقين، وقد أنزل حسن باشا نصف قواته في النيل، بينما سار برا بالنصف الآخر.
وأما المماليك فقد ظهر الانقسام بينهم بوضوح بعد أن أنهى الفيضان عملياتهم العسكرية حول القاهرة؛ ولذلك فقد انسحبت جماعة الألفي وعثمان حسن صوب الفيوم، بينما انسحب إبراهيم والبرديسي صوب الصعيد، وحاول عقلاؤهم تدارك الموقف، فبذلت المساعي لترتيب اجتماع بين الألفي والبرديسي بجزيرة في النهر بالقرب من طرة؛ لأن كلا الفريقين رفض العبور إلى الشاطئ الذي كانت به قوات زميله، ولكن هذه المساعي أخفقت عندما أعلن الألفي أنه سوف يختار وقتا أنسب للمقابلة مع البرديسي، حتى إذا كان شهر أغسطس 1804 أعلن البكوات الذين اجتمعوا في بني سويف خبر الصلح بينهم جميعا بإطلاق المدافع، ولكن البرديسي لم يلبث أن استولى على بعض المراكب المحملة بالغلال والتي كانت قد خرجت من الميناء لحساب الألفي، فقضى هذا الحادث على الصلح بينهما.
وكان في هذه الأثناء أن جدد الألفي مساعيه مع الوكيل الإنجليزي «مسيت»؛ يبغي تحقيق مآربه منفصلا عن سائر زملائه، فبعث إليه بمذكرتين وصلتاه وهو برشيد في 28 أغسطس، إحداهما معنونة باسم الصدر الأعظم، والأخرى باسم وزير الخارجية بإنجلترا، ويرجو من «مسيت» وساطته لإرسالهما إليهما من أجل الوصول إلى اتفاق مع الباب العالي، ومع أن «مسيت» كان لا يثق في ولاء الألفي للإنجليز ويعتقد أنه إنما يسلك طريقا يبغي به خدعة الإنجليز والفرنسيين على السواء، فقد بعث بمذكرته المرسلة إلى وزارة الخارجية إلى لندن، وبعث بالأخرى إلى «ستراتون» في القسطنطينية، وقال يعلل ذلك في كتابه إلى «هوبارت» في 3 سبتمبر: «ومهما تكن نوايا حكومته ؛ أي الحكومة الإنجليزية، نحو هذه البلاد؛ فإن ما يظهره المماليك أو على الأقل حزب من أحزابهم من إرادة حسنة ونوايا طيبة نحو إنجلترا سوف يعود عليها بالفائدة، وأنه قد وجد لذلك من واجبه وبعد أن أخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة؛ ألا يهمل أية وسيلة يتسنى بها كسب النفوذ على مختلف طوائف البكوات.»
على أنه كان من أثر هذا الانقسام بين البكوات أن اتخذ هؤلاء في شهري سبتمبر وأكتوبر مراكزهم منعزلين عن بعضهم بعضا، فوقف البرديسي بجماعته بالقرب من أسيوط، وتخلى إبراهيم عن إدارة أعماله لولده مرزوق بك، وربض سليمان بك الخازندار في المنيا، وظل الألفي في الفيوم، بينما آثر عثمان بك حسن الانسحاب إلى أسوان «ملجئه القديم»، ومع ذلك فقد اعتقد كثيرون أن البكوات إنما كانوا يبغون التظاهر بالانقسام فحسب، وذلك حتى يغروا خورشيد بإرسال جيوشه لقتالهم في الصعيد أي في عرينهم، كما اعتقد آخرون أن الاتحاد وثيق بين إبراهيم وسليمان وبين البرديسي.
ومهما يكن من أمر فإنهم ما لبثوا أن وجدوا جيوش الأرنئود والعثمانلي تخرج لقتالهم، وعندئذ تجددت المساعي، يؤيدها في هذه المرة تأييدا كبيرا كل من إبراهيم وعثمان حسن؛ لجمع الكلمة وضم الصفوف، ونجحت وساطتهما بين الألفي والبرديسي، وعسكر الألفي الصغير بمماليكه وعربانه في الفشن لوقف زحف جيش سلحدار خورشيد باشا (ديسمبر 1804).
وعند الفشن التحم الجيشان في معركة عنيفة، وهوجمت البلدة وسقطت في يد السلحدار وانهزم الألفي الصغير، وتعقب السلحدار جيشه في تقهقره حتى بلغ أسوار المنيا، ولكن لم تلبث الهزيمة أن حلت بجيش السلحدار في 14 ديسمبر عندما التحم مع مماليك البرديسي في المقدمة، بينما أطبق عليه الألفي الصغير من المؤخرة، فاضطر السلحدار إلى التقهقر إلى بني سويف، وسقط من المماليك في هذه المعركة اثنان من البكوات هما: مراد بك الصغير خازندار البرديسي القديم وصالح بك من بيت الألفي الكبير، وذلك عدا كاشفين وسبعة من المماليك، ومع ذلك فقد استبد الخوف من المماليك بجيش السلحدار بعد هذه الهزيمة، وصمموا على التقهقر من بني سويف؛ لولا أن وصل محمد علي بقواته، فأعاد إليهم الثقة في نفوسهم، وسنحت الفرصة بفضل ذلك لاتخاذ خطة الهجوم والزحف صوب المنيا لحصارها في أواخر ديسمبر.
على أن الصلح الذي حدث بين الألفي والبرديسي قبل معركة الفشن؛ لم يلبث أن تحطم مرة أخرى؛ لأنه لم يكن في الحقيقة سوى هدنة وقتية وشخصية، تركت لكل منهما الفرصة لمحاولة بسط سيطرته المطلقة على جموع المماليك، فاختلط مماليكهما بعضهم ببعض، واشتركوا معا في القتال، ولكن لم يكن هناك أي اتحاد صحيح بينهم، وعلى ذلك فإنه ما إن ظهرت قوات العدو أمام المنيا حتى تحصن البرديسي بها، بينما اقتصر الألفي على اتخاذ موقف المراقب والمشاهد من معسكره فحسب على الجانب الآخر من النهر في مقابلة قرية تلا.
وأقام الأتراك تحصيناتهم وحفروا خنادقهم أمام المنيا، وحرصوا على وضع فرسانهم في مكان بعيد عن مرمى مدافع المماليك، وبدأ حصار المنيا، وكان حصارا طويلا استمر ستة وخمسين يوما، وتضافرت أسباب عدة على إطالة الحصار كل هذه المدة، كان أهمها - ولا شك - أن الأتراك نصبوا مدافعهم في الجهة المقابلة للوجه البحري، بينما تركوا الجهة المقابلة للصعيد مفتوحة يستطيع المماليك الخروج منها والانتشار في الريف يجلبون منه المؤن والأقوات، كما صار في استطاعتهم قطع المواصلات بين الجيش الذي وقف على حصار المنيا وبين حكومة القاهرة، كما أفاد البرديسي في أول الأمر من وجود الألفي في قرية تلا؛ لأن الأخير تمكن بدوره من قطع المواصلات من الضفة اليسرى مع القاهرة.
وكان مما ساعد المماليك على استمرارهم على المقاومة استيلاؤهم على قرية «أبو جرج» على مسافة 26 ميلا شمالي المنيا، مما زاد في حروجة مركز الأتراك الذين صاروا بدورهم الآن شبه محصورين، فالعدو أمامهم وفي مؤخرتهم، وعلى يمينهم الصحراء التي ينتشر فيها العربان وعلى يسارهم النيل الذي لا تحتمل الملاحة فيه سفنا ذات حمولة ثقيلة، علاوة على قطع كل اتصال لهم مع القاهرة، وحاجتهم الملحة بسبب ذلك كله إلى المؤن والأغذية، وفضلا عن ذلك فقد أتيحت الفرصة للبكوات لجلب الأسلحة والذخائر وما إليها من الإسكندرية ورشيد والقاهرة ذاتها، فقال «مسيت» في رسالته من رشيد إلى اللورد كامدن
Camden
في 6 فبراير 1805: «إن البكوات بسبب ضعف حكومة خورشيد باشا؛ تأتيهم المؤن والأسلحة والأردية من الإسكندرية ومن القاهرة نفسها ، وقد عرض حاكم رشيد للبيع بنادق وبسكويتا وبارودا مما جمعه أخيرا من قلعة جوليان ذات السيطرة على مصب النيل الغربي والتي تقوم بمهمة الدفاع عنه، بينما باع القبطان بك الذي يقود الأسطول العثماني في هذا الموقع جزءا من المهمات التي في مخازنه البحرية»، ثم استطرد «مسيت» يقول: «وهكذا فإنه ما دامت هذه درجة إهمال عمال الباب العالي في هذه البلاد وفسادهم؛ فإن من المستحيل أن يتوقع إنسان انتهاء هذا النزاع الدائر مع المماليك سريعا.»
وشجع انتقال عثمان بك حسن من «جبل الطير» - تجاه ناحية أطسا - لنجدة إخوانه المماليك على الخروج لمحاولة النزول على بني سويف، فأعطى غياب جزء من الحامية الفرصة لمحمد علي حتى يقوم بهجوم على المنيا، في 6 فبراير 1805 ولكن المماليك ردوا المهاجمين بعد أن كبدوهم خسارة كبيرة، وكان الفريقان قبل ذلك قد أمضيا شهر يناير بين هجوم ودفاع، حتى وقعت هذه المعركة الكبيرة، التي سرعان ما تلتها محاولة أخرى في 19 فبراير، كانت في هذه المرة ناجحة، فقد اعتلى حسن باشا النهر في أثناء الليل ليركز هجومه على المدينة المحاصرة من الجهة القبلية - التي تركها الأتراك مفتوحة منذ بداية الحصار على نحو ما قدمنا، وكان يقف لحراسة باب المدينة المواجه للصعيد في هذه الناحية حسين بك الزنطاوي مع جنده اليونان والسود، ولكنه لم يلبث أن غادر مركزه بمجرد إطلاق النيران تاركا جنده يلتحمون مع الأرنئود، فما إن تبين هؤلاء أن قائدهم قد تركهم حتى شاعت بينهم روح الهزيمة، وبلغ الأرنئود الباب وحطموه، وهرع البرديسي لتدارك الموقف، ولكن الأرنئود كانوا قد دخلوا المدينة في اللحظة التي وصل هو فيها، وكاد يتم استيلاء الأرنئود عليها لولا أن أقبل عثمان بك حسن وسليمان بك وعديدون من الكشاف لنجدة البرديسي، فارتد الأرنئود بعد التحامات عنيفة في شوارع المنيا كبدت المماليك خسائر فادحة، واستؤنفت المناوشات البسيطة بين الفريقين.
على أنه حدث في ليل 2 مارس 1805 ما غير من سير العمليات العسكرية على تلك الوتيرة الواحدة التي لزمتها، عندما أشعل «أبو ليلة» النار في أسطول الأتراك الواقف في المنيا، ولولا ما بذله محمد علي من همة لإنقاذ القوارب التي لم تمتد إليها النيران لكانت الخسارة كبيرة، وكان «أبو ليلة» متزعما لعصابة من اللصوص في الصعيد، عرض على البرديسي إحراق مراكب العدو، وتوقع البرديسي أن ينفع ذلك في رفع الروح المعنوية بين جنده المحاصرين، فرحب بهذا العرض، ولكن عبثا حاول البرديسي بعد هذا الحادث أن يحيي شجاعة جنده؛ لأن المماليك وهم الذين تعودوا القتال في السهول المكشوفة، ما لبثوا أن أضجرهم طول الحصار وبرموا به.
ولما كان الألفي من مركزه في «تلا» قد أفلت أتباعه ينهبون ويسلبون في الجهات المجاورة وفي الفيوم خصوصا، وذلك بدلا من محاولته نجدة البرديسي في المنيا؛ فقد آثر كثيرون من مماليك هذا الأخير الانضمام إلى معسكر الألفي الذي رحب بهم.
ثم زاد ضعف البرديسي عندما انشق عليه إخوانه بسبب ما أبداه من غطرسة وعجرفة بمجرد أن بلغه وجود أسطول فرنسي في البحر الأبيض، واعتقد أن الفرنسيين سوف ينزلون على الشاطئ المصري قريبا، مما يرغم الجيوش المحاصرة له على الارتداد عن المنيا، كما توقع أن يظفر بالسلطة والحكم بسبب مؤازرة الفرنسيين المنتظرة له، فانسحب عثمان بك حسن إلى قنا، كما انسحب الألفي إلى الفيوم، وانفض من حوله جماعة أخرى من البكوات والكشاف، وفي مارس شعر البرديسي بعبث الاستمرار على المقاومة، فتمكن من إخراج مدفعيته وذخائره مع أتباعه متسللين من المنيا، فتركها وعسكر على مسافة مرحلتين منها، وحذت الحامية حذوه، فحملوا ما بقي من مدفعية وذخائر على السفن، وقصدوا إلى أسيوط، وفي 14 مارس 1805 كان المماليك قد أخلوا المنيا، ودخلها محمد علي في اليوم التالي.
ولكنه في اليوم الذي استولى فيه الأرنئود على المنيا (15 مارس) وصلتهم الأخبار من القاهرة بأن حوالي ثلاثة آلاف من الدلاة قد وصلوا إلى القاهرة، وأنه سوف يتبع هؤلاء الفرسان «المجانين» جماعة أخرى ، ومن المنتظر كذلك أن تأتي إلى مصر قوات من المشاة والمدفعية، وظهر كأنما الباب العالي يريد من إرسال هذه النجدات إلى خورشيد الاستئثار بالسلطة في مصر وتحطيم قوة الأرنئود، فكان لهذه الأخبار أسوأ الأثر في نفوس الأرنئود عامة ومحمد علي وحسن باشا خاصة، وقرر الأخيران ألا يتركا لخورشيد الوقت الذي يكفيه لتنظيم هؤلاء الجنود والتقوي بهم، فغادرا المنيا بسرعة في 10 أبريل على رأس 3500 مقاتل، وفي 14 أبريل 1805 بلغا طرة، ومن ذلك الحين بدأ النضال السافر بين محمد علي وخورشيد باشا على الولاية في مصر.
النضال بين خورشيد ومحمد علي
فقد أتاح غياب محمد علي الطويل مع الزعماء والجند الأرنئود في الصعيد الفرصة لخورشيد لتدبير ذلك الانقلاب الذي ظل يمني به النفس من وقت حصار القاهرة، ومنذ أن سعى في استصدار فرمان بنقل محمد علي من مصر، ولم يسفر مسعاه عن أية نتيجة، فصار يلح على الباب العالي في طلب نجدة من الدلاة لتعزيز باشويته بوصفه ممثل السلطان الشرعي في البلاد الذي يبغي دعم سيطرة الباب العالي وبسط نفوذه الفعلي في مصر.
ولما كان الباب العالي قد صار قلقا من مدة طويلة من ناحية الأرنئود، وأخفقت محاولاته في إقناعهم بمغادرة البلاد ولم يفد العفو الذي أصدره عنهم في استمالتهم للعودة إلى أوطانهم، فقد تشكك في ولائهم، وأراد لذلك أن ينشئ في مصر قوة تكون بمثابة ثقل يوازن به كفتهم أولا، وحتى يتمكن من تخليص البلاد منهم في النهاية؛ ولذلك فقد استجاب لرغبة خورشيد، وأصدر أوامره إلى هؤلاء «الدلاة» للتجمع من كل أنحاء الإمبراطورية ومن الأناضول في طرف الشام الغربي، حتى إذا احتشدت منهم قوات كافية سيرهم إلى مصر، فدخلوا القاهرة في 29 فبراير 1805، ونزلوا في مصر القديمة، وفي القرى المجاورة، وأثار مجيئهم مخاوف محمد علي الذي أوقف عملياته العسكرية في الصعيد، وأسرع في الحضور إلى القاهرة.
وقد كتب «مسيت» إلى حكومته في 28 أبريل يعلق على ذلك كله بقوله: «إنه يبدو أن الباب العالي الذي اعتبر ولاء الأرنئود له أمرا مشكوكا فيه، وغير ثابت ؛ قد قرر القضاء عليهم بمجرد أن يتمكنوا مشتركين مع الجند العثمانلي من إخضاع المماليك، ولكن «محمد علي» علم بهذه النوايا مبكرا، واستطاع بفضل نشاطه وعمله أن يعطل وقتا ما على الأقل هذه المشروعات التي تدبرها ضده وضد أنصاره الوزارة العثمانية، فقد غادر المنيا لتحقيق غرض ظاهر هو طرد أعدائه من مصر بقوة السلاح أو كسبهم لمؤازرته وتأييد مصالحه.»
وانزعج خورشيد انزعاجا كبيرا عندما بلغه أن «محمد علي» و«حسن باشا» قد غادرا مع جندهما المنيا في طريقهما إلى القاهرة، وذلك قبل أن تتاح له الفرصة الكافية لتهيئة «الدلاة» وتنظيمهم ووثوقه من ولائهم له.
ولما كان امتلاك القاهرة يؤثر تأثيرا حاسما على مصير النضال المنتظر بينه وبين محمد علي؛ فقد أراد خورشيد أن يضمن انحياز القاهريين ومشايخهم ورؤسائهم إلى جانبه، بأن يجعلهم حكما بينه وبين محمد علي وسائر زعماء الأرنئود؛ إذ توقع أن يجذبهم إلى تأييد قضيته ما سوف يسببه لهم من شعور بازدياد مكانتهم وارتفاع شأنهم اشتراكهم في هذا النضال، فطلب في 10 أبريل المشايخ والسيد عمر مكرم والوجاقلية «وأرباب الديوان»، وأبلغهم نبأ تقهقر الأرنئود الفجائي وانسحابهم من ميدان القتال، وهو انسحاب حدث - كما قال - ضد أوامره، ومن شأنه أن يضع مصر تحت رحمة المماليك والعربان، ويجعل من العاصمة ميدانا للفوضى واختلال النظام لعدم رضوخ الأرنئود للطاعة، وشراستهم وخبث طويتهم، كما أنه لم يكن هناك أي مسوغ لعدم إذعانهم؛ لا سيما وقد رفضوا الذهاب لقتال الوهابيين بعد أن أذن الباب العالي بإعطاء زعمائهم كل ما يريدونه من مراتب الشرف لقاء ذلك، «فهم لا يريدون قتال البكوات، ولا يريدون ترك مصر، فماذا تكون يا ترى أغراضهم؟! لا شك في أن خراب البلاد هو كل مقصدهم.»
وذكر الشيخ الجبرتي عند تسجيل ما حدث أن خورشيد قال في هذا الاجتماع: «إن «محمد علي وحسن باشا» راجعان من قبلي من غير إذن وطالبان شرا، فإما أن يرجعا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك، وإما أن يذهبا إلى بلادهما أو أعطيهما ولايات ومناصب في غير أراضي مصر ، ومعي أمر من السلطان وكيل مفوض ودستور مكرم، أعزل من أشاء وأولي من أشاء وأعطي من أشاء وأمنع من أشاء.»
وطلب خورشيد منهم مساعدته بنفوذهم ومشورتهم، ووافق المجتمعون على أن تتألف لجنة من شيخين واثنين من الوجاقلية، تتجدد كل يوم وتلازم الباشا، ولكن هذه الموافقة لم تكن بمحض اختيارهم، كما كان مقترح هذا الترتيب خورشيد باشا نفسه؛ لتشككه في نوايا المشايخ، ولعدم وثوقه بهم، فقد ذكر دروفتي في رسالته إلى تاليران من الإسكندرية في 16 أبريل 1805 «أنه لما كان الباشا يجهل موقف الأهالي في الظروف القائمة، وغير متأكد من تأييدهم له، فقد أخذ من بينهم رهائن لضمان استقرار الهدوء، الشيخين: عبد الله الشرقاوي وسليمان الفيومي»، ثم أرسل خورشيد «الدلاة» إلى الجيزة وإلى طرة وأخذوا مدافع وجبخانة؛ استعدادا لملاقاة محمد علي وحسن باشا، وعهد خورشيد بالدفاع عن القلعة إلى صالح قوش.
ولكن هذه الاحتياطات لم تلبث أن انهارت في إثر بعضها بعضا.
فقد استطاع محمد علي عند وصوله إلى طرة استمالة رؤساء الدلاة بإهدائهم الهدايا الثمينة وكسوة الفرو، وأقنعهم بأنه هو وزميله لم يكونا ثائرين على الباشا، بل حضرا لمطالبته بالمرتبات المستحقة لهما وللجند والتي رفض أن يدفعها لهم، وأنه لا ضرر يقينا من المطالبة بهذه المرتبات، وبفضل هذا المنطق الذي أقر استقامته الدلاة الذين خشوا أن يحرمهم خورشيد في المستقبل من مرتباتهم كذلك أسوة بما يفعله مع الأرنئود؛ تمكن محمد علي من الدخول إلى طرة، ثم السير بعد ذلك إلى القاهرة ومعه الدلاة أنفسهم فدخلها في أمان في 19 أبريل.
ومنذ دخول محمد علي القاهرة بدأ النضال الجدي بينه وبين خورشيد، وهو نضال تضافرت عوامل عدة لجعل كفة محمد علي هي الراجحة في أثنائه، أهمها ما صار يرتكبه الدلاة من اعتداءات فظيعة على القاهريين كاقتحام بيوتهم واغتصاب نسائهم وقتلهن بعد هتك أعراضهن، واختطاف الأطفال، عدا حوادث السلب والنهب. حتى ضج القاهريون بالشكوى إلى مشايخهم منهم، ونقموا على خورشيد بسبب ذلك نقمة عظيمة، أضف إلى ذلك ما أبداه محمد علي من مهارة كبيرة في كسب صداقة المشايخ والعلماء والسيد عمر مكرم وتوثيق علاقته بهم.
واسترشد الشعب بغرائزه الصحيحة دائما والتي جعلته يرى في محمد علي سيد الغد وإن كان خورشيد صاحب الحكم اليوم، فانفض الناس من حول خورشيد بينما قصدوا - من مختلف الطبقات - إلى بيت محمد علي يشكون إلى الرجل الذي واساهم في محنهم الماضية أيام حكومة البكوات المماليك خصوصا ما يلاقونه من عنت وإرهاق، وما حل بهم من نكبات وكوارث على أيدي هؤلاء الدلاة الذين جلبهم خورشيد، ويتشاور المشايخ والرؤساء الشعبيون معه في أجدى الوسائل لعلاج هذه الحالة النكدة علاجا حاسما سريعا، وإنهاء البؤس الذي حل بساحتهم، وهكذا كان «الدلاة» معول هدم قوض به خورشيد باشويته من حيث كان يرجو دعم أركانها، كما انقلبت القوة الشعبية سيفا مسلطا على عنقه من حيث كان يرجو الاعتماد عليها في إقصاء محمد علي والقضاء عليه.
وكان المشايخ والعلماء هم قادة الشعب الطبيعيين في نظام اجتماعي وسياسي فرق بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة، فتألفت الطبقة الحاكمة من العثمانلي وعلى رأس هؤلاء الباشا العثماني، وهم يمثلون صاحب السيادة الشرعية على البلاد، ويعتمدون في هذا التمثيل على أجناد من الإنكشارية والأرنئود والكرد ونظرائهم ممن كانوا جميعا غرباء عن البلاد ويسيئون معاملة أهلها.
كما تألفت هذه الطبقة الحاكمة كذلك من المماليك الذين استبدوا بالسلطة الفعلية وأقاموا في البلاد طغيانا عنصريا فصل بينهم وبين الشعب وأخضعه لمظالمهم، وأما الطبقة المحكومة فقد تألفت من سواد المصريين؛ أي من أولئك الذين نشدوا العزاء والسلوى في راحتهم الروحية، يبعثون شكواهم إلى رؤسائهم الدينيين، ويطلبون منهم النصح والإرشاد، ويتخذون منهم وكلاء يوسطونهم لدى السلطات القائمة من العثمانلي والمماليك على حد سواء لرفع المظالم عنهم، فصار للمشايخ والعلماء نفوذ ومكانة بين أفراد الشعب، وصار في وسعهم توجيههم وتحريكهم.
ولا جدال في أن استناد محمد علي على مؤازرة الشعب بمشايخه وعلمائه ورؤسائه كان العامل الحاسم في الشهور القليلة التالية؛ ليس في نجاحه على غريمه خورشيد فحسب، بل في وصوله كذلك إلى منصب الولاية؛ وذلك لأن الاعتماد على الشعب أو القاهريين جعله يطمئن إلى وجود قوة إلى جانبه من الممكن تسليحها وقت الحاجة بل وكانت مسلحة فعلا، وكان لا مناص من وجود هذه القوة الشعبية المسلحة إلى جانبه في وقت انحاز فيه بعض الرؤساء الأرنئود إلى خورشيد باشا، وهو أرنئودي سهل عليه أن يجد مناصرين له من بين أبناء جلدته كعمر بك وطاهر بك ثم صالح قوش الذي أعطاه قيادة القلعة - كما تقدم - حتى يؤثر بنفوذه على حاميتها من الجند الأرنئود.
زد على ذلك أن حسن باشا زميل محمد علي، الذي حضر معه من المنيا، وآزره في كل خطواته السابقة؛ كان لا يزال يعتبر في هذه المرحلة منافسا خطيرا له، ومن المعروف أن الأرنئود هم القوة العاملة مع محمد علي.
زد على ذلك أيضا قيام الدليل في أثناء الحوادث الماضية على أن القاهريين كانوا من عناصر المقاومة الشديدة في وجه حكومة البكوات، وقد أعانت ثورتهم على طغيان البكوات «محمد علي» على طرد هؤلاء من القاهرة، وفي وسعه لذلك أن يفيد من سخطهم على حكومة خورشيد باشا التي أرهقتهم بالمظالم والمغارم وسلطت عليهم سوط عذابها باستقدامها الدلاة المجانين لتقويض عروش حكومة خورشيد نفسه، كما أن في وسعه بفضل استناده على القوة الشعبية؛ أن يضع الباب العالي أمام الأمر الواقع إذا تسنى له النجاح في نضاله مع خورشيد والظفر بالولاية.
ولم يكن هناك أي شك في أن «محمد علي» إنما يبغي من نضاله مع خورشيد منذ أن دخل القاهرة بعد عودته من المنيا؛ خلعه من الولاية والظفر بها لنفسه، بل إن هذه النوايا لم تعد أمرا مكتوما على القاهريين أنفسهم، فقال الجبرتي في حوادث «19 أبريل»؛ أي يوم وصول محمد علي وذهابه إلى بيته بالأزبكية «وأخذ محمد علي في التدبير على أحمد باشا وخلعه»، وعلاوة على ذلك فإن مؤازرة الشعب له في تحقيق أغراضه سوف تفوت الفرصة على الإنجليز والفرنسيين الذين بذل وكلاؤهم في القاهرة وسفراؤهم في القسطنطينية قصارى جهدهم لمؤازرة طوائف المماليك الموالية لهم.
وأما حقيقة ذلك كله، فتتضح من تتبع الحوادث التي وقعت متلاحقة في إثر بعضها بعضا وبسرعة كبيرة منذ دخول محمد علي القاهرة في 19 أبريل حتى مناداة القاهريين بولايته في 12 مايو 1805.
واستهل محمد علي نضاله باللجوء إلى المطالبة بمرتبات جنده؛ أي بإثارة تلك المسألة الشائكة والتي كانت مبعث الصعوبات والمشاكل التي صادفها الولاة جميعهم وخورشيد باشا على وجه الخصوص منذ تسلمه مهام منصبه، فطالب بألفي كيس وأمهل خورشيد مهلة قصيرة جدا لدفعها، ولم ير خورشيد مناصا من القبول، «ولكن من أين يأتي بها؟» ذلك كان تساؤل «دروفتي» وغيره من الذين لمسوا مدى الصعوبات التي واجهت خورشيد وبخاصة وقد كان الدلاة - وهم جنده الذين عول عليهم لمناصرته - يطالبون هم كذلك بمرتباتهم، فانتهز خورشيد وصول ست سفن محملة بالبن من جدة إلى السويس، وفرض على كل فرد من التجار ستا وعشرين ريالا يدفع منها للأرنئود وللدلاتية، ولكن هذا المال الذي جمعه لم يكف لسداد مرتبات الأرنئود، فقال «دروفتي» - في رسالته إلى «تاليران» في 28 أبريل - إن هؤلاء غير راضين عن الجزء الذي دفع لهم أخيرا من مرتباتهم «ويطالبون بصوت عال بمبالغ طائلة لا يمكن أبدا دفعها؛ إذ يطلبون في الحقيقة اثني عشر ألف كيس، فلما قيل لهم إن الخزانة لا تستطيع إطلاقا دفع هذا المبلغ؛ طالبوا بإرغام رجال الإدارة المالية على تقديم حسابات دقيقة غاية الدقة؛ لتوضيح النواحي التي أنفقت فيها الإيرادات المتحصلة من الميري والتي ادعوا أنها أنفقت على وجه الخصوص في دفع مرتبات الجيش»، وزاد «دروفتي» على ذلك «أن الدلاة - على ما يبدو - لا يريدون الاشتراك في هذه المناقشات ومناصرة أحد الفريقين على الآخر، وأن ما يجري الآن يجعل من السهل التنبؤ بما سوف يحدث، على غرار ما وقع في أيام خسرو محمد باشا.»
وكان محمد علي نفسه هو الذي أثار مسألة الحسابات هذه، فكتب الوكلاء الفرنسيون إلى حكومتهم منذ 23 أبريل: «أن سوء التفاهم قائم بين خورشيد باشا ومحمد علي منذ دخول الأخير إلى القاهرة، فلم يتزاورا بعد، ويطلب محمد علي تقديم حساب عن كل ما دخل الخزانة من مال منذ أن تسلم خورشيد باشا الحكومة»، فبدأت من ثم مناقشات عنيفة بين خورشيد ومحمد علي، حرص الأخير في أثنائها على كسب القاهريين ورؤسائهم إلى جانبه، عندما أصر على عدم تكليفهم بأعباء مالية جديدة، ومحاولة منع خورشيد من فرض الإتاوات والغرامات عليهم لدفع مرتبات الجند وإنهاء هذه الأزمة بينه وبينهم، كما أنه استطاع بفضل ما قدمه من حجج وبسبب ما أدلى به خورشيد من ناحيته من دعاوى حاول بها دحضها؛ أن ينفر «الدلاتية» منه، وأن «يلعب بولائهم».
وقد أوضح «مسيت» ما حدث في رسالة بعث بها إلى حكومته في 28 أبريل جاء فيها: أن «محمد علي» عندما تقوى مركزه بعد عودته من المنيا ما لبث أن أوفد أحد ضباطه إلى خورشيد باشا يطالبه بأربعة ملايين قرش عثماني قيمة مرتبات ستة أشهر لجنده، وأعلن في الوقت نفسه أنه لا يريد أن تفرض إتاوات على الشعب لإجابة مطالب رجاله، حيث إن إيرادات مصر إذا حسن التصرف فيها وفق إدارة طيبة تكفي وحدها - كما قال - لسداد المطالب الشرعية التي للحكومة، وقد أجاب خورشيد على ذلك بقوله: إن لديه فرمانا يستطيع بمقتضاه أن يطلب من محمد علي تقديم بيان أو حساب عن كل المبالغ التي نهبها طوال مدة إقامته في مصر أو فرضها على الأهلين وحصلها منهم أو تسلمها كمرتبات له ولرجاله، وأن المتأخرات التي يطالب بها محمد علي إذا استنزلت من مجموع هذه المبالغ المختلفة لاتضح بدلا من أن تكون له مطالب قانونية على الحكومة المصرية أنه هو نفسه في الحقيقة مدين بمبلغ كبير من المال للباب العالي الذي أوامره القطعية هي أنه يجب على «محمد علي» إرجاعه ودفعه ثانية.
ولكن خورشيد باشا عندما أعلن نوايا الديوان «العثماني» الخفية، ووجه تهم النهب والسلب والخطف وغصب أموال الناس، وأثار بذلك غضب محمد علي؛ لم يكن يعرف أن هذا الزعيم الماكر قد استطاع أن يلعب بولاء الجند الذين يعهد إليهم خورشيد بكبح جماح الأرنئود العصاة. «وعلى ذلك، فإنه ما إن أدرك هذه الحقيقة حتى تنازل لاستخدام المشايخ والعلماء وغيرهم من ذوي المكانة كوسطاء بينه وبين محمد علي الذي رفض حتى الآن أن يستجيب لرجواتهم، ولو أن وعدا قد بذل له بتحقيق كل مطالبه المالية بعد أسابيع ثلاثة فحسب، وسمح له ولجنوده دون تبصر بالدخول إلى المدينة.» «ومع ذلك فإنه حتى ولو تم الصلح بين خورشيد ومحمد علي فلا يمكن أن يدوم؛ لما هنالك من تضارب بين العمل على الاحتفاظ بالبقاء من جهة، وبين تحقيق الأطماع والذود عن أمن الإنسان وحياته وسلامته الشخصية من جهة أخرى، وكثيرون هم الذين يعتقدون أن ثورة قريبة سوف تحدث في الحكومة.»
ولم ينفرد «مسيت» في القول بأن أي اتفاق أو صلح بين خورشيد ومحمد علي لا يمكن أن يدوم؛ لتضارب الأغراض التي يسعى كل منهما لتحقيقها، بل كان من هذا الرأي أيضا الوكيل الفرنسي دروفتي الذي علق على ذلك الاتفاق الذي تعهد بموجبه خورشيد بدفع ألفي كيس، مرتبات الجند المطلوبة، فقال منذ 23 أبريل في رسالته إلى «تاليران»: «إن الموقف في مصر لا يبعث على الاطمئنان بالرغم من حصول هذا الاتفاق بين خورشيد ومحمد علي؛ لأنه حتى يستطيع المرء أن يطمئن فعلا يجب عليه نسيان أن «محمد علي» إنما يستهدف باشوية مصر ذاتها، وأن جميع الأعمال التي بدا قيامه بها لصالح الباب العالي إنما تحمل طابع ما لديه من أطماع نحو السلطة العليا.»
والحقيقة أن «محمد علي» كان مصمما على البقاء في القاهرة ومواصلة النضال مع خورشيد، فكان من مطالبه منذ أن بدأ الاصطدام الجدي بينهما (23 أبريل) «أن يذهب الكخيا بك - وكيل خورشيد وكتخداه، والكخيا والكتخدا معناهما واحد - وقائد جند القلعة صالح أغا قوش على رأس الجيش الذاهب إلى الصعيد بينما يظل هو مقيما بالقاهرة»، وقد كان بالقاهرة وقتئذ، حوالي الثمانية آلاف أو العشرة آلاف جندي يطلبون مرتباتهم، وعبثا حاول خورشيد أن يمنع المشايخ والوجاقلية وأعيان القاهريين من زيارته فقد ظل هؤلاء يزورونه وكثر ترددهم عليه، واستمتع محمد علي وقتئذ بنفوذ كبير على الجند والأهالي معا.
وازداد تعلق القاهريين به عندما اشتد ضيق الناس بالدلاة الذين استمروا في إفسادهم ينهبون ويسلبون ويهتكون الأعراض و«يخطفون النساء والأولاد» بل ولا ينجو «الرجال الاختيارية» من فعالهم القبيحة، وعاثوا فسادا - على وجه الخصوص - في مصر القديمة والقصر العيني ودير الطين وهي الجهات التي خصصت عموما لإقامتهم بينما حرص محمد علي في أثناء ذلك كله على منع جنده الأرنئود من ارتكاب هذه الشرور والمعاصي واستعداء الأهلين عليهم.
واتخذ من جهة أخرى في علاقاته مع المشايخ والعلماء وسائر الرؤساء الوطنيين موقف من يريد التهدئة والتسكين والإصلاح وتخفيف آلام الشعب والحرص على المصلحة العامة، وأظهر غضبه وسخطه على هؤلاء الجند «الدلاتية المجانين» الذين أنزلوا النكبات والكوارث على الأهلين، وكتب «مسيت» وهو يستعرض حوادث هذه الأيام بعد ذلك وموقف محمد علي الذي مكنه من الوصول إلى الولاية
1 «أنه من اللحظة التي سمح له فيها وللأرنئود بالدخول إلى القاهرة عقب عودته من الصعيد، شرع يبذل قصارى جهده بكد واجتهاد حتى يظفر بعطف الشعب وحسن رأيه فيه ورضائه عنه، بينما صار يستثير الناس في الوقت نفسه ضد الجند «الدلاة» الذين وصلوا أخيرا من الشام، والذين ظل يرمقهم بعين الحسد والغيرة بالرغم من إقرار هؤلاء بولائهم له مرات كثيرة، وإظهار إخلاصهم لقضيته.»
على أنه لم يكن هناك ما يدعو في الحقيقة؛ لأن يكد محمد علي ويكدح لاستثارة الشعب ضد الدلاة أو ضد خورشيد نفسه؛ لأن الشرور والإيذاءات التي ألحقها الدلاة بالقاهريين كانت قمينة وحدها بإثارة السخط عليهم، كما زاد من غضب المشايخ والعلماء والرؤساء الشعبيين حتى إنهم عولوا على تزعم الجماهير والشعب الساخط الصاخب بصورة فعالة حاسمة في كفاحه ضد حكومة خورشيد باشا، أن هذا الأخير ما لبث أن أجاز للدلاة إلزام بعض القرى في القليوبية بدفع إتاوات لهم يحصلون منها مرتباتهم، فكان معنى هذا - على حد قول «مانجان» وغيره من المعاصرين - أن الحكومة قد أعطت موافقتها الرسمية على المساوئ والشرور التي قاسى الشعب من ويلاتها الشيء الكثير على أيدي هؤلاء الجند العتاة الباغين، وأنها تؤيد رسميا ذلك الفساد الذي استحكم في البلاد.
فتحركت الثورة.
ذلك أن الدلاة التاثوا لوثة مفاجئة (يوم أول مايو) جعلتهم ينطلقون في وحشية شنيعة في أحياء مصر القديمة يقتحمون المنازل، ويطردون السكان ويغتصبون النساء ويقتلونهن، ويخطفون الأطفال ويأخذون ثياب الأهالي ومتاعهم، ولم يستطع النجاة منهم «إلا من تسلق ونط على الحيطان»، وصاروا يهددون بإتيان هذه الفظائع في القاهرة ذاتها، فما إن بلغ الخبر المشايخ حتى أذاعوه وطلبوا من التجار إغلاق مخازنهم وحوانيتهم، فأغلقت الجوامع والأسواق والوكائل، واحتشدت الجماهير الصاخبة في الشوارع «تطلب من المشايخ بصوت عال التصريح لها بالسير إلى مصر القديمة لطرد الدلاة منها»، ثم لم يلبث أن «حضر سكان مصر القديمة نساء ورجالا إلى جهة الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من أفعال الدلاتية».
وطلب المشايخ من خورشيد وقف هذه الفظائع، فأصدر أمرا للدلاة «بالخروج من الدور وتركها لأصحابها» فلم يمتثلوا، وخاطب المشايخ خورشيد مرة ثانية، ولكنه اكتفى بأن قال: إن الجند مقيمون ثلاثة أيام ثم يسافرون، فزاد الضجيج وانقضى اليوم في مظاهرات صاخبة، واجتمع المشايخ بالجامع الأزهر في صبيحة اليوم التالي (2 مايو) لتدبر الموقف، واحتشدت الجماهير في مظاهرات عنيفة مرة أخرى، وخشي خورشيد عندئذ سوء العاقبة، فأوفد كخياه وأغا الإنكشارية المحافظ لمقابلة المشايخ بالجامع الأزهر ومحاولة تهدئة الخواطر، ولكنهما لم يجدا به أحدا، وكان هؤلاء قد انتقلوا إلى بيوتهم لأغراض نفسانية وفشل مستمر فيهم - كما قال الشيخ الجبرتي - فذهب الكخيا - أو الكتخدا - بك إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي «وحضر هناك السيد عمر أفندي «مكرم» وخلافه فكلموه وأوهموه».
واستقر الرأي على عقد هدنة يقف في أثنائها الهياج الشعبي ويتخذ خورشيد من ناحيته الإجراءات الكفيلة بإعادة الأمن والهدوء إلى نصابهما، وكانت مدة هذه الهدنة ثمانية أيام تنتهي في 10 مايو حسبما طلب خورشيد نفسه، وقد وافق المشايخ على شريطة أن يطهر خورشيد في خلال ثلاثة أيام المدينة وما يجاورها من الدلاة كلية، وقابلت الجماهير الكخيا بك عند انصرافه برجمه بالطوب والحجارة «وشتمه وسبه».
ولم يكن من المنتظر أن يفي خورشيد بوعده لعجزه عن دفع مرتبات الدلاة بسبب خلو الخزانة، وكان هؤلاء يطالبون بمرتبات متأخرة عن ثلاثة شهور، ولم يجهل المشايخ هذه الحقيقة، وانتظروا ما يفعله خورشيد، وتركوا الحضور إلى الأزهر، «وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة» حسب الترتيب الذي كان قد وضعه خورشيد في أبريل، واضطر هؤلاء إلى الموافقة عليه مرغمين وقتئذ، ومع أن خورشيد استطاع بعد مشقة إبعاد قسم كبير من الدلاة فقد استمر من بقي منهم يعيثون فسادا في العاصمة، وظل التوتر على شدته ولزم الأهلون بيوتهم.
ودأب محمد علي في أثناء ذلك كله على القيام بنفس الدور الذي قام به منذ بداية هذه الأزمة؛ فظل يقابل المشايخ والرؤساء الشعبيين والسيد عمر مكرم، يضم شكاواهم إلى شكاواه ويعرض عليهم خدماته ووساطته، وفضلا عن ذلك فقد أفلح تماما في منع جنده الأرنئود من إهانة الأهالي أو الاعتداء عليهم، واعتبر القاهريون أن النزاع القائم ينحصر بينهم وبين خورشيد باشا وحده، وأن لا علاقة للأرنئود به، وانفصل الأرنئود عن العثمانلي وعاشوا في ألفة تامة مع الأهالي.
وأدرك خورشيد مدى الأخطار التي يتعرض لها إذا ظل في نزاعه مع محمد علي الذي اعتبره مسئولا عن هذه المشاكل التي أحاطت به من كل جانب، فبذل قصارى جهده لحسم مسألة المرتبات التي يطالبه بها محمد علي، فكتب «دروفتي» من الإسكندرية إلى حكومته في 5 مايو أن جانم أفندي الدفتردار ورؤساء المشايخ قد توسطوا بين الباشا وبين محمد علي، وأن هذين الأخيرين تقابلا في منزل جانم أفندي أخيرا واتفقا على شروط تعهد خورشيد بمقتضاها أن يدفع نصف المرتبات المطلوبة للأرنئود عن السبعة شهور المتأخرة، وتعهد محمد علي من جهته بإرسال جنده إلى الصعيد لقتال المماليك، على أن يبقى هو مع قسم من رجاله بالقاهرة حتى يتسنى له الخروج لقتال العربان الذين يخربون في الوجه البحري.
ومع ذلك، فقد كان ظاهرا أن هذا الصلح لن يستمر طويلا، حتى إن «دروفتي» لم يلبث أن كتب في اليوم التالي (6 مايو) يطلب تعليمات جديدة من حكومته، «لأنه بالرغم من الأخبار التي بلغته عن إتمام الصلح نهائيا بين محمد علي وخورشيد، يعتقد - كما قال - أن الحال التي عليها الموقف تقتضيه أن يرجو من الوزير إصدار تعليماته إليه فيما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا قبض محمد علي على زمام الحكومة، أو إذا نجم عن حدوث أية ثورة داخلية أن سلب من ضباط الباب العالي سلطة السيادة العليا»، كما أن دروفتي طلب كذلك هذه التعليمات من القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية للاسترشاد بها مؤقتا حتى تأتيه أوامر حكومته.
ودلت الحوادث على أن «دروفتي» كان محقا فيما ذهب إليه؛ لأن خورشيد الذي ظل يواصل مسعاه لدى الباب العالي لاستصدار فرمان بتعيين محمد علي لإحدى ولايات الإمبراطورية وإبعاده بفضل ذلك عن مصر؛ قد نجح أخيرا في مقصده، وأصدر الباب العالي فرمانا بتسمية محمد علي لولاية جدة، ويبدو مما قاله محمد علي لوكيل «القومسييرية» الفرنسية العام في القاهرة «فيليكس مانجان»، أن «خورشيد قد احتفظ بنبأ هذا التعيين مدة شهرين سرا لنفسه، ثم أطلع عليه بعد ذلك بعض الأفراد الذين علم محمد علي منهم ذلك»، ومهما يكن من أمر فقد اختار خورشيد اليوم التالي لبداية الهدنة لإبلاغ محمد علي أن فرمانا قد وصل من الباب العالي بتعيينه لولاية جدة، ثم دعاه للطلوع إلى القلعة ليبلغ ذلك رسميا وحتى تتم مراسم التقليد، ولكن «محمد علي» الذي خشي من غدر خورشيد رفض الطلوع إلى القلعة، وأظهر استعداده لمقابلة خورشيد في أي مكان - خلاف القلعة - يقع عليه اختيار الباشا، فرفض خورشيد بدوره.
ولما كان المشايخ يرون في نوال محمد علي هذا التقليد رفعا لشأنه وتعزيزا لنفوذه، وأرادوا الانتصار على خورشيد ونواياه السيئة؛ لأنهم اعتقدوا - على ما يبدو - مثلما اعتقد محمد علي، أنه يريد الغدر بهذا الأخير فقد توسطوا بين الاثنين وتم الاتفاق - حسب رغبتهم - على اختيار منزل سعيد أغا وكيل دار السعادة - وهو رجل محب للسلام وموضع احترام الجميع، ومن أصدقاء محمد علي - مكانا للمقابلة وحفلة التقليد، فنزل خورشيد من القلعة في 10 مايو وكان قد سبقه إلى نفس المكان محمد علي وبصحبته المشايخ ورؤساء الأهالي وحسن باشا وأخوه عابدي بك، وقرئ الفرمان، ولبس محمد علي الفروة والقاووق علامة التقليد وانفض الجمع.
واجتمع الجند الأرنئود عند خروجه يطلبون مرتباتهم المتأخرة؛ حيث كان من المنتظر أن يترك محمد علي البلاد، ولكن هذا قال لهم: «ها هو الباشا عندكم» فاطلبوها منه، ثم ركب «وذهب إلى داره بالأزبكية، وصار يفرق وينثر الذهب بطول الطريق»، وأما خورشيد فإنه ما كاد يتهيأ للذهاب حتى وجد الأرنئود قد اقتحموا دار سعيد أغا وهم في هياج وغضب شديدين يطالبونه بمرتباتهم، ويتهمونه بالاستحواذ على الإيرادات العامة واستغلالها في منافعه الخاصة، وقال الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية بعد ذلك بتاريخ 15 مايو: «إن أحدا لا يخالجه أدنى شك في أن هذا العصيان كان بتحريك من محمد علي وحسن باشا وغيرهما من رؤساء الأرنئود»، ومنع الجند خورشيد من مغادرة المكان «إلى بعد الغروب»، وتدخل حسن باشا «فلاطفهم ووعدهم»، وكان هؤلاء قد صاروا يطالبون برأس خورشيد باشا، فنجح حسن باشا في أخذه إلى بيته محافظة على حياته، «وأشيع في المدينة حبسه وفرح الناس وباتوا مسرورين».
ومما يجدر ذكره أن كل هذه الأمور جرت دون حدوث أي «رجة عنيفة» - على حد تعبير الوكلاء الفرنسيين في نشرتهم التي سبقت الإشارة إليها - بل إن القاهريين - كما ذكرت هذه النشرة ذاتها - ما لبثوا أن نادوا بمحمد علي واليا على مصر، ولكن صالح أغا قوش وعمر بك وطاهر بك وهم رؤساء الأرنئود الذين كان خورشيد قد نجح من مدة طويلة في استمالتهم إلى تأييده؛ سرعان ما أظهروا استياءهم مما حدث وأعلنوا تذمرهم، وأنذروا بضرورة إطلاق سراح خورشيد باشا فورا وإلا ساءت العاقبة، ونصح العارفون بنواياهم «أولئك الذين اشتركوا في القبض عليه بإصعاده إلى القلعة لتجنب إراقة الدماء» فأصعدوه إليها في آخر الليل بعد أن أعطى على نفسه العهود والمواثيق بدفع مرتبات الجند في بحر أيام قلائل، فكانت هذه الوعود التي طالما بذلها في الماضي ولم يوف بها السبب في إنقاذ حياته، «واغتم الناس ثانيا» - على حد قول الشيخ الجبرتي - عندما ذاع خبر إطلاق سراحه في اليوم التالي.
وتزايد غضب القاهريين عندما طلب خورشيد في هذا اليوم (11 مايو) ألفي كيس من جرجس الجوهري والسيد محمد المحروقي الذي كان والده «أحمد المحروقي» قد توفى فجأة في 26 نوفمبر من العام السابق، وأحله خورشيد محل أبيه منذ ديسمبر 1804، ثم «أشيع أنه؛ أي خورشيد، عازم على عمل فردة على أهل البلد وطلب أجرة الأملاك بموجب قوائم الفرنساوية»، وكان خورشيد قد أعلن أنه لما كان من المتعذر بتاتا جمع شيء من المال عن طريق الميري؛ أي الضرائب العادية، لدفع مرتبات الجند، فقد وجب أن تبادر العاصمة بمساعدته، فثارت ثائرة القاهريين، وصارت القاهرة في هياج واضطراب شديدين، وأعلن الأهلون أنهم لن يدفعوا أية ضرائب جديدة تفرض عليهم، بل ومنعوا تحصيل شيء من قافلة بن كميرة ووصلت في اليوم نفسه، فامتنع عن خورشيد مورد كان من الممكن أن يفيد منه للخروج من مأزقه، وكان أكثر ما سبب سخط القاهريين أنه عجز عن الإيفاء بشيء من وعوده السابقة أساس الهدنة التي طلبها، والتي كان أهمها تخليص القاهرة من الدلاة وشرورهم.
فقد عرف أن ألفا وخمسمائة من الدلاة، قد عدلوا عن مبارحة البلاد وأعلنوا الثورة على خورشيد الذي لم يوف بتعهداته لهم، واختاروا زعيما لهم كبيرهم «ابن كور عبد الله» أو كور أوغلي، ومعناها «ابن الأعمى» ... «وذهبوا إلى قليوب ودخلوها واستولوا عليها وعلى دورها وربطوا خيولهم على أجرانها وطلبوا من أهلها النفقات والكلف ... وحبسوا حريمهم عن الخروج واستمروا على ذلك حتى أخذوا النساء والبنات والأولاد وصاروا يبيعونهم فيما بينهم»، فكان لذلك أسوأ الأثر في القاهرة، فاستمرت غالب الأسواق مغلقة، ورفض الأهلون فتح دكاكينهم ولم يستجيبوا للمناداة بالأمان، «وقال الناس وأي شيء حصل من الأمان وهو؛ أي خورشيد، يريد سلب الفقراء ويأخذ أجر مساكنهم ويعمل عليهم غرامات، وباتوا في هرج ومرج، فلما أصبح يوم الأحد ثاني عشر» (12 صفر 1220ه/12 مايو 1805م) وقع الانقلاب الذي أوصل «محمد علي» إلى منصب الولاية.
انقلاب «13 مايو 1805» والمناداة بمحمد علي
فقد وجد المشايخ أن الفرصة التي انتظروها طويلا قد سنحت أخيرا لمحاسبة خورشيد على فعاله ومطالبته - وبصورة جدية وحاسمة - برفع المظالم التي أن منها الشعب وشكوا منها هم أنفسهم كذلك، وتدبير ذلك الانقلاب الذي بيتوا النية عليه «من أمد طويل » - على حد قول المعاصرين - واشترك فيه محمد علي، بل وكان «بتحريكه» - على حد قول «مسيت» - ذلك أن المشايخ ما لبثوا أن ركبوا في صبيحة ذلك اليوم (12 مايو) إلى بيت القاضي، دار المحكمة أو مجلس الشرع، وكانت مظاهرة كبيرة، احتشد فيها «الكثير من المتعممين والعامة والأطفال» في فناء المحكمة وحولها، يصرخون «شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم، ومن الأولاد من يقول يا لطيف، ومنهم من يقول: يا رب يا متجلي أهلك العثمانلي، ومنهم من يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.»
وطلب المشايخ والرؤساء الشعبيون من القاضي «أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة لمجلس الشرع»؛ أي كبار رجال حكومة خورشيد، حتى يستمعوا لمطالب الشعب ويعملوا على تحقيق العدالة، فحضر سعيد أغا والدفتردار جانم أفندي وآخرون، وأعلن إليهم المشايخ أن أحدا لن يدفع الضريبة التي قررها خورشيد في اليوم السابق (11 مايو) بل إنهم لن يعترفوا بسلطته إلا إذا خضع للشروط التي رأوها كفيلة بإعادة الأمن والهدوء إلى القاهرة وإنهاء مفاسد الجند وشرورهم ووضع حد لمظالم الباشا، واتفق الرأي على كتابة «عرضحال بالمطلوبات»، قال الشيخ الجبرتي: إنهم «ذكروا فيه تعدي طوائف العسكر والإيذاء منهم للناس وإخراجهم من مساكنهم والمظالم والفرد وقبض مال الميري المعجل وحق طرق المباشرين ومصادرة الناس بالدعاوى الكاذبة وغير ذلك».
وأما هذا «العرضحال» الذي أوجز الشيخ الجبرتي ما جاء به من مطالب فيما تقدم، فقد ذكره الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم المؤرخة في 20 مايو كما سجلوا أهم بنوده، وذكرها كذلك «فنشنتزو تابرنا» - نيابة عن «مسيت» لمرضه - في رسالته إلى السير جون ستيوارت من الإسكندرية في 19 يوليو، وكانت هذه البنود الهامة ستا، أولا: عدم إقامة أية قوات في المستقبل سواء من الأرنئود أم من غيرهم، وانتقال الحامية الحالية إلى الجيزة، ثانيا: عدم السماح للجند «من الأرنئود وغيرهم» عدا الحراس والحفظة بدخول القاهرة بسلاحهم ، ثالثا: أن يكون مكان الحانات والمحال المعدة للترفيه عن الجند بجزيرة الروضة، رابعا: أن يمتنع فرض أية إتاوات على المدينة «وفي رواية تابرنا، على البلاد»، خامسا: إعادة المواصلات مع الصعيد ، سادسا: إمداد قوافل مكة بالحراسة اللازمة.
ويستطرد الوكلاء الفرنسيون فيقولون: «وأما بقية الشروط فثانوية، تتعلق بالوسائل التي يجب اتخاذها للتهدئة ولتأمين الأفراد في القاهرة وفي الريف على سلامتهم»، ويقول «تابرنا» في رسالته السالفة الذكر بصدد هذه الشروط: إن «محمد علي» بعد أن جذب إليه المشايخ وحرك القاهريين على حمل السلاح، قد جعلهم يطلبون من خورشيد باشا هذه الشروط التي كان يدرك تماما أنها غير مقبولة، ويبدو أن «تابرنا» بالرغم من وجوده مع «دروفتي» في أثناء هذه الحوادث بالإسكندرية، كان واقفا على حقيقة ما يجري في القاهرة بسبب وجود الوكلاء الفرنسيين بها وخصوصا «مانجان»، وقد كان معروفا لهؤلاء منذ بداية الحوادث الأخيرة أن «محمد علي» هو المحرك لها، وأن غرضه كان الوصول إلى الولاية وعزل خورشيد باشا منها، يدل على ذلك أن «دروفتي» بعد حادث يوم 10 مايو وإطلاق سراح خورشيد، كتب من الإسكندرية إلى «باراندييه»
القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية في 16 مايو يقول: «ولو أن خورشيد قد نجا بطلوعه إلى القلعة، فليس هناك ما يدل على أنه سوف يستطيع البقاء في حكومة مصر، وأنه؛ أي دروفتي قد رأى من واجبه أن يصدر تعليماته إلى الوكيل الفرنسي في القاهرة «مانجان» يشير عليه فيها بالخطوة التي يجب أن يتخذها مع محمد علي، وهي أن يوصيه كل التوصية بالابتعاد عن كل مسلك أو إجراء يستلفت الأنظار، ومن شأنه أن يصدم عمال الباب العالي؛ أي الموظفين العثمانيين في مصر، حيث تتحد علاوة على ذلك مصالح فرنسا مع مصالح الباب العالي نفسه فيما يتعلق بمنع الإنجليز من أن يكون لهم أي نفوذ في حكومة مصر.»
وكان السبب في ذكر هذه العبارة الأخيرة أن «أنصار المماليك» صاروا يشيعون منذ انسحاب محمد علي من الصعيد أنه يعمل بالاتفاق مع البكوات، كما كان الألفي حليف الإنجليز قريبا من القاهرة يرقب سير الحوادث؛ حيث «حضر ومن معه من أمرائه وعربانه وانتشروا جهة الجيزة واستقر هو بالمنصورة قرب الأهرام، وانتشر أتباعه إلى الجسر الأسود، وأرسل مكاتبة إلى السيد عمر أفندي والشيخ الشرقاوي ومحمد علي باشا يطلب له جهة يستقر فيها هو وأتباعه، فكتبوا له بأن يختار له جهة يرتاح فيها ويتأنى حتى تسكن الفتنة القائمة» بالقاهرة، فخشي «دروفتي» أن يكون هناك اتفاق بينه وبين محمد علي، ولو أنه رفض أن يصدق رضاء الأخير باقتسامه السلطة معه، وفضلا عن ذلك فقد أوصى «دروفتي» الوكيل الفرنسي «مانجان» بالقاهرة في رسالة بعث بها إليه في اليوم نفسه (16 مايو) بأن يسعى جهده لكسب صداقة محمد علي، مع عدم نسيانه في الوقت نفسه اتخاذ قدر كبير من الحيطة والحذر في سعيه «حيث إنه قد أتيحت الفرصة «لفرنسا» منذ حدوث الثورة الأخيرة في الديوان العثماني؛ أي سقوط الوزارة؛ لأن يتجدد رجاؤها في استعادة علاقاتها الودية القديمة وتفاهمها مع الباب العالي، وذلك أنه يبدو «لدروفتي» أن «محمد علي» بسبب ما اتخذه من خطوات أخيرا إنما يريد الظفر بباشوية مصر، كما يبدو له أنه يريد الاستحواذ على السلطة برضاء المشايخ والشعب، بل ومن المحقق بسبب هذا المسلك أنه إنما يبغي أن يجعل الباب العالي يقبل بالضرورة - إعطاءه دون أي مقابل - منصبا اقتحمه اقتحاما.»
وأما عرضحال المشايخ فقد رفع إلى خورشيد في اليوم نفسه (12 مايو) ورأى خورشيد لأسباب ظاهرة أنه يستحيل عليه تنفيذ ما تضمنه من شروط، ولما كان عمر مكرم في طليعة من أيدوها، واعتقد خورشيد أن في وسعه تحريك العامة ضده إذا هو رفضها؛ فقد قرر التخلص منه ومن سائر رؤساء هذه الحركة الشعبية وبعث يدعوه من الغد مع القاضي والمشايخ ليعمل معهم مشورة، ولكن أحدا منهم لم يجد من الحكمة قبول هذه الدعوة؛ خوفا من غدره بهم، ثم ما لبثت أن تأكدت ظنونهم عندما «حضر بعد ذلك من أخبرهم أنه كان أعد أشخاصا لاغتيالهم في الطريق وينسب ذلك الفعل لأوباش العسكر فيما لو عوتب بعد ذلك».
وفضلا عن ذلك فإنه لم يكن في نية أحد من أصحاب هذه العريضة - وبالرغم من تحريرها وتقديمها - الاتفاق أو التفاهم مع خورشيد، بل كثر اللغط والكلام عقب الفراغ من إعدادها مباشرة بين القاضي والمشايخ والوجاقلية في موضوع واحد هو عزل خورشيد باشا والمناداة بولاية محمد علي، كما دار الكلام في ذلك بين أفراد الشعب نفسه.
وعلى ذلك، فإنه لما لم يجب أحد دعوة خورشيد، فقد أعلن هذا الأخير في صبيحة اليوم التالي (13 مايو) رفضه لشروط المشايخ وعريضتهم، فبادر المشايخ من فورهم بالاجتماع في بيت القاضي، واحتشدت الجماهير كعادتها، ولكنها منعت من الدخول «وحضر إليهم سعيد أغا والجماعة»، وأصر عمر مكرم على خلع خورشيد وعزله، ولما كان القاهريون يرجون من أي تغيير يحدث زوال بعض ما كانوا يعانونه من مظالم وتخفيف بعض الأعباء التي أبهظت كواهلهم، فقد تعالت صيحات الجماهير المحتشدة بعزله؛ لجوره وظلمه، فقر الرأي على طرد خورشيد من الولاية وتولية محمد على مكانه، وقصد المجتمعون إلى محمد علي في داره.
ويصف الشيخ الجبرتي ما وقع بين محمد علي وبين المشايخ الذين «قالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا ولا بد من عزله من الولاية فلما سألهم: ومن تريدونه يكون واليا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليا علينا بشروطنا؛ لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولا ثم رضي، وأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه له وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة.»
وكانت الشروط التي قبلها محمد علي هي نفسها التي رفضها خورشيد، والتي جعلهم محمد علي يطلبونها منه، وهو يعرف أن خورشيد لن يقبلها لاستحالة تنفيذها لعدم وجود المال لديه لدفع مرتبات الجند، وحملهم بذلك على الامتثال لأوامره، وإعادة الأمن والسلام إلى القاهرة بإبعادهم منها، علاوة على عجزه عن إخراجهم لهذا السبب نفسه - عدم دفع المرتبات - لقتال المماليك وفتح المواصلات مع الصعيد.
وفي رسالة «مسيت» إلى حكومته في 18 يونيو من الإسكندرية يذكر مسألة هذه الشروط التي قبلها محمد علي فيقول: إن المشايخ وأعيان القاهرة صمموا قبل رفع محمد علي إلى منصب الولاية أن يوقع على تصريح أو إعلام
Declaration
يتضمن نفس الشروط التي سبق ذكرها، والتي ذكر منها «مسيت» على وجه التحديد في هذا التصريح أو الإعلام عدم السماح للجنود ما عدا الشرطة بدخول القاهرة بسلاحهم «وعدم فرض أية إتاوات غير قانونية في أي جزء من أجزاء مصر»، بينما تضمن المنشور - أو الإعلام - مواد أخرى أقل أهمية ولكن غرضها جميعها ضمان أمن الأهلين وسلامتهم.
وأبلغ المشايخ الخبر إلى خورشيد، ولكنه أعلن تصميمه على التمسك بمنصبه؛ لأنه «مولى من طرف السلطان» - كما قال - فلا يعزل «بأمر الفلاحين»، وصح عزمه على المقاومة، معتمدا على ما لديه من قوات في القلعة التي بادر بحمل المؤن إليها، ومؤملا خيرا فيما هو واقع من انقسام في صفوف الأرنئود أنفسهم ومناصرة فريق منهم له، عاقدا آمالا كبارا في الوقت نفسه على ما قد تسفر عنه جهوده التي صار يبذلها بنشاط لاستنهاض همة البكوات المماليك لنجدته من ناحية، ولإقناع الباب العالي بتأييده من ناحية أخرى.
ولقد كان خورشيد مخدوعا في كل ذلك، ولم يلبث أن وجد نفسه محاصرا في القلعة، حقيقة كان لديه ألف وخمسمائة جندي بها بقيادة بعض رؤساء الأرنئود من الذين انحازوا إليه؛ كصالح أغا قوش وعمر بك الأرنئودي الذي غادر مسكنه في بولاق في 14 مايو «وطلع عند الباشا بالقلعة»، وذلك بينما كان حسن باشا الزعيم الأرنئودي الآخر وزميل محمد علي ومؤيده في خطواته إجمالا منذ حضورهما معا من المنيا؛ قد أظهر ميلا الآن للتمسك بموقف الحياد في النزاع القائم، ثم لم تلبث أن قويت الشائعات عن وجود تفاهم سري بينه وبين خورشيد، واستدعى خورشيد سلحداره «علي باشا» بجنده من المنيا، ثم شرع يتفاوض مع بكوات الألفي ومماليكه القريبين من أهرام الجيزة، واعتمد على إقناع البرديسي وإبراهيم وعثمان حسن بنجدته، وكان هؤلاء قد تركوا مراكزهم في الصعيد للزحف على القاهرة منذ أن علموا باضطراب الأحوال بها، وبدأ مساعيه بالقسطنطينية لتثبيته في الولاية ، واتصل «بمسيت» يرجو أن يوصي بمسألته السفير الإنجليزي بالقسطنطينية، وكتب «مسيت» للورد كامدن في 28 مايو «أن الفوائد المنتظرة من تأييد «خورشيد» في الولاية بفضل النفوذ الإنجليزي وتدخلهم ظاهرة»، وكتب خورشيد للدلاة في القليوبية يدعوهم للحضور، وأن واجب الولاء يقتضيهم «معاونته؛ صيانة لعرض السلطنة وإقامة لناموسها وناموس الدين، وأن الفلاحين يحاصرونه ومانعون عنه الأكل والشرب»، وأرسل هؤلاء كتابة إلى محمد علي، ولكن كل هذه الجهود التي بذلها خورشيد لاستبقاء ولايته كانت جهودا فاشلة.
وكان محمد علي في الأيام الأولى يشعر بأن مركزه غير موطد طالما تمسك خورشيد ممثل السلطان الشرعي في البلاد بمنصبه، وأزعجه كثيرا تحرك البكوات المماليك، أولئك المنتشرون منهم بالوجه البحري في الجيزة، ثم في دمنهور وطرانة حيث اتخذ الألفي بها مقره بعد ذلك، ثم أولئك الزاحفون من الصعيد، الذين سرعان ما وصلوا - بعد قليل - إلى منفلوط ومن المنتظر استمرار زحفهم إلى القاهرة، أضف إلى هذا تحرك العسكر الذين أخذوا يطالبونه بمرتباتهم، في الوقت الذي انحازت فيه طائفة منهم مع رؤسائهم إلى خورشيد، وخشي محمد علي انضمام حسن باشا إليه كذلك، زد على ذلك أنه لم يكن هناك معدى عن تسليح الأهلين للدفاع عن أنفسهم ضد الأرنئود الذين بدأت طائفة منهم بتحريض من زملائهم مع خورشيد اعتداءاتها على الأهلين، ولأن الباشا المخلوع كان مصمما على التحصن بالقلعة ويعقد العزم على استرجاع ولايته المفقودة، وأدرك محمد علي أنه إذا استمر تسليح الشعب طويلا، سرعان ما يصبح عامل فوضى وانحلال يهدم سلطته هو نفسه بدلا من تدعيمها؛ ولذلك فقد وجب عليه للخلاص من كل هذه المخاطر أن يصل بكل سرعة لحسم الموقف الذي أوجده عناد خورشيد بحمل هذا الأخير بطريق التفاهم والتراضي على الاعتراف بالوضع الجديد اعترافا كاملا صريحا أو على الأقل التسليم بالأمر الواقع، والتزام الحياد حتى يأتي إقرار الباب العالي - كعادته - بهذا الأمر الواقع.
ولذلك فقد رأى أن يوسط المشايخ في محاولة إقناع خورشيد بترك العناد، وبدأت أولى هذه المحاولات من اللحظة التي عرف فيها إصراره على التمسك بولايته ، فكتب المشايخ ومحمد علي إلى رئيسي الأرنئود المعضدين لخورشيد: صالح قوش وعمر بك «يذكرون لهما ما اجتمع عليه رأي الجمهور» من عزل خورشيد، وأن الواجب يقتضيهما عدم المخالفة والعناد «لما يترتب على ذلك من الفساد العظيم وخراب الإقليم»، ولما كان صالح قوش وعمر بك قد طلبا أن يريا «سندا شرعيا في ذلك» فقد اجتمع المشايخ ببيت القاضي في 16 مايو «ونظموا سؤالا وكتب عليه المفتون»: يثبتون الأسباب التي دفعتهم إلى توجيه الثورة ضد خورشيد، ووقعوه وصدق عليه القاضي، ولكن عمر بك وصالح قوش ومن معهما من سائر الرؤساء الأرنئود بالقلعة «لم يتعقلوا ذلك» وطعنوا في قانونية هذا الإعلام أو السند الشرعي.
وأصر خورشيد على عدم النزول من القلعة «حتى يأتيه أمر من السلطان الذي ولاه»، وطلب من المشايخ تدبير المرتبات المتأخرة للجند الذين هم معه والتكفل بنفقاتهم «إلى حين حضور جواب من الدولة» يحسم الخلاف القائم، وأبلغه المشايخ من جانبهم أن «نحو الأربعين ألف نفس قد حضروا يوم تاريخه بالمحكمة وطالبون نزوله أو محاربته وأنهم لا يمكنهم دفع قيام هذا الجمهور»، وأنذروه بأن هذا آخر المراسلات بينهم وبينه، وبعث المشايخ بالإعلام الذي كانوا قد أعدوه إلى القسطنطينية لتأييد قضيتهم ضد خورشيد باشا وتبرير عزله وتولية محمد علي، ومنذ 19 مايو 1805 بدأ الأخير في حصار القلعة جديا «واجتهد السيد عمر أفندي النقيب وحرض الناس على الاجتماع والاستعداد».
وحاول محمد علي إقناع خورشيد بتسليم القلعة دون حاجة لاستخدام القوة، ولكن هذا الأخير - على نحو ما أبلغ «مانجان» وكيل القومسييرية الفرنسية بالقاهرة «دروفتي» بالإسكندرية في 20 مايو - «أعلن أنه لن ينزل من القلعة إلا بالشروط الآتية وهي: أولا: عدم مطالبته بتقديم أية حسابات، ثانيا: الإقامة في سلام وأمن، بعد نزوله من القلعة، في بيت حسن باشا، ثالثا: وضع ما يلزم من سفن ومؤن ضرورية تحت أمره للذهاب إلى الإسكندرية»، ولكن المشايخ والرؤساء الشعبيين ما لبثوا أن رفضوا بالإجماع الشرط الأول بالرغم من استعداد محمد علي لقبوله؛ لأنهم أرادوا معرفة الوجوه التي أنفقت فيها الأموال التي جمعت من القاهرة وحواليها، واستعد كل فريق للكفاح، وجرت الاستعدادات لمهاجمة القلعة التي أغلقت أبوابها، واقترح علي باشا سلحدار خورشيد - الذي كان قد حضر من المنيا - أن يعود إليها لإحضار جنده الباقين بها، كما دعا المشايخ القاهريين للتسلح ليلا ونهارا وصاروا يطلبون من محمد علي إنهاء هذه المسألة بسرعة - واستطرد «مانجان» يقول - «إن ططريا كما يقال - قد ذهب إلى القسطنطينية برسائل من المشايخ وعلماء القاهرة تطلب عزل خورشيد باشا وتثبيت محمد علي في باشوية مصر.»
وحاصر عدد عظيم من القاهريين المسلحين والأرنئود القلعة، وأقاموا التحصينات، وأطلقت النيران من على الأسطح ومنارات الجوامع لإزعاج حامية القلعة، وثارت حمية السكان، فاستبد الحماس بالشيوخ كبار السن والأطفال واشترك الأغنياء إلى جنب الفقراء، «والكل بالأسلحة والعصي والنبابيت ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات»، ولما كان القاهريون لم ينسوا بعد فعال الأرنئود السيئة فقد صار يخشى من أن ينقلب حماس الشعب ضدهم وتحطيم جهود محمد علي والمشايخ، ونزل الأخيرون إلى الشوارع لتهدئة الجماهير الصاخبة المتحمسة، وبذل محمد علي مجهودا آخر مع خورشيد، ولاحت الفرصة لإنهاء الأزمة وديا عندما توصل إلى اتفاق معه لتسليم القلعة سلما، وتبودلت الرهائن بين الفريقين ضمانا لتنفيذ هذا الاتفاق في 22 مايو.
ولكن خورشيد سرعان ما غير رأيه فجأة في اللحظة الأخيرة وعدل عن النزول دون سبب ظاهر، وأعلن تصميمه على البقاء بها حتى يرجع الرسل الذين ذهبوا إلى القسطنطينية برأي الباب العالي القاطع الأمر الذي كان لا يريده محمد علي عندما كان ظاهرا أن من صالحه التعجيل في سير الحوادث ووضع الباب العالي أمام الأمر الواقع إذا سلم خورشيد وعدل عن عناده، فاستمر الحصار ورفعت المدافع إلى جبل المقطم لضرب القلعة، واعتمد محمد علي في نشاطه على مؤازرة المشايخ وقادته له وخصوصا السيد عمر مكرم الذي تولى تدبير المقاومة الشعبية والإشراف عليها وتوجيهها.
وكان السيد عمر مكرم بفضل ما أوتيه من جرأة وشجاعة وقتئذ أعظم نفوذا على القاهريين من سائر الرؤساء والمشايخ، واستطاع الشعب - أو العامة، أو الرعية، أو الجمهور على حد تعبير الجبرتي - أن يقوم بالمهمة التي عهد بها إليه على خير وجه، من حيث المحافظة على الأمن ودفع اعتداءات الجند على القاهريين بل والانتقام لأنفسهم من الأرنئود، ومنع الجند المحاصرين بالقلعة من الخروج، وقال الوكلاء الفرنسيون إن السكان أنفسهم صاروا يقومون كل ليلة بالحراسة على نحو ما كان يحدث في باريس وغيرها من المدن والقرى أيام الثورة الفرنسية الكبرى، كما قالوا: إن الناس يهرعون كذلك لشراء السلاح ويحذو في هذا الصغار حذو الكبار، ويقيمون المتاريس في الشوارع، وقد قدر هؤلاء عدد السكان المسلحين الذين اشتركوا في هذه الحوادث بأربعين ألفا قالوا عنهم إنهم يطيعون السيد عمر مكرم طاعة عمياء وينفذون أوامره بحذافيرها، حتى إن عمر مكرم صار يعتبره الجميع زعيم القاهرة بأسرها، ولو أن «مسيت» - كما كتب بعد ذلك في 2 يوليو 1805 - كان يعزو ترؤس عمر مكرم لهذه الحركة بفضل ما لديه من نفوذ عظيم على القاهريين، إلى وعد أعطي له بنهب القلعة وأخذ أسلابها عند سقوطها مكافأة له على جهوده.
ثم لاحت فرصة أخرى لتسليم القلعة وديا عندما تدخل حسن باشا لحسم الخلاف بين خورشيد ومحمد علي، وكان حسن باشا «ومن معه من الأرنئود يراعون من بالقلعة من أجناسهم؛ لأن غالبهم منهم»، وأراد الآن التدخل للوصول إلى حل يراعي فيه صالح خورشيد، وكان محمد علي - من جهته - يتوق لإنهاء النزاع وديا ودون حاجة إلى قتاله حتى لا يبدو في صورة الثائر على ممثل صاحب السيادة الشرعية، والباشا الذي كان تقليده قائما من الناحية القانونية، بينما لم يكن في وسع محمد علي أن يقطع برأي فيما إذا كان الباب العالي سيستجيب لإرادة المشايخ والعلماء والرعية فيعزل خورشيد من الولاية، أو أنه سوف لا يقر هذه الرغبة ويعترف بها ويعتبر لذلك «محمد علي» عاصيا وخارجا على القانون، فصار مما يهمه إذن وقد خطا خطوته الكبرى نحو الولاية أن لا يتجدد الآن ذلك الموقف الذي أظهره بمظهر التمرد والعصيان لأوامر الباب العالي عند مقتل علي باشا الجزائرلي، أضف إلى هذا أنه لم يكن مطمئنا كل الاطمئنان إلى متانة مركزه من الناحية العسكرية للانقسام بين الأرنئود - على نحو ما سبق ذكره - وتحريض الفريق المنضم لخورشيد بالقلعة للفريق الآخر، وصعوبة كبح جماح الأرنئود الذين بالمدينة والذين صاروا يعتدون على أهلها ويلتحم معهم القاهريون من وقت إلى آخر، وكان الدلاة علاوة على ذلك لا يزالون منتشرين في الجهات القريبة من القاهرة، بل ولا يزال بعضهم موجودين بالعاصمة، كما كان البكوات المماليك لا يزالون قادرين على القتال وفي وسعهم - إذا اتحدوا وجمعوا صفوفهم - الانتصار على جنده.
وعلى ذلك فقد بعث حسن باشا بأخيه عابدي بك لمقابلة خورشيد (24 مايو)، الذي احتجزه رهينة بالقلعة، بينما أرسل من جانبه عمر بك الأرنئودي للمباحثة والمفاوضة، «وأمروا برفع المتاريس وتفرق من بها وأشيع نزول «خورشيد» من الغد، وبات الناس على ذلك تلك الليلة وهم ما هم عليه من التجمع والسروح والحيرة»، وفي 25 مايو قابل عمر بك السيد عمر مكرم، فوقعت بينهما «مناقشة في الكلام طويلة»، تقررت في أثنائها مبادئ على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفكر السياسي في مصر من حيث إنها أفرغت النتائج الواقعية لحادث خلع خورشيد والمناداة بمحمد علي في «نظرية سياسية» محدودة المعالم هي حق الشعب في عزل حكامه إذا أساءوا الحكم أو بعبارة أخرى، الأخذ بمبدأ استقرار السيادة العليا في الشعب نفسه.
وتفصيل ذلك أن عمر بك حاول إقناع عمر مكرم بأن المباحثة في عزل والي أو حاكم عينه السلطان مسألة لا تدخل في نطاق سلطة الشعب - أو الرعية أو العامة أو الجمهور - وحقوقه، ومن شأنه إلغاء القانون الأساسي والسياسي الذي قامت عليه الدولة التي مصر إحدى مقاطعاتها وولاياتها، كما أنه يتعارض مع مبادئ الشرع الحنيف؛ حيث قال الله في كتابه الحكيم:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فكان جواب عمر مكرم أن أولي الأمر في هذه الآية الكريمة إنما المقصود بهم «العلماء، وحملة الشريعة، والسلطان العادل» الذي يسهر على تنفيذ أحكام الشريعة بتطبيق القوانين العادلة، وقد جرى العرف حسب التقاليد القديمة على أن يخضع لكلمة الشعب الأمراء من أصغر صغير إلى أكبر كبير فيهم بما في ذلك الخلفاء والسلاطين أنفسهم إذا اتضح أنهم لا يستحقون شرف الحكومة على رعاياهم وفي استطاعة الشعب عزلهم واستبدال غيرهم بهم، وخلص من ذلك إلى أنه لما كان خورشيد طاغية مستبدا وحاكما ظالما فقد وجب عزله ومن حق الشعب أن يعزله.
فلما حاول عمر بك إقامة الحجة على أنه لا يجوز شرعا محاصرة قلعة حاميتها من المسلمين، وأنه لا يجوز تجويعهم وقتالهم لأنهم ليسوا «كفرة»، أجاب عمر مكرم بأن حصارهم وتجويعهم وقتالهم جائز شرعا ما دام قد أعلن عن رجال الشرع أنهم عصاة «وقد أفتى العلماء والقاضي» بجواز قتال «جماعة خورشيد» ومحاربتهم لأنهم عصاة، فقال عمر بك: «إن القاضي هذا كافر، فقال «عمر مكرم»: إذا كان قاضيكم كافرا فكيف بكم وحاشاه الله من ذلك، إنه رجل شرعي لا يميل عن الحق»، وانفض المجلس.
وكان ذلك قولا جديدا.
وعبثا حاول الشيخ السادات كذلك إقناع مندوب خورشيد بعد أن «خاطبه في مثل ذلك فلم يتحول عن الخلاف والعناد»، واستمر «اجتماع الناس وسهرهم وطوافهم بالليل واتخاذهم الأسلحة والنبابيت حتى إن الفقير من العامة كان يبيع ملبوسه أو يستدين ويشتري به سلاحا»، فرجع عمر بك إلى القلعة في 28 مايو وعاد عابدي بك إلى أخيه حسن باشا، واستؤنف الحصار بشدة، وفقد خورشيد الأمل في تأييد الدلاة له عندما حضر كبارهم إلى القاهرة يقدمون ولاءهم لمحمد علي الذي رحب بهم «وخلع عليهم خلعا وكساوى» في 9 يونيو وبعث بهم لمحاربة الألفي، ولو أنهم تركوا القليوبية حتى يسطوا على البلاد والقرى المجاورة «يأخذون الكلف وينهبون ويقتلون ... ولم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه».
وتجدد أمل خورشيد عندما حضر سلحداره علي باشا من المنيا بجنده بعد أن ترك بها حامية صغيرة، فاستولى على الجيزة وأدخل بعض المؤن إلى القلعة، فزاد نشاط خورشيد، وتبادل الفريقان - فريقا خورشيد ومحمد علي - إطلاق المدافع، ولقي محمد علي بعض الصعوبات في أثناء نضاله، وكان مبعثها اشتراط رجال مدفعيته في ميدان الرميلة لاستمرارهم في الضرب أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، «وتركوا المتاريس التي حوالي القلعة فتفرقوا وذهبوا»، وأنقذ الموقف «جماعة من الرعية الذين تترسوا في مواضعهم» (4 يونيو) - واستدان محمد علي مبلغا من المال من أحد التجار الفرنسيين دفع لهم منه مرتباتهم، أضف إلى هذا استمرار وقوع اعتداءات الجند على الأهالي، والتحام القاهريين معهم؛ دفاعا عن أنفسهم، وحصول مصادمات ومعارك بين جماعات الجند أنفسهم، حتى «اختلطت القضية واشتبه أمرها على أهل البلد فلا يعرف كلا الفريقين الصاحب من العدو، فتارة يتشابك العسكر مع أهل البلد وكذلك أهل البلد معهم، وتارة تتشابك فرقة منهم مع الكائنين بالقلعة، وتارة الفريقان يساعد بعضهم بعضا».
وحاول خورشيد تدبير مكيدة بالاشتراك مع سلحداره لإخماد المقاومة الأهلية وانتزاع المتاريس من أيدي القاهريين، وطلب بعض رجال السلحدار من عمر مكرم أن يفسح لهم طريقا إلى القلعة بدعوى الرغبة في التوسط لإنهاء الأزمة، ولكن عمر مكرم علم بالمكيدة في الوقت المناسب، وخرج «حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة» لمقابلة القوة التي رأسها السلحدار مع قافلة كبيرة من الجمال التي تحمل الذخيرة إلى القلعة، «فضربوهم وحاربوهم» وقتلوا وأسروا عددا منهم واستولوا على جمالهم.
واستمر الضرب بين الفريقين، ولكن تكرر اشتباك القاهريين مع الجند واهتمامهم بدفع أذى هؤلاء عنهم، جعل الحصار المضروب على القلعة ضعيفا، وأمكن إمدادها بالماء والمؤن والذخائر، وحاول محمد علي والسيد عمر مكرم وقف اعتداءات الجند حتى يمكن التفرغ لحصار القلعة ومهاجمتها، فأعلن محمد علي أن كل جندي يقبض عليه معتديا على أحد من الأهلين يضرب عنقه فورا، وزيد عدد المدافع المصوبة إلى القلعة.
نزول خورشيد
وكان في أثناء ذلك أن وصل إلى الإسكندرية في 24 يونيو مندوب من السلطان سليم قال «مسيت» إنه أوفده «لإنهاء الانقسامات الداخلية في مصر»، كما قال إن جماعة من أتباع هذا المندوب - القابجي باشي صالح أغا - قد اجتمعوا به للتشاور معه بشأن «الثورات» التي حدثت في الماضي من جهة، وبشأن الموقف الراهن من جهة أخرى، وبلغ الخبر القاهرة في 28 يونيو وأذيع أن «على يده جوابات بالراحة» ويحمل أوامر في صالح القاهريين الثائرين على خورشيد، «فحصلت ضجة في الناس وفرحوا ورمحوا بطول ذلك اليوم وعملوا شنكا تلك الليلة ... ورموا صواريخ في سائر النواحي وضربوا بنادق وقرابين بالأزبكية وخارج باب الفتوح وباب النصر والمدافع التي على أبراج الأبواب».
وخيل إلى خورشيد بالقلعة وسلحداره علي باشا بمصر القديمة «أن العساكر الذين في قلوبهم مرض تحاربوا مع أهل البلد»، وحاول الاثنان مهاجمة القاهرة فأنزل خورشيد جندا من القلعة وبعث علي باشا جندا آخرين من مصر القديمة لهذه الغاية، ولكن القاهريين وعلى رأسهم «حجاج الخضري وأهل الرميلة» هبوا لمحاربتهم مع «من معهم من عسكر محمد علي»، واشتد ضرب مدافع القلعة تجاوبها مدفعية محمد علي، وساهم عمر مكرم بقسط وافر من الإشراف على نشاط الأهلين، وانجلت المعركة عن هزيمة جند خورشيد وسلحداره.
وأما القابجي باشي وسلحدار الصدر الأعظم الذي جاء معه من القسطنطينية، فقد اضطرا إلى التوقف بعض الوقت في رشيد خوفا من الوقوع في أيدي المماليك والعربان والدلاة كذلك المنتشرين في الوجه البحري، وفي أول يوليو أرسل محمد علي والمشايخ والأعيان وفدا لاستقباله وملازمته مع طائفة من العسكر «لخفارته»، ودخل صالح أغا القاهرة في 9 يوليو، وفي اليوم نفسه وفي بيت محمد علي باشا قرئ «المرسوم الذي معه ومضمون الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقا ووالي مصر حاليا من ابتداء عشرين ربيع أول 1220ه/18 مايو 1805م؛ حيث رضي بذلك العلماء والرعية، وأن أحمد باشا «خورشيد» معزول عن مصر، وأن يتوجه إلى الإسكندرية بالإعزاز والإكرام حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات.»
ويفسر «مسيت» ما حدث بقوله في رسالته إلى «كامدن» من الإسكندرية في 23 يوليو، «إن صالح أغا كان يحمل فرمانين مختلفين: أحدهما في صالح خورشيد باشا والآخر في صالح محمد علي، وكان عليه أن يبرز الفرمان الذي يتلاءم مع الظروف التي يجدها، ولكن «صالح أغا» أسرع بالذهاب إلى القاهرة ولذلك وضع نفسه هناك تحت سلطان محمد علي والأهالي الذين كان خمسة عشر ألفا منهم مسلحين بالبنادق، وضعف هذا العدد مسلحا بالنبابيت، فلم يستطع «صالح أغا» عدم التحيز في مسلكه حتى إذا كان هو نفسه يميل إلى ذلك، وبناء عليه فقد سلم إلى ديوان القاهرة فرمانا يثبت بمقتضاه عزل الباب العالي لخورشيد باشا وتعيين محمد علي لولاية مصر.»
وشرح «روفان»
Ruffin
من رجال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية مسألة هذين الفرمانين المختلفين في رسالة له إلى «تاليران» في 22 يونيو، فقال: «إن «القابجي» الذي أوفد إلى مصر قد أرسل في مهمة خاصة ولديه مراسيم تقليد لحكومة مصر، وهو مكلف بالنظر فيما إذا كان خورشيد باشا أو محمد علي صاحب القدح المعلى والسلطة والنفوذ في مصر، وعليه أن يعطي التقليد - أو الباشوية - للأقوى منهما.»
وفي 11 يوليو أرسلت صورة من «المكاتبة الواردة مع صالح أغا» إلى خورشيد، ولكنه رفض الإذعان بدعوى أنه مقلد بمقتضى «خطوط شريفة» من السلطان وليس مجرد مرسوم وأنه لا ينعزل «بورقة مثل هذه»، ثم طلب مقابلة القابجي باشي وسلحدار الصدر الأعظم للمباحثة معهما، ولكن المشايخ «ومحمد علي» رفضوا طلوعهما إليه، ومع ذلك فقد أوقف خورشيد الضرب من القلعة مؤقتا، وخفف محمد علي والمشايخ من جانبهم شيئا من صرامة الحصار المضروب على القلعة، حتى قام بين الفريقين نوع من الهدنة، كان سببها من ناحية خورشيد أنه عول على انتظار ما تسفر عنه مساعي سلحداره علي باشا مع البكوات الذين كان قد بدأ خورشيد صلاته بهم منذ مدة على نحو ما سبق ذكره، وكان سببها من ناحية المشايخ أن هؤلاء ما لبثوا أن ضجوا من انتشار الفوضى والفتن بالقاهرة عندما تعود عدد كبير من الأهلين بسبب الحوادث الأخيرة ملازمة الشوارع والميادين العامة والانصراف عن أعمالهم ومزاولة حرفهم، وكثرت المشاحنات بينهم وبين العسكر، واعتقد المشايخ أن بوسعهم الاطمئنان إلى أن السلام سوف ينشر لواءه نتيجة للأوامر الواردة من الباب العالي، فأرادوا إنهاء هذه الفتن، فأبلغوا «محمد علي» في أنه قد صار «حاكم البلدة والرعية ليس لهم مقارشة في عزل الباشا ونزوله من القلعة، وقد أتاه؛ أي محمد علي الأمر»، فعليه أن ينفذه كيف شاء، وفوضوه في جمع السلاح من الأهالي، واستطاع محمد علي جمعه دون صعوبة، وبالرغم من تذمر الشعب الذي اتهم مشايخه بالجبن وقصر النظر «ونزل المشايخ إلى الجامع الأزهر وقرءوا بعض الدرس، ففترت همة الناس ورموا الأسلحة وأخذوا يسبون المشايخ ويشتمونهم لتخذيلهم إياهم.»
غير أن العسكر - من الدلاة خصوصا - انتهزوا هذه الفرصة فعادوا إلى أذية القاهريين «وتعرضوا لقتلهم وإضرارهم»، ثم ساد الذعر عندما اقترب المماليك من العاصمة، وعندئذ «ضج الناس وأغلقوا الدكاكين، وكثرت شكاواهم وأبلغوا السيد عمر النقيب» الذي حمل الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير مسئولية «أمر الناس برمي السلاح»، وانتهى الأمر عند اشتداد الهياج بالعودة إلى حمل السلاح «والتحذر» (15 يوليو)، وكان بكوات الصعيد في هذا اليوم قد وصلوا إلى قرب الجيزة، وعبر جماعة منهم النيل إلى البر الشرقي في جهة دير الطين والبساتين، واستولى البرديسي وإبراهيم وعثمان حسن على طرة وهدموا قلاعها (16 يوليو).
فقد شاهدنا كيف أن البكوات بمماليكهم قد انسحبوا إلى الجنوب بعد سقوط المنيا (14، 15 مارس 1805)، ثم عادت طوائف منهم إلى الظهور في مصر الوسطى والوجه البحري بعد مغادرة محمد علي وحسن باشا المنيا إلى القاهرة، واقترب الألفي بك من القاهرة بعد أن استقدم خورشيد سلحداره بالقسم الأكبر من جنده من الصعيد، فاتخذ الألفي مواقعه في الجيزة أولا ثم أقاليم الوجه البحري في دمنهور ثم في طرانة ثم في الجيزة عند المنصورية بالقرب من الأهرام يرقب الحوادث، كما شاهدنا كيف بدأ خورشيد صلاته بالألفي وببكوات الصعيد يطلب مساعدتهم له، وقد ذكرنا أن الألفي - حوالي منتصف مايو - سأل «محمد علي» والمشايخ الدخول إلى القاهرة، ولكن هؤلاء طلبوا منه «التأني» حتى تسكن الفتنة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه المفاوضات دائرة بين الألفي وخورشيد، وكان السبب الذي جعل «محمد علي» يرفض مطلب الألفي الذي عرض محالفته عليه، عدم اطمئنانه إلى أية محالفة مع البكوات بعد أن حطم حكومتهم بالقاهرة أولا، وطارد فريقا منهم «جماعة الألفي» في الوجه البحري، وأوقع الهزيمة بفريق آخر «جماعة البرديسي وإبراهيم» في الوجه القبلي.
ولكن خورشيد الذي أراد الاستعانة بهم في محنته لم يتردد عن قبول محالفة الألفي وبكوات الصعيد، وقام سلحداره علي باشا بدور الوسيط بينه وبينهم، ورحب أكثرهم بعروض السلحدار، وتقدموا من الصعيد «منفلوط» على مراحل متتابعة حتى صاروا قريبين من أسوار الجيزة التي تحصن بها السلحدار علي باشا، وأنشأ منها خطا للاتصال بالقلعة لإمداد خورشيد بالمؤن والذخائر في كل مرة تخف فيها وطأة الحصار المضروب عليها.
ومع ذلك فقد استطاع محمد علي والقاهريون - على نحو ما رأينا - وقف هذا الاتصال في أكثر الأوقات، كما منعوه بتاتا عندما اتخذت التدابير لإنهاء مسألة خورشيد بكل حزم وسرعة بعد أن فشلت المحاولات لإقناعه بالتسليم، على أن وصول المماليك إلى الجيزة الآن لم يلبث أن أفقد التوازن بين قوات محمد علي والقاهريين من جانب، وبين قوات خورشيد بالقلعة وسلحداره بالجيزة من جانب آخر، زد على ذلك أن البكوات والسلحدار قطعوا كل المواصلات مع القاهرة وفرضوا عليها نوعا من الحصار المتحرك، فامتنع وصول المؤن إليها، وبدأت المجاعة تطل برأسها، وبدأ هياج القاهريين وصخبهم، وعاد الأرنئود إلى التمرد والعصيان وإيذاء الأهلين والاعتداء عليهم، ووجد محمد علي لزاما عليه القيام بعمل حاسم ضد البكوات.
وفي 16 يوليو خرج محمد علي لمناجزة البكوات: محمد المنفوخ وعباس بك ورشوان كاشف الذين كانوا قد عبروا النهر إلى جهات مصر القديمة ودير الطين والبساتين، وخرج معه حسن باشا وعابدي بك، وتبادل الفريقان الضرب بالمدافع طيلة هذا اليوم واليوم التالي، ولكن حدث في هذا اليوم الأخير (17 يوليو) أن انتهز «الدلاة» الموجودون بالبر الغربي فرصة خروج الجند الأرنئود لقتال المماليك، فعبروا النهر وانضم إليهم إخوانهم المقيمون بجزيرة بدران، وانقضوا على بولاق يعتدون على أهلها، وشكا هؤلاء إلى السيد عمر مكرم، ولكن جهود الكتخدا بك، وكيل محمد علي لم تفد في منعهم.
وهكذا كانت القاهرة على وشك الخضوع للحصار يضرب عليها من جديد، وانتشار المجاعة بها نتيجة لذلك، ثم الانغماس في فوضى داخلية شديدة، عندما جاءتها الأخبار في 19 يوليو بوصول القبطان باشا إلى الإسكندرية وأبي قير «وصحبته مراكب كثيرة».
وبينما كان القاهريون يجهلون أخبار هذه العمارة العثمانية؛ أي الغرض من إرسالها، كتب «مسيت» من الإسكندرية في 23 يوليو، ينبئ حكومته بوصول ثلاث بوارج وفرقاطة وإبريق بقيادة القبطان باشا، ألقت مراسيها في أبي قير في 14 يوليو، ثم قال: «وأما إذا كان الغرض من إرساله إرجاع الهدوء والسكينة إلى مصر فإن الوسائل التي لديه لا تكفي لتحقيق هذا الغرض، كما يعتقد مسيت أن أية قوات برية يكون القبطان باشا قد أحضرها معه إنما تزيد من حدة الفوضى والاضطراب الموجودة الآن، فإذا أخذ بعين الاعتبار نضال الأحزاب المختلفة في مصر فيما بينها، والعجز الظاهر عن إجابة مطالب الأرنئود المالية؛ أي دفع مرتباتهم، فإنه يصعب معرفة كيف يستطيع الباب العالي إنهاء الكوارث التي حلت بمصر من غير مساعدة قوة أجنبية له»، ويستمر «مسيت» فيؤكد أن هذا هو رأي سكان الإسكندرية كما أنه رأي أكثر كبار الضباط الأتراك بها، وأن جميعهم متحدون في طلب إرسال جيش بريطاني لإنقاذهم من هذه التعاسة التي هم بها.
والواقع أن الباب العالي الذي شهد الحجاز يكاد يسقط بأسره في أيدي الوهابيين المنتصرين في كل مكان، والذي تيقن من عجز مصر عن إرسال النجدات اللازمة إلى بلاد العرب لإنقاذهم من أيديهم ما دامت فريسة للفوضى، لم يلبث أن قرر إنهاء هذه الفوضى السائدة في مصر.
زد على ذلك أن الباب العالي منذ أن بلغته أنباء انقلاب «12، 13 مايو»، والنزاع الدائر بين خورشيد ومحمد علي، وانتهاز المماليك الفرصة للزحف على القاهرة، صار يخشى أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى فقد مصر، واعتقد أنها بتدبير الإنجليز الذين يريدون الاستيلاء على البلاد، فقرر منذ أواخر يونيو إرسال القبطان باشا إلى مصر، وخوله سلطات واسعة لإنهائها بأي ثمن.
وكان المشايخ عندما بلغهم الخبر بوصول القبطان باشا قد قرروا كتابة عرضحال يذكرون فيه الأسباب التي دعت إلى عزل خورشيد والمناداة بمحمد علي «يرسلونه إليه مع بعض المتعممين»، واختلفت آراؤهم، وظلوا على هذه الحالة، حتى وصل السلحدار القبطان باشا إلى بولاق في 24 يوليو، وكان يحمل أمرا إلى خورشيد بالنزول من القلعة دون إبطاء والذهاب إلى الإسكندرية، وأمرا آخر إلى محمد علي «بإبقائه في القائمقامية؛ حيث ارتضاه الكافة والعلماء والوصية بالسلوك والرفق بالرعية»، وأن يرسل عسكرا إلى الحجاز.
ولكن خورشيد طلب أن «يطلع إليه السلحدار الواصل ويخاطبه مشافهة »، فطلع إليه ومعه القابجي باشي صالح أغا، وأظهر خورشيد امتثاله لأوامر السلطان، ولكنه طالب بخمسمائة كيس باقية عليه لصالح أغا قوش وعمر بك الأرنئودي استدانها منهما لدفع مرتبات الجند؛ حيث إنه «لم يبق عنده شيء سوى ما على جسده من الثياب»، وبحث السلحدار والقابجي المسألة مع محمد علي، ولكن دون نتيجة، وتوقفت المفاوضة.
وكان السبب في ذلك أنه حدث ثاني يوم وصول السلحدار، أن صادر محمد علي خطابا مرسلا من علي باشا سلحدار خورشيد وياسين بك الأرنئودي من ضباط علي باشا بالجيزة إلى خورشيد باشا يتضمن تفاصيل مؤامرة لمباغتة القاهرة حدد لها يوم 27 يوليو، وذلك أنه عند ظهور الإشارة المتفق عليها وهي إطلاق سبعة صواريخ من الجيرة، يضرب خورشيد من القلعة بيت محمد علي بالمدافع «والقنابر»، وينتهز علي باشا وياسين بك فرصة انشغال محمد علي، فيعبران النيل إلى مصر القديمة، بينما يطرق البرديسي القاهرة من خلف المقطم، ويأتي سائر البكوات من ناحية طرة، ويقوم القاهريون على من بها من الأرنئود «فيشغلون الجهات ويتم المرام».
وفي 26 يوليو وصل بكوات الصعيد إلى حلوان، ودخل فريق منهم إلى الجيزة، وفي اليوم التالي عدى ياسين بك من الجيزة إلى متاريس الروضة واستولى على ما بها من مدافع وأبطل ما لم يستطع الاستيلاء عليه منها، «فثارت رجة بمصر القديمة والروضة وضربوا بالمدافع والرصاص» ورجعوا قافلين إلى الجيزة، وفي اليوم نفسه حضر الألفي إلى طرانة، وزاد تعقيد الأمور، ولكن سلحدار الصدر وصالح أغا ثابرا على محاولاتهما مع خورشيد، وفي 27 يوليو أبلغ صالح أغا السيد عمر مكرم «أنهم تواعدوا مع «خورشيد» إما أن ينزل في اليوم التالي أو يستمر على عصيانه»، ولكن خورشيد لم يلبث أن أعلن في اليوم التالي عزمه على المقاومة وأخلى القلعة من النساء والأطفال، ولما كان محمد علي قد صار يخشى الآن يقينا من وقوع الهجوم على القاهرة وتوقع أن يحدث ذلك من ناحية «إمبابة» على الخصوص فقد بادر باحتلالها (30 يوليو).
ومع ذلك فقد استمرت محاولات السلحدار وصالح أغا القابجي باشي، وبشير أغا القابجي الذي كان قد حضر من القسطنطينية قبل حوادث «12-13 مايو» فاستأنفوا مساعيهم مع خورشيد (3 أغسطس)، وطلب «القلعاويون شروطا وعلائفهم الماضية»، وكثرت مباحثتهم مع خورشيد ومحمد علي، وتعدد طلوعهم ونزولهم من القلعة، وأخيرا وافق خورشيد على النزول يوم 5 أغسطس، وكان محمد علي قد أحضر له الخمسمائة كيس التي طلبها، وسلم القلعة إلى سرجشمة حسن أغا الذي تسلمها باسم محمد علي، وفي اليوم التالي نزل خورشيد نفسه وذهب إلى بولاق ومعه صالح قوش وعمر بك الأرنئودي وصحبهم كتخدا محمد علي (6 أغسطس) «وأرسل «السيد عمر مكرم» فنادى تلك الليلة باستمرار الناس على التحذر والسهر وضبط الجهات» خوفا من غدرهم، ولكن خورشيد ما لبث أن غادر بولاق في 11 أغسطس، «وتخلف عنه كتخداه وعمر بك وصالح قوش والدفتردار وكثير من أتباعه، ولم يسهل بهم مفارقة أرض مصر وغنائمها - على حد قول الشيخ الجبرتي - مع أنهم مجتهدون في خرابها.»
وتعجب «مسيت» - في رسالته إلى ستراتون من الإسكندرية في 12 أغسطس - من تسليم خورشيد، وإقدامه على هذا العمل البعيد عن الحكمة، والرضاء «بوضع نفسه في أيدي أعدائه بعد أن صار مستحقا للعقاب بسبب علاقاته مع المماليك»، ثم تساءل «مسيت»: «لماذا سلم رهنا في يده كالقلعة لأعدائه قبل أن يعرف نتيجة ما قدمه من رجاوات، وقام به من مساع لدى القبطان باشا؟» وفسر «مسيت» ما فعله خورشيد بأنه ربما كان نتيجة نزوة من النزوات أو تقلب الخاطر.
ولكن كانت هناك أسباب كثيرة أرغمت خورشيد على النزول في النهاية؛ منها: نشاط المقاومة الشعبية وإصرار القاهريين ومشايخهم على عزله، ثم صدور أمر الباب العالي الذي اعترف - كعادته - بالأمر الواقع بتثبيت محمد علي في الولاية ومطالبة خورشيد بالانسحاب.
ولعل أهم عوامل هذا الفشل، كان انقسام البكوات المماليك الذين أراد خورشيد الاستنجاد بهم، وتردد الألفي، وتوهمه أن بوسعه أن يلعب دورا مزدوجا - كسابق عادته - مع خورشيد ومحمد علي ومع الوكلاء الإنجليز والقبطان باشا بينما قصر رجاله نشاطهم على النهب والسلب في الوجه البحري، ورفض أن يتحد في أية عمليات مع إخوانه الذين حضروا من الصعيد بمجرد أن نمى إليهم ما تعانيه حكومة خورشيد بالقاهرة من مصاعب وأعلن تصميمه على الوقوف موقف الحياد، حتى إذا شاهد بكوات الصعيد يقتربون من القاهرة، خشي إذا نجح هؤلاء في الاستيلاء عليها أن يظل هو خارج أسوارها، فكان بعد تباطؤ طويل - على حد قول مسيت - أن عول على الاشتراك في هذا الحادث، حادث دخول القاهرة المنتظر، فتحرك في 7 أغسطس من البحيرة كي ينضم إلى سائر البكوات بالجيزة، واستعان هؤلاء بهذه القوة الجديدة في تنفيذ مأربهم، ولكن هذه الخطوة جاءت متأخرة؛ لأن خورشيد - كما تقدم - كان قد سلم القلعة وغادرها منذ 6 أغسطس، وفضلا عن ذلك فقد استطاع محمد علي أن يكيد للبكوات مكيدة كبيرة.
فإن هؤلاء الذين توهموا أن القاهريين يؤازرونهم سرا؛ شرعوا الآن يستميلون رؤساء الأرنئود إليهم في محاولة أخيرة لاقتحام القاهرة قبل اضطرارهم إلى الانسحاب بسبب فيضان النيل الذي أخذ يعلو، فقال «مسيت» في رسالته إلى «كامدن» في 29 أغسطس يصف ما حدث، إنهم «وزعوا أموالا كثيرة بين الرؤساء الأرنئود الذين وعدوا البكوات بطرد محمد علي وأعوانه من القاهرة، فوثق هؤلاء بهذه الوعود» وانخدعوا بها، ونشأت من ثم مراسلات بين الفريقين، قال المعاصرون: إن الرسائل التي كتبها الضباط الأرنئود باسمهم وباسم المشايخ والأهلين كانت تصنع في سراي محمد علي نفسه وتحت بصره، وأوهم كاتبوها البكوات أن القاهريين يريدون الثورة على محمد علي «ذلك الأجنبي الذي جعلهم طغيانه الذي لا يطاق يأسفون على حكومة البكوات، وأنهم ينتظرون بفروغ صبر اللحظة التي يتمكنون فيها من طرده واستدعاء البكوات.»
فاتفق الرأي على تحديد يوم خروج محمد علي في الاحتفال السنوي المعتاد بوفاء النيل وفتح الخليج (16 أغسطس) حيث يقام الاحتفال دائما خارج أسوار القاهرة، موعدا لدخول البكوات، ولكن «محمد علي» الذي كان يعلم بهذا التدبير «أمر بكسر السد ليلا»، وفي اليوم المعهود «لم يذهب الباشا ولا القاضي ولا أحد من الناس ولم يشعر «البكوات» بذلك»، وجاء هؤلاء «البكوات» يحاولون الدخول من باب الفتوح، فتركهم الأهلون الذين كانوا في الحراسة يدخلون فتقدم البكوات عثمان حسن وعباس، وأحمد كاشف سليم بك وشاهين بك المرادي وغيرهم «كشاف وأجناد ومماليك وعبيد كثيرة نحو الألف» وقصدوا بطبولهم وزمورهم إلى الجامع الأزهر، وذهب فريق منهم مع البكوات إلى بيت السيد عمر مكرم فامتنع عن مقابلتهم، فتوجهوا إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي ونزل البكوات عنده، وحضر إليهم عمر مكرم وطلبوا منهم النجدة وقيام الرعية، ولكن دون جدوى، فخرجوا وغادروا القاهرة من أحد أبوابها «باب البرقية»، وكان جند الباشا قد حضروا لمناجزتهم ولكنهم لم يدركوهم، فنجوا، وأما الفريق الآخر فقد انهال عليهم الرصاص من جانبهم ولم ينفع جماعة منهم التجاؤهم إلى جامع البرقوقية، وكانت مقتلة عظيمة، ولم ينج منهم سوى حسن بك شبكة واثنين من الكشاف افتدوا أنفسهم بالمال.
وقال «مسيت» في رسالته التي سبقت الإشارة إليها، والتي ضمنها بعض تفصيلات هذا الحادث، إن غرضه من ذكرها إنما هو إظهار أن «نتيجتها قد قضت على كل رجاء في أن حكم الأرنئود - والمقصود محمد علي - سوف ينتهي من مصر».
وكان من أسباب فشل خورشيد، إخفاق تلك المساعي التي أشار إليها «مسيت» وذهاب رجواته للقبطان باشا سدى، فقد بعث خورشيد سلحداره علي باشا، كما بعث الألفي بكخياه «محمد» برسائل لمقابلة القبطان باشا بالإسكندرية، «وكان الغرض من إيفادهما - على نحو ما ذكر مسيت في رسالته إلى ستراتون في 6 أغسطس - التوسل والتضرع للقبطان باشا حتى يعترف بخورشيد باشا واليا على مصر، فيعطي بذلك موافقته الرسمية على الحرب التي كان جند خورشيد - بالاتحاد مع المماليك - على وشك أن يبدءوها ضد محمد علي وأنصاره».
فوصل الاثنان إلى الإسكندرية في 3 أغسطس - أي قبل تسليم القلعة بثلاثة أيام فحسب - وتوسط «مسيت» لدخول كخيا الألفي ورسول خورشيد تحت حمايته، واستضافهما في منزله أربعة أيام وهي المدة التي قضياها بالإسكندرية، وفي أثنائها قابلا مرتين القبطان باشا الذي دخل الإسكندرية «متخفيا» لمقابلتهما، وكانت الرسائل التي بأيديهما تعلن إليه اتحاد جميع البكوات وانضمامهم إلى حزب خورشيد باشا، «كما دعي القبطان باشا - كما ذكر «دروفتي» في إحدى رسائله إلى حكومته في 3 أغسطس - للذهاب إلى القاهرة مع كل الجند، حتى يعمل - بالاشتراك مع الحزبين المتحدين - لطرد الأرنئود واتخاذ الوسائل الكفيلة باستتباب النظام وإعادة الهدوء».
وأيد «مسيت» مسعى السلحدار علي باشا ومحمد كخيا الألفي، ويقول «دروفتي» في رسالته في اليوم التالي (4 أغسطس): «إن القنصل الإنجليزي ومندوبي الألفي وخورشيد باشا قابلوا أمس القبطان باشا وعرضوا عليه مقترحات الألفي، وبذلوا كل ما وسعهم من جهد وحيلة لإقناعه بضم قواته إلى قوات الألفي لطرد محمد علي والأرنئود من مصر، الطريقة الوحيدة لإعادة السلام إليها، والتي بدونها تستحيل القاهرة أطلالا، كما أنهم حاولوا إقناعه بأن الباب العالي يجب عليه أن يخشى دائما من حدوث غزوة فرنسية على مصر، وحيث إن تركيا ليس لديها قوات كافية لدفع الفرنسيين فمن المحتمل أن تتخذ إنجلترا ما يلزم من وسائل لمنع سقوط هذه البلاد التي يهمها أمرها في أيدي أعدائها.»
ولكن كل هذه المحاولات أخفقت «ولم يفلحا في مفاوضتهما»، كما كتب «مسيت» إلى حكومته في 6 أغسطس، «لأن القبطان باشا أعلن أن لديه أوامر قاطعة بوضع محمد علي على رأس الحكومة»، وعلاوة على ذلك فقد سعى «دروفتي» لإحباط هذه المفاوضة، فقابل ترجمان القبطان باشا وأوضح له - كما قال في رسالته المؤرخة في 3 أغسطس - ضرورة أن يذكر للقبطان باشا أن الألفي عدو للحكومة الفرنسية، كما بين للترجمان أن اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي خطوة غير عملية، الأمر الذي تدل عليه تلك العداوة التي ظهرت أخيرا من جانب الألفي نحو سليمان بك صنيعة البرديسي والإشارة هنا إلى ما فعله الألفي الذي بعد أن ارتحل من دمنهور التي أخفق في حصارها والإغارة عليها لم يلبث «أن كبس على سليمان كاشف البواب ونهب ما معه».
كما أن اتحاد الألفي وخورشيد باشا ما هو إلا إجراء مؤقت مبعثه الرغبة في انتهاز الظروف فحسب، وأن الإنجليز لا يأبهون لحقوق السيادة التي للباب العالي على مصر، بل إنهم يمدون عدو الباب العالي وهو الألفي بالذخائر، وإن إقامة أحد وكلائهم طويلا مع هذا الأخير والإشاعات التي يذيعونها من مدة طويلة عن قرب وصول جيش إنجليزي لوضع الألفي على عرش مصر؛ لمما ينهض دليلا على ذلك، وقال «دروفتي» إن هذه الحجج والدعاوى قد تركت أثرا ظاهرا - كما بدا له - على ذهن ترجمان القبطان باشا، وفي 4 أغسطس أكد «دروفتي» فشل المفاوضة وجواب القبطان باشا «أن لديه أوامر لا يحيد عنها، وأن الباب العالي قد سمى «محمد علي» واليا على مصر وخورشيد باشا واليا لجدة، وأن الأخير يجب عليه أن يذهب إلى مركزه مع سلحداره علي باشا، وأنه بمجرد عودة الهدوء إلى مصر بفضل هذا الترتيب سوف ينظر في مصير البكوات.»
وفي 5 أغسطس غادر كخيا الألفي وعلي باشا سلحدار خورشيد الإسكندرية وهما يؤكدان - كما قال «مسيت» - «أنهما بمجرد وصولهما إلى معسكراتهما المختلفة سوف يبدأ هجوم عام على القاهرة.»
ولكن في اليوم التالي لمغادرتهما الإسكندرية سلم خورشيد القلعة (6 أغسطس)، كما أن كل الهجوم الذي حدث بعد ذلك كان تلك المحاولة الخاسرة التي أوقع فيها محمد علي بالبكوات يوم 16 أغسطس، وكان هؤلاء بكوات الصعيد، ولم يشترك الألفي في هذا الهجوم.
زد على ذلك أن هذا الحادث أشاع اليأس في نفوس جند السلحدار علي باشا وعرض هؤلاء تسليم الجيزة لمحمد علي مقابل إصدار عفو عام عنهم (22 سبتمبر)، ودخل ياسين بك الأرنئودي في خدمة محمد علي، وانسحب علي باشا السلحدار للإقامة مع البكوات، ثم ذهب إلى الإسكندرية لينضم إلى خورشيد.
فكان من أثر ذلك أن زاد تمسك القبطان باشا بموقفه، فكتب إلى القسطنطينية يطلب تثبيت محمد علي في الولاية، وبذل عملاء، أو وكلاء محمد علي قصارى جهدهم في القسطنطينية لإقناع الباب العالي بتثبيت محمد علي في ولايته مستندين في ذلك إلى ما أبداه المشايخ والعلماء من رغبة ملحة في توليته، وما يعتزمه محمد علي من إصلاحات إدارية لانتظام شئون الحكم في مصر، وإلى أن السلطان في وسعه من الآن فصاعدا أن يعتمد على حكومة محمد علي في إمداده بالنجدات من المال والرجال للقتال ضد الوهابيين وإنقاذ الحرمين الشريفين.
ينهض دليلا على ذلك ما فعله محمد علي من تعيين قريبه طاهر أغا على رأس جيش معسكر خارج القاهرة، وينتظر صدور الأمر للسير فورا إلى الحجاز، وقد أفلحت هذه الأقوال مع طلب القبطان باشا تثبيت محمد علي في ترجيح كفة هذا الأخير لدى الديوان العثماني وتسليمه بالأمر الواقع، فوافق الباب العالي على ذلك، وأصدر فرمانا بتعيين خورشيد لولاية سالونيك، فغادر القبطان باشا الإسكندرية إلى أبي قير في 12 أكتوبر ليبحر منها إلى القسطنطينية في اليوم التالي، كما أبحر معه خورشيد باشا وسلحداره علي باشا، وبذلك خلص الحكم في مصر لمحمد علي.
وهكذا انتهت ولاية خورشيد باشا بعد حكم استمر ستة أشهر وأربعة عشر يوما، فكان ارتقاؤه الولاية وخلعه منها من صنع رجل واحد فقط - محمد علي - عرف كيف يتخذ من تنصيبه وسيلة لخدمة مآربه بعد أن تمهد له الطريق إلى السلطة عقب طرد البكوات من حكومة القاهرة.
ولا جدال في أن عزل خورشيد في الظروف التي شهدناها كان مبعثه ضعف الباب العالي الذي عجز عن فرض سيطرته على البلاد بسبب تلك الروح الثورية التي ظلت سائدة بها من أيام الفتح العثماني الأولى، ولقد جعل هذا الحادث خروج هذا الجزء الهام من الإمبراطورية العثمانية بصورة عملية في مستقبل الأيام أمرا مفروغا منه؛ ذلك أن خورشيد كان آخر الولاة الذين تلقوا أوامرهم من القسطنطينية مباشرة، كما أن تنحيته عن الحكم كانت الثمن الذي وجب عليه دفعه عن أخطاء حكومة ظاهرة العجز والضعف، ونعني حكومة الباب العالي.
وكان القبطان باشا صادق النظر حينما قال عند عودته إلى القسطنطينية: «لقد تركت في هذه البلاد؛ أي مصر رجلا سوف تجد فيه الإمبراطورية - ولا شك - يوما من الأيام ثائرا من أخطر الثوار على سلطانها، فلم يحدث بتاتا أن كان لسلاطيننا وال أكثر حنكة سياسية، وأعظم نشاطا وأعمق دهاء من هذا الباشا»؛ أي محمد علي.
وكانت مهمة هذا الباشا في السنوات التالية تذليل الصعوبات التي صادفته لدعم أركان الولاية التي ظفر بها بعد مثابرة طويلة وجهود شاقة مضنية، وأفاد لبلوغ غايته من ضعف الباب العالي، والصراع القوي بين السياستين: الإنجليزية الإيجابية، والفرنسية السلبية وانقسام البكوات وتفرق كلمتهم، وعدم نضجهم السياسي، ومؤازرة القاهريين ومشايخهم له.
الباب الثاني
تمهيد
1 - الكفاح من أجل البقاء
2 - تنازع النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي»
3 - تخطي العاصفة: حملة «فريزر» وفشلها
4 - تخطي العاصفة: جلاء الإنجليز عن الإسكندرية
الباب الثاني
تمهيد
1 - الكفاح من أجل البقاء
2 - تنازع النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي»
3 - تخطي العاصفة: حملة «فريزر» وفشلها
4 - تخطي العاصفة: جلاء الإنجليز عن الإسكندرية
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الثاني)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الثاني)
تأليف
محمد فؤاد شكري
الباب الثاني
ولاية محمد علي: دور التجربة والاختبار (1805-1807)
تمهيد
الصعوبات الأولى والموقف الدولي
لم يعن رحيل القبطان باشا، تحمل عمارته أحمد خورشيد وعلي باشا سلحداره، وسائر أتباعه في أكتوبر 1805، أن الأمر قد استتب لمحمد علي، وأن الانقلاب الذي أوصله إلى الحكم في 13 مايو قد أسفر عن تقرير ولايته بصورة تجعلها بمأمن من انقلابات أخرى قد تحدث في أي وقت، ومن المنتظر عند حدوثها أن تطيح بولايته ما لم يتخذ باشا القاهرة الجديد من الوسائل ما يكفل درء هذا الخطر عنها.
ذلك أن أولئك الذين تعاهد معهم من رؤساء القاهريين الذين نادوا بولايته على إرساء قواعد الحكم العادل الرشيد ما كانوا يرضون بأن يتناسى الباشا شروط ذلك السند الذي وقعه، وهي شروط تهدف إلى تخليص القاهرة من شرور الجند ومنع اعتداءاتهم على الأهلين، ورفع المظالم والمغارم عن أفراد الشعب، وإبعاد شبح المجاعة عن القاهرة بفتح المواصلات وتأمين السبل بين القاهرة والصعيد مورد الغلال والحبوب.
ولم يكن في وسع الباشا نفسه أن يتناسى هذه الشروط أو يغفل تنفيذها؛ لأن ذلك حقيق بأن يبقي على حكومته صبغة الانقلاب، ولا معدى حينئذ عن بقائها مزعزعة البنيان، معرضة للانهيار إذا عصف عليها ريح انقلاب آخر، وقد كانت مصر كما شاهدنا مسرحا لعدة انقلابات منذ جلاء الفرنسيين عنها، لا تلبث أن تتداعى؛ فالجند إذا عجز الباشا عن كبح جماحهم وظلوا ينشرون إرهابهم في القاهرة، ويعيثون فسادا في كل مدينة وقرية يقصدون إليها أو يمرون بها، وظهر لدى بعض رؤسائهم أو مغامريهم طموح للسلطة العليا وانتزاع الولاية، والأهلون وزعماؤهم (وفي القاهرة خصوصا مهد كل الثورات والانقلابات السابقة العاتية) إذا ضاقوا ذرعا بحكومة أوجدوها هم أنفسهم - في اعتقادهم على الأقل - للأخذ بأسباب الإصلاح السريع الذي كان لا يعدو في نظرهم العمل الفوري لإزالة عبء التكاليف المالية التي أرهقتهم أو تخفيفه عن كواهلهم، ثم خيل إلى بعض المتصدرين منهم أن في استطاعتهم مشاركة السلطة العليا مسئولياتها، وأنهم يقدرون على تدبير انقلاب يستبدل بالحكومة القائمة غيرها، والمماليك - وهم المسيطرون على الصعيد، ثم على أقاليم واسعة في مصر الوسطى والوجه البحري - إذا بقيت شوكتهم ومنعوا عن القاهرة المؤن والأغذية، وحرموا خزانة الباشا من الميري وسائر الالتزامات المفروضة «للدولة» على ما بأيديهم من إقطاعيات ثم تحقق حلمهم في استرجاع القاهرة - غاية آمالهم ونهاية مقصدهم - فإن كل أولئك سوف يكونون متضافرين معاول هدم تقوض عروش هذه الحكومة الانقلابية الجديدة لو أن الباشا أغفل علاج قضاياهم وما يتفق مع صالح الحكم ويمكن من استقراره.
ولقد كان مبعث الصعوبات التي اعترضت طريق الحكومات السابقة، وزلزلت كيانها، والتي صادفت حكومة محمد علي عند تأسيسها ووجب عليه تذليلها واحدا في كلا الحالين؛ افتقار الخزانة والحاجة الملحة للمال، والتنازع على السلطة بين الولاة أو الباشوات وبين البكوات المماليك من ناحية، ثم بينهم وبين رؤساء الجند من ناحية أخرى، وضعف الباب العالي وعجزه عن فرض نفوذه وسلطانه على هذه الطوائف والأحزاب المتنازعة وبسط سيادته الفعلية على البلاد، ثم تنازع النفوذ بين إنجلترة وفرنسا للظفر بالتفوق السياسي في مصر.
وقد هددت المشاكل التي نشأت من هذه الصعوبات حكومة محمد علي تهديدا بليغا ومباشرا في السنتين الأوليين ونصف السنة الثالثة؛ أي من حين المناداة بولايته في مايو 1805 إلى حين جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر 1807 بعد فشل حملتهم التي كانت قد جاءت بقيادة الجنرال «فريزر» لاحتلالها في شهر مارس من العام نفسه.
وشحذ محمد علي همته لمعالجة هذه المشاكل والذود عن كيان حكومته، وساعده ما كان قد وضعه من أسس في أثناء نضاله الماضي من أجل الوصول إلى الولاية والحكم على تناول هذه المشاكل بقسط وافر من النجاح، فاستمر المشايخ والزعماء القاهريون في معاونته، وابتدع محمد علي من الوسائل ما جعل هؤلاء في أحايين كثيرة ملزمين بهذه المعاونة إلزاما، فتيسر له المضي في فرض الإتاوات والمغارم والمظالم على الشعب دون أن يلقى مقاومة، ولم يكن في مقدوره التنحي عن سنن الطريق القديم؛ لنضوب معين الخزانة العامة بسبب كساد التجارة، وتعطل الزراعة، وخروج أقاليم الصعيد من حوزة الحكومة، وعدم دفع الميري عنها لوقوعها في قبضة البكوات المماليك؛ ولأن «جمارك» الثغور وأهمها الإسكندرية، يتولى إدارتها مندوبون عن الباب العالي وتضبط إيراداتها «إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول»، وكانت الإسكندرية ميناء القطر الأول منفصلة في شئونها عن باشوية القاهرة. وقد دفع محمد علي من هذه الإتاوات والفرض وما إليها مرتبات الجند، وسائر تكاليف الحكم والإدارة العامة، كما وجد منها بعض حاجته لإرسال الهدايا ورشوة رجال الديوان العثماني في القسطنطينية، أو مندوبي الباب العالي الذين جاءوا يحملون الأوامر والفرمانات لمناصرة أخصامه البكوات ونقله من مصر إلى ولاية أخرى، ثم استعان محمد علي بالمشايخ ووجهاء القاهرة و«المتصدرين» بها لتأييد قضيته لدى الباب العالي، والمماليك، فاستكتبهم العرائض (أو العرضحالات) لإظهار رضا الشعب عن حكمه وتشبثه ببقائه، وتقديم المسوغ الذي يستند عليه الباب العالي في ستر عجزه وفشله أمام إصرار محمد علي على نبذ أوامر السلطان ظهريا، والمقاومة السافرة إذا ألح هذا في عزله أو نقله، وتبرير تسليمه بالأمر الواقع جريا على عادته في كل ما وقع من أحداث في هذه البلاد منذ خروج الفرنسيين، ولقد كان غضب الباب العالي من وصول الباشا إلى الحكم قسرا عنه مصدر خطر مستمر عليه في هذه السنوات الأولى، ثم استعان محمد علي بالمشايخ والرؤساء القاهريين في إحباط تدابير المماليك؛ فكان منهم الوسطاء والمفاوضون معهم، عندما مهدت مفاتحاته مع الألفي الكبير في أثناء النضال ضد خورشيد لاستئناف المفاوضات والمباحثات معه، وإن اختلفت أغراض كلا الفريقين منهما، وعندما ساعد تفرق كلمة البكوات وانقسامهم على محاولة استمالة بكوات الصعيد إلى الوقوف موقف الحيدة وإبطال حركتهم لا سيما في أزمتين عصيبتين؛ إحداهما: عند نجاح مساعي الألفي لدى الباب العالي وعفو هذا الأخير عن المماليك وإرساله القبطان باشا في عام 1806 لإرجاع البكوات إلى سابق سلطانهم، ونقل محمد علي إلى ولاية سالونيك، والأخرى: عند مجيء حملة «فريزر»، ولم يكن مسعى محمد علي لبذر بذور التفرقة والشقاق بين المماليك وشل نشاطهم وسيلته الوحيدة لهدم قوتهم؛ فقد سير ضدهم الحملات والتجريدات والتحم جنده معهم في معارك متعددة في الوجهين البحري والقبلي على السواء، فكان النصر حليفهم تارة، وهزمهم البكوات تارة أخرى.
ولقد زاد من حدة المصاعب التي صادفها محمد علي في هذه السنوات الأولى، مثابرة إنجلترة وفرنسا على تنازعهما حول النفوذ في مصر، وزاد خطر هذا التنازع بسبب استئناف الحرب بين الدولتين منذ مايو 1803، وارتهنت مقدرات هذه البلاد بمبلغ نجاح كل من هاتين الدولتين في مسعاهما مع تركيا، وكان ما حدث من نشاط في القسطنطينية، ثم في القاهرة تبعا لذلك حقيقا بأن يزيد صعوبات محمد علي حدة على حدتها؛ ذلك أن هذا النشاط لم يلبث أن انتهى إلى فصم العلاقات بين تركيا وروسيا، وبينها وبين إنجلترة حليفة الثانية، وأسفر عن إرسال أسطول «دكويرث»
Duckworth
الإنجليزي إلى مياه القسطنطينية، وحملة «فريزر» إلى الإسكندرية في 1807، وكانت هذه الحملة الأخيرة أعظم الأخطار التي تعرضت لها حكومة محمد علي.
وقد بدأ هذا المسعى - كما سبقت الإشارة إليه في موضعه - منذ أن عقد صلح «أميان»، ومنذ تبين أنه إنما كان هدنة مسلحة، ثم لم تمض شهور على عقده حتى اتضح أنه صار متحطما؛ فقد جلا الإنجليز عن مصر بعد عقد الصلح، ولكنهم بقوا في مالطة ولم يسلموها إلى فرسان القديس يوحنا، وتمسك الفرنسيون بفتوحهم في إيطاليا. وبذل الإنجليز والروس قصارى جهدهم لإحراز التفوق السياسي في تركيا، وسعت فرنسا من جانبها على يد سفيرها «برون» لإحباط محاولات خصومها وتعزيز نفوذها في القسطنطينية، وعندما أعلنت الحرب في مايو 1803، اعتمد الإنجليز على نشر تقرير «سباستياني » المعروف في إقناع الباب العالي بأن بونابرت يريد غزو مصر في كسب الباب العالي إلى جانبهم، وعبثا حاول الفرنسيون إقناع الوزراء العثمانيين بأن خصومهم إنما احتفظوا بمالطة حتى يتخذوا منها مركزا لإرسال قواتهم إلى «الليفانت» وإثارة الاضطرابات في مصر تمهيدا لاحتلالها؛ لأن تركيا التي خشيت من مشروعات بونابرت التي عزاها إليه أعداؤه وجدت في حماية إنجلترة وروسيا لها منقذا من هذا الخطر الذي يتهددها، لا سيما وقد كانت روسيا إثر معاهدة تحالفها مع تركيا (في 25 ديسمبر 1798) قد فتحت بالاشتراك معها جزر الأيونيان التي كان الفرنسيون قد غزوها قبل ذلك، وأقرت لهم معاهدة كامبو فرميو منذ أكتوبر من العام السابق امتلاكها لها، فصار للروسيا الآن حماية «جمهورية الجزر السبع» هذه، وقوي نفوذها في القسطنطينية حتى صارت سفنها الحربية ونقالاتها تمر بحرية في البوغازات، وطلب الباب العالي تجديد محالفته معها ثم مع إنجلترة (أي محالفة 5 يناير سنة 1799) قبل انتهاء أجلهما، وكانت هاتان المحالفتان دفاعيتين هجوميتين، وعبثا حاول «برون» إثارة مخاوف الأتراك من مرور سفن الروس من البسفور؛ فقد حرص المبعوث الروسي «ديتالنسكي» والقائم بالأعمال الإنجليزي «ستراتون» على تهدئة روع الباب العالي دائما، وعبثا حاول «برون» إقناع الباب العالي بأن توقيع معاهدة الصلح بين فرنسا وتركيا في باريس في 25 يونيو 1802 - بعد أسابيع قليلة من انضمام السلطان سليم الثالث في 13 مايو إلى معاهدة «أميان» - قد ألغى آثار معاهدتي التحالف مع روسيا وإنجلترة، حيث أعيد السلام الآن بين تركيا وفرنسا، بمقتضى صلح باريس، وأقر الباب العالي قبوله (المادة الرابعة) كل ما جاء في صلح أميان خاصا بتركيا، وحفظت مادة سرية في هذا الصلح الحق للباب العالي في تجنب ما قد يقوم من حروب في المستقبل بين فرنسا وأعدائها؛ فقد تصدى «ديتالنسكي» «وستراتون» لدحض هذه الأقوال، واستمرا يشيعان الخوف في قلوب الوزراء العثمانيين وهددا بتخلي دولتيهما عن حمايتهم إذا استجابت تركيا لمطالب فرنسا. ولم يفلح «برون» في حمل الأتراك على الاعتراف بلقب نابليون إمبراطورا على الفرنسيين، واضطر «برون» إلى مغادرة القسطنطينية في 12 ديسمبر 1804 تاركا تصريف الأمور في يد «باراندييه»
الذي زودته حكومة باريس بتعليمات طلبت منه الوقوف موقفا سلبيا من نشاط أخصامه؛ حيث إن الواجب يقتضي الباب العالي أن يبت في أمر الانحياز إلى جانب فرنسا بناء على ما يهديه إليه تفكيره هو فحسب.
وفي بداية عام 1805 أخذت تتجمع الأسباب في سرعة؛ «لهداية» الباب العالي إلى ما فيه رعاية صالحه ولم يجد مناصا لرعايتها من انحياز إلى وجهة النظر الفرنسية؛ ذلك أن الروس ما لبثوا أن طلبوا أن يأتي تجديد محالفتهم مع تركيا متلائما مع الظروف القائمة، بإضافة مواد سرية إلى المعاهدة، بعد أن فرغوا في مشقة وعناء من الاتفاق مع الأتراك على موادها العلنية (15 أبريل 1805)، وعندما شرع «ديتالنسكي» يتفاوض في المواد السرية، وصل إلى القسطنطينية المواطن «جوبير»
Jaubert
يحمل رسالة من نابليون إلى سليم الثالث (بتاريخ 30 يناير 1805) يحذره من روسيا، ويستنهض همته للاعتراف بلقبه الإمبراطوري، فيقول: «هل زال حكمك وانقطع وأنت سليل العثمانيين الأمجاد، وإمبراطور إحدى كبريات إمبراطوريات العالم؟ وكيف أجزت لنفسك الرضا بتلقي الأوامر من روسيا؟ وتأبى لي ما رضيته أنا لك، فهل عميت بصيرتك في هذه المسألة (أي الاعتراف بنابليون) عن إدراك ما فيه صالحك ونفعك؟» ثم يستطرد مشيرا إلى خطر الروسيا على الدولة، ومحذرا سليما الثالث من خيانة وزرائه فيقول: «وإذا كان لدى روسيا خمسة عشر ألف رجل في «كورفو» (من جزر الأيونيان) فهل تعتقد أن وجودهم هناك موجه ضدي؟ وقد صار وقوف سفنها المسلحة أمام القسطنطينية وحضورها إليك عادة سارية، فهل عميت حتى صرت لا تدرك أن روسيا سوف تقدم بأي عذر من الأعذار على غزو العاصمة؟ وايم الحق إن بيتك لا يلبث أن يفنى ويجر عليه الزمان أذيال النسيان؛ فالريس أفندي يخونك، ورئيس الديوان قد باع نفسه لروسيا، وأفقدك موت القبطان باشا أخلص أصدقائك، لقد حذرتك مرتين ، وها أنا ذا أحذرك للمرة الثالثة، فاطرد أعضاء ديوانك، واطرد الريس أفندي، وأما أنا فقد أردت أن أكون صديقا لك، فإذا كنت لا تزال مصرا أو صح عزمك على رفض ما أطلبه مما كان لفرنسا في كل الأزمان، وهو القدح المعلى في القسطنطينية، فسوف أناصبك العداء، ولم يعرف عني بتاتا أني كنت عدوا مستضعفا. إن ديوانك لم يتخذ أية وسيلة لتقرير النظام في مصر والشام، ويترك مكة والمدينة تضيعان من يدك، ويهين أصدقاءك ويحدب على أعدائك ... فقم يا سليم من سباتك واستيقظ، وادع لوزارتك أصدقاءك واطرد الخونة، وثق في محبيك؛ فإنك إذا ما ترددت في الاختيار بين فرنسا وروسيا فسوف تفقد بلادك، ويضيع الإسلام ويزول بيتك! ...»
تلك كانت الرسالة التي أصر «جوبير» على تسليمها إلى السلطان يدا بيد، ولم يظفر ببغيته إلا بعد أن هدد بترك القسطنطينية، فقابله في 2 مايو 1805، ونمق سليم كتابا لنابليون حمله «جوبير» إلى باريس، وقامت قائمة الممثلين: الروسي والإنجليزي في القسطنطينية، وهدد «ديتالنسكي» الباب العالي، وحذره من عواقب تغيير سياسته، فأحجم عن الاعتراف بلقب الإمبراطور، واستؤنفت المفاوضات حول المواد السرية، ومدارها انضمام تركيا إلى محالفة أوروبية ضد فرنسا، وقاومت تركيا كثيرا في قبول هذه المحالفة التي تفقدها حيدتها وتزج بها في الحرب، وزاد من حنق الريس أفندي أن السفير الإنجليزي الجديد «شارلس أربثنوت» جاء إلى القسطنطينية دون أن تكون لديه تعليمات من حكومته بشأن تجديد المحالفة مع الأتراك، أو تسوية مسألة التعريفة الجمركية وإنهاء الخلاف الدائر حولها بين تركيا وإنجلترة. وفي يوليو لم ير الباب العالي مناصا من قبول هذا القسم من المواد السرية التي أصرت عليها روسيا، والتي تستهدف اشتراك تركيا معها ضد فرنسا ووضع موارد الأولى تحت تصرف حليفتها، وخضوع عمليات قتال الأتراك لإرشاد القيصر نفسه، ثم لم يلبث أن اتضح للأتراك ما كانت تنطوي عليه مطالب الروس من أخطار عندما أرادوا أن تتضمن سائر المواد السرية حق إرسال روسيا قوة عسكرية كبيرة إلى الولايات الدانوبية العثمانية: مالدافيا وولاشيا (البغدان والأفلاق) ووضع حامية في «بارجا»
في إقليم «أبيروس» في مواجهة «كورفو» وسائر جزر الأيونيان ثم انضمام الباب العالي إلى روسيا في توجيه الدعوة إلى إنجلترة حتى ترسل جنودا إلى الإسكندرية، وإجازة استيلائها على ميناء في شبه جزيرة المورة ، وهذا كله عدا مطالبة روسيا بحق التدخل في صالح رعايا الدولة من أصحاب الديانة الأرثوذكسية في أي وقت تشاء، والمقصود بذلك وضع اليونانيين رعايا الدولة العثمانية تحت حماية روسيا، وكانت دعوى هذه في تبرير إصرارها على هذه المطالب المجحفة، والتي عارضها الباب العالي معارضة شديدة، رغبتها في تحرير موارد الدولة من النفوذ الفرنسي، وعبثا حاول السفير الإنجليزي إقناع الأتراك بقبولها أو إقناع زميله الروسي في أول الأمر بتخفيفها، وكان رأي الباب العالي أن إدخال جنود أجنبية إلى الولايات الدانوبية سوف يحفز الولاة في سائر ولايات الدولة إلى الثورة، وقبل «ديتالنسكي» إخراج هذه المسألة من مواد المعاهدة السرية، ونصح لحكومته بالإغضاء عنها وسحبها، ولكنه تمسك من ناحية أخرى بالمادة المتعلقة بتدخل روسيا في شئون اليونانيين أتباع الكنيسة الأرثوذكسية للمحافظة على مصالحهم، أو على الأصح لبسط حمايتها عليهم، فلما رفض الباب العالي ذلك صمم الروس على قطع المفاوضة، ولم يمنع «ديتالنسكي» من إرسال مذكرة تهديدية للباب العالي سوى توسط السفير الإنجليزي (سبتمبر 1805)، ثم سرعان ما جاءت تعليمات الحكومة الروسية إلى مبعوثها لا بالموافقة فحسب على سحب شرط إدخال جنود أجانب في أملاك الدولة العثمانية وغيره من شروط المواد السرية التي يعارضها الباب العالي، بل وتطلب إليه إزالة كل ما قد يعترض إبرام معاهدة التحالف من عقبات فورا ودون أي إمهال لتوقع قيام الحرب قريبا بين روسيا وفرنسا؛ وعلى ذلك، فقد أبرمت معاهدة التحالف بين تركيا وروسيا في 24 سبتمبر 1805 كما وقعت المواد السرية في اليوم نفسه، ولكن دون أن يكون من ضمنها المادتان اللتان عارضتهما تركيا، واللتان بعث السلطان سليم بشأنهما كتابا إلى القيصر، أوضح فيه تناقض مطلبي إدخال الجند الأجانب في ولايات الدولة وبسط حماية روسيا على رعاياها مع قوانين الدولة العثمانية وطبيعة حكومتها.
وكان لهذا النجاح الذي أدركته تركيا أثره على المفاوضة التي جرت بينها من ناحية أخرى وبين إنجلترة لتجديد المحالفة بين الدولتين. وكانت الحكومة الإنجليزية ترى في حالة قبول تركيا لمطلب روسيا الخاص باحتلال الولايتين الدانوبيتين أن تسمح لها هي الأخرى بإرسال حامية لاحتلال الإسكندرية. حقيقة لم تكن هذه الحكومة مستعدة في هذه اللحظة لإرسال جند إلى مصر، ولكن موافقة الباب العالي سلفا على هذا الإجراء سوف يكون لها شأن عظيم إذا حدث في أثناء الحرب أنه صار لا معدى عن اتخاذه، وأما إذا تمسك الباب العالي بمعارضته لمطالب روسيا ولمثل هذا الطلب فخليق بالسفير أن يسلك مسلك الحكمة حينئذ، خاصة وأن حكومته كانت ترى من المستحسن تأجيل احتلال أية أراض تركية سواء جاء هذا الاحتلال من جانب الروس أم الإنجليز، وذلك حتى يحين الوقت الذي يبدو فيه هذا الاحتلال أمرا ضروريا؛ وعلى ذلك، فإن مما يكفيها في الوقت الحاضر أن تحصل من الباب العالي على موافقته على المبدأ فحسب، وكانت الحكومة الإنجليزية قد احتاطت للأمر فأصدرت تعليماتها منذ 29 مارس 1805 إلى قائد قواتها بالبحر الأبيض «السير جيمس كريج»
Craig
تلفت نظره إلى أنه قد يحدث ما يدعو إلى الاعتقاد بأن فرنسا تنتوي غزو مصر، وأن احتلال الإسكندرية يصبح عندئذ أمرا لا ندحة عنه. وفي 25 أكتوبر وصلت «أربثنوت» سلطات تفوضه التوقيع على المعاهدة مع تركيا، ولكن سرعان ما قامت العقبات الكثيرة تحول دون إبرامها.
فقد استعادت السياسة الفرنسية نشاطها في القسطنطينية بعد فترة طويلة من الركود سارت في أثنائها المفاوضات لعقد المعاهدة التركية الروسية دون أية عراقيل من جانب ممثلي فرنسا بالقسطنطينية، حتى إذا بادر «تاليران» الآن بالكتابة في 25 أغسطس إلى «روفان» الذي حل محل «باراندييه» في القيام بأعمال السفارة الفرنسية بعد استدعاء الأخير منذ أواخر يوليو، يطلب إلى «روفان» تحذير الباب العالي من عقد هذه المعاهدة المنتظر أن يسيء إبرامها إلى العلاقات بين فرنسا وتركيا، كانت المعاهدة عند وصول هذه التعليمات إلى «روفان» قد أبرمت، ووعد الباب العالي بالتسويف والمماطلة لتجنب التصديق عليها.
وتضافرت أسباب عدة لتبدل موقف الباب العالي؛ فقد خشي أن يكون الغرض من وصول القوات البريطانية بقيادة «جيمس كريج» إلى البحر الأبيض إعداد حملة في مالطة لغزو مصر، ثم ما لبثت أن وردت الأخبار معلنة انتصار نابليون على النمسا في «أولم»
Ulm
في 20 أكتوبر ثم في «أوسترليتز»
Austrlitz
في 2 ديسمبر، وقد وصف «روفان» الأثر الذي أحدثه هذا الانتصار الأخير في الديوان العثماني، فقال: «إن شمس «أوسترليتز» قد بددت سحب الطرف الآخر وشتتتها.» وكان «نلسن» قد أحرز نصرا باهرا في هذه المعركة البحرية على أسطولي فرنسا وإسبانيا مجتمعين في 21 أكتوبر من العام نفسه، ودفع حياته ثمنا لهذا المجد الذي ناله، ثم ارتفع شأن فرنسا عندما أرغمت النمسا على عقد صلح «برسبورج»
في 26 ديسمبر فاعترفت بمملكة إيطاليا التي كان نابليون قد أنشأها، بل وتنازلت عن البندقية ودلماشيا وأوستريا كي تضم جميعها إلى هذه المملكة. وكان من أثر كل هذه الحوادث، وبخاصة هزيمة النمسا في «أوسترليتز» أن صار لزاما على روسيا دعوة جندها للتأهب والاستعداد عندما توقعت أن يبادر نابليون بتسديد ضربة قاتلة إلى بولندة وأن يشرع في الزحف عليها لفتحها، ففقدت الكثير من احترامها السابق في أعين الوزراء العثمانيين، زد على ذلك أن «تاليران» لم يلبث أن كتب إلى الريس أفندي غداة صلح «برسبورج» أن تنازل النمسا عن الأراضي التي ضمت إلى مملكة إيطاليا من شأنه أن يجعل (لحسن الحظ) إمبراطور الفرنسيين قريبا من أملاك الباب العالي، ويؤدي - كما قال - إلى تحقيق رغبة الإمبراطور في توطيد صلات المحبة مع السلطان العثماني، ودعم العلاقات بين أملاكه وأملاك الدولة العثمانية، وسهل على «روفان» في هذه الظروف أن يحصل من الباب العالي على الاعتراف المطلوب بلقب نابليون إمبراطورا على الفرنسيين في أول فبراير 1806، ونصح «أربثنوت» لحكومته بأنه لا سبيل لإرغام الأتراك على احترام عهودهم مع روسيا وتجديد محالفتهم مع إنجلترة إلا بإثارة الخوف في نفوسهم من أن تعمد الجيوش الروسية إلى مهاجمة الدولة والدخول في أراضيها، يؤازرها في عملياتها العسكرية أسطول إنجليزي، وطلب مجيء أسطول إلى مياه القسطنطينية، وإنذار الأتراك بأن تجاهلهم لروسيا ومضيهم في الغض من كرامتها سوف تعده إنجلترة عملا عدوانيا موجها ضدها، وتدخل المبعوث الروسي لدى الديوان العثماني حتى يعقد الباب العالي المعاهدة مع إنجلترة، ويظهر رغبته - عملا بروح المعاهدة الروسية العثمانية - في دفع ذلك الهجوم الذي توقع الروس أن يأتيهم من جانب فرنسا.
ولكن الباب العالي وقد نفض عنه ثوب المذلة والمسكنة، وتحرر بفضل انتصارات نابليون على خصومه من الخضوع لروسيا وحلفائها الإنجليز، لم يعر احتجاجات «ديتالنسكي» وزميله «أربثنوت» أي التفات، ونشطت استعداداته العسكرية، وتذرع بشتى الوسائل للتخلص من إبرام المعاهدة مع الإنجليز، وقرر عدم تجديد محالفته معهم حتى يستقر السلام العام، ويتم الصلح بين فرنسا وإنجلترة الدولة التي صارت بمفردها الآن في عداء مع الإمبراطور، فيتسنى عندئذ للباب العالي الدخول في ارتباطات جديدة مع إنجلترة دون خطر عليه منها، ونفى أن استعداداته العسكرية موجهة ضد روسيا، كما أكد رغبته في الإبقاء على علاقات المودة والصفاء مع إنجلترة، وكتب السلطان إلى القيصر بسبب إلحاح السفير الإنجليزي، حتى يبدد الشكوك التي ساورت روسيا من ناحية استعدادات العثمانيين العسكرية.
وكان من الواضح أن ما فعله الباب العالي لم يقصد به سوى التمويه وكسب الوقت، وأن نفوذ روسيا في القسطنطينية قد وصل إلى الحضيض، وأن الباب العالي في الظروف القائمة لن يجدد المحالفة مع إنجلترة، ووجدت روسيا على وجه الخصوص أن اعترافه باللقب الإمبراطوري لنابليون ثم امتناعه عن إبرام المحالفة مع إنجلترة علاوة على استعداداته العسكرية على الحدود الروسية التركية، كل أولئك براهين ساطعة على سوء نواياه، وتقتضي عملا حاسما من جانبها، وهددت في أبريل 1806 باجتياز جيوشها للحدود العثمانية، ولكن دون طائل، بل إن تركيا ما لبثت أن عارضت في مرور جند من الروس أرادت روسيا إرسالهم بحرا بطريق البوغازات إلى جزر الأيونيان، ثم ألغت بجرة قلم واحدة كل ما كان يتمتع به الرعايا الروس من امتيازات في الإمبراطورية العثمانية من عهد بعيد، وتوسط «أربثنوت» في منع الأتراك من اتخاذ أي إجراء يثير غضب روسيا، واستمع الأتراك لوساطته عندما هدد السفير بأن الحرب بين روسيا وتركيا سوف يتبعها حتما إغارة الأسطول الإنجليزي الرابض في البحر الأبيض على أملاك تركيا المطلة عليه، ومع ذلك فقد ظل الباب العالي حتى شهر يوليو يرفض مرور الجند الروس من البوغازات إلى «كورفو».
وزاد تمسك الباب العالي بموقفه عندما وصل السفير الفرنسي الجديد «سباستياني» - صاحب البعثة المعروفة إلى تركيا ومصر قبل ذلك بأربع سنوات - إلى القسطنطينية في 10 أغسطس 1806، فاستقبله الباب العالي بحفاوة بالغة، وأذاع «سباستياني» أن غرض حكومته حماية الباب العالي من مؤامرات أعدائه، وإقناعه باتخاذ قرار حاسم من أجل الوقوف إلى جانب فرنسا ضد أعدائها وأعدائه، الروس والإنجليز، ثم أذاع أن دولته قد أنزلت الهزيمة بالروس أمام «راجوزا»
Ragusa
عند طرف دلماشيا الجنوبي، ثم عظمت مهانة روسيا عندما عرف في القسطنطينية في 16 أغسطس خبر إبرام روسيا على يد مبعوثها «أوبريل»
Oubril
صلحا منفردا مع فرنسا في باريس (في 20 يوليو)، من بين شروطه ضمان روسيا وفرنسا استقلال وكيان الإمبراطورية العثمانية، وذلك إلى جانب ترتيبات أخرى تستهدف عزلة إنجلترة وتوطيد أقدام فرنسا في إيطاليا، فكان رضوخ روسيا لهذه الشروط اعترافا منها بتفوق الإمبراطور الفرنسي، وأمعن «سباستياني» في إظهار زرايته بها واتخاذ توقيعها على هذه المعاهدة دليلا على مبلغ مهانتها، وصار يحض الباب العالي على التحرر من نفوذ روسيا وسلطانها عليه، وانتهز الأتراك الفرصة، فأصدروا قرارا في 24 أغسطس بعزل حاكمي البغدان والأفلاق دون مشاورة روسيا خرقا لما هو متفق عليه بين روسيا وتركيا بشأن تنصيب حاكمي هاتين الولايتين الدانوبيتين حسب تنظيم 1802، وكان هذان الحاكمان «موروسي»
Mourousi
في البغدان و«أبسلانتي»
Ipsilanti
في الأفلاق معروفين بميولهما الظاهرة نحو روسيا، وحذر «أربثنوت» حكومته إذا هي لم تعمل على المحافظة على هيبتها الآن وقبل فوات الوقت، فسوف تجد نفسها ملزمة باستخدام وسائل العنف والشدة لإعادة الأمور إلى نصابها، وأما روسيا فقد أبلغت مبعوثها أن «أوبريل» قد جاوز تعليماته، ولم يكن مخولا عقد الصلح مع فرنسا، وطلب «ديتالنسكي» من الباب العالي إرجاء ذهاب الحاكمين الجديدين إلى منصبهما حتى يتضح موقف حكومته من هذه المسألة ، واشترك «أربثنوت» معه في ذلك، ولكن دون طائل.
فقد كان واضحا أن الباب العالي ماض في سبيله ولا يأبه لأقوالهما واحتجاجاتهما، وقدم «سباستياني» بدوره مذكرة في 16 سبتمبر تحدث فيها عن إصرار الإمبراطور نابليون على ضرورة غلق البوغازات في وجه السفن الحربية الروسية واعتباره فتحها لمرور الروس عملا عدوانيا ضد فرنسا، كما يعتبر الإمبراطور استمرار محالفة الأتراك للروس أو تجديد معاهدتهم مع الإنجليز خرقا صريحا للحياد ومساعدة من جانب الباب العالي لهؤلاء في الحرب القائمة ضد فرنسا، وهدد الإمبراطور باضطراره إذا أهملت تركيا مطالبه أن يتخذ ما يراه متفقا مع ما تقتضيه رعاية مصالحه والمحافظة على هيبته، فكان بفضل هذا التهديد أن وجد الباب العالي مستندا جديدا يؤيده في رفضه مرور الروس من البوغازات، وطلب «أربثنوت» من حكومته إرسال أسطول صغير إلى مياه القسطنطينية، لتعزيز موقفه وموقف زميله، وهدد «ديتالنسكي» بطلب جواز سفره ومغادرة القسطنطينية إذا لم يعد الحاكمان إلى منصبهما دون إمهال، وهدد «أربثنوت» بدخول إنجلترة الحرب ضد تركيا إذا وجدت روسيا نفسها مرغمة بسبب موقف الأتراك على محاربتهم. ثم جاءت الأخبار من فينا تنبئ بتوقع عقد محالفة جديدة ضد فرنسا من بروسيا والسويد والدانمرك، ومن المحتمل كذلك النمسا إلى جانب إنجلترة وروسيا. وأمام هذه التهديدات وبسبب هذه الأخبار التي بعث بها السفير الإنجليزي لدى النمسا، السير «روبرت آدير»
Robert Adair
أعلن الباب العالي في 13، 15 أكتوبر موافقته على إعادة حاكمي البغدان والأفلاق المعزولين إلى منصبيهما، وكتب «ديتالنسكي» إلى حكومته في 18 أكتوبر يبلغها نبأ ذلك.
فحقق هذا التراجع من جانب الباب العالي هزيمة «سباستياني»، وصرح السلطان أنه يفضل رؤية الحرب يستعر أوارها في البوسنة (على حدود دلماشيا التي يمتلكها الفرنسيون) على نشوبها تحت أسوار قصره؛ أي في مياه القسطنطينية، وأرشى «ديتالنسكي» «وأربثنوت» وزير الخارجية غالب أفندي في صورة هدايا ثمينة، ولكن هذا الفوز لم يستمر طويلا؛ ذلك أن استنجاد السفير الإنجليزي بحكومته وطلبه منها إرسال أسطول صغير إلى مياه القسطنطينية، لم يلبث أن لقي آذانا مصغية، فبعث أمير البحر الإنجليزي «كولنجوود»
Collingwood
قسما من الأسطول بقيادة «السير توماس لويس»
Thomas Louis
إلى المياه العثمانية، فوصل لويس بقطع أسطوله إلى مالطة أولا في 8 نوفمبر 1806، ومع أنه علم بنجاح مساعي السفير الإنجليزي والمبعوث الروسي فقد قرر المضي في مهمته، ووصل إلى «تينيدوس » في 21 نوفمبر، وفي اليوم نفسه ألقت إحدى قطع أسطوله مراسيها أمام القسطنطينية، فكانت هذه الخطوة الوسيلة التي تذرع بها السفير الفرنسي ليحرك السماء والأرض من أجل تحويل الباب العالي عن عزمه، وجذبه ثانية لتأييد المصالح الفرنسية، فقابل الريس أفندي في اليوم التالي، وأعلن إليه خبر الانتصارات التي أحرزها نابليون أخيرا، وأهمها دخوله برلين في 25 أكتوبر، وزحفه صوب بولندة للاشتباك مع الجيش الروسي، وكرر مطالب الإمبراطور من تركيا، وهي تمزيق معاهدة التحالف مع روسيا، وإغلاق البوغازات، وتجنيد جيش عثماني كبير، وتسليح كل السفن الصالحة للعمل، وأبلغ «سباستياني» الريس أفندي - الذي خشي أن يفضي حرمان الروس من حق مرور سفنهم الحربية من البوغازات إلى إعلانهم الحرب ضد تركيا - أن في وسعه أن يعزو ذلك الإجراء إلى ضغط فرنسا الشديد عليه. ولما كانت الجيوش الفرنسية منتصرة في كل مكان ذهبت إليه، فقد خشي الباب العالي مغبة المقاومة، وقرر المفاوضة من أجل عقد محالفة مع فرنسا، وإصلاح قلاع البسفور والدردنيل، وتأليف جيشين كبيرين أحدهما في «صوفيا» لإخضاع الصرب، والآخر في «إسماعيل» على أحد فروع مصابات الطونة في بسارابيا لمقاومة الروس إذا حاولوا عبور نهر «دنيستر».
ثم أتيحت الفرصة لجذب الباب العالي نهائيا إلى جانب فرنسا عندما تسرعت روسيا فأصدرت أمرها لجيشها الرابض على حدود البغدان
Moldavia
باجتياز الحدود في 28 أكتوبر، وذلك بعد أن استبطأت رد مبعوثها عن نتيجة تهديداته للباب العالي، وهي التهديدات التي كانت قد أسفرت - كما رأينا - عن موافقة تركيا على إعادة حاكمي البغدان والأفلاق إلى منصبيهما، فلم يصل كتاب «ديتالنسكي» إلى بطرسبرج إلا يوم 4 نوفمبر، ومع ذلك فقد اعتبرت حكومته ما جاء في كتابه موجزا إلى حد الاقتضاب، ولا يسوغ تراجعها، كما اعتبرت تفصيلات أخرى بعث بها «ديتالنسكي» إليها في 28 أكتوبر قاصرة عن الغرض، وعادت تصر على ضرورة استصدار إعلان رسمي من الباب العالي يؤكد فيه عدم تعطيل حق الروس في المرور من البوغازات، كما أصرت على ضرورة مبادرة الباب العالي بتجديد معاهدة تحالفه مع إنجلترة حتى يتحرر من سلطان فرنسا عليه واستبدادها به؛ وعلى ذلك فقد استمر «ميشلسون»
Michelson
قائد الجيش الروسي في توغله في البغدان واحتل «ياسي»
Jassy
وغيرها من المدن الهامة. وفي 14 ديسمبر قابل «سباستياني» السلطان سليم وسلمه كتابا من نابليون يعده بشد أزره، ويقطع على نفسه عهدا بعدم عقد السلام إلا إذا أعيدت إلى السلطان العثماني الولايتان الدانوبيتان، ونصب عليهما الحاكمان اللذان اختارهما الباب العالي، فعقد الوزراء العثمانيون مؤتمرا شهده «سباستياني» لبحث الموقف، وفي هذا المؤتمر تقرر إعلان الحرب على روسيا، وقد أعلنت هذه رسميا في 27 ديسمبر 1806، وكان «ديتالنسكي» قد انتقل قبل ذلك إلى إحدى السفن الإنجليزية من أسطول الأميرال لويس، وفي 28 ديسمبر غادر الأميرال الإنجليزي مياه القسطنطينية ليجمع سائر قطع أسطوله الموزعة بين الدردنيل والبسفور استعدادا للطوارئ، بينما أبحر «ديتالنسكي» إلى مالطة.
وبذل «سباستياني» كل ما وسعه من جهد وحيلة لإقصاء غريمه الآخر «أربثنوت» من القسطنطينية، وتزايدت حروجة مركز «أربثنوت» تبعا لازدياد نشاط «سباستياني»، وفي 13 يناير 1807 طلب الريس أفندي من السفير الإنجليزي إبعاد الأسطول عن مدخل الدردنيل، وجعل مرساه عند «تينيدوس» ثم أبلغ بعد ثلاثة أيام الحكومات المختلفة عزمه على إغلاق البوغازات، وما إن وصلت «أربثنوت» تعليمات حكومته المؤرخة في 14 نوفمبر من العام السابق حتى طلب الاجتماع بالوزراء العثمانيين في 25 يناير يبلغهم فحواها، وهي تخيير الباب العالي بين تجديد محالفته مع إنجلترة وروسيا وعودة الأمور إلى سابق عهدها، وطرد السفير الفرنسي «سباستياني»، وبين قطع العلاقات بين إنجلترة وتركيا، وهدد «أربثنوت» الوزراء العثمانيين حتى يبرهن لهم على صدق عزيمة حكومته بأن أسطولا إنجليزيا سوف يحضر قريبا للعمل مع الأسطول الرابض عند «تينيدوس»، ولاقتحام البوغازات بالاتحاد مع الأسطول الروسي، ولكن دون طائل. ولما كانت تعليمات السفير الإنجليزي قد ذكرت: حيث إنه من المحتمل في الظروف القائمة قطع العلاقات بين إنجلترة وتركيا فقد صار عليه أن يتخذ ما يراه من إجراءات أو وسائل تكفل سلامته وسلامة سفارته، فقد قرر «أربثنوت» مغادرة القسطنطينية وبخاصة بعد أن بلغه أن الحكومة العثمانية صارت تفكر في الاستيلاء على السفينة التي تركها «توماس لويس» لخدمته، بل والقبض عليه هو نفسه وسائر أفراد الجالية الإنجليزية كرهائن، فغادر العاصمة في 29 يناير وترك القائد العثماني عند الدردنيل سفينته تمر بسلام، وفي 31 يناير ألقت السفينة وكانت الفرقاطة «إنديميون»
Endymion
مراسيها إلى جانب سائر قطع الأسطول الواقف أمام الدردنيل، واعتقد «أربثنوت» أنه قد صار في وسعه الآن المفاوضة بحرية مع الباب العالي، والعودة قريبا إلى القسطنطينية من غير حاجة إلى استخدام وسائل العنف والشدة، ولكن «أربثنوت» كان واهما فيما ذهب إليه؛ ذلك أن الحكومة الإنجليزية كانت قد أبلغت تعليماتها منذ 21 نوفمبر سنة 1806 إلى قائد قواتها البرية في صقلية الجنرال «فوكس»
Fox
تطلب منه التهيؤ لنقل جيش من خمسة آلاف جندي إلى مصر يكونون على قدم الاستعداد للقيام إليها فور صدور الأوامر لهم بذلك، ثم إلى الأميرال «كولنجوود» الواقف بأسطوله أمام «قادش»
Cadix
لإرسال قسم منه بقيادة السير «جون داكويرث» إلى مياه القسطنطينية لتأييد «أربثنوت» في مفاوضاته، ثم القيام بعمل عدواني ضد القسطنطينية إذا أخفقت هذه المفاوضات، وقد غادر أسطول «داكويرث» قادش منذ 15 يناير 1807 وقبل وصوله إلى «تينيدوس» في 10 فبراير كان قد علم بهرب السفير الإنجليزي من القسطنطينية، فبعث إلى الجنرال «فوكس» بهذا الخبر، فأصدر الأخير أمره بإبحار الحملة المعدة بقيادة «فريزر» إلى الإسكندرية، بينما اقتحم «داكويرث» الدردنيل في 19 فبراير في مظاهرة فاشلة؛ لأنه لم ير من الحكمة القيام بعمل عدواني ضد التحصينات التي كان قد أنجزها الأتراك، بينما استبدت بالسفير الإنجليزي نفسه الشكوك في رجاحة عقل الحلفاء الروس الذين سببوا بعدم حكمتهم هذا المأزق، وخشي «داكويرث» «وأربثنوت» أن يكون المقصود من قبول الأتراك لاستئناف المفاوضة مع السفير الإنجليزي مراوغة الإنجليز ونصب الفخاخ لأسطولهم حتى إذا كملت كل استعداداتهم أنزلوا به كارثة كبيرة، فقرر الاثنان عدم الانتظار، والانسحاب بمجرد أن تبدلت لهجة الأتراك معهما عند فراغهم من استعداداتهم، فطلبوا بعزم خروج الأسطول من مياههم، فعاد الأسطول أدراجه في أول مارس ميمما شطر الدردنيل، وقابلته قلاع الدردنيل بإطلاق مدافعها عليه، ففقد مركبين من نوع القرويت وستمائة قتيل، وكان بعد هذه الحوادث بخمسة أيام فحسب أن أقلعت حملة الجنرال «فريزر» من «مسينا»، وهي الحملة التي لو قدر لها النجاح لقضت على حكومة محمد علي.
ذلك إذا كان تطور الموقف الدولي الذي أسفر في مراحله الأخيرة عن إرسال حملة «فريزر» إلى مصر لاحتلال الإسكندرية، وكان لهذه الحوادث أكبر الأثر على ما وقع من حوادث كذلك في مصر؛ فانشغال الباب العالي بهذا الصراع الدائر في القسطنطينية لتنازع النفوذ بين فرنسا من جانب وبين إنجلترة وروسيا من جانب آخر قد أعجزه عن معالجة الموقف في مصر وبسط سيطرته وسلطانه الفعلي عليها، فكان هذا الانشغال من العوامل التي جعلته رضخ للأمر الواقع فيقبل النزول عند إجماع القاهريين وتقليد محمد علي منصب الولاية على كره منه، كما أنه كان كذلك من الأسباب التي جعلته يعفو عن البكوات بعد قتلهم علي الجزائرلي واستيلائهم على حكومة القاهرة، عندما تم الاتفاق بينه وبين مندوبي الألفي بالقسطنطينية على إرجاع سيطرة البكوات القديمة إليهم، وإصدار أمره بنقل محمد علي إلى ولاية سالونيك، ثم جعله اشتداد الأزمة يرضخ مرة ثانية لمشيئة محمد علي الذي رفض تلبية أوامر السلطان (1806).
ومثلما استعان محمد علي بالمشايخ ورؤساء القاهريين في تذليل القدر الكبير من الصعوبات التي صادفته في الشهور التي تلت المناداة بولايته، فقد اعتمد على مؤازرتهم في اجتياز أزمة النقل هذه بسلام، سواء في استكتابهم العرائض للباب العالي وللقبطان باشا أم في إبطال نشاط البكوات أم في معاونته على جمع المال اللازم لدفع مرتبات الجند.
وقد زاد من خطورة هذه الأزمة الأخيرة أنه كان على الباشا مصارعة خصمين عنيدين؛ أحدهما الألفي أعظم البكوات نشاطا وأكثرهم تمرسا في فنون السياسة، كما كان يتسع أفق تفكير البكوات لإدراك أسرارها وفهم مكنونها، والآخر الوكيل الإنجليزي «مسيت» عدو محمد علي اللدود والمراوغ المداهن والرجل الذي رأى في وجود محمد علي في الحكم مبعث كل النكبات التي حلت بمصر، ومصدر الفوضى المنتشرة في أرجائها، والذي اعتقد أنه طالما عجزت حكومته الإنجليزية عن إرجاع البكوات إلى الحكم وإقصاء محمد علي عنه فسوف تظل البلاد ضعيفة وعاجزة عن دفع أي عدوان خارجي عليها، ولا مندوحة لذلك من أن يحتل جند بريطانيون الإسكندرية، بل والبلاد بأسرها عند الضرورة، لتأمين سلامة مصر - كما قال - وحتى يتسنى منع الفرنسيين من غزوها.
ولقد كان من المتوقع ألا يلقى محمد علي أية معونة من فرنسا ومن ممثليها في مصر بسبب سياستها السلبية التي سبق توضيحها، وبسبب اعتقاد حكومتها أن في وسعها الاعتماد على طائفة البكوات المناصرين لها بزعامة البرديسي لتعزيز مصالحها، ولكن تبديلا حاسما ما لبث أن طرأ على هذه السياسة، فاستحالت إلى سياسة إيجابية عملت على مؤازرة محمد علي وتأييد حكومته، ولم تكن الحكومة الفرنسية ذاتها هي صاحبة الفضل في هذا التحول الذي حدث، وإنما كان صاحبه ممثلها في مصر «برناردينو دروفتي» الذي خشي من استفحال أمر الألفي صنيعة الإنجليز، وخشي من انهيار النفوذ الفرنسي انهيارا تاما وضياع مصالح فرنسا إذا تسنى للألفي تأسيس حكومته في مصر بمعاونة الإنجليز، فطفق يسعى بكل ما وسعه من جهد وحيلة لإحباط مشروعات الألفي والإنجليز ومناصرة حكومة محمد علي وتأييدها، ثم كان ل «دروفتي» نصيب كبير في كل ما بدا من نشاط لهزيمة حملة «فريزر» عند مجيئها.
ولا جدال في أن حكومة محمد علي ظلت في أثناء ذلك كله معرضة لأخطار جسيمة، بل لقد صادفت هذه الحكومة أزمات كادت تزلزل كيانها وتقضي عليها، وكان آخر هذه الأزمات حملة «فريزر» على مصر، فكانت الفترة من وقت المناداة بولايته في مايو 1805 إلى وقت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في 19 سبتمبر 1807 فترة اختبار وتجربة، عجمت الحوادث في أثنائها عود محمد علي، وتأرجحت ولايته، وارتهن بقاؤها بقدرته على تذليل الصعوبات التي اعترضته أو عجزه عن تداركها وجرفها لحكومته، ولقد كان امتحانا قاسيا اجتازه محمد علي بنجاح، فأقام الحجة على أنه رجل دولة وسياسة، في وسعه إرساء قواعد الحكم على أسس قوية ثابتة ودعم أركان الولاية، الأمر الذي اختصه بعنايته في نشاط ومثابرة في السنوات الثلاث التالية (1807-1811).
الفصل الأول
الكفاح من أجل البقاء
تمهيد: الموقف بعد المناداة بالولاية
أزاح إقلاع القبطان باشا من الإسكندرية في أكتوبر 1805 حملا ثقيلا عن صدر محمد علي، عندما كان وجوده يهدد بتألب أعداء الباشا عليه في اتحاد عام، يسبغ عليه تزعم القبطان باشا - وهو ممثل السلطان العثماني صاحب السيادة على هذه البلاد - الصبغة الشرعية التي تزيده قوة وتوثقا، فآذن استبعاد هذا العامل من الميدان، وتثبيت محمد علي في ولايته بانحصار التنازع على السلطة في الفترة التالية مباشرة بين باشا القاهرة وبين البكوات المماليك، وكان نزاعا مريرا؛ لأن محمد علي كان قد صح عزمه منذ أن دان له الحكم في مايو على الاستقرار في ولايته وعدم مبارحة البلاد، فبعث في طلب ولديه إبراهيم وطوسون، ووصل هذان إلى بولاق في 27 أغسطس 1805، وأصعد الباشا ابنه الأكبر إبراهيم إلى القلعة في اليوم التالي، وأجلسه بها، ثم لم يلبث أن توافد عليه مواطنوه يطلبون خدمته والعمل معه وتحت لوائه، وعهد إليهم الباشا بشتى الأعمال. وكان المماليك من ناحيتهم لا يقلون إصرارا عنه على المضي في جهودهم من أجل انتزاع حكومة القاهرة منه، واسترجاع سلطانهم المفقود في بلاد عدوها ملكا خالصا لهم يقتسمون أرزاقها فيما بينهم، ولا يسمحون لطوائف الأجناد من أرنئود ودلاتية وغيرهم ممن اعتبروهم غرباء عنها بأن يشاركوهم في استغلالها. ولقد استمر المماليك مصدر أشد الأخطار التي تعرضت لها حكومة محمد علي لا في هذه الفترة فحسب، بل وطوال المدة التي احتفظوا فيما بمظاهر شوكتهم قبل أن يقضي عليهم القضاء المبرم في مذبحة القلعة المعروفة.
لقد تضافرت عوامل عدة على إضعاف البكوات المماليك، كان أهمها نقص قوة فرسانهم عدتهم الكبرى في الحروب، ووهن العلاقة التي ربطت بين «الأساتذة» و«الأتباع»، والأولون هم البكوات، منهم الحكام الصناجق (أو السناجق، جمع سنجق وهو البيرق شارة الإمارة والبكوية)، والآخرون هم المماليك الذين اختص كل واحد من الأساتذة، أو السادة الأمراء بعدد معين منهم، وقد عمد هؤلاء البكوات، أو الأمراء إلى الاستكثار من مماليكهم؛ بشرائهم الرقيق من أسوان في جورجيا والقفقاز خصوصا، ولا يلبثون أن يرفعوا من شاءوا منهم عند اكتمال رجولتهم إلى رتبة البكوية والإمارة ، ثم وهن العلاقة بين هؤلاء المماليك الذين أمرهم أساتذتهم وأسيادهم فصاروا «خشداشين» متساوين في الحقوق والتبعات، يربط بينهم الولاء لأستاذهم الأكبر سيد البيت الذي ينتمون إليه، ويسود وجوبا الوئام والاتحاد بينهم بحكم هذه الصلة، حتى إذا خرج أحدهم على ما جرى به العرف عد ذلك إثما عظيما. وكان بيت السيد أو الأستاذ بمثابة المدرسة التي يتعلم فيها مماليكه الفروسية وفنون القتال، ويتدربون على الشجاعة والبسالة، ويلقنون المبادئ الأخلاقية التي أقرها النظام المملوكي، وأهمها طاعة التابع لأستاذه، والولاء له حتى يسترشدوا بها في حياتهم الخاصة والعامة على سنن يحفظ لطبقتهم المنعزلة في نظامها عن سائر طوائف وطبقات المجتمع تكتلها وكيانها.
وكان عدد البكوات أو الصناجق في العهد العثماني الأول أربعا وعشرين، ثم أخذ ينخفض تارة ويرتفع أخرى ليصل إلى هذا الرقم، حتى إذا كان عهد الحملة الفرنسية نقص عدد البكوات، فلم يزيدوا عند خروج الفرنسيين من مصر على الاثني عشر «بك»، ثم نقص عدد مماليكهم، من الثمانية آلاف أو الاثني عشر ألفا على أقصى تقدير إلى حوالي الألف أو الألف والخمسمائة فارس أو مملوك وبخاصة عندما أفقدهم النضال والتطاحن المستمر من أجل الاستحواذ على السلطة في القاهرة بعد الحملة الفرنسية الكثير من أعدادهم، وتعذر على البكوات أن يسدوا هذه الثغرة التي حدثت في صفوف مماليكهم؛ لأن الباب العالي لم يلبث أن بادر - عقب دخول البلاد مرة أخرى في حوزته - بإصدار الأوامر المشددة بوضع العراقيل في أسواق الرقيق التي يجلب منها البكوات مماليكهم وإيصادها دونهم، حتى صار هؤلاء يشكون من هذا الإجراء شكوى مرة، ويحاولون الاستعاضة عن المماليك الرقيق بمن صار ينضم إلى صفوفهم من العرب البدو واليونانيين والأتراك، ولم يكن الدافع لالتحاق هؤلاء بخدمة البكوات سوى استمرائهم لحياة السلب والنهب التي صار يعيشها البكوات أنفسهم في تنقلهم من إقليم إلى آخر منذ أن حرموا نعمة الاستقرار في الحكم التي تمتعوا بها قبل مجيء الفرنسيين من ناحية والتي فقدوها نهائيا منذ أن طردت حكومتهم من القاهرة على يد محمد علي، فلم يفدهم انضمام العرب واليونانيين والأتراك إليهم سوى رفع قوتهم العددية، بل أضعف من ناحية أخرى قوتهم المعنوية، أو بالأحرى زاد من إضعافها ووهنها، وذلك أن الانحلال الذي أخذ يدب في صفوف المماليك كان انحلالا عاما شاملا.
فالمماليك عند بدء النضال بينهم وبين محمد علي - وقد كان نضال بقاء أو فناء بالنسبة لهم - كانوا قد فقدوا تلك الميزات الأولى التي حفظت لهم كيانهم في الماضي، فلم يعودوا أولئك المحاربين الشجعان المتمسكين بولائهم لأسيادهم حتى الموت، بل انصرفوا إلى التمتع بلذائذ الحياة وانغمسوا فيها انغماسا فانهمكوا في الشراب إلى حد السكر والعربدة، ولم يعفوا عن ارتكاب كل إثم وموبقة، وأنهكت هذه المفاسد قواهم الجثمانية والذهنية، وانعدم النظام وسادت الفوضى في صفوفهم، ونبذ الصغير طاعة الكبير، وفرقتهم عوامل الغيرة والحسد والكراهية والمنافسة الشديدة، وصارت الإمارة، أو البكوية مطمح كل فرد منهم في وسعه أن يجمع حوله نفرا من زملائه المماليك، فيتآمر عليهم، وينشط لخدمة مآربه الشخصية دون نظر إلى صالح طائفته، واندثرت مدرسة البيت القديمة، وبدلا من أن يتآمر اثنا عشر من البكوات، بلغ عدد المتآمرين منهم في بداية عام 1806 حوالي الخمسين يعمل كل منهم في دائرته مستقلا عن الآخر، وذلك عدا فصائل كثيرة مبعثرة هنا وهناك تكاد تعيش منعزلة إحداها عن الأخرى وعن سائر جماعات المماليك، فانقسموا شيعا وأحزابا يعادي بعضها بعضا، وعجزوا عن تدبير شئونهم في الأقاليم التي بقيت في حوزتهم، فلم ينشئوا نظاما للحكم والإدارة يكفل لهم حياة مستقرة تستند في تغذيتها على موارد ثابتة تعينهم على النضال في عزم ومثابرة، بل آثروا حياة التجول والإغارة على القرى لسلب الأهلين ونهبهم، ولقد وصف «دروفتي» في إحدى رسائله إلى حكومته في 16 أكتوبر سنة 1805 مبلغ الانحطاط الذي وصلوا إليه فقال: «إن المماليك لم يعودوا أولئك المحاربين الشجعان المعروفين بإخلاصهم وولائهم لأسيادهم حتى الموت، وغاب من بينهم النظام كما انعدمت الطاعة، وأما بيت البك الذي كان في الماضي مدرسة يتعلم فيها المماليك النظام العسكري والعادات والأخلاق القويمة فقد استحال اليوم إلى مباءة للفساد والانحطاط الخلقي ومكانا لنشر الفوضى وتعليم عدم النظام. لقد جعلتهم حياة التنقل وعدم الاستقرار والسلب والنهب التي يعيشونها كقطاع للطرق، متوحشين وأغبياء، بينما استل منهم حيويتهم ونشاطهم انكبابهم على الشراب وانغماسهم في سائر الرذائل والمعاصي، ثم إقبالهم على الحياة الرخوة الناعمة.»
وقد دل على هذا الانحلال الذي ألم بهم سوء تدبيرهم وانقسامهم الذي ضيع عليهم الاستفادة من عفو الباب العالي وصفحه عنهم في عام 1803، ثم جعلهم يفقدون حكومة القاهرة في العام التالي، ثم منعهم من الاستفادة من النضال الذي نشب بين خورشيد ومحمد علي بعد ذلك، وقد تقدم كيف عرف محمد علي أن يستغل خرق البرديسي وحسده للألفي فاستعداه عليه وهو «خشداشه»، وكان يجب أن تردع هذه الصلة البرديسي، ولكنه لم يأبه لها في سبيل إرضاء شهوة الرياسة، ففقد البرديسي بسبب ذلك قدرا كبيرا من احترام زملائه له، ثم جاء انخداعه بصداقة محمد علي الزائفة ضغثا على إبالة، وحمله حقده على الألفي بعد ذلك على تفويت فرصة أخرى ثمينة لاسترجاع حكومة القاهرة عندما صدر الأمر بتعيين محمد علي لولاية سالونيك ونقله من مصر في عام 1806 لو أنه رضي بالاتحاد مع الألفي، حتى إن إبراهيم الكبير (أو العجوز) صار ينعى على البرديسي سوء تدبيره، ويعده مسئولا عن كل الكوارث التي حلت بساحة المماليك. ولم يمنع إبراهيم بك عن التحرر من البرديسي وروحه الشريرة سوى ضعفه وإيثاره الهدوء والاستكانة على النشاط والمعارضة لتأصل المداراة والمسالمة في طبعه منذ أن تقلد مشيخة البلد بعد وفاة أستاذه محمد بك أبي الذهب في سنة 1775، ثم شاركه «خشداشه» مراد بك السلطة أميرا للحج، فاستحالت هذه المداراة والمسالمة استخذاء عندما تقدمت به السن، ولم يجد لديه من متانة الخلق ما يجعله قادرا على حزم أمره مع البرديسي أو تكدير صلته به أو قطعها، وبعد طرد حكومة البكوات من القاهرة اتخذ البرديسي وإبراهيم وعدد من الصناجق حولهما وممن كانوا أقل نفوذا منهما الصعيد مرتعا لهم، بينما اتخذ الألفي وأتباعه مركزهم بالوجه البحري، ولقد كان لدى الألفي وحده أكبر قوة عددية في وسع واحد من البكوات أن يجمعها حوله، فبلغ عدد مماليكه مع من انضم إليهم من بين اليونانيين والأتراك والمغاربة حوالي الألفين عدا بضعة آلاف من العرب البدو ويستخدمهم في تنفيذ مآربه وخططه الخاصة منفردا عن سائر زملائه ومستقلا بنفسه.
على أن هذا الانحلال الذي طرأ على الطائفة المملوكية، لم يذهب بريح المماليك كله، ولم يمنعهم من أن يستمروا خطرا يهدد حكومة محمد علي؛ وذلك لأن البكوات الصغار على الرغم من أنانيتهم وتنازعهم على الرياسة فيما بينهم كانوا يعترفون بتفوق وسيادة بعض كبار البكوات عليهم من بين الذين تقلدوا الإمارة من زمن قديم وارتفع ذكرهم، حتى إذا استعصى أي أمر عليهم أو مرت بهم أزمة طارئة أو ألم خطب يوجب العمل الجماعي، هرعوا يسألونهم الرأي والنصيحة أو التفوا حولهم، وكان هؤلاء البكوات المعترف لهم بالتفوق والسيادة خمسة: إبراهيم بك الكبير (أو العجوز) وعثمان بك البرديسي، ومحمد بك الألفي الكبير - تمييزا له عن الأمير بشتك بك الملقب بالألفي الصغير، مملوك الألفي الكبير، والذي أشركه إشراكا محدودا في حكومة القاهرة إبراهيم والبرديسي على نحو ما سبق ذكره في موضعه - ثم سليمان بك البواب المرادي وهو من الناقمين على البرديسي لسوء تدبيره، ثم عثمان بك حسن، ويبدو أنه كان أحصفهم رأيا، وصفه «مسيت» بأن لديه فهما وإدراكا للأمور، أكثر حكمة من زملائه، ولا يتدخل في خلافاتهم وانقساماتهم، بل يعمل في مثابرة على رعاية صالح المماليك عموما.
ولذلك فقد صار لزاما على محمد علي أن يحول بكل وسيلة دون اتفاق كلمتهم واتحاد صفوفهم، وكان في وسعه أن يفعل ذلك بسبب اختلافهم على وجه الخصوص بشأن النفوذ الأجنبي الذي صح عزمهم على الاعتماد عليه في وصولهم إلى الحكم والسلطان؛ فقد كفى أن يستند الألفي على مؤازرة الإنجليز حتى يمعن البرديسي في النفرة منه، ويقف اعتماده كله على الاستعانة بالفرنسيين وإمبراطورهم بونابرت العظيم، ولجأ محمد علي إلى توسيط المشايخ لإغراء طوائفهم على قبول الصلح والاتفاق معه اتفاقا ما كان يريده أن يتم إلا على أساس اعترافهم الواقعي بحكومته، وما كان يقصد منه إذا أبوا ذلك إلا شل حركتهم وإخماد نشاطهم حتى يستكمل عدته لمناجزتهم، ولقد كان من الواضح أنه لا ندحة عن قتالهم والقضاء عليهم إذا شاء أن يستقيم له الأمر وتتدعم أركان ولايته، لا لما كان في حوزتهم من أقاليم خارجة عن سلطان باشويته فحسب، بل ولأن الولاية أو الباشوية ذاتها كانت معرضة للضياع والإفلات من يده إذا تسنى للبكوات أن يظفروا بعفو آخر من الباب العالي على غرار ما حدث قبل ذلك بعامين.
فقد خبر محمد علي أساليب الديوان العثماني في أثناء الأزمات السابقة وآخرها أزمة المناداة بولايته هو نفسه، وعرف أن الباب العالي الذي أرغم إرغاما على التسليم بالأمر الواقع وقلده الولاية بعد أن انتزعها انتزاعا لن يرضى ببقائه طويلا في ولايته، ولن يمتنع عن تحين الفرص لإقصائه، ولو أفضى ذلك إلى مهادنته للبكوات، وإرجاعهم إلى سابق عهدهم من السلطة والنفوذ في ظل نظام يقوم على الأسس القديمة، وكما كان الحال قبل مجيء الفرنسيين في حملتهم المعروفة على البلاد. ولا يبعد على الباب العالي - حتى يتخلص من التدخل الإنجليزي الفرنسي في شئون إمبراطوريته في وقت كان البكوات لا يزالون يستنجدون بحلفائهم وحماتهم، ويلحون في توسيطهم لديه أن يسرع إلى المبادرة بالعمل والسعي بنفسه للوصول إلى اتفاق معهم. على أن الخلاص من خطر المماليك والتهيؤ لدرء ما قد يجد من أخطار من ناحية الباب العالي كانا يقتضيان وجود قوة عسكرية كبيرة تشد أزر محمد علي، ويكون في وسعه الاعتماد على ولائها له، ومع ما بذله الباشا من جهود مضنية لاستبقاء ولاء الجند له من جهة، وإلزامهم اتباع جادة النظام والطاعة من جهة أخرى، فقد ظل يشكو طوال هذه الفترة العصيبة من ولايته من افتقاره إلى العنصر العسكري الذي يبعث في النفس الثقة والاطمئنان إلى إدراك الانتصار في المعارك، فكان نجاحا يدعو إلى الإعجاب حقا ذلك الذي أحرزه الباشا عندما عرف كيف يتغلب على هذه المشكلة الشائكة، ولا يدع زمام الجند يفلت من يده ، أو يتيح لهم ولرؤسائهم الفرصة لتدبير انقلاب من طراز تلك الانقلابات التي أطاحت بحكومات أسلافه.
فقد كان هناك «الدلاة» الذين استقدمهم خورشيد لنجدته فلم ينجدوه، ولم يشتركوا في كل ما دار من معارك بين البكوات وخورشيد ومحمد علي، بل قصروا نشاطهم على نهب القرى والاعتداء على الأهلين حتى أرهقوا الفلاحين وأهل القاهرة، ومنذ ثورة القاهرة (مايو سنة 1805) صاروا يعرضون خدماتهم على المشايخ والأرنئود وزعيمهم محمد علي، وقد قبل هذا خدمتهم على أمل إبعادهم بإرسالهم ضد المماليك في الوجه البحري، ولكنهم بدلا من الالتحام مع جند الألفي صاروا ينهبون القرى ويخربونها، واستمرت أعمال لصوصيتهم هذه جملة شهور حتى عزم محمد علي بمجرد أن تسلم شئون الحكم على تطهير البلاد منهم، فأمرهم بالعودة إلى الشام، وبادر بإرسال حسن باشا لتعقبهم عندما استخفوا بأمره، فاضطروا إلى الهروب، وانتهى الأمر بخروجهم من مصر محملين بأسلابهم ومنهوباتهم قاصدين إلى غزة.
ثم كان هناك الأرنئود، وهم عدة محمد علي وبنو جلدته، ولا يسعه الاستغناء عنهم، فقد كانوا مصدر خطر على حكومته بسبب جنوحهم إلى التمرد والعصيان، فاتخذوا من تأخر مرتباتهم ذريعة للامتناع عن الخروج لقتال المماليك تارة، ولمغادرة الصفوف والذهاب إلى المماليك والانضواء تحت لوائهم تارة أخرى، ولإعاثة الفساد في القاهرة وفي سائر المدن والقرى التي يمرون بها أو يقصدون إليها والاعتداء على أهلها دائما، زد على ذلك تآمر بعض رؤسائهم على الباشا نفسه، لم يمتنع عن الاشتراك في ذلك حسن باشا الأرنئودي من أقرب المقربين إلى محمد علي، وزاد خطر هذه المؤامرات حتى إن «مسيت» لم يلبث أن وجد لزاما عليه تحذير الباشا منها، فكلف «عزيزا» ترجمان القنصلية الإنجليزية بالقاهرة في نوفمبر 1805 أن يبادر فور وصول رسالته إليه ودون أن يضيع لحظة واحدة بإبلاغ الباشا أن هناك مؤامرة تحاك خيوطها في القاهرة ضد سلطته، وقد قام متزعم هذه المؤامرة بخطوات معينة مع الجند، ومع المماليك، ومع الباب العالي. وفي أول يناير 1806 كتب «مسيت» وهو يعرض الموقف في مصر لحكومته أن حسن باشا الزعيم الألباني مصدر خطر يهدد محمد علي، وأنه يبذل قصارى جهده لدعم مركزه واستمالة الأهالي إليه، وأنه أدرك نجاحا أكبر من منافسه (أي محمد علي)؛ لأن وجود هذا الأخير على رأس الإدارة، وعدم استطاعته إجابة كل مطالب جماعته يعرضانه لغضب القوم عليه. ولكن هذا النجاح الذي ذكره «مسيت» كان من غير طائل؛ لأن حسن باشا وإن ظل منافسا قويا لمحمد علي في هذا الوقت، فقد عرف الباشا كيف يحد من أطماعه ويستبقيه إلى جانبه، فلم يعرف عنه التمرد عليه أو عصيان أوامره، ومع ذلك فقد اضطر الباشا عندما تأزمت الأمور وقت أن جاءه أمر النقل إلى سالونيك أن يعمل للتأكد من إخلاص وولاء هؤلاء الرؤساء العسكريين له، فجعلهم يحلفون الأيمان الصادقة على مؤازرته وتأييده، وذلك قبل أن يقدم على إعلان عزمه على مقاومة أوامر الباب العالي.
ولقد كانت حاجة محمد علي الملحة إلى المال مبعث الصعوبات التي صادفها في علاقاته مع جنده ورؤسائهم، حيث كان من الواضح أنه لو تيسر له دفع مرتباتهم لهم بانتظام لاستطاع ردعهم وإرغامهم على الطاعة والامتثال لأوامره ووقف اعتداءاتهم على الأهلين، والخروج للقتال ضد المماليك، كما كان من الواضح أن توفر المال لديه سوف يتيح له الفرصة لإبطال نشاط خصومه في القسطنطينية وإقناع رجال الديوان العثماني، وعملاء الباب العالي وضباطه في مصر بالرضا والتسليم بالأمر الواقع وإلغاء ما قد يتخذونه من قرارات تؤذي مصالحه.
ولذلك فقد توقف لدرجة كبيرة نجاحه في التغلب على الصعاب التي صادفته عقب توليه الحكم مباشرة، ثم طوال فترة الاختبار القاسية على قدرته على استنباط الوسائل التي تأتيه بما يسد حاجته من المال، حتى إنه لمن المتيسر عند تتبع الحوادث في هذه الفترة ملاحظة مدى ما هنالك من ارتباط وثيق بين مسعى محمد علي لتذليل هذه الصعوبات وبين نشاطه لتوفير المال الذي يعينه على التغلب عليها. (1) حكومة محمد علي
وعلى ضوء ما تقدم إذن كانت المشاكل التي صادفت محمد علي عند استلامه أزمة الحكم وبعد رحيل القبطان باشا ثلاثا: درء الخطر المملوكي عن العاصمة ، واستئناف النضال مع البكوات لتأمين ولايته، ثم معالجة مسألة الجند لإرسالهم لمطاردة المماليك وقتالهم، وأخيرا تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند قبل أي شيء آخر. وقد سارت هذه المشاكل الثلاث جنبا إلى جنب كما ارتبط علاج كل منها بالآخر، واتجه نشاط محمد علي نحو غاية واحدة هي تقرير الولاية وتثبيت أقدامها.
وقد تقدم كيف أن البكوات كانوا قد اقتربوا من العاصمة وقت انقلاب مايو 1805 ثم مجيء القبطان باشا إلى الإسكندرية لتسوية الأمور، فظهر الألفي في الوجه البحري يتخذ منه ميدانا للصوصية كبيرة، وظهر إبراهيم بك في لحظة من اللحظات بالقرب من القاهرة للمراقبة فحسب - لأن البكوات بسبب تنافسهم وتباغضهم لم يستطيعوا توحيد عملياتهم للقيام بمجهود مشترك من أجل الاستحواذ على القاهرة وقت اشتداد حروجة مركز محمد علي، ففوتوا على أنفسهم هذه الفرصة المواتية - وبقي عثمان البرديسي في الصعيد مريضا، ويمني نفسه بوصول النجدات التي كان ينتظر أن يبعث بها الفرنسيون إليه، وآثر لذلك عدم الحركة، وقد تقدم كيف أن محمد علي استطاع أن يبدأ المفاوضة مع الألفي، متخذا من أنانيته وكبريائه وانفصاله عن سائر زملائه وسيلة للتغرير به وشل حركته، يعاونه في ذلك السيد عمر مكرم الذي ظل هو الآخر يمني الألفي بالوعود الطيبة، حتى اعتقد الأخير أن الانقلاب الذي أطاح بخورشيد وأجلس محمد علي في الولاية لا يلبث أن يمهد السبيل لاستيلائه على حكومة مصر، وقد أفلح محمد علي وعمر مكرم في شل حركة الألفي، ثم استمر الحال على ذلك حتى حدثت مكيدة يوم 16 أغسطس 1805، وعلا فيضان النهر، واضطر البكوات القبالي إلى الانسحاب إلى الصعيد، وعندئذ غير محمد علي لهجته مع الألفي بصورة أقنعت هذا بأن من الخير له، وقد صار الآن عاجزا عن الاشتباك منفردا مع محمد علي في قتال قد تدور فيه الدائرة عليه، أن ينسحب هو الآخر إلى الفيوم.
ومع أن انسحاب الألفي قد ترك محمد علي سيدا في القاهرة وفي الوجه البحري، إلا أنه كان من المتوقع أن يعود البكوات إلى الظهور من جديد حول القاهرة وفي الدلتا عند انخفاض النهر، وصار لزاما على الباشا أن يبادر بإعداد جيشه وتهيئته لا للدفاع عن العاصمة فحسب، بل ولتطهير البلاد من البكوات وطردهم منها كلية وهم الذين شعر بأنهم أعداء أقوياء ومن المتعذر عقد أي صلح دائم معهم عندما كان غرضهم الظفر بحكومة القاهرة ذاتها واسترجاع سلطانهم على البلاد بأكملها، وكان إعداد هذا الجيش من أعقد المشاكل التي صادفت محمد علي.
مشكلة الجند
ذلك أنه كانت قد تجلت في الجيش وقتئذ ظاهرتان، كان مبعث كليهما في واقع الأمر أدواء مزمنة، إحداهما استمرار مغادرة الجند للصفوف وهروبهم للانضمام إلى قوات المماليك، والأخرى استمرار المطالبة بدفع مرتباتهم المتأخرة، أضف إلى هذا أن الجند ظلوا سادرين في غوايتهم ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهلين في القاهرة والأقاليم، حتى سادت الفوضى في الجيش، أو بالأحرى شراذم هؤلاء الجند المرتزقة الذين انعدم بينهم النظام، وشاركهم بعض رؤسائهم في أعمال التخريب، ونبذ الطاعة والخروج على كبار زعمائهم؛ فقد اكتظت القاهرة بالعسكر الأرنئود الذين رفضوا الذهاب لقتال المماليك ما لم تدفع لهم مرتباتهم، واتخذوا من عدم دفعها لهم ذريعة لاستمرار اعتداءاتهم على القاهريين، وتعالت صيحاتهم وازدادت مطالبهم، وحذا حذوهم إخوانهم في بعض المراكز التي ظلت في أيديهم بالصعيد كحامية جرجا خصوصا، ثم في الوجه البحري، وكان الأرنئود قد انتهزوا فرصة وصول الألفيين الكبير والصغير إلى جهة الجيزة في 11 أغسطس، فذهب جماعة منهم للانضمام إلى مماليكهما في اليوم التالي، وتعقبهم جند الباشا، وقتلوا عددا منهم، ثم لم تمض أيام على ذلك حتى أغارت طائفة أخرى منهم على سوق إمبابة فنهبوا ما وجدوه بأيدي الفلاحين، وتكررت حوادث هذه الاعتداءات وفرار الجند في الوقت نفسه للانضمام إلى قوات المماليك لا سيما إلى قوات الألفي الذي كان يكثر من التنقل بجيشه بين الفيوم والجيزة والبحيرة خصوصا، وذلك طمعا في مشاركة هذا الجيش في أعمال النهب والتخريب، من ذلك اعتداء أحد الممباشية الأرنئود مع ستين من رجاله على جهة بولاق ونهبها وفضح نسائها، ثم فرار ممباشي آخر مع حوالي الأربعمائة من عسكره إلى معسكر الألفي.
وقد وصف الشيخ الجبرتي ضمن حوادث رمضان 1220 (نوفمبر وديسمبر 1805) فعال الجند في القاهرة، فقال: «وقد زاد فحشهم وقبيحهم وتسلطهم على إيذاء الناس، وكثروا بالبلد، وانحشروا في كل جهة، وتسلطوا على تزوج النساء قهرا اللاتي مات أزواجهن من الأمراء المصرلية، ومن أبت عليهم أخذوا ما بيدها من الالتزام والإيراد، وأخرجوها من دارها، ونهبوا متاعها، فما يسعها إلا الإجابة والرضا بالقضاء ... ووصل كل صعلوك منهم لما لا يخطر على باله أو يتوهمه أو يتخيله ولا في عالم الرؤيا ...» ولم تعرف القاهرة بسبب إيذاء الجند لأهلها راحة أو هدوءا أثناء شهر رمضان هذا، وكف الناس عن المرور في شوارعها ليلا خوفا من أذية العسكر واعتدائهم عليهم بالخطف والقتل والسلب وما إلى ذلك، ولم يأبه الجند لنداءات الباشا وأوامره المتكررة لهم بالخروج إما لقتال الألفي وإما لقتال بكوات الصعيد، ومع أنه استطاع في بعض الأحايين وبعد أن دفع لهم شيئا من مرتباتهم المتأخرة إقناعهم بالخروج من القاهرة، فإنهم ما كانوا يغادرونها حتى يعودوا إليها، كما ظل رؤساؤهم يحضرون إلى العاصمة يطلبون مرتبات جنودهم الذين يهددون بالعصيان والتمرد، سواء في المنيا أم في أسيوط أم في جرجا أم في الفيوم أم في الجيزة، مثال ذلك حضور «محو بك» من المنيا يطلب العلوفة لجنده، وتخاذل حامية أسيوط الذي تسبب عنه امتلاك البكوات لها (أكتوبر)، ثم فرار ياسين بك وانضمامه إلى سليمان بك المرادي بالصعيد، وكان ياسين بك بعد خذلان خورشيد باشا وانتهاء مقاومته قد دخل في خدمة محمد علي على نحو ما سبق ذكره، وعهد إليه الباشا بكشوفية بني سويف والفيوم في 15 سبتمبر وخرج في تجريدة لقتال البكوات (الألفي في الفيوم وإبراهيم والبرديسي في بني سويف)، ولكنه ما لبث أن انهزم في الفيوم على يد جماعة الألفي ، ثم بدلا من انتظار النجدة التي بحث في طلبها من القاهرة، ذهب بجماعة من جنده إلى سليمان بك المرادي عند بياضة، وفضلا عن ذلك فقد تباطأ حسن باشا (منافس محمد علي) في سيره مع جنده الذاهبين إلى الصعيد ضد البرديسي وإبراهيم اللذين استوليا على أسيوط وسليمان بك البواب (المرادي) في جهات بني سويف، وعثمان بك حسن الرابض مع أكثر من ثلاثين مملوكا على الشاطئ الأيمن للنهر بين أسيوط والمنيا، ورفض الجند المخصصون للسير إلى الحجاز لتخليص جدة من أيدي الوهابيين الذين كانوا يحاصرونها وقتئذ الذهاب إليه.
أضف إلى هذا أن جند طاهر باشا - وكان من أقرباء محمد علي - المكلفين بوقف اعتداءات جماعة الألفي على الجيزة وصقارة والبلدان المجاورة لهما لم يلبثوا أن احتلوا دور أهل الجيزة واستولوا على أمتعتهم وطردوهم من مساكنهم ولم يخرجوا لقتال جند الألفي وعربانه (ديسمبر)، وعندما تكرر اعتداء الألفية على بلاد الجيزة وجهة صقارة وأمر محمد علي عسكره بالخروج لقتالهم فتلكئوا واحتجوا بطلب العلوفة قرر الخروج بنفسه، ولكن سرعان ما انهزم جنده (18 ديسمبر) في بر الجيزة وذهب من الأرنئود طائفة إلى الأخصام وانضموا إليهم وعبر النيل بعد أيام قليلة (22 ديسمبر 1805) جماعة آخرون وانضموا إليهم كذلك، وحصل في العسكر ارتجاج واختلافات، وعندما عدى بعض الألفية إلى ناحية الشرق وأخذوا كلفا من البلاد ووصل بعضهم إلى وردان بالبر الغربي، كثرت المناداة بخروج العسكر إلى طرة والجيزة، ولكنهم ما كانوا يخرجون حتى يعودوا أدراجهم دون الاشتباك مع العدو. واستمر الحال على هذا المنوال في الشهور التالية من هروب العسكر إلى المماليك وامتناعهم عن الخروج لقتالهم، حتى إن الباشا أمر بالمناداة في الأسواق (16 مارس 1806) على العساكر الذين لم يكونوا في قوائم العسكر الذين يقال لهم السير بالسفر والخروج إلى بلادهم، ومن وجد بعد ثلاثة أيام قتل، وفي 7 مارس من العام نفسه جمع الباشا الأجناد ورؤساءهم وأمرهم بالتعدية إلى البر الغربي، وكأنه تخوف من إقامتهم بالمدينة، وقال لهم: «من أراد منكم الذهاب إلى الأخصام فليذهب وإلا فليستمر معنا.» وفي 18 أبريل حضر عمر بك الأرنئودي من بني سويف يشكو من أن رجب أغا وطائفة من العسكر خامروا عليه، وانضموا إلى الأمراء القبليين، وكانوا حوالي الستمائة، ثم حضر «محو بك» من المنيا يطلب مرتبات وعلائف العسكر المحاصرين بها، وحدث في اليوم نفسه أن أراد كتخدا بك التوجه من إمبابة إلى الوجه البحري لمطاردة الألفية فقام عليه العسكر، وطالبوه بعلائفهم، وتطاولوا عليه، ومنعوه من الذهاب، فأراد التعدية إلى بر بولاق فمنعوه من ذلك أيضا وجذبوا لحيته، ولم يستطع الإفلات من قبضتهم والعودة بأمان إلى القاهرة إلا بعد أن وعدهم بالسعي لدى الباشا في هذه المسألة.
وفي اليوم التالي (19 أبريل) أرسل كبار العسكر بناحية منوف يبلغون الباشا أن الجند يطلبون مرتبات اللحم والأرز والسمن؛ لأنهم لا يحاربون ولا يقاتلون بالجوع، ورجع وقتئذ كثيرون من الجند الذين بالصعيد إلى القاهرة، واضطر الباشا إلى تدبير المال بسرعة لإرجاع «محو بك» إلى المنيا ومعه مرتبات الجند، وإرسال صالح أغا السلحدار إلى الوجه البحري بطريق منوف وبصحبته قوة من الجند بعد أن قرروا له مقادير من الأكياس على كل بلد من البلاد التي يمر بها ولا يزال بها شيء من الرواج والعمار، ثم لم يستطع «دبوس أوغلي» الانتقال إلى إمبابة في 27 أبريل إلا بعد أن دفع الباشا شيئا من مرتبات الجند والعلائف المطلوبة. وفي مايو حضر إلى بولاق ومصر القديمة جماعة من جند حسن باشا في بني سويف يطلبون مرتباتهم، وكان حسن باشا قد امتنع عن دفعها لهم لما ظهر له من مخامرتهم عليه وميلهم إلى الأخصام، وحذر الباشا منهم، فجمع عددا كبيرا من عربان الحويطات والعائد وأقامهم بناحيتي شبرا ومنية السيرج وهددهم بهم حتى استطاع إخراج من كان منهم قد دخل القاهرة، واستمال إليه بالحيلة صغار الضباط فاستثارهم ضد كبارهم، وتمكن بفضل ذلك من إخراج الأخيرين إلى دمياط في طريقهم إلى بلادهم، وكانوا اثنين وخمسين من كبار طائفة الأرنئود. وفي يوليو اعتدى جماعة من الأرنئود على قرية المنصورية بالقرب من الأهرام، فضربوا القرية ونهبوا أغنامها ومواشيها لتزويد معسكرهم بها، فتدخل عمر مكرم لإرجاع ما سلب من النساء والفقراء إليهم، وأما ما بقي فقد ذهبوا به للمطابخ. وفي 23 أكتوبر من العام نفسه (1806) جاءت الأخبار عن وقوع اختلافات بين عسكر الصعيد ورجوع من كان منهم بناحية منفلوط وعصيان الموجودين بالمنيا بسبب تأخر مرتباتهم، حتى إن حسن باشا عندما قصد إلى المنيا قابله العصاة بالضرب عليه، فانحدر إلى بني سويف، واضطر الباشا إلى إرسال إسماعيل أغا الطوبجي كاشف المنوفية بمال إلى الجهة القبلية لاسترضاء العسكر وإنهاء تمردهم. وانتهز الجند في أوائل يناير 1807 فرصة الخروج إلى بولاق استعدادا لمطاردة الألفية فنهبوا كفر حكيم والقرى المجاورة، حتى إنهم أخذوا إلى جانب المواشي التي نهبوها النساء والبنات والصبيات، ودخلوا بهن إلى بولاق والقاهرة، وصاروا يبيعونهن «كأنهم - على حد تعبير الشيخ الجبرتي - سبايا الكفار.»
تلك إذن كانت حال الفوضى والتمرد بين الجند، وقد ظلت هذه الحال سائدة في جيش محمد علي وقت مجيء حملة «فريزر»، أي طوال فترة التجربة والاختبار القاسية التي بدأت - كما ذكرنا - من حين تسلمه أزمة الحكم، وقد استمرت مشكلة الجند هذه قائمة حتى بعد ذهاب خطر الحملة الإنجليزية، وكان من الواضح أنه من المتعذر القضاء على هذه الفوضى وتطويع الجند وتعويدهم النظام وتلبية ما يصدره الباشا إليهم من أوامر إلا إذا عمل على إزالة أسباب الفوضى، وأهم هذه الأسباب عجزه عن دفع مرتبات الجند وعلائفهم لخلو خزانته من المال، ولم يكن في وسع محمد علي الاستغناء عن جنده الأرنئود أو إنقاص عددهم في وقت كان البكوات المماليك ينازعونه السلطة، ويخضعون ثلثي مساحة القطر تقريبا لسلطانهم، ولا يزالون يعملون على طرده من حكومة القاهرة، زد على ذلك أن ولايته ذاتها كانت مهددة بالزوال؛ حيث كان من المتوقع أن يعمد الباب العالي عند سنوح أول بادرة إلى خلعه أو نقله منها؛ لأنه كان من الواضح أن الديوان العثماني لن يرضى بالرضوخ والإذعان طويلا لهذا «الأمر الواقع» الذي وجد نفسه مرغما إرغاما على الاعتراف به في مايو 1805 لضعفه وقلة حيلته، وأنه لن يتوانى إذا تهيأت له الفرصة عن استرجاع نفوذه عن طريق تولية أحد الباشوات ممن يتلقون أوامرهم من الديوان العثماني مباشرة ويحرصون على تنفيذها بحذافيرها؛ ولذلك فقد صار لزاما على محمد علي أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لتوفير المال حتى يستطيع قبل كل شيء دفع مرتبات الجند لإنهاء الفوضى المنتشرة في صفوفهم، وإزالة أسباب التمرد والعصيان بينهم.
تدبير المال
وأما تدبير المال فكان أمرا شاقا عسيرا؛ ذلك أن الحوادث الماضية كانت قد استنفدت كل ما لدى الباشا من أموال احتياطية، ونهب المماليك والعثمانلي، والأرنئود والدلاة كل المدن والقرى والدساكر التي وقعت تحت أيديهم، وجردوا أهلها من كل ما يملكون حتى غادر السكان القرى التي سلط عليها سوط عذابهم، وترك الفلاحون الحقول فتعطلت الزراعة، وصاروا هم أنفسهم شبه عرايا وفي فقر مدقع، ويستحيل مطالبتهم بدفع شيء، وإن كان في وسع السلطة - إذا شاءت - أن تنتزع بالقوة والجبروت آخر دانق قد بقي لديهم، وأما المدن فلم يعد سكانها أغنياء بسبب نهب الجند وفرض الإتاوات والمغارم وما إليها عليهم، وإن كان في استطاعة السلطة كذلك - إذا أرادت - أن تحصل منهم بوسائل القهر والعنف ضرائب جديدة، ولكنه لم يكن ليغيب عن ذهن محمد علي أن اللجوء إلى هذه الأساليب يعرض حكومته لأخطار جسيمة؛ لأن حكومة سلفه أحمد خورشيد لم تتحطم إلا على صخرة الإتاوات والمغارم والفرض هذه، كما تحطمت على صخرتها كذلك حكومة البكوات المماليك.
غير أن الباشا ما لبث أن وجد مخلصا من هذا المأزق؛ ذلك أن عديدين من الصيارفة ومحصلي الضرائب والتجار، سواء من القبط أم اليونانيين أم الشوام، ثم كثيرين من سراة القاهرة وأعيانها وكشاف الأقاليم، كانوا جميعهم كتجار أم حكام أو أصحاب حصص والتزام قد استفادوا من الفوضى في السنوات السابقة، لجمع ثروات لم يجد الباشا بأسا في اقتسامها معهم لتحصيل المال اللازم لدفع مرتبات جنده، ثم إنه لم يكتف بتحصيل المال من سكان القاهرة بل صار يحصله كذلك من أهل المدن الأخرى، وفضلا عن ذلك فإنه ما لبث أن حصل الإتاوات والمغارم من سواد الشعب في القاهرة وغيرها من المدن التي وجد عماله أنه لا يزال لدى أهلها فضلة من بقية في وسع حكومته ابتزازها منهم. ولما كان إجبار الأهلين من المساتير وأصحاب الدخول المحدودة الذين أرهقتهم الفرض والمغارم السابقة من شأنه إثارة سخطهم على الحكومة بدرجة من المحتمل معها تحريكهم إلى الثورة عليها فقد حرص محمد علي عندما وجد أن لا معدى عن تحصيل المال منهم على توسيط المشايخ والعلماء وأصحاب النفوذ الظاهر عليهم.
وعلى ذلك، فقد كان المعلم جرجس الجوهري (كبير المباشرين) هو وجماعة من المباشرين والكتبة الأقباط القائمين بتحصيل المال وضبط حسابه أول من وقعوا تحت طائلة هذه الإجراءات المبتكرة، وكان جرجس الجوهري قد تسلم الرياسة على المباشرين قبل مجيء الفرنسيين، ثم ارتفع شأنه في أيامهم، وظل يحتل مكانا مرموقا منذ أن عادت البلاد إلى حظيرة الدولة، وكان عظيم النفس يهب الهبات ويعطي العطايا، ويعيش في أبهة ظاهرة، حتى زاحمه على هذه المكانة الرفيعة كبير آخر من المباشرين هو المعلم غالي، وكان كاتب الألفي بالصعيد قبل التحاقه بخدمة محمد علي، وصار الباشا يعتمد عليه في تفريج ضائقته المالية كلما امتنع الأول عن مسايرته في تحصيل المبالغ اللازمة له، فقبض عليه وعلى طائفة من الكتبة والمباشرين الخاضعين لنفوذه في أغسطس 1805 وطالبه بتقديم حسابه ابتداء من عام 1215؛ أي من منتصف عام 1800، وعين المعلم غالي في مكانه، ولم يفرج عنه إلا بعد أن تعهد بدفع 4800 كيس قيمة النقص الذي أمكن تقديره أو الوقوف عليه في حسابات خمس سنوات، فشرع في توزيعها على نفسه وعلى كبراء الأقباط وصيارفهم ما عدا فلتيوس وغالي، وحولت عليه التحاويل، وحصل لهم كرب شديد، وضج فقراؤهم واستغاثوا، ولكن المعلم جرجس الجوهري ما لبث أن التجأ إلى دير مصر العتيقة مختفيا، وطلب الباشا المعلمين فلتيوس وغالي وجرجس الطويل للبحث في أمره وتدبير المال اللازم دفعه، واضطر جرجس الجوهري عندما عرف مكان اختبائه إلى مغادرة الدير إلى «تبين» ملتجئا عند الألفي الكبير، فأنزلت قوائم على البلاد والحصص التي كانت تحت التزامه إلى المزاد وبيعت (14 سبتمبر)، واتهم الباشا بطريق اليونان بالتستر على جرجس جوهري ومساعدته على الهروب، وألزمه بدفع تعويض مائة وأربعين كيسا جمع البطريق بعضها من مواطنيه، كما أنه طالب بترك الدير فاحتجوا عليه بهروب جرجس الجوهري، وانحط الأمر على المصالحة بمائة وأربعين كيسا وزعها الأقباط على أنفسهم ودفعوها.
وكذلك قبض الباشا على حسن أغا نجاتي المحتسب والأمير إبراهيم ديودار الرزاز عندما أراد تعيينهما كتخداءين للحج بشرط أن يكفلا نفسيهما من مالهما، فاعتذرا بعدم قدرتهما على ذلك، فحبسهما وعزل الأول عن الحسبة، ولم يفرج عنهما إلا بعد أن تعهد حسن أغا بدفع 65 كيسا، والرزاز 15 كيسا (9-14 سبتمبر)، وكان في غضون ذلك أن قبض كتخدا بك (محمد أغا) على كاشف المنوفية، وأخذ ما معه من أموال كان قد نهبها من البلاد ومواش وغلال كثيرة، وفرض على البلاد التي وجد بها بعض العمار وعدتها نحو الستين بلدا إتاوات ليستعين بها - كما قال - على دفع علائف العسكر وجماكيهم (13-23 أغسطس)، وانتهز الباشا وصول قافلة السويس في 9 سبتمبر فأراد الاستحواذ على متاجرها، فصالح أصحابها على أحمالهم بألف كيس بعد أن توسط لهم في ذلك الكتخدا بك، وقال «دروفتي» إن هذه القافلة قد أتته بألفي كيس.
ولما كانت هذه الأموال التي حصلها الباشا لا تكفي لدفع مرتبات الجند، وظلت هذه تتراكم ويطالب بها هؤلاء في صخب شديد، وكان لا مناص من تدبير وسائل أخرى لجمع المال، فقد رأى محمد علي أن يشرك المشايخ في الأمر، فجمعهم في أواخر سبتمبر 1805، وسألهم الرأي في تدبير ثلاثة آلاف كيس جملة الباقي لعلوفة العسكر، ولا يعرف لتحصيلها طريقة، وقال محمد علي: «إن الجند الذين لا ضرورة لوجودهم سوف يرحلون إلى بلادهم بعد حصولهم على مرتباتهم.» فلا يبقى من العسكر إلا من كان الباشا في مسيس الحاجة إليهم والرؤساء الذين يشغلون المناصب الهامة، ووعد بأن تكون هذه آخر نوبة أو مرة يطلب فيها علائف ومرتبات لجنده منهم، وكان من رأي المشايخ في مبدأ الأمر أنه ما عاد في الإمكان تحمل الشعب لفرض إتاوات وضرائب جديدة عليه، ولكنهم بعد تصريحات الباشا ووعوده شرعوا يتشاورون فيما بينهم، وكثر الدوي في ذلك، ولغط الناس بالفردة وتقرير أموال على أهل البلد، ثم انحط الأمر بعد ذلك على قبض ثلث الفائظ من الحصص والالتزام، وأثار هذا القرار غضب القاهريين، وضج الناس وقالوا: «هذه تصير عادة، ولم يبق للناس معايش.»
واضطر محمد علي لتهدئة العاصفة إلى التعهد بكتابة فرمان أو سند يلتزم فيه بعدم عود ذلك ثانيا، وأن يرقم فيه لعن الله من يفعلها مرة أخرى، وتوسط المشايخ لتهدئة النفوس الثائرة، ورضي الناس واستقر أمر هذه الفرضة الجديدة وشرعوا في تحريرها وطلبها، ولكن تحصيل هذه الضريبة الجديدة لم يجر إلا ببطء شديد، وراوغ كثيرون للتخلص من دفعها، ولجأ الباشا إلى أساليبه الأولى، لسد العجز في خزانته، فطلب من تجار رشيد أربعين ألف ريال فرانسة - والريال الفرانسة - يطلق عموما على جميع أنواع الريالات المتداولة - وكان هذا مبلغا ضخما، فلم يسع أهل رشيد سوى المجيء إلى القاهرة وتوسيط المشايخ والسيد عمر مكرم لإنقاص المبلغ، فاستقرت غرامتهم على عشرين ألف فرانسة، وسافروا على ذلك في 24 أكتوبر 1805 وأخذوا في تحصيلها، وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» من الإسكندرية في 21 سبتمبر 1805: «إن محمد علي يتخذ وسائل لجعل القرض الجبري الذي طلبه من القاهرة ودمياط وحصله منهما يشمل كذلك أسكلتي رشيد والإسكندرية.» فبعث أحمد أفندي الدفتردار (الذي حل محل جاثم أفندي) بمنشور إلى كل القناصل بالإسكندرية في هذا الشأن وفحواه أن الباشا يريد إنهاء الكوارث التي نزلت بالبلاد، وما حدث من قلقلة في شئون التجارة التي يهم الأوروبيين أمرها، وأنه يريد من أجل ذلك إنقاص عدد جنده، مما يجعله مضطرا إلى عقد القروض؛ ولذلك فقد خاطب القناصل حتى يقوموا بتوزيع المبالغ التي يمكن اقتراضها على الأفراد التابعين لهم بمعرفتهم، وقال «دروفتي»: «إن أحمد أفندي الدفتردار يطلب 900 كيس من رشيد والإسكندرية بضمان إيرادات جمركيهما، ويطلب من القناصل أن يعينوا مسئولا لاستلام هذه الإيرادات لحساب القروض المطلوبة.» وفي 25 أكتوبر أمر الباشا برفع حصص الالتزام التي بأيدي النساء، فجزعن، وسويت المسألة على مصالحات بقدر حالتهن. وفي ديسمبر أنزلت في المزاد حصص بعض المغضوب عليهم، كما فتح طلب الميري من الملتزمين عن سنة 1221 مع أن سنة 1220 الراهنة لم يكن - في هذا التاريخ - قد استحق منها الثلث، وكانت قد فتحت بعجلة وقبض نصفها على أن يجري تحصيل النصف الآخر بعد أربعة أشهر، ففتحت الآن سنة 1221 على أن يتم تأدية مطلوبها بالكامل وقبل أوانها بسنة، ثم عملت قوائم «فرد ومظالم» على الأقاليم، وزودوا بها الكشاف لتحصيلها (26 ديسمبر). وعندما وصلت قوافل التجار من السويس في أوائل يناير سنة 1806 محملة بالبن أراد الباشا الاستيلاء عليها فانزعج أصحابها من هذه المصادرة بعد أن دفعوا عشورها ونولونها وأجرها وما فرض عليها من المغارم السابقة، ثم انحط الأمر كالمعتاد على المصالحة بتحصيل خمسين ريالا على كل فرق من فروق البن، «ولم ينتطح في ذلك شاتان» على حد تعبير الشيخ الجبرتي، والفرق مكيال اختلف في تقدير سعته من الأرطال بينما يساوي الريال تسعين فضة أو قرشين وربع قرش، وقد ذكر الوكلاء الفرنسيون في 15 يناير أن قافلة السويس هذه قد أحضرت ألف فرد من البن، ثم ذكروا في 18 فبراير أن الباشا فرض إتاوات جديدة على المستأمنين اليونانيين.
ومع أن كتخدا بك كان قد فرغ من مهمته في يناير 1806 وحصل أموالا كثيرة من المنوفية وسائر أقاليم الوجه البحري بعدما فعل ما فعله من الفرد والمظالم الخارجة عن الحد، حتى قدر ما حصله من الإتاوات التي فرضت على هذه البلاد المرهقة بثلاثة آلاف كيس، وجمع الباشا من قافلة السويس السالفة الذكر، وكانت تتألف من ألف وخمسمائة جمل مبالغ طائلة؛ إذ حصل على كل قنطار من البن أربعين قرشا، فقد استنفد دفع مرتبات الجند وتجهيز الحملات التي بعث بها لمطاردة المماليك هذه الأموال التي جمعها، واقتضى استمرار العمليات العسكرية ضد هؤلاء في الفترة التالية حتى وقت مجيء القبطان باشا إلى الإسكندرية يحمل فرمان النقل إلى سالونيك جمع المال بشتى الوسائل وبخاصة للاتفاق على طوائف جديدة من الدلاة وغيرهم أحضرهم الباشا من الشام في بداية عام 1806 لتعزيز جيشه، فطلب دراهم سلفة من أعيان القاهريين في أبريل 1806 لأجل نفقة العسكر، وفرضوا على البلاد ثلاثة آلاف كيس، ثم إنه لم يكتف بذلك بل صادر متاجر القافلة التي وصلت من السويس في هذه المرة كذلك، فأرسل إلى الخانات والوكائل أعوانا ختموا على حواصل التجار بما في داخلها من البن والبهار، ولم يفرج عنها إلا بعد أن صالح هؤلاء عليها (24 أبريل). وكتب الوكلاء الفرنسيون في 19 أبريل أن الباشا يطرق كل سبيل لجمع المال اللازم لدفع مرتبات الجند الدلاة المعسكرين في إمبابة والذين يرفضون السير ضد الألفي قبل حصولهم عليها، فالجميع لذلك يدفعون حتى ضباطه، وكذلك القبط ومسيحيو الشام، فدفع الأولون 100 كيس، والآخرون ثلاثين كيسا، واستولى على البن الموجود في القاهرة، ولكن ذلك كله لا يكفي؛ لأن المطلوب هو ثلاثة آلاف كيس؛ وعلى ذلك فقد ابتدع الباشا فرضة جديدة بأن طلب من كل بلد من البلاد إتاوة من الغلال قمح وفول وشعير، وقال الشيخ الجبرتي: «إنها كانت ثالث فرضة ابتدعت من الغلال على البلاد في هذه الدولة.» وعزل الباشا محمد أغا كتخدا بك في 29 أبريل وطلب منه ألف كيس، وقد في الكتخدائية خازنداره «طبوز أوغلي» المعروف بدبوس أغلي، وأخرج الأول منفيا إلى دمياط في 7 مايو.
وعاون السيد عمر مكرم الباشا في تحصيل الإتاوات المفروضة على الأهلين معاونة جدية، فاستمر الطلب والتوزيع بالأكياس ... لا ينقطع عن أعيان الناس والتجار والأفندية الكتبة وجماعة الضربخانة والملتزمين بالجمارك وكل من كان له أدنى علاقة أو خدمة أو تجارة أو صنعة ظاهرة أو فائظ أو له شهرة قديمة أو من مساتير الناس، وكان عمر مكرم في غالب الأحيان هو المحصل لذلك بالرغم مما كان معروفا عنه في المناسبات الماضية من التوسط لدى السلطات القائمة لتخفيف هذه الأعباء المالية عن كاهل أفراد الشعب، حتى إن الشيخ الجبرتي لم يلبث أن علق على نشاط السيد عمر أفندي النقيب، فقال: «وقد حكمت الصورة التي ظهر فيها، وانعكس الحال والوضع حتى ساءت الظنون، والأمر لله وحده.»
وتوالى تقرير الفرض على البلاد مالا وعينا، وطلب السلفيات من الملتزمين والتجار وغيرهم، فتقررت فرضة من النوع الأول في 24 مايو، وفي 30 مايو طلب الباشا دراهم سلفة، واعتمد في توزيعها على دفتر كان أعد أيام خورشيد باشا (1804) لتوزيع سلفة حصلها خورشيد وقتذاك، واشتط عملاء الباشا في تحصيل هذه السلفة المزعومة، فلم يمهلوا أحدا، ومن لم يجدوه طالبوا أهله أو جاره أو شريكه، وخاب أمل القاهريين في السيد عمر مكرم في هذه المرة كذلك؛ لأنه صار يقابل أفواجهم الذاهبة للشكاية إليه بالتضجر والتململ وإظهار الأسف وتهوين الأمر عليهم، وبذل الوعود بالسعي في تخفيفها، دون أن يبدو منه أنه سوف يبر بوعده حقا، بل ظهر عليه أنه قد تورط في الدعوة، ولم يتحرك عمر مكرم أو المشايخ إلا وقت أن عظم ضجيج الناس واشتد تذمرهم عندما فتح الباشا الطلب في أواخر يونيو بفائظ البلاد والحصص من الملتزمين والفلاحين، وأمر الروزنامجي طائفته بتحرير ذلك عن السنة المقبلة، فتردد الملتزمون على السيد عمر مكرم وسائر المشايخ يوسطونهم لدى الباشا، وأسفرت وساطتهم عن تقرير قبض ثلاثة أرباعه، النصف على الملتزمين والربع على الفلاحين. وفي يوليو شرع الباشا في فرض إتاوة عينية على مديريات الوجه البحري من غلال وغنم وجبن وأرز وسمن، ثم شرع في سبتمبر يقرر فرضة عظيمة على البلاد والقرى والتجار ومسيحيي الأروام والأقباط والشوام ومساتير الناس ونساء الأعيان والملتزمين وغيرهم، ستة آلاف كيس، وذلك برسم مصلحة القبودان عندما اقتضى تعطيل قرار النقل إلى سالونيك الذي حضر به القبطان باشا إلى الإسكندرية وقتئذ رشوة القبطان؛ لإقناعه بتأييد مصلحة محمد علي ضد خصومه على نحو ما سيأتي ذكره في موضعه، وقد أكد الباشا أن الأموال التي شرع في تحصيلها ليست سوى سلفة يدفعها لأصحابها بعد ستة أيام فحسب، وكان واضحا أنه لن يستطيع فعل ذلك ولم يفعله. ثم اضطر الباشا لطلب المال مرة أخرى عندما صار يستعد لمناجزة البكوات وإرسال التجريدات لقتالهم في الوجهين البحري والقبلي، بعد أن اطمأن خاطره من قضية القبودان والعزل، فضلا عن حاجته إلى المال لدفع مرتبات الجند في نواحي منفلوط والمنيا وبني سويف، وكان هؤلاء قد بدءوا يتمردون لتأخرها (أكتوبر).
وفي نوفمبر وديسمبر 1806 توالى الطلب والفرض والسلف التي لا ترد. وفي أوائل ديسمبر طلب الباشا من السيد عمر مكرم توزيع جملة أكياس على أناس من مساتير الناس على سبيل السلفة، ثم عاد في 21 ديسمبر فالتمس منه توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته، وقد ضاق صدر عمر مكرم من تكرر هذا الالتماس ولكنه لم تسعه المخالفة فشرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس، حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك لأسباب سوف يأتي ذكرها في موضعها. وكان في أواخر هذا العام وبداية التالي (1807) أن قرر الباشا فتح طلب الميري عن السنة المقبلة، وجد في التحصيل، ووجهوا بالطلب العساكر والقواسة والأتراك بالعصي المفضضة وضيقوا على الملتزمين، وانتهز الباشا فرصة وصول قافلة من قوافل الصعيد وبها أحمال كثيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم، فركب الباشا ليلا في 11 يناير 1807 وكبسهم على حين غفلة، وأخذ جمالهم وأحمالهم، ونهب الجند متاعهم ثم أولاد العربان والنساء والبنات ودخلوا بهم إلى المدينة يقودونهم أسرى في أيديهم ويبيعونهم فيما بينهم كما فعلوا بأهل كفر حكيم وما حوله، وعندما علم الباشا بوفاة الألفي، ورفض الألفيون الصلح وعزم على مطاردتهم، استمر طلب السلف وفرض المغارم وتحصيل الإتاوات (فبراير 1807).
وواضح مما تقدم جميعه أن اللجوء إلى هذه الإجراءات الشاذة في طلب المال كان يحدث كلما اشتدت حروجة مركز محمد علي، وظهرت حاجته الشديدة إلى المال لاجتياز الأزمات التي صادفته، وكان هذه إجمالا على نوعين: أزمات سياسية طارئة، كما حدث عند مجيء أمر النقل إلى سالونيك، وأزمات مزمنة، مبعثها الضرورة الملحة لدفع مرتبات الجند، لحملهم على الخروج لمطاردة المماليك، أو استمرار مقاومة مختلف الحاميات وخصوصا حاميات الصعيد ضدهم.
وثمة حقيقة أخرى، مترتبة على خلو خزانته من المال، وصعوبة تطويع الجند تبعا لذلك، هي أن محمد علي لم يكن في استطاعته آنئذ مقاومة البكوات المماليك - وهم مصدر أكبر الأخطار التي هددت حكومته مباشرة - مقاومة حاسمة فعالة بأن يثير عليهم حربا شعواء لا هوادة فيها ولا رحمة، وقد بلغ من تمرد الجند وعدم طاعة رؤسائهم له في الشهور الأولى من ولايته خصوصا أن علق «مسيت» على ذلك بقوله في رسالته إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 18 نوفمبر 1805 أن الزعماء الأرنئود رفضوا تلبية أوامر محمد علي عندما أراد إرسال نجدات قوية إلى الصعيد وإخراج البكوات من مراكزهم في الفيوم وأسيوط؛ لأنهم كانوا قليلي الثقة في الرجل الذي رفعوه إلى منصب الولاية ... حتى إنه ليبدو أن محمد علي صار متأرجحا على عرشه وعلى وشك السقوط منه، ولو أنه قد يستطيع بفضل ما يتصف به من خلق ثابت متين إحباط مشاريع خصومه، وقد عرف محمد علي كيف يتغلب على خصومه هؤلاء في الجيش: رؤساء الجند الذين وجد من بينهم من أراد منافسته أو الانحياز إلى جانب المماليك، ثم الجند أنفسهم الذين انضمت جماعات منهم فعلا إلى العدو، وظلوا يلحون في طلب مرتباتهم المتأخرة، وبخاصة كلما استدعى الأمر خروجهم للقتال ضد المماليك والقيام بأية عمليات عسكرية، وذلك بتدبير المال اللازم لدفع المرتبات والعلائف، وإبعاد العناصر المشاغبة منهم، وجمع كلمة رؤساء الجند حوله أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ومثلما أحبط محمد علي مشاريع خصومه من الجند ورؤساء هؤلاء، فقد تمكن من إحباط تدابير خصومه الآخرين، البكوات المماليك.
النضال مع البكوات
وجرى النضال مع البكوات المماليك في طريقين؛ أحدهما عسكري، وكان هذا - في الواقع - أقلهما شأنا طوال الفترة التي تعذر فيها عليه تجريد حملات قوية ضدهم للالتحام معهم في معارك كبيرة فاقتصر الأمر على مناوشات متفرقة ينقصها التنسيق، وقد استمرت هذه الفترة حتى أوائل عام 1806، ولم يكن الغرض مما وقع فيها من عمليات عسكرية سوى إظهار تصميم الباشا على مناجزته لهم، ثم تخويفهم وحملهم على مهادنته حتى يستجمع قواه ويتمكن من التفرغ لمناجزتهم جديا، وأما الطريق الآخر - وكان أجداهما ثمرة فيما قصد إليه الباشا مباشرة وقت ملاحقة الأزمات له - فكان سياسيا، وذلك بفتح باب المفاوضة مع الألفي في الدلتا والفيوم، ومع إبراهيم البرديسي وعثمان حسن في الصعيد، فنشأت من ثم مساومات ومباحثات مع الفريقين لم يكن غرض الباشا منها سوى زيادة شقة الخلف والانقسام اتساعا بين هذين الفريقين المتباغضين المتنافسين، حتى يحول دون اتفاق كلمتهما بجهد عسكري متحد ضد حكومته لا مراء في أنه لو حدث وقتئذ لقضى عليها. ولقد نجح الباشا في سياسته هذه نجاحا كاملا، وتضافرت عوامل أخرى على تمكينه من تنفيذ مأربه منها، أهمها منافسة البرديسي الشديدة للألفي، وخرق رأيه وتسلطه على زميله إبراهيم بك، وإصرار عثمان حسن على الابتعاد عن هذه النزاعات المملوكية، وميله للانطواء على نفسه من جهة، وللتفاهم والاتفاق مع الباشا من جهة أخرى، ثم ضعف قوة البكوات المادية عموما، وتسلط روح الأنانية وعدم التضحية عليهم، ورفضهم أن يدفعوا من جيوبهم الثمن الذي كان في وسعهم أن يشتروا به حكومة القاهرة ويسترجعوا في نظير حفنة من المال سيطرتهم القديمة على باشوية مصر وسلطانهم المفقود.
وقد أتيحت لمحمد علي الفرصة لبدء سياسة المفاوضة مع المماليك، عندما رفض الألفي بعد حادث مكيدة القاهرة المعروف في 16 أغسطس 1805 الاتحاد مع بكوات الصعيد، وكان هؤلاء عندما انطلت عليهم الحيلة وأرادوا دخول القاهرة قد أبلغوا الألفي بعزمهم ولكنه امتنع عن مسايرتهم، ثم كان من أسباب نقمة إخوانه عليه أنه لم يشرك أحدا منهم في الأسلاب الكثيرة التي غنمها من الدلتا، فانسحب البكوات إلى الصعيد، وانسحب الألفي إلى الفيوم، ولكنه ما لبث أن سعى للمفاوضة مع محمد علي، ورحب الباشا بهذا المسعى، واختلف مقصد كل منهما من هذه المفاوضة عن مقصد الآخر، أما الألفي فكان قد ضاق خناقه من الإجراءات التي اتخذها محمد علي لمنع كل اتصال بين أفراد الشعب والبكوات، ففرض رقابة صارمة على الباعة والمتسببين حتى لا يمدوا البكوات بحاجتهم من المتاع والأسلحة والملابس وما إلى ذلك، وأنزل العقوبات الشديدة بكل من ضبط من هؤلاء الباعة يحمل بضائع إليهم وصادر بضاعته، فامتنع ذهابهم، ووجد الألفي أنه إذا فتح باب المفاوضة من أجل الصلح مع الباشا استطاع وكلاؤه الدخول إلى القاهرة وابتياع حاجتهم من أسواقها بأمان، وأما محمد علي فكان يبغي من هذه المفاوضة بذر بذور الشقاق والتفرقة بين الألفي وسائر زملائه من جهة، يساعده على ذلك ما كان قد ظهر بينهم من خلاف، ثم كسب الوقت حتى يستطيع تدبير المال ودفع مرتبات الجند وإعداد التجريدات اللازمة لقتال المماليك من جهة أخرى؛ وعلى ذلك فقد انتقل الألفي إلى وردان وبعث بكتخداه أو كخياه محمد يعرض على الباشا الصلح في 9 سبتمبر 1805، فرحب به محمد علي، وأذن له بقضاء أشغاله واستمرت المفاوضة شهرا تردد في أثنائه محمد كتخدا الألفي على القاهرة أكثر من مرة، وكان مندوبا الباشا في هذه المفاوضة سلحداره وموسى البارودي، وطلب الألفي كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومائتي بلد من الغربية والمنوفية والدقهلية التزاما يستغل فائظها، وأن يأتي إلى الجيزة ويقيم بها، ويكون تحت طاعة محمد علي، وأصر الباشا من جهته على أن يكون الصلح شاملا، فلا يقتصر على الألفي وحده بل يدخل فيه كذلك بكوات الصعيد، وكان هؤلاء - كما قدمنا - قد اتخذوا «بياضة» مقرا لهم.
وطلب محمد علي أن يذهب الألفي كذلك إلى الصعيد وينضم إلى إخوانه، على أن يقطعهم الباشا جميعا مديريتي جرجا وإسنا ما عدا عاصمة الأولى مدينة جرجا التي ينزل بها الحاكم المولى عليها من قبل الحكومة، وأن يدفع البكوات المال والغلال الميرية عن هذه الأراضي، ورفض الباشا أن يعقد اتفاقا منفصلا مع الألفي ضد مصلحة زملائه كما قال، ثم أرسل من فوره يبلغ بكوات الصعيد شروطه ويهددهم بإرسال جنده ضدهم، ولكن هؤلاء لم يستجيبوا لدعوته، كما تمسك الألفي بمطالبه، فكتب «دروفتي» إلى حكومته في 4 أكتوبر: «إن المندوبين الذين أرسلهم محمد علي إلى معسكر البكوات قد رجعوا مع كتخدا الألفي ينقلون جواب البكوات، وفحواه أنهم لا يروقهم شرط الإقامة بالجيزة، ووضعهم تحت إشراف محمد علي ومراقبته لهم؛ إذ يعزلهم ذلك عن العرب وهم العنصر القوي الذي يعتمدون عليه في ملء صفوفهم وتعزيز قوتهم.» أضف إلى هذا أن إقامتهم بالجيزة سوف تفقدهم نفوذهم في الصعيد وتشجع صغارهم ومرءوسيهم على ترك معسكرهم وتجعلهم جميعا تحت رحمة محمد علي؛ وعلى ذلك فقد ظل الألفي يساوم على قبوله الصلح منفردا مع الباشا، فطلب ثلاث مديريات بدلا من أربع، ثم رضي بمديريتين اثنتين، ولكن محمد علي الذي كان قد شرع يسعى لمناجزة بكوات الصعيد وأراد إطلاق يده حتى يتسنى له التوفر على معالجة مسألتهم، رضي بإعطاء الألفي مديرية واحدة خالية من المطالب الميرية على شريطة أن يكف عن النضال. وفي 5 أكتوبر غادر محمد كتخدا الألفي القاهرة يحمل إلى سيده هذا العرض الأخير الذي رفضه الألفي عندما أدرك غرض محمد علي، وبعد أن فاز ببغيته من هذه المفاوضة الطويلة؛ لأن كتخداه لم يغادر القاهرة إلا بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك. وفي 16 أكتوبر كتب «دروفتي» أن المفاوضات قد توقفت بين الألفي ومحمد علي.
ولكن «دروفتي» ذكر في رسالته هذه كذلك، أن جيشا مؤلفا من ألف وخمسمائة من العثمانلي والأرنئود بقيادة ياسين بك قد نزل إلى النيل غداة مبارحة كتخدا الألفي القاهرة، قاصدا إلى بني سويف والمنيا، وكان ياسين بك قد عين كاشفا على بني سويف والفيوم منذ 15 سبتمبر - على نحو ما تقدم ذكره - ولكن ياسين بك لم يلبث أن انهزم في الفيوم على يد الألفي الذي كان قد انسحب إليها بعد أن قضى وطره من المفاوضة التي بدأها مع محمد علي، وهرب ياسين بك مع بكوات الصعيد، وكان البرديسي وإبراهيم بك منذ أن شعرا بعزم الباشا على إرسال جيشه ضدهما قد انسحبا من مراكزهما أمام بني سويف إلى أعلى واستوليا على أسيوط، بينما ذهب حسين بك الزنطاوي مع جماعته إلى حدود الصعيد، في انتظار قافلة وسط إفريقية للإغارة عليها وسلبها، بينما طلب عثمان بك الاتفاق مع الباشا منفصلا عن سائر زملائه، وأرسل مندوبا من قبله إلى القاهرة لهذه الغاية، ولو أن هذه المفاوضة أخفقت في أكتوبر لأن عثمان حسن قد طالب بإقطاعيات كثيرة له ولزملائه أكثر مما وافق عليه محمد علي، وهو إقطاعهم جميعا مديريتي جرجا وإسنا بالشروط السابقة فحسب. ولما كان البرديسي يعتزم محاربة محمد علي وينتظر انخفاض النيل للاشتباك مع الأرنئود الموجودين بحاميات الصعيد ولديه حوالي الخمسمائة من العثمانلي، والألف وخمسمائة من الدلاة، ويتراسل معه سليمان بك المرادي (البواب) الرابض شمالي أسيوط ويريد التفاهم معه، ولا يزال عثمان حسن يميل إلى الاتفاق مع الباشا؛ فقد كان من الواضح أن الانقسام لا يزال سائدا بين بكوات الصعيد.
وعلى ذلك فقد قرر محمد علي تجهيز حملة عظيمة ضد الألفي في الفيوم من جهة، واستئناف مفاوضاته مع بكوات الصعيد لشل حركتهم من جهة أخرى. وفي أوائل نوفمبر بدأ الأرنئود يجتمعون في القاهرة، وحضر منهم جماعة كبيرة من دمياط، ووضعوا تحت قيادة حسن باشا، وبذل محمد علي جهده لتدبير المال اللازم لدفع مرتباتهم وإكمال استعداداته لإنفاذهم إلى الصعيد، وأبطل الحملة المعدة للذهاب إلى جدة، وأعلن أنه سوف يتولى بنفسه قيادة هذه التجريدة الكبيرة، وحدد موعدا قريبا لخروجها، ثم إنه ريثما تتم استعداداته بادر بإرسال مندوبيه إلى بكوات الصعيد، وسارت هذه المفاوضة جنبا إلى جنب مع بعض العمليات العسكرية التي اضطر الباشا إلى القيام بها ضد جماعة الألفي لوقف اعتداءاتهم على إقليم الجيزة خصوصا، وشدد - على وجه الخصوص - في وقف الإمدادات إلى الألفي، وكان هذا منذ أن انقطعت المفاوضات بينه وبين محمد علي قد تزايد اعتماده على جلب ما يحتاج إليه معسكره من بيوت التجارة الأوروبية ومن بعض الوكلاء الإنجليز الذين يزاولون التجارة لا سيما «البطروشي» في رشيد، فطلب الباشا من الأخير أن يكف عن نشاطه، وطلب من «مسيت» أن يمنعه من إرسال ما تحتاج إليه جماعة هم عصاة ثائرون على الباب العالي، ويرجوه أن يصدر إليه تعليماته وأوامره القاطعة بالكف عن مراسلة المماليك، ولم يشأ «مسيت» أن يتورط الوكلاء الإنجليز في النضال بين ممثل صاحب السيادة الشرعية على البلاد وبين الخارجين على سلطانه، فكتب يستدعي «البطروشي» إلى الإسكندرية في 15 أكتوبر، وأبلغه رسميا بوجوب الكف عن الاتصال بالمماليك.
وفي 11 ديسمبر أرسل محمد علي مندوبيه مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي بمكاتبات إلى بكوات الصعيد ليصطلحوا على أمر، كما أوفد علي جاويش الفلاح، وبلغ التفاؤل في نجاح هذه المفاوضة حدا جعل الوكلاء الفرنسيين يكتبون في 15 يناير 1806 أن الأمل كبير في إمكان الوصول إلى تسوية مع البكوات، ما عدا الألفي، حيث قد بلغهم أن إبراهيم بك وعثمان حسن وجماعتهما قد أخبروا الباشا بقبول مقترحاته ولكنهم يطمعون في كرمه ويرجونه زيادة الإقطاعيات التي رضي بإعطائها لهم، وكان هؤلاء الوكلاء يرون أن الباشا بسبب ظروفه الراهنة سوف يجد نفسه ملزما بالاتفاق معهم، ذلك الاتفاق الذي لا يمكن بدونه - كما قالوا - أن تصلح القاهرة للسكنى لأن محمد علي لا يستطيع إخراج الجند الموجودين بها وإرسالهم للاشتباك مع المماليك في أية معارك، وعاد إلى القاهرة مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وعلي جاويش الفلاح في 29 يناير، وأحضروا معهم من الصعيد ثلاثة وثلاثين مركبا محملة بالمؤن لتموين القاهرة، ولكن البكوات طلبوا أبناء الباشا كرهائن لديهم لضمان السلام الذي أعلنوا استعدادهم لعقده، فأوفد الباشا مصطفى أغا والصابونجي لمقابلتهم في أسيوط في 2 فبراير، وقال الوكلاء الفرنسيون إنهما كانا مزودين بسلطات جديدة ويحملان إنذارا نهائيا من محمد علي لهم، وعاد المندوبان من مهمتهما في 20 فبراير، ولم تسفر هذه المساعي عن شيء، وكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» منذ 13 فبراير أن المماليك قد قابلوا بكل احتقار عروض محمد علي للصلح معه، ولو أن المفاوضات لا تزال جارية بينه وبين إبراهيم بك والبرديسي، ومن الواضح أن غرض محمد من كل ذلك إنما هو شل حركة هذين البكين وتقييد قواتهما ووقفهما عن العمل، بينما تنشط قواته هو ضد الألفي، وهذا إذا تسنى له إقناع جنده بالخروج من القاهرة.
وقد ذكر الجبرتي السبب في إخفاق المفاوضات مع بكوات الصعيد، فقال: «وقد حكى الناس عنهما أن المذكورين لما ذهبا إلى أسيوط وجدا أن إبراهيم بك قد انتقل إلى ناحية طحطا، واجتمعا بعثمان بك حسن والبرديسي، فلم يرضيا بالتوجه الذي وجها به إليهم، وهو من حدود جرجا، وقالا: لا يكفينا إلا من حدود المنية، فإن الفرنساوية كانوا أعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده فكيف أنه يكفينا نحن الجميع من جرجا؟ وشرطوا أيضا أنه إذا استقر الصلح على مطلوبهم لا بد من إخلاء الإقليم من هذه العساكر الذين لا يتحصل منهم إلا الضرر والخراب والدمار والفساد، ولا يبقي الباشا منهم إلا مقدار ألفي عسكري، وقالوا: إنه أيضا إذا لم يعطنا مطلوبنا فهو لا يستغني عن أناس من العسكر يقيمون بالبلاد التي يتجمل علينا بها فنحن أولى له وأحسن منهم، ونقوم بما على البلاد من المال والغلال، وعند ذلك يحصل الأمن ويسير المسافرون في المراكب وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله الراحة. وأما إذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه لم يزل متعبا من كثرة العسكر ونفقاتهم وكذلك سائر البلاد، على أنه إن لم يرض بذلك فها هي البلاد بأيدينا والأمر مستمر معنا ومعهم على التعب والنصب.» وقال «مسيت» إن البكوات رفضوا مقترحات محمد علي وهم مدهوشون من أن يأخذ على عاتقه عرض ما يمتلكونه هم فعلا، وما ليس في مقدوره هو أن يحرمهم منه.
ورضي الباشا بأن يبدأ إقطاع البكوات عند ملوي؛ أي في منتصف المسافة تقريبا بين المنيا وأسيوط على أن يصرف هؤلاء ما لديهم من عربان وعثمانلي ويونان وأرنئود فلا يبقى معهم سوى مماليكهم فحسب، وطلب البكوات من جهتهم أن ينقص محمد علي جيشه إلى أربعة آلاف وأن يخرج الباقون من مصر، وقد رفض الباشا ذلك. وقال «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في 23 مارس 1806، يعلل سبب قطع المفاوضات بعدم اطمئنان فريقي المتفاوضين إلى بعضهما بعضا، وانعدام وجود ما يضمن لكل منهما قيام الآخر بتنفيذ ما يتعهد به، وكان طلب البكوات من محمد علي إنقاص جيشه الصخرة التي ارتطمت بها المفاوضات؛ لأنه حتى ولو كان الباشا - كما قال «دروفتي» - صادق النية ويريد الإيفاء بعهوده حقا، فكيف يتسنى له أن يطرد من مصر جندا اعتادوا على النظر إلى هذه البلاد كأنها ملك لهم، جندا فرضوا إرادتهم في كل الأوقات على رؤسائهم كقانون لا سبيل إلى تحطيمه.
فلم يبق أمام محمد علي سوى إرسال الجند الذين كان بسبيل إعدادهم لقتال البكوات، ثم محاولة تجديد المفاوضة مع الألفي لشل حركته أثناء انشغاله بمناجزة بكوات الصعيد، وقد كانت المناوشات دائرة بين جنده وبين عربان الألفي وجنده منذ انقطاع المفاوضة السابقة بينهما لتكرر الكلام عما ظهر من تلكؤ الجند في الخروج للقتال وفرارهم من جيش محمد علي للانضمام إلى المماليك، فكان من أخطر هذه المصادمات ما وقع في 18 ديسمبر 1805، ثم في منتصف فبراير من العام التالي (1806)، فبذل الباشا قصارى جهده الآن لإخراج العسكر للتجريدة، وكان قد أقام منذ أواخر أكتوبر 1805 معسكرين؛ أحدهما ببر الجيزة، والآخر بناحية طرا، وجدد الباشا إنذاراته وتحذيراته للجند بالخروج والتجمع في هذين المعسكرين منذ آخر يناير 1806، ثم حدث في أواخر فبراير أن حضر سليمان أغا الأرنئودي من جهة المنيا يحمل أخبار هزيمة جنده على يد بكوات الصعيد، وذلك أن الباشا كان قد لبسه كاشفا على منفلوط حين عين ياسين به كاشفا على بني سويف والفيوم، وغادر هذان القاهرة مع سائر الكشاف الذين عينوا في جهات أخرى منذ 5 أكتوبر 1805، ولكن سليمان أغا وكبار العسكر بالمنيا ما لبثوا أن وقعوا تحت رحمة البكوات الذين ضيقوا الحصار عليهم ومنعوا عنهم الموارد ولم يستطيعوا جمع أية إتاوات، فساءت حالهم واستبد بهم القحط، وقرروا العبور إلى البر الشرقي والاستيلاء على بلدة المطاهرة، ولكن المماليك سرعان ما أحاطوا بهم وقاتلوهم عدة أيام حتى ظهروا عليهم، وفرقوهم وأسروا كثيرين منهم، وكان سليمان أغا من بين الأسرى، وتوسط له بعض الأجناد لدى البكوات فنجا من القتل، ثم أنعم عليه البكوات بكسوة ودراهم وسلاح، وأقام معهم أياما ثم استأذنهم للعود، وحضر إلى مصر وجلس بداره، وعندما أغار شاهين بك الألفي مع عربانه على إقليم الجيزة في الأيام الأولى من شهر مارس 1806، لم يجد الباشا مناصا من الخروج بنفسه إلى ناحية بولاق، وإنفاذ التجريدات ضد جماعة الألفي وضد بكوات الصعيد.
فعبر النيل في 5 مارس 1806 طائفة من العسكر الخيالة إلى بر الجيزة، وعدى طاهر باشا بجنده إلى بر إمبابة، وشرع عسكر حسن باشا في التعدية إلى البر الآخر من ناحية معادي الخبيري ولحق بهم حسن باشا في 15 مارس وكان مكلفا بالزحف على الصعيد وبلوغ جرجا التي عين حاكما عليها، وكان من المنتظر أن يحدث التحام بينه وبين الألفي عند مروره بالفيوم، وكان الجيش الذي خرج به حسن باشا من حوالي الأربعة آلاف مقاتل، اعتبره «مسيت» غير كاف لمناجزة الألفي وبكوات الصعيد لدرجة أنه صار يعتقد - على حد قوله في رسالة له إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في أول مارس 1806 - أن محمد علي عند إعطائه قيادة هذا الجيش إلى حسن باشا إنما كان يبغي من ذلك تعريض منافس خطير له إلى خطر عظيم أو على الأقل إلحاق الأذى بسمعته، وليس الغرض من إرسال هذا الجيش إخضاع الألفي، ثم استطرد «مسيت» يقول: «وكذلك فلا يزال سبب قبول حسن باشا لهذه القيادة مجهولا وهو الذي رفضها مرات كثيرة، اللهم إلا إذا كان غرضه الانضمام إلى العصاة.» ومهما كان من أمر فقد صح ما توقعه «مسيت» من حيث هزيمة حسن باشا عند اشتباكه مع جند الألفي.
فقد حصل أول اصطدام بين حسن باشا وجند الألفي بناحية «جرزا الهوى» «والرقق» - وتتألف الرقق من الرقة الكبير على مسافة 52 كيلومترا من القاهرة و36 كيلومترا من بني سويف على الشاطئ الأيسر من النهر، والرقة الصغير على مسافة كيلومترين من الرقة الكبير - وانتصر حسن باشا في مبدأ الأمر بسبب مفاجأته لمعسكر المماليك، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن فاجئوهم في مساء اليوم نفسه وأوقعوا بهم هزيمة كبيرة، ولكنه ما كاد يجتاز الرقق حتى ظهرت فجأة كل قوات الألفي الذي كان قد ترك الفيوم في طريقه إلى الدلتا، وكان جيشه يتألف من حوالي مائتين أو ثلاثمائة مملوك عدا حوالي الستة آلاف من العربان المنتشرين في السهل وراءه، فانقض الألفي على الأرنئود وأبلى مماليكه بلاء حسنا، وأرهق العربان الأرنئود، فانهزم حسن باشا واضطر إلى اللجوء إلى الرقق والتحصن بها، وأرسل يطلب النجدة من القاهرة، وذاع في العاصمة خبر هذه الهزيمة في 26 مارس، فأمر محمد علي بإرسال النجدات إليه، وخرج في مساء اليوم نفسه كتخدا بك ونصب «وطاقه» ببر إمبابة، وخرج سليمان أغا مع فريق آخر من الجند إلى ناحية طرا، وذهب عابدين بك لنجدة أخيه حسن باشا إلى الفيوم، وكان قد احتلها مع عسكر الدلاة الذين معه بسبب خروج الألفي منها.
وكان سبب إخلاء الألفي للفيوم إقفار هذا الإقليم من الأرزاق والأقوات، بعد أن استمر جنده والعربان الذين معه - ويعدون بالألوف - زمنا طويلا يسلبون أهله، وينهبون غلات الأرض، ثم زاد ضيقهم بسبب المراقبة الصارمة التي فرضها محمد علي من جديد على البائعين والمتسببين حتى لا يمدوا معسكر الألفي بشيء بعد فشل المفاوضات الأولى معه، ولم يجد الألفي من الحكمة مهاجمة حسن باشا بعد تحصنه في الرقق، فتقدم بجيشه حتى وصل إلى كرداسة، وانتشر جنده وعربانه في إقليم الجيزة يسلبون أهله وينهبونهم ويصادرون أرزاقهم وأقواتهم، وانضم إليهم في ذلك بضعة ألوف من عربان ليبيا، ثم إنه بادر باستئناف المفاوضة مع محمد علي لعله يصل إلى اتفاق معه بالشروط التي عرضها سابقا والتي قد لا يجد محمد علي في أزمته الراهنة مناصا من قبولها.
وكان الألفي يعلم ما للمشايخ من مكانة عند القاهريين - ومثله في ذلك مثل محمد علي نفسه - فأراد استمالتهم إلى تأييد قضيته؛ ولذلك فقد أوفد أحد رجاله مصطفى كاشف المورلي بكتاب إلى السيد عمر مكرم والمشايخ (29 مارس) يذكر فيه أنه لم يحضر إلى إقليم الجيزة إلا لطلب القوت والمعاش؛ حيث لم يبق بالفيوم شيء يكفيه ومن معه من الأجناد، ويرجون شفاعتهم في حقه وتوسطهم لدى محمد علي، لعله ينال من مراحم أفندينا ما يمكنه أن يتعيش به كما سبق له أن رجا ذلك منه، فأبلغ عمر مكرم الباشا الرسالة، وطلب هذا منه أن يكتب إلى مصطفى كاشف بالحضور «حتى نتروى معه - كما قال محمد علي - مشافهة»، وقابله عمر مكرم بمحمد علي في 31 مارس وحمل كتابا إلى الألفي عاد به من ليلته، وكان غرض محمد علي من هذه المفاوضة كسب الوقت كعادته، ومنع الألفي من الاتحاد مع زملائه في عمل مشترك ضد جيش حسن باشا.
وحضر مصطفى كاشف المورلي بجواب آخر من الألفي في 2 أبريل يوسط السيد عمر مكرم والمشايخ مرة أخرى لدى الباشا، ويلقي مسئولية ما يقع من اعتداءات جنده على الأهلين سواء بإقليم الجيزة أم بغيره من الأقاليم على كاهل محمد علي وعناده وإصراره على عدم إجابة مطالبه وإنهاء الخلافات بينهما، تلك الخلافات التي هي مبعث كل ما يقع على الأهلين من مظالم، ويحاول إقامة الحجة على أن مسلكه لا يختلف عن مسلك الباشا نفسه في هذا الشأن، بل ويعزو إليه المبادأة بالعدوان بسبب ما يجمعه من أصناف الجند الغرباء عن البلاد لقتال أصحابها، فقال في كتابه لهم: «إننا أرسلنا لكم نرجو منكم أن تسعوا بيننا بما فيه الراحة لنا ولكم وللفقراء والمساكين وأهالي القرى، فأجبتمونا بأننا نتعدى على القرى، ونطلب منهم المغارم، ونرعى زرعهم، وننهب مواشيهم، والحال أنه والله العظيم ونبيه الكريم أن هذا الأمر لم يكن على قصدنا ومرادنا مطلقا، وإنما الموجب لحضورنا إلى هذا الطرف ضيق الحال والمقتضي للجمعية التي نصحبها من العربان وغيرهم إرسال التجاريد والعساكر علينا، فلازم لنا أن نجمع إلينا من يساعدنا في المدافعة عن أنفسنا، فهم يجمعون أصناف العساكر من الأقطار الرومية والمصرية لمحاربتنا وقتالنا، وهم كذلك ينهبون البلاد والعباد للإنفاق عليهم، ونحن كذلك نجمع إلينا من يساعدنا في المنع ونفعل كفعلهم لننفق على من حولنا من المساعدين لنا، وكل ذلك يؤدي إلى الخراب والدمار وظلم الفقراء، والقصد منكم - مخاطبا المشايخ - بل الواجب عليكم السعي في راحة الفريقين.»
وعرض الألفي مطالبه لإبرام الاتفاق بينه وبين محمد علي، وهي أن يكف الباشا عن قتاله، وأن يخصص له جهة يرتاح فيها، فإن أرض الله - كما قال - واسعة تسعنا وتسعهم، كما أنه اشترط لإبرام هذا الاتفاق إعطاءه عهدا بكفالة من يعتمد عليه من ناحيته وناحية محمد علي، ويكتب بذلك محضر لصاحب الدولة؛ أي للصدر الأعظم، وينتظر الطرفان رجوع الجواب من الباب العالي، وعند وصوله يكون العمل بمقتضاه، وطلب الألفي كشوفية والتزام مديريات البحيرة والجيزة والفيوم، ولكن الباشا وافق على أن يقطعه إقليم الجيزة فحسب وكتبوا له جوابا بذلك من غير عقد ولا عهد ولا كفالة كما أشار الألفي، وسلموا الجواب لمصطفى كاشف المورلي ورجع به، فعاد الألفي يطلب مديرية البحيرة وجزيرة السبكية - وهي جزيرة يصنعها فرعا النيل وقناة منوف وبها سبعون قرية - وأوفد رسولا آخر، أحمد أبو الذهب العطار يحمل رسائل بنفس المعنى الذي أوضحه في كتابه السابق إلى السيد عمر مكرم وسائر المشايخ ورجال الدولة أو مندوبي الباب العالي في مصر، سعيد أغا دار السعادة وصالح بك القابجي، ولكن دون جدوى، وكتبوا له بالمعنى الأول، وقد صحب رسول الألفي في هذه المرة عند عودته إلى سيده أحد المتعممين، السيد أحمد الشيتوي، لعله يستطيع إقناع الألفي (11 أبريل).
وكان واضحا بسبب تمسك كل من الفريقين بمطالبه، أن هذه المفاوضات على حد قول الجبرتي - أمور صورية وملاعبات من الطرفين لا حقيقة لها، والواقع أن أحدا منهما: لا الألفي ولا محمد علي كان يريد اتفاقا لا يحقق له مقاصده، بل إن أجناد الألفي أثناء هذه المفاوضات لم يكفوا عن الإغارة على مختلف البلدان التي مروا بها في طريقهم إلى الدلتا؛ لأن الألفي عندما غادر الفيوم كان يقصد الزحف على البحيرة، والاقتراب ما أمكن من الإسكندرية؛ لأنه كان قد أرسل وكلاءه إلى القسطنطينية للسعي لدى الباب العالي من أجل استصدار عفو عن المماليك وإعادة سلطاتهم السابقة إليهم بزعامة الألفي نفسه، على نحو ما سيأتي ذكره في موضعه، فصار يهمه أن يكون قريبا من الإسكندرية لتلقي ما قد يرد من أخبار من القسطنطينية من جهة، وحتى يستطيع الاتصال بسهولة بالوكيل الإنجليزي «مسيت» المقيم بها من جهة أخرى، وكان الألفي يعتمد على وساطة الإنجليز في نجاح مساعيه لدى الباب العالي؛ وعلى ذلك فقد طلب أجناد الألفي كلفا من برطيس وأم دينار ومنية عقبة، وكان العساكر الأتراك بهذه النواحي قد أغروا أهلها بمقاومة جنود الألفي، والامتناع عن إعطائهم الكلف والدراهم ووعدوهم بنجدتهم إذا اشتبكوا معهم؛ وعلى ذلك فقد امتنعوا عليهم اعتمادا على هذه الوعود، فضربهم الألفية وحاربوهم ونهبوهم، وأما جند الباشا فإنهم لم يسعفوهم ولم يخرجوا من أوكارهم، وفي اليوم نفسه الذي جاء فيه أحمد أبو الذهب العطار بعروض الألفي الأخيرة في 11 أبريل، وهي المطالبة بمديرية البحيرة وجزيرة السبكية، أصدر محمد علي أوامره إلى كشافيه في تلك الجهات بجمع كل ما لديهم من قوات والذهاب إلى ساحل السبكية للمحافظة على الجزيرة من وصول جنود الألفي إليها؛ لأنهم إذا حصلوا عليها تعدى شرهم إلى المنوفية بأسرها، بل وأشيع عزم الباشا على الذهاب إليها بنفسه بطريق القليوبية على أن يلحق به كتخدا بك وطاهر باشا، وأرسل يطلب حسن باشا وجنده، وكان هذا بعد واقعة الرقق قد استمر في سيره حتى وصل إلى بني سويف ويستعد لمواصلة السير إلى المنيا.
وأما الألفي فإنه كان هو الآخر قد غادر كرداسة قبل انقطاع المفاوضة، وكان من أسباب ارتحاله عنها توقعه فشل المفاوضة من جهة، ثم ما أحدثه وجوده على أبواب الجيزة من ذعر بالقاهرة وخوف القاهريين أن يعمد إلى مهاجمتها بعد انتصاره الأخير في الرقق، فتسلح قسم من أهلها، وصاروا يخرجون مع أغا الانكشارية، والفرسان الموجودين بها إلى خارج أسوارها استعدادا للمعركة التي لم تحدث لشيء سوى رغبة الألفي في الذهاب إلى البحيرة بكل سرعة للأسباب التي ذكرناها، فجعلته هذه المظاهرة يستأنف سيره، وذلك بعد أن انضم إلى صفوفه أيضا أحد البمباشية الأرنئود مع حوالي الأربعمائة من جند الباشا، فوصل إلى جزيرة الأسود مجتازا إمبابة في 8 أبريل، وكان هدفه التالي جزيرة السبكية، وبعث محمد علي يستدعي الدلاة الذين كانوا مع حسن باشا في بني سويف، كما أصدر أمره للجند المعسكرين في إمبابة بالخروج لمطاردة الألفي، ولكن حسن باشا الذي كان يستعد لمواصلة السير إلى المنيا - كما قدمنا - لم يلبث أن أعلن أنه لا يذهب إلى أبعد من المكان الذي وصل إليه (بني سويف) ما لم تدفع له مرتبات الجند المستحقة عن أربعة شهور، وبدا كأنما هو يرفض تلبية أوامر محمد علي بشأن إرسال الدلاة، ومع ذلك فقد وصل جماعة من هؤلاء بعد ذلك في 19 أبريل وانضموا إلى الجند المعسكرين في إمبابة، ولكنهم رفضوا جميعا الخروج كذلك، فتحرج موقف محمد علي، وساد الذعر والفزع في القاهرة حتى إن الأوروبيين الذين كانوا بها لم يلبث أن غادرها كثيرون ممن استطاعوا منهم فعل ذلك، قاصدين إلى رشيد ودمياط، وزادت حروجة محمد علي عندما وصلت الأخبار إلى القاهرة في 14 أبريل تعلن استيلاء جند الألفي وعربانه على جزيرة السبكية وتخاذل المحافظين عليها وهروبهم من وجوههم، فأرسل محمد علي إلى منوف قوة من الفرسان بقيادة طاهر باشا (18 أبريل)، ثم أراد أن يلحق بالأخير كتخدا بك بسائر قوات الحملة، ولكن الجند ما لبثوا أن أوقفوه عندما أراد الانتقال إلى بولاق، فأرغم على العودة إلى القاهرة في الظروف التي سبق ذكرها. وفي 24 أبريل جاءت الأخبار بأن الألفي قد ارتحل من ناحية الجسر الأسود والطرانة قاصدا إلى البحيرة، فبذل محمد علي قصارى جهده لتدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند، واستطاع كتخدا بك (دبوس أوغلي) الانتقال إلى إمبابة «بوطاقه» في 27 أبريل.
وانتهز الألفي فرصة ازدياد متاعب محمد علي، فجدد عروض الاتفاق معه - كما كتب الوكلاء الفرنسيون - على أساس حصوله على مديريتي البحيرة والشرقية إلى أن تحضر الفرمانات التي قال إنه طلبها من الباب العالي، ولكن الباشا رفض ذلك؛ لأنه لم يشأ قبول تقسيم للبلاد يعرض سلطته للخطر، فترتب على رفضه هذا أن انقض ثلاثة من صغار بكوات الألفي على مديرية المنوفية يعيثون فيها فسادا، بينما استمر الألفي في طريقه، متخذا من رفض محمد علي للصلح معه ذريعة لمهاجمة دمنهور، فوصلها في 23 أبريل وطلب من أهلها التسليم طوعا، ولكن هؤلاء لم يجيبوه إلى طلبه؛ ذلك أن محمد علي كان قد وسط السيد عمر مكرم منذ أن بدأ الألفي حركته صوب الدلتا، لتحذيرهم من التسليم له وتحريضهم على المقاومة، كما صار يمدهم بآلات الحرب والبارود فنهضوا لتحصين البلدة وترميم أسوارها، وحفر الخنادق حولها، كما جلبوا إليها من المؤن ما يكفيهم لمقاومة أي حصار يضرب عليها، ولو استطالت مدته سنة بتمامها. فلم يجد الألفي سبيلا لإخضاعها إلا بمحاصرتها، وبلغ الخبر القاهرة بتوجه الألفي إلى دمنهور ومحاصرته لها في 29 أبريل، ولكن الألفي لم يلبث أن رفع الحصار عنها لحاجته إلى المؤن ولوقوع سوء تفاهم بينه وبين العربان الذين معه، ولما بلغه أخيرا من تحرك الدلاة وخروجهم من إمبابة لقتاله، ويقول الوكلاء الفرنسيون: إن تحرك هؤلاء، ولو أنهم تباطئوا في سيرهم، كان كافيا لأن يجعل الألفي يرفع الحصار عن دمنهور، فارتد عنها إلى ناحية وردان، وعدى من جيشه وعربانه طائفة إلى جزيرة السبكية، فلم يلقوا بها أية مقاومة لتخاذل جند الباشا الذين كانوا قد عادوا إليها بعد رحيل الألفي إلى دمنهور، فولوا الأدبار في هذه المرة كذلك، فطلب الألفي من أهل السبكية دراهم وغلالا ولكن أكثرهم استطاعوا الفرار فجلوا عنها، وتفرقوا في بلاد المنوفية (28 مايو).
وبينما كانت هذه الحوادث تجري في الوجه البحري، كان حسن باشا غير قادر على مغادرة بني سويف، لتمرد جنده من جهة، ولكثرة من ترك جيشه منهم، وانضم إلى صفوف المماليك من جهة أخرى، والبرديسي وإبراهيم واقفان على حصار المنيا ويتأهبان لمهاجمتها، ويبعث حسن باشا في طلب النجدة من القاهرة، وقد استمر الحال على ذلك فترة من الزمن، حتى استطاع الباشا أن يبعث ب «محو بك» بالذخيرة، فما إن وصل هذا إلى بني سويف حتى خرج مع عابدين بك لإنقاذ حامية المنيا، وعندئذ قامت الحامية بخروج مسلح لاستقبال النجدة الآتية إليها، ودارت بينهم ومعهم قوات عابدين بك وبين قوات المماليك بقيادة رجب أغا الأرنئودي وزميله الثائر الآخر ياسين بك معركة شديدة انهزم فيها الأخيران، ودخل عابدين بك المنيا، وأطلقت المدافع من قلعة القاهرة ابتهاجا بهذا النصر عندما بلغ الباشا الخبر في 24 مايو 1806.
ولما كان الألفي قد اتخذ مقره بجهة حوش عيسى، ويلتزم خطة الانتظار بدلا من محاولة استئناف حصار دمنهور، أو شن هجوم جديد على أعدائه، واستطاع الباشا تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند أو - على الأقل - قسم منها، وتهدئة فتنة الجند في مختلف الحاميات سواء بالوجه البحري أم بالصعيد، فقد بدا أن الموقف بسبيل التحسن، وأن العمليات العسكرية سائرة في طريقها، وأنه لا يكاد يكون هناك خطر جسيم يهدد سلطانه، ولكن كل أمل في انفراج الأزمة لم يلبث أن زال سريعا عندما جاء السعاة من الإسكندرية يعلنون نبأ وصول بشارة إلى الألفي بالرضا والعفو للأمراء المصرية من الدولة بشفاعة الإنجليز، فدل ذلك على حدوث تغيير مفاجئ في سياسة الديوان العثماني، لا سيما وأن محمد علي كان منذ سفر القبطان باشا (عبد الله رامز) في أكتوبر 1805، قد حصل من القسطنطينية على الرتبة ذات الثلاثة أطواخ، وحضر من عهد قريب (4 فبراير 1806) نحو السبعين ططريا ومعهم البشارة له بوصول الأطواخ إلى رودس، ثم وصل إلى بولاق في 24 مارس قابجي وبيده تقرير له بالولاية على مصر، وجاءته الهدايا من القسطنطينية وبعث إليه السلطان بفرو التقليد، فكان معنى هذا التبدل الذي طرأ على سياسة الدولة أن الباب العالي المتقلب والذي لا يمكن لأي باشا من باشوات الإمبراطورية أن يركن إليه قد صح عزمه على إنهاء حكمه وطرده من الولاية. (2) الباب العالي ومحمد علي
ويرجع سبب التبدل الذي طرأ على موقف الباب العالي من محمد علي إلى مسعى الديوان العثماني دائما منذ أن عادت مصر إلى حظيرة الدولة لبسط نفوذه الفعلي عليها، كما كان مرده إلى قصر نظر رجال الديوان المسئولين الذين توهموا أثناء اشتداد تنازع النفوذ في القسطنطينية بين إنجلترة وروسيا من جانب وبين فرنسا من جانب آخر، وبدء توتر العلاقات بين روسيا وتركيا بدرجة تهدد بقيام الحرب بينهما - ثم بين تركيا وإنجلترة تبعا لذلك - بسبب النزاع الدائر حول منصبي حاكمي الأفلاق والبغدان من جهة، ومسألة مرور الجند الروس عبر البوغازات إلى «كورفو» من جهة أخرى، أن في وسعهم تأمين السلام في ركن من أركان الإمبراطورية كان - في نظرهم - معرضا لعدوان الإنجليز والفرنسيين على السواء عليه إذا هم أعادوا به ذلك الوضع القديم الذي حفظ لهم سلطة اسمية ظاهرية يمثلها باشا من الباشوات الذين في استطاعتهم أن يولوهم أو يعزلوهم متى شاءوا، والذي وضع السلطة الفعلية في أيدي طغمة من المماليك، لم يمتنعوا على كل حال عن دفع الأموال الميرية، ولم يتمردوا أو يحاولوا نبذ سيادة الدولة الشرعية عنهم إلا في مرات قليلة نادرة.
ولقد وافق الباب العالي على تسمية محمد علي لولاية مصر بعد انقلاب مايو 1805 نزولا على حكم الضرورة واعترافا بالأمر الواقع عندما تبين للقبطان رامز باشا أن خورشيد وأحلافه المماليك عاجزون جميعا أمام عناد زعماء القاهريين وحيلة ودهاء محمد علي عن استرجاع حكومة القاهرة. واستعصى على الباب العالي أن يتحرر من نظام أوجده ضعف السلطنة، ثم جعله ينظر إلى التطاحن الدائر بين هذه القوى المتنازعة كخير ما يمهد له السبيل لبناء نفوذه الجديد في مصر على أشلاء هذه القوى المتحطمة، فعندما وصل القبطان باشا إلى مصر لم يكن لأولئك الذين بعثوا به إليها عينا لهم ليرى أي كفتي الخصمين (خورشيد ومحمد علي) هي الراجحة، من هدف سوى تقرير سلطان الباب العالي بالوسيلة التي لازمت خطته في مصر منذ أن خرج الفرنسيون منها، وهي الاعتراف بالأمر الواقع دائما. ولقد كان تقرير النفوذ والسلطان بهذه الوسيلة العاجزة يتطلب من أجل إرضاء القائمين على سياسة الدولة المحافظة على مظاهر السيادة، وأهمها دفع الخراج ورفع قيمته كلما تيسر ذلك، وإرسال النجدات من مؤن وجند ومال مما قد يساعد الدولة على اجتياز أزمة من الأزمات الكثيرة التي هزت كيانها وقتئذ، ثم إغداق العطايا والهدايا على رجال الديوان العثماني ثم على السلطان نفسه، وإذعان الولاة أو الباشوات لأوامر الباب العالي، ثم استطاعة الباب العالي أن يعزل أو يولي من يشاء من هؤلاء الباشوات أنفسهم.
ولم يكن وجود محمد علي في الولاية من صنع الباب العالي، بل كان من أثر عوامل كثيرة أخرى، أبرزها تمسك القاهريين به ونبذهم لحكومة خورشيد باشا، ولم تدخل هذه العوامل في مبدأ الأمر في حسبان القبطان باشا أو سائر رجال الباب العالي من بطانته وسائر المحيطين به من القائمين بشئون الحكومة في الإسكندرية التي ظلت معقلا للنفوذ العثماني أثناء تنازع الباشوات والمماليك على السلطة في القاهرة واستئثار الأخيرين بالسلطة الفعلية الكاملة على أكثر أقاليم القطر، بل إن القبطان باشا ومن ذهب مذهبه كانوا لا يزالون يعلقون آمالا كبيرة، حتى بعد اندحار خورشيد ونزوله من القلعة، على أن البكوات المماليك في وسعهم أن يطردوا محمد علي من القاهرة؛ فقد كتب «دروفتي» إلى «تاليران» في 23 أغسطس 1805، بعد مكيدة القاهرة المعروفة التي ذهب ضحيتها عدد من البكوات وأتباعهم يوم 16 أغسطس، أن أحدا من رجال الدولة وممثليها بالإسكندرية لم يسر لأنبائها، بل ولا يريدون تصديقها، ثم استطرد يقول: «وهكذا فإن هذا النجاح الذي كان يعد في الماضي نصرا؛ وذلك بسبب ما هو معروف من قديم عن رغبة الباب العالي الشديدة في التخلص من البكوات، قد تأجل الاحتفال به حتى صباح هذا اليوم، وذلك بإطلاق إحدى عشرة طلقة مدفع فحسب، ويشاطر الإنجليز الأتراك فيما يبدونه من عدم الارتياح والرضا.» وقد وصل «دروفتي» من ذلك إلى تقرير أن خطة خورشيد باشا قد تكون هي المتغلبة (أي اتحاده مع القبطان باشا والبكوات المماليك في عمل مشترك من أجل طرد محمد علي)، وأن إعادة تأسيس حكومة البكوات في القاهرة وطرد الأرنئود كان الرأي الذي دان به القبطان باشا كأفضل الطرق الممكنة لإنهاء هذا النزاع، وذلك أنهم يخشون قيام حكم أرنئودي أكثر مما يخافون من قيام حكم مملوكي.
ولقد حاول «دروفتي» بعد انتهاء الأزمة في صالح محمد علي وتهيؤ القبطان باشا للعودة إلى القسطنطينية، أن يقف على حقيقة رأي هذا الأخير في الحوادث التي أفضت إلى إلزامه إبقاء الولاية في يد محمد علي، فلجأ إلى ترجمان القبطان باشا الأول يستوضحه الأمر بعد أن صعب عليه إدراك قصده من أحاديثه مع القبودان نفسه، ثم كتب إلى حكومته في 16 أكتوبر 1805 أنه استخلص من الإجابات التي حصل عليها، أن القبطان باشا قد غادر مصر وهو مقتنع بأنه من الواجب اعتبار محمد علي في زمرة العصاة الثائرين على الباب العالي، بل ويخشى منه كثيرا بسبب ما له من دهاء وحنكة سياسية ولباقة، وقد علل «دروفتي» نفسه منشأ هذا الرأي بقوله: «إن هذا الوالي (محمد علي) ولو أنه في الحقيقة يحتفظ بمظهر تبعيته للباب العالي إلا أنه يسلك مسلك الحاكم بأمره، وعلاوة على ذلك فإني أعرف أنه متحرز كل التحرز من الحكومة التركية ويسيء بها الظن تماما، ويتخذ كل إجراء من شأنه أن يبعده عن مرمى كل سهم قد يسدد إليه؛ إما بطريق الغدر والخيانة، وإما بطريق استخدام القوة السافرة ضده.» وأما القبطان باشا نفسه فقد قال وهو يبرح هذه الديار: «لقد خلفت ورائي في هذه البلاد رجلا سوف تلقى فيه الإمبراطورية ذات يوم دون شك ولا ريب ثائرا من أشد الثوار خطرا عليها، فإنه لم يسبق أبدا أن كان لسلاطيننا من يفوق هذا الباشا في حنكته السياسية ونشاطه الجم وقدرته على المداهنة والمراوغة.»
وبذل وكلاء محمد علي في القسطنطينية كل ما وسعهم من جهد وحيلة لإظهار حكومته في خير صورة، وظلوا طوال الأزمة التي نشأت عن المناداة بولايته يستندون في إلحاح - لضرورة بقائه في الحكم - على أن المشايخ والعلماء المفصحين عن رغبات الشعب هم الذين يريدونه ولا يرضون سواه حاكما عليهم، وأنه قد تعهد بتنفيذ برنامج واسع للإصلاح الإداري، كما صاروا يحيون أمل السلطان في انتظار الفائدة التي اعتقد أن من حقه أن يجنيها من امتلاك هذه الباشوية الهامة، فراحوا يؤكدون أنه سوف يأتيه بمجرد استقامة الأمر لمحمد علي كل ما يريده من مال وجند لقتال الوهابيين، ينهض دليلا على ذلك تهيؤ ظاهر باشا من أقرباء محمد علي نفسه للسير إلى الحجاز على رأس جنده المعسكرين لهذا الغرض خارج القاهرة عند أول إشارة يتلقاها، كما أكدوا أن أوامر السلطان سوف تصبح قطعا نافذة. وكان لهذه الدعاوى والوعود وزنها في تسويغ الخضوع للأمر الواقع وإصدار التعليمات إلى القبطان باشا تبعا لذلك بإقرار محمد علي في الحكم، حتى أخفقت كل محاولات خورشيد في استرجاع الولاية.
ولكنه وإن كانت هذه الوعود قد ساعدت على تسليم الباب العالي بالأمر الواقع فيما يتعلق بباشوية القاهرة، فقد ظل الديوان حريصا على استبقاء الإسكندرية معقلا للنفوذ العثماني في مصر، والحلقة التي تصل بين السلطنة والولاية، والمكان الذي في وسع عماله المرتبطين به مباشرة أن يراقبوا منه مجريات الحوادث ونشاط محمد علي خصوصا. وعلى ذلك، فإنه لم تمض أيام قلائل على رحيل القبطان باشا إلى القسطنطينية، حتى وصل من الباب العالي فرمان يثبت أمين أغا (الذي حل محل كخيا خورشيد باشا القديم منذ يوليو 1805)، في حكومة الإسكندرية، واسترعى هذا الإجراء في الظروف القائمة نظر الوكيلين؛ الفرنسي والإنجليزي، فنقل «دروفتي» هذا الخبر إلى حكومته في 16 أكتوبر 1805، وعلق عليه بقوله: «إن صدور هذا الأمر الخاص من القسطنطينية بتعيين أمين أغا لحكومة الإسكندرية برا وبحرا يشير على ما يبدو إلى أن الباب العالي إنما يريد التمسك بهذا المكان (الإسكندرية) مستقلا عن باشوية مصر.» وأما «مسيت» فقد كتب من الإسكندرية في 20 أكتوبر إلى حكومته يقول: «إن فرمانا قد وصل من الباب العالي إلى حاكم هذه المدينة بتثبيته في حكم الإسكندرية - المستقل عن باشوية مصر - وحصونها، ويأمره بمنع أي جند من دخولها عدا أولئك الملتحقين بخدمته هو نفسه.» ثم استطرد «مسيت» يقول: «وإذا قبل محمد علي هذا الوضع فلا خوف حينئذ من علاقاته مع فرنسا، ولكنه لا يجب علينا أن نتوقع أنه سوف يسلم بحرمانه من ميناء كهذا له أهميته الكبرى لحكومته، وبدونه يتعذر عليه تنفيذ ذلك المشروع الواضح أنه لديه والذي يبغي منه جعل نفسه مستقلا عن الباب العالي بمساعدة فرنسا.» وقد تقدم كيف أن «مسيت» منذ طرد حكومة البكوات من القاهرة وانقلاب مايو 1805 بعد ذلك قد صار يلفت نظر حكومته إلى مشروعات الباشا هذه نحو الاستقلال، واعتماده في بلوغ مأربه على فرنسا.
ثم إنه سرعان ما تبين بعد تقليد محمد علي منصب الولاية أن الآمال التي عقدها الباب العالي على حكومته في ضوء الوعود الجميلة التي بذلها وكلاء الباشا في القسطنطينية أثناء الأزمة كانت سرابا خادعا، فلم يظفر الباب العالي بالإمدادات التي كان يريدها، ولم يخرج جيش طاهر باشا إلى الحجاز لحرب الوهابيين، ولم يستطع محمد علي الإغداق على السلطان ورجال الديوان بالهبات والعطايا، ولم تكف إيرادات مصر - كما شاهدنا - في أحايين كثيرة لدفع مرتبات الجند المتمردين على الباشا، وصار ما ناله السلطان العثماني كدليل على بقاء سيادته العليا على البلاد، أو ما ناله وزراؤه لا يعدو بعض الهدايا والسيوف والخيول، على أن الذي اغتم له الباب العالي أكثر من أي شيء آخر أن أوامره لم تنفذ، وأن محمد علي بدلا من إرسال النجدات التي وعد بها إلى الحجاز، قد استبقى الجند وقائدهم طاهر باشا في مصر لاستخدامهم في عملياته العسكرية، وأنه إلى جانب نبذه لأوامر السلطان ظهريا يبذل قصارى جهده لدعم ولايته لصالح نفسه، وحتى ينفرد بحكومتها مستقلا عن الباب العالي، وحرمان هذا الأخير من تلك الأداة التي ساعده استخدامها على الاحتفاظ بمظهر سيادته في ولايات الإمبراطورية المختلفة، وهي تعيين الباشوات وعزلهم حسب مشيئته، ولقد كان لهذين الاعتبارين الأخيرين؛ ضآلة ما يحصله الباب العالي من مال من باشوية القاهرة، وتعطيل مظهر سيادته ونفوذه، أكبر الأثر في إقناعه بضرورة تدبير عزل محمد علي، حتى إنه عندما جاء قرار نقل الباشا إلى سالونيك، لم يجد «دروفتي» بدا من توضيح أثر هذين العاملين لحكومته (16 يونيو 1806). وكان مما ذكره عن فقد الباب العالي لنفوذه في مصر أنه منذ ثورة مايو 1803 التي أسفرت عن طرد خسرو باشا صار الأرنئود هم أصحاب السلطة في مصر، وليس للحكومة العثمانية شيء منها سوى إرسال الفرمانات التي روعي تنفيذ ما تضمنته من أوامر وتوجيهات طالما كانت هذه غير متعارضة مع الأهداف الاستقلالية للبيت الحاكم الجديد.
وقد حرص الباب العالي على تعزيز نفوذه في مصر، ثم تحصيل ما يمكن تحصيله من مال منها عندما عين مندوبين من قبله لإدارة جمارك الإسكندرية ودمياط ورشيد في أبريل 1806، وأرسل في الوقت نفسه قابجي وعلى يده مرسومات بالجمارك وغيرها، ومنها ضبط ترك الموتى المقتولين والمقبورين وكذلك تركة السيد أحمد المحروقي وآخر يسمى الشريف محمد البرلي، وقال الشيخ الجبرتي: «إن القصد من ذلك تحصيل الدراهم بأي حجة كانت.» ولكن الباشا سرعان ما انتهز وجود هذا القابجي لاستمالته إلى تأييد قضيته فأغدق عليه النعم والعطايا، ثم زوده بعطايا وهدايا أخرى للدولة وأربابها، فلم تطل إقامته بالقاهرة وغادرها بعد ستة أيام فحسب من وصوله إليها، وخرج الباشا مع سعيد أغا والسيد عمر مكرم لتوديعه عند سفره من بولاق في 26 أبريل، وعرفه بقضايا وأغراض يتممها له في القسطنطينية.
غير أن مسعى أصدقاء الباشا ووكلائه في القسطنطينية لم يجد نفعا في صرف الباب العالي عن عزمه، بل كانت تجري المباحثات هناك من مدة في أمر محمد علي وتدبير عزله من باشوية مصر ونقله إلى ولاية أخرى. (3) أزمة النقل إلى سالونيك
مفاوضات وكلاء الألفي في القسطنطينية
وصحبت المباحثات التي دارت بالقسطنطينية وتعيين موسى باشا بدلا عنه في باشوية القاهرة، وصدور عفو السلطان عن المماليك، وتأسيس نفوذهم من جديد بزعامة الألفي، ملابسات كثيرة كان من أثرها ذيوع الاعتقاد وقتذاك بأن ذلك كله قد حدث بناء على شفاعة ووساطة الإنجليز، ولقد بلغ من رسوخ الفكرة في أذهان المعاصرين أن اعتقد بصحة ذلك الشيخ الجبرتي - وهو يسجل ما يعرفه وما يشيع كذلك في أوساط المشايخ وبين سائر العليمين بالأمور - ثم الوكلاء الفرنسيون في مصر ورجال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية، والألفي نفسه وجماعته وسائر البكوات والمماليك، ولا يستغرب أن يصدقه الباشا نفسه، والسبب في ذيوع هذا الاعتقاد ما كان معروفا عن مسعى الإنجليز دائما في السنوات السابقة وحتى قبل أن تتزعزع - في المدة الأخيرة - علاقاتهم مع الباب العالي من أجل معاونة البكوات، ولا سيما أولئك الذين اعتبروهم من أنصارهم، على استرجاع سيطرتهم المفقودة، والعود إلى ذلك النظام السابق الذي كفل للمماليك القوة والنفوذ قبل مجيء الحملة الفرنسية، أضف إلى هذا أن الألفي نفسه عندما بدأت هذه المباحثات أسرع في طلب وساطة الإنجليز لدى الباب العالي اعتقادا منه أن في هذا تعزيزا لقضيته، كما أن الوكلاء الإنجليز بمجرد أن تم الاتفاق بين الديوان العثماني ومندوب الألفي في القسطنطينية بادروا بزف البشرى إليه، وصار من مصلحة هؤلاء الوكلاء أن يروج خبر شفاعتهم أو وساطتهم المزعومة، ولما كان الترتيب الذي تم الاتفاق عليه قد أتى محققا لرغبات الألفي وفي صالحه، وكان المعروف من قديم أنه صنيعة الإنجليز، فقد سهل تصديق هذه المزاعم.
والحقيقة أن زمام المبادأة في هذه المباحثات كان بيد الباب العالي نفسه، وأن الألفي لم يوفد مندوبه إلى القسطنطينية إلا بعد أن طلب إليه المسئولون هناك أن يفعل ذلك، وأن السفارة الإنجليزية لم تتدخل إطلاقا في المباحثات، وأن الاتفاق قد حصل دون استشارتها فيه، ناهيك عن إشراكها في موضوعه، وأن رجالها والوكلاء الإنجليز في مصر لم يرتاحوا للترتيب الذي وضع ولو أنه في صالح الألفي، بل نقدوه وتنبئوا بفشله، زد على ذلك كله أن الإنجليز أنفسهم في الوقت الذي حدث فيه الاتفاق لم يكن لديهم من النفوذ في القسطنطينية ما يجعلهم يتشجعون على التوسط والتدخل، أو ما يجعل الباب العالي نفسه يصغي لوساطتهم إذا هم فعلوا ذلك.
فقد اعتقد الباب العالي للأسباب التي سبق الحديث عنها، وعندما نفد صبره من رؤية محمد علي لا يحقق شيئا من الوعود التي كان وكلاؤه قد منوا بها الديوان العثماني، أن خير وسيلة لإنهاء حكومة الأرنئود وبسط نفوذ الدولة الفعلي في مصر هي تمليك البكوات ورجوعهم على شروط تشترطها عليهم الدولة أولى من تمادي العداوة بينهم وبين محمد علي الذي وصفه الصدر الأعظم محمد باشا بأنه رجل جاهل متحيل لم يتقلب في مناصب الدولة، وإنما ظهر من العسكر في حين أنه لا يسهل إجلاء المماليك عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم، ومن المنتظر لذلك أن تستمر الحروب بين محمد علي والمماليك مع ما يتبع ذلك من احتياج الفريقين إلى جمع العسكر وكثرة النفقات والعلائف والمصاريف، يجمعونها من أي وجه كان ويؤدي ذلك إلى خراب الإقليم، فالأولى والمناسب صرف ذلك المتقلب (أي محمد علي) وإخراجه وتولية خلافه، والعود بنظام الحكم في مصر إلى الوضع الذي كان عليه قبل مجيء الفرنسيين إليها، وفاتح الصدر الأعظم في هذه المسألة سليمان أغا، وهو من مماليك صالح بك الوكيل.
كان الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا قد قلده سلحدارا وبعث به إلى إسلامبول، وأقام بها من ذلك الحين يشرف على مصالح البكوات عموما، وقرب بينه وبين محمد باشا السلحدار أن الأخير كان في الأصل مملوكا للسلطان مصطفى الثالث، ويعطف بسبب رابطة الجنس على قضية البكوات المماليك، وأكد الصدر لسليمان أغا صدق نواياه في الوصول حقيقة إلى اتفاق مع البكوات، على شريطة أن تفيد الخزينة العامرة منه؛ أي في نظير أن يرفع البكوات قيمة الخراج السنوي وتأتي الأموال والعطايا إلى القسطنطينية، فاقترح عليه سليمان أغا أن يطلب الباب العالي من الألفي بإرسال كتخداه محمد أغا؛ لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك، ففعل. فكان ذلك منشأ المباحثات التي انتهت بالاتفاق الذي كان من بين قواعده عزل محمد علي من ولاية مصر ونقله إلى ولاية سالونيك.
وقد ذكر الشيخ الجبرتي هذه الرواية عند ترجمته لسيرة الألفي، ثم عززها ما ذكره الوكيل الإنجليزي «مسيت» عندما أرسل يبلغ «شارلس أربثنوت» بالقسطنطينية وصول مندوبي الألفي إليها للمفاوضة مع الباب العالي، ويبلغه كذلك طلب الألفي وساطة السفير الإنجليزي في القسطنطينية.
فإنه ما إن وصل رسول سليمان أغا إلى مصر وقابل الألفي حتى شرع هذا الأخير يهيئ لإرسال كتخداه مزودا بكتاب إلى «شارلس أربثنوت» مؤرخا في 22 فبراير 1806، ويصحبه ترجمانه «ستافراكي»
Stavraky ، كما بادر بالاتصال بالميجور «مسيت». أما في كتابه إلى «أربثنوت» فقد ذكر (الألفي) أنه قد أرسل كتخداه محمد أغا إلى القسطنطينية مزودا بمذكرة إلى الباب العالي وبتعليمات مختلفة بشأن ما يعرضه على الصدر الأعظم ووزراء الدولة، لإظهار رغبته في الخضوع والإذعان وطلب العفو والصفح من السلطان العثماني والحصول على فرمان يقضي برفع الحظر عن البكوات ويسمح لهم بالدخول إلى القاهرة والعودة إلى بيوتهم بها، ويأمر بترحيل الجند عن البلاد وهم مثيرو الفتن والشغب بها دائما، على أن يتعهد الألفي في نظير ذلك بخروج قوافل الحج إلى مكة، والسهر على سلامتها وإرسال الأموال المخصصة للحرمين الشريفين، والتمسك بالولاء التام للباب العالي، والعمل على استتباب النظام في القاهرة والأقاليم، وضمان هدوء الأهالي المساكين وتوفير عوامل السكينة والاطمئنان لهم في عيشهم، ثم طاعة أوامر الباب العالي. وقد أوضح الألفي السبب الذي حداه إلى كتابة هذه الرسالة إلى «أربثنوت»، فقال: «ونحن إنما نبعث إليك بهذا الكتاب كي نرجوك بوصول كتخدانا حامل هذه الخطابات (للسفير ولرجال الدولة) أن تتحد معه في المسعى من أجل إنهاء مسائله، وأن تتوسط له لدى الصدر الأعظم والكخيا بك وسائر وزراء الباب العالي الآخرين.» ثم حدد الألفي نوع الخدمة التي يريدها من «أربثنوت» بأنها قيام هذا الأخير بضمان الألفي لدى الباب العالي، وتعهد هذا بتنفيذ كل ما يتم الاتفاق عليه دون إثارة أية عراقيل أو مشاكل، وللسفير أن يطلب من كتخدا الألفي كل ما يريد أن يطلبه من الألفي نفسه، وسوف يطلعه كتخداه على كل شيء؛ لأن سيده قد عهد إليه بكل مسائله.
وفي 13 مارس 1806 كتب الألفي للميجور «مسيت» يعلمه بأنه قد بعث بأحد مماليكه إلى القسطنطينية، ويطلب منه أن يكتب إلى السفير الإنجليزي بها حتى يجعل نفسه مسئولا أمام الباب العالي عن قيام الألفي بتنفيذ كل اتفاق عادل يتم بين الفريقين، ويرجو أن يأخذ السفير الإنجليزي على عاتقه مهمة الدفاع عن قضيته، متعهدا في الوقت نفسه بقبول كل ما يجده السفير في صالحه، وللسفير أن يؤكد للباب العالي باسم الألفي والبكوات أنهم سوف ينفذون كل مطلب عادل يطلب منهم. وأما القواعد العادلة التي أراد الألفي أن يقوم عليها الاتفاق، فقد ذكرها في قوله: «إنه يرجو أن يرضى الباب العالي، بعد أن عرف أحوال مصر السيئة في الوقت الحاضر، بعودة الأمور فيها إلى ما كانت عليه سابقا، وكل الرؤساء الدينيين (أي المشايخ والعلماء) والأهالي يريدون حكومة البكوات؛ لإعادة الهدوء والاستقرار، والجميع عموما يرغبون في أن يجرى الاتفاق عن طريق تدخل الإنجليز؛ حتى يحدث الاطمئنان إلى أن الاتفاق الذي يبرم سوف يكون تسوية مستديمة.» ثم يختم الألفي رسالته بإثارة المسألة التي أقضت مضجع «مسيت» دائما، فقال: «وكل أولئك الذين يهيمنون اليوم على حكومة القاهرة يتصلون بالعدو (أي فرنسا) ويتراسلون مع وكلائها.» الأمر الذي لا بد أن يكون «مسيت» قد عرفه يقينا وبلغه خبره.
وعلى ذلك، فقد كتب «مسيت» من الإسكندرية في 22 مارس 1806 إلى «شارلس أربثنوت» يبلغه ما حدث. ولهذه الرسالة أهمية كبيرة؛ لأنها تقضي على الأسطورة القائلة بأن المباحثات التي جرت في القسطنطينية كانت بناء على توسط الإنجليز، كما أنها تلقي ضوءا كبيرا على آراء «مسيت» نفسه في معالجة الموقف، وهي آراء ظل يرددها من مدة طويلة ماضية، وخصوصا منذ أن طرد البكوات من القاهرة وتسلم محمد علي حكومتها بعد انقلاب مايو 1805، وذلك علاوة على إظهار مخاوفه من فشل أي اتفاق يسعى إليه الألفي بالصورة التي يريدها، وهي أن يكون هو نفسه صاحب الزعامة على سائر البكوات في الوضع المنتظر، مما يدل - إلى جانب غيره من الأدلة والبراهين - على أن الإنجليز لم يكونوا هم الساعين في فتح باب هذه المفاوضة، فقال «مسيت» يفسر الأسباب التي دعت الباب العالي إلى محاولة الاتفاق مع البكوات ويذكر الخطوات التي اتخذت لبدء المفاوضة معهم: «إن الحال التي سارت عليها مصر قد استرعت - فيما يبدو له - انتباه الحكومة العثمانية أخيرا؛ ذلك أن سليمان أغا، وهو مملوك أقام جملة سنوات بالقسطنطينية في مركز المشرف أو المراقب على مصالح طائفته قد أوفد بناء على رجاء بعض رجال الدولة: «كوسي كخيا»
Cussey Kiaia
و«والدة كخيا»
Validé Kiaia
رجلا موثوقا به إلى مصر مع تعليمات حتى يدعو محمد بك الألفي لإرسال وكيل يعتمد عليه للمباحثة مع وزراء الدولة في الوسائل التي يمكن بها إرجاع السلام والهدوء إلى مصر، والرجل الذي عهد إليه الألفي بهذه المفاوضة الهامة في طريقه الآن إلى القسطنطينية، ولكن الألفي بالرغم من تصريحه بالخضوع للباب العالي فإنه لا ثقة له في وعود الوزراء العثمانيين ويرفض الدخول في أية ارتباطات لا يكون السفير الإنجليزي ضامنا لها، ويرجو من السفير أن يتدخل في هذه المسألة تدخلا له أثره ووزنه، وأن يستخدم نفوذه لدى الباب العالي، وذلك هو الغرض من بعثة السيد «ستافراكي».» وقد عبر الألفي عن هذه العواطف (أو هذه الرغبات) في رسالته التي كتبها إلى «مسيت» - في 13 مارس - والتي يبعث هذا بصورة منها إلى السفير.
ثم يستطرد «مسيت» فيقول: «ويصرح الألفي - وكل رجل غير متحيز يقره على ما ذهب إليه - بأن مصر لن تنعم بأي هدوء مستقر إلا إذا أعيد تأسيس الحكومة المملوكية، ولكنه لا يوضح الوسائل التي يمكن بها إعادة تأسيسها، ومن المحتمل أن يخضع أكثر المماليك لسلطته إذا وضع (أي الألفي) على رأس الحكومة، ولكنني (أي «مسيت») لا أميل إلى الاعتقاد بأن أعداءه الشخصيين وخاصة عثمان البرديسي وسليمان بك المرادي سوف يرضيان بالخضوع له أبدا، على أن مقاومتهما لمثل هذا الترتيب ليست هي وحدها أكبر المشاكل التي سوف تصادفه؛ لأن الأرنئود لن يرضوا بالنزول عن سيطرتهم التي اغتصبوها، ولا سبيل لإخراجهم من مصر وإقصائهم عنها إلا باستخدام القوة وحدها، ولقد أثبتت التجارب أثناء الأعوام الثلاثة الماضية أنه كان من أثر مساعي الباب العالي للوصول إلى هذه الغاية زيادة الحال سوءا على سوئها؛ لأنه كان من السهل إغراء الجند الذين كلفوا بالعمل ضد الأرنئود أو التغلب عليهم بقوات متفوقة عليهم وأكثر عددا منهم.»
وعلى ضوء هذه الملاحظات إذن تقدم بالرأي الذي طالما نادى به هو وغيره من بعض الساسة والعسكريين الإنجليز، ونعني بذلك احتلال الإسكندرية، وأما إذا تعذر احتلالها فلا أقل من طرد محمد علي والأرنئود من مصر، فقال: «وأما إذا كان الديوان العثماني، مسترشدا بما تقضي به الحكمة السياسية وسعة الأفق، يتقدم بطلب إلى الحكومة الإنجليزية من أجل وضع فرق عسكرية بالإسكندرية (أي احتلالها) وأجيب هذا الطلب، فإن مصر سوف تتخلص من أولئك الذين أرهقوها وظلوا عبئا ثقيلا جاثما على صدرها، ولكنه حيث لا أمل هناك في حدوث شيء من ذلك، فلا يوجد سوى علاج ناجح واحد هو أنه إذا أمكن أن يقتنع الباب العالي بالاعتراف علنا بالمماليك حكاما شرعيين لمصر، فعليه أن يصدر أمره في الوقت نفسه برحيل الأرنئود فورا، وأن يعلن هؤلاء عصاة وثوارا إذا رفضوا الطاعة وتلبية أوامره، ويوجه الدعوة إلى العلماء (المشايخ) والأهالي لمساعدة المماليك بأقصى ما لديهم من جهد والتعاون معهم على طرد الجند العصاة الثائرين.»
وحضر محمد أغا كتخدا الألفي و«ستافراكي» ترجمانه إلى القسطنطينية، وزار الأخير يوم وصوله وبصحبته محمد أغا السفير الإنجليزي، وسلم «ستافراكي» رسالة «مسيت» السالفة الذكر إلى السفير، كما تسلم السفير رسالة الألفي إليه، وبدأ مندوبا الألفي نشاطهما في القسطنطينية.
ويدل ما تبودل من رسائل بين «شارلس أربثنوت» و«شارلس جيمس فوكس»
Charles James Fox
وزير الخارجية الإنجليزية وقتئذ، والميجور «مسيت» في مصر، على أن السفير الإنجليزي لم يتدخل مطلقا في المفاوضة التي دارت بين مندوبي الألفي (وقد اشترك فيها سليمان أغا كذلك) وبين الباب العالي، وأن الإنجليز لم يكونوا قطعا هم الذين أوصوا بفتح باب المفاوضة أو توسطوا في ذلك.
فقد كتب السفير إلى وزير الخارجية البريطانية في 5 مايو 1806 يخبره بمقابلة مندوبي الألفي له، ويذكر ما تضمنته الرسائل التي تسلمها منهما، فقال: «إن إعادة تأسيس سلطة (أو حكومة) المماليك في مصر عن طريق تدخل حكومة إنجلترة هو كما ترى - مخاطبا «فوكس» - الغرض من إرسال هذه الخطابات، وقد سمعت من الكخيا محمد أغا كتخدا الألفي أن بعثته إلى القسطنطينية كانت بناء على مفاتحة من الباب العالي مبعثها الرغبة في السلام؛ ولذلك فقد أحضر معه عريضة استرحام يرجو فيها البكوات أن يظفروا ثانية بعطف سيدهم السلطان عليهم، ولكنهم يريدون أن تكون شروط الاتفاق والتسوية بضمانة إنجلترة ...» ثم أضاف كتخدا الألفي أنه يعلم بأن هناك هدايا يجب تقديمها في مثل هذه الحالات إلى الوزراء العثمانيين، وأبلغني أنه مخول بدفع المبالغ التي يجد «أربثنوت» أنها ضرورية لهذا الغرض، ولكنه (كتخدا الألفي) أخبر السفير أن البكوات يعرفون خداع الباب العالي؛ ولذلك فهم لا يدفعون شيئا ولا يوافقون على شيء إلا إذا حصلوا على وساطة حكومة أو ممثلي جلالة الملك فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة.
وعندئذ وعد السفير كتخدا الألفي بالكتابة إلى حكومته، وأبلغه أنه ليس لديه أية تعليمات في هذا الموضوع، ثم كتب كذلك إلى «مسيت» بهذا المعنى، ثم زاد عليه: ولو أنه يعتقد من سوء السياسة خسارة صداقة البكوات بفضل ما يبدو من جانبه من عدم إجابة ملتمسهم، فهو يشعر كذلك أن من عدم الحكمة تشجيع فكرة وساطة الإنجليز؛ لأنه متأكد تماما من أن الباب العالي في مثل هذه الموضوعات لن يوافق بحال من الأحوال على تدخل أية دولة أجنبية، وهم في القسطنطينية لا يميلون اليوم بتاتا للمناقشة في أية مسألة مهما كان مساسها بعيدا بشئون الإمبراطورية العثمانية الداخلية، حتى ولو كان ذلك مع بريطانيا العظمى بالرغم مما لهذه من نفوذ كبير لدى الباب العالي، وقد اختتم السفير رسالته بطلب التعليمات من حكومته.
وقد يظهر من الفقرة الأخيرة التي وردت في هذه الرسالة أنه كان لبريطانيا العظمى نفوذ عظيم حقا في القسطنطينية وقتئذ، ولكن المتتبع لتطور الموقف السياسي في عاصمة السلطنة، وبالصورة التي سبق توضيحها عند بحث الموقف الدولي، لا يلبث أن يلحظ أن السفير إنما قصد المغالطة عند ذكره لهذا النفوذ العظيم، أو أن ما ذكره تعبير عما كان يتمناه هو نفسه؛ إذ من المعروف أن الأمور كانت قد تأزمت وقتئذ بين الأتراك والروس، وأن الإنجليز كانوا يشعرون بزيادة حروجة مركزهم وهم يحاولون تسوية النزاع بين الطرفين لصالح حلفائهم الروس فضلا عما كانوا يبذلونه من جهود كبيرة لمنع انحياز الباب العالي إلى فرنسا في وقت كان نفوذ هذه الأخيرة قد بدأ يقوى من جديد بسبب انتصاراتهم الأخيرة في أوروبا ودل على قوته اعتراف الأتراك بلقب الإمبراطور الفرنسي منذ أول فبراير من العام نفسه.
ولما كان «أربثنوت» قد بعث إلى «مسيت» منذ 26 أبريل 1806 بتعليماته الموضحة لرأيه في مسألة الوساطة التي يطلبها الألفي، مع إبداء أسفه على أن يكون امتناعه عن التدخل سببا في فقد صداقة البكوات، فقد أوفد «مسيت» رسولا إلى الألفي يؤكد له - كما قال في كتابه إلى «أربثنوت» من الإسكندرية في 22 مايو - رغبة السفير الصادقة في خدمته، ولكنه حذره في الوقت نفسه من أن مساعي أعداء الإنجليز في القسطنطينية وحد الباب العالي من تدخل دولة أجنبية في مسألة يعتبرها من شئون الإمبراطورية الداخلية سوف يلقي صعوبات جسيمة في طريق المساعي الإنجليزية، ولكنه عندما بعث برسالته هذه إلى «أربثنوت» كانت قد وصلت الأخبار إلى الألفي منبئة بنجاح مساعي مندوبيه في القسطنطينية، فقال «مسيت»: «إن أشخاصا مختلفين قد وصلوا من القسطنطينية في هذه الأيام الأخيرة وأذاعوا أخبارا أحدثت تأثيرا مباشرا على الألفي، فحواها أن الوزراء العثمانيين قد قابلوا كتخداه بكل احترام ومحبة، وأن الأخير نجح تماما في بعثته، وأنه سوف يعاد تأسيس الحكومة المملوكية في مصر بفضل وساطة بريطانيا العظمى، ثم قال: ولا شك في أن الألفي سوف يذيع هذه الأخبار بين العرب، ولا شك كذلك في أنها سوف تبلغ محمد علي.» ولكنه (أي «مسيت») بادر باتخاذ خطوات معينة لتلافي الأثر الذي قد تحدثه هذه الأخبار عليه، وحتى لا يصغي لاتهامات ذوي الأغراض السيئة، (وهم الوكلاء الفرنسيون دائما في نظر «مسيت») ضد بريطانيا.
وأما المفاوضات التي جرت فعلا بين مندوبي الألفي والباب العالي، والاتفاق الذي استطاع الفريقان الوصول إليه، فقد تحدث عنها محمد أغا في كتاب بعث به إلى «أربثنوت» في 2 يونيو 1806، يتضح منه - إلى جانب ذكر الأسس التي قام عليها الاتفاق - أن السفير الإنجليزي لم يشترك في هذه المفاوضة، فقال كتخدا الألفي: «إنه لما كان الباب العالي قد تناول المسألة بالبحث فقد قررت هذه الحكومة (العثمانية) منح العفو من جديد للمماليك، وإعادة حقوقهم الأولى (السابقة) إليهم، وإعطاءهم كل المزايا التي يريدها سيدنا الألفي بك، ولسعادتكم (مخاطبا السفير) أن تلاحظوا أني لم أغفل بناء على ما أجزتموه لي، عن ذكر اسمكم، وأن أجعل مفهوما لدى الباب العالي أن هذه المسألة يجب أن تتم بطريقكم وبوساطتكم، وأنه لذلك لا معدى عن إبلاغكم الموضوع قبل البت فيه، وأن تعطوا سعادتكم الجواب المطابق. وقد أبدى رجال الباب العالي ارتياحهم لذلك، وقالوا: إنه سوف يجري إخبار سعادتكم عندما تبت الحكومة العثمانية نهائيا في المسألة وتأتي موافقة السلطان، وقد كادوا يفرغون منها تماما، وتسمية باشا القاهرة وهو موسى باشا الموجود الآن في سالونيك، وقد كلف القبطان باشا بالذهاب إلى الإسكندرية ومعه إحدى عشرة سفينة حربية وخمسة آلاف رجل، والانضمام إلى موسى باشا، وأن يعمل بمقتضى أوامر وفرمان الباب العالي على ممارسة المماليك لحقوقهم الأولى واستعادتهم لممتلكاتهم، وعلاوة على ذلك فإن الباشا الموجود حالا في القاهرة، (محمد علي) قد عين بناء على أمر الباب العالي باشا أو حاكما في بر الشام، وكذلك حسن باشا زعيم الأرنئود؛ وعلى ذلك فالألفي بك يتعين شيخا للبلد أو رئيسا أعلى، وكذلك إبراهيم بك يبقى في منصبه القديم، وعثمان بك حسن يتعين أميرا للحج، وإذا عارض الجند الذين بالقاهرة ومحمد علي أوامر الباب العالي المحددة، يعاملون كعصاة ثائرين، ويتحد البكوات مع القبطان باشا والأهالي في قوة متفوقة عليهم تخمد عصيانهم، وتطردهم خارج البلاد.»
وذكر كتخدا الألفي محمد أغا أن الوصول إلى هذا الترتيب قد تكلف 750000 قرش أو خمسين ألفا من الجنيهات، يجب دفعها لإنهاء الاتفاق، ولما كان القبطان باشا يتأهب للسفر بعد أيام قلائل، فقد طلب محمد أغا من السفير «أربثنوت» أن يدفع له هذا المبلغ مقابل إيصال باستلامه، وأكد أن الألفي له لدى السيد «بريجز»
Briggs
بالإسكندرية مبلغ كبير من المال يكفي لسداد ما يدفعه السفير الآن.
وأهمية رسالة وكيل الألفي هذه تنحصر أولا في اشتمالها على الأسس التي قام عليها الاتفاق مع الباب العالي، ولو أنه لم يذكر أن من جملتها إطلاق بيع المماليك وشراءهم وجلب الجلابين لهم إلى مصر كعادتهم، بعد أن كان البكوات قد منعوا من ذلك من ثلاث سنوات. وثانيا فيما تضمنته من عبارات قد توحي بأن السفير الإنجليزي توسط فعلا في المفاوضة أو أن الباب العالي قد قبل هذه الوساطة ... وثالثا في إظهار أن تمام الاتفاق كان متوقفا على دفع المبلغ الذي ذكره محمد أغا. على أنه مما يجب ذكره أن «أربثنوت» لم يتوسط ولم يتدخل في المفاوضة، وأن غاية محمد أغا من إصراره على ضرورة أن يبلغ الباب العالي نتيجة المفاوضة للسفير الإنجليزي، لم يكن مبعثه الرغبة في الحصول على ضمان لتنفيذ الاتفاق من جانب الباب العالي كما أراد الألفي أصلا، بقدر ما كان مرده إلى محاولة كتخداه محمد أغا أن يدفع السفير الثمن الذي تكلفه هذا الاتفاق، وعلاوة على ذلك، فإن الباب العالي لم يكن يبغي من رضاه بإبلاغ السفير نتيجة المفاوضة سوى الاطمئنان إلى وصول المبلغ الذي وعد به كتخدا الألفي إلى خزانته، بفضل ضمان الإنجليز لدفعه. وثمة ملاحظة أخرى على جانب كبير من الأهمية لتوضيح موقف «أربثنوت» نفسه من الترتيب الذي تضمنه الاتفاق، هي أن السفير الإنجليزي كان يشك كثيرا في سلامته، ولا يعتقد أن في وسع الذين أبرموه أن يضعوه موضع التنفيذ، وتتضح هذه الحقائق جميعها مما ذكره «أربثنوت» عن هذه المفاوضة وملابساتها ونتائجها، في رسالة بعث بها إلى «مسيت» في 5 يونيو، وأخرى إلى «شارلس جيمس فوكس» في 6 يونيو 1806.
أما في رسالته إلى «مسيت» فقد كتب يقول: «لقد أوضحت لك في رسائلي السابقة رأيي في مسألة الوساطة التي يطلبها محمد الألفي؛ لأنني كنت واثقا تماما من أن الباب العالي لن يوافق على قبول هذه الوساطة. ولقد دلت الحوادث على صحة ذلك، ويبدو أن هناك ترتيبا عمل بين كتخدا الألفي وبين الباب العالي، وأول الأمر عندما زارني كتخدا الألفي بك وعندما زارني السيد «ستافراكي» أخبرتهما ولو أنه ليس لدي تعليمات تخولني التدخل فإني واثق بالرغم من هذا من أن رغبة جلالة الملك الشديدة هي أن يكون أداة لإرجاع الهدوء إلى مصر لدرجة أنه إذا طلب مني الباب العالي وطلب مني المماليك كذلك خدماتي من أجل الوساطة فإني لن أبخل بها، ولقد حاولت أن أبين لهما (أي محمد أغا و«ستافراكي») في وضوح وجلاء أني لن أسهم في هذه المسألة إلا إذا طلب من الباب العالي ذلك رسميا. وعندما جاءني كتخدا الألفي بعد أول مقابلة له مع وزراء الباب العالي يسأل نصيحتي في الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه، أبلغته ثانية أنه إذا كان يرى في ضوء ما أصدره إليه سيده من تعليمات أن تدخلي في المسألة ضروري إطلاقا ولا غنى عنه، فعليه حينئذ أن يذكر للباب العالي أنه زارني كي يطلب وساطتي حسب ما لديه من أوامر من سيده توجب عليه فعل ذلك ، ولكنني أعلنت إليه بوضوح تصميمي الجازم على عدم عرض وساطتي من جانبي، وحيث إن مليكي قد دلل دائما على رغبته القوية في مشاهدة الفوضى تزول من مصر، ولما كنت واثقا من أن الملك لا تزال تحدوه هذه الرغبة ويوجد لديه نفس الشعور، فإني لا أجد ما يدعو لجعلي مترددا في أن آخذ على عاتقي مساعدته من أجل إزالة الصعوبات القائمة إذا قدم لي الباب العالي طلبا بالوسائل المتبعة والمعمول بها لهذا الغرض. وصفوة القول أني عنيت بأن أجعل كتخدا الألفي يدرك، وأن أجعل مفهوما تماما لدى الباب العالي عن طريقه، أنه ليست لدي أية رغبة للتوسط، وأنه لن يغريني شيء بالقيام بالوساطة سوى طلب يشترك في تقديمه إلي الطرفان معا يبديان فيه هذه الرغبة في عبارات قوية، وكان اعتقادي أن التظاهر بعدم الاهتمام هو الذي يزيل ما لدى الباب العالي من تعصب في موضوع التدخل الأجنبي، وأعتقد أن كتخدا الألفي قد تكلم مع رجال الباب العالي في حدود ما تقدم، أو على الأقل، هذا ما أخبرني به «ستافراكي» الذي أكد لي قطعا أن الوزراء العثمانيين لم يظهروا أدنى معارضة لتوسطي، وأن هذه الوساطة سوف تطلب مني بمجرد الانتهاء بفضل مباحثات سابقة من معرفة مدى الشروط التي يوافق عليها كتخدا الألفي.
وهكذا كان الوضع عندما سألني الباب العالي من أيام قليلة ماضية إذا كان صحيحا - على نحو ما قيل له وصار التأكيد له به - أني أدفع أو أضمن المبلغ الذي على المماليك أن يدفعوه ثمنا للعفو الذي ينالونه، فأجبت: إن هذا السؤال قد أدهشني جدا. ثم سطرت كتابة كل ما جرى بيني وبين كتخدا الألفي كي أبرهن على أنه بدلا من أن أطلب أنا الوساطة، لن يفلح شيء في إقناعي بالتوسط إلا تأكيد من جانب الباب العالي بأنها مطلوبة من الطرفين ومرغوب فيها منهما على السواء كذلك. وبالرغم مما جرى بيني وبين الباب العالي فإن كتخدا الألفي والسيد «ستافراكي» لا يزالان مصرين على أنه سوف يحدث طلب وساطتي، بل وأن شخصا سوف يكلف حالا بالحضور إلي من قبل الوزراء العثمانيين يطلب مني ذلك. غير أنه سرعان ما اتضح أنهما إما أن يكونا قد أخطآ التقدير، وإما أن يكونا قد أرادا خديعتي وغشي؛ ذلك أن السيد «ستافراكي» لم يلبث أن جاء إلي أخيرا ليبلغني أن الباب العالي يعارض بصورة لا يمكن التغلب عليها في أية وساطة، وأنه قد تم الاتفاق على المبلغ الذي يدفعه المماليك، وأنه هو وكتخدا الألفي قد قطعا شوطا بعيدا لإتمام هذا الاتفاق يجعل من المتعذر عليهما النكوص على أعقابهما، وأن الرجاء معقود على مساعدتي في إيجاد المال اللازم؛ لأن مواردهما «وحسابهما» غير كافية. وعندما بلغني «ستافراكي» هذه الرسالة، سلمني في الوقت نفسه كتاب كتخدا الألفي (وهو كتابه السالف الذكر للسفير بتاريخ 2 يونيو 1806)، فكان جوابي على كلام «ستافراكي» أني سعيد؛ لأنه صار هناك أمل الآن في إعادة الهدوء والسكينة والنظام إلى مصر، ولكنه ليس في مقدوري أن أدفع مالا؛ لأنه لا يوجد شيء من المال بتاتا تحت تصرفي.
وأما تعليقي على ذلك، فهو أنه عند حضور المماليك إلى القسطنطينية كان السيد «ستافراكي» قد أخبرني أنهم مستعدون لأن يضحوا بخمسة ملايين قرش من أجل الوصول إلى تحقيق هذا الغرض؛ ولذلك فإنه يبدو مدهشا حقا أن يكفي مبلغ ضئيل كهذا (750000 قرش) لإجابة رغبات الباب العالي، الأمر الذي جعلني أشك في أن الترتيب الذي وضع إنما قد حدث منفصلا بين الباب العالي وبين الألفي، وأن الألفي عليه لذلك أن يدفع وحده ودون أن يسهم البكوات الآخرون فيه كل المبلغ الذي فرضه عليه الباب العالي ثمنا لتعيينه في المستقبل رئيسا أعلى للمماليك الذين يعاد تأسيس سلطانهم في مصر، وكذلك فإنه مما تجب ملاحظته، مما جاء في رسالتي الألفي إليك وإلي ومن معلومات أخرى حصلت عليها، أننا صرنا نتخيل أن البكوات لن يستميلهم للموافقة على الدخول في مفاوضة مع الباب العالي سوى توسطنا في ذلك فقط، ولكننا نجد الآن، بالرغم من أنني لم أسهم بتاتا بأي نصيب كان في هذه المفاوضة، أنها ليس فقط قد بدأت فعلا، بل وقد تكللت - كما يبدو لي - بالنجاح بعد أن انتهت بكل سرعة، وليس من شك في أن هذا الظرف يدعو بالضرورة للاعتقاد بأحد الأمرين؛ إما أن يكون الباب العالي قد خدع وكلاء الألفي، أو رشاهم، أو أن هؤلاء الوكلاء - ولا يبدو احتمال ذلك بعيدا - كان لديهم تعليمات سرية تختلف اختلافا عظيما عن تلك التي أبلغت إلينا كلينا. وقد يكون وكلاء الألفي برآء من ذلك، ولا أريد أذيتهم بسبب هذه الشكوك التي تساورني في أمرهم.»
وفي كتابه إلى «شارلس جيمس فوكس» قال «أربثنوت»: «وقد بقي علي أن أوضح لك الأسباب التي جعلتني مستعدا لتقديم وساطتي لو أن الباب العالي قد طلبها مني كما فعل البكوات ... فإنه لمما يبدو مرغوبا فيه أولا: إقصاء الأتراك الذين لهم السلطة الآن في مصر ولا سيما الباشا محمد علي؛ لأن هؤلاء يصفهم الميجور «مسيت» بأنهم قطعا يؤيدون المصلحة الفرنسية، ولأن تهدئة الأمور أو الصلح بين البكوات والباب العالي يستلزم حقا حدوث ذلك، وثانيا: لأنه ولو كان من الحكمة لعدم إثارة حسد الباب العالي الامتناع عن عرض وساطتنا، فمن الواضح كذلك أنه لو كنا دعينا للتدخل وتقديم خدماتنا لكانت النتيجة الحتمية لذلك هي زيادة نفوذنا هنا في القسطنطينية وفي مصر معا، ومع ذلك فمن المشكوك فيه، والترتيب الذي ووفق عليه قد حدث بالصورة المعروفة، أن تكون ثمة فائدة يمكن أن نجنيها منه لو كنا من أطرافه؛ لأنه لا يزال علينا أن نرى إذا كان البكوات الآخرون يوافقون على هذا الذي تم على يد كتخدا الألفي، وإذا كانت العمارة التي هي على وشك الإبحار إلى مصر تقدر على القيام بمهمة إعادة النظام إليها، فإذا نجحت فمن المنتظر أن تجني المصلحة البريطانية للأسباب السالفة الذكر فوائد جمة بالرغم من عدم تدخلنا .» وقد اختتم «أربثنوت» رسالته هذه بإظهار رجائه في أن التفسيرات التي سوف يدلي بها «مسيت» إلى البكوات لتوضيح موقف السفير الإنجليزي أثناء المفاوضات الأخيرة يجدها هؤلاء كافية لإقناعهم بأن الإنجليز يهتمون بأمرهم ويرعون مصالحهم.
ويستبين من الرسائل التي بعث بها «مسيت» من الإسكندرية إلى «أربثنوت» وإلى وزير الخارجية الإنجليزية «فوكس» ثم وزير الحرب والمستعمرات «وليم وندهام»
Windham
ما يمكن اعتباره ختام القول في مسألة هذه الوساطة، والزعم بأن الاتفاق الذي وصل إليه مندوبو الألفي مع الباب العالي في القسطنطينية كان بناء على إرساليات الألفي للإنجليز - كما قال الشيخ الجبرتي - ومخاطبة الإنجليز الدولة ووزيرها.
فقد كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في 11-15 يونيو 1806، أنه لم يدهش لعدم رغبة الباب العالي في وساطة السفير في مسألة المماليك ورفض تدخله في صالحهم، كما استطرد يقول: وأنه إذا كان شخصيا قد شجع الألفي على طلب هذه الوساطة من السفير، فقد كان غرضه من ذلك المحافظة على المصلحة الإنجليزية، ومع أنه حقق رجاء «أربثنوت» فقام بتفسير موقف هذا الأخير أثناء مفاوضات القسطنطينية، وكتب إلى الألفي في 15 يونيو يخبره بما فعله الديوان العثماني في المسألة التي كان قد كلف بها محمد أغا وينبئه بقرب وصول القبطان باشا بعد أيام قلائل، فإنه من ناحية أخرى لم يلبث أن أبدى شكوكه ومخاوفه من نتيجة هذا الاتفاق، وبسط العوامل التي رأى أنها سوف تقضي عليه بالفشل، كما أنه وقد توقع حدوث الفشل، قد راح يلفت نظر المسئولين إلى ضعف تحصينات الإسكندرية وعجزها عن رد أي عدوان قد يأتيها من جانب فرنسا إذا قامت الحرب بين هذه الأخيرة وبين الإنجليز، ويطلب لذلك ولإقناع الأهلين بأن إنجلترة تهتم حقا بأمرهم وجود مركب حرب إنجليزي في مياه الإسكندرية.
ففي رسالته إلى «وندهام» في 18 يونيو 1806، أبلغ «مسيت» الوزير إرسال الألفي لأحد رجاله إلى القسطنطينية والغرض من هذه البعثة، ثم استطرد يقول: «إنه يبدو أن عددا من وزراء الباب العالي، إما لرغبتهم في إنهاء الكوارث التي حلت بهذه المقاطعة (مصر)، وإما بسبب تغلب وعود الألفي على ما كان لديهم من نفور وكراهية ضد استرجاع البكوات لوضعهم السابق، قد أخذوا على عاتقهم تأييد آراء الألفي ووجهات نظره، وحصلوا على تقرير إرسال القبطان باشا في أسطول كبير وجيش عديد إلى الإسكندرية، مزودا بالأوامر والتعليمات من أجل إرغام الأرنئود على تسليم البلاد للمماليك، ومن المنتظر وصول القبطان باشا هذا في أيام قليلة، ولكنني أخشى أن يقضي غرور الألفي وزهوه وخيلاؤه على هذا المشروع، وترتمي مصر في أحضان فوضى الحرب الأهلية، فإن الألفي في الترتيب الذي عمله مع الديوان العثماني قد عني قبل كل شيء بما يتعلق برفعة شأنه هو نفسه؛ حيث اشترط أن يرقى إلى مشيخة البلد (أو حاكم البلاد) بالاشتراك مع إبراهيم بك الذي استمر محتفظا بهذا المنصب الرفيع سنوات عديدة والذي يبدو أنه قد لا يسلم في استكانة وخضوع بوجود ند له يشاركه على قدم المساواة في هذا المنصب، ولكن هذا ليس في رأيي بالعقبة الكأداء التي يتعثر الاتفاق عليها؛ ففي الفرمانات التي يقال إن الباب العالي قد أصدرها لإعادة امتيازات وحقوق البكوات القديمة إليهم لم يأت أي ذكر مطلقا لعثمان بك البرديسي، وهو الذي اعتبر أثناء غياب الألفي في إنجلترة حاكم المماليك من غير منافس، وهو رجل ذو طموح، ويضع فيه المماليك عموما ثقتهم، وكثيرا ما حصل من الوكلاء الفرنسيين على وعود بمساعدته على نوال المرتبة التي كانت له مدة غياب الألفي، وليس هناك أي شك في أنه سوف لا يخضع لسطوة منافسه، وطالما كان هذا الغريم موجودا فعلى الألفي أن يشن حربا يشك في نجاحها من أجل انتزاع كل شبر من الأرض التي ربما يمني نفسه الآن بأنه سوف يسمح له بحكمها في هدوء وسلام.»
ثم انتقل «مسيت» من ذلك إلى لفت نظر الوزير إلى حالة الإسكندرية والشواطئ المصرية الخالية من وسائل الدفاع عنها، وإلى المنافسات والانقسامات السائدة بين المماليك، في الوقت الذي يملك فيه العدو (أي فرنسا) أكثر الشواطئ والموانئ الإيطالية، مما يخشى معه من وقوع غزو على هذه البلاد، زد على ذلك المؤامرات التي يحيكها العملاء والوكلاء الفرنسيون لاستمالة أفراد معينين من بين مسيحيي الإسكندرية لخدمة المصالح الفرنسية، ثم ما يحدثه من أثر عدم اهتمام إنجلترة الظاهر بمصر على الأهلين الذين صاروا يعتقدون أنها لا تهتم بمصير هذه البلاد بدليل أنها لم ترسل مركبا حربيا إلى الإسكندرية مع وجود أسطول كبير لها في البحر الأبيض.
وفي 19 يونيو بعث «مسيت» إلى «فوكس» بتفاصيل مفاوضة مندوبي الألفي في القسطنطينية، وأن القبطان باشا قد أبحر منها لتنفيذ الخطة التي تم الاتفاق عليها، ثم قال: «ولو كان الألفي يسعى وراء المصلحة حقا وإعادة السلام والهدوء إلى مصر، ولو كان غرضه الرئيسي من اتفاقه مع الحكومة العثمانية ليس خدمة مآربه الشخصية والاستئثار بالمنفعة لصالحه الخاص هو وحده فحسب، لصار نجاح هذه الحملة (حملة القبطان باشا) محققا، ولكن الألفي لم يكن له من مسعاه سوى غرضين؛ إشباع مطامعه، وإرواء كراهيته لعثمان بك البرديسي؛ ولذلك فقد اشترط لنفسه أن يرفع هو إلى مشيخة البلد بالاشتراك مع إبراهيم بك، ولا ينتظر أن يقبل هذا الأخير وقد تمتع بهذا المركز سنوات عديدة أن يقبل معه في المشيخة شخصا أقل منه منزلة، كما أن عثمان بك حسن وهو أقوى البكوات وأكثرهم احتراما بين قومه، قد تعين أميرا للحج، وهذه مهمة سوف تعرضه كل عام لمتاعب وأخطار الرحلة الشاقة عبر الصحراء ولا تتناسب مع سنه المتقدمة، ومع ذلك، فإن إبراهيم بك وعثمان بك حسن حكيمان ومن المرجح أنهما يقبلان في الوقت الحاضر هذا الترتيب، ولكن المعارضة والمقاومة الشديدتين سوف تأتيان من ناحية عثمان البرديسي الذي لم يعط له أي نصيب في الحكومة، وينظر إليه المماليك كممثل لمراد بك مما يجعله صاحب سيطرة وسلطة، أضف إلى هذا حب المماليك له بسبب شجاعته وكرمه؛ وعلى ذلك، فإذا حدث أن انضم إليه الأرنئود، ولا شك في أنه سوف يحاول عقد مثل هذه المحالفة، صار من المتعذر إعادة النظام لمدة طويلة.»
وذكر «مسيت» في هذه الرسالة أن «دروفتي» حين وصول أخبار هذا الترتيب بادر بإرسال من يخبر به البرديسي ويعرض عليه مساعدة فرنسا له إذا هو تصدى لمقاومة الألفي، كما عرض ذلك أيضا على محمد علي، وكان تعليق «مسيت» على ذلك أن تلقي هذه المقترحات من جانب فرنسا يكفي وحده ودون عوامل أخرى لإغرائهما على المقاومة، وقد وجد «مسيت» لزاما عليه حينئذ أن يحذر الألفي من مساعي أعدائه، فكتب إليه في 20 يونيو، يبلغه خبر المؤامرة التي تحيكها فرنسا مع محمد علي والبرديسي من أجل مقاومته، وأن الحكومة الفرنسية قد بعثت برسولين أحدهما إلى عثمان البرديسي والآخر إلى محمد علي تعد كليهما على لسان هذين الرسولين بتأييدها لهما إذا هما قاوما بالقوة مشيخة الألفي وتأسيس حكومته.
وقد تحققت ظنون «أربثنوت» و«مسيت» ومخاوفهما من فشل الاتفاق الذي تم دون إشراك السفارة الإنجليزية في القسطنطينية فيه أو استشارتها في الأسس التي قام عليها، ولم يكن غرض كتخدا الألفي أو ترجمانه «ستافراكي» من نقل خبره إلى السفير بعد الفراغ منه سوى جعل «أربثنوت» يدفع المبلغ المطلوب أو على الأقل حصولهما على ضمانته له؛ أي تعهده بدفع المبلغ إذا تعذر على الألفي لسبب من الأسباب دفعه، ولما كان «أربثنوت» قد رفض الدفع أو إعطاء ضمانته، فقد بقي تنفيذ الاتفاق من جانب الباب العالي (أي إعادة تأسيس سلطان البكوات في مصر وطرد محمد علي والأرنئود منها) مرتهنا في ظاهره على الأقل بدفع السبعمائة والخمسين ألف قرش (أو ال 1500 كيس) المتفق عليها؛ لأن محمد أغا لم يدفع منها شيئا، وصارت مهمة القبطان باشا الأولى عند حضوره بأسطوله إلى الإسكندرية تحصيل هذا المبلغ.
مهمة القبطان باشا
وأما الباب العالي فكان قد اختار - على نحو ما ذكره «روفان» في رسالته إلى «تاليران» في 10 يونيو عزت محمد علي باشا الصدر الأعظم السابق، والقبطان صالح باشا الذي عين حديثا في منصبه، وموسى باشا والي سالونيك للذهاب إلى مصر وتنفيذ الاتفاق الذي تم مع مندوبي الألفي، ولكن الأول رفض، وقبل الأخيران، وفي 12 يونيو سنة 1806 قابل القبطان صالح باشا السلطان مستأذنا في السفر بحضور الصدر الأعظم حاميه محمد علي باشا السلحدار وكبار وزراء الدولة، وفي 13 يونيو خلع الباب العالي كسوة الفرو على مندوبي الألفي تأييدا لقراره بإعادة تأسيس مشيخة البكوات وحكومتهم في مصر، وفي 19 يونيو عقد الوزراء العثمانيون اجتماعا غير عادي حضره خمسة وثلاثون من رؤساء المصالح لبحث مسألة الوهابيين الذين ذاع أنهم احتلوا مكة والمدينة، وقر الرأي من بين ما اتخذ من إجراءات أخرى على تكليف موسى باشا الذي عين مؤخرا في مكان محمد علي باشا المنقول إلى سالونيك، بأن يمد الجند المستخدمين ضد الوهابيين بكل ما تقتضيه مؤازرتهم من مؤن وإمدادات ونقل ذلك إليهم، وفي 24 يونيو أبحر القبطان صالح باشا، وقد تألفت عمارته من اثنتي عشرة قطعة فحسب بدلا من الست عشرة التي خصصت أصلا للسفر؛ حيث بقيت منها أربع قطع كانت تؤلف القوة الرئيسية بقيادة بكير بك نائب أمير البحر مرابطة أمام السراي السلطانية في «بيشكاطش»، وكانت الفرقاطة «جوستيس»
Justice
الفرنسية التي أعطاها الإنجليز للأتراك عند جلاء الفرنسيين عن مصر، سفينة القيادة وعليها القبطان باشا نفسه، وأما سائر الأسطول فكان يتألف من أربع بوارج من ذوات الخمسين مدفعا وثلاث فرقاطات وقراويت ثلاثا، وجاء في النشرة الإخبارية الصادرة بالقسطنطينية في 26 يونيو أن الغرض من ذهاب القبطان باشا هو الوصول إلى الإسكندرية والبقاء بها حتى يتنفذ الاتفاق في صالح المماليك.
وكانت قد وصلت إلى الإسكندرية فرقاطتان وقرويت كمقدمة لأسطول القبطان باشا منذ 14 يونيو، كما وصل في الوقت نفسه ططري من قبل السفير الإنجليزي بالقسطنطينية يحمل رسائل إلى «مسيت» الذي أوفد من فوره الرسل إلى معسكر الألفي بحوش عيسى يبلغه نجاح كتخداه في إبرام الاتفاق مع الباب العالي، والبشارة بالرضا والعفو للأمراء المصرية في الدولة بشفاعة الإنجليز فأذاع الألفي هذه الأخبار، وقال «دروفتي» تعليقا على ذلك في كتابه إلى «تاليران» من الإسكندرية في 16 يونيو: «إن المعتقد أنه قد وصلت الألفي تأكيدات قاطعة بأن السلطان العثماني قد اختاره لحكومة مصر بالاشتراك مع باشا يقيم في القاهرة له نفس الوظائف التي كانت للباشا في العهد السابق.» واقتنع «دروفتي» - وكان مخطئا فيما ذهب إليه - بأن مكائد ونفوذ أعداء فرنسا كانت السبب الذي جعل الباب العالي يرضى بأن يسترجع البكوات سلطتهم، ولم يدهشه ذلك عندما توهم الباب العالي أنه سوف يسترجع هو الآخر بهذه الوسيلة سلطته المفقودة في مصر ويحصل منها على خراج سنوي كبير؛ ولذلك فمن المعتقد - كما استمر «دروفتي» يقول - إنه إذا ضمن الإنجليز - كما يقال هنا - قيام البكوات بدفع خراج قدره أربعة ملايين قرش سنويا (أي ثمانية آلاف كيس) فإن الباب العالي سوف يوافق على هذا الترتيب، ولكنه من المدهش حقا أن يرضى الباب العالي بإعطاء الألفي كل هذه السلطة العظيمة في النظام الجديد؛ لأن ذلك من شأنه وضع كل موارد البلاد في أيدي الإنجليز حماة الألفي، ولا ريب في أن هذه الخطوة إنما تتعارض مع مصالح تركيا نفسها وضدها.
وأما القبطان باشا نفسه فقد وصل إلى الإسكندرية في 27 يونيو 1806 ويتألف أسطوله الذي حضر به فعلا من بارجة ذات أربعة وستين مدفعا وثلاث فرقاطات ومركبين من نوع القرويت ويحمل خمسمائة جندي فحسب من النظام الجديد، وقد حضر مع القبطان باشا كذلك محمد أغا كتخدا الألفي وسليمان أغا وبعض رجال الدولة، وفي 19 يوليو وصل موسى باشا إلى الإسكندرية، وكانت كل القوة التي أتى بها لا تزيد على أربعمائة رجل مسلحين تسليحا رديئا وفي حالة سيئة عموما، وكان القبطان بمجرد وصوله قد بدأ ينفذ ما لديه من تعليمات، وانحصرت مهمته في أمرين: إبلاغ محمد علي أمر نقله إلى سالونيك وحمله إذا استطاع إلى ذلك سبيلا على تلبية أوامر الباب العالي والذهاب إلى منصبه الجديد، ثم تحصيل مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش التي جرى الاتفاق عليها مع مندوبي الألفي وكفلها محمد كتخداه يدفعها لقبطان باشا عند وصوله بيد سليمان أغا وكفالته أيضا لمحمد أغا، والعمل على إقامة الوضع الجديد؛ وعلى ذلك فقد سلك في نشاطه طريقين: أحدهما مع محمد علي، والآخر مع الألفي وسائر البكوات، وتوقف نجاحه وإخفاقه في مهمته على استجابة الأول لمطلب الباب العالي، ومبادرة الآخرين بجمع صفوفهم ونبذ خلافاتهم ظهريا وإنهاء انقساماتهم حتى لا تضيع هذه الفرصة السانحة، كما ضاعت الفرص السابقة منهم، لاسترداد سيطرتهم البائدة، ثم المبادرة قبل كل شيء بدفع المبلغ.
ولكن مهمة القبطان باشا كان مقضيا عليها بالفشل، فبقي محمد علي في باشوية مصر بدلا من الذهاب إلى سالونيك، وبقي البكوات مشتتين ومبعثرين في أنحاء القطر بدلا من أن يستردوا نفوذهم في حكومة القاهرة، واستطاع محمد علي اجتياز أزمة النقل هذه بسلام مثلما اجتاز ما سبقها من أزمات تلاحقت عليه منذ المناداة بولايته، ثم استمرت تطارده بعد ذلك.
فقد ظهر في تصميم محمد علي البقاء في ولايته وعدم تلبية أوامر الباب العالي، منذ أن بلغه خبر الاتفاق بين مندوبي الألفي ورجال الديوان العثماني، وكان الألفي نفسه منذ أن علم بنجاح مندوبيه قد أوفد رسله مع أحد صناجقة أمين بك ومحمد كاشف تابع إبراهيم بك إلى بكوات الصعيد، كما أرسل كتبا إلى مشايخ عربان الحويطات والعائد وغيرهم وإلى المشايخ والعلماء وأعيان الناس في القاهرة.
أما كتبه إلى القاهرة فصورتها الأخبار بحضور الدونانمة صحبة قبطان باشا والنظام الجديد، وولاية موسى باشا على مصر، وانفصال محمد علي باشا عن الولاية، وأن مولانا السلطان عفا عن الأمراء المصريين وأن يكونوا كعادتهم في إمارة مصر وأحكامها، والباشا المتولي يستقر بالقلعة كعادته، وأن محمد علي باشا يخرج من مصر ويتوجه إلى ولايته التي تقلدها وهي ولاية سالونيك، وأن حضرة قبطان باشا أرسل يستدعي إخواننا الأمراء من ناحية قبلي، فالله يسهل بحضورهم فتكونوا مطمئني الخاطر، وأعلموا إخوانكم من الأولداشات والرعية بأن يضبطوا أنفسهم ويكونوا مع العلماء في الطاعة، وما بعد ذلك إلا الرحمة والخير والسلام.
واعتقد الألفي - على ما يظهر - أن محمد علي سوف يذعن لأمر الباب العالي ويغادر مصر سلما وطوعا وعن طريق السويس بدلا من الإسكندرية هروبا على ما يبدو - في رأي الألفي - من مواجهة القبطان وموسى باشا الوالي الجديد، فجاء في كتبه إلى مشايخ العربان: «ونعلمكم أن محمد علي باشا ربما ارتحل إلى ناحية السويس فلا تحملوا أثقاله، وإن فعلتم ذلك فلا نقبل لكم عذرا.» ولكنه ما إن أحضر هذه الكتب بعض مشايخ العربان كابن شديد وابن شعير إلى الباشا ووقف الباشا على ما بها حتى قال عن الألفي: إنه مجنون وكذاب، وتمادى الألفي في غلوائه وتوهمه أن مجرد مجيء الأسطول العثماني وصدور أوامر الباب العالي كاف لتمكينه من السلطة، فبعث إلى أهل دمنهور التي كان واقفا على حصارها نداء بمجرد أن علم بمغادرة أسطول صالح باشا مياه القسطنطينية قال فيه: «لقد علمت أن فرمانا صدر من الباب العالي بإعطائي حكومة مصر، وسوف أذهب إلى القاهرة فور تسلمي له لتنفيذ الأوامر التي يتضمنها، وأضطلع حينئذ بتصريف الأمور؛ ولذلك فإني أطلب منكم أن تفتحوا لي أبواب مدينتكم، حتى ينهض هذا ريثما أتسلم مقاليد الحكم دليلا على ولائكم لسلطانكم، وإذعانكم لقراراته مما سوف تكافئون عليه فيما بعد.» ولكن بدلا من التسليم أسرع أهل دمنهور بإرسال هذا النداء إلى السيد عمر مكرم الذي أعطاه بدوره إلى محمد علي، واتصل الألفي ببعض رؤساء جند الدلاة، وبادر هؤلاء كذلك بإبلاغ الباشا.
وكان «دروفتي» المصدر الآخر الذي استقى منه الباشا معلومات أوفى، فقد أكد له «روفان» القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية عند تقدم المفاوضة بين محمد أغا ورجال الديوان العثماني أن الباب العالي على وشك إنجاز الاتفاق بمساعي الإنجليز، وأن السبب في نجاح هؤلاء - كما اعتقد «روفان» خطأ ولا ريب للأسباب التي مرت بنا - هو تردد تركيا في موقفها من مشاكلها مع روسيا؛ وعلى ذلك، فقد قرر «دروفتي» إطلاع محمد علي على ذلك كله، وأصدر تعليماته إلى «مانجان» وكيل القوميسيرية الفرنسية العام في القاهرة بذلك، فقابل هذا الأخير محمد علي واستطلع رأيه، ودل جواب محمد علي على أن القوة وحدها هي التي تستطيع إخراجه من مصر.
فقد كتب «مانجان» إلى «دروفتي» في 23 يونيو، وردد ذلك خلصاء الباشا وأهل بطانته أن محمد علي يقول إنه وقد استحوذ على مصر بحد السيف فهو لا يسلمها إلا بحد السيف كذلك، ولن يفلح الباب العالي مهما أصدر من فرمانات في جعلي أترك هذا المكان ، وليرسل ما شاء من الجند الأتراك فإني لا أعبأ بذلك، إني أعرف الأتراك، فالأمر لا يتطلب معهم سوى رشوتهم وسوف أرشوهم، ولا أخشى إلا أمرا واحدا، رؤية الجند الإنجليز يحضرون لتأييد قرارات الباب العالي، ولكني حينئذ سوف أدعو الفرنسيين للمجيء إلى البلاد وسوف أتركها لهم، وسوف أناضل ريثما يحدث ذلك عن حوالي القاهرة شبرا شبرا، حتى إذا أرغمت على الارتداد اعتصمت بالقلعة ودافعت عن نفسي حتى النهاية، ومع ذلك، لقد استطعت إحداث ثورة وضعتني على رأس الحكومة ولم يكن أتباعي وقتئذ سوى نفر قليل، وأما الآن فلدي عدة ألوف من الجند، إني قوي وسأعمل جاهدا لهزيمة الألفي، فأنتزع الأمل من صدور حماته في رؤيته سيدا في القاهرة. ثم صار الباشا يقول لخلصائه: «إن الألفي مجنون وكذاب، ويجب القضاء عليه بكل الوسائل، وتلك سوف تكون مهمتي، وإني لمعتمد على طاعتكم وولائكم جميعا.»
أما القبطان باشا فقد أوفد رسولا إلى القاهرة يحمل - كما قال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 30 يونيو - فرمانات تقترح على محمد علي أن يختار بين باشوية سالونيك وباشوية كريت وتأمره بترك القاهرة، ثم طلب إلى الشيخ محمد المسيري - وهو صاحب النفوذ الشعبي المعروف في الإسكندرية - أن يكتب لزملائه المشايخ في القاهرة يدعوهم إلى التعاون مع القبطان باشا، وقال «دروفتي»: «إن الذائع أن هذا الشيخ قد طلب إعفاءه من ذلك.» وأرجع «دروفتي» امتناع الشيخ إلى ولائه لبونابرت، ولو أنه غير متأكد من امتناعه مع أن هناك من يقطعون جزما بأنه لم يفعل، وكان الشيخ المسيري قد وصله كتاب من الألفي يؤكد له فيه ويرجو الشيخ أن يؤكد هو على لسانه لسائر زملائه أنه لا يوجد شيء أحب إلى قلبه من توفير السعادة لكل أهل مصر، وأنه سوف يبذل قصارى جهده حتى يظفر الوضع الجديد المنتظر إقامته بثنائهم، وقال «دروفتي» في رسالة تالية في أول يوليو: «إن الشيخ المسيري لم يزر القبطان باشا منذ مقابلته الأولى على ظهر مركبه وإنه يبدو كئيبا حزينا من ذلك الحين.» ثم كلف القبطان باشا الشيخ إبراهيم باشا عبد الله زوج ابنة الشيخ المسيري بإرسال خطاب من قبل القبطان إلى السيد عمر مكرم، وقد حمل هذا الخطاب شيخ آخر إلى القاهرة يمر به من معسكر الألفي، وفيه فرمانات الباب العالي التي تطلب من المشايخ وأهل القاهرة حمل السلاح في وجه محمد علي والأرنئود إذا رفضوا إخلاء القاهرة بسلام، ويقول «دروفتي»: إنه عرف أن القبطان باشا يعتمد على قدرة الألفي إذا رفض بكوات الصعيد الاعتراف برئاسته أو بمشيخته على جمع مماليك البيوت الأخرى حوله، وصار ضباط القبطان ورجاله يرددون أقوال «مسيت»، ويعلنون أن الألفي قد صار حاكم مصر، وأن موسى باشا سوف يصل قريبا من سالونيك على رأس جيش قوي وأنه سوف يحل محل محمد علي ويقيم بالقاهرة تحت رحمة البكوات كما كان حال الباشوات في الماضي، كما راحوا يعلنون أن جيشا من الشام الآن صوب مصر، ويؤكدون أن القبطان باشا لن يغادر مصر إلا بعد أن يصبح الألفي سيد القاهرة.
وفي القاهرة كان محمد علي منذ أن بلغه حصول الاتفاق بين الألفي والباب العالي وتقرير عزله من الولاية ونقله إلى سالونيك، قد أخذ أهبته لملاقاة هذه الأزمة الجديدة فزود القلعة بالمؤن والذخائر، وشرع في إقامة بعض التحصينات حول القاهرة، وأرسل من فوره قوة من خمسمائة جندي لتعزيز حامية الرحمانية المواجهة لمعسكر الألفي الواقف على حصار دمنهور، كما صار يبذر بذور الشقاق والانقسام في معسكر الألفي نفسه، ويعمل لرشوة الأتراك الذين هم في جيشه ورشوة فرسان البدو الذين معه - على وجه الخصوص - حتى يتركوه، ثم خشي محمد علي من انضمام بكوات الصعيد إلى الألفي، واتحاد كلمة المماليك ضده في هذه الأزمة، فأرسل إلى الأمراء القبليين يستدعي منهم بعض عقلائهم مثل أحمد أغا شويكار وسليم أغا مستحفظان ليتشاور معهم الأمر، وغرضه توسيع شقة الخلاف بينهم وبين الألفي، وشل حركتهم، ولما كان هؤلاء قد زاد نفورهم من الأخير بمجرد أن علموا من كتبه لهم بحقيقة ما ينطوي عليه اتفاقه مع الباب العالي من تحكيم رئاسته عليهم، فقد بعثوا بأحمد كاشف سليم؛ لكونه ليس معدودا من أفرادهم، وبينه وبين الباشا نسب؛ لأن ربيبته تحت حسن الشماشيرجي، وكان مكلفا بإبرام الصلح مع الباشا على أساس إقطاع البكوات الأقاليم الممتدة من المنيا إلى إسنا، وكان البكوات وقتئذ يملكون فعلا هذه الأراضي، ويحاصرون المنيا بكل همة ويسوءهم من الألفي عزلته وانفصاله عنهم، وخطورة مشروعاته التي تستند على محالفة الإنجليز له، وهم الذين ظل يؤكد دائما أنهم مستعدون لتوطيد سلطته وكي يبوئوه عرش مصر، فوصل مندوبهم إلى القاهرة في 23 يونيو، ورحب به الباشا ترحيبا كبيرا واختلى به مرارا ووضع بنفسه بعض القواعد لإبرام اتفاق نهائي مع البكوات، وأعطى أحمد كاشف سليم جوابا حسنا، وحتى يدلل على صدق نواياه أعد هدايا ثمينة إلى إبراهيم بك وعثمان بك حسن وعثمان بك البرديسي وغيرهم من البكوات، وأرسل يأمر حسن باشا بالاقتراب مع جيشه من القاهرة، ودل صدور هذا الأمر على اطمئنان محمد علي إلى سكون بكوات الصعيد.
وفي أول يوليو غادر أحمد كاشف سليم القاهرة يحمل معه الهدايا وهي عدد خيول وقلاعيات وثياب وأمتعة وغير ذلك، واطمأن بال الباشا من هذه الناحية، واستطاع توجيه كل عنايته ونشاطه لمعالجة الأزمة التي بدأت تستحكم حلقاتها عندما وصل رسول من الإسكندرية في اليوم الذي غادر فيه مندوب بكوات الصعيد (أي في أول يوليو) يحمل كتابا من أمين أغا حاكمها إلى الدفتردار أحمد أفندي جديد يبلغه فيه وصول القبطان باشا إلى الثغر وفي أثره واصل باشا متولي على مصر واسمه موسى باشا، وصحبتهم مراكب بها عساكر من الصف الذي يسمى النظام الجديد، فأطلع الدفتردار السيد عمر مكرم على هذه الرسالة، وذهبا لمقابلة محمد علي، وتشاور ثلاثتهم في المسألة، وكان الباشا قد صادر قبل ذلك الرسائل التي أرسلها الألفي إلى المشايخ وغيرهم من أعيان القاهرة وأخفاها حتى لا يذيع الخبر قبل أن يتخذ للأمر عدته، ولكن كثيرين علموا به؛ لأن كتبا غير التي صودرت كانت قد وصلت إلى أربابها على غير يد السعاة، ثم جاء كتاب أمين أغا إلى محمد علي ، وعرف القاهريون أن القبطان باشا قد وصل إلى الإسكندرية يحمل أمرا بنقل محمد علي إلى ولاية سالونيك، فكان لهذه الأنباء وقع في نفوس الأهلين غير ما كان ينتظره القبطان باشا أو الألفي أو الوكلاء الإنجليز وعلى رأسهم الميجور «مسيت»، وهو لا يقل وقتئذ عن الألفي نفسه في خصومته الشديدة لمحمد علي.
فقد أزعجت هذه الأخبار القاهريين، وأحدثت بلبلة كبيرة في الأفكار، ووجد أهل القاهرة أن ثورتهم التي أقصت خورشيد والبكوات المماليك من الحكم، وسلمت مقاليد الأمور إلى الرجل الذي نادوا هم أنفسهم بولايته، قد صارت نتائجها مهددة بالضياع، حقيقة أرهقهم محمد علي بفرض المغارم والإتاوات عليهم، ولكن مشايخهم وزعماءهم قد أقروه عليها، حتى يدفع إيذاء الجند عنهم، وحتى يواصل نضاله بنجاح ضد البكوات، أضف إلى هذا أن الباشا صار يتشاور مع عمر مكرم؛ ولهذا في نفوسهم منزلته الكبيرة المعروفة؛ ولذلك فإنه بدلا من أن يذعن القاهريون لأوامر الباب العالي أظهروا تذمرهم منها، فقال المعاصرون: إن الصيحة صارت واحدة ضد الباب العالي، والأتراك والبكوات، والتف المشايخ والعلماء والأهالي والجند جميعا حول محمد علي، واستفاد محمد علي من وجود هذا الشعور في جانبه، فعمل على تغذيته، فكان بفضل بعض الإيحاءات التي ألقيت بحكمة في أذهان طائفة من أنصاره المتحمسين أن عمد مباشرة عدد عظيم من السكان والجند إلى تأليف حرس يرابط دائما أمام سرايه، ويرافقه في غدوه صباحا إلى المكان الذي يقصده، ويصحبه في رواحه مساء إلى سرايه ولا يتركه إلا عند باب الحريم (أي عند دخوله إلى أهله)، وقد شجع محمد علي ملازمة هذا الحرس الكبير له أولا: حتى يزيد التصاق الشعب به ومؤازرته له في هذه الأزمة، وثانيا: حتى يتخذ هو من التفاف الجند حوله وهو قسم لا يستهان به من هذا الحشد العظيم سببا يعتمد عليه في إظهار أنهم إنما يحيطون به حتى يمنعوه من مغادرة البلاد كما حدث في ظرف سابق، أيام خورشيد باشا.
ثم تأكد لدى القاهريين عزم الباب العالي على نقله عندما ورد قاصد من طرف قبودان (أو قبطان) باشا إلى بولاق في 4 يوليو هو سعيد أغا كتخدا البوابين لمقابلة محمد علي، فمكث بالقاهرة أياما ثلاثة تشوق القاهريون أثناءها لمعرفة ما أسفرت عنه هذه المقابلة، ولكن أولي الشأن تكتموا أمرها، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه لم يظهر ما دار بين محمد علي ورسول القبطان باشا، ولم يكن في صالح محمد علي في دور الأزمة هذا أن يذاع شيء عن موقفه منها، وهو الذي لم تكمل استعداداته لمواجهتها من ناحية، وكان لا يزال يجهل مقدار القوة التي لدى القبطان باشا من ناحية أخرى، ولا يعرف ما إذا كان القبطان باشا مصمما على استخدام ما لديه من قوات على كل حال في إرغامه على إطاعة أوامر الباب العالي إذا هو أظهر عصيانه لها من ناحية ثالثة، وأما قابجي أو رسول القبطان باشا فقد حمل إلى محمد علي الأمر بالذهاب إلى الإسكندرية حيث قد أعد له بها مركب لنقله إلى سالونيك مقر ولايته الجديدة، ولم يسع الباشا في ظروفه الراهنة إلا إظهار القبول، فأجاب أنه مستعد لطاعة أوامر السلطان صاحب الحق عليه شرعا وقانونا والإذعان لإرادته، وليس أحب إليه من مغادرة بلاد كمصر تسود بها الفوضى، وأنه كان قد تهيأ فعلا قبل ذلك لمغادرتها وأنجز كل استعداداته للذهاب، ولكنه لما كان محط أنظار الجميع، ويرى الأهلون والجند كل حركة يأتي بها، فهو لا يستطيع الإفلات أو الانسلال من العاصمة، ولا ندحة له عن البقاء بها ما دام لا يدفع العشرين ألف كيس قيمة المرتبات المتأخرة التي يطالب بها الجند، ثم أشهد رسول القبطان باشا نفسه على ذلك الحجر المضروب على حريته بسبب ملازمة الحرس له والذي لم يكن في وسع القابجي أن ينفي وجوده، وغادر القابجي القاهرة ومعه رسول من قبل الباشا، سليم أغا قابجي كتخدا المعروف بقبي لركخسي في 7 يوليو، واستأنف محمد علي نشاطه في التو والساعة لإكمال ما يجب من استعدادات قبل أن يعلن رفضه صراحة لأمر النقل من مصر، كما صح عليه عزمه.» وقال «دروفتي» - رسالة 15 يوليو - إن الباشا أكد في جوابه خضوعه التام لرغبات الباب العالي، ولكنه يجب عليه قبل الإذعان لأوامره أن يدفع العشرين ألف كيس المستحقة للجند وإلا قتله هؤلاء، وعرضوا القاهرة لكوارث ونكبات مروعة، ثم استمر يقول: «والباشا لا يزال يمون القلعة، وقد طلب من حسن باشا والرؤساء الأرنئود الذين بالصعيد الحضور إلى القاهرة للعمل معه، كما أصدر أوامره للجند المبعثرين في الوجه البحري للاحتشاد وتغطية رشيد ودمنهور، ووصلت حديثا نجدة من الشام ألف فارس من الدلاة، وقد قرر الباشا الدخول بنفسه في المعركة إذا لزم الأمر على أن يعهد بالإشراف على القلعة والقاهرة إلى أحد أقربائه، ويتخذ العدة لمنازلة الألفي.»
وذاع في القاهرة أن الألفي أرسل هدايا كثيرة إلى القبطان باشا وفيها ثلاثون حصانا منها عشرة برخوتها ومن الغنم أربعة آلاف رأس وجملة أبقار وجواميس ومائة جمل محملة بالذخيرة وغير ذلك من النقود والثياب برسمه ورسم كبار أتباعه، ومنذ أول يوليو كتب «دروفتي» أن أمين بك الألفي وصل إلى الإسكندرية ومعه هدايا للقبطان من عشرين حصانا ومائة جمل وحبوب وأغذية ومبلغ كبير من المال، ثم عاد يقول في 10 يوليو: «إن المال الذي أهدى به الألفي القبطان باشا على يد أمين بك قدره مليون قرش، ثم دفع أمين بك إلى نائب القنصل الإنجليزي بالإسكندرية وتاجرها السيد «بريجز»
Briggs
مبلغ 700000 قرش يقال: إن الألفي مدين بها للحكومة الإنجليزية، كما وعد الألفي أن يعطي بمجرد دخوله القاهرة حق التزام السنا والنطرون إلى بيت «لي»
Lee
التجاري في لندن، وكان من الأنباء المزعجة التي ذكرها «دروفتي» أن إبراهيم بك قد أوفد كتخداه (وكيله) من الصعيد بهدايا إلى القبطان باشا.» وفضلا عن ذلك فقد أكد «دروفتي» أن كل شيء يدل على أن القبطان باشا موال تماما للإنجليز.
وعلى ذلك فقد وجب على الباشا أن ينشط بسرعة لدرء هذه الأخطار، وانحصرت خطته في إنجاز وسائل الدفاع عن القلعة والقاهرة، والوثوق من تأييد كبار الجند ورؤسائهم له في موقف المعارضة الذي وطد العزم على اتخاذه ورفض قرار النقل إلى سالونيك، وإشراك المشايخ والعلماء معه في هذا الموقف، حتى يتخذ من مناصرتهم له حجة يستند عليها في تسويغ مقاومته لأوامر الباب العالي، ولإعطاء الفرصة للباب العالي نفسه استنادا كذلك على هذا المسوغ للإذعان للأمر الواقع إذا لم يعد هناك بد من التسليم به، وتهدئة القاهريين وجمعهم حوله والاطمئنان إلى التزامهم السكون والانصراف إلى شئونهم أثناء هذه الأزمة، ثم بذل مساعيه ليس مع القبطان باشا وبطانته فحسب، بل ومع رجال الديوان العثماني بالقسطنطينية كذلك، بالطرق التي قال إنه يعرفها (أي رشوتهم) ثم تعزيز قواته العسكرية، وأخيرا ملاحقة الألفي ومطاردته والعمل في الوقت نفسه على تهدئة وتسكين بكوات الصعيد بأي ثمن.
وكان بسبب ما أظهره محمد علي من نشاط في تحصين القلعة والقاهرة، حيث شرع في عمل آلات حرب وجلل، وجمع الحدادين بالقلعة، وأصعد بنبات كثيرة واحتياجات ومهمات إلى القلعة أن صار واضحا للقاهريين أنه يعتزم المقاومة الجدية، ورأى الشيخ الجبرتي فيما فعله علامات العصيان وعدم الامتثال، ثم استقدم ألفا من فرسان الدلاة من الشام لنجدته، على أن أهم ما فعله من ناحية التهيؤ للمقاومة العسكرية إذا لزم الأمر، كان الحصول على تأكيد رؤساء الجند الأرنئود ولاءهم له، فجمع كل الرؤساء الموجودين منهم بالقاهرة وحواليها وكانوا سبعين زعيما أو رئيسا، وعرض عليهم الأمر، فقال: «لقد طلب الباب العالي نفيي، وعزمي هو الامتثال لأمره، ومع ذلك فالظاهر أن الشعب يعارض في رحيلي وذهابي، فبماذا تشيرون علي أنتم الذين وافقت حتى الآن من أجلكم جميعا على تحمل أعباء الحكم الثقيلة؟» فكان جوابهم أنهم يريدون بقاءه، وتظاهر محمد علي في هدوء وسكون بأنه مصر على عزمه، وعندئذ شرع الرؤساء الأرنئود يلحون عليه في البقاء ويحاولون إقناعه بأنه إذا لبى أوامر الباب العالي فقدت البلاد هدوءها وسكينتها، وضحيت مصالح الجيش بأسرها، وهو الذي أظهر في كل المناسبات إخلاصا لا حد له لشخصه، ووضح أن الخوف من البقاء تحت رحمة الأتراك والمماليك قد بدأ يحدث أثره في نفوس الرؤساء الأرنئود، وعندئذ نبذ محمد علي هدوءه وسكونه، وتحدث إليهم بلهجة حازمة، فسألهم عما إذا كانوا يريدون حقا أن يدوسوا بأقدامهم أوامر السلطان، وهل هم أقوياء بالدرجة التي تمكنهم من مقاومة الباب العالي إذا هاجمتهم جنوده؟ وهم قد يستطيعون ذلك بكل مشقة إذا تسنى لهم ترويض أجنادهم على الطاعة بينما لا يعرف هؤلاء النظام ويعيشون من نهب الأهالي وسلبهم، ويرهقونه (أي محمد علي) ويزعجونه دائما بمطالبتهم بمرتباتهم، ثم قال: «وهل في مقدوركم الادعاء بأن في وسعكم القتال ضد قوات الألفي بك والقبطان باشا والانتصار عليها أو إلزام جندكم بتأدية واجبهم؟ وهل تفضلون حقا تعب الحرب ونصبها على ملذات حياة الدعة والراحة ومسراتها؟ لقد تركتموني وحدي ومن زمن طويل أتحمل عبء الحكم وتصريف الشئون وما يتبع ذلك من صعوبات ومشتقات بينما تتمتعون أنتم في سلام بثرواتكم التي جمعتموها، وما نوع الثقة التي تريدونها أن تكون لي في وعودكم، وأية رابطة قوية تلك التي يمكن أن تربط مصالحكم بمصالحي إذا حدث من باب الافتراض أني وافقت على استنزال غضب السلطان علي وعرضت نفسي لانتقامه مني والتضحية من جديد براحتي ومستقبلي من أجلكم، فإن كنتم تريدون بقائي معكم ولا زلتم كما كان العهد بكم في الماضي، الرفقاء الصادقين فلتقسموا إذن على القرآن الكريم أنكم لن تتخلوا عني حتى نموت سويا إذا لزم الأمر في سبيل قضية يجب أن نكون جميعا مشتركين فيها.»
هذا الخطاب الذي تضمن تأنيبا ظاهرا لهؤلاء الرؤساء الأرنئود، وأظهر الباشا بمظهر من لا يهتم بنفعه الذاتي ويحرص بدلا من ذلك على مصالحهم هم أنفسهم، لم يلبث أن أحدث الأثر المطلوب، فطغت على المجتمعين موجة من الحماس، جعلتهم يحلفون اليمين التي طلبها الباشا منهم، ثم إنهم عمدوا لإظهار ولائهم له باللجوء إلى إحياء عادة قديمة في بلادهم هي أن يمسك اثنان هما أكبر الموجودين سنا، بطرفي حسام يخطو من فوقه كل واحد من الحاضرين عند المناداة باسمه وسط سكون عميق، ومعنى ذلك أن رباطا لا تنفصم عراه أبدا قد صار يربط كل المشتركين في هذه العملية، وأن من يخرج على هذا العهد لحق به العار والشنار وصارت فضيحته عظيمة بين قومه.
وكان في غمرة هذا الحماس أن بسط محمد علي لهؤلاء الرؤساء ما يلاقيه من متاعب بسبب خلو الخزانة من المال، فاتفق هؤلاء على استنزال مرتبات خمسة شهور مما كان مطلوبا للجند عن ستة أشهر، وقد سبق ذكر شيء عن نظام جعل كل زعيم أو رئيس مسئولا مباشرا عن دفعها للجند، وينالها هؤلاء بواسطته وعلى يده، وعلاوة على ذلك فقد تبرع الحاضرون كل على قدر طاقته بمبلغ من المال من جيبه الخاص، فاجتمع لدى الباشا بفضل ذلك ألفا كيس، خصصها لرشوة الديوان العثماني، وذاع خبر تأييد رؤساء الأرنئود لمحمد علي، وزاد ذلك من انطباع تصميم الباشا على المقاومة وعصيان أوامر السلطان، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه جمع إليه كبار العسكر وشاورهم وتناجى معهم، فوافقوه على ذلك؛ لأنه ما من أحد منهم إلا وصار له عدة بيوت وزوجات والتزام بلاد وسيادة لم يتخيلها، ولم تخطر بذهنه ولا بفكره، ولا يسهل به الانسلاخ عنها والخروج منها ولو خرجت روحه.» وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 15 يوليو: «إن محمد علي صرح في الاجتماع الذي عقده مع رؤساء الجند على أن القرار الذي اتخذه الباب العالي لطردهم من مصر ولتأسيس سيطرة المماليك بها إنما كان بسبب مؤامرات الإنجليز والرشاوى التي قدموها للديوان العثماني؛ حيث دفعوا لهذه الغاية 2400 كيس، فجعلهم الخوف من أن يتركهم في المركز الحرج الذي شعروا بأنهم صاروا موجودين فيه الآن يقدمون على التضحيات والتبرعات التي ذكرناها.»
وكانت الخطوة التالية هي جذب المشايخ إليه وإشراكهم معه في موقف المعارضة - ثم الخصومة إذا لزم الأمر - الذي عقد العزم على وقوفه من أوامر الباب العالي، ولقد كان جذب هؤلاء إليه وإشراكهم معه في المعارضة والخصومة سهلا ميسرا، لأسباب لم يفت على المعاصرين إدراكها، أهمها أن الباشا منذ أن تسلم مقاليد الحكم كان قد درج على خطة توزيع القرى والدساكر التي كانت بأيدي المماليك ودخلت في حوزة الحكومة على المشايخ وكبار العلماء، فصار لهؤلاء حصص التزام كبيرة ينتفعون بفائظها (أي بإيراداتها) بعد دفع مال الميري عنها، ثم ساعدهم كرم الباشا وسخاؤه على الاستكثار من هذه الحصص.
فنشأت بسبب ذلك طبقة من أصحاب الأملاك الذين صار يقتضيهم نفعهم الخاص مناصبة المماليك العداء، ولم يعد من صالحهم أن يسترجع هؤلاء سلطانهم في الحكم، وأن تعود الأوضاع القديمة حسب أوامر الباب العالي، زد على ذلك أن هؤلاء المشايخ قد ارتبطت مصلحتهم بمصلحة الباشا نفسه ارتباطا وثيقا منذ أن اشتركوا في حادث طرد البكوات من القاهرة، ثم فيما تبع ذلك من حوادث أظهرها وأبعدها أثرا انقلاب مايو 1805 الذي ترتب عليه إغداق حصص الالتزام عليهم من جهة، وزيادة رفعة شأنهم بين سواد الشعب من جهة أخرى بسبب ما وجده الباشا نفسه من فائدة الاستمرار في مشاورتهم، وقد خيل لفريق من هؤلاء المشايخ - كما سيأتي ذكره في موضعه - أن في وسعهم آخر الأمر مشاركة الباشا في تصريف شئون الحكم، فكان معنى نقله إلى سالونيك، وتمكين البكوات في الوضع المزمع إقامته من السيطرة على الحكومة زوال المزايا التي صارت لهم، فلم يكن هناك معدى حينئذ عن أن يرتبط مصيرهم بمصير محمد علي، ولم يكن هناك معدى عن إقبالهم على معاضدته، ولهذه الحقيقة أهمية فذة لا لبيان ما ظهر من جانبهم من مؤازرة لمحمد علي في هذه الأزمة؛ لأن ذلك كان حقيقا أن يحدث منذ أن درج المشايخ والسيد عمر مكرم على مساعدته وخصوصا في تحصيل الأموال - بالموافقة على فرض المغارم والإتاوات على الشعب - لدفع مرتبات الجند، ولأنهم كانوا عنصرا هاما من العناصر التي صنعت انقلاب مايو 1805، بل كان وجه الأهمية أن المشايخ والسيد عمر مكرم خضعوا في كل كبيرة وصغيرة أثناء هذه الأزمة لتوجيه محمد علي لهم، حتى إن العرائض التي كتبت باسمهم وقتئذ إنما أمليت عليهم موضوعاتها إملاء وإن كان الباشا قد ترك لهم صياغتها لأسباب واضحة، ثم هي أهمية فذة كذلك إذا عرفنا أن رأي المشايخ الصحيح في هذا الأمر كله عندما اتصل بهم رسل القبطان باشا كان على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 15 يوليو أنهم لا يحبون المماليك أكثر من حبهم للأرنئود (أي يكرهونهم جميعا) ولا يفضلون فريقا منهما على الآخر؛ لأن كلا الجماعتين لصوص، وأنهم لا يتعاونون مع الباب العالي على إنشاء حكومة جديدة إلا إذا شاهدوا منه اهتماما جديا بتوفير أسباب السعادة لأهل مصر، فتكون الحكومة التي يريدها لهم حكومة رشيدة ومنظمة تقوم على أسس ثابتة متينة أو على الأقل من طراز تلك الحكومات التي تتمتع بها سائر مقاطعات الإمبراطورية العثمانية.
ولما كانت الحكومة المقترح إنشاؤها الآن هي حكومة مملوكية في حقيقتها، فالواضح أنهم إنما كانوا يجدون في تأييدهم لمحمد علي والإذعان لتوجيهاته السبيل الوحيد لاحتفاظهم بما ظفروا به من منافع ومزايا لا يريدون التخلي عنها، وعلاوة على ذلك فقد ذكر «دروفتي» أن السيد عمر مكرم صاحب النفوذ الكبير على سكان القاهرة قد اشتراه محمد علي، وقال «مسيت» عند الكلام - في رسالته إلى «أربثنوت» في 10 سبتمبر 1806 - عن الوسائل التي لجأ إليها محمد علي لاجتياز أزمة العزل والنقل إلى سالونيك: أنه ورط في مكر وبمهارة في نزاعه مع الباب العالي جماعة من المتصدرين في القاهرة، بأن جعلهم يظفرون بنصيب كبير من أملاك المماليك المسلوبة، فصار من صالح هؤلاء إذن عدم عود البكوات لممارسة السلطة مرة أخرى، وكان بناء على ما طلبه منهم محمد علي أن كتبوا جملة عرضحالات في صالح محمد علي بعثوا بها إلى الديوان بالقسطنطينية وإلى القبطان باشا.
أما الباشا فقد دعا صبيحة اليوم التالي لاجتماعه برؤساء الأرنئود السيد عمر مكرم والخاصة وعرفهم بصورة الأمر الوارد بعزله وولاية موسى باشا، وأن الأمراء المصريين أعرضوا للسلطنة في طلب العفو وعودهم إلى أمرياتهم وخروج العساكر التي أفسدت الإقليم من أرض مصر، وشرطوا على أنفسهم القيام بخدمة الدولة والحرمين الشريفين وإرسال غلالها ودفع الخزينة وتأمين البلاد، فحصل عنهم الرضا وأجيبوا إلى سؤالهم على هذه الشروط، وأن المشايخ والعلماء يتكفلون بهم، ويضمنون عهدهم بذلك، وطلب منهم أن يتشاوروا في الأمر فيما بينهم، وانفض المجلس.
وحرص الباشا أثناء إعمال المشايخ فكرهم ورأيهم على دعم صلته بهم من جهة، ومعرفة اتجاهات الرأي العام من جهة أخرى، فحضر في 8 يوليو مولد المشهد الحسيني، ودعاه الشيخ السادات وهو الناظر على المشهد والمتقيد لعمل ذلك، فدخل إليه وتغدى عنده، وصار يتجول في القاهرة متزييا بزيه العسكري تارة لإعلاء الروح المعنوية لدى الأهلين، ومتخفيا تارة أخرى حتى يقف بنفسه على ما يدور في أذهانهم ومدى نشاطهم، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه أكثر من الركوب والطواف بشوارع المدينة والطلوع إلى القلعة والنزول منها والذهاب إلى بولاق وهو لابس برنسا.»
ثم كان طبيعيا أن يستأثر باهتمام الباشا مسألة توجيه المشايخ فيما هو مطلوب منهم إعمال فكرهم ورأيهم فيه، وتم الاتفاق في قصره على الموضوعات التي يجب أن يتضمنها جواب المشايخ، وكتبت صورة هذا الجواب - كما يقول أصحاب التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية في مصر في قصره كذلك وتحت بصره. وفي 10 يوليو حضر ديوان أفندي وعبد الله أغا بكتاش الترجمان عند السيد عمر مكرم ومعهما صورة هذا الجواب، فيذكر الشيخ الجبرتي أنهما حملا معهما صورة عرض يكتب عن لسان المشايخ إلى الدولة في شأن هذه الحادثة، وتشاور ثلاثتهم - ديوان أفندي وعبد الله بكتاش والسيد عمر مكرم - حصة من النهار، وفي اليوم التالي حضر الأولان عند الشيخ عبد الله الشرقاوي، وقد سجل الشيخ الجبرتي ما حدث، بصورة لا تدع مجالا لأي شك في أن العرضحال الذي وقع عليه المشايخ بعد ذلك لم يكن لهؤلاء يد فيه سوى صياغة المعاني التي أرادها الباشا وترقيمها، وأنهم ما كانوا يجرءون على مناقشة ما طلب منهم أن يكتبوه أو يجسرون على معارضة أوامر الباشا، فقال الجبرتي: «وأمروا المشايخ بتنظيم العرضحال وترصيعه ووضع أسمائهم وختومهم عليه، ليرسله الباشا إلى الدولة، فلم تسعهم المخالفة، ونظموا صورته ثم بيضوه في كاغد كبير.»
وعلى ذلك، فقد تضمن هذا العرضحال الحجج والدعاوى التي رآها الباشا نفسه مؤيدة من الناحية الشعبية لموقف المعارضة الذي اتخذه من قرارات الباب العالي، وأهمها إظهار استياء الأهلين من أن يسترد البكوات المماليك سيطرتهم البائدة، بسبب جرائمهم الماضية التي ارتكبوها في حقهم مما كان يكفي وحده لأن يرفض الباب العالي منحهم العفو وتمكينهم من الحكم مرة أخرى؛ لأن البكوات لم يقلعوا عن عاداتهم السيئة القديمة عندما أسسوا حكومتهم الأخيرة في القاهرة، فأوقعوا بالقاهريين المظالم وآذوهم وفتكوا بعلي باشا الجزائرلي وسدروا في غيهم، فلم تقف أذيتهم حتى بعد طردهم من القاهرة، بل حاولوا أن يكيدوا لهم وأن يبطشوا بهم في حادث 16 أغسطس 1805 المعروف ولا أمل في أن يكفوا عن عدوانهم، وهم طائفة لا تعرف نظاما ولا تحترم قانونا، ولا يستطيع كبارها أن يفرضوا طاعتهم على صغارها، الأمر الذي يجعل متعذرا على المشايخ أن يكفلوهم، وهو بيت القصيد من هذا العرضحال إذ استند الترتيب الجديد على كفالة المشايخ للبكوات في تعهدهم بتنفيذ الشروط التي قام عليها، ثم تصدى المشايخ للدفاع عن محمد علي في أبرز اتهام قد يوجه إليه لتبرير عزله وهو إرهاقه الشعب بالمغارم والإتاوات التي يفرضها عليه، فتضمن العرضحال ما يشعر بأن تحصيلها كان بموافقة الأهلين أنفسهم، وأن الباشا لم يلجأ إلى فرضها إلا مرغما لدفع مرتبات الجند حتى يخرج هؤلاء لقتال المماليك وهم المتمردون على الدولة وامتثالا لأوامر الباب العالي.
وقد أثبت الشيخ الجبرتي صورة هذا العرضحال وهو معنون باسم الصدر الأعظم محمد علي باشا السلحدار، قال المشايخ فيه: «... أما بعد ... فإننا ننهي لمسامعكم العلية بأنه قد قدم قبودان باشا إلى ثغر إسكندرية فأرسل كتخدا البوابين سعيد أغا وصحبته الأمر الشريف الواجب القبول والتشريف المعنون بالرسم الهمايوني العالي فأوضح مكنونه بأنه قد تطاولت العداوة بين محمد علي وبين الأمراء المصريين فتعطلت مهمات الحرمين الشريفين من غلال ومرتبات وتنظيم أمير الحج على حكم سوابق العادات والحال أنه ينبغي تقديم ذلك على سائر المطلوبات وأن هذا التأخير سببه كثرة العساكر والعلوفات وترتب على ذلك لكامل الرعية بالأقاليم المصرية الدمار والاضمحلال، وأنهت الأمراء المصرية هذه الكيفية لحضرة السدة السنية وأنهم يتعهدون بالتزام جميع مرتبات الحرمين الشريفين من غلال وعوائد ومهمات وإخراج أمير الحج على حكم أسلوب المتقدمين مع الامتثال لكامل ما يرد من الأوامر الشريفة إلى ولاة الأمور بالديار المصرية، وأنهم يقومون في كل سنة بدفع الأموال الميرية إلى خزينة الدولة العلية إن حصل لهم العفو عن جرائمهم الماضية والرضا بدخولهم مصر المحمية، والتمسوا من حضرة الدولة العلية قبول ذلك منهم وبلوغهم مأمولهم، فأصدرت لهم الأمر الهمايوني الشريف بعزل الوزير المشار إليه لتقرير العداوة معه ووجهتهم له ولاية سالونيك ووجهتهم ولاية مصر إلى الوزير موسى باشا وقبلتهم توبتهم، وأن العلماء والوجاقلية والرؤساء والوجهاء بالديار المصرية إن تعهدوا بهم وكفلوهم يحصل لهم المساعدة الكلية حكم التماسهم من حضرة الدولة العلية.»
فأمركم مطاع وواجب القبول والاتباع، غير أننا نلتمس من شيم الأخلاق المرضية والمراحم العلية بالعفو عن تعهدنا وكفالتنا لهم، فإن شرط الكفيل قدرته على المكفول، ونحن لا قدرة لنا على ذلك لما تقدم من الأمثال الشهيرة والأحوال والتطورات الكثيرة التي منها خيانة المرحوم السيد علي باشا والي مصر سابقا بعد واقعة ميرميران طاهر باشا وقتل الحجاج القادمين من البلاد الرومية وسلب الأموال بغير أوجه شرعية، والصغير لا يسمع كلام الكبير، والكبير لا يستطيع تنفيذ الأمر على الصغير، وغير ذلك مما هو معلومنا وبمشاهدتنا، خصوصا ما وقع في العام الماضي من إقدامهم على مصر المحمية وهجومهم عليها في وقت الفجرية، فجلاهم عنها محمد علي وقتل منهم جملة كثيرة فكانت واقعة شهيرة، فهذا شيء لا ينكر.
فحينئذ لا يمكننا التكفل والتعهد؛ لأننا لا نطلع على ما في السرائر وما هو مستكن في الضمائر، فنرجو عدم المؤاخذة في الأمور التي لا قدرة لنا عليها؛ لأننا لا نقدر على دفع المفسدين والطغاة والمتمردين الذين أهلكوا الرعايا ودمروهم.
فأنتم خلفاء الله على خليقته وأمناؤه على بريته، ونحن ممتثلون لولاة أموركم في جميع ما هو موافق للشريعة المحمدية على حكم الأمر من رب البرية في قوله سبحانه وتعالي:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فلا تسعنا المخالفة فيما يرضي الله ورسوله، فإن حصل منهم خلاف ذلك نكل الأمر فيهم إلى مالك الممالك؛ لأن أهل مصر قوم ضعاف، وقال عليه الصلاة والسلام: «أهل مصر الجند الضعيف، فما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته.» وقال أيضا: «وكل راع مسئول عن رعيته يوم القيامة.»
وتفيد أيضا حضرة المسامع العلية من خصوص القرض والسلف التي حصل منها الثقلة للأهالي من محمد علي باشا، فإنه اضطر إليها لأجل إغراء العساكر وتقويتهم على دفع الأشقياء والمفسدين والطغاة المتمردين امتثالا لأوامر الدولة العلية في دفعهم والخروج من حقهم، واجتهد في ذلك غاية الاجتهاد رغبة في حلول أنظار الدولة العلية، فالأمر مفوض إليكم والملك أمانة الله تحت أيديكم ...
وكتب المشايخ من هذا العرضحال نسختين، إحداهما بعث بها هؤلاء ومعهم محمد علي إلى الباب العالي، وحمل الرسول الذاهب بها مبلغ الألفي كيس التي جمعها الباشا من الرؤساء الأرنئود، وذلك لتوزيعها على أعضاء الديوان العثماني ممن لهم تأثير مباشر في القرارات التي يتخذها الباب العالي، وأما النسخة الأخرى فقد أرسلت إلى القبطان باشا، ثم إن محمد علي أنفذ رسولا يحمل كتبا منه إلى القبطان باشا قال «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في 14 يوليو: «إنه وصل إلى الإسكندرية في اليوم السابق، ثم نقل إلى السفير الإنجليزي ما جاء في هذه الرسائل فقال: إنها تذكر أن الجند الذين تحت قيادة محمد علي، لما كانوا قد أقاموا سنوات عديدة في مصر فهم يرفضون مغادرة بيوتهم وأسراتهم، وأظهروا عزمهم على حجزه وإبقائه معهم رهينة لضمان حصولهم على مرتباتهم المتأخرة.»
ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولكن هذا المكر ومحاولة تفادي الموقف والتهرب من تلبية أوامر الباب العالي لم يغب على فطنة القبطان باشا ولكنه لما لم يكن لديه من الوسائل ما يمكنه بها من القيام بأية عمليات عدوانية ضد محمد علي، فقد اعتزم سؤال حكومته حتى تصدر إليه تعليمات جديدة.» وكان تعليق «مسيت» على ذلك: «ولكن محمد علي قد يستطيع قبل أن تصل هذه التعليمات إلى القبطان باشا الحصول من الديوان العثماني بطريق المال أو الرشوة على أمر تثبيته في ولايته.» واستند «مسيت» فيما ذهب إليه إلى أن القنصل الفرنسي بالإسكندرية «دروفتي» قد بعث يوصي القائم بأعمال السفارة الفرنسية في القسطنطينية برعاية وتأييد مصلحة محمد علي، وأظهر «مسيت» تشاؤمه من هذا كله فقال: إن كل أمل في إخلاء مصر من الأرنئود واسترجاع المماليك لسلطتهم قد زال وانقضى.
ولكن القبطان باشا على العكس من «مسيت» كان لا يزال متفائلا في أن مهمته سوف تكلل بالنجاح، لنفس السبب الذي جعله يحضر إلى مصر بقوات قليلة، وهو اعتقاده - واعتقاد الديوان العثماني كذلك - أن الباشا لن يجسر على مخالفة أوامر الباب العالي، وأن المماليك سوف يكملون بفرسانهم ومقاتليهم النقص الموجود في قواته التي أحضرها هو معه، ولكنه إلى أن تأتيه تعليمات جديدة من القسطنطينية وإلى أن يحزم المماليك أمرهم فيأتي بكوات الصعيد لنجدة الألفي ونجدته - الأمر الذي لن يحدث كما سيأتي ذكره وبيان أسبابه بعد - ولا سبيل إلى إرسال جيش ينتزع القاهرة من محمد علي قوة واقتدارا، لم يكن هناك من وسيلة لتنفيذ ما لديه من تعليمات سوى إبلاغ أوامر الباب العالي من جديد إلى المشايخ ومحمد علي وانتظار جواب هؤلاء مرة أخرى عليها، ومحاولة استنهاض همة البكوات المماليك واستحثاثهم على الإيفاء بعهودهم ودفع مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش، ثم مراقبة الصراع الذي انحصر الآن بين محمد علي والألفي وانتظار نتائجه، وإلى جانب هذا كله تسلم الهدايا والرشاوى التي صار يبعث بها إليه كلا الفريقين محمد علي والألفي على السواء.
وأما محمد علي، فقد دل عرضحال المشايخ على أنه قد صح عزمه نهائيا على المقاومة، وأن الأعذار التي انتحلها في مبدأ الأمر لعدم تلبية رغبات الباب العالي؛ أي إرغام جنده له على عدم مبارحة البلاد قبل أن يدفع لهم مرتباتهم، وهي أعذار وإن كان يستبين منها التلكؤ والمماطلة حقا ولكنها لا تنفي امتثاله للأوامر الصادرة إليه، قد حلت محلها الآن حجج ودعاوى تدل في وضوح وجلاء على أنه قد صح عزمه على رفض أوامر الباب العالي ومقاومتها بالقوة إذا لزم الحال، وتستند على عامل ثابت لا تبدل فيه ولا تغير هو رفض الأهلين وزعمائهم الأوضاع الجديدة المقترحة وعودة الحكومة المملوكية وتمسكهم ببقائه واستمرار حكومته عليهم، ولقد كان مبعث هذا التحول في لهجة الباشا إنجاز استعداداته للدفاع عن القاهرة ووثوقه من ولاء رؤساء الأرنئود له، واطمئنانه إلى سكون الأهلين وهدوئهم وإشراكه لمشايخهم وزعمائهم معه في موقف المعارضة لأوامر الباب العالي، ونجاحه في شل حركة بكوات الصعيد، وأخيرا وقوفه على حقيقة ما لدى القبطان باشا من قوات لا تمكنه من الدخول ضده في أية عمليات عسكرية إذا شاء إرغامه على تسليم باشوية مصر إرغاما.
وقال «مسيت» بعد ذلك في رسالة إلى «وندهام» في 14 أغسطس 1806: «إن محمد علي الذي لم يعرف حقيقة القوات التي لدى القبطان باشا وأراد كسب الوقت، أجاب على ما طلبه هذا منه في لهجة تنم عن الخضوع الكامل بأنه مستعد لطاعة أوامر السلطان، وحيث إنه كان مصمما على مقاومة أي جهد أو محاولة لحرمانه من حكومة مصر، فقد أمر بإصلاح تحصينات القاهرة وإقامة التحصينات حولها وعلى جبل المقطم المشرف على القلعة، حتى إذا قطعت الاستعدادات شوطا كبيرا، وبلغته الأخبار أن جيش القبطان باشا أقل من ثمانمائة رجل أعلن قراره بصراحة وهو الاحتفاظ بالقلعة التي فتحها بحد سيفه، ويبدو أن الباب العالي ما كان يتوقع أن يرفض محمد علي وأنصاره طاعة أوامره وقراراته؛ لأن القبطان باشا لم يكن مزودا بتعليمات تخوله القيام بأعمال عدوانية ضد محمد علي؛ ولذلك فقد وجد القبطان باشا ضروريا عندما رفض محمد علي إخلاء البلاد أن يطلب من حكومته تعليمات جديدة.»
ولقد استطال الأخذ والرد بينه وبين القبطان باشا فترة من الزمن، استطاع الباشا خلالها أن يستخدم تلك الأساليب التي قال إنه يعرفها مع الديوان العثماني ومع القبطان باشا نفسه، بإرسال الهدايا والمال إلى القسطنطينية وإلى الإسكندرية، وأن يجدد مسعاه مع بكوات الصعيد حتى يزيد شقة الخلاف اتساعا بينهم وبين الألفي، وأن يستحث أهل دمنهور - بواسطة السيد عمر مكرم خصوصا - على الاستمرار في مقاومة الحصار الذي ضربه الألفي على مدينتهم، وحشد العسكر لمحاولة الالتحام مع الألفي نفسه، ثم السهر على استقرار الهدوء والسكينة في القاهرة وأخيرا إقناع القبطان باشا والباب العالي بأن من الخير الرضا ببقائه في ولايته والتسليم بالأمر الواقع، ولقد عانى الباشا صعوبات ومتاعب كثيرة أثناء ذلك كله مبعثها خصومة «مسيت» الشديدة له، ولو أن الأخير لقى في الوكيل الفرنسي «دروفتي» رجلا لا يقل عنه صلابة وعنادا، ويعمل على إحباط كل تدابيره ومشروعاته.
فكانت الشهور الثلاثة التالية فترة تجربة وامتحان قاسيين لمحمد علي، ولكن الباشا لم يلبث أن اجتازها بنجاح، وفشل القبطان باشا في مهمته، وأسفر هذا النضال الشديد عن تثبيت محمد علي في ولايته.
بوادر انفراجها
فما إن وصل جواب محمد علي وعرضحال المشايخ إلى القبطان باشا حتى أوفد هذا سلحداره شاكر أغا يحمل رسائل إلى المشايخ، ويطلب من محمد علي الإذعان لأوامر السلطان، فوصل إلى بولاق في ليل 13 يوليو، وفي اليوم التالي أرسل إلى المشايخ رسالة من القبطان باشا باسمهم عموما، ثم أخرى إلى الشيخ السادات، وثالثة إلى السيد عمر مكرم، وكلها على نسق واحد من قبودان باشا وعليها الختم الكبير وهي بالعربي وفرمان باللغة التركية، ومضمون الكل الإخبار بعزل محمد علي باشا عن ولاية مصر، وولاية سالونيك، وولاية السيد موسى باشا المنفصل عنها مصر، وأن يكون الجميع تحت الطاعة والامتثال للأوامر والاجتهاد في المعاونة وتشهيل محمد علي باشا فيما يحتاج إليه من السفن ولوازم السفر لتوجهه هو وحسن باشا والي جرجا من طريق دمياط بالإعزاز والإكرام وصحبتهما جميع العساكر من غير تأخير حسب الأوامر السلطانية، وكانت مهمة شاكر أغا أن يقنع المشايخ باستخدام كل ما توهم أنه لديهم من نفوذ علي الباشا في حمله على تسليم منصب الولاية للباشا الجديد الذي تعين بإرادة السلطان، ولكنه لم يحصل منهم إلا على إجابات مبهمة.
فقد اجتمع المشايخ عند عمر مكرم في نفس اليوم (14 يوليو) وتشاوروا في الأمر، ويقص الشيخ الجبرتي ما حدث بصورة يستبين منها أن هؤلاء لم يكن لهم صوت في هذه الأزمة أو كانوا يجرءون على توجيهها، وأنهم جعلوا من أنفسهم آلة في يد محمد علي يديرها كيفما شاء، فيقول: «وقد ركبوا (أي هؤلاء المشايخ وعمر مكرم) إلى الباشا، فلما استقروا بالمجلس قال لهم: وصلت إليكم المراسلات الواصلة صحبة السلحدار؟ فقالوا: نعم، وما رأيكم في ذلك؟ قال الشيخ الشرقاوي: ليس لنا رأي والرأي ما تراه ونحن الجميع على رأيك، فقال لهم في غد أبعث إليكم صورة تكتبونها في رد الجواب، وأرسل لهم من الغد (15 يوليو) صورة مضمونها، أن الأوامر الشريفة وصلت إلينا وتلقيناها بالطاعة والامتثال، إلا أن أهل مصر ورعيتها قوم ضعاف، وربما عصت العساكر عن الخروج فيحصل لأهل البلدة الضرر وخراب الدور وهتك الحرمات وأنتم أهل الشفقة والرحمة والتلطف، مما كان يعتبره الشيخ الجبرتي من التزويقات والتمويهات التي كانت لا تخفي ما صح عزم الباشا عليه من العصيان ومقاومة أوامر الباب العالي.»
ولم يكن هناك شك في تصميم الباشا على المقاومة، فذكر «مانجان» أن محمد علي قال له في هذا اليوم نفسه؛ أي في 15 يوليو: «لقد استوليت على القاهرة بحد السيف، ولن أتخلى عنها إلا بحد السيف! هل تظنون أن هذه المدينة حمام يدخله كل من يشاء بسهولة، لقد وعد البكوات بإعطاء أعضاء الديوان 1500 كيس (أي السبعمائة والخمسين ألف قرش التي تعهدوا بدفعها) وتعهد الإنجليز بضمانة إيفائهم بوعودهم ودفع هذا المبلغ، وخيل إليهم أنهم يستطيعون بواسطة هذا المبلغ أن يصبحوا أسيادا لمصر، إني أعرف الأتراك وأعرف الوسيلة التي تتبع معهم، فالرشوة أداة فعالة مع أناس من طرازهم، ثم عاد يذكر انقلاب مايو 1805، فقال: لقد أحدثت ثورة في العام الماضي واعتليت الحكم يعاونني في ذلك 500 جندي وحسب، وأما الآن فلدي ألف وخمسمائة من مواطني المخلصين لي، وما القاهرة إلا سلعة في سوق الدلالة! وهي من نصيب ذلك الذي يسبق منافسه وغريمه بضربة سيف واحدة، وأما شاكر أغا فقد غادر القاهرة بالأجوبة في ليل 15 يوليو، ولم يغفل الباشا عن إرسال الهدايا معه إلى القبطان باشا بعد أن أكرم وفادة شاكر أغا نفسه.»
وأوفد القبطان باشا مرة أخرى سليم أغا قابجي كتخدا الذي كان محمد علي قد بعث به إلى الإسكندرية صحبة سعيد أغا كتخدا البوابين، يحمل جواب القبطان ومضمونه أن القبودان لم يقبل هذه الأعذار ولا ما نمقوه من التمويهات التي لا أصل لها ولا بد من تنفيذ الأوامر وسفر الباشا ونزوله هو وحسن باشا وعساكرهما الأرنئود وخروجهم من مصر وذهابهم إلى ناحية دمياط وسفرهم إلى الجهة المأمورين بالذهاب إليها ولا شيء غير ذلك أبدا، فوصل سليم أغا إلى القاهرة في 21 يوليو، ثم لم يلبث بعد ذلك بأسبوع أن ورد الخبر بوصول موسى باشا إلى الإسكندرية، وكان هذا قد حضر إليها في 19 يوليو، على نحو ما سبقت الإشارة إليه، ثم لم يلبث أن بعث برسول إلى القاهرة وعلى يده مرسوم خطاب لأحمد أفندي الدفتردار بأن يكون قائما مقامه، ويأمره بضبط الإيراد والمنصرف، فلم يقبل الدفتردار ذلك، وقال: «لم يكن بيدي قبض ولا صرف ولا علاقة لي بذلك، ومما يذكر أن المشايخ وصالح أغا قابجي باشا وسعيد أغا والسيد عمر مكرم وسائر الموجودين في الحفل الذي أقيم بديوان محمد علي بمناسبة تقليد أحمد أفندي جديد الدفتردارية في 6 فبراير 1806 كانوا قد شرطوا عليه ألا يحدث حوادث كثيرة فإن حصل منه شيء عزلوه وعرضوا في شأنه، وقبل أحمد أفندي ذلك على نفسه، وكان معنى هذا أن يصدع بكل ما يأمره به محمد علي، ولم يكن من المنتظر وقد شهد إجماع الرأي على مخالفة أوامر الباب العالي واللجوء إلى القوة إذا لزم الأمر من أجل استمرار الباشا في الولاية أن يقبل ما عرضه عليه موسى باشا.»
وبينما قضى القبطان باشا الوقت في رجوات أو تهديدات لا جدوى منها ولا طائل تحتها، ويرحب محمد علي برسله إليه ويبالغ في إكرامهم، ويبعث بالهدايا الثمينة إلى القبطان باشا نفسه، كانت الحوادث تسير مسرعة نحو إنهاء هذه الأزمة في صالح محمد علي.
فقد انتهز محمد علي فرصة هذا الأخذ والرد بينه وبين القبطان باشا، لإنجاز استعداداته لمنازلة الألفي خصمه العنيد الذي أدرك محمد علي أنه مبعث أكبر ما يتهدد باشويته في هذه الأزمة، طالما بقي محتفظا بقواته، يشدد الحصار على دمنهور ويبعث، بفضل الجيش الذي لديه، الأمل في نفس القبطان باشا في إمكان عزل محمد علي من الولاية وإخراجه هو والأرنئود من مصر ؛ وعلى ذلك، فقد استأنف الباشا مساعيه لإحياء المفاوضات مع بكوات الصعيد التي شابها شيء من الفتور والركود وقتئذ، فقال «دروفتي» منذ أول يوليو: «إنه بدأ مفاوضات جديدة معهم وأرسل عثمان البرديسي لهذا الغرض أحد كشافه إلى محمد علي، وغادر هذا الرسول القاهرة محملا بالهدايا للبرديسي وسائر كبار البكوات، وحرص الباشا على استتباب الهدوء في القاهرة، وجمع القاهريين حول قضيته، واستند في ذلك على سلاح الدعاية، فأشاع في طول البلاد وعرضها أن الباب العالي قد ثبته في حكومة مصر، وأمر بإقامة الأفراح احتفالا بهذا التثبيت في القاهرة ورشيد.» وعجب «مسيت» غاية العجب من أن خطوات لم تتخذ من جانب القبطان باشا لإزالة الأثر الذي قال إنه لا مفر من حدوثه حتما في أذهان الأهالي نتيجة لإقامة هذه الاحتفالات وذيوع الخبر، وعلل عدم مبادرة القبطان باشا بنفيه وتكذيبه بأن محمد علي قد رشاه بخمسين ألفا من الجنيهات، وقال: فإذا كان الأمر كذلك فمسلك القبطان لا يحتاج إلى تفسير، ثم استطرد «مسيت» يقول في نفس رسالته هذه التي بعث بها إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 31 يوليو: «وفي اعتقاده أن أكثرية كبيرة من أهل القاهرة سوف لا يصدقون لذلك أن القبطان باشا إنما حضر إلى مصر كي يعيد المماليك إلى الحكم، ويبذل محمد علي من جانبه نشاطا بلغ أقصاه لمنع حدوث أي تغيير أو تبدل في آرائهم في هذه المسألة.»
وصار الباشا يحشد قواته في إمبابة للخروج ومحاربة الألفي، واستطاع أن يجمع قدرا من المال دفع منه مرتبات الجند أو قسما منها، ولما كان في حاجة ملحة لخروج جميع العسكر في الحملة المزمعة ضد الألفي، فقد طلب من مشايخ الحارات بالتعريف عن كل ما كان متصفا بالجندية ويكتبوا أسماءهم ومحل سكنهم، ثم أمر الوجاقلية جليلهم وحقيرهم بالخروج للمحاربة، وبعث يطلب العربان للتجمع، وعين لذلك حسن أغا محرم وعلي كاشف الشرقية، ووصل الكثير من طوائف عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق، ثم ركب طوائف الدلاتية وتقدموا إلى جهة بحري، وأشرف محمد علي نفسه على تجهيز العرضي في إمبابة، وقال «مسيت»: إن الباشا لما كان مقتنعا بسبب الأجناد التي زوده بها عيونه وجواسيسه وبعث بها إليه الوكيل الفرنسي «دروفتي»، ثم بسبب ما بدا من جانب القبطان باشا من خمود الحركة تماما، بأنه لا موجب للخوف من هذا الأخير، فقد وضع أحد قواده على رأس أربعة آلاف رجل أكثرهم من الفرسان وأمره بغزو مديرية البحيرة والاشتباك مع الألفي، وأما هذا القائد الذي ذكره «مسيت» فكان طاهر باشا ابن أخت محمد علي، ويعاونه قائد آخر هو «طبوز أوغلي» (كتخدا بك) وتتخذ قواتهما مواقفهما بالرحمانية ومرقص، وكان على أيدي هذين القائدين أن حدث أول التحام جدي في معركة كبيرة بين جيش محمد علي والألفي، وكان النصر فيها حليف الألفي.
وذلك أن الجند الذين شدد الباشا في جمعهم من القاهرة، وأصر على خروجهم من معسكر إمبابة، لم يلبث أن وصل قسم منهم إلى الرحمانية ومرقص، فمكنت هذه النجدة طاهر باشا وطبوز وأوغلي من مغادرة مراكزهما واعتلاء الشاطئ الأيسر للنيل (فرع رشيد) للانضمام إلى القسم الآخر من الجيش الذي عرفا أنه لا بد حاضر لنجدتهما، من أجل الاشتباك مع الألفي وإرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، ووجب على الألفي لذلك أن يحول دون انضمام الفريقين، فترك حصار دمنهور، وتعقب الأرنئود حتى لحق بهم في اللحظة التي دخلوا فيها إلى النجيلة، وهي بلدة تقع على الشاطئ الغربي لفرع رشيد وعلى مسافة 36 كيلومترا جنوب الرحمانية، وكان لا مفر حينئذ من وقوع التحام بين الجيشين، فكانت معركة النجيلة في 31 يوليو 1806.
وكان الجيش من الدلاة والأرنئود قد انقسم إلى قسمين: أحدهما بقيادة طاهر باشا ويحتل إلى يمين البلدة مركزا يستند أو يتكئ على النهر، والثاني بقيادة طبوز أوغلي يقف مرتبا للقتال إلى قدام النجيلة ذاتها، وكان جند طاهر باشا هم الذين اشتبكوا أولا في المعركة، وأدركوا نجاحا في مبدأ الأمر، ولكن عربان الألفي ما لبثوا أن شددوا الهجوم عليهم، وخاض الألفي نفسه المعركة وسط مماليكه، فلم يستطع طاهر باشا الصمود، وهرب بنفسه واحتذى الجند مثاله فرموا سلاحهم، ولاذوا بالفرار، وألقوا بأنفسهم في النيل وامتلأ البحر من طراطير الدلاتية، وامتلأ النيل بالقوارب المحملة بالجند الفارين، وغرق اثنان منها، واستطاع بقية الجند من أرنئود ودلاة الوصول إلى الشاطئ الآخر، وأما جيش كتخدا بك فقد أبلى بلاء حسنا وأبدى مقاومة أفضل فدفع هجمات العدو مرات عديدة واستطاع بدوره أن يقوم بهجوم شديد أكثر من مرة على قوات الألفي، حتى إن فريقا من الدلاتية تمكنوا من قتل الضابط اليوناني «جورجي»
Giorgi
قائد مدفعية الألفي، ولكن كل هذه المحاولات ذهبت عبثا بسبب نيران مدفعية الألفي التي أحدثت ثغرات شاسعة في صفوف الجند وأشاعت بسبب ذلك الفوضى بينهم، فاضطر «طبوز أوغلي» إلى إصدار أمره بالتقهقر، ونجح في الدخول إلى النجيلة والتحصن بها، وفي اليوم التالي (أول أغسطس) عبر النيل، وانسحب بجنده صوب منوف، وهكذا أسفرت هذه المعركة عن انتصار الألفي وخسر جيش طاهر باشا وكتخدا بك ستمائة جندي بين قتيل وأسير، وثلاثة مدافع عدا خيامهم وعتادهم وخيولهم وحملاتهم وجبخانتهم، وكانت هزيمة شنيعة، ولم يخسر الألفي في هذه المعركة سوى قائد مدفعيته، وأحد بكواته الصغار، أحمد بك الهنداوي، وثلاثة أو أربعة من المماليك وجماعة من العربان، وقال «مسيت» وهو يذكر خبر هذه الموقعة للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 3 أغسطس 1806 أن الألفي كان من حسن السياسة بحيث إنه أرسل بضعة رءوس، وثمانية عشر أسيرا إلى القبطان باشا الذي ما عتم أن أعلن عند استلامه ذلك أن محمد علي وأتباعه عصاة ثائرون على الباب العالي، وبعث «دروفتي» بخبر هذه الواقعة إلى «تاليران» في 3 أغسطس فقال إن الأخبار قد وصلته منذ يومين بأن الألفي قد ترك حوش عيسى في طريقه إلى القاهرة، والإشاعات رائجة بأنه قد انتصر على جند محمد علي في مكان قريب من قرية النجيلة، وقد أرسل الألفي الرءوس المقطوعة والخيول إلى القبطان باشا واشترك في هذه المعركة الدلاة والأرنئود، ثم عاد فبعث في رسالة تالية في 8 أغسطس بتفصيلات هذه المعركة، ويدل ما ذكره كل من «مسيت» و«دروفتي» عن واقعة النجيلة أنها حدثت قطعا في آخر شهر يوليو من عام 1806.
وعاود الألفي بعد هذا الانتصار ضرب الحصار على دمنهور، وشجعه القبطان باشا على ذلك، وكانت رغبة القبطان - كما ذكر «دروفتي» - أن يجعل الألفي يحتل دمنهور بكل وسيلة، واحتل شاهين بك الألفي الرحمانية، ثم أشار «مسيت» على القبطان باشا بأن ينتهز هو الآخر فرصة هزيمة جند محمد علي، فيحتل رشيد ودمياط ودمنهور.
وأحدث انتشار خبر هزيمة النجيلة في القاهرة ذعرا في النفوس وبلبلة في الأفكار كبيرة، ولم يعرف الباشا نفسه أو القاهريون بالكارثة إلا من الجند الهاربين الذين ظلوا يحضرون إلى القاهرة جملة أيام بعد ذلك، فكانت مفاجأة سيئة للباشا، ولم ينقذ «طبوز أوغلي» من غضبه وانتقامه سوى شجاعته أثناء المعركة، وأما طاهر باشا فقد لجأ إلى المنوفية هاربا من غضب الباشا الذي عظم حنقه عليه، وتوسط كثيرون في الشفاعة له، فأمره بالذهاب إلى رشيد، فتقدم حتى فوة، ولكن الباشا عندما علم بضياع الرحمانية كذلك لم يلبث أن طلب منه التوجه إليها واستخلاصها من يد شاهين بك الألفي فهاجمها بنشاط كبير واستولى عليها، وعاد إلى القاهرة، وحضر إليها من بعده الكثير من العسكر، فأمرهم الباشا بالعودة، وكان إسماعيل أغا الطوبجي كاشف المنوفية من بين الذين جاءوا إلى القاهرة وقد داخل الجميع الخوف من الألفي.
وخشي محمد علي من عواقب هذه الهزيمة السيئة، وبخاصة عندما وجد المماليك والعرب بعدها الميدان حرا طليقا للانتشار في مديرية الجيزة، وقربوا من القاهرة حتى كادوا يكونون على أبوابها، واستطاع جواسيس القبطان باشا والألفي بك أن يندسوا بين القاهريين ويبذرون بذور الفتنة بين الجند وبينهم، وتزايد هياج الخواطر، ومنع الباشا الجند المهزومين وكبراءهم الذين حضروا في المراكب إلى بولاق وهم في أسوأ حال وفيهم مجاريح كثيرة من النزول إلى البر وردهم إلى إمبابة ، فبقوا بها حتى إذا رخى الليل سدوله أذن لهم بدخول القاهرة، وكان قد انضم إليهم كثيرون ممن كان من الجند ببر المنوفية ولم يحضر المعركة لما داخلهم من الخوف، وشدد الباشا الحراسة في القاهرة، وأنشأ لذلك دوريات كثيرة، وصار يتجول بنفسه متخفيا في أحايين كثيرة في أكثر أحياء القاهرة ازدحاما بالسكان لمراقبة نشاط وكلاء العدو السريين، ومعرفة اتجاهات الرأي العام عموما، فأكثر من الركوب والذهاب والمجيء والطواف حول المدينة والشوارع، ويذهب إلى بولاق ومصر القديمة، ويرجع ليلا ونهارا وهو راكب رهوانا تارة أو فرسا أو بغلة ومرتد ببرنس أبيض مثل المغاربة، والعسكر أمامه وخلفه، وقد برهن له ما لاحظه من هياج الخواطر على أن القبطان باشا والألفي قد نجحا في غرضهما لدرجة هددت باحتمال إشعال الثورة في القاهرة، ولما كان القاهريون قد اعتادوا التجمهر كلما أرادوا إعلان سخطهم وتذمرهم في شارع الخليج المنخفض، في غير أوقات الفيضان، وكان هذا الشارع أو المجرى يشق قلب القاهرة، وقد اقترب علاوة على ذلك موعد فتحه بسبب فيضان النهر، وتوقع أن ينتهز المهيجون فرصة الاحتفال بوفاء النيل وتجمهر الناس عند فتح الخليج، فقد رأى الباشا أن يحتاط للأمر بكسر الجسر قبل موعده، فقال الشيخ الجبرتي: «وركب في 14 أغسطس إلى قنطرة السد، وحضر القاضي والسيد عمر النقيب وكسر الجسر بحضرتهم، وجرى الماء في الخليج جريانا ضعيفا بسبب علو أرضه وعدم تنظيفه من الأتربة المتراكمة فيه.»
ثم استطرد الشيخ يقول: «ويقال إنهم فتحوه قبل الوفاء لاشتغال بال الباشا وتطيره وخوفه من حادثة تحدث في مثل يوم هذا الجمع وخصوصا وقد وصل إلى بر الجيزة الكثير من أجناد الألفي، فاطمأن الباشا حينئذ إلى استحالة حدوث اجتماعات شعبية أو تجمهر يخشى خطره، وكان من أسباب زيادة هياج الخواطر ما وقع من مخاصمات بين عرب الحويطات والعيايدة، وتجمع الفريقين حول القاهرة ونشوب القتال بينهما مرات كثيرة، مما أدى إلى انقطاع السبل فتدخل الباشا وانتصر للحويطات، وتوسط عمر مكرم في الصلح، وانتهت الفتنة.»
ولا جدال في أن الألفي والقبطان باشا كان بوسعهما الاستفادة من النصر الذي أحرزه الأول في معركة النجيلة، لو أن الألفي بادر عقبه مباشرة بالزحف على القاهرة ولو أن القبطان باشا أخذ بنصيحة «مسيت» وحاول الاستيلاء على رشيد ودمياط ودمنهور، أو أنه أقبل على معاونة الألفي في حصار دمنهور محاصرة جدية فعالة، فقد كان الخوف من الألفي مستوليا على جند محمد علي، وغادر أكثرهم مراكزهم - كما شاهدنا - فرارا من الالتحام مع الألفي في معركة أخرى كبيرة، وساد هياج الخواطر في القاهرة حتى إن الباشا صار يخشى من وقوع اضطرابات خطيرة أو اشتعال الثورة بها، ولكن الألفي والقبطان باشا فوتا على نفسيهما الفرصة.
ذلك أن الألفي بدلا من الزحف على القاهرة - كما أذيع عقب انتصاره في النجيلة - وذكره «دروفتي» وقتئذ في رسالته إلى حكومته - على نحو ما سبق ذكره - آثر استئناف ضرب الحصار على دمنهور، فقصد إليهما، ثم استقدم إليه من الجيزة عددا من بكوات المماليك الذين أمرهم هو حديثا (وكانوا ستة) لتعزيز قواته، وكان عظيم الأمل في استطاعته إخضاع دمنهور بسهولة، لا سيما بعد انتصاره الأخير في النجيلة، وبسبب ما كان لديه من مدفعية قوية يستخدمها يونانيون وإيطاليون أتى بهم إليهم الوكلاء الإنجليز، ولكن أهل دمنهور أثناء انشغال الألفي بمعركة النجيلة وابتعاده عن مدينتهم، كانوا قد جلبوا إليها المؤن، واستعدوا لمقاومة الحصار إذا ضرب عليهم من جديد، وعقدوا العزم على الاعتماد على أنفسهم إلى النهاية عندما وجدوا أنه من المتعذر على الباشا في ظروفه الراهنة إرسال أية نجدات إليهم بالرغم من تكرر طلبهم لها، وكان نفر من أعيانها قد ذهبوا لمقابلة القبطان باشا قبل أن يستأنف الألفي حصار مدينتهم يرجونه التدخل لصرف الألفي عن عزمه، فأمنهم صالح باشا، ولكن فريقا منهم لم يطمئن لوعده، فبعثوا إلى عمر مكرم ومحمد علي يطلبون النجدة، فوعدوا بها ولكنهم أمروا في الوقت نفسه بالاستمرار على الممانعة وعدم تسليم مدينتهم ومحاربة من يأتي لحربهم، فاستعدوا لذلك، وقال الشيخ الجبرتي: «إن القبطان باشا عندما رفض أعيان دمنهور الذين ذهبوا لمقابلته الإذعان لأوامره وتسليم المدينة إلى الألفي، لم يلبث أن استفتى العلماء في جواز حربهم حتى يذعنوا للطاعة فأفتوه بذلك، فعند ذلك أرسل إلى الألفي يأمره بحربهم فحاصرهم وحاربهم، ولقي الألفي عند استئناف الحصار مقاومة شديدة على يد حاميتها المؤلفة من أربعمائة من الأرنئود والعثمانلي، والتي تعاون معها جميع السكان، واشترك النساء كذلك في المقاومة، وتمكن الدمنهوريون مرات عديدة من رد هجوم الألفي، وصاروا يقومون بخروج مسلح جريء كلما لاح شبح المجاعة في مدينتهم حتى يجلبوا لها المؤن والأغذية، بل واشترك النساء في الالتحامات التي وقعت، وكثيرا ما كن يعتلين أسوار المدينة وتحصيناتها ينشدن الأناشيد في هجاء الألفي ووصفه بالجبن والتهكم من عاداته الشخصية التي تدل على التخنث وعدم الرجولة، وسمع جنده هذه الأناشيد، وضجر الألفي من امتناع المدينة عليه، وأدرك أنه سوف يتعذر عليه إخضاعها قبل حدوث الفيضان (أي حوالي آخر شهر أغسطس) وعندئذ تتوقف العمليات العسكرية بسبب الفيضان ويضطر إلى رفع الحصار عنها.»
وعلى ذلك، فقد أرسل الألفي بعض قواته إلى الرحمانية لسد ترعة الأشرفية وهو المكان الذي تأخذه هذه الترعة عنده مياهها من فرع رشيد، فتمر بسنهور ودمنهور والكريون حيث تبدأ عند النشو البحري تسميتها بترعة الإسكندرية وتمد بالمياه صهاريج الإسكندرية، كما يستقي أهل دمنهور والقرى المنتشرة حولها من ترعة الأشرقية، فأرسل الباشا من فوره بربر باشا الخازندار ومعه عثمان أغا ومعهما عدة كثيرة من العساكر في المراكب فوصلوا إلى خليج الأشرفية من ناحية الرحمانية، واشتبكوا مع قوات الألفي وأجلوهم عنها وفتحوا فم الخليج فجرى فيه الماء، ودخلوا فيه بمراكبهم، ولكن الألفية سدوا الخليج من أعلى عليهم، وحضر شاهين بك الألفي فتمكن من سد فم الخليج بأعدال القطن والمشاق، ثم فتحه الألفية من أسفل فسال الماء في السبخ، ونضب الماء من الخليج، ووقفت السفن على الأرض، وأوقع الألفية بجيش بربر باشا هزيمة كبيرة عند قرية منية القران فانسحبوا مدحورين إلى سنهور، وتحصنوا بها، واستمر القتال بين الفريقين مدة دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، وتمكن الألفي من تحويل المياه إلى بحيرة إدكو ، وقال «دروفتي» وهو يذكر هذه الحوادث في رسالته إلى «تاليران» من الإسكندرية في 20 أغسطس 1806: «إن تحويل المياه إلى بحيرة إدكو - ومن شأنه أن يجعل من إقليم البحيرة صحراء مجدبة على الأقل خلال العام التالي - قد أثار خوف أهل الإسكندرية الذين ما لبثوا أن احتجوا لدى القبطان باشا على هذا العمل الذي منع وصول الماء إلى مدينتهم.» ويقول «دروفتي»: «إن صالح باشا عزا ما يشكون منه ويحتجون عليه إلى عناد أهل دمنهور وعدم طاعتهم، وطلب من الشيخ المسيري الذهاب إليهم لإقناعهم بالتسليم، ولكن هذا رفض القيام بهذه المهمة، فتعين لها ثلاثة من المشايخ كان نصيبهم الفشل.»
ذلك أن الدمنهوريين رفضوا التسليم وأساءوا معاملة هؤلاء المشايخ واحتجزوهم، ثم أفرجوا عن أحدهم على شريطة أن يبذل قصارى جهده لإقناع القبطان باشا بأن يعمل لرد الألفي وحمله على رفع الحصار عن دمنهور في نظير أن يعيد الدمنهوريون إصلاح ترعة الأشرفية وإطلاق المياه لملء صهاريج الإسكندرية على نفقتهم الخاصة، وأبقى الدمنهوريون الشيخين الآخرين كرهائن لديهم، وقال الشيخ: إن كاشف دمنهور قد توفي، وتروج الإشاعة بأن الألفي قد سمه، وقد تعين بدلا منه حسن أغا، والأهالي مصممون على الدفاع عن مدينتهم إلى النهاية، ونصح صالح باشا بإحضار الماء إلى الإسكندرية بوسائل أخرى، ولكنه كان من الواضح - على حد قول «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 12 سبتمبر 1806 - أنه لا يمكن ملء صهاريج الإسكندرية بالماء إلا إذا أبعد الألفي عن دمنهور ورفع حصاره عنها، وأعتقد أن القبطان باشا سوف يضطر إلى إبعاد الألفي حتى لا يقال عنه إنه جاء إلى مصر ليزيد من فداحة الكوارث المنصبة على رءوس أهلها.
ولم يثن دفاع دمنهور المجيد الألفي عن عزمه، فاستمر على حصارها، ولكن تحرك الأرنئود والعثمانلي بالرحمانية للزحف على دمنهور وتخليصها لم يلبث أن جعل الألفي ينقل مقره من باب الاحتياط إلى حوش عيسى، ولو أن ما قام به جند الرحمانية من هجمات على قواته كان نصيبه الفشل لإخفاقهم في قطع السد الذي أقامه الألفي على الترعة لتحويل المياه إلى بحيرة إدكو، فبقيت قواته مرابطة حول دمنهور تضيق الحصار عليها، ولكن «دروفتي» الذي نقل هذه الأخبار - في رسالته إلى حكومته من الإسكندرية في 20 سبتمبر قال كذلك: إن القبطان باشا سواء بسبب أوامر معينة قد وصلته من الباب العالي أو لأنه رأى استحالة تنفيذ الخطة التي كلف بها، قد دخل في مفاوضات مع محمد علي، ومن المنتظر أن يصل غدا إلى الإسكندرية ابن محمد علي إبراهيم محملا بالهدايا للقبطان باشا، وكل شيء هادئ بالصعيد، والقاهرة على حالها ولو أن مرضا وبائيا منتشر بها.
وكان هذا الشطر الثاني من الأخبار التي بعث بها «دروفتي» على جانب عظيم من الأهمية؛ ذلك أنها تدل على أن القبطان باشا قد أخفق في مهمته التي أوفد من أجلها إلى مصر وهي تنحية محمد علي من الولاية، وإرجاع سلطة البكوات القديمة إليهم، وتأسيس مشيخة الألفي، ولقد أخفق صالح باشا في مهمته لأسباب كثيرة، منها أنه لم يكن الرجل الذي يصلح لتنفيذ المهمة التي عهد بها إليه، وأن موسى باشا المعين للولاية لم يكن هو الآخر ذلك الرجل الذي يستطيع انتزاع الباشوية من يد محمد، كما أنه عجز بالرغم من وقاره واتزانه عن التأثير على القبطان باشا وعلى الألفي، وأن الألفي وهو أكبر المنتفعين من الاتفاق الذي أبرمه كتخداه من رجال الباب العالي لم يشأ أن يتحمل وحده دفع السبعمائة والخمسين ألف قرش التي تعهد بها محمد كتخداه بكفالة سليمان أغا صالح أو الوكيل نسبة إلى سيده صالح بك الوكيل، وأن الانقسام الذي فرق صفوف البكوات وكان مبعثه الحسد والغيرة والمنافسة القوية بينهم جميعا قد حال دون تلبية بكوات الصعيد لنداءات القبطان باشا أو الاستماع لرجوات سليمان أغا الملحة، فرفضوا المساهمة في دفع المبلغ المطلوب، ورفضوا - كعادتهم - أن يضحوا بشيء من أموالهم التي سلبوها واغتصبوها من أهل البلاد، حتى ولو كان في ذلك استرجاعهم لسيطرتهم المفقودة، وأن الألفي لم ينتفع من انتصاره في النجيلة، وانهمك في حصار دمنهور، ولم ينصرف عن حصارها مع ما ظهر من استماتة أهلها في الدفاع عنها، كأنما قد توقف تقرير مصيره على إخضاع هذه المدينة، فلم يبذل أي جهد لإقناع بكوات الصعيد بصدق نواياه وأنه يسعى لصالح المماليك جميعا، أو يسعى لاستلال سخيمة البرديسي منافسه العنيد، وأضاع ثلاثة شهور أثناء حصار دمنهور ينتظر النجدة التي وعد بكوات الصعيد بإرسالها إليه، بينما كان من الواضح أن نصرا حاسما يظفر به على جيش محمد علي إذا تعذر إخضاع دمنهور بكل سرعة من شأنه تقرير مصيره، وأن محمد علي انتفع من استطالة الحصار الذي شل يد الألفي وأخمد نشاطه في ميادين أخرى، فعرف كيف يستميل رجال الديوان العثماني في القسطنطينية وكذلك القبطان باشا إلى تأييد قضيته، وأن «مسيت» وقد عجز كل العجز عن استنهاض همة صالح باشا للقيام بأية عمليات عسكرية، بينما بذل «دروفتي» قصارى جهده لإحباط مساعيه من ناحيته، وتأييد قضية محمد علي للقضاء على الألفي الأداة الطيعة للإنجليز في نظره والرجل الذي سوف يعمل على تمكين نفوذ هؤلاء إذا دانت له السلطة من ناحية أخرى.
البقاء في الولاية
أما القبطان صالح باشا فقد كان رجلا عرف بالبخل وحب المال واكتنازه وجمعه بأية وسيلة سواء بطريق الرشوة أو بطريق الهدايا والعطايا، عرف فيه هذه الخصلة محمد علي كما عرفها الألفي، فأغدق عليه كلاهما الهدايا، ورشاه محمد علي بقدر كبير من المال، وبذ الألفي في استخدام هذا السلاح عندما تعذر على الأخير مجاراة خصمه أو المباراة معه في هذا السبيل بسبب موارده المحدودة حينما كان عليه أن يدفع مرتبات أتباعه وجنده وعربانه إلى جانب الاستعداد لدفع ما صار يسميه نصيبه من المبلغ الذي تعهد كتخداه بدفعه ثم كان من أثر انغراس هذه الخصلة في طبع القبطان باشا أنه جعل ديدنه المطالبة بالسبعمائة والخمسين ألف قرش عدا ونقدا بتمامها دون أن تنقص بارة واحدة، فتنوسيت في طيات ذلك سائر تعليمات الباب العالي، وأهمها طرد محمد علي من الولاية، الغرض الرئيسي الذي أوفد من أجله، فاستحالت سياسة الدولة في يديه إلى مجرد مساومة على الولاية، وأضحت هذه كما قال محمد علي نفسه سلعة في سوق الدلالة، ومما يدل على نهمه وجشعه أنه في الوقت الذي تم فيه اتفاقه مع محمد علي وبقاء هذا الأخير في الولاية استمر يلح على الألفي في طلب المال والهدايا، كما أراد أن يدفع له أهل دمنهور مبلغا من المال، وانتهى الأمر به بأن صار يطلب كذلك إتاوة من أهل الإسكندرية، قدرها مائة وخمسون كيسا، وهم الذين - كما ذكر «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في أول أكتوبر 1806 - لم تفرض عليهم أية إتاوات منذ أن أخلى الفرنسيون مصر وجلوا عنها، أضف إلى ذلك أنه كان رجلا من شيمته التطير والتشاؤم، يعتقد في السحر والشعوذة، حدث وهو بعرض البحر قبل وصوله إلى الإسكندرية أن هاج البحر هياجا شديدا، فاستبد به الخوف، وخشي أن يكون ذلك فألا نحسا لمهمته فأمضى اليوم في العبادة، وأمر بإقامة الصلاة في سائر السفن، وأعتق عددا من العبيد وذلك حتى تهدأ العاصفة ويزول غضب السماء عنه، وما إن علم عند وصوله إلى الإسكندرية أن فلكيا يدعى علي بك العباسي - سوف يأتي ذكره ثانية - موجود بها حتى استدعاه وأعطاه طلسما كان يحمله معه لفحصه والاستعانة به على التنبؤ بما سوف يحدث له في مصر، وهل ينجح في مهمته أو يفشل، واضطر علي بك العباسي إلى قراءة طالع القبطان بالصورة التي ترضيه، وكان لهذا التطير أثره كذلك على مسلكه فجعله يتشاءم من طول امتناع دمنهور على الألفي، ويعدل عن بذل أي نشاط إيجابي أو القيام بأية عمليات عسكرية، وأغضبه أن البرديسي لم يوفد إليه رسولا من قبله، ولو أن إبراهيم بك كان قد بادر بإرسال كخياه الذي وصل إلى الإسكندرية في 9 يوليو محملا بالهدايا له، كما جعله استقرار محمد علي الظاهر في القاهرة متشائما من الدخول في نضال سافر معه، فلما تبين له تمسك محمد علي بالولاية عمد إلى الدسيسة، فقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 29 يوليو: إنه أرسل أحد كبار ضباطه إلى معسكر الألفي، وآخر إلى البرديسي، وظهر ل «دروفتي» ما حمله على الاعتقاد بأن القبطان يبغي من نشاطه هذا اغتيال محمد علي فقال: ويبدو أنه وقد فشلت القوة (والأصح التهديد والوعيد؛ لأن إجراءات عنيفة لم تتخذ ضد محمد علي) صار الالتجاء الآن إلى الكيد والدسيسة، وسوف لا يكون موضع اندهاش إذا عرفنا يوما أن محمد علي قد مات مقتولا أو مسموما، وكان من أساليب القبطان باشا تحريض القاهريين على الثورة بعد هزيمة النجيلة - على نحو ما سبق ذكره - ولكن فشل الألفي أمام دمنهور وطول امتناعها عليه وما صادفه من صعوبات مع محمد علي ومع البكوات أثناء مفاوضاته معهم من أجل دفع المبلغ المطلوب، كل ذلك ما لبث أن جدد تشاؤمه، وزاد من تطيره، حتى فقد الثقة في نجاح مهمته، وصار يضيق ذرعا باستطالة إقامته بالإسكندرية، وبدأ يشعر بأنه بات شبه سجين بها فبدأ يتحول عن مناصرة الألفي، ثم انتهى به الأمر بالتسليم ببقاء محمد علي في ولايته.
وأما موسى باشا، فقد حضر إلى الإسكندرية وهو عاقد العزم على الاعتماد كلية على القبطان باشا في تسلمه منصبه، فجاء خاوي الوفاض ولا جند معه، زاره «دروفتي» ولقى منه ترحيبا كبيرا، فخرج من مقابلته وهو يقول في رسالته من الإسكندرية في 24 يوليو: إن مسلكه وكلامه يدلان على أنه رجل سياسة أكثر مما يمكن أن يوصف بهذا مواطنوه عموما، عقد عدة اجتماعات مع القبطان باشا، يقولون: إنه قد اشتكى في الأخير منها من بعض الوسائل التي اتخذت لتنفيذ الخطة المكلف بها القبطان باشا، ولكن هذا ما لبث أن ألقى تبعة ذلك على محمد كتخدا الألفي، الذي قال عنه: إنه تغالى كثيرا في وصف قوات سيده ودرجة الاعتماد على مؤازرة الحزب الذي يمكن إيجاده من بين السكان لتعزيز قضيته.
وعندما جاء جواب محمد علي الأول منذرا بأن زحزحته من الولاية دونها مصاعب جسيمة، لم ير موسى باشا بالاشتراك مع القبطان مناصا من إرسال الططر في طلب النجدة من القسطنطينية، ولقد خيل إليه عندما لم يستمع القبطان لآرائه أن في وسعه الاعتماد على الألفي في تكوين جيش يمكنه من الولاية وإغراء الجند على ترك جيش محمد علي، فقال «مسيت» في رسالته من الإسكندرية في 31 يوليو وهو يتحدث عن موسى باشا: إن هذا الأخير قد وصل إلى الإسكندرية من أيام قليلة مضت ولا مال ولا جند معه ومعتمدا الاعتماد كله على القبطان باشا، ويجد موسى باشا أن مركزه في شدة الحروجة ولا رجاء فيه، ولما كان يعتقد تماما أنه لن يلقى مساعدة من القبطان باشا، فقد صار يبغي أن يوفر له الألفي الوسائل التي تمكنه من جمع جيش يرجو بواسطته وبالاتحاد مع المماليك أن يطرد من مصر منافسه محمد علي باستخدام القوة ضده، ومع ذلك فلا ينتظر أن يوافق الألفي الذي أنفق إلى الآن مالا كثيرا على تحمل نفقات أخرى في مسألة صارت اليوم غير أكيدة، ويرجو موسى باشا كذلك أن يستطيع التأثير على قسم عظيم من جند محمد علي ليفروا من صفوف جيشه بسبب أن هؤلاء كانوا في الماضي في خدمته وتحت أوامره.
على أنه لما كان موسى باشا لا دانق واحد عنده، فلا وسيلة لديه لإغراء هؤلاء على ترك جيش محمد علي، وهكذا قضى موسى باشا الوقت يعلل النفس بالأماني الباطلة تارة، ويقبل الرشوة من محمد علي تارة أخرى شأنه في ذلك شأن سائر عملاء الباب العالي والقبطان باشا نفسه، ومع أن هذا الأخير كان ذا شخصية تافهة فقد تركه موسى باشا برغم صفات السياسة التي لاحظها فيه «دروفتي» يسيطر على توجيه الأمور، واكتفى هو بالإصغاء إلى نصائح «دروفتي» الذي حاول إقناعه بعدم وجود ارتباط بين مصلحته ومصلحة الألفي، ثم صار يبدي ميولا واضحة نحو فرنسا، لما كان ظاهرا من القبطان باشا أنه صاحب ميول إنجليزية، ولعل استكانة موسى باشا هذه وقبوله لنصح «دروفتي» له - ولم يكن في وسعه للأسباب التي ذكرناها إلا أن يفعل ذلك - هي التي جعلت الوكيل الفرنسي يحكم عليه أنه رجل سياسة يفوق في هذه الناحية أكثر مواطنيه عموما؛ وعلى ذلك فقد سارت الأمور منذ وصول القبطان باشا إلى الإسكندرية دون أن يظهر ذكر لاسم موسى باشا ودون أن تكون له يد فيها.
ومنذ أن بدأ القبطان صالح باشا يعمل لتنفيذ مهمته انحصر جهده وتفكيره في الحصول على المبلغ المطلوب من المماليك، فأوفد عقب وصوله إلى الإسكندرية سليمان أغا صالح أو الوكيل ومحمد كتخدا الألفي وشاكر أغا سلحدار القبطان باشا لمقابلة الألفي كي يخبروه بما تم الاتفاق عليه في القسطنطينية وحضور القبطان لتنصيبه في المشيخة وتمكين المماليك من السلطة، ومطالبته بدفع مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش أو الألف والخمسمائة كيس فامتلأ الألفي فرحا وسرورا، ولكنه رفض أن يتحمل هو وحده ودون سائر البكوات دفع المبلغ بدعوى أنه لم يكن المنتفع وحده بالترتيب الذي وضع، وأن هناك ثلاثة بيوت أو فرق للماليك؛ جماعة إبراهيم بك، والمرادية برئاسة عثمان البرديسي، والألفية برئاسة الألفي نفسه، وأشار بأن يدفع بكوات الصعيد الذين يؤلفون فرقتين من هذه الفرق الثلاث ألف كيس بواقع خمسمائة كيس لكل منهما، حتى إذا حصل شاكر أغا هذا المبلغ منهم وهو ثلثا المطلوب، دفع الألفي خمسمائة كيس وهي الثلث الباقي، فبدا أن هناك صعوبات يجب تذليلها وأن مهمة القبطان - كما تصورها - لم تكن بتلك السهولة التي رسمها في ذهنه - ولو أنه كان يبدو من ناحية أخرى أن إبراهيم والبرديسي سوف لا يمتنعان عن دفع حصتهما من المبلغ - لأنه كان يترتب على نجاح الاتفاق ترك الباب العالي حكومة مصر الفعلية في أيدي المماليك وتمكنهم من استرجاع القاهرة وكل المواقع الهامة التي يحتلها الأرنئود، فقرر القبطان باشا إرسال سليمان أغا إلى بكوات الصعيد، ولم يفقد أمله في نجاح مسعى رسوله لديهم، وتنفيذ المهمة التي جاء من أجلها؛ لأنه سوف يتعذر على محمد علي حينئذ أن يتصدى لمقاومة أوامر الباب العالي، والقبطان باشا وقوات الألفي المتحدة مع بكوات الصعيد.
ولكن سليمان أغا لم يلبث أن فوجئ بمفاجأة سيئة عند مقابلته للبكوات بالصعيد، فقد استمع إبراهيم بك في هدوء لكل ما عرض عليه، ولكنه لكراهيته للإنجليز والأتراك أو لانعدام ثقته فيهم جميعا اشترط قبل أن يدفع شيئا معرفة آمال الألفي ومدى طموحه وأطماعه من فم الألفي نفسه، وأما البرديسي فكان أكثر صراحة في معارضته لاتفاق يقضي بسيادة الألفي على البكوات وسائر المماليك، فتساءل عما يريده منه الألفي وهو الذي صار سيدا لجميع المماليك وصار «أبوا» المماليك إبراهيم بك الكبير وعثمان حسن وهما موضع احترام عظيم من رعايا الألفي الخاضعين الخاشعين، مثلهم في ذلك مثل البرديسي نفسه، ثم أظهر دهشته من أمر واحد فقط هو أن يعمد الباب العالي إلى إبلاغ البكوات مطالبه منهم على يد آخر عبد من عبيده بدلا من أن يبعث بها إليهم على ضابط من ضباطه، ويقصد البرديسي بذلك أنه كان يجدر بالباب أن يبلغ رغبته في تقرير الوضع الجديد الذي يبتغيه إلى البكوات مباشرة بدلا من الاتفاق على حدة مع الألفي، ويدون الشيخ الجبرتي ما دار من أحاديث بين سليمان أغا وبين البرديسي وإبراهيم بك فيذكر أن البرديسي أجاب سليمان أغا بقوله: حيث إن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات (أي والعظيمة منها)، ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم، ويولي الوزراء ويعزلهم بمراده (إشارة إلى عزل محمد علي وتولية موسى باشا)، ويتعين قبودان باشا في حاجته، فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه؛ لأنه صار الآن هو الكبير ونحن الجميع أتباع له وطوائف خلفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه، فقال سليمان أغا: إن الألفي على كل حال واحد منهم وأخوهم، ثم اختلى مع إبراهيم بك، وتكلم معه فكان جوابه: أنا أرضى بدخولي أي بيت كان، وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أي من كان من عشيرتنا أولى من هذا الشتات الذي نحن فيه، ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف (ويقصد بذلك البرديسي)، وهذا الذي يحصل لنا كله لسوء تدبيره ونحسه، وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا محمد بك أبي الذهب وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم، كل ذلك حذرا وخوفا من وقوع الشر والقتل والعداوة إلى أن مات مراد بك وخلفه هؤلاء الجماعة المجانين، وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي، وداخله الغرور، وركن إلى غير أبناء جنسه (يقصد محمد علي والأرنئود) وصادقهم، واغتر بهم، وقطع رحمه، وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل ، ولا يستمع لنصح ناصح أولا وآخرا.
ولما كان ذلك هو رأي إبراهيم في البرديسي، فقد استطاع سليمان أغا بعد مفاوضة مع البكوات استطالت أياما أن يتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم الألفي بالنصف الآخر، ولكن البكوات رفضوا أن يدفعوا شيئا قبل أن يرجع سليمان أغا إلى الألفي ويطيب خاطره على ذلك؛ لئلا يقبضه ثم يطالبهم بغيره، فعاد أدراجه، وقابل الألفي مرة أخرى، ولكن هذا أصر هو أيضا على عدم دفع شيء حتى يدفع بكوات الصعيد ثلثي المبلغ أو نصفه الذي سمح به - كما قال - والدنا إبراهيم بك، ثم انبرى يدحض حجج البكوات ودعاواهم أنه يريد السيطرة عليهم، ويدلل على تغاضيه هو عن فعالهم معه ومحاولة البرديسي الفتك به عقب عودته من سفارته في لندن، ويبين أن الأولى ببكوات الصعيد الاتحاد معه لاستخلاص البلاد من قبضة محمد علي والأرنئود، فجاء في كلامه: «أما قولهم: إني أكون أميرا عليهم فهذا لا يتصور، ولا يصح أن أتعاظم على مثل والدي إبراهيم بك وعثمان بك حسن ولا على من هو في طبقتي من خشداشين، على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتأمر عليهم واحدا منهم ومن جنسهم، وذلك أمر لا يخطر لي ببال، وأرضى بأدنى من ذلك: ويأخذوا علي عهدا بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر، وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته، ويسمحوا ليس بإقامتي بالجيزة، ولا أعارضهم في شيء، وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقا (ومن المعروف أن الألفي قبل مجيء الحملة الفرنسية كان ملتزما بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوبر وغيرها ومتقلد الكشوفية شرقية بلبيس) فإنه يكفيني.
وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك الوشاش تابعي وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي، فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله، فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي، وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره، ومملوكي مملوكهم، وقد قتل لي عدة أمراء ومماليك في الحروب فأفرضه من جملتهم، ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا وعلي.
إن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم، بل كنا جميعا إخوانا، وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجاء إلى الإنجليز، وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع عليهم (ويشير الألفي هنا إلى مكيدة الصدر الأعظم والقبطان باشا في أكتوبر 1801) ورجعوا إلي ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنجليز فامتثلت ذلك، وتجشمت المشاق، وخاطرت بنفسي، وسافرت إلى بلاد الإنجلترة، وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهرا، كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم، وحصل ما حصل في غيابي، ودخلوا مصر (أي القاهرة) من غير قياس، وبنوا قصورهم على غير أساس، واطمأنوا إلى عدوهم (أي محمد علي)، وتعاونوا معه على هلاك صديقهم، وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم وأخرجهم وأهانهم وشردهم، واحتال عليهم ثانيا يوم قطع الخليج (ويقصد الألفي هنا مكيدة 16 أغسطس 1805) فراجت حيلته عليهم أيضا، وأرسلت إليهم ونصحتهم فاستغشوني وخالفوني، ودخل الكثير منهم البلد، وانحصروا في أزقتها، وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع، ولم ينج منهم إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق، ثم إنه الآن أيضا يراسلهم ويداهنهم ويهاديهم ويصافحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم، وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد.
وطلب الألفي من سليمان أغا أن يعيد الكرة عليهم، وأن يذكرهم بما سبق لهم من الوقائع، فلعلهم - كما قال - ينتبهوا من سكرتهم، ويرسلوا مع سليمان أغا الثلثين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك.» وكان في رأي الألفي أن هذا القدر ليس فيه كبير مشقة؛ فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس وعلى كل كاشف خمسة أكياس، وكل جندي أو مملوك كيسا واحدا اجتمع المبلغ وزيادة، وقال: إنه سوف يفعل ذلك مع قومه، وإنه والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس ، وثمرة المال قضاء مصالح الدنيا، وما نحن فيه الآن من أهم المصالح، وقل لهم مخاطبا سليمان أغا البدار قبل فوات الفرصة، والخصم ليس بغافل ولا مهمل، والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار.
وذلك مقال طيب، يلاحظ فيه قوة السبك وصفاء التفكير، ويدل على ما كان يتمتع به الألفي من دهاء وحنكة في أساليب المراوغة والسياسة، ولكنه كان من المتعذر على بكوات الصعيد لا سيما عثمان البرديسي تصديق دعواه أن الاستئثار بالسلطة أمر لم يخطر له على بال أو تعهده بأن لا يداخلهم في شيء ولا يقارشهم وتنازله عن كل تلك الميزات التي ضمنها له الاتفاق بين كتخداه والديوان العثماني، وكانوا لا يثقون في أية وعود يقطعها على نفسه، وقد ظهر مصداق ذلك كله عندما رجع سليمان أغا إلى البكوات بجواب الألفي.
فقد كان البرديسي في هذه المرة أكثر هدوءا وصبرا مما مضى، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يزال على رأيه السابق، يزيده تمسكا به ما كان قد وصله من رسائل من الوكيل الفرنسي «دروفتي» يؤكد له فيها عدم تخلي فرنسا عن مؤازرته، وكان «دروفتي» قد بدأ يبعث برسائله إلى البرديسي منذ ذيوع خبر عفو الباب العالي عن البكوات وموافقته على إرجاع سيطرتهم القديمة إليهم، ثم مجيء القبطان باشا لتأسيس الوضع الجديد، وكانت قد وصلت البرديسي رسائل جديدة من «دروفتي» قبل رجوع سليمان أغا، فزادته وعود الوكيل الفرنسي تمسكا بموقفه في عناد وصلابة، أضف إلى هذا أن محمد علي الذي ظل يرقب هذه المفاوضات بيقظة وانتباه كبيرين، حرص على بقاء علاقاته مع بكوات الصعيد، يمنيهم بالوعود الكاذبة، ويرسل إليهم الهدايا وخيولا وسروجا وأقمشة، فغرهم الخصم - على حد قول الشيخ الجبرتي - بتمويهاته، واستطاع البرديسي جذب إبراهيم بك إلى رأيه.
وعلى ذلك، فقد كان جواب البرديسي على كلام الألفي أنه لا يثق في وعوده؛ لأنه لا يبغي سوى رعاية صالح نفسه وخدمة مصالح الإنجليز، ويطمع في فرض سلطانه على البكوات، ولن يخضع له هؤلاء بحال من الأحوال، ورفض البرديسي وسائر زملائه دفع شيء من المبلغ، وفي ذلك يقول الشيخ الجبرتي: «إن سليمان أغا عند رجوعه إلى الصعيد وجد الجماعة أصروا على عدو دفع شيء، ورجع إبراهيم أيضا إلى قولهم ورأيهم، وما إن ردد سليمان أغا على أسماعهم كلام الألفي أنه يكون تحت أمرهم ونهيهم، ويرضى بأدنى المعاش معهم، ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال، قالوا: هذا والله كله كلام لا أصل له، ولا ينسى الألفي ثأره وما فعلناه في حقه وحق أتباعه، وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتا من عفاريته، فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشئه خلافهم، وداخلهم الحقد، وزاد في وساوسهم الشيطان، وأمام هذا العناء والإصرار على دفع شيء من المبلغ لا ثلثاه ولا نصفه، وفشل سليمان أغا في مهمته تبعا لذلك، وهو الذي كان قد كفل محمد أغا كتخدا الألفي في القسطنطينية، وأخذ على عاقته مسئولية تحصيل المبلغ، لم يجد مناصا من أن يرمي بآخر سهم في جعبته تفتق عنه ذهنه، فأشار على البكوات أن يقضوا شغلهم في هذا الحين حتى تنجلي عنهم الأعداء الأغراب ثم يقتلوا الألفي بعد ذلك ويستريحوا منه، ولكن حتى هذه النصيحة لم تلق قبولا لدى البكوات الذين قالوا: هيهات! بعد أن يظهر علينا فإنه يقتلنا واحدا بعد واحد، ويخرجنا إلى البلاد، ثم يرسل يقتلنا، وهو بعيد المكر فلا نأمن إليه مطلقا. ولم يفقد سليمان أغا كل أمل في الخروج من هذا المأزق، فجدد مسعاه لدى إبراهيم بك وعثمان بك حسن، وكان بعد لأي وعناء أن ظفر منهما بوعد بدفع نصيبهما من المبلغ، ولكنهما حددا لذلك أجلا بعيدا، واكتفيا بالموافقة على إرسال ستة من بكواتهم من مائتي مملوك لنجدة الألفي، وتيقن سليمان أغا من فشل مهمته ورجوعه بخفي حنين، فغادر البكوات محزونا مهموما متحيرا فيما وقع فيه من الورطة لكسوف البال مع القبودان ووزير الدولة (أي محمد باشا السلحدار الصدر الأعظم) وكيف يكون جوابه للمذكور.
وفي 9 سبتمبر مر سليمان أغا في طريق عودته إلى الإسكندرية من ناحية الجيزة ... وصحبته هدايا من طرف البكوات إلى القبودان وفيها خيول وعبيد وطواشية وسكر، وذاع الخبر في القاهرة أن البكوات لم يجيبوا إلى الحضور لممانعة عثمان بك البرديسي وحقده الكامن للألفي، ولكون هذه الحركة وهي مجيء القبودان وموسى باشا باجتهاده وسفارته وتدبيره، وحنق القبطان باشا على البكوات وعلى سليمان أغا عندما أبلغه هذا الأخير نتيجة مسعاه معهم، وأنهم لا راحة عندهم، وامتنعوا من الدفع ومن الحضور وأن الألفي يقوم بدفع القدر الذي يقدر عليه والذي يبقى ويتجمع عليه يقوم سليمان أغا بدفعه، فكان جواب القبطان على هذا الحل الذي رأى فيه سليمان أغا إبراء لذمته، ووسيلة يتفادى بها نقمة صالح باشا عليه، أنت تضحك على ذقني وذقن وزير الدولة، وقد تحركنا هذه الحركة على ظن أن الجماعة على قلب واحد، وإذا حصل من المالك للبلدة (أي محمد علي) عصيان ومخالفة، ولم يكن فيهم مكافأة لمقاومته ساعدناهم بجيش من النظام الجديد وغيره، وحيث إنهم متنافرون ومتحاسدون ومتباغضون فلا خير فيهم، وصاحبك هذا (أي الألفي) لا يكفي في المقاومة وحده ويحتاج إلى كثير المعاونة وهي لا تكون إلا بكثرة المصاريف، ومن العبث والجنون تأييد قضية قد تخلى عنها أصحابها، ولما كان سليمان أغا قد صار يخشى من أن يفتك به القبطان باشا فقد غادر الإسكندرية، ولجأ إلى الألفي.
بيد أنه في الوقت الذي كان فيه سليمان أغا يجري مفاوضاته الفاشلة مع الألفي والبكوات، كان القبطان بسبيل الاتفاق مع محمد علي وإنهاء النزاع القائم في مصلحة هذا الأخير، والتخلي عن قضية الألفي والبكوات تماما، ومرد ذلك إلى الجهود الموفقة التي بذلها محمد علي في القسطنطينية، ومع القبطان باشا نفسه، ثم تضجر هذا وتململه من مماطلة الألفي وزملائه ونفاد صبره، وحرصه على الانحياز إلى الكفة التي اقتنع بأنها الراجحة، وبخاصة عندما ألقى «دروفتي» في روعه أنه من المتعذر الاعتماد على الألفي في اجتياز هذه الأزمة بسبب ضعف خلقه وعجزه، وعظم تشاؤم القبطان من قضيته.»
فقد تقدم كيف أرسل محمد علي إلى القسطنطينية مبلغ الألفي كيس الذي جمعه من رؤساء الأرنئود مع العريضة التي كتبها المشايخ (11 يوليو 1806) وأرسلت منها صورة إلى الديوان العثماني وأخرى إلى القبطان باشا، وحرص على تكريم مندوبي هذا الأخير كلما حضروا إلى القاهرة، وحملهم بالهدايا الثمينة إليه كلما غادروها، وقد دأب على فعل ذلك دون انقطاع خلال الأزمة حتى كسب الأنصار في القسطنطينية والإسكندرية، واستند إلى جانب ذلك على رغبة الشعب في بقائه في الولاية، وهي الرغبة التي أفصحوا عنها في عرائض مشايخهم ورؤسائهم، ولم تفتر مساعي وكلائه لدى الديوان العثماني لحظة واحدة، فذكر «مسيت» للوزير «وندهام» في 8 سبتمبر أن الباشا أرسل أخيرا مبلغا كبيرا من المال إلى القسطنطينية لكسب أنصار له في الديوان العثماني، ثم عاد يقول في 10 سبتمبر: إنه إذا أحدثت الأموال التي بعث بها محمد علي إلى القسطنطينية تغييرا هناك في صالحه، فإن العرائض التي كتبها المشايخ سوف تتخذ سندا لتبريره، وقد استطرد «مسيت» يقول: وفي الحقيقة ينتظر محمد علي أن يصله قريبا فرمان بتثبيت ولايته، حتى إني طلبت من وكيلي بالقاهرة من أيام قليلة مضت إبلاغي بذلك عند حدوثه.
وكان «مسيت» وقت كتابته رسالته هذه على حق في توقيع مجيء فرمان بتثبيت محمد علي في ولايته؛ ذلك أنه لما كان القبطان باشا قد جعل في الإبرة خيطين - على حد تعبير الشيخ الجبرتي - ليتبع الأروج وعرض الباشا استعداده لشراء موافقة السلطان بدفع إعانات مالية جسيمة والمداومة على إرسال الهدايا إلى القبطان باشا، ورجع سليمان أغا من الصعيد بخفي حنين - كما سبق ذكره - وظهر عجز الألفي في حصار دمنهور، وشاهد النجدات من الجند الذين أغراهم - كما قال «مسيت» - توقع الظفر بأسلاب وغنائم كثيرة تتدفق على مصر في خدمة محمد علي، فإن القبطان باشا لم يلبث أن بعث يطلب تعليمات جديدة من القسطنطينية، وكان معنى ذلك أنه قد تحول نهائيا في صالح محمد علي، ولقد تضافرت عوامل عدة لضمان نجاح مسعى وكلاء الباشا في القسطنطينية إلى جانب سلاح الرشوة، الوسيلة التي عرف محمد علي دائما أنها كفيلة بجذب وزراء الباب العالي وشراء تأييدهم لقضيته، فكان من أهم هذه العوامل تأزم الموقف في القسطنطينية ذاتها خلال شهري أغسطس وسبتمبر 1806 - على نحو ما سبق توضيحه - وذلك عندما تكدرت العلاقات بين تركيا وروسيا، ولم تفلح جهود «أربثنوت» السفير الإنجليزي في إزالة أسباب الجفاء بينهما، وبدأت تتفاقم الأزمة تدريجا حتى إن الصدر الأعظم - كما ذكر «مسيت» في 18 سبتمبر - بعث يدعو القبطان باشا بالعودة إلى العاصمة لضرورة وجوده بها، أضف إلى هذا أن نفوذ فرنسا قد أخذ يعلو وقتئذ في القسطنطينية، منذ أن وصل إليها السفير الفرنسي الجديد «سباستياني» في 10 أغسطس.
وكان واضحا أن ترتيبا أو اتفاقا يضع السلطة الفعلية في يد الألفي صديق الإنجليز وحليفهم إنما يخدم مصالح هؤلاء وحدهم، ويتنافى مع صالح الدولة العثمانية ذاتها في الظروف القائمة، زد على ذلك أن امتناع البكوات عن تنفيذ ما التزموا به في هذا الاتفاق قد أعطى الباب العالي مسوغا لتخليه هو أيضا عن الالتزامات التي ارتبط بها، وحيث إنه قد تبين عجز القبطان باشا عن تنحية محمد علي عن الولاية بالطرق السلمية، وانتفى أي أمل في قيام عمليات عسكرية بالاتحاد بين القبطان والمماليك ضده لتفرق كلمة البكوات وتنافرهم وتحاسدهم وتباغضهم، وصار لذلك لا معدى عن اللجوء إلى القوة وإرسال النجدات الكبيرة إلى القبطان باشا إذا شاء الباب العالي أن يخرج محمد علي والأرنئود من مصر، وهو ما لا يستطيع في ظروفه الراهنة فعله، فقد قر رأي الديوان العثماني لذلك كله على اتباع مألوف عادته والتسليم بالأمر الواقع، وقد وجد الباب العالي في العرائض التي بعث بها المشايخ يبدون فيها تمسكهم بحكومة محمد علي وتفضيلها على حكومة المماليك المزمعة وسيلة يستطيع بها تغطية موقفه وذريعة لرجوعه في قراره السابق وسندا يستند إليه في فسخ اتفاقه مع البكوات المماليك.
وعلى ذلك، فقد أصدر الباب العالي تعليماته إلى القبطان باشا أنه وقد صار الباب الآن أكثر تنورا عن ذي قبل بشأن حقيقة الموقف في مصر، فقد ترك للقبطان مطلق الحرية في تعديل تعليماته الأولى بالصورة التي تكفل في رأيه إنهاء الخلافات التي أنهكت البلاد، واستنفدت قواها، ومعنى هذا أن الباب العالي قد خوله الاتفاق مع محمد علي على أساس تقريره في الولاية، فبدأت من ثم المفاوضات جديا بين محمد علي والقبطان باشا، واشترط الأخير لبقاء محمد علي في الولاية مؤقتا وحتى يأتيه قرار التثبيت من القسطنطينية شروطا ثلاثة: أولها أن يكتب المشايخ عريضة جديدة يؤيدون فيها مطلبهم الذي ذكروه في عريضتيهم السابقتين في 11، 14 يوليو 1806 وهو بقاء محمد علي في الحكم، حتى يبعث بها إلى الديوان العثماني، وكان الغرض من هذا الاشتراط أن يكون قرار تثبيت محمد علي في ولايته منبعثا في ظاهر الأمر عن استجابة السلطان العثماني لرغبات رعاياه فيبدو التسليم حينئذ عملا إراديا هدفه توفير السعادة والرفاهية للشعب بتحقيق مطلبه الذي أفصح عنه أعيانه ومشايخه، وأما ثاني الشروط فهو أن يدفع محمد علي أربعة آلاف كيس نظير تثبيت السلطان له في الولاية، وثالثها أن يبقى ولده إبراهيم رهينة في القسطنطينية حتى يتم دفع المبلغ.
وفي 3 سبتمبر وصل الأفندي المكتوبجي من طرف القبودان إلى بولاق، وفي اليوم التالي اجتمع بالباشا، وحضر الاجتماع أحمد أفندي الدفتردار وسعيد أغا كتخدا البوابين ممثلا الباب العالي في القاهرة، ووافق الباشا على شروط القبطان، وكتب الشيخ الجبرتي تعليقا على الاتفاق الذي تم عندما ذاع خبره في 9 سبتمبر يقول: «وفيه ظهرت فحوى النتيجة القياسية وانعكاس القضية على الألفي والبكوات، وهو أن القبودان ما لم يجد في المصرلية الإسعاف وتحقق ما هم عليه من التنافر والخلاف، وتكررت بينه وبين الفريقين المراسلات والمكاتبات، فعند ذلك استأنف مع محمد علي باشا المصادقة، وعلم أن الأروج له معه الموافقة، فأرسل إليه المكتوبجي، واستوثق منه، والتزم له محمد علي بأضعاف ما وعد به القبطان من الكذابين (أي الألفي والبكوات) معجلا ومؤجلا على ممر السنين، والالتزام بجميع المأموريات والعدول عن المخالفات، فوقع الاتفاق على قدر معلوم، وأرسل القبودان إلى محمد علي باشا يأمره بكتابة عرضحال خلاف الأولين، ويرسله صحبة ولده إلى القسطنطينية على يد القبودان.» ثم استطرد الشيخ يقول: «فعند ذلك لخصوا عرضحال، وختم عليه الأشياخ والاختيارية والوجاقلية، وأرسله صحبة ابنه إبراهيم بك، وأصحب معه هدية حافلة وخيولا وأقمشة هندية وغير ذلك.»
ولقد كان كافيا أن يبدي الباشا رغبته في كتابة هذا العرضحال حتى يستجيب لها المشايخ والاختيارية والوجاقلية، ونقل الشيخ الجبرتي مضمون العرضحال وملخصه على النحو الآتي: «إن محمد علي باشا كافل الإقليم وحافظ ثغوره ومؤمن سبله وقامع المعتدين، وإن الكافة من الخاصة والعامة والرعية راضية بولايته وأحكامه وعدله، والشريعة مقامة في أيامه، ولا يرتضون خلافه لما رأوا فيه من عدم الظلم والرفق بالضعفاء، وأهل القرى والأرياف وعمارها بأهلها ورجوع الشاردين منها في أيام المماليك المصرية المعتدين الذين كانوا يعتدون عليهم ويسلبون أموالهم ومزارعهم ويكلفونهم بأخذ الفرض والكلف الخارجة عن الحد، وأما الآن فجميع أهل القطر المصري آمنون مطمئنون بولاية هذا الوزير، ويرجون من مراحم الدولة العلية أن يبقيه واليا عليهم، ولا يعزله عنهم، لما تحققوه فيه من العدل وإنصاف المظلومين وإيصال الحقوق لأربابها وقمع المفسدين من العربان الذين كانوا يقطعون الطرقات على المسافرين، ويتعدون على أهل القرى، ويأخذون مواشيهم وزرعهم، ويقتلون من يعصي عليهم منهم، وأما الآن فلم يكن شيء من ذلك، وجميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن برا وبحرا بحسن سياسته وعدله، وامتثاله للأحكام الشرعية، ومحبته للعلماء وأهل الفضائل والإذعان لقولهم ونصحهم.»
ويسترعي النظر في هذا المضمون والملخص ورود عبارات معينة كالقول بأن جميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن، أو ذكر محبته للعلماء وأهل الفضائل والإذعان لقولهم ونصحهم، مما قد يوحي بأن القاهريين قد تدخلوا في أزمة النقل إلى سالونيك، على غرار ما فعلوا في أزمة انقلاب مايو 1805 السابقة، أو أن مشايخهم ورؤساءهم كان لهم رأي وقول فيها كما كان الحال عند المناداة بولاية محمد علي، ومما قد يوحي بأن الباشا ملتزم بذلك العهد الذي قطعه على نفسه في العام الماضي من حيث استشارة المشايخ والرؤساء القاهريين، أو أنه صار يذعن حقا لقولهم ونصحهم، فقد دلت الحوادث في الفترة القصيرة التي انقضت من وقت اعتلائه الحكم إلى حين بدء هذه الأزمة وخلالها، على أن المشايخ وعمر مكرم وغيره من سائر المتصدرين كانوا أدوات طيعة في يد محمد علي؛ للأسباب التي سبق ذكرها في موضعها، فكانوا هم الذين أذعنوا دائما لقوله هو ونصحه، ولقد كان كذلك من المغالاة وصف أهل القطر المصري ومن بينهم القاهريون بأنهم آمنوا جميعا بولاية محمد علي، أو القول بأن جميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن، فقد اشترك القاهريون في انقلاب مايو 1805 على أمل أن يتحرروا من المظالم والمغارم والفرض والإتاوات، ورجاء أن ينقطع إيذاء الأجناد لهم، وتقف اعتداءاتهم عليهم، ولكن شيئا من هذين الأمرين لم يحدث، زد على ذلك أن هياج الخواطر في القاهرة كان عظيما أثناء هذه الأزمة بسب اندساس عملاء الألفي والقبطان وجواسيسهما خصوصا بين القاهريين، حتى إن الباشا خشي من وقوع الثورة، فكان هناك معارضون لحكمه، وظل لفيف من القاهريين لا سيما التجار وأهل الحرف الذين شكوا من كساد التجارة وتعذر عليهم التعامل مع البكوات ومماليكهم بسبب الرقابة الصارمة التي فرضها الباشا على هذا النوع من النشاط، ثم أنوا من السلف والإتاوات المحصلة منهم، ظلوا يعطفون على البكوات بالرغم من سوء حكومة هؤلاء لهم، أو يتوقون لعود حكم الفرنسيين، أو يطلبون حكم إحدى الدول الأجنبية الكبيرة الأخرى (إنجلترة) ثم إن ذلك لم يقتصر على القاهريين وحدهم بل شمل غيرهم في رشيد ودسوق وفوة وغيرها.
ولقد نقم كذلك على حكومة محمد علي كثيرون من المشايخ وأهل الفضائل الذين لم يكونوا من بين المتصدرين، وخير من يمثل هؤلاء الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي لم يؤمن مطمئنا بولاية هذا الوزير، وأحزنه أن البكوات الذين اعتبرهم مصريين ومن أهل البلاد وأصحاب حق لذلك في تولي الحكم بدلا من الأرنئود وزعيمهم لم ينتفعوا من التجارب القاسية التي مرت بهم، بل ظلوا سادرين في غيهم وعاجزين عن توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم حتى خسروا الملك، ونقم على زملائه المشايخ المتصدرين (مشايخ الوقت) - كما قال عنهم - الذين سلموا قيادهم لمحمد علي، ولم يصدق شيئا مما وعد به هذا، وقطعه مرات كثيرة على نفسه، من حيث طلب الرأي والمشورة من المشايخ، وحاسب هؤلاء بينه وبين نفسه، كما حاسب محمد علي حسابا عسيرا على فعالهم وتمويهاتهم ولم يسعه وهو يسجل مضمون العرضحال الأخير إلا أن يكتب ونحو ذلك من الكلمات التي عنها يسألون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
على أن الشيخ الجبرتي وغيره من المتذمرين المتضجرين لم يجرءوا على إعلان سخطهم على حكومة محمد علي عندما جذب الباشا إليه المتصدرين من المشايخ ورؤساء الشعب، فبقيت معارضتهم - إذا اعتبر مجرد الشعور بالسخط وعدم إظهاره وإعلانه معارضة - صامتة ومكبوتة، وقد كان عرفان الباشا بوجودها من أسباب إحكام الرقابة على القاهرة وخروجه للطواف في أنحائها متنكرا تارة وتحيط به مظاهر القوة وسط عساكره تارة أخرى طوال أزمة النقل إلى سالونيك.
ومما يؤيد أن الباشا كان يخشى من هذه المعارضة الصامتة والمكبوتة أنه أجاز لبعض الأفراد المتصدرين فحسب الاطلاع على العرضحال الأخير وقراءته عند مطالبتهم بالتوقيع عليه، وسمح لهؤلاء القلائل بأن يوقعوا هم أنفسهم بأسمائهم، وأما سائر المشايخ والأعيان فكان يطلب من كل منهم خاتمه للختم به تحت اسمه الذي سبق تدوينه ودون أن يسمح له بقراءة العرضحال، ولم يجرؤ واحد من هؤلاء على الامتناع، اللهم إلا حفنة قليلة من المتمسكين بالورع والتقوى، وعندئذ يعمد المشرفون على جمع التوقيعات - وهم من المشايخ المتصدرين كذلك - إلى استخدام خاتم من عندهم يختمون به، ويبدو أن الشيخ الجبرتي نفسه كان أحد هؤلاء، وقد سجل الشيخ ما حدث فقال: «ولما كتبوا ذلك (أي العرضحال) لم يطلع عليه إلا بعض الأفراد المتصدرين، ويكتب كاتبه جميع الأسماء تحته بخطه، ولا يملكون البواقي الذين يضعون إمضاءهم وأسماءهم من قراءته، بل يطلب منهم الخاتم فيختمون به تحت اسمه، إذ لا يمكنه الشذوذ والمخالفة لحرصه على دوام ناموسه وقبوله عند سلطانه ودائرة أهل دولته، وإن كان متورعا وليس كبير صورة فيهم ولا صدارة مثلهم وأبى أن يسلم خاتمه ليفعل به كغيره ختموه بخاتم موافق لاسمه تحت إمضائه، وهذا هو السبب في عدم نقلي هذه الصورة، بل فهمت المضمون فقط، وبالله التوفيق.»
وعلى كل حال فقد أدى هذا العرضحال الغاية المقصودة منه، سافر به يوم 19 سبتمبر إبراهيم بن محمد علي إلى الإسكندرية ومعه الهدايا الثمينة من حرائر الهند والخيول المسرجة وما إلى ذلك، وسافر صحبته محمد أغا لاظ، وأوفد القبطان باشا كتخداه إلى القاهرة يحمل قراره وهو كما سجل المعاصرون والشيخ الجبرتي مضمونه بقاء محمد علي باشا واستمراره على ولاية مصر؛ حيث إن الخاصة والعامة راضية بأحكامه وعدله بشهادة العلماء وأشراف الناس، وقبلنا رجاءهم وشهادتهم، وأنه يقوم بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين وإيصال العلائف والغلال لأربابها على النمط القديم، وليس له تعلق بثغر رشيد ولا دمياط ولا الإسكندرية، فإنه يكون إيرادها من الجمارك يضبط إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول، ومن الشروط أيضا أن يرضي خواطر الأمراء المصريين، ويمتنع من محاربتهم، ويعطيهم جهات يعيشون بها. وكان تعليق الشيخ الجبرتي على هذه الشروط أنها من قبيل تحليل البضاعة.
وفي 30 سبتمبر كتب «أربثنوت» إلى حكومته من القسطنطينية أنه قد بلغه في اليوم السابق أن الباب العالي أعاد تعيين محمد علي واليا على مصر ثم علق على ذلك بقوله: إن البكوات يعتبرون لذلك من الآن فصاعدا عصاة وثوارا على الباب العالي، ولا يعتقد أن البكوات سوف يستردون الأموال التي دفعوها من شهور مضت إلى الباب العالي وأنه كان من حسن الحظ أن السفير لم يقم بالوساطة بينه وبين البكوات.
وفي 5 أكتوبر وصل الططر إلى الإسكندرية يحملون قرار الباب العالي بتثبيت محمد علي في الولاية، وبادر «مسيت» بالكتابة في اليوم التالي إلى وكيله في القاهرة عزيز بأن ينتقي هدية من عند الجوهري «كاستللي»
Castelli
بالقاهرة، قيمتها حوالي 2000 قرشا لتقديمها لمحمد علي، ويبلغه تهاني «مسيت» وتمنياته الطيبة له بأن يتمتع بحكم مديد سعيد، وفي 8 أكتوبر أقلع القبطان صالح باشا ومعه على ظهر سفينته إبراهيم بك بن محمد علي من أبي قير إلى القسطنطينية، واستمر كتخداه بمصر متخلفا حتى يستغلق مال المصلحة؛ أي الأربعة آلاف كيس التي تعهد محمد علي بدفعها نظير تثبيته في الولاية، وفي 29 أكتوبر وصل قابجي من القسطنطينية إلى القاهرة، وفي اليوم نفسه قرئت المرسومات التي أحضرها معه، وكانت فرمانين: أحدهما يتضمن تقرير الباشا على ولاية مصر بقبول شفاعة أهل البلدة والمشايخ والأشراف، والثاني يتضمن الأوامر السابقة وبإجراء لوازم الحرمين وطلوع الحج وإرسال غلال الحرمين، والوصية بالرعية، وتشهيل غلال وقدرها ستة آلاف إردب وتسفيرها على طريق الشام معونة للعساكر المتوجهين إلى الحجاز، وفيه الأمر أيضا بعدم التعرض للأمراء المصريين وراحتهم وعدم محاربتهم؛ لأنه تقدم العفو عنهم. وفي اليوم نفسه غادر كتخدا القبطان باشا القاهرة بعد ما استغلق المطلوب، وكان الباشا قد فرض منذ 19 سبتمبر سلفة 6000 كيس برسم مصلحة القبودان، كان نصيب القبطان باشا ألفي كيس منها لتغطية نفقاته الشخصية! وفي 11 نوفمبر بارح الإسكندرية إلى القسطنطينية ومعه مبلغ ضخم من المال على حد قول الوكلاء الفرنسيين.
وهكذا اجتاز محمد علي بنجاح هذه الأزمة التي هددت بزوال باشويته، وتلفت طبخة الألفي والتدابير ولم تسعفه المقادير. (4) خصومة الألفي
بيد أن الترتيب الأخير الذي أقر محمد علي على الولاية، كان يتضمن أمرين يستلفتان النظر: استمرار الإسكندرية منفصلة في شئونها عن باشوية محمد علي، وخضوعها في إدارتها لإشراف الباب العالي رأسا، ثم ضبط إيرادات جمركها وجمركي رشيد ودمياط لحساب القسطنطينية؛ أي بقاء الإشراف على أهم شئون الإدارة بهذين الميناءين الأخيرين كذلك في يد الباب العالي، ومعنى ذلك أن الديوان العثماني يريد الاحتفاظ بالمواقع ولا سيما أن الإسكندرية التي ذكرنا أنها كانت بمثابة الحلقات التي تشد الباشوية المصرية بمقر السلطنة، كما كان معناه أن الباب العالي كان مكرها على التسليم بالأمر الواقع ولا يثق في محمد علي، ومن المتوقع إذا سنحت الفرصة مرة أخرى أن يحاول نقله من ولايته، وأما الأمر الثاني فهو مطالبة محمد علي بعدم التعرض للبكوات المماليك، وعدم محاربتهم والعمل على توفير أسباب الراحة لهم، ومرد ذلك إلى شيئين: أولهما رغبة الباب العالي في وقف المنازعات الداخلية في مصر حتى تتفرغ البلاد لمواجهة خطر الغزو الأجنبي إذا حدث، وذلك في وقت كان يشتد فيه تأزم العلاقات بين تركيا وروسيا، ومن المتوقع إذا أعلنت الحرب بينهما أن تنضم إنجلترة إلى جانب الأخيرة، وهي حليفتها ضد تركيا، وثانيهما أن الباب العالي الذي أكره على التسليم بالأمر الواقع، وكان لا يزال يمني النفس بإخراج محمد علي من الولاية ما كان يريد في ظرفه الراهن أن يقضي على كل أمل لدى البكوات في إمكان استرجاع سيطرتهم المفقودة.
وقد أوضح «مسيت» ما فهمه من التوصية بهم التي وردت في فرمان تثبيت الولاية لمحمد علي بما يؤيد هذا المعنى، فكتب إلى «وندهام» في 7 أكتوبر سنة 1806 أن الططر قد وصلوا يوم 5 أكتوبر يحملون إخطارا رسميا بتثبيت محمد علي باشا في حكومة مصر، ومع ذلك فإن المماليك ليسوا معتبرين عصاة في نظر الديوان العثماني (وفي هذا الرأي يخالف «مسيت» ما ذهب إليه «أربثنوت» السفير الإنجليزي في القسطنطينية)، فقد أعطيت وخصصت لإقامتهم أقاليم معينة في الوجه القبلي، وقد ذكر «مسيت» في رسالة أخرى إلى «أربثنوت» في 13 أكتوبر أن هذه الأقاليم تشمل جزء الصعيد الواقع بين جرجا والشلالات (أي أسوان)، ثم إنه كان في رأي «مسيت» كما ذكره في رسالتيه السالفتي الذكر أن هذه الأقاليم كانت دائما في حوزة البكوات ولم يغزها بتاتا جند محمد علي؛ ولذلك فهو يشك كثيرا في أن يقبل المماليك هذا الترتيب وهم الذين يملكون ملكا لا ينازعهم فيه أحد ليس هذه الأراضي التي يمنحها الباب العالي لهم فحسب، بل وكذلك جهات واسعة من الوجه البحري، ثم إنهم لما كانوا في عداء مستمر مع حكومة محمد علي فقد استطاعوا أن يعيشوا من النهب والسلب، ويحتفظوا بعدد كبير من العربان معهم، ومن المحتمل في هذه الظروف أن أقواما يعيشون لأنفسهم فقط ودون تفكير في المستقبل، لن يستطيعوا قصر آمالهم على إدارة هذه الأملاك المحدودة في هدوء، ويعتقد أن البكوات لن يرضخوا لهذا إلا إذا رأوا أن الخضوع يعطيهم الوقت الذي يمكنهم من تقوية أنفسهم بالدرجة التي تمكنهم من استعادة سيطرتهم السابقة.
وكان «مسيت» محقا فيما ذهب إليه على الأقل فيما يتعلق بالألفي، فمع أنه كان في وسع محمد علي أن يبطل نشاط بكوات الصعيد أثناء أزمته بفضل ما صار يلوح به أمام أعينهم من آمال في صلح قريب يسوي خلافاتهم معه ويأذن لهم بامتلاك ذلك الجزء من الصعيد الذي احتلت جنوده مراكزه الهامة في نواحي منفلوط وملوي والمنيا وغيرها، فقد كان الألفي أقوى شكيمة وأشد مراسا منهم، ولا يزال واقفا على حصار دمنهور ويغير أتباعه وعربانه على سائر جهات البحيرة والمنوفية والجيزة يسلبون وينهبون ويأخذون الكلف من الأهالي قسرا وعنوة.
ولقد كانت خصومة الألفي دون خصومة سائر البكوات أخشى ما يخشاه محمد علي، ولم يكن إبحار القبطان صالح باشا إلى القسطنطينية معناه أن متاعب محمد علي قد انتهت أو أن الخطر الذي يهدد حكومته قد أزل كلية طالما بقيت خصومة الألفي له، وما دام الأخير قادرا على قياس قوته بقوة الباشا وامتشاق الحسام ضده.
وكان مبعث الخطر من استمرار خصومة الألفي أن هذا كان أعظم البكوات إطلاقا نشاطا ومضاء عزيمة وقوة تدبير، وأكثرهم معرفة بمرامي السياسة وإدراك معنى ذلك الصراع الذي قام بين إنجلترة وفرنسا خصوصا للاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، فكان خير من عرف من البكوات كيف يفيد منه لمحاولة الاستعانة بآثاره على تمكين المماليك من إعادة تأسيس سلطانهم في مصر، وقد تضافرت عوامل عدة على أن يكون للألفي هذه القدرة، أهمها ما مر به من تجارب منذ أن جلبه بعض تجار الرقيق إلى مصر في عام 1775، فقد طلب من أول سيد اشتراه أحمد جاويش - كان معروفا بالمجنون أن يبيعه لاستيائه من عيشة المجون والسفه التي كان يعيشها هذا، فباعه لآخر سليم أغا الغزاوي الذي ما لبث أن أهداه إلى مراد بك نظير ألف إردب من الغلال كانت سببا في تسميته بالألفي ثم أعتقه مراد بك وولاه كاشفا بالشرقية، ثم رفع إلى الصنجقية عام 1778 والتزم بإقطاع بلاد كثيرة في الوجهين: البحري والقبلي، وشهد في هذا العهد الفتن التي أثارها التنازع على السلطة بين إسماعيل بك رئيس البكوات وقتئذ وبين إبراهيم ومراد وتآمر هذين على الفتك بالأول، وانسحابهما إلى الصعيد بعد فشلهما، ثم انتصارهما أخيرا عليه واضطرار إسماعيل إلى الخروج إلى الشام، وإقرار مشيخة البلد لإبراهيم بك (ديسمبر 1788) كما شهد غدر مراد بك أستاذه بأحد البكوات من منافسيه (عبد الرحمن بك) وقتله، واشتداد الخصومة بين بكوات الصعيد: حسن بك ورضوان بك من ناحية، وبين إبراهيم ومراد (1780-1783) من ناحية أخرى، وقيام الأزهر بثورة أغلقت بسببها الجوامع وصار المجاورون يخطفون ما يجدونه في الأسواق بسبب قطع رواتبهم يوليو 1784، ثم شهد حضور حسن باشا الجزائرلي في دوننما عثمانية وجيش عثماني لردع البكوات وإلزامهم حدهم بعد أن سلبوا الباشوات الذين ولوا الحكم على مصر كل سلطة، وقد ذهب الألفي وقتئذ مع عشيرته إلى الصعيد مع مراد وإبراهيم (1786) ثم عاد إلى مصر بعد أربع سنوات (1790)، وقد استمر عزل الباشوات وتعيينهم من قبل الباب العالي في السنوات التي تلت حملة القبطان حسن باشا، وبعد محمد باشا يكن الذي انفصل عن الولاية في أبريل 1787 تولى كل من عابدين باشا الشريف، وإسماعيل باشا التونسي، ومحمد عزت باشا وصالح باشا القيصرلي وأبو بكر باشا الطرابلسي (يوليو 1796) واستمر البكوات أصحاب السيطرة في حكومة مصر.
وعندما حضر الفرنسيون إلى مصر اشترك الألفي في واقعة الأهرام أو إمبابة وأبلى وجنده، في تلك الواقعة بلاء حسنا (21 يوليو 1798)، ثم استمر يتنقل بعدها في جهات الوجه البحري والصعيد يعمل مع الفرنسيين مكايد ويصطاد منهم بالمصايد، ولما وصل عرضي الوزير يوسف ضيا إلى ناحية الشام، ذهب إليه وقابله، وأنعم عليه الوزير وأقام بعرضيه أياما، وعاد إلى مصر، وذهب إلى الصعيد، ثم رجع إلى الشام مرة أخرى (1799)، وكان الألفي بمصر وقت نقض اتفاق العريش بين الجنرال كليبر والعثمانيين (1800) فأبدى نشاطا كبيرا في مقاومة الفرنسيين مع حسن بك الجداوي، فلما عقد كليبر معاهدته المعروفة مع مراد بك في 5 أبريل 1800 لم يوافق الألفي على ما فعله أستاذه واعتزله، ولكنه ما لبث بعد فشل ثورة القاهرة الثانية أن صار يسعى للصلح بين الفرنسيين والعثمانيين، حتى إذا تم إبرامه في 21 أبريل 1800 وانسحب الأخيرون إلى نواحي الشام خرج معهم الألفي، ثم رجع إلى الشرقية، واستمر يناوش الفرنسيين وفي كر وفر معهم حتى حضرت الحملة الإنجليزية العثمانية لطرد الفرنسيين، وسلم هؤلاء القاهرة في يونيو والإسكندرية في أغسطس 1801، ودخل العثمانيون القاهرة، ودخلت البلاد من جديد في حظيرة الدولة العثمانية، وأخذ العثمانيون منذ تسلموا زمام الأمور في القاهرة يتوددون إلى البكوات، ويتظاهرون بإعادة السلطة إليهم، ونصبوا إبراهيم بك شيخا للبلد، ولكن الألفي لم تخدعه أساليب الصدر الأعظم يوسف ضيا والقبطان حسين باشا فنصح زملاءه خصوصا إبراهيم والبرديسي وعثمان وحسن بعدم الاغترار بها، وحذرهم من أن العثمانيين لن يتركوا السلطة في أيدي المماليك بعد أن ملكوا البلاد ثانية، ثم عرض عليهم الاحتماء بالإنجليز الذين كانوا لا يزالون معسكرين بالجيزة وتوسيطهم لدى الصدر الأعظم والقبطان باشا للوصول إلى شروط في صالح البكوات بضمانتهم تعيد الأوضاع السابقة، فلا يبقى من العثمانيين سوى متقلدي المناصب القديمة أي الباشا والدفتردار ومن إليهما، ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ورأيه، فصمم الألفي على النجاة بنفسه، واستطاع بحيلته ودهائه أن يظفر من الصدر الأعظم بتقلد إمارة الصعيد نظير تحصيله الأموال والغلال الميرية منها ودفعها لخزانة الدولة، وقصد من فوره إلى الصعيد، وعبثا حاول الصدر الأعظم تدارك خطئه، وأرسل وراءه يطلب عودته، ولكن الألفي كان قد جد في السير، وقطع مسافة بعيدة، فلم يلحق به الرسل، ثم إنه اتخذ أسيوط مقرا له، وأرسل للصدر دفعة من المال وأغناما وعبيدا لمواشيه وغلالا، ثم لم يمض على ذلك ثلاثة شهور حتى أوقع القبطان باشا والصدر الأعظم بالبكوات في مكيدتيهما المعروفتين في أكتوبر 1801، وعاد الألفي بعدئذ من الصعيد، وصار مقره في الجيزة تارة وفي البحيرة تارة أخرى، ثم كانت سفارته إلى لندن وما تلا ذلك من حوادث سبق الكلام عنها، أهمها محاولة البرديسي الفتك به، وطرد حكومة البكوات من القاهرة، ومكيدة 16 أغسطس 1805، ثم مفاوضات القسطنطينية وحضور القبطان باشا في مهمته المعروفة.
واستخلص الألفي من التجارب التي مرت به جملة أمور: منها أنه يصعب اجتماع كلمة البكوات على أمر، وأن كلا منهم يؤثر نفعه الخاص على صالح الطائفة عموما، وأن أحدا منهم في سبيل الفوز بالسلطة لا يحجم عن التآمر على أخيه وخشداشه الذي هو من طبقته أو على أستاذه الذي يدين له بكل ما هو فيه من جاه وسؤدد ويفتك به، وأن العثمانيين أعداء المماليك ولا يمكن الاطمئنان إليهم أو الوثوق بعهودهم، وأن المماليك وحدهم ودون مساعدة دولة أجنبية كبيرة لهم لن يتمكنوا من استرجاع سيطرتهم القديمة، وأن عليه أن يعتمد على نشاطه هو وحده ومعاونة الإنجليز له إذا شاء استخلاص الحكم لنفسه، وأنه لا مندوحة عن بذل قصارى جهده لطرد الأرنئود ومحمد علي من مصر لتحقيق هذه الغاية، وأن القاهريين والمشايخ لم يكونوا جميعا راضين عن حكم محمد علي، وأن هناك طائفة منهم لا يرون بأسا في عودة حكم البكوات إذا ظهر من هؤلاء أنهم يبغون حقا توفير أسباب الحياة الهادئة المطمئنة لهم ورفع المظالم عنهم، وأن حكومة محمد علي كانت تصادف من الصعوبات والمتاعب منذ تأسيسها ما جعلها متأرجحة وغير مستقرة على دعائم ثابتة، وأفاد الألفي فائدة كبيرة من سفارته إلى لندن، وقد تحدث الشيخ الجبرتي عن الآثار التي تركتها هذه الرحلة إلى بلاد الإنجليز في نفسه من حيث توسيع أفق تفكيره فيما يجب أن تكون عليه أساليب الحكم والأغراض المتوخاة منه، وقد دلت محاولات الألفي لاستمالة المشايخ وما جاء في كتبه إليهم أثناء مفاوضاته مع محمد علي، ثم أحاديثه مع سليمان أغا أثناء مسعى هذا الأخير لحمل البكوات على دفع المبلغ المتفق عليه، على إدراكه الصحيح للموقف الداخلي.
وثمة ميزة أخرى جعلته متفوقا على سائر إخوانه هي أن الألفي لم يكن رجل قتال وحرب أو دسائس ومؤامرات فحسب، بل كان إلى جانب ذلك محبا للعلم والعلماء، وله من بين المشايخ أصدقاء كالشيخ الجبرتي والشيخ حسن العطار، وقد سجل الأول أن الألفي خلال السنوات الأربع التي قضاها في الصعيد (1786-1790) بسبب واقعة حسن باشا الجزائرلي ومجيئه لتأديب البكوات «قد ترزن عقله، وانهضمت نفسه، وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم ومنازل القمر وأنوائها، ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه واقتنى كتبا في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره، ثم إنه رغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك، واستمر على ذلك مدة تجاسر عليه خشداشيته فاضطر حينئذ إلى ترك اعتكافه.» وقال عنه في موضع آخر: «إنه كان له ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصا العلوم الغريبة مثل الجغرافيات والجغرافيا والإسطرنوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية وما تدل عليه من الحوادث الكونية، ويعرف أيضا مواضع المنازل وأسماءها وطبائعها والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها، كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس، وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة متضلع، وناقشه مناقشة متطلع.» وله أيضا معرفة بالأشكال الرملية واستخراجات الضمائر بالقواعد الحرفية، وكان له في ذلك إصابات، ومن صفاته أنه إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها فإن رأى فيه فائدة ومزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه، وكان له مع جلسائه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون، وكان فيه تواضع، إذا خرج من داره بخطة الشيخ ضلام أو بناحية قيصون حيث سكن بها بعض الوقت، وقصد إلى أحد القصور التي عمرها خارج القاهرة وهي القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطئ النيل، والقصر الكائن بالقرب من زاوية الدمرداش والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري لا يمر من وسط المدينة وإذا رجع كذلك، فلما سئل عن سبب ذلك قال إنه يستحي أن يمر من وسط الأسواق وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إليه ويفرجهم على نفسه.
ولقد قال الشيخ الجبرتي: «إنه كان أميرا جليلا مهيبا محتشما مدبرا بعيد الفكر في عواقب الأمور صحيح الفراسة، إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه، قوي الشكيمة، صعب المراس، عظيم البأس، ذا غيرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه، يحب علو الهمة في كل شيء، حتى إن التجار الذين يعاملهم في المشتريات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها؛ ولذلك راج حال العاملين له رواجا عظيما، وكان ينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه، ويحب لهم رفعة القدر عن غيرهم، مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخل بالمروءة عنفه وزجره، فترى كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم وصعوبتهم يخافونه خوفا شديدا ويهابون خطابه.» وبالجملة - كما قال الشيخ: «كان الألفي آخر من أدركه من الأمراء المصريين شهامة وصرامة ونظرا في عواقب الأمور، وكان وحيدا في نفسه، فريدا في أبناء جنسه.»
ثم إنه كان للألفي ميزة هامة أخرى هي قدرته على السيطرة على العربان وامتثال جميع قبائل هؤلاء الكائنين بالقطر المصري لأمره، وذلك لمعرفته التامة بطبائعهم وأحوالهم، وتوثيق صلاته بهم عن طريق الزواج من بناتهم، ومع أنه كان يبطش بهم، ويصادر أموالهم، ويسومهم سوء العذاب فقد عرف كيف يمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد ... ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر، واجتمع منهم الألوف في معسكره، ولم يجد مأوى يلجأ إليه حين هروبه من جند البرديسي الذين أرادوا الفتك به عند عودته من سفارته في لندن إلا عند هؤلاء العربان، حتى إن كثيرا من الناس صاروا يقولون: إنه يسحرهم أو معه سر يسخرهم به.
ولكن الألفي لم يستطع الانتفاع بهذه المزايا التي جعلت من خصومته لمحمد علي مصدر خطر كبير على ولايته، ظل ماثلا حتى انطوت صفحة الألفي نفسه ووافاه أجله، وكان مرد ذلك، وبالرغم من الصفات العظيمة التي اتصف بها وذكرها الشيخ الجبرتي إلى ما انطبع في نفسه من خصال الأنانية والأثرة وحب جمع المال، وتفضيل صالحه الشخصي على كل ما عداه، وقد تقدم في مواضع عدة كيف أن جنده ومماليكه وعربانه كانوا يغيرون على القرى والدساكر في الجيزة والبحيرة والمنوفية يسلبون الأهالي ويفتكون بهم ويفضحون نساءهم، ولقد حاول الألفي أن يعتذر عن مسلكهم وعن مسلكه هو في إطلاقهم هكذا يعيثون في البلاد فسادا بحاجته إلى المال والمؤن لسد مطالب جنده وعربانه، ولكن هذه الفعال غيرت عليه أهل القاهرة والريف عموما، وكانت مبعث عناد أهل دمنهور على وجه الخصوص ورفضهم تسليم مدينتهم إليه والإصرار على مقاومته.
وكان إخفاق الألفي أمام دمنهور من أهم العوامل الفاصلة في تحطيم كل آماله وضياع فرصة استرجاع السلطة وتأسيس حكمه نهائيا من يده.
وكان الألفي يعتمد في نجاح عمليات الحصار الذي ضربه على دمنهور على معاونة القبطان باشا له وقيامه ببعض العمليات العسكرية التي تساعده على إخضاع البلدة قبل مجيء الفيضان، ولما كان صالح باشا عند وصوله إلى الإسكندرية متحمسا لتنفيذ الاتفاق الذي يقضي بطرد محمد علي والأرنئود وتولية موسى باشا وتنصيب الألفي شيخا للبلد، فقد شجع هذا الأخير على استمراره على حصار دمنهور، فأرسل في يوليو مدافع وذخائر إلى معسكر الألفي، وسلح السفن الصغيرة في أسطوله ثم نقلها من ميناء الإسكندرية القديمة إلى مينائها الجديدة استعدادا لمهاجمة رشيد، وكان الخطة بعد انتصار الألفي في معركة النجيلة (31 يوليو 1806) أن يستولي هذا سريعا على دمنهور توطئة للزحف على رشيد، وأيد القبطان هذه الخطة عندما فقد كل أمل في إمكانه إخضاع محمد علي بطريق المفاوضة وإقناعه بترك البلاد سلما إذعانا لأوامر الباب العالي، ولكنه بدلا من إنفاذ النجدات القوية إلى الألفي، كان كل ما أحدثه انتصار النجيلة هو إغراء القبطان باشا بإرسال بعض الذخائر إلى معسكر الألفي سرا وبطرق هي أشبه بالتهريب منها بأي شيء آخر، ثم تباطأ من ناحية أخرى في إرسال الحملة المزمعة ضد رشيد، وعبثا صار الألفي الذي توقع أن يطول أمد الحصار المضروب على دمنهور أن يقنعه بضرورة الإسراع في الاستيلاء على رشيد لضمان بقاء المواصلات مفتوحة بينها وبين معسكر الألفي من جهة، ثم بينها وبين الإسكندرية خصوصا من جهة أخرى، لا سيما وأن هذه الأخيرة كانت تعتمد في تموينها على رشيد ذاتها، ولكن القبطان باشا - كما ذكر «مسيت» في رسالته إلى «وندهام» في 14 أغسطس - أصم أذنيه تماما عن سماع كل هذا الذي طلبه منه الألفي، وراح رجاله يقولون: إنه إنما يريد تنفيذ المهمة التي أتى من أجلها، من غير أن تراق قطرة دم واحدة، وكان «مسيت» قد علل قبل ذلك بأسبوعين عندما كتب للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 31 يوليو ما لاحظه من تباطؤ في حركة القبطان بأنه من المحتمل أن يكون قد وصلته فعلا من القسطنطينية تعليمات معينة حتى لا يعجل بعمل اتفاق أو ترتيب مع المماليك، وقد استند فيما ذهب إليه على ما ذكره «أربثنوت» نفسه في رسالته إليه بتاريخ 14 يونيو من أن تعليمات مثل هذه قد صدرت للقبطان باشا، واستمر «مسيت» يلح على صالح باشا في ضرورة المبادرة بالاستيلاء لا على رشيد فحسب، بل وكذلك على دمياط، ثم على دمنهور بالتعاون مع الألفي، ولكن دون طائل.
ومنذ 9 أغسطس كتب «أربثنوت» إلى حكومته معلقا على فشل محاولات «مسيت» هذه: أنه لما كان متعذرا على القبطان باشا حصوله على نجدات من تركيا وتحول صعوبات عديدة دون حصوله على مؤن من مصر ذاتها فالمتوقع أن يرتد عائدا إلى القسطنطينية دون أن يفعل شيئا من أجل تحقيق الغرض من حملته إلى مصر.
على أن صالح باشا كان قد بدأ يفقد تفاؤله منذ أن اتضح له أن لا سبيل بغير القوة لإخراج محمد علي والأرنئود من مصر، وأن الألفي قد استعصى عليه إخضاع دمنهور، وأن مساعي سليمان أغا لدى بكوات الصعيد ولدى الألفي نفسه لدفع المبلغ المطلوب قد اصطدمت بصعوبات عديدة، وأن من الخير له لذلك كله أن يجعل في الإبرة خيطين ليتبع الأروج على حد تعبير الشيخ الجبرتي، فذكر «دروفتي» - في رسالته إلى حكومته في 2 سبتمبر أنه قد أوقف استعداداته ضد رشيد، وصارت جهوده منحصرة في مفاوضات لا قيمة لها، ثم إعطاء الألفي بعض ذخائر الحرب وتشجيعه على أخذ دمنهور بإخضاعها حتى يتسنى وصول الماء إلى صهاريج الإسكندرية، ويمتنع بذلك تذمر أهلها، ولكن هذه الذخائر التي أرسلها القبطان باشا لم تكن كافية، وظل الألفي في حاجة إلى نجدات أكثر نفعا إذا شاء التغلب على مقاومة أهل دمنهور له، فكان من رأي «مسيت» منذ 14 أغسطس أنه قد يضطر إلى الانسحاب ورفع الحصار عن هذه المدينة بالرغم من أنها مسورة بسور من الطوب؛ وذلك بسبب استطاعتها رد الهجوم المتكرر عليها ودفعه عنها، ومع ذلك، فإن القبطان ما لبث أن أوقف أيضا إرسال الذخائر إلى الألفي لما وجد أن مساعي سليما أغا لم تسفر عن نتيجة، ثم إنه صار إلى جانب ذلك يلح على الألفي أن يدفع هو المبلغ المطلوب، حتى إن الألفي كتب في 15 سبتمبر يشكو إلى «مسيت» من مسلك القبطان باشا الذي امتنع وقتئذ عن إمداده بذخائر الحرب والمدافع على غرار ما كان يفعل في الماضي، وذلك بالرغم من إلحاف الألفي في رجائه، وصار يطلب منه زيادة على ذلك إرسال مبلغ من المال يعجز الألفي عن دفعه بسبب ظروفه الحرجة الراهنة، ويرجو لذلك من «مسيت» أن يبلغ السفير الإنجليزي بالقسطنطينية هذا الأمر حتى يرى رأيه فيه.
وقد بعث «مسيت» بهذه الرسالة إلى السفير في 18 سبتمبر وقال: إن رفع الحصار عن دمنهور لا يجب أن يكون مبعث دهشة؛ لأن القبطان باشا رفض إمداد الألفي بالذخائر، ومرد مسلك القبطان هذا إلى الهدايا الثمينة التي نالها من محمد علي، فقد حضر إلى الإسكندرية أحد ضباطه يحمل هذه الهدايا له، وكان من أثر جشع القبطان الذي جعله مجردا من كل خجل أو حياء أنه صار يطلب مالا من الألفي وأهل دمنهور على السواء وعلى يد الرسول نفسه وفي اللحظة التي يبيع فيها علنا حياده لمحمد علي، ثم استطرد «مسيت» يذكر وقوع معركتين إحداهما في الصعيد والأخرى في الوجه البحري انهزم فيهما الأرنئود على يد المماليك، ولكنه كان من رأيه أنه ما دامت النجدات تأتي محمد علي، وما دام البكوات يجهلون فنون الحصار وليس لديهم الوسيلة التي تمكنهم من الاستمرار فيه، فإن شجاعة المماليك لا نفع منها ولا طائل تحتها .
وما إن ذاع خبر القبطان باشا مع محمد علي ووصول إبراهيم بك إلى الإسكندرية يحمل الهدايا للقبطان، وتأكد لدى الألفي انحياز هذا الأخير إلى جانب خصمه نهائيا، حتى صار هذا يبغي الدخول في مفاوضة جديدة مع الصدر الأعظم والاتصال لهذا الغرض بأحد رجال الصدر الموجودين بالإسكندرية.
ويقول «مسيت» - في رسالته إلى «أربثنوت» في 25 سبتمبر - إن الألفي يريد أن يعرض على الديوان العثماني ألفي كيس يدفع نصفها عند خروج محمد علي من مصر وما يتبع ذلك من تأسيس حكومة البكوات، والنصف الثاني عندما يتم فعلا هذا الأمر الأخير، ويريد من السفير الإنجليزي أن يضمنه في هذا المبلغ لدى الباب العالي، ولكن «مسيت» الذي رأى أن الفرصة قد أفلتت من يد الألفي سرعان ما أوضح له أنه من المتعذر على السفير أن يشترك في أية مفاوضات قد تقوم بين الباب العالي والمماليك، كما كتب لأربثنوت يقول إنه يميل للاعتقاد بأن محمد علي قد نجح بفضل هداياه التي لا ينقطع عن إرسالها للقبطان باشا وللوزراء العثمانيين في استمالة هؤلاء إليه بحيث قد صار مقضيا بالفشل على جهود الألفي في هذا السبيل.
وحاول الألفي في الوقت نفسه أن يدخل في مفاوضات أخرى مع محمد علي، من أجل الصلح والاتفاق معه، وأوقف القبطان باشا بطريق غير مباشرة على رغبته هذه، كما أبلغ «مسيت» أنه يميل لعمل اتفاق مع محمد علي يقوم على أسس مشرفة، وبضمانة «مسيت» نفسه قبل أن يرضى بها، وكان من الواضح أن تأكد الألفي من استحالة الاعتماد على القبطان باشا في تأسيس مشيخته بعد اتفاقه مع محمد علي وتعذر امتلاك القاهرة تبعا لذلك ثم بسبب استطالة الحرب التي أنهكت قواه والتي هددت بحرمانه شيئا فشيئا من مماليكه، وبسبب حاجته الملحة إلى الأسلحة والذخائر وعتاد الحرب وأدواتها عموما، قد جعله يبغي الظفر باتفاق مع محمد علي يعطيه فسحة من الوقت لتجديد قواه من جهة، ويتيح له الفرصة لرفع الحصار عن دمنهور والانسحاب عنها بكرامة.
وأدرك «مسيت» أن الألفي لهذه الأسباب جميعها سوف يقبل بسهولة أية شروط يعرضها محمد علي ويرضى بأي إقليم قد يقطعه إياه للعيش فيه في سلام، على الأقل حتى يسترد قوته إذا رفض «مسيت» التوسط في هذه المفاوضة وإعطائه الضمانة المطلوبة، ولقد كان أخشى ما يخشاه «مسيت» أن يفلح الألفي في مفاوضته مع محمد علي ويحصل منه على اتفاق ينجم عنه خمود حركة الألفي وابتعاده عن ميدان العمليات العسكرية المقبلة عندما كان «مسيت» يتوقع انفصام العلاقات بين تركيا وإنجلترة واضطرار الإنجليز في آخر الأمر إلى إرسال حملة لاحتلال الإسكندرية على نحو ما ظل «مسيت» نفسه يكرر المطالبة به من مدة طويلة، فلا يجد الإنجليز عند حضورهم جيش الألفي وفرسانه لتعزيز نشاطهم العسكري، وعلى ذلك فإن «مسيت» لم يكتف بإظهار استعداده لضمان أي اتفاق يحصل بين الألفي ومحمد علي، بل عرض على الألفي أن يأخذ هو على عاتقه مسألة هذه المفاوضات المزمعة برمتها على أساس أنه إذا تقدم الألفي بمقترحات معينة من أجل الوصول إلى تسوية مع محمد علي، فمن المحتمل أن يرى الأخير في ذلك دليلا على أن الألفي أصبح ضعيفا، وبدلا من الصلح معه يقوى عزمه عندئذ على متابعة النضال معه بنشاط أكبر وأعظم، وقبل الألفي وساطة «مسيت».
وقد أوضح «مسيت» الأسباب التي حدت به إلى الهيمنة على هذه المفاوضة وتوجيهها إلى الغاية التي يريدها هو منها أي إحباطها، في رسالة له إلى «أربثنوت» من الإسكندرية في 29 سبتمبر 1806 قال فيها: وأما الأغراض التي توخيتها من هذه الوساطة فهي منوعة أرجو أن تحظى منك بالقبول، أولها - أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار الأخبار التي بعثت بها إلي عن الخلافات القائمة بين بريطانيا وروسيا من جانب، والباب العالي من جانب آخر، وأنه لا معدى عن وصول هذه الخلافات إلى مرحلة فاصلة تحسمها، فقد صار من الحكمة كما هو في رأيي أن أحول دون عقد أية معاهدة بين محمد علي والألفي، وأن أبذل كل ما وسعني من جهد وحيلة لاحتجاز جيش الألفي في الوجه البحري حتى تهدأ كل المخاوف من وقوع انفصام العلاقات بين الدول المذكورة؛ وذلك لأنه في حالة إذا ما رغبت الحكومة الإنجليزية في احتلال هذه البلاد، صار في وسعها أن تجد فرسان الألفي على قدم الاستعداد أو لاستقبال جيشها وأمكنها أن تنتفع نفعا كبيرا بهم ، وثانيا - أن هذه المفاوضة من شأنها تزويدنا بالوسيلة الفعالة التي بها يتعطل ذلك النفوذ العظيم الذي حازه أخيرا الوكيل الفرنسي «دروفتي» لدى محمد علي بفضل ما أظهره من ضروب التأييد له عندما حضر القبطان باشا إلى الإسكندرية يحمل أمر الباب العالي بعزل محمد علي، فإذا تسنى لي أن أكون أداة سلام بين الألفي ومحمد علي فاعتقادي أني سوف أحظى بشكر هذا الأخير وممنونيته؛ لأني أعرف أنه يريد حقا السلام، وفضلا عن ذلك فإن هذه الوساطة سوف تكون بمثابة ضابط لسلوك محمد علي يمنعه من إظهار ميله للفرنسيين أو انحيازه العظيم لهم؛ لأن خوفه الطبيعي - وهو خوف قائم اليوم - من أن أحرض البكوات على الثورة عليه وأثير بسبب ذلك في وجهه متاعب ومصاعب مشابهة لتلك التي سوف تكون مهمتي الآن إقناعه بأنه لا يستطيع الخلاص منها إلا بمساعدتي سوف يجعل ممكنا الضغط عليه وصرفه عن انحيازه الظاهر للفرنسيين، وثالثا - فهناك إلى جانب المزايا السابقة، ذلك النفع الذي سوف يعود على سمعة بريطانيا وزيادة تعلق الناس بها بسبب الدور الذي أقوم به من أجل إعادة الهدوء والسكينة إلى هذه المقاطعة المنكوبة، وسوف تجني الحكومة الإنجليزية في المستقبل فوائد عديدة من حيث تأييد آرائها ووجهات نظرها الخاصة بمصر، ورابعا - أما فيما يتعلق بالضمان الذي يريد الألفي أن آخذه على عاتقي، فإن ما هو معروف عن خلقه وخلق إخوانه يجعل من الحكمة عدم قبوله وبالرغم مما يظهره في رغبة ملحة في أن أفعل ذلك، فإني متأكد من أنه لن يصر على هذا الضمان عند إتمام معاهدته نهائيا مع محمد علي، وقد اختتم «مسيت» رسالته هذه بقوله: وعلى كل حال فحيث إني أقوم بدور الوسيط بين الطرفين ففي وسعي تعطيل أو وقف المفاوضة حتى تصلني تعليماتك.
وبدأ «مسيت» سعيه من فوره، وكلف يوسف عزيز ترجمانه بالقاهرة مقابلة محمد علي ومفاتحته في شأن الصلح مع الألفي، وبعث عزيز إلى «مسيت» في أول وثاني أكتوبر يقول: إن الباشا ممتن من مسعى «مسيت» في الصلح، وإنه حتى يبرهن على ما يكنه له من ود ومحبة قد اعتزم عند عقد السلام تسريح قسم من الجند، الأمر الذي سوف يساعد على استتباب الهدوء والسلام في القاهرة. ولكنه بالرغم من هذا الامتنان لم تلبث هذه المفاوضات أن اصطدمت بعقبة كأداء كانت خير ما يبغيه «مسيت» نفسه لإطالة أمد المفاوضة؛ ذلك أن الباشا رفض أن يعقد صلحا منفردا مع الألفي، واشترط أن تكون المفاوضة مع الألفي وسائر البكوات مجتمعين؛ أي مع الألفي وبكوات الصعيد البرديسي وإبراهيم وعثمان وحسن خصوصا؛ وعلى ذلك، فقد بعث «مسيت» بتعليماته إلى عزيز في 6 أكتوبر، أنه لما كان متعذرا بسبب الانقسام السائد بين البكوات إقناعهم بعمل صلح عام مع محمد علي، ففي وسع الباشا أن يعقد صلحا مع جماعة منهم في مبدأ الأمر، وسوف تجد الجماعة الأخرى نفسها مرغمة على النضال منفردة مع جنده، ولا تجد مناصا حينئذ من الصلح معه، وعلاوة على ذلك فإن بكوات الصعيد قد بعثوا منذ ستة شهور بأحمد كاشف مندوبا عنهم إلى فرنسا لطلب النجدة من بونابرت، ويؤكد «مسيت» أن نابليون سوف يبذل وعودا كثيرة للبكوات، ولو أنه يعرف تماما أنه يتعذر عليه تنفيذها بسبب وجود الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض وسيطرته فيه، وطلب «مسيت» من ترجمانه أن يبلغ محمد علي أن اثنين من التراجمة الفرنسيين الموفدين إلى القنصلية الفرنسية العامة في مصر قد صدرت لهما أوامر بالذهاب إلى معسكر الألفي أينما يكون، وأما هذان الترجمانان اللذان أشار إليهما «مسيت» في تعليماته هذه فكانا المترجم الأول «فاس»
Vasse
والمترجم الثاني «أسكلان»
Assclin ، وقد أبلغ «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في 15 نوفمبر عن وصولهما إلى الإسكندرية، وأمر «مسيت» عزيز أن يقول للباشا: إنه سوف يبذل قصارى جهده لحمل الألفي على الانضمام إلى البكوات الآخرين لعمل الصلح معه، ولكنه إذا أخفق في مسعاه فإن مبعث ذلك سوف يكون استحالة تنفيذ هذه الرغبة، وعندئذ لن يستطيع الباشا أن يتهم «مسيت» بالإهمال والتقصير، وهو أي «مسيت» عن نفسه وبوصفه ممثلا لحكومة إنجلترة في مصر إنما يريد أن يسود الهدوء بها.
ولكنه ما إن أتم «مسيت» كتابة تعليماته هذه حتى بلغه نبأ وصول الططر من القسطنطينية يحملون البشارة والتهاني لمحمد علي لتثبيته في الولاية، كما بلغه أن الباب العالي قد أعطى للبكوات بعض الأقاليم لإقامتهم من جرجا إلى الشلالات؛ وعلى ذلك، فقد أضاف «مسيت» في ذيل تعليماته السابقة ملاحظة فحواها أنه لم تعد هناك بسبب هذا الترتيب الأخير ضرورة - كما قال - لأن يبذل الآن أي مسعى من أجل عقد السلام بين البكوات ومحمد علي، ولو أن الأخير في وسعه الاعتماد عليه بأنه لا يدع فرصة تمر دون النصح للألفي بالرضا بما يعطيه له السلطان العثماني، وفي 7 أكتوبر كتب «مسيت» إلى «وندهام» يبلغه أن الباب العالي حسب ما وصل إليه قد أعطى البكوات أقاليم معينة في الصعيد، وأن هذا الترتيب من شأنه أن ينهي مفاوضته لعقد السلام بين الألفي ومحمد علي، ولكنه يشعر بسعادة كبيرة؛ إذ يبلغه أن محمد علي لم يرحب بواسطته فحسب، بل وطلب إليه كذلك أن يبذل جهده لإقناع البكوات الآخرين بأن يحذوا هم أيضا حذو زميلهم وأن يعقدوا بالاشتراك معه تسوية وسلاما عاما مع الباشا، وكانت الأقاليم التي أعطاها الباب العالي للبكوات تمتد من جرجا إلى أسوان الشلالات - كما سبق ذكره، وكما عاد فذكره «مسيت» في رسالة أخرى إلى «وندهام» في 13 أكتوبر، وقد ذكر «مسيت» في رسالته هذه أنه يشك كثيرا في أن يقبل البكوات هذه التسوية التي تضع حدا لمفاوضاته بينهم وبين الألفي، ولكن «مسيت» وقد قبل محمد علي وساطته لم ير بدا من استئناف مفاوضته، وكان من رأيته الذي نصح به الألفي في 21 أكتوبر أن يقبل هو وسائر البكوات هذه الشروط أو ما أعطاهم إياه الباب العالي ولكن دون طائل، فأبلغ «مسيت» السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 26 أكتوبر أن بكوات الصعيد قد رفضوا الأقاليم التي عرضها عليهم الباب العالي في الصعيد وأنهم يعتزمون الإغارة على البلاد وتخريبها - على حد قولهم - بمجرد أن تنحسر مياه الفيضان ويتسنى لهم استئناف عملياتهم العسكرية ضد جند الباشا، ولما كان محمد علي يدرك تماما خطورة النتائج المترتبة على رفض البكوات لمقترحات الحكومة العثمانية، فهو يريد بإلحاح عقد معاهدة معهم، ولكنه يبغي أن ينضم إلى هذه المعاهدة كل فرد من البكوات؛ لأنه يخشى إذا هو عقد صلحا منفصلا مع الألفي وحده أن ينحاز جنده إلى بكوات الصعيد لتوقعهم استغناء الباشا عندئذ عن خدماتهم، فيحاربون ضده، غير أن انقسامات البكوات تجعل متعذرا تنفيذ خطط محمد علي ورغباته من أجل عمل صلح وتسوية عامة، فمع أنه يريد إعطاء البكوات أرضا أوسع من تلك التي أعطاها لهم الباب العالي فإنه لا يجد من الحكمة السماح لهم بامتلاك الوجه البحري، زد على ذلك أن الألفي والبرديسي لن يوافقا على احتلال إقليم أو جهة واحدة بالاشتراك فيما بينهما؛ لأن كبرياءهما وتحاسدهما وخوفهما من بعضهما بعضا كل ذلك يقتضي كلا منهما أن يقيم في مديرية بعيدة عن مديرية الآخر ينفرد فيها بالسلطة الكاملة مستقلا عن زميله، ثم استطرد «مسيت» يقول إنه يعرف أن الألفي يعتبر الفيوم ملكا له ويريد امتلاك بني سويف والجيزة علاوة على ذلك مما لا ينتظر أني يرضى به محمد علي وهو الذي لا يمكن أن يوافق على وجود أي مملوك من المماليك على أبواب عاصمته.
وواصل «مسيت» وساطته بين محمد علي والألفي، فكتب إلى الأخير في 30 أكتوبر أن الباشا قد فوضه إبلاغه رغبته في عقد معاهدة سلام معه أي الألفي ويريد معرفة الشروط التي يتم عليها الصلح، كما أنه ينبغي عقد معاهدة مع البكوات بأجمعهم، وقال «مسيت» إنه ذكر لمحمد علي أن في استطاعته (أي محمد علي) أن يعقد أولا الصلح مع الألفي، على أن يستخدم هذا نفوذه من أجل إبرام المعاهدة المنشودة بين محمد علي وسائر البكوات، ثم إنه ما لبث أن كتب في 2 نوفمبر إلى يوسف عزيز أنه استطاع بعد لأي وعناء أن يحمل الألفي على بيان الشروط أو الثمن الذي يرضاه لعقد السلام بينه وبين محمد علي، ولكنه يرى مطالبه غير معقولة لدرجة أن صار يخشى من عدم جدوى الاستمرار في مساعيه؛ لأن الألفي يقول: إن هناك طريقين للوصول إلى الصلح، فإما أن يقبل الباشا دخول الألفي إلى القاهرة وعندئذ لا يطلب هذا الأخير لعيشه هو وأهله سوى قراه التي يمتلكها، وإما أن يرفض الباشا دخوله القاهرة وفي هذه الحالة يطلب الألفي مديرية البحيرة، وجزيرة السبكية ورشيد، وأن يسمح له بهذه السنة فقط بتحصيل إتاوات معتدلة من الشرقية والمنوفية، وهو إنما يتقدم بهذا المطلب الأخير مرغما لحاجته إلى المال الذي يدفع منه مرتبات رجاله وجنده المستحقة عليه عن جملة شهور، وفضلا عن ذلك، فإن الألفي يتعهد بملاحظة ارتباطاته مع محمد علي بإخلاص، ويقترح إرسال مندوب من قبل محمد علي وآخر من قبله هو إلى القسطنطينية بمجرد عقد الصلح لإبلاغ الباب العالي بهذا الترتيب الجديد، كما أنه يتعهد إلى جانب هذا ببذل قصارى جهده لإقناع سائر البكوات في الصعيد بعقد الصلح مع محمد علي باشا، وأن يستخدم كل ما لديه من نفوذ وسمعة عند الباب العالي حتى يمكن محمد علي من الاحتفاظ دائما بولايته في مصر، وقال «مسيت»: إن هذه كانت المقترحات التي خوله الألفي تقديمها باسمه إلى الباشا، ثم استطرد يقول: وقد أبديت ملاحظتي لترجمان الألفي على هذه الشروط بأنها صعبة، ويخشى أن لا يقبلها محمد علي، ومع ذلك فمن المحتمل إقناع الألفي بتخفيف هذه المطالب شيئا إذا وجد عزيز أن الباشا مصمم على قراره، ثم اختتم رسالته بقوله إنه يجب عليه إبلاغ محمد علي باشا بأن الألفي يبغي الذهاب إلى الشرقية بعد عيد الفطر أوائل يناير 1807 إذا لم يعقد الصلح مع محمد علي قبل هذا التاريخ.
بيد أنه وقت كتابة هذه التعليمات 2 نوفمبر 1806 كانت أزمة النقل إلى سالونيك قد انتهت بسلام، وكان الباشا منذ أن اطمأن خاطره من قضية القبودان والعزل قد شرع منذ أواخر سبتمبر في تجهيز الجند واتخاذ العدة لإرسالهم إلى الدلتا ضد الألفي، وإلى الصعيد ضد البكوات الآخرين، وكان هؤلاء منذ أن رفضوا عروض سليمان أغا عليهم، وامتنعوا عن دفع شيء من المبلغ المطلوب، ثم رفضوا عروض الباب العالي الأخيرة وهي إقطاعهم الأقاليم الممتدة من جرجا إلى الشلالات قد انسحبوا من مراكزهم الأولى فأخلوا في سبتمبر منفلوط وملوي، وتحصنوا في أسيوط وجزيرة منقباط، وكان في عزمهم أن ينتظروا ريثما ينتهي فصل الفيضان ثم يستأنفوا عملياتهم العسكرية ضد جند الباشا، فانتهز هؤلاء الفرصة واحتلوا الأماكن التي أخليت، وعندئذ رفض محمد علي باحتقار عروض الألفي، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في 17 نوفمبر أنه وصله في صبيحة هذا اليوم فقط جواب الباشا على مطالب الألفي الغير معقولة، وقد جاء فيه أن الباشا يرى منها ما يدل على أن الألفي إنما يبغي مواصلة الحرب، وكان من رأي «مسيت» أن الألفي عندما يبلغه هذا الرفض سوف يجد نفسه ملزما على إنقاص مطالبه التي اشتط فيها كثيرا، وكان الذي جعل «مسيت» يتوقع حدوث ذلك أن الألفي كان قد صار عاجزا تماما عن إخضاع دمنهور ومن المنتظر لذلك أن يرفع عنها الحصار قبل مضي وقت طويل.
على أن سفر القبطان باشا في 18 أكتوبر، ثم فشل المفاوضة التي دارت أخيرا على يد «مسيت» أو بواسطته مع محمد علي، لم ييئسا الألفي الذي نقل كل قواته حول دمنهور ثم شرع يضيق عليها الحصار بقسوة بالغة، حتى إن الوكلاء الفرنسيين صاروا يتوقعون - كما ذكروا في 12 نوفمبر - أن المدينة سوف تسقط لا محالة هذه المرة إذا لم يرسل الباشا النجدات إليها بكل سرعة، وانفتح باب أمل جديد أمام الألفي عندما بدأ معه «روشتي» بوصفه ممثلا لروسيا ووكيلا لها في مصر مفاوضات من أجل توسيط روسيا في إنهاء النزاع بين البكوات والباب العالي، واستئناف المساعي من أجل عقد اتفاق جديد بين الألفي والديوان العثماني.
وكان «بتروتشي» أو «بطروشي» الوكيل الإنجليزي برشيد أول من كشف حقيقة هذه المساعي وبواعثها بفضل المعلومات التي أرسلها له من معسكر الألفي كاتبه «أندريا»
Andrea
وكان مقيما بالمعسكر في خدمة الألفي، فنقل «البطروشي» خبر هذه المساعي إلى «مسيت» بمجرد أن علم بها، ثم عاد فذكر له ما وقف عليه من تفاصيلها في كتاب بعث به إليه من رشيد في 23 نوفمبر 1806، وتفصيل المسألة أن «روشتي» قنصل النمسا والروسيا العام في مصر أوفد كاتبه أو كاتم أسراره سكرتيره الخاص السيد «رفائيل»
Raffaelli
بطريق طرانة لمقابلة الألفي في معسكره مزودا بتعليمات لدعوة البكوات إلى تقديم طلب إلى الروس يرجون فيه وساطتهم بينهم وبين الباب العالي؛ كي يظفروا منه بما لم يتمكنوا من الحصول عليه عن طريق وساطة الإنجليز، وحتى يؤكد لهم أنهم لو كانوا قد خاطبوا روسيا في ذلك من مبدأ الأمر بدلا من اللجوء إلى بريطانيا العظمى لكانوا اليوم بلا شك ولا ريب يملكون مصر ولا ينازعهم فيها منازع، وقد لقيت هذه المقترحات ترحيبا كبيرا لدى بكوات الألفي وأحيت آمالهم وأغرتهم على طلب المساعدة من روسيا، وقد استقى «أندريا» هذه المعلومات التي بعث بها إلى «البطروشي» من شاهين بك نفسه، وكان من رأيه أن ما حدث وهو حقيقة واقعة يحمل الإنسان على الظن بأن نفوذ روسيا في القسطنطينية متفوق على نفوذ إنجلترة، ولو أن «البطروشي» كان يعزو ما حدث إلى نشاط «روشتي» الخاص، عندما كان مقصد الأخير الفوز بسمعة طيبة لدى البكوات في معسكر الألفي وخدمة مصالحه، وجعله ذلك يؤيد هذه الفكرة الخاطئة القائلة بتفوق النفوذ الروسي على النفوذ الإنجليزي في القسطنطينية، وكان بناء على هذه المقترحات إذن من جانب «روشتي» أن وقع اختيار شاهين بك الألفي على جوقة داره أو تابعه محمد أغا للذهاب مع «رفائيل» إلى القسطنطينية لطلب وساطة روسيا، ثم في الوقت نفسه لشراء مماليك جدد من العاصمة العثمانية، ووصل هذان إلى رشيد في 22 نوفمبر في طريقهما إلى الإسكندرية، وبادر «مسيت» بإرسال كتاب «البطروشي» إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 25 نوفمبر، واهتم بإظهار البواعث التي حملت «روشتي» على القيام بهذه الخطوة، فقال: إن «روشتي» الذي هو القنصل العام لروسيا والنمسا قد التزم من حكومة الباشا باحتكار جملة فروع من مصادر الإيرادات العامة، كما أن له نشاطا كبيرا في تجارة مصر الداخلية، ويجعله هذا الوضع في حاجة ملحة إلى سؤال الباشا وكبار رجال الحكومة خدمات كثيرة، الأمر الذي يعجزه عن معارضة إرادة هؤلاء ورغباتهم، حتى إنه كلما طلبت الحكومة قروضا من الرعايا أو المستأمنين (المحميين) النمساويين والروس، أو فرضت إتاوات عليهم، صار «روشتي» أول من يذعن لإجابة مطالبها، ويحذو حذوه في ذلك لأسباب سياسية الوكيل الفرنسي، كما يفعل ذلك اضطرارا وكلاء الدول الصغيرة لعدم جدوى معارضتهم، وما من مرة نال فيها «روشتي» تصحيحا لما وقع من افتئات على الامتيازات التي من حقه التمتع بها، إلا وكان ذلك بمثابة مكرمة يبتاعها ابتياعا من رجال الباشا، وبينما يخضع خضوعا تاما لإرادة محمد علي فهو لا ينقطع من ناحية أخرى عن التآمر مع المماليك الذين يعطيهم الأسلحة والملابس، ثم قال «مسيت»: إن ما جاء في خطاب «البطروشي» من شأنه توضيح حقيقة ذلك كله ومبعث نشاط «روشتي» الأخير؛ لأنه أي «مسيت» لا يعتقد أن لديه أية تعليمات من روسيا للعمل على إنقاص نفوذ الإنجليز في القسطنطينية أو القيام بنشاط مضاد لمصالحهم.
وكان بعد يوم واحد من كتابة ما سبق إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية أن بعث «مسيت» إليه - في 26 نوفمبر - يقول: إن ترجمان الألفي «ستافراكي» قد وصل إلى الإسكندرية في صباح اليوم نفسه من معسكر الألفي، وإنه (أي الترجمان) يؤيد ما ذهب إليه «البطروشي» فيما يتعلق بمهمة جوقه دار شاهين بك، ولكنه يؤكد أن الألفي نفسه لا علم له بنشاط شاهين بك هذا، وقد علق «مسيت» على ذلك بقوله: ولكنه لما كان هذا الترجمان مالطيا، ويخدم مصالحنا بإخلاص، فمن غير المحتمل أن يطلعه سيده أي الألفي على حقيقة شعوره ونواياه في هذه المسألة؛ أي مسألة الاستعانة بوساطة روسيا لدى الباب العالي، كما أن «مسيت» استطرد يقول: وعلاوة على ذلك فإن الألفي الذي كان من بضعة أسابيع مضت قد أعلن عزمه على الصلح مع محمد علي، قد صار الآن مصمما على متابعة الحرب ويرفض أي صلح أو تسوية معه، ثم تساءل وألا يكون مبعث ما طرأ من تبدل على قراراته ما يعقده من آمال على المساعدة الروسية المنتظرة؟ وأما محمد أغا و«رفائيل» فقد بلغا الإسكندرية في 25 نوفمبر، واستطاع الوكيل الفرنسي «دروفتي» أن يقف على حقيقة المهمة الذاهبان من أجلها إلى القسطنطينية، فقال في رسالته إلى «سباستياني» السفير الفرنسي بالقسطنطينية في 26 نوفمبر إنه كان قد نما إليه من بضعة أيام مضت أن مندوبا من قبل «روشتي» كان في معسكر الألفي وعقد معه عدة اجتماعات سرية، وأنه أي «دروفتي» علم بفضل ما وقف عليه نتيجة لاستقصائه هذه المسألة أن «روشتي» قد تقدم إلى الألفي بمقترحات معينة تهدف لوضعه تحت حماية بطرسبرج وتمكن روسيا من التدخل في شئون مصر، وأن محمد أغا ورفائيل إنما يريدان الذهاب إلى القسطنطينية حتى يحصلا من السفير الروسي هناك على تعليمات نهائية، ثم استطرد «دروفتي» يقول: ويعيد هذا الحادث على الذاكرة مهمة البارون «دي توناس»
de Thonus
القديمة لدى البكوات، ومن واجبي إبلاغك أن «رفائيل» هذا من جزيرة «شيور» أي إنه من رعايا الدولة العثمانية، ولا حق له في حماية روسيا، ويشير «دروفتي» هنا إلى حادث محاولة القيصرة كاترين تحريض مراد وإبراهيم وغيرها من البكوات على نبذ السيادة العثمانية والخروج على طاعة السلطان والتحالف مع روسيا، وأوفدت لهذه الغاية «دي توناس» قنصلا لها بالإسكندرية 1788، وقد فشل هذا الأخير في مهمته، وقبض عليه الانكشارية في بولاق ثم بعثوا به أسيرا إلى القسطنطينية حيث لقي حتفه بها في السنة نفسها.
ولكن جهود الألفي في هذه الناحية لم تسفر عن شيء؛ لأنه لم يلبث أن اضطر إلى رفع الحصار عن دمنهور، ثم وافاه أجله بعد ذلك في يناير 1807 وهو في طريقه إلى الفيوم والصعيد بعد الانسحاب من دمنهور يبغي الانضمام إلى البكوات القبالي والترؤس عليهم.
ولقد تضافرت أسباب عدة على إرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، أهمها استماتة أهلها في الدفاع عنها، ثم وقف الذخائر التي كان يمد بها القبطان باشا معسكر الألفي، وامتناع القبطان عن محاولة الاستيلاء على رشيد بالرغم من إلحاح الألفي عليه في ذلك، أو الاستيلاء على غيرها من المواقع كدمياط ذاتها كما كان ينصح به «مسيت»، ثم انتهاز محمد علي فرصة استطالة الحصار لبذر بذور التفرقة والشقاق في معسكره وتحريض العصاة من الأرنئود والعثمانلي الذين كانوا قد انضموا إلى الألفي، ثم تحريض العربان على ترك خدمته، وقد ساعد على نجاح محمد علي في مساعيه هذه مسلك الألفي نفسه المنطوي على الغطرسة والكبرياء في علاقاته مع رؤساء الجند والعربان وسوء معاملته لهم، فقال «مسيت» في رسالته السالفة الذكر في 27 ديسمبر: إنه قد تفشى أخيرا بين جند الألفي روح العصيان والرغبة في مغادرة جيشه، وإن عددا من رؤساء العرب صاروا غير راضين عنه لما يلحقه بهم من إهانات بالغة ومخاطبتهم بالشتم دائما، بل إن «مسيت» يعرف كذلك أنه قد أرغم عددا من هؤلاء الرؤساء العرب على تسليم زوجاتهم له، كما أنه منعهم من جمع أية إتاوات من القرى المجاورة، ثم إنه علاوة على ذلك لا ينفك يطلب منهم علائف لفرسانه ومؤنا لأهل بيته، فالغضب منه في ازدياد، حتى إنه لو وقع عليه هجوم شديد الآن لصار تحطيمه أمرا مفروغا منه بسبب الروح المنتشرة بين جنده.
ثم كان من أسباب غضب الجند والعربان منه أنه عجز عن دفع مرتباتهم، زد على ذلك أن البكوات الستة والمماليك الذين كانوا قد حضروا من الصعيد لنجدته لم يلبثوا أن تركوه لعجرفته واستعلائه عليهم، وذلك منذ أوائل شهر أكتوبر، كما تركه على أثر مبارحة القبطان باشا للإسكندرية عدد من الأرنئوديين الذين كانوا في خدمته والذين تبين لهم فشل قضيته، ولم يلبث ترجمانه «ستافراكي» أن تركه هو الآخر في ديسمبر بعد أن اشتط الألفي في إساءة معاملته، وكتب الوكلاء الفرنسيون في 14-27 ديسمبر أن خازندار شاهين بك الألفي مع خمسة عشر مملوكا قد ذهبوا إلى القاهرة تاركين معسكر الألفي، ولم يشأ بكوات الصعيد إرسال أية نجدات إليه، وصار لذلك كله من المتوقع أن يرفع الألفي الحصار عن دمنهور؛ أي الإقرار بالعجز والفشل وانهيار كل آماله التي عقدها على امتلاك دمنهور التي أراد أن يتخذها مقرا لنشاطه يستطيع منه بفضل السيطرة على الأقاليم المجاورة لدمنهور والقريبة منها تزويد جنده وعربانه بالمؤن والأغذية وإمداد فرسانه بالعلائف اللازمة لخيولهم، وجمع الإتاوات لدفع المرتبات لقوات كانت تتألف من ستمائة من المماليك الفرسان، ومائتي جندي ثم ثمانمائة من المشاة الأرنئود والعثمانلي إلى جانب عدد من المدفعيين الأوروبيين لخدمة ستة مدافع، وذلك كله عدا ست قبائل من البدو يبلغ عدد رجالها حوالي الستة آلاف فارس، زد على ذلك أن وجوده حوالي دمنهور يجعله قريبا من المكان المنتظر أن تنزل فيه الحملة الإنجليزية على الشاطئ المصري، وهي الحملة التي استمر «مسيت» يؤكد له أنها سوف تأتي قريبا.
غير أنه حدث في أواخر نوفمبر ما أنعش آمال الألفي، وحمله على الاعتقاد بأنه إذا ما عجز نهائيا عن إخضاع دمنهور وأرغم مكرها على مغادرة البحيرة فسوف يكون في وسعه العودة بعد قليل لحصارها، واستقبال الإنجليز عند مجيء حملتهم، ثم الاستعانة بهم على تأسيس حكمه وطرد الأرنئود ومحمد علي من مصر نهائيا، هذا الحادث كان وفاة منافسه الأول عثمان البرديسي.
فقد كان عثمان البرديسي يشكو من أمد طويل من مرض المرة (أو الصفراء) وهو داء يتطلب العلاج والراحة وهما ما لم يتوافرا له منذ خروج البكوات إلى الصعيد، فأنهك التعب قواه، وزادت جراحه القديمة من آلامه، فاشتدت عليه العلة، ولم يجد طبيبا قادرا بالصعيد، فأشار عليه أحد أدعياء الطب بتناول شراب ممزوج بحامض كبريتي عجل بموته في منفلوط في 19 نوفمبر 1806 (8 رمضان 1221) في سن الثانية والأربعين، وفي الوقت الذي كان يتهيأ فيه لإرسال أحد رجاله إلى باريس بعد أن تكررت تأكيدات «دروفتي» له في الأيام الأخيرة باهتمام «بونابرت العظيم» بقضية البكوات، وأراد استعجال نجدته.
وقد حمل خبر وفاة البرديسي إلى محمد علي أحد المغاربة، وصل إلى القاهرة في 4 ديسمبر وكان معفرا منهوك القوى بعد أن جد في السير طوال خمسة عشر يوما منذ أن غادر منفلوط التي قال إنه لم يتركها إلا بعد أن حضر تشييع جنازة سليم بك أبو دياب الذي توفي في بني عدي وعثمان بك البرديسي في منفلوط، ثم ما لبثت أن جاءت الأخبار من وكلاء الباشا في المنيا وبني سويف تؤكد وفاتهما، وقال «دروفتي» وهو ينقل هذا الخبر إلى حكومته من الإسكندرية في 10 ديسمبر: إن الاعتقاد السائد هو أن وفاة البرديسي كانت نتيجة لفعل سم بطيء سرى في جسمه، ويشتبه أن الألفي نفسه كانت له يد في ذلك.
ونجم عن وفاة البرديسي آثار معينة في صالح محمد علي، ثم في صالح الألفي؛ ففيما يتعلق بصالح الأول، أن وفاة البرديسي قد أزالت خصما من الميدان يخشى بأسه بفضل ما كان له من سيطرة على إبراهيم بك وسائر زملائه من البكوات القبالي، ولأن وفاته حدثت في وقت كانت قد اشتدت فيه حروجة مركز محمد علي بسبب استئناف البكوات لحصار المنيا، بينما لا يزال الألفي يحاصر دمنهور، ولأن حامية المنيا كانت متمردة ويطلب جندها مرتباتهم المتأخرة، وصاروا في عصيانهم هذا شبه مستقلين بها عن سلطته، فأوقفوا السفن في النيل، وصادروا ما وجدوه بها من غلال وحبوب، وصاروا يجبون الضرائب من البلاد القريبة منهم، واستولوا على الميري، وهددوا كلما أنذرهم محمد علي بوجوب الطاعة بتسليم المنيا للبكوات، وأوفد الباشا منذ أواخر أكتوبر أحد كبار ضباطه إليهم لتهدئتهم ولكن دون طائل، وغادر حسن باشا مع جنده ملوي إلى بني سويف ينوون الذهاب إلى القاهرة لتمضية شهر رمضان بها - كما قالوا - أضف إلى هذا امتناع خورشيد عن الذهاب إلى الرحمانية في نوفمبر وتعالي صيحات الجند في كل مكان يطالبون بمرتباتهم، وبلغ من تأزم الموقف أن صار محمد علي يطلب من «دروفتي» نجدة من حوالي الخمسمائة أو الستمائة من الجند الفرنسيين من حاميات فرنسا الجنوبية أو من جيشها الموجود بمملكة نابولي، وكان الباشا منذ أن انتهت مسألة النقل إلى سالونيك بسلام قد بذل قصارى جهده لوضع حد لعصيان حامية المنيا خصوصا، فانتهز الآن فرصة ما وقع من ارتباك في صفوف البكوات بسبب وفاة البرديسي، وأرسل مبلغا من المال 300 كيس إلى رؤساء الحامية، ووجد هؤلاء أن من صالحهم الإذعان للطاعة، حينما كان كثيرون من الأجناد الذين انضموا إلى صفوف البكوات قد بدءوا ينفضون عنهم بعد وفاة البرديسي ، أضف إلى هذا أن ياسين بك الذي كان قد شق عصا الطاعة على محمد علي وانحاز إلى بكوات الصعيد (سليمان بك المرادي) بعد هزيمته على يد جماعة الألفي، ثم امتلك مدينة الفيوم عنوة بعد ذلك منذ سبتمبر، وخرج كاشف الفيوم نفسه على الباشا، قد بعث مع هذا الكاشف بعد وفاة البرديسي يطلبان الصفح من محمد علي، وعفا عنهما الباشا، وعادا إلى العمل تحت رايته من جديد ومعهما حوالي الستة آلاف رجل.
وأما فيما يتعلق بالألفي، فقد أذنت وفاة البرديسي بظفره بما كان يمني نفسه به من زمن بعيد وهو الرئاسة على البكوات جميعهم، وكان بكوات الصعيد قبل وفاة البرديسي في خلافات مستمرة: سليمان بك البواب منسحب مع مماليكه في ناحية قنا، ولا يرضى عن مسلكه زملاؤه الذين أنفذوا جندا لإخضاعه، وعثمان بك حسن معسكر على الضفة اليمنى للنيل أمام المنيا، والبرديسي نفسه قبل وفاته مع إبراهيم بك بمنفلوط، وبكوات آخرون بالقرب من بني سويف وبعضهم الآخر بأسيوط، ويسعى سليم كاشف المحرمجي في إنشاء حزب مناوئ لإخوانه، أضف إلى هذا أنه كان يعوزهم المال، ومنعتهم الأثرة من التضحية بمبلغ زهيد لا يزيد على المائة كيس لو أنهم ضحوا به لاستطاعوا - في رأي الوكلاء الفرنسيين - أن يأخذوا المنيا، ولساعد ذلك على جمع شملهم، وقد زادت وفاة البرديسي من حدة هذه الانقسامات والخلافات السائدة بينهم والتي مهدت للألفي طريق الانتفاع منها.
ذلك أن مماليك البرديسي اختاروا رئيسا لهم من بعده شاهين بك المرادي، وكان رجلا شجاعا، ولكنه لا ذكاء ولا رأي له، ثم إنه كان عدوا للألفي، وتسبب في قتل حسين بك الوشاش أحد أتباعه، ورفض إبراهيم وعثمان حسن الاعتراف به، ووجدا الفرصة سانحة لجمع كلمة المماليك، وقد أزالت وفاة البرديسي العقبة الكأداء التي حالت دائما دون الاتفاق مع الألفي، فبعثا إليه يبلغانه استعدادهما لقبول أي ترتيب أو تنظيم يطلبه، وسألاه الحضور إلى الصعيد ليبحث معهما الوسائل التي بها يستعيد المماليك سلطانهم السابق، وبادر هذا الأخير بإبلاغ النبأ إلى «مسيت» ووجد في وفاة خصمه وتقوية مركزه بين البكوات تبعا لذلك فرصة مواتية لتجديد مسعاه في القسطنطينية، واستنهاض همة السفير الإنجليزي بها للتوسط بينه وبين الباب العالي، فكتب إلى «مسيت» في 30 نوفمبر أنه جاءه خطاب من والده العزيز إبراهيم بك شيخ البلد يبلغه نبأ وفاة أخيه عثمان بك البرديسي الذي وإن أسف على فقده كأحد إخوانه، فإنه يعتقد كذلك أن الله سبحانه وتعالى قد انتقم منه لعداواته ضده، ثم استطرد يقول إنه يرجو أن يكون في هذا الحادث ما يجعل سهلا دخوله إلى القاهرة سريعا؛ حيث إن إبراهيم بك يرجوه أن يبذل قصارى جهده لتحقيق ذلك، ولما كان سائر البكوات قد انحازوا إليه الآن فقد قوي أمله في امتلاك القاهرة وإعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد؛ وعلى ذلك فهو يبعث إلى «مسيت» - كما قال - خطابا باسم الوزراء العثمانيين يرجوه أن يرسله إلى صديقه (أي صديق الألفي) السفير الإنجليزي في القسطنطينية حتى يسلمه هو شخصيا إلى هؤلاء الوزراء، ثم أخذ الألفي يؤكد أن محمد علي لا يلقى نجاحا في إدارته وحكمه، وأن ظفره بالولاية من الباب العالي أو القبطان باشا إنما كان بفضل المال الذي نهبه من سكان القاهرة وأهل الريف على السواء، بل أن هذه المظالم التي ارتكبها قد جعلت الناس جميعا يستمطرون عليه اللعنات، وطلب الألفي من «مسيت» إبلاغ ذلك كله إلى السفير حتى ينقله إلى وزراء الدولة، ثم اختتم رسالته بقوله: ولما كنت أعرف أنك ترغب كذلك في رؤية الهدوء والسكينة يعودان سريعا إلى هذه البلاد، فرجائي ألا يحول فصل الشتاء أو أي سبب تافه قد تتذرع به الحكومة العثمانية دون العمل السريع.
ووصل هذا الخطاب إلى «مسيت» يوم أول ديسمبر 1806، ثم بادر هذا بإرساله إلى «أربثنوت» في 2 ديسمبر، ولكنه قال تعليقا عليه إنه لا يؤمن بما ذهب إليه الألفي من أن وفاة البرديسي من شأنها انضمام جماعته إلى الألفي، زد على ذلك أنه لا ينتظر أن يرضى خليفة البرديسي بوضع يضعه في مرتبة ثانوية بالنسبة للألفي، ووزراء الباب العالي سوف يعتبرون وفاة البرديسي حادثا سعيدا؛ لأنه كان عدوا ذا مقدرة، ومن المتوقع أن ينظر الباب العالي لهذا الحادث بغير العين التي ينظر بها الألفي له، وفي 27 ديسمبر، كتب «مسيت» إلى «وندهام» يوضح الأسباب التي جعلت الألفي يريد السعي من جديد لدى الباب العالي فقال: إنه يبني آمالا عريضة على وفاة منافسه البرديسي من حيث إن هذا الحادث سوف ينهي العداوة التي استحكمت من مدة طويلة بين جماعته وجماعة البرديسي؛ ولذلك فهو قد قدم عريضة إلى وزراء الباب العالي يذكر فيها حيث إن سبب الخلافات السائدة بين البكوات قد زال الآن فمن السهل على الحكومة العثمانية أن تعيد للمماليك تلك السلطة التي تمتعوا بها سابقا.
على أن هذه المحاولة وقد كانت آخر سهم تبقى للألفي في جعبته لم تأت بأية نتيجة؛ فقد أجاب «أربثنوت» من القسطنطينية في 15 يناير 1807 على رسائل «مسيت» تلك التي بعث بها هذا الأخير إليه بأن وكيل الألفي قد زاره وأخبره بانتصار الألفي على محمد علي، وراح يطلب منه وساطته لدى الباب العالي، ثم استطرد يقول إنه يرفض القيام بهذه الوساطة بسبب الظروف الراهنة (إعلان الحرب بين تركيا وروسيا حليفة إنجلترة وتهيؤ هذه لإرسال الأميرال «داكويرث» إلى مياه القسطنطينية والجنرال «فريزر» إلى الإسكندرية)، ولا سيما بعد كل ما حدث في المفاوضات السابقة بين كتخدا الألفي وبين الباب العالي، وينصح «مسيت» لذلك بعدم التدخل إلا إذا رأت الحكومة الإنجليزية غير ذلك، وفضلا عن ذلك فإنه يجب أن يكون أمرا مقررا ومفروغا منه أنه من المتعذر كلية وضع أية ثقة في الألفي أو غيره من البكوات؛ لأن هؤلاء جميعا سوف يطلبون دائما ودون أي تمييز مساعدة كل دولة قد يتراءى لهم أن بوسعها خدمتهم وتحقيق مآربهم، وكذلك فمن الواجب أن يعتبر أمرا مقررا ومفروغا منه أن الباب العالي لن يوافق بحال من الأحوال على وساطتنا، وقد يطلب هذا مساعدتنا إذا فقد مصر مرة ثانية، وقد يبحث عنها بنفسه وقتئذ، وحتى نجاحنا ذاته سوف يكون مبعث حسدنا؛ لأنه بالرغم من المزايا التي قد تجنيها الإمبراطورية العثمانية من انتصاراتنا فإن الذعر الذي سوف ينشأ من بروز قوتنا بهذه الصورة لن تمكن إزالته من النفوس، فقد لا يريد الباب العالي أن يرى الفرنسيين يبقون في مصر، ولكن طردهم منها على يد الإنجليز سوف يكون بالنسبة للباب العالي بمثابة اختبار بين أحد شرين.
ولكنه قبل وصول هذه التعليمات إلى «مسيت» كان الألفي قد رفع الحصار عن دمنهور وبدأ انسحابه صوب الصعيد.
حقيقة كانت عروض إبراهيم وعثمان حسن له مغرية، وتؤذن بتوليه رئاسة البكوات، لا سيما وأنه كان قد اشترط قبل الدخول في أي اتفاق مع بكوات الصعيد إبعاد شاهين بك المرادي وبعض البكوات الآخرين من بيت البرديسي ونفيهم إلى إبريم كضمان - في رأيه - لقبول سائر البكوات لرئاسته بعد أن عارض إبراهيم وعثمان وحسن في تعيين شاهين المرادي خليفة للبرديسي، ثم كان من المتعذر عليه البقاء في البحيرة بعد أن استنفد كل ما بها من زرع وضرع حتى كادت تكون بلقعا يبابا، ولا سبيل إلى جلب المؤن منها لجيشه، وذلك علاوة على ما تقدم من أسباب جعلت متابعة الحصار مهمة شاقة عسيرة، إلا أنه كان من ناحية أخرى يشعر في قرارة نفسه أنه لا يستطيع الاعتماد على البكوات القبالي في مؤازرته ومعاضدته، أضف إلى هذا أن ذهابه إلى الصعيد سوف يجعله بعيدا من المكان المترقب نزول الحملة الإنجليزية به، ولكن الوكلاء الإنجليز - على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 10 ديسمبر - لم يلبثوا أن أشاروا عليه بتلبية دعوة وكلاء الصعيد حتى يفيد من الاضطرابات الواقعة في صفوفهم بعد وفاة البرديسي، فقرر الألفي أن يبذل مجهودا أخيرا لإخضاع دمنهور، حتى إذا دانت له بقي بها أو فك الحصار عنها مكرها، وانسحب من البحيرة.
وكان الضيق قد أخذ كل مأخذ بأهل دمنهور لعدم وصول أية نجدات إليهم، حتى إنهم بدءوا من أوائل ديسمبر يفكرون جديا في التسليم، وبعثوا بمندوبيهم إلى الألفي للمفاوضة معه في ذلك، وكادت تنفرج أزمته، ولكنه سرعان ما أضاع الفرصة بسبب جوره وعسفه عندما قتل ثمانية وعشرين من الفلاحين كان العربان قد فاجئوهم في أوقات مختلفة يتسللون من دمنهور ينقلون بعض المؤن إليها، أو قبضوا عليهم وهم يحاولون الخروج منها خفية، فقتلهم الألفي أيام العيد الصغير (12-15 ديسمبر)، ونفر منه بهذه الفعلة الشنيعة أهل دمنهور، فأبطلوا مفاوضاتهم معه، ووطدوا النفس على الدفاع إلى النهاية وحتى آخر رمق فيهم؛ وعلى ذلك، فقد صدوا هجوما عنيفا قام به الألفي في 16 ديسمبر، وخسر في هذا الهجوم الفاشل اثنين من كشافه وسبعة أو ثمانية من مماليكه عدا العشرين من مشاته تقريبا، وهكذا أخفق آخر جهد له في إخضاع دمنهور عنوة، ثم بدأ يحدق به الخطر من كل جانب عندما استولى اليأس على جنده، وشحت الأقوات في معسكره، وخشي الجند والعربان أن تفتك بهم المجاعة، وصاروا يهددون بتركه إذا هو أصر على البقاء أمام دمنهور، ثم خرجت أخيرا حامية رشيد لتعزيز حامية الرحمانية وهي التي في وسعها منع مماليك الألفي وجنده من الخروج إلى الدلتا، وبدأت قوات الباشا تتجمع في إمبابة للزحف على دمنهور وتخليصها من الحصار المضروب عليها، وعندئذ لم يجد الألفي مناصا من رفع الحصار عنها والانسحاب صوب الفيوم والصعيد في 28 ديسمبر 1806.
وكان انسحاب الألفي على هذه الصورة هزيمة شنيعة له، فقال «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في 31 ديسمبر يعلل هذا الانسحاب بقوله: إن محمد علي يستعد استعدادا عظيما لشن هجوم على الألفي، فعبر جزء من جيشه النيل معسكرا عند إمبابة على الشاطئ الأيسر للنهر، ولا يلبث أن يلحق به بقية الجيش، وأعلن الباشا أنه سيتولى بنفسه قيادة الحملة، وهذا بينما لا يعتبر الألفي نفسه قويا بالدرجة التي تمكنه من مقاومة محمد علي وجيشه، فقرر مغادرة البحيرة والانسحاب إلى الفيوم حيث تتاح له الفرصة أن يتلقى وهو بها عند الضرورة الإمدادات من إخوانه بالصعيد، وقد اضطر الألفي اضطرارا لاتخاذ هذه الخطوة، ويشعر بالخجل لتركه حصار دمنهور، ومع أنه كان بوسعه فيما مضى اقتحامها عنوة واقتدارا فقد آثر أن يحاصرها وأن يضطرها إلى التسليم بتجويعها، ولكن الاستياء منه يسود اليوم جنده، وبخاصة العربان الذين معه، حتى إنه صار يخشى إذا هو واجه العدو أن يتركه رجاله، ذلك هو السبب الحقيقي لانسحابه إلى الفيوم ولو أنه يرفض الاعتراف به ويعزو انسحابه إليها إلى قلة المؤن في البحيرة.
وأما الشيخ الجبرتي فقد عزا اندحار الألفي وانصرافه عن دمنهور إلى أسباب أربعة، فقال: ولما تنحت عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر إسكندرية، استأنف أمرا آخر وراسل الإنجليز يلتمس منهم المساعدة وأن يرسلوا له طائفة من جنوده؛ ليقوى بهم على محاربة الخصم كما التمس منهم في العام الماضي، فاعتذروا له بأنهم في صلح مع العثماني، وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحا أن يتعدوا على المتصادقين معهم، ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم، فغاية ما يكون المكالمة والترجي، ففعلوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر، فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع النفرة بينهم وبين العثماني فأرسلوا إليه يوعدونه بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته، فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور، وكان ذلك أوان القيظ وليس ثم زرع ولا نبات، فضاقت على جيوشهم الناحية، وقد طال انتظاره للإنجليز، فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد، وفي كل حين يوعدهم بالفرج ويقول لهم: اصبروا لم يبق إلا القليل، فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له: إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة، وإما أن تأذن لنا في الرحيل نطلب القوت، فما وسعه إلا الرحيل مكظوما مقهورا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب، الأول مجيء القبودان وموسى باشا على هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طائل، الثاني عدم ملكه دمنهور، وكان قصده أن يجعلها معقلا ويقيم فيها حتى تأتيه النجدة، الثالث تأخر مجيء النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل، الرابع وهو أعظمها مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام إليه.
وسار الألفي في انسحابه بخطوات بطيئة، يتقدم جيشه شاهين بك الألفي ، ويعيث هذا الحشد من أجناد ومماليك وعربان حوالي السبعة أو الثمانية آلاف بعتادهم وحيوانهم فسادا في كل مكان مروا به، وأحرق شاهين الألفي قريتين بالقرب من طرانة، واقترب هذا الحشد العظيم من وردان (7 يناير 1807)، وبدأت تصله الأنباء عن فشل محاولاته لإبعاد شاهين بك المرادي وزملائه من أنصار البرديسي؛ ذلك أن هذا الشرط الذي اشترطه الألفي للذهاب إلى الصعيد لم يلبث أن أثار تذمر البكوات، فانحاز سليمان بك الجرجاوي إلى شاهين المرادي وضما كل المشاة في بيت البرديسي، وصار لهما حزب قوي، وأبدى محمد علي نشاطا عظيما لمواجهة جيش الألفي، فحشد هو الآخر حوالي الأربعة آلاف من جنده منذ 12 يناير ذهب بهم إلى شبرا الخيمة ثم احتل إمبابة وجعلها مركزه العام، وكان شاهين الألفي قد احتل قبل ذلك بيوم واحد الكوم الأسود وهي قرية تقع إلى الجنوب الغربي من إمبابة وفي سفح الأهرام تقريبا، فدارت بين الفريقين معركة في 13 يناير، وارتد شاهين الألفي بعد أن جرح إلى الكوم الأسود، وبدلا من أن تتعقبه الأرنئود وبالرغم من إلحاح محمد علي عليهم في ذلك آثروا العودة إلى القاهرة ورفعوا عقيرتهم من جديد يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فاستطاع الألفي أن يواصل سيره بسلام، فبلغ كفر حكيم في 27 يناير، وانتشر جيشه بالبر الغربي ناحية إمبابة والجيزة، وغادر الألفي كفر حكيم في اليوم نفسه، ورتب محمد علي وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم، واصطفت الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم، ومر الألفي في هيئة عظيمة هائلة وجيوش تسد الفضاء وهم مرتبون طوابير على هيئة عسكر الفرنسيين ومعهم طبول بكيفية قرعت عقولهم، وصحبته قبائل العرب من أولاد علي والهنادي وعربان الشرق في كبكبة زائدة، والباشا والعساكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد، والباشا ينظر إليه تارة بعينه وتارة بالنظارة وهو يتعجب ويقول: هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون؟ ثم قال للدلاة والخيالة: تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال ... فلم يتجاسروا على الإقدام، وصاروا باهتين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم، وقد أصابوه بأعينهم.
وكان الألفي قد تأكد لديه قبل ذلك في 26 يناير خبر إخفاق مشروعه الذي أراد منه السيطرة على البكوات في الصعيد، فقد استطاع شاهين المرادي تقوية حزبه، واتخذ من اشتراط الألفي نفي أنصار البرديسي إلى إبريم وسيلة لجمع المؤيدين حوله لمعارضة إبراهيم بك وعثمان حسن بالقوة إذا اقتضى الأمر، وتسلم الشاهين المرادي رئاسة جماعة البرديسي من جديد، بينما انسحب عثمان حسن إلى أبنوب وإبراهيم بك إلى أسيوط، وأدرك الألفي أنه صار من المتعذر عليه جمع بكوات الصعيد حوله، أو انتظار اتحاده معهم في أي مجهود حربي مشترك ضد محمد علي، فأحزنه هذا الفشل، واستبد به الغيظ والغضب، وفي 28 يناير وصل جيشه إلى قرب قناطر شبرامنت.
وخرج يتريض على حصانه وخلفه بعض المشاة خارج المعسكر، وكان ذلك بناحية المحرقة بالقرب من دهشور، فشاهد بعض جمال للبدو في حقل مزروع قمحا، فأحنقه ذلك وقتل بيده في سورة غضبه أربعة من البدو الذين صادفهم في الحقل، وكان من بينهم شيخ قبيلة، فلما عاد إلى خيمته انتابته تشنجات عصبية صحبها قيء من الدم والصفار الكثير، وشعر بدنو أجله فجمع فورا كل بكوات بيته، ورأس عليهم شاهين بك الألفي، وأوصاهم بالاتحاد فيما بينهم، والاستمرار قبل كل شيء على مقاومة محمد علي، والذهاب إلى الصعيد للانضمام إلى سائر البكوات هناك، كما أوصاهم أن يحملوه إذا مات إلى وادي البهنسا، وأن يدفنوه بجوار قبور الشهداء، ثم مات في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء 19 ذي القعدة 1221 (27-28 يناير 1807)، وكان عمره عند وفاته خمسا وخمسين سنة، وقال بعض من حضروا وفاته: إنه سرعان ما صار لون جثته داكنا، واستنتجوا من ذلك أنه مات مسموما، واتهموا بسمه إحدى نسائه ابنة شيخ القبيلة العربي الذي قتله الألفي، فانتقمت لأبيها بإعطائه السم، واختلفت الروايات في سبب وفاته، فقال الجبرتي: «إن خلطا دمويا تحرك به وفي الحال تقيأ دما»، وقال آخرون: إنه قضى نحبه من جراء إصابته بالكوليرا، وفي رأي «مسيت» أنه أصيب بالتهاب في الرئة قضى عليه، وقد نجحت هذه الإصابة - على حد قول «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في 7 فبراير 1807 عن المجهود العظيم الذي بذله الألفي في قتاله الأخير مع جند الباشا، وقال «دروفتي» وهو ينقل هذا الخبر إلى حكومته في 2 فبراير: إن الألفي قد مات في 27 يناير، وهناك رأيان في سبب وفاته الفجائية: أولهما استبداد سورة الغضب به بعد أن قتل بيده أربعة من البدو، أحدهم شيخ قبيلة، وثانيهما أن ابنة هذا الشيخ المقتول وكانت من نساء الألفي قد دست له السم.
وقال الشيخ الجبرتي: «إن الألفي عند وصوله إلى قرب قناطر شبرامنت نزل على علوة هناك، وجلس عليها، وزاد به الهاجس والقهر، ونظر إلى جهة مصر القاهرة، وقال: يا مصر انظري إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين، واستوطنك أجلاف الأتراك واليهود وأرذال الأرنئود، وصاروا يقبضون خراجك، ويحاربون أولادك، ويقاتلون أبطالك، ويقاومون فرسانك، ويهدمون دورك، ويسكنون قصورك، ويفسقون بولدانك وحورك، ويطمسون بهجتك ونورك، ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله حتى إذا حدث له ما حدث، وشعر بقرب منيته قال: قضي الأمر، وخلصت مصر لمحمد علي، وما ثم من ينازعه ويغالبه، وجرى حكمه على المماليك المصرية، فما أظن أن تقوم لهم راية بعد اليوم.»
وأما محمد علي فكان نائما في خيمته على الضفة اليسرى للنهر بالقرب من الجيزة عندما دخل عليه أحد عربان الهنادي في 29 يناير يطير إليه خبر وفاة الألفي، فلم يصدقه الباشا؛ لأن أتباع الألفي كانوا قد تكتموا الخبر ولم يشيعوه في العرضى، والذي أشاع الخبر وأتى بالبشارة رقيق البدوي الذي حمل جثمان الألفي على بعيره إلى البهنسا حيث دفن بها بجوار الشهداء، فلما تأكد الباشا بعد ذلك من وفاة الألفي أغدق على المبشر بذلك العطايا وألبسه فروة سمور ثم أمره أن يركب بتلك الخلعة، ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة (القاهرة)، وشاع ذلك الخبر في الناس الذين لم يصدقوه، وراحوا يقولون: إن هذا من جملة تحيلات الألفي، فإنه لما سافر إلى بلاد الإنجليز لم يعلم بسفره أحد، ولم يظهر سفره إلا بعد أشهر؛ فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة، ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين حتى قويت عندهم القرائن بما حصل بعد ذلك، فإنه لما تفرقت قبائل العربان التي كانت متجمعة حوله، وبعضهم أرسل يطلب أمانا من الباشا وغير ذلك ثبت لديهم موت الألفي.
وكان من أثر تحقق وفاة الألفي أن عددا كبيرا من سكان وأعيان القاهرة الذين كانوا قد انضموا إليه، ما لبثوا أن تركوا شاهين بك خليفته، وحذا حذوهم أحد كشافه وجماعة من فرسان المماليك، وآخرون من مشاة الأتراك والأرنئود والنوبيين الذين كانوا في خدمته وانضموا إلى محمد علي، كما انفصل أولاد علي عن شاهين بك ورجعوا إلى بلادهم، وأما شاهين بك ومماليك الألفي وأجناده الباقون وسائر البكوات فقد ارتحلوا إلى الصعيد.
وبوفاة الألفي تخلص محمد علي من أشد خصومه عداوة له، وأعظمهم خطرا على ولايته، ولقد كان محمد علي نفسه يقول: ما دام هذا الألفي موجودا لا يهنأ لي عيش، ومثالي أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل لكن هو في رجليه قبقاب، فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك: الآن طابت لي مصر - أو الآن ملكت مصر - وما عدت أحسب لغيره حسابا. وقد عد موت الألفي - على حد ما ذكره الجبرتي - «من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي.»
الفصل الثاني
تنازع النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي»
تمهيد
عانى محمد علي الشيء الكثير من خصومة الألفي له، حتى إن التنازع على السلطة والحكم صارا منحصرا - في واقع الأمر خلال عام 1806 وحتى وفاة الألفي في يناير من العام التالي - بين محمد علي وغريمه الأكبر؛ لأن الألفي تميز عن سائر البكوات بأنه الرجل الذي حدد مقصده من نضاله مع محمد علي، وهو انتزاع الحكم منه، ولم تثنه عن عزمه إغراءات غريمه، بل وعمد إلى تمويهات المفاوضة على غرار ما فعل الباشا نفسه معه، سواء محمد علي حتى يبطل نشاطه ويتسنى له تقوية نفسه لاستئناف النضال، أو مع العلماء والمشايخ الذي آزروا خصمه حتى ينفرهم منه ويجذبهم إليه، وبينما تخاذل سائر البكوات وركنوا إلى الاستقرار بالصعيد منذ أن قضى على حكومتهم في القاهرة (1804) ثم فرقتهم الانقسامات، تفاوض مندوبو الألفي في القسطنطينية، وكان نجاحهم مبعث تلك الأزمة الخطيرة - أزمة النقل إلى سالونيك - التي كادت تطيح بولاية محمد علي في مصر، ووثق الألفي صلاته بالوكلاء الإنجليز، وكانت هذه الصلات بينه وبين «مسيت» على وجه الخصوص مصدر خطر مستمر لحكومة محمد علي، فقد كمنت خصومة «مسيت» لمحمد علي وراء خصومة الألفي، وشجعت هذا الأخير على المضي قدما في مشروعاته لتأسيس حكومة مملوكية في مصر بزعامته.
ومنذ أن بدأ محمد علي كفاحه عقب المناداة بولايته من أجل البقاء في الحكم، كان لا ندحة له عن أن يدخل في حسابه خصومة «مسيت»، مع أنه ظل طوال هذا النضال المرير لا يدع فرصة تمر دون أن يظهر رغبته في كسب تأييده ولكن دون طائل، بل دأب هذا؛ أي «مسيت» على المراوغة والنفاق حتى يصرف الباشا ما قد يساوره من شكوك من ناحية، وحتى يبطل مساعي خصومه الوكلاء الفرنسيين لدى الباشا ضده، وكان مبعث خصومة «مسيت» لمحمد علي تصميمه على إعادة ما كان للبكوات من سلطات سابقة إليهم لاعتقاده أن في قدرتهم وحدهم الدفاع عن مصر ضد الغزو الفرنسي إذا تجدد بسبب تطور الحرب بين إنجلترة وفرنسا، ولما كان البكوات منقسمين إلى فريقين: أحدهما بزعامة البرديسي ويعتمد على مؤازرة فرنسا له، فقد صار طبيعيا أن يبذل «مسيت» قصارى جهده لمناصرة الحزب الآخر الذي أظهر ولاءه لإنجلترة بزعامة الألفي، لا سيما وقد ظل الألفي يؤكد هذا الولاء، ويعقد آماله في النصر وتسلم زمام الحكم على مؤازرة الإنجليز له، واعتمد «مسيت» من جهته على الألفي ومماليكه وأتباعه كالقوة التي في استطاعتها بما لديها من فرسان معاونة الإنجليز عند مجيء حملتهم إلى مصر، لا لدفع الغزو الفرنسي عنها فحسب، بل وكذلك - كما أراد «مسيت» - لاحتلال البلاد وامتلاكها.
ولم يكن نشاط «مسيت» مع الألفي أو مساعي رجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية لصالح المماليك سرا مكتوما، ومع أن أحدا من الوكلاء الإنجليز ورجال سفارتهم لم يتدخل في المفاوضات التي انتهت بتقرير إعطاء الألفي مشيخة البلد ونقل محمد علي إلى سالونيك، فقد اعتقد «دروفتي» أن أعداء فرنسا وهم الإنجليز قد نجحوا بفضل مكائدهم ونفوذهم في حمل الباب العالي على إرجاع السلطة إلى البكوات، وأدهش «دروفتي» أن يرضى الباب العالي بمقتضى النظام الجديد بإعطاء الألفي كل هذه السلطة العظيمة؛ حيث يضع ذلك موارد البلاد بأسرها في أيدي الإنجليز حماة الألفي، ويؤذي هذا العمل مصلحة الباب العالي نفسه، ولقد كان هذا الاعتقاد كافيا لأن يبذل «دروفتي» جهده لتحطيم مشروعات الألفي، وكان «دروفتي» قد وضع نصب عينيه - نزولا على تعليمات حكومته العامة وتوجيهاتها - مكافحة النفوذ الإنجليزي في مصر وإبطال مساعي الوكلاء الإنجليز لدى البكوات المماليك لجذبهم إلى جانبهم، فلما أن عاد الألفي من سفارته في لندن، وصار الوكلاء الإنجليز يعقدون آمالا كبارا في المدة التالية على استطاعته تأسيس الحكم المملوكي في مصر تحت رعايتهم ثم انبروا يؤيدونه أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، تبين ل «دروفتي» قطعا أن إحباط هذه المحاولات مرتبط من ناحية أخرى بتأييد الحكومة التي يسعى الألفي والإنجليز لهدمها؛ أي حكومة محمد علي.
وعلى ذلك فقد شهدت الفترة التي تلت المناداة بولاية محمد علي صراعا عنيفا بين «مسيت» و«دروفتي»، بدأ كحلقة من حلقات التنازع بين إنجلترة وفرنسا على النفوذ في مصر وفي صورته الأولى غير المتكافئة؛ بسبب إيجابية السياسة الإنجليزية وسلبية تلك الفرنسية، ثم اتخذ طريقا جديدا بعد ذلك بفضل ما طرأ من تبدل على السياسة الفرنسية المحلية نقلها من سلبيتها السابقة إلى محاولة التدخل تدخلا إيجابيا في شئون البلاد والتأثير على مجريات الحوادث بها، فصار النزاع بين الفريقين متكافئا، واتخذ في مرحلته الحاسمة صورة النضال من أجل تأييد الألفي كما فعل «مسيت» أو تأييد محمد علي كما فعل «دروفتي».
وأفاد محمد علي من هذا الصراع فائدة كبرى، بفضل ما كان لنصيره «دروفتي» من صفات المهارة الفائقة والنشاط الجم، والجرأة البالغة التي ميزته عن خصمه، وضمنت له التفوق عليه، وجعلته يبتدع سياسة إيجابية محلية يمضي قدما في تنفيذها، ويتحمل وحده مسئوليتها، بينما كان «مسيت» بطيء الحركة، لا قدرة له على ابتكار الأساليب التي تمهد له طريق الفوز، أو تنفيذ الخطط التي يعهد بها إليه تنفيذا يكفل له النجاح، لا يتسع أفق تفكيره لإدراك ما يترتب على انقلاب مايو 1805 الذي أوصل محمد علي إلى الولاية من آثار لا غنى له عن إدخالها في حسابه إذا شاء رعاية المصالح الإنجليزية والحيلولة دون وقوع غزو أجنبي على مصر من ناحية فرنسا، هدف سياسة حكومته المباشر من كل نشاطها منذ جلاء جيشها عن مصر في 1803، بل فوت على نفسه وعلى حكومته الفرصة بسبب إصراره في عناد على مؤازرة المماليك والألفي، ومطالبته حكومته باحتلال الإسكندرية تمهيدا - كما أراد - لاحتلال مصر بأسرها، وذلك بدلا من تهيئة السبل لدعم أركان الحكومة القائمة وتقويتها بالدرجة التي تمكنها من الدفاع عن البلاد ورد الغزو الأجنبي عنها.
وقد خسر «مسيت» معركة تنازع النفوذ مع غريمه «دروفتي»؛ لأنه ألقى بثقله لترجيح الكفة الخاسرة كفة الألفي والمماليك عموما، وهم الذين فرقت بينهم الخلافات والأحقاد الشخصية، وسيطرت الأنانية على نشاطهم، ثم فات «مسيت» أن يدرك حقيقة على درجة عظيمة من الأهمية، هي أن الفصل في مصير هذه البلاد ارتهن في نظر الحكومة الإنجليزية بتطور النضال بينها وبين حكومة الإمبراطور الفرنسي، وعلاقة كل من هاتين الحكومتين بتركيا صاحبة السيادة الشرعية على مصر. وما كانت إنجلترة تريد احتلال مصر كجزء من خطتها العسكرية والسياسية الموضوعة وقتئذ، وما كانت لتؤثر بقاء قواتها في هذا البلد على استخدامها في ميادين أخرى إذا تبين لها أن مبعث الخطر الذي يتهددها ليس غزوا فرنسيا يقع على مصر ولكن سيطرة نابليون في أوروبا ذاتها.
ولقد أسدى «دروفتي» خدمات جليلة لمحمد علي أعانته بدرجة كبيرة على اجتياز الأزمات التي صادفتها حكومته في دور التجربة والاختبار الذي كان عليها أن تمر به، وكانت خصومة «مسيت» مبعث صعوبات عديدة له، وبينما حدث تنازع على النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي» عرفنا أسبابه وأصوله انفسح ميدان للنشاط الأجنبي في مصر عرف محمد علي كيف يفيد منه قبل كل شيء لزيادة التفرقة والانقسام بين المماليك وشك حركة بكوات الصعيد في الوقت الذي وجب عليه فيه أن يكرس كل جهوده لتخطي أزمة النقل إلى سالونيك بسلام أولا، ثم التفرغ لملاقاة الإنجليز الذين جاءوا لاحتلال الإسكندرية في عام 1807 ثانيا. (1) خصومة «مسيت» لمحمد علي
وينتمي «أرنست مسيت» إلى أسرة السير جون «ستيوارت» الذي حضر المكيدة المعروفة ضد البكوات في أكتوبر 1801، ثم أوفد في بعثته التي سبق الكلام عنها إلى تركيا وإلى مصر في عام 1802 وتولى مهمة إخلاء الجيش الإنجليزي للبلاد في مارس من العام التالي، وقد عمل «مسيت» ياورا للجنرال «ستيوارت»، وأوفده الأخير لمقابلة الألفي عند بركة غطاس قبيل معركة دمنهور (20 نوفمبر 1802) وبعدها، ثم إنه عندما وصله أمر حكومته بإبقاء ضابط مقيم بالقاهرة بعد رحيل الجيش البريطاني من مصر للاتصال مع ممثل الباب العالي بها ومع سفير بريطانيا في القسطنطينية، بشأن كل الأمور التي قد تتعلق بما نجم عن إقامة الجيش بالبلاد؛ أي فيما يتعلق بحكومة الباشا العثماني من جهة وبنشاط المماليك من جهة أخرى، وتعطيل المكائد الفرنسية من جهة ثالثة، فقد وقع اختيار «ستيوارت» على الميجور «مسيت» لملء هذا المنصب، وأبلغ الباشا العثماني وقتئذ، خسرو محمد نبأ هذا التعيين في 21 يناير 1803، وبعث إليه بمسيت حتى يبلغه ما لدى ستيوارت من تعليمات بشأن الجلاء، ورغبة حكومته في وجود مقيم لها بالقاهرة للأغراض السالفة الذكر، وحتى يشرف «مسيت» في الوقت نفسه وبصورة مؤقتة على مصالح بريطانيا التجارية في مصر وعلى شئون رعاياها أو الأجانب الذين هم تحت حمايتها، وقد رحب خسرو باشا 9 فبراير بوجود مقيم بريطاني في مصر له الاختصاصات التي ذكرها الجنرال «ستيوارت»، وسره أن يقع اختيار الأخير على الميجور «مسيت» للقيام بهذه المهمة؛ وعلى ذلك فقد بقي «مسيت» ضمن أعضاء البعثة التي تركها «ستيوارت» في مصر قبل مغادرته البلاد، وكانت تتألف - على نحو ما سبقت الإشارة إليه عند بسط السياسة الإنجليزية الإيجابية في مصر - من الكابتن هايز والسيد بريجز إلى جانب «مسيت» نفسه، وكانت مهمة الأخير إلى جانب ما ذكرناه حسبما جاء في تعليمات «ستيوارت» إليه في 8 مارس الوقوف على آراء خسرو محمد الباشا العثماني، في المسائل التي هي موضع اهتمام حكومة لندن، وفي 9 مارس أبلغ «ستيوارت» اللورد «هوبارت» نبأ تعيينه الميجور «مسيت» الذي قام بوظائف سكرتيره وكيلا بريطانيا في مصر.
وقد اعتبر وجود هذه البعثة المؤلفة من «هايز» و«مسيت» و«بريجز» ذا منفعة كبيرة في وقت كان من المنتظر أن يزول فيه بعد رحيل الجيش البريطاني من مصر مبعث الخوف الذي ظل يردع العثمانيين والمماليك أثناء وجود الإنجليز عن الانغماس في خصومتهم ضد بعضهم بعضا أو يخشى فيه أيضا من أن يتناسى هؤلاء تلك النصائح الثمينة التي حرص على إسدائها إليهم دائما قواد الحملة وكبار رجالها لإنهاء نزاعاتهم والتوفر على تمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الغزو الأجنبي.
وأما «مسيت» فقد اتخذ مقره بالقاهرة إلى أن انتقل في فبراير 1804 إلى الإسكندرية، ثم ظل يشغل منصب الوكيل البريطاني في مصر حتى أبلغه «أربثنوت» السفير الإنجليزي في القسطنطينية في 5 يونيو 1806، أنه قد جاءته من إنجلترة أوراق اعتماده (أي اعتماد «مسيت») قنصلا عاما لحكومة جلالة الملك في مصر، وأنه (أي «أربثنوت») قد نال تثبيت هذا الاعتماد من الباب العالي.
ورسخ في ذهن «مسيت» لتأثره بآراء العسكريين والسياسيين الإنجليز الذين عنوا بموضوع الدفاع عن مصر بعد جلاء جيشهم عنها، ثم بما بذل من جهود سواء في القاهرة أو في القسطنطينية لإنهاء النزاع بين الباب العالي وبين البكوات المماليك لإمكان ترتيب هذا الدفاع، أن الأخيرين وحدهم هم الذين في استطاعتهم إذا استرجعوا سلطانهم القديم في حكم هذه البلاد رد الغزو الأجنبي الفرنسي عنها، ولم يفد تطور الحوادث شيئا في زحزحة «مسيت» عن اعتقاده، بل على النقيض من ذك كان يتزايد عناده بدرجة توفر الأدلة على أن المماليك لن ينجحوا في إنشاء حكومة ثانية في مصر، ويبدو أن هذا العناد قد استبد به حتى إنه أفقده القدرة على وزن الأمور وزنا صحيحا وجعله ينخدع بظواهرها في أحايين كثيرة، وكان - علاوة على ذلك - من أهم بواعث حقده على محمد علي.
وظهر عجز «مسيت» عند أول أزمة صادفته بعد تسلمه مهام منصبه في القاهرة، عندما طرد خسرو باشا من الولاية وأعلنت قائمقامية طاهر باشا، وقد كان ما حدث عصيانا ظاهرا على الباب العالي الذي أقصى ممثله الشرعي عن الحكم، ومع ذلك فقد كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في 8 مايو 1803 يصف مركزه بأنه صار دقيقا؛ لأنه لا يدري هل يعتبر طاهر باشا عاصيا على الدولة أم من رعاياها المخلصين؟
بيد أن مقتل طاهر باشا بعد قليل أغنى «مسيت» عن الفصل في هذه المسألة، ولو أن الحوادث ما لبثت أن تلاحقت بسرعة بعد ذلك إثر بعضها بعضا حتى شهد «مسيت» تأسيس الحكومة الثلاثية في القاهرة من البرديسي وإبراهيم ومحمد علي، ومع أنه توقع أن تنفصم عرا الاتحاد بين البكوات وبين الأرنئود وزعيمهم محمد علي قبل مضي وقت طويل، فإنه لم يتخذ للأمر عدته؛ فلم يفلح في استمالة البكوات أصحاب السلطة في القاهرة، وهم الذين اعتقد «مسيت» أنهم على صلات وثيقة بالوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» ويؤيد عثمان البرديسي على وجه الخصوص المصلحة الفرنسية، ولم يفلح في كسب ثقة محمد علي والأرنئود وهم القوة العسكرية التي استندت عليها الحكومة المملوكية والتي دلت حوادث إخراج أحمد باشا والي المدينة وينبع من البلاد ودعوة البكوات أنفسهم لتسليم مقاليد الحكم في القاهرة على أنهم قوة ذات أثر في الموقف لا يجوز إغفالها، زد على ذلك أن البكوات بنزاعهم مع علي باشا الجزائرلي الذي تعين لباشوية القاهرة كانوا عصاة وثوارا على الباب العالي، ولكن «مسيت» بقي بالقاهرة، واستأثر بانتباهه الموضوع الذي شغله دائما وهو ترتيب الدفاع عن مصر، فقد علم بأن إنجلترة أعلنت الحرب في 16 مايو 1803 على فرنسا وهولندة والجمهورية الإيطالية ومملكة أتروريا ، فبعث بهذا الخبر إلى حكومة الهند، وصار - كما قال في رسالته إلى «هوبارت» من القاهرة في 8 يوليو يشير بشدة على البكوات بأن يضعوا قوات قادرة على الدفاع في كل من دمياط ورشيد، وبأن يشرعوا فورا في إصلاح قلعة أبي قير المهدمة، مبينا لهم ضرورة هذه الخطوات التي يتسنى عند اتخاذها دفع الغزو الفرنسي عن البلاد، وهو غزو من المحتمل وقوعه إذا أفلت الفرنسيون من مراقبة أسطول الإنجليز اليقظة.
ولما كان عثمان البرديسي يبذل جهده في هذه الآونة لإغراء «ماثيو لسبس» على ترك الإسكندرية والمجيء إلى القاهرة ويؤكد له صداقته للأمة الفرنسية، وكانت الحكومة الثلاثية علاوة على ذلك مشغولة بمطاردة خسرو وتدبر أمر علي الجزائرلي؛ فقد تلقى البكوات مشورة «مسيت» بالاحترام، ووعدوه باتباع نصائحه، ولكن «مسيت» كان يعلم أنهم لن يفعلوا شيئا مما أشار به عليهم، واعترف بشعوره أنه لا يصح الاعتماد على أقوالهم كثيرا، وتوقع لذلك أن العدو أو الفرنسيين سوف لا يجدون صعوبة تذكر إذا حاولوا وقتئذ فتح هذه البلاد، وتحير «مسيت» في أمره، كيف يكسب البكوات في القاهرة إلى جانبه؟ فهداه تفكيره - على نحو ما ذكر في رسالة أخرى للورد «هوبارت» في اليوم نفسه - أن المال ومظاهر الثراء هما اللذان يكفلان نجاح الدولة الأجنبية في بلدان الشرق فيقول: إن عملاء أو وكلاء الدول الأجنبية في مصر يمارسون التجارة مما يعود عليهم بأرباح مالية طائلة، ويجعل لهم أصدقاء من بين المتصلين برجال الحكم، فيتمتعون لذلك بنفوذ لا يمكن أن يكون لهم إذا هم اقتصروا على استخدام الوسائل الشريفة في نشاطهم فحسب، زد على ذلك أن هذا الثراء يكسبهم فخامة المظهر الذي يتزايد أيضا بنسبة نفوذهم، وللثروة في البلاد الشرقية القدرة على إرغام الناس على احترام أصحابها، وليست لي هذه المزايا، وبدونها لا يمكن أن يصبح لي نفوذ على البكوات في تشكيل آرائهم أو لمحاولة معرفة أغراضهم، وللوصول إلى ذلك أهمية كبرى في هذه الظروف وبخاصة إذا أرسل الباب العالي ضدهم جيشا إلى مصر.
وقد يكون هذا التفسير الذي علل به «مسيت» انعدام أي نفوذ له على بكوات القاهرة أو عدم احترام هؤلاء له صحيحا، ولكن الثابت أن مبعث ازدراء هؤلاء له وخصوصا عثمان البرديسي إنما كان سوء تصرف «مسيت» أثناء مهمة «فشنتزو تابرنا» الذي أوفده السير «ألكسندر بول» سكرتيرا لبعثة الميجور «مسيت» لجس نبض البكوات فيما يتعلق بتنفيذ مشروع «بول» الخاص بالدفاع عن مصر، فقد أفهم «مسيت» البكوات أن «تابرنا» مزود بسلطات من الحكومة الإنجليزية لعقد اتفاق مع هؤلاء لمساعدتهم في تحصين الشاطئ المصري والدفاع عن البلاد وأن في وسع البكوات أن ينتظروا كل معاونة من مالطة، حتى إن هؤلاء ما لبثوا أن أوفدوا سليم أفندي مندوبا عنهم للمفاوضة وإبرام الاتفاق مع السير «ألكسندر بول» في مطالة، ولكن فشل سليم أفندي في مهمته للأسباب التي ذكرناها في موضعها جعل البرديسي يعتقد - كما قال «لسبس» في رسالته إلى «تاليران» في أول ديسمبر 1803 - أن «مسيت» قد خدعه فأساء البكوات معاملة «مسيت» ومنعه كبرياؤه من ذكر ذلك في رسائله إلى حكومته، ولو أنه اعترف في رسالته إلى اللورد «هوبارت» في 11 فبراير 1804 - وقد أشرنا إليها عند الكلام عن سوء الحكم والإدارة في عهد الحكومة الثلاثية - بأنه اضطر إلى مقاومة لغة التهديد التي خوطب بها بإظهار عزمه على إطلاق النار على كل من تحدثه نفسه باقتحام منزله عليه مهما كانت مرتبته، كما اختتم رسالته هذه بقوله إنه وجد بقاءه بالقاهرة غير مأمون العواقب، وإنه لذلك سوف يغادرها حالا إلى الإسكندرية، وقد غادر القاهرة فعلا في 23 فبراير 1804.
وكان مما نفر البكوات منه وزاد البرديسي اعتقادا بأنه إنما يبغي التدليس عليه وخديعته، أن «مسيت» باعترافه هو نفسه بينما كان يؤكد للأهلين عدم احتمال مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد راح يؤكد للبكوات أن الغزو الفرنسي أمر مفروغ منه وواقع لا محالة، وقد حاول «مسيت» تبرير مسلكه الخاطئ هذا بقوله - في رسالته إلى «هوبارت» من الإسكندرية في 27 فبراير - إنه كان يهدف إلى منع الأهلين من تشجيع الوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» على المضي في دسائسه ومكائده، وهو الذي يعتبر بطبيعة الحال أن صداقة شعب لحق به الأذى قد يصبح عاملا قويا في إمكان تحقيق مشروعات الجمهورية الفرنسية، ومع أن الألفي منافس البرديسي وغريمه كان قد عاد من سفارته إلى لندن مؤيدا من الإنجليز، فقد خيل إلى «مسيت» أن بوسعه استخدام لغة الوعد والوعيد مع البرديسي حتى يجذبه إلى تعزيز المصالح البريطانية، فذكر في كتابه إلى «هوبارت» في 22 فبراير؛ أي قبل مغادرته القاهرة بيوم واحد أنه أبلغ «تابرنا» بسبب ما فعله البرديسي مع الألفي ومطاردته له أن يذكر للبرديسي إذا تحدث هذا عن صداقته لإنجلترة أن الواجب يقتضيه إقناع العالم بأن ما فعله مع الألفي لم يكن الغرض منه مهاجمة النفوذ الإنجليزي بطريق غير مباشرة، وأن عليه أن يرفض كل علاقة مع فرنسا، وأنه لا يكفي أن يتخذ - وكما فعل حتى الآن - موقف حياد يجعله صاحبه موضع شكوك كثيرة، بل من المنتظر منه أن يؤيد بحرارة قضية الإنجليز ويبذل قصارى جهده حتى يجعل أية محاولة تأتي من جانب فرنسا لغزو مصر أمرا متعذرا وغير عملي.
وقال «مسيت» يفسر سياسته هذه: إن غرضه من جعل عثمان البرديسي نهبا بين بواعث الخوف والرجاء أن يترك لحكومة صاحب الجلالة البريطانية الميدان فسيحا إذا وجدت من المناسب اتخاذ إجراءات نشيطة ضد هذا البك دون أن يكون له وجه حق في الشكوى من ذلك، ثم منعه في الوقت نفسه من الارتماء في أحضان فرنسا. وغني عن البيان أن هذا الأسلوب لم يردع عثمان البرديسي، بل حاول الأخير أن يتخذ من تصريحات وبلاغات «تابرنا» و«مسيت» ذريعة لإقناعهما بضرورة تخلي الحكومة الإنجليزية عن مؤازرة الألفي، وكان من السهل عليه للوصول إلى هذه الغاية أن يؤكد لهما صداقته لبريطانيا، بينما ظل يناصب العداء صديق بريطانيا وحليفها الألفي، ولا يمتنع عن فرض الإتاوات على الرعايا والمحميين البريطانيين.
ثم ظهر عجز «مسيت» وقصور نظره في علاقته مع الأرنئود ومحمد علي، فقد توهم أن هؤلاء ليسوا سوى مرتزقة في خدمة البكوات، وما إن أبدى له محمد علي في نوفمبر 1803 رغبته في العودة إلى بلاده وعلى ظهر سفينة إنجليزية - لأنه كما قال لا يطمئن على سلامته إذا نقلته سفينة عثمانية - حتى اعتقد «مسيت» أن محمد علي والأرنئود قد صاروا في متناول يده، ثم اطمأن خاطره عندما تقلد خورشيد باشا الولاية بعد طرد حكومة البكوات من القاهرة؛ لأن خورشيد كان قد قبل مساعدات مالية من «بريجز» نائب القنصل البريطاني في الإسكندرية، ولأن «مسيت» - كما اعتقد - قد ساهم بقسط كبير في التدابير التي انتهت بتنصيب خورشيد، وعقد آمالا كبارا على تعزيز الدفاع عن البلاد على يد خورشيد وبمعونة الإنجليز ضد الغزو الفرنسي، ولكن هذه الآمال سرعان ما انهارت، عندما تبين له أن خورشيد ليس سوى صورة مزخرفة في يد محمد علي يحركها كيفما يشاء، وتبين له علاوة على ذلك أن محمد علي والأرنئود ليسوا أدوات في يده، فصدمته هذه الحقائق، وراح يكتب إلى «هوبارت» في 18 مارس 1804 أن الأرنئود قد تجاوزوا كل الحدود، وصاروا لا ضابط لهم منذ أن طرد المماليك من القاهرة، وأنهم سوف ينشرون الخراب والدمار في طول البلاد وعرضها، وأنهم وقد جمعوا ثروات طائلة قد يؤثرون مناخ مصر الطيب على العيش بين جبال ألبانيا الوعرة.
ومنذ أن بدأ يعلو نجم محمد علي رويدا رويدا، وصار القوة الفعالة أيام خورشيد، واتضح أن هناك صعوبات جسيمة تحول دون إنشاء حكومة مملوكية بزعامة الألفي، وأن أمن البلاد وسلامتها قد صارا مهددين في نظر «مسيت» وأن الفرنسيين لذلك كله سوف لا يلقون أية مقاومة عند غزوهم لمصر، حقد «مسيت» على محمد علي، وتزايد حقده عليه بتوالي الأيام، وبالرغم مما بذله محمد علي من محاولات لاسترضائه على أمل أن يكسب بفضل ذلك مؤازرة الحكومة الإنجليزية له، وسهل على «مسيت» تحت تأثير هذا الحقد أن يؤكد للورد «هوبارت» في 12 مارس 1804 أن محمد علي قد باع نفسه لفرنسا، وأنه حتى يخدم مصالحها قد يحرض الأرنئود على طرد المماليك من القاهرة ورشيد ودمياط، وظل يؤكد له - في 28 مايو - أنه وقد رشاه الوكيل الفرنسي صار من المنتظر أن يعمل على مقاومة كل إجراء يهدف إلى إنشاء حكومة مستقرة قوية في مصر، ثم أكد أن محمد علي رجل لا مبدأ له، ذكر له - كما كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في 10 أغسطس - أنه إنما يخدم الدولة التي تدفع ثمنا أعلى لخدماته، ولما كان محمد علي يبذل قصارى جهده ليصبح سيدا على مصر وحاكما لها، فقد رجا «مسيت» اللورد «هوبارت» في رسالته هذه أن تتدخل الحكومة الإنجليزية لدى الديوان العثماني حتى يرفض هذا عروض محمد علي الخادعة.
على أن موقف «مسيت» العدائي من محمد علي لا يلبث أن يتضح إذا عرفنا أن الفكرة المسيطرة على ذهنه ظلت دائما - وكما أوضحنا سابقا - أن يحتل الإنجليز هذه البلاد، الأمر الذي لا يمكن أن يتم في نظره إلا إذا تأسست حكومة مملوكية في مصر، وعلاوة على ذلك فقد أعوزت «مسيت» الصفات التي تمكنه من إدراك مغزى الانقلابات التي حدثت، وصفه «ماثيو لسبس» في خطاب له إلى «جوبير» في 14 نوفمبر 1804 بأن له من المزايا ما يجعله رجل مجتمع من أعلى طراز، ولكنه سياسي من الصنف المتوسط قليل الذكاء، لا يعرف كيف يدبر خطة ذات هدف معين، أو ينفذ ما يعهد إليه من خطط، فلم يتعد نشاطه إرسال عرائض الألفي إلى القسطنطينية أو النصح لخورشيد بأن يطلب من الديوان العثماني نقل محمد علي من مصر، واعتقد أنه نال ظفرا عظيما عندما كتب إلى «هوبارت» في 13 أغسطس 1804 يبلغه نجاح مساعيه في هذه المسألة مع خورشيد وتعيين محمد علي لباشوية سالونيك بناء على توصية خورشيد، وكان «مسيت» سباقا للحوادث وقت إعلان ارتياحه لنيل مأربه وتهنئة نفسه على ما أحرزه من نجاح موهوم؛ لأن محمد علي بقي في مصر ولم يبرحها.
ومع أن «مسيت» عاد فأكد لهوبارت في 28 أبريل 1805 أن محمد علي صار الآن لا يخفي مطامعه في الولاية، وذلك بمناسبة عودته من الصعيد عقب استقدام خورشيد للدلاة لتعزيز حكومته وللتخلص من الأرنئود، ثم كتب أنه كان لدعوى محمد علي أنه إنما يبغي المطالبة بمرتبات الجند المتأخرة من القوة الجارفة ما جعل هؤلاء الدلاة الذين كان الغرض استخدامهم كمعول لهدم محمد علي ينقلبون الآن لتأييد قضيته، وعلم بتدخل أو وساطة المشايخ في هذه الأزمة، فقد فاته إدراك جسامة الخطر المحيق بولاية خورشيد، وظل يتحدث تارة عن الغزو الفرنسي وسهولة استيلاء الفرنسيين على البلاد بسبب ضعفها، وعن وجود أو عدم وجود معاهدة بين محمد علي والألفي تارة أخرى، وعن مسعى خسرو باشا وهو بكريت من أجل العودة إلى مصر تارة ثالثة، وعن عزم الألفي على إرسال مندوب من قبله إلى السفير الروسي في القسطنطينية يطلب وساطته لدى الباب العالي، ومر انقلاب مايو 1805 دون أن يبعث إلى حكومته بشيء عن أسباب هذا الانقلاب أو تفاصيله حتى يوم 28 مايو، ورأى عندئذ أن ينهي القول في هذا الحادث الهام بأن يعزو ببساطة كل ما وقع إلى تأثير الوكلاء الفرنسيين على محمد علي وتشجيعهم له على المضي في أطماعه التي راح «مسيت» يتغنى بما كان له من فضل كشفها من مدة طويلة سابقة، فقال في رسالته إلى «هوبارت» في 28 مايو: إنه يظن أن واجبه يقتضيه أن يذكر للورد «هوبارت» أن محمد علي كان قد طرد في العام الماضي بتحريض من الوكيل الفرنسي المماليك من القاهرة؛ لأن المفروض أنهم كانوا منحازين إلى جانب المصلحة البريطانية - وتلك مغالطة ظاهرة - وأن محمد علي قد استمر من ذلك الحين يتراسل مع وكلاء فرنسا في هذه البلاد وفي القسطنطينية، وأنه لو حدث أن ثبت محمد علي في الولاية التي اغتصبها لنفسه اغتصابا فسوف يعزو ذلك بدرجة ما إلى وساطة فرنسا إلى أن قال: ولما كنت من زمن طويل مضى قد اكتشفت نوايا محمد علي وأطماعه في ولاية مصر، فقد وجدت لزاما علي بالرغم من علاقاته مع فرنسا أن أظل على صلات طيبة في ظاهرها معه، ولقد تلقيت منه منذ تقلده منصب الولاية عدة رسائل مليئة بالملق والمداهنة؛ ولذلك فإذا تسنى له (أي لمحمد علي) النجاح في نضاله مع خورشيد، فقد لا يكون مستحيلا إقناعه بأنه ولو كانت قد ساعدته حتى هذه اللحظة دسائس الفرنسيين والفوضى التي أوجدها هؤلاء على تحقيق مآربه، فقد صار من صالحه وقد ملك الآن السلطة العليا في البلاد أن يقاوم مشاريع الفرنسيين المعروفة ضد مصر؛ أي غزوها.
ذلك كان تفسير «مسيت» لانقلاب 13 مايو 1805 وموقفه منه، وإن دلت رسالته هذه إلى «هوبارت» على شيء فإنها تدل على عجز «مسيت» عن تدبير خطة ذات هدف معين أو تنفيذ ما يعهد إليه به من خطط على نحو ما ذكره «ماثيو لسبس»، ثم على أنه سياسي من الصنف المتوسط قليل الذكاء، آية ذلك أنه ظل راسخ الاعتقاد بأن وجود محمد علي ونشاطه هما مصدر الفوضى المنتشرة في البلاد وأسباب عجزها عن الدفاع عن نفسها، وأن هذا الانقلاب الخطير إنما حدث بتحريض من الوكلاء الفرنسيين، وقد جعله عناده في خصومته لمحمد علي يرى في محاولات هذا الأخير لاستمالته ملقا ومداهنة فحسب، ولعل هذا الاعتقاد الذي رسخ في ذهنه إلى جانب ما استقر في ذهنه من اعتقادات أخرى تدور حول ضرورة إبعاد محمد علي والأرنئود وتأسيس حكومة مملوكية تمهد للاحتلال البريطاني في مصر هو ما حدا بمسيت إلى أن يسلك في علاقاته مع محمد علي طريق المراوغة والنفاق بعد ذلك.
وهكذا فإنه بينما كان يقع بالقاهرة انقلاب 13 مايو وما صحبه من اعتصام خورشيد بالقلعة وانتشار الاضطرابات والقلاقل نتيجة لذلك، كان «مسيت» في الإسكندرية يسعى لإشعال الفتنة بها ولزيادة الفوضى حدة على حدتها بترويج الإشاعات عن قرب مجيء حملة إنجليزية إلى مصر، وتوزيع الأموال لتدبير المظاهرات الصاخبة، غرضه من ذلك تهيئة الرأي الإسكندري لقبول فكرة احتلال الثغر بجند بريطانيين، ثم إنه صار يبذل قصارى جهده كي ينفر السلطات العثمانية والبكوات المماليك من الفرنسيين، ويصرف الأهلين ورؤساءهم عن تأييد المصلحة الفرنسية، وكان في هذه الفترة أن بدأ «مسيت» محاولاته لكسب الشيخ محمد المسيري إلى جانبه؛ ولهذا الشيخ نفوذ كبير على الأهلين، وهو معروف بميوله الفرنسية، وقد فصل «دروفتي» كل هذا النشاط في رسالة بعث بها إلى «باراندييه» في 6 يونيو 1805، جاء بها أنه قد تعالت الهتافات في الإسكندرية يوم 4 يونيو بحياة السلطان جورج، يهتف بها - كما قال - العربان الذين يوزع الوكلاء الإنجليز عليهم المال من أجل تحريك الشعب وحضه على الهتاف بحياة ملك بريطانيا، وأكد «دروفتي» علاوة على ذلك، أن ابن الشيخ المسيري قد حضر مأدبة غذاء عند «مسيت» وقال: إن الوكلاء الإنجليز يريدون كسب هذا الشيخ الذي أظهر حتى هذا الوقت ميلا نحو الفرنسيين وحكومتهم إلى جانب الإنجليز، ولقد نال هذا الشيخ صاحب السيطرة التامة على الرأي العام بالإسكندرية هدايا كثيرة من الإنجليز، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وقد لا يرسل الإنجليز حملة إلى مصر، ولكن وكلاءهم هنا مكلفون - على ما يبدو - بإعداد الرأي العام لقبول مثل هذا الحادث إذا دعت ظروف الحرب إلى جعل احتلال البريطانيين لهذه البلاد أمرا لا مفر منه. ومن حيث الدعاية التي روجها «مسيت» ضد الفرنسيين، عمد الوكلاء الإنجليز إلى جلب طائفة من الصحف الأوروبية التي ظهرت حديثا واشتملت على مقالات مأخوذة من كتيب نشر في باريس لا تتحدث حديثا طيبا عن الضباط الأتراك، ثم صاروا يرسلونها إلى معسكر البكوات ويضعونها تحت أنظار العثمانيين بالإسكندرية، الأمر الذي لم يشك «دروفتي» لحظة في أنه يبعث على تذمر هؤلاء جميعا ويسيء إلى المصالح الفرنسية في هذه البلاد.
ثم إنه ما لبث أن جد بعد حادث انقلاب 13 مايو ما جعل غضب «مسيت» ونقمته تتزايد على محمد علي، وذلك عندما صار هذا يفرض الإتاوات على المحميين البريطانيين في القاهرة ورشيد، وانتهز فرصة وجود القبطان عبد الله رامز باشا الذي حضر لإنهاء النزاع بين خورشيد ومحمد علي، فقدم إليه شكاواه من محمد علي، وكتب إلى «ستراتون» من الإسكندرية في 7 سبتمبر 1805 أن القبطان باشا قد أعطاه خطابا إلى محمد علي يطلب منه إطلاق سراح المحميين البريطانيين الذين قبض عليهم محمد علي في القاهرة لامتناعهم عن دفع الإتاوة المطلوبة منهم، ثم استطرد «مسيت» يقول: وليست هذه بالمرة الأولى التي يفرض فيها محمد علي مثل هذه الإتاوات على المحميين البريطانيين، فقد طلب في شهر يوليو الماضي من المحميين في رشيد خمسة وعشرين كيسا، ولكن «مسيت» استصدر أمرا من القبطان باشا إلى حاكم رشيد حتى لا يتعرض لهم بشيء، ولما كان محمد علي وقتئذ لم يستقر بعد في كرسي الولاية فقد امتنع عن مطالبتهم، وأما الآن فالموقف يختلف تماما؛ لأن خورشيد قد سلم القلعة، ولأن المماليك لا يحاصرون اليوم القاهرة، ولأنه لم يبق هناك منافس لمحمد علي، وليس لدى القبطان باشا من السلطة ما يدعو لوجوب إطاعته، ثم شكا «مسيت» إلى «ستراتون» كذلك بعد ثلاثة أيام فحسب من رسالته السابقة إليه، من أن محمد علي يسيء معاملة الأوروبيين في القاهرة ورشيد ودمياط، ولا يستثني من هذه المعاملة السيئة سوى الفرنسيين الذين يظهر نحوهم عطفا خاصا، آية ذلك أنه عين سيئ السمعة الفرنسي «روير»
Royer
طبيبا خاصا له وهو الطبيب الذي قال عنه «مسيت»: إنه أعطى السم لمرضى الجنود الفرنسيين في مستشفى يافا أثناء حملة بونابرت المعروفة في سوريا.
وأفصح «مسيت» عن آرائه في محمد علي في كتاب مطول بعث به إلى اللورد «كامدن» من الإسكندرية في 18 سبتمبر، ذكر فيه - الحوادث التي ذكرناها - إظهار محمد علي لميوله الودية نحو الفرنسيين واستثناءهم من المعاملة السيئة التي يلقاها على يده سائر الأوروبيين، وتعيينه للفرنسي «روير» طبيبا له، وهي أمور قال «مسيت»: إن محمد علي قد استرشد فيها جميعها بآراء وتوجيهات الوكيل الفرنسي، ثم تحدث «مسيت» عن الإجراءات التي اتخذها لمقاومة حكومة محمد علي، ومقاومة النفوذ الفرنسي تبعا لذلك، فقال: ولما كان (أي «مسيت») يخشى من أن يرى الإسكندرية تقع في يد محمد علي وهو رجل يؤيد - كما هو ظاهر - المصالح الفرنسية، فقد تحدث في هذه المسألة مع القبطان باشا الذي لا يزال موجودا بالإسكندرية ومع حاكم المدينة أمين أغا أو أمين قبطان الكريتلي، وقد جعلهما يعترفان بأن هذه المدينة سوف تتحول إلى صحراء قاحلة إذا وقعت في قبضة الأرنئود، ثم أخذ يشرح لهما بعد ذلك بإيجاز الخطوات الإجرامية التي رفع محمد علي بفضلها نفسه إلى منصب الولاية في مصر، وطفق يقيم لهما الأدلة والبراهين على أنه منذ أن استولى على هذا المنصب، قد أظهر نواياه في الاستقلال عن الباب العالي، ثم اختتم حديثه معهما بأن أوضح لهما أن واجب الولاء لحكومتهما يقتضيهما أن يمنعا الإسكندرية من محمد علي؛ حيث إنه طالما بقيت هذه خارجة عن سلطانه فإنه لا يكون متهورا بالدرجة التي تجعله يرفع راية العصيان ضد الباب العالي، وأما إذا سقطت الإسكندرية في يده فهو على العكس من ذلك سوف يتمكن من تحدي كل قوات الإمبراطورية العثمانية، ثم راح «مسيت» يقول: وقد اعترف قومندان الإسكندرية الذي هو في الوقت ذاته قومندان السفن التركية في هذا الموقع بصحة ما أبداه من ملاحظات، وأظهر استعداده لقبول أية خطة تعرض عليه تكون ذات نفع لتحقيق هذه الغاية، ولم يكتف «مسيت» بمسعاه لدى القبطان باشا وحاكم الإسكندرية، بل استمال إليه الشيخ محمد المسيري كبير العلماء في الثغر والذي يثق فيه الأهلون - كما قال «مسيت» - ثقة كبيرة لا حد لها، فأعلن الشيخ للقبطان باشا أنه إذا خوله هذا الأخير مقاومة الأرنئود استنفر الأهلين، وتزعمهم بنفسه لمنع الأرنئود من دخول الإسكندرية، ولكن القبطان باشا رفض إعطاء الشيخ المسيري التفويض المطلوب، وعزا «مسيت» ذلك إلى ما يناله القبطان من هدايا ثمينة من محمد علي وتوقعه الظفر بهدايا أخرى قبل رحيله من الإسكندرية، حتى صار لا يريد تكدير محمد علي بمنع جنده من الدخول إلى المدينة، مع اعترافه بأنهم لو دخلوها لترتب على ذلك نتائج سيئة تلحق الأذى بمصالح الباب العالي؛ وعلى ذلك، فقد اكتفى القبطان باشا بأن أكد للشيخ المسيري أنه قد كتب إلى القسطنطينية ليحصل منها على فرمان يعلن بقاء الإسكندرية تحت إشراف البحرية السلطانية المباشر؛ حيث إنها قاعدة بحرية، وأن تتألف حاميتها من الجنود والبحارة دون جنود الجيش، واعتقد «مسيت» أن هذا الحل الذي ذكره القبطان لا يعدو أن يكون وسيلة للمراوغة والتهرب؛ لأن القبطان يعرف جيدا أنه بمجرد مغادرته الإسكندرية سوف يستولي الأرنئود عليها، زد على ذلك أن «مسيت» يعرف أن القبطان باشا ينوي مبارحة الإسكندرية في بداية الشهر المقبل أي في وقت يستحيل فيه أن يكون قد وصله جواب الديوان العثماني على رسالته التي قال إنه بعث بها إلى القسطنطينية في 14 سبتمبر، وقد خلص «مسيت» من ذلك كله إلى النتيجة التي يخشاها ، وهي أنه سوف يكون بالإسكندرية في أقل من أسبوعين حامية من الأرنئود، لا شك في أن التعليمات التي سوف يكون رئيسها مزودا بها هي أن يتبع إرشادات الوكيل الفرنسي في كل مناسبة، ثم بنى «مسيت» على هذه النتيجة المطلب الذي استحوذ على لبه دائما وهو إرسال فرقاطة إنجليزية إلى الإسكندرية لحمايتها، وهي قوة وإن كانت لا تسد الحاجة إلا أنها تكفي لتخويف الحامية وتعزيز النفوذ البريطاني في مصر.
وفي 22 سبتمبر شكا «مسيت» مرة أخرى للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية «أربثنوت» من محاولة محمد علي حمل القناصل على دعوة رعاياهم للاكتتاب بسلفة من تسعمائة كيس بضمانة الجمارك، وهو قرض امتنع عن المساهمة فيه بيت بريجز التجاري، كما قال «مسيت» إنه جعل محمد علي يشعر بعجزه عن إرغامه - بوصفه أحد القناصل - على دعوة الرعايا أو المحميين البريطانيين إلى الاكتتاب في هذا القرض، وتوقع أن يحذو سائر القناصل حذوه ما دام القبطان باشا لا يزال موجودا بالإسكندرية، ثم استطرد يقول: ولكنه من المنتظر إذا دخلت الإسكندرية في حوزة محمد علي أن يعمد هذا إلى معاملة الأوروبيين كما يشاء ويهوى، وعندئذ سوف يجد الفرنجة أن لا معدى لهم عن ترك مصر والرحيل عنها.
ثم إن «مسيت» لم يكتف بمقاومة حكومة محمد علي وتعطيل نشاطها، بل صار يشوه سمعته بكل ما لديه من وسائل، فكتب إلى السير «ألكسندر بول» في مالطة في 22 سبتمبر: أن الوجه البحري قد دان الآن لسلطان رجل يخلص الإخلاص كله لفرنسا ويدعوه أن يقتنع بضرورة إرسال فرقاطة إلى الإسكندرية، وأن يستخدم كل نفوذ له لدى إمارة البحر الإنجليزية للموافقة على ذلك، وشرع «مسيت» يبرر مطلبه هذا بما يفعله محمد علي مع الأوروبيين فقال: وسوف لا أحاول وصف الفظائع جميعها التي وقعت في هذه البلاد منذ أن تسلم محمد علي زمام الحكم، فقد صار السجن مثوى عديدين من كل الطبقات، ومن غير استثناء أولئك الذين تشملهم الحماية الأوروبية، وقد ضرب هؤلاء بالهراوات الغليظة (النبابيت) وعذبوا عذابا أليما لحملهم على كشف المخابئ التي أخفوا فيها أموالهم، حتى إن آباء كثيرين اضطروا تحت هذا الضغط إلى بيع أولادهم.
وقد يكون بسبب حاجته الملحة إلى المال، وعناد هؤلاء المحميين من بريطانيين وغيرهم وإصرارهم على الامتناع عن الدفع أن ألقى محمد علي بهؤلاء في السجون، ولكن أحدا من المعاصرين لم يذكر أن المحميين قد ضربوا بالنبابيت أو أنهم اضطروا إلى بيع أولادهم لتأدية مطالب الحكومة أو لدفع الإتاوات التي فرضها عليهم، ولو أن هذا لا ينفي وقوع اعتداءات معينة على هؤلاء في وقت كان لا يزال الباشا فيه عاجزا عن ردع الجند وكبح جماحهم، وتعرض أهل القاهرة حينذاك لأذاهم، ولا جدال في أن ما يكون قد لحق بالمحميين من أذى إنما حدث دون علم الباشا، بل إن «مسيت» عندما كتب إليه من الإسكندرية في 27 سبتمبر يحتج في غضب شديد على سوء المعاملة التي يلقاها المحميون، لم يذكر من صنوف التعذيب الذي تعرضوا له سوى الحبس والإهانة، والإجراءات أو الوسائل الشديدة التي اتخذت ضدهم، وقد استند في احتجاجه هذا على ما هنالك من قوانين وامتيازات مبرمة بين الباب العالي وإنجلترة، وما يسود من صداقة بين الدولتين، وأن الرعايا الإنجليز والمحميين البريطانيين في مصر ليسوا من أغنياء القوم، ثم إنه لم يفت «مسيت» وهو بمعرض هذا الاحتجاج بعد أن حمل الباشا مسئولية كل هذا أن يؤكد له أن أولئك الذين ينصحونه باتخاذ هذه الإجراءات الشديدة (ويعني بذلك الوكلاء الفرنسيين) ضد الأوروبيين لا يبغون سوى استمرار القلاقل والاضطرابات في مصر حتى يسهل عليهم تنفيذ مشروعاتهم العدوانية ضد هذه المقاطعة.
وظل «مسيت» يردد نغمة التعذيب هذه فذكر لأربثنوت في 29 سبتمبر أن إنجليزيين يدعوان «فرر»
Farrar
قد قبض عليهما الجنود المسلحون في أحد شوارع القاهرة يوم 17 سبتمبر وأساءوا معاملتهما، ثم هددهما أحد ضباط الباشا بالتعذيب إذا لم يدفعا فورا مبلغ 2500 قرش، ولم يطلق سراحهما إلا بعد أن دفعا هذا المبلغ، واحتج «مسيت» على هذا الحادث ولكن دون جدوى، بل إنه كان يشك كثيرا في استماع محمد علي لصوت العدالة أو استرشاده بمبادئ السياسة الحكيمة ؛ لأن الجند حوله لا يزالون يطلبون في صخب شديد مرتباتهم المتأخرة، ثم انتهى من ذلك إلى النتيجة التي سجلها في كل رسائله تقريبا، فقال: وهكذا لك أن تستخلص مما تقدم أنه طالما بقي محمد علي محتفظا بهذه المقاطعة من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية فسوف يتعرض الأوروبيون عموما ورعايا صاحب الجلالة البريطانية خصوصا إلى شتى الإهانات بصورة دائمة؛ ولذلك أرجو أن ترى لماذا هو ضروري أن تستخدم نفوذك لدى الديوان العثماني لتحصل على نقله (أي محمد علي) وإبعاده من هذا المنصب أو الولاية.
وعندما أصدر الباب العالي أمرا بتثبيت أمين أغا حاكما على الإسكندرية المستقلة في شئونها عن باشوية مصر، وبمنع دخول أي جند إليها عدا أولئك الملتحقين بخدمته، أبدى «مسيت» مخاوفه من أن محمد علي سوف لا يرضى بحرمانه من هذا الميناء الهام، حيث يتعذر عليه بدونه تحقيق استقلاله عن الباب العالي، ثم أخذ يقيم الدليل على صحة ما ذهب إليه بقوله في كتابه إلى «كامدن» في 20 أكتوبر 1805 أن محمد علي قد استقدم من المورة عددا كبيرا من الأرنئود مع أن موارد هذه البلاد لا تكفي للإنفاق على حشد عظيم من الجند، وقد وصل كثيرون من هؤلاء الأرنئود إلى القاهرة متخفين في صور مختلفة، ثم إنه أنشا حرسا خاصا لنفسه يتألف برمته من الفرنسيين، ومع أنه لا وجود لما قد يجعله يخشى شيئا من المماليك على الأقل لمدة خمسة شهور مقبلة فقد شرع يبني مخازن السلاح والذخيرة في قلب القاهرة، وذلك احتياط لم يسبق أن لجأ إليه أحد من أسلافه الباشوات، ويكاد يكون غير معروف للأتراك عموما.
ولكن «مسيت» لم يفز ببغيته من حيث إقصاء محمد علي من الولاية، أو إنشاء الحكومة المملوكية في مصر، فقد أبحر القبطان باشا إلى القسطنطينية (12 أكتوبر)، وبقي الباشا في حكومة القاهرة، وصار لزاما على «مسيت» أن يستأنف مسعاه من جديد لتنحيته عن الولاية إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، ولاستمالة حكومته إلى إرسال قطع من أسطولها إلى مياه الإسكندرية وإقناعها إذا أمكنه بالموافقة على احتلال الإسكندرية تمهيدا لاحتلال مصر بأسرها؟ ثم إنه كان على «مسيت» أن يسدي كل عون لحزب المماليك الذي يترأسه الألفي حليف الإنجليز، واعتمد «مسيت» في مسعاه هذا على نفس الوسائل التي اعتمد عليها سابقا وهي تشويه سمعة محمد علي والطعن على حكومته، ومحاولة إقامة الأدلة والبراهين على أن هذه الحكومة العلوية هي مصدر الفوضى المنتشرة في البلاد والتي تعرض هذه لخطر الغزو الفرنسي، وتجعل احتلال الفرنسيين لها أمرا ميسرا، فضلا عن أن هذه الحكومة إذا بقيت سواء حدث الغزو الفرنسي - وهو ما قطع به «مسيت» - أو لم يحدث - وهو ما لم يأخذ به - فسوف ينهي بقاؤها كل نفوذ للإنجليز، ويقضي على مصالحهم في مصر؛ لأن الباشا مبيع للفرنسيين ويعمل دائبا على رعاية مصالحهم وتمكين نفوذهم.
وفي بداية عام 1806 استهل «مسيت» نشاطه ببسط احتمالات الموقف في مصر إلى حكومته في أول يناير، وقد جاء في رسالته هذه: أن محمد علي الذي تميزت الخطوات التي اتخذها من أجل الوصول إلى ذلك المنصب الرفيع الذي يشغله الآن بجرائم عديدة، والذي كشف في حالات كثيرة عن نواياه من حيث جعله نفسه مستقلا عن الباب العالي، إنما يخضع خضوعا تاما وكليا لنفوذ فرنسا، ولقد كان بناء على نصح وكلاء هذه الدولة له أن حرم محمد علي كل الفرنجة من جميع ما لهم من امتيازات تقريبا، ومن غير احترام لمعاهدات الامتيازات القائمة بين مختلف الدول الأوروبية وبين السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية عليه، ولا بد أن يعزى كذلك إلى نصح الوكلاء الفرنسيين إنشاء تلك الحكومة العاتية التي لا يستطيع المصريون احتمالها طويلا إلا إذا شاءوا إقامة الدليل على أنهم أذل وأتعس شعوب الأرض طرا، ومن جانبي لم أتوان لحظة عن بيان الحقيقة التالية لمحمد علي وهي أن أولئك الذين يسمح لهم بتقديم النصح له إنما غرضهم إحياء روح الانقسام التي سببت كل المساوئ التي نشكو منها، وأن يحملوه على اتخاذ الإجراءات التي تجعله مكروها من الأهلين، ولكن جهودي هذه وأحاديثي معه ذهبت جميعها سدى، فلما أن تبين لي عجزي عن حمله على إنهاء صلاته بفرنسا، وجدت لزاما علي أن أحول بينه وبين الاستيلاء على الإسكندرية، ويسرني أن أخبركم - ويخاطب «مسيت» في رسالته هذه اللورد «ملجريف»
Mulgrave
الذي خلف اللورد «هاروبي» في وزارة الخارجية منذ يناير 1805 في وزارة «بت»
- أني قد نجحت تماما في ذلك، فقد صدر فرمان بناء على طلب تقدم به الأهلون استجابة لالتماسي منهم ذلك يضع الإسكندرية وحصونها تحت حكم ضابط بحري مستقل تماما عن باشا القاهرة، ولقد عرض عليه أخيرا محمد علي عروضا جد مغرية حتى يستميله إلى قبول حامية ألبانية بها، وكاد نهم الحاكم وجشعه يلقيانه في الشرك الذي نصب له، ولكني ما إن أشعرته بأني أعده مسئولا عن كل ما ينجم من مساوئ عن نبذه لأوامر الباب العالي حتى رفض مقترحات محمد علي، ومع ذلك فالإسكندرية لا يحميها شيء يدفع عنها غائلة الغزو الأجنبي، فالقوة التي بها لا تزيد على ثلاثمائة رجل لا يكفون للدفاع عن حصون المنارة، وكفاريللي، وكريتان، والمثلث، والحمامات، ورأس التين، بالإضافة إلى جملة مواقع أخرى أقل أهمية، ويعوز الحاكم المال لدفع مرتبات الجند حتى انتشر التذمر بين رجال الحامية، كما أهملت التحصينات بسبب الحاجة إلى المال، ولا مخازن للذخيرة والمؤن بالإسكندرية، ومع أن هذه مفتاح مصر فإنها لا تحتمل حصارا يضربه عليها جيش أوروبي أكثر من أيام ثلاثة فحسب، وكذلك الحال في سائر مواقع الشاطئ: أبو قير ورشيد ودمياط فقد تسقط جميعها بعد ضربة واحدة، وتعجز الإمبراطورية العثمانية عن الدفاع عن مصر وهي غير قادرة عليه، وإذا وجدت حكومة جلالة ملك بريطانيا من المناسب تدخلها بالقوة في شئون مصر، فإن قوات مسلحة طفيفة سوف تكفي عندئذ لذلك، ومن السهل نيل خدمات المماليك، ثم إن ما يكنه الأهلون من ود نحو بريطانيا يعود بفوائد عديدة عليها ، ومع ذلك فلا تكاد تكون هناك حاجة إلى مساعدة أجنبية؛ لأن رعب العسكر العثماني من الجنود الأوروبيين قد بلغ الدرجة التي قد تجعل أكثرية الأرنئود يبادرون بإخلاء البلاد (مصر) بمجرد أن تصلهم الأخبار منبئة بأن جيشا بريطانيا قد نزل بالإسكندرية.
ذلك إذا كان غرض «مسيت» الجوهري من كل نشاطه: إقصاء محمد علي من الولاية، وإخراج الأرنئود من مصر، وحمل حكومته على تقرير احتلال الإسكندرية تمهيدا لاحتلال البلاد بأسرها، وكانت مناصرته للألفي من الخطوات التي اعتقد «مسيت» ضرورتها لتنفيذ هذه الغاية، فزكاه في تقريره المسهب هذا بأنه قد أعلن وضع نفسه تحت حماية ملك إنجلترة المباشرة، وأنه يلجأ إلى «مسيت» يطلب النصح منه في كل حادث هام أو شان من الشئون يعرض له، ويبدي احتراما للباب العالي، ويسلك في علاقاته معه طريقا يتميز بالحكمة والاعتدال، ويظهر خضوعا تاما لإرادة السلطان سليم وأوامره، ويعزو - كما يفعل «مسيت» نفسه - الحروب الأهلية السائدة في مصر إلى خيانة الأرنئود وطيشهم ورعونتهم.
ولكنه حدث من ناحية أخرى في الشهور الأولى من عام 1806 ما أدخل تعديلا ملحوظا على مظهر العلاقات السائدة بين محمد علي و«مسيت»، ولم يكن مبعث هذا التعديل تحول طرأ على سياسة محمد علي وهو الذي اهتم دائما - وكما أوضحنا سابقا عند الكلام عن إدارته - باستمالة قناصل الدول الأوروبية ووكلائها في مصر إلى جانبه، واهتم على الخصوص بالقنصل الإنجليزي نفسه، حتى يصرفه على الأقل عن مؤازرة المماليك وخصمه العنيد الألفي، بل جاء هذا التعديل من جانب «مسيت» الذي رأى ضرورته بسبب ما جد من حوادث في أوائل هذا العام وما وقع منها بعد ذلك، ولم ينشأ هذا التعديل من تغيير طرأ على البواعث التي شكلت سياسة القنصل الإنجليزي؛ فقد بقيت هذه كما كانت، وكما أوضحناها، وإنما كان مبعثها ما شعر به «مسيت» من ضرورة التظاهر بالود والصداقة لمحمد علي استبقاء لتلك الميول الودية التي أبداها الباشا نحو، وذلك للتمويه عليه وتضليله وتغطية مساعيه في صالح الألفي وضد حكومة محمد علي، فاتسم مسلك «مسيت» أثناء عام 1806 وهو عام الأزمات المريرة التي كادت تطوح بولاية محمد علي، بطابع النفاق والمخاتلة، وكان «مسيت» قد بدأ هذه السياسة ذات الوجهين عقب رحيل القبطان باشا في أكتوبر 1805، فأوضحنا في الفصل السابق كيف أن «مسيت » أمر عزيزا ترجمانه بالقاهرة بألا يضيع دقيقة واحدة في إخطار الباشا بأن هناك مؤامرة تدبر في القاهرة ضد حكومته، وكيف أنه كتب بذلك في 15 نوفمبر يأمر «البطروشي» بأن يكف عن مراسلة البكوات المماليك ويرجو - كما قال - من الآن فصاعدا ألا يحدث ما يورطنا بهذه الصورة.
وأما محمد علي فقد بادر منذ أن وصلته شكاوى «مسيت» بشأن السلف أو الإتاوات التي فرضها على الرعايا والمحميين البريطانيين بتسوية هذه المسألة بشكل يرضي «مسيت»، حتى إن هذا الأخير لم يلبث أن كتب إلى «أربثنوت» في 13 فبراير 1806 أنه يشعر بارتياح عظيم؛ إذ يعلمه أنه قد حصل من الباشا على أمر محول على جمرك الإسكندرية بسداد المبالغ التي أخذها أخيرا من هؤلاء الرعايا والمحميين المقيمين بالقاهرة، وذلك من حصة الباشا في إيرادات هذا الجمرك، بل إنه ما لبث أن كتب إلى «أربثنوت» أيضا في أول مارس أن الباشا قد أجاب جميع مطالبه، وأعطاه أمرا محولا على الجمارك في نظير الأموال التي أخذها، حتى إن هذه الشكوى قد أزيلت نهائيا تقريبا.
ثم دلل محمد علي على وميوله الودية نحو الإنجليز ورغبته في استمالة «مسيت» عندما حضر اللورد «فالنتيا»
Valentia
إلى مصر في طريقه إلى بلاده، وكانت قد قامت في عام 1805 بعثة بريطانية برئاسته مع «هنري سولت»
Salt
إلى جهات الحبشة حتى يعقد مع الأحباش محالفة وتحصل على ميناء في ساحل الدناكيل، تنزل به إنجلترة جيوشها لنقلها منه إلى الحبشة والزحف على مصر من الجنوب إذا غزا الفرنسيون مصر واحتلوها، فوصل «فالنتيا» بعد انتهاء بعثته إلى السويس في فبراير 1806، واستقبله محمد علي استقبالا فخما، فكتب الشيخ الجبرتي في حوادث 16 فبراير: «وفيه وصلت القافلة إلى القاهرة من باب السويس، ووصل أيضا صحبتهم جنرال من الإنجليز راكب في تخت، وحملته ومتاعه على نحو سبعين جملا، فذهب عند قنصلهم، فلما كان يوم الأربعاء غايته 19 فبراير ركب في التخت، وذهب عند محمد علي بالأزبكية، فتلقاه وعمل له شنكا ومدافع، وقدم له هدية وتقادم ثم رجع إلى مكانه، وقد سر «مسيت» سرورا عظيما بهذه الحفاوة التي لقيها «فالنتيا» فكتب إلى «ملجريف» في 22 مارس من الإسكندرية: إنه لما كان اللورد «فالنتيا» قد أحضر معه خطابات توصية من حاكم الهند العام فقد وجد من واجبه أن يجعل الحكومة في مصر تستقبله استقبالا حسنا، ويسره أن يذكر للورد «ملجريف» أن أحدا من الأوروبيين - الذين لا يشغلون مناصب في قيادة الجيوش - لم يسبق أن ظفر بمثل ما لقيه «فالنتيا» من ضروب التكريم والالتفات العظيم على يد حكومة محمد علي، ثم استطرد «مسيت» يقول: وأما غرضي الوحيد من ذكر هذا الحادث فهو تزويدكم بما يثبت أن ما قمت به من جهود لفصل باشا مصر عن مصلحة فرنسا قد أثمرت أخيرا.» وانتهز «مسيت» فرصة هذا الترحيب الذي لقيه «فالنتيا» من الباشا، واحترام السلطات له، فاتخذ من وجود اللورد بالإسكندرية ذريعة لترويج الشائعات باعتزام إنجلترة احتلال هذه البلاد، ولتمكين النفوذ الإنجليزي، والقيام بدعاية واسعة لصالح المماليك، ولصالح محمد الألفي خصوصا بعد نجاح مندوبيه في إبرام الاتفاق المعروف مع الديوان العثماني بالقسطنطينية، وهو الاتفاق الذي نسب الوكلاء الإنجليز الفضل في إبرامه إلى رجال سفارتهم بها زورا وبهتانا.
فكتب «دروفتي» إلى «تاليران» في 11 يونيو أن «مسيت» يعلن قرب وصول القبطان صالح باشا إلى دمياط مكلفا بإعطاء حكومة مصر للبكوات المماليك، وأن الإنجليز يبذلون قصارى جهدهم للتأثير على الرأي العام هنا، فاحتفلوا بميلاد مليكهم جورج، ثم إنه عند وصول اللورد «فالنتيا» رحبوا به ترحيبا عظيما، ولقد أفلحوا في إقناع الناس بأن مصر سوف تكون لهم يوما من الأيام، حتى إن أحد التجار المغاربة وهو إبراهيم بسه عبد الله زوج كريمة الشيخ محمد المسيري، وممن لهم نفوذ وسلطان بالإسكندرية قد بعث مع اللورد «فالنتيا» الذاهب إلى مالطة بهدايا كثيرة برسم القومندور «سدني سميث» الذي يقال عنه: إنه موجود في «مسينا »، ويعتمد الإنجليز في تأييد دعاواهم على واقعة احتلال إمبراطور فرنسا للصقليتين نابولي واحتمال قطع العلاقات مع تركيا.
هذا وقد أبحر «فالنتيا» إلى مالطة في 12 يونيو، ويبدو وأن بعض الجنود الأرنئود قد أهانوا اللورد في رشيد قبل مبارحته البلاد، وعاقبهم محمد علي، على أن «مسيت» بعد انتهاء هذا الحادث ببضعة شهور رأى إثارته مرة أخرى في وقت كان قد خلع فيه النقاب عندما انتهت بسلام أزمة النقل إلى سالونيك، وفشلت الجهود التي بذلت لتنصيب الألفي شيخا للبلد ووضع الحكومة الفعلية في يده، فطلب «مسيت» من ترجمانه عزيز بالقاهرة أن يحتج لدى محمد علي على مسلك حاكم رشيد علي بك السنانكلي مع نائب القنصل البريطاني في رشيد «البطروشي» وتراجمته، وعلى موقفه من الجنود الذين أهانوا اللورد «فالنتيا» عند وجوده بها، وكتب إلى الباشا في 11 أكتوبر 1806 يطلب العدالة باسم الحكومة التي يمثلها، والاقتصاص من علي بك، ويقول: وإن شكواه هذه هي الأولى التي أزمع تقديمها ضد هذا الحاكم الذي تغاضى عن الأرنئود الذين أهانوا اللورد «فالنتيا» والذين أراد الباشا نفسه عقابهم.
على أنه في الوقت الذي جرت فيه هذه الحوادث منذ وصول «فالنتيا» إلى مصر ومغادرته لها، كان الألفي قد بعث بمندوبيه محمد كتخدا و«ستافراكي» إلى القسطنطينية للمفاوضة، وانحصرت جهود «مسيت» في إنجاح هذه المفاوضات، ويدخل في ذلك محاولة خديعة محمد علي إزالة ما قد يساوره من شكوك من ناحية «مسيت» نفسه ومسئوليته في هذه المفاوضة التي لم يكن الغرض منها سوى التمهيد لهدم حكومته وطرده من الولاية وإعادة تأسيس الحكم المملوكي في البلاد، كما حرص «مسيت» على مراقبة نشاط الوكلاء الفرنسيين ومكافحة النفوذ الفرنسي لدى الباشا، ثم في الإسكندرية خصوصا وتهيئة الأفكار في الثغر لقبول الأوضاع الجديدة إذا نجحت مفاوضات مندوبي الألفي، أو اعتزم الإنجليز إرسال جيش لاحتلالها.
أما عن محاولة خديعة محمد علي فتتضح هذه الحقيقة من مراجعة كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في القسطنطينية لتوصيته بمندوبي الألفي، ثم ما صار يكتبه في الوقت نفسه لمحمد علي، فقد حمل «مسيت» ترجمان الألفي «ستافراكي» - على نحو ما عرفنا عند الكلام عن أزمة النقل إلى سالونيك - رسالة إلى «أربثنوت» في 22 مارس جاء بها أن الألفي وكل رجل محايد يعلن أن مصر لن تحظى بالهدوء والاستقرار إلا إذا أعيد تأسيس الحكومة المملوكية بها، وأن الباب العالي إذا سلك مسلك الحكمة والرشاد في سياسته وجد من صالحه أن يطلب من الإنجليز وضع شطر من قواتهم بالإسكندرية، وأن الحكومة الإنجليزية إذا لبت هذا الطلب تخلصت من أولئك الذين استبدوا بها، ويعني «مسيت» بذلك الأرنئود ومحمد علي، ثم يقترح عند عدم إمكان احتلال الإسكندرية بقوات بريطانية - الأمر الذي انعدم كل أمل لديه في تحقيقه كما قال - أن يعترف الباب العالي بالمماليك حكاما شرعيين في مصر، وأن يأمر في الوقت نفسه برحيل الأرنئود منها فورا وإلا صاروا عصاة خارجين على طاعته، ثم إن «مسيت» عندما أبلغه «أربثنوت» بأن الباب العالي لا يريد وساطته في المفاوضات الجارية بين الديوان العثماني ومندوبي الألفي، لم يلبث أن اعترف في رسالته إلى السفير من الإسكندرية في 11-15 يونيو 1806 بأنه هو شخصيا الذي شجع الألفي على أن يطلب من السفير وساطته محافظة على المصلحة الإنجليزية، وهذه كانت في نظر «مسيت» طرد محمد علي من الولاية كخطوة لا غنى عنها لإمكان تأسيس الحكم المملوكي في مصر، وإفساح الطريق - نتيجة لذلك - للاحتلال البريطاني لها.
ومع هذا فقد بادر «مسيت» ينفي لمحمد علي أن له يدا في مسألة ذهاب مندوبي الألفي إلى القسطنطينية، ويحاول أن يوحي إلى محمد علي أن من سياسة حكومته أن تستقر حكومة الباشا في مصر، بل ويبذل له النصح والإرشاد بصدد الوسائل التي قد تمكنه من دفع الغزو الأجنبي عن البلاد، ولم يكن غرض «مسيت» من هذا النصح والإرشاد سوى إظهار أن فرنسا والوكلاء الفرنسيين هم مصدر الخطر المنتظر على ولاية محمد علي؛ وعلى ذلك فقد كتب إليه في 14 أبريل رسالة مسهبة استهلها بقوله: لقد علمت بكل أسف أنكم تستمعون لوشايات الأعداء في حقي، فاعتقدتم أني قابلت بمنزلي كخيا الألفي بك وأرسلته إلى القسطنطينية، إن من أبلغكم هذا رجل كاذب. ومن الواضح أن هذا الإنكار لواقعتي المقابلة في بيت «مسيت» وإرسال محمد أغا كخيا الألفي صحيح، ولكن «مسيت» بنفي هاتين الواقعتين أراد التنصل من المسئولية من هذه المسألة والتمويه على محمد علي بأنه لا يعمل ضد حكومته: بيت القصيد من هذا الإنكار، وهذا لم يكن صحيحا.
ثم راح «مسيت» يسوغ ما عرف أن الباشا واقف عليه حتما وهو علاقاته مع المماليك والألفي، فقال: وإن واجبي كمعتمد أو مقيم يمثل صاحب الجلالة الملك في هذه البلاد هو معرفة مجريات الأمور في مصر، وعدم إغفال الوقوف على أغراض ومشاعر المماليك، ثم كذب كذبته الكبرى عندما قال: ولكن هذا لا يعني أني أشجع المماليك، بل إني لأتحدى كل إنسان مهما كان شأنه ليثبت أني قمت بأقل تشجيع للبكوات أو أني أعطيتهم أية بارقة أمل في انتظار المساعدة مني؛ ولذلك فإذا أخبرتني سموك عن ذلك الذي ذكر لكم أني ساعدت كخيا الألفي على الذهاب إلى القسطنطينية فإني سوف أدعوه لإقامة الدليل على صحة ادعائه أمام أية محكمة تختارونها، إن رغبة الحكومة البريطانية هي أن تتمتع حكومة مصر بسلطة كاملة مطلقة حتى يتسنى لها الدفاع عن البلاد؛ لأنه إذا استولى الفرنسيون عليها استطاع هؤلاء في سنوات قليلة إعداد الحملات وإرسالها ضد ممتلكات الإنجليز في الهند، مثال ذلك إذا كان جند سموكم مشغولين بالنضال ضد المماليك في الصعيد والوجه البحري وظهر العدو فعلا أمام الإسكندرية فإنه ليتعذر على سموكم أن تتخذوا فورا الإجراءات التي تمنع نزول العدو، ولكنه على العكس من ذلك إذا لم يكن هناك جند عصاة ومتمردون على سلطانكم أمكنكم دون خوف أو وجل ودون حاجة إلى إمهال أو تأجيل أن توجهوا كل قواتكم ضد العدو الذي لا يستطيع حينئذ الاستيلاء على مصر وتنفيذ مشاريعه العدوانية على الهند؛ لهذا كله ترون أنه ليس من مصلحة الإنجليز في شيء حماية العصاة الثائرين، وأن ما بلغ محمد علي لا يعدو كونه أكاذيب لفقها وأذاعها أعداء بريطانيا، ويقصد «مسيت» بهؤلاء الأعداء الوكلاء الفرنسيين.
على أن «مسيت» لم يقصر نشاطه على تشجيع المماليك، أو بالأحرى الألفي بك في هذا الحين - بالرغم من إنكاره ذلك - بل تعدى نشاطه إلى محاولة جذب المشايخ ورؤساء الأهلين بالإسكندرية لتأييد المصلحة البريطانية وإبطال مساعي الوكلاء الفرنسية، وعلى رأسهم «دروفتي» الذي كان مقره وقتئذ بالإسكندرية، ولما كان الشيخ محمد المسيري - كما أوضحنا - صاحب مكانة ملحوظة في الثغر وله تأثير شعبي كبير، فقد ظل «مسيت» يهتم بأمر هذا الشيخ ذي الميول الفرنسية المعروفة؛ لأن مساعيه الأولى معه منذ 1805 لم تفلح في استمالته نهائيا إلى تأييد المصلحة الإنجليزية، بل يبدو أن الشيخ أراد أن يختط لنفسه طريقا يحفظ له علاقاته مع فرنسا ويرضي في الوقت نفسه الوكلاء الإنجليز في الإسكندرية، آية ذلك مصادقة ولده وصهره للإنجليز وعجز «مسيت» في هذه المرحلة عن جذبه إلى جانبه، فلم يلبث أن كتب إلى «أربثنوت» في 22 أبريل 1806 أن لديه من الأسباب القوية ما يحمله على الاعتقاد بأن الشيخ المسيري يتراسل مع الحكومة الفرنسية؛ لأن بونابرت أثناء وجوده في مصر كان يستشير هذا الشيخ بينما قد أغفل أمره وأهمل الآن، وصار الشيخ اليوم لا يخفي ميوله نحو فرنسا، ولما كان صاحب نفوذ كبير على الأهلين فإن خطرا يكمن وراء صلاته بفرنسا؛ ولذلك فقد حاولت أن أشعره بأن نزول جيش فرنسي في البلاد من شأنه زيادة المصائب والمتاعب التي تشكو منها مصر بدلا من إنهائها؛ وذلك لأن الأسطول الإنجليزي عند محاصرته مصر سوف يصادر كل ما قد يأتيها من إمدادات أجنبية، فلا يجد الغزاة مناصا من الاعتماد على موارد البلاد فحسب من حيث المأكل والملبس وكل المال اللازم للإنفاق منه على جندهم ولسداد مطالب الإدارة، وقد اعترف «مسيت» بأن محاولته هذه لم تنجح في استمالة الشيخ؛ لأنه يشعر بمظالم الأتراك، ويرى في فتح الفرنسيين لهذه البلاد مرة ثانية ما يرضي كبرياءه وخيلاءه بسبب ما يتوقعه من ارتفاع مكانته عند حدوث هذا الفتح، وقد انتهز «مسيت» هذه الفرصة ليذكر الموضوع الذي سيطر على تفكيره دائما، فقال - مخاطبا «أربثنوت»: واسمح لي يا سيدي أن أختم رسالتي هذه إليك بتكرار القول أني سوف أعتبر دواما سلامة مصر وفي النهاية سلامة أملاكنا في الهند مهددة بالخطر الجسيم ما دامت الإسكندرية لا تحتلها قوات بريطانية .
على أنه كان من بواعث إخفاق «مسيت» مع الشيخ المسيري ولا شك، ذيوع خبر انتصارات الفرنسيين في أوروبا، ولم يقلل من تأثير هذه في أذهان أهل الإسكندرية انتصار «نلسن» في موقعة الطرف الأغر البحرية في 21 أكتوبر 1805؛ لأن الجيوش الفرنسية ظلت تحرز في القارة نصرا بعد نصر، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» منذ 13 فبراير 1806 يصف وقع هذه الحوادث: إن انتصارات الفرنسيين المدهشة في ألمانيا وإيطاليا قد أحدثت تغييرا في مسلك العثمانيين الموجودين بالإسكندرية حتى إن بعض الموظفين منهم راحوا يصرحون بانحيازهم إلى الفرنسيين وانضمامهم لهم، ويعلنون كراهيتهم للروس واحتقارهم لهؤلاء.
ولكن «مسيت» لم يفقد كل أمل في استمالة الشيخ المسيري إلى تأييد المصلحة الإنجليزية، وبذل قصارى جهده لإدراك هذه الغاية عندما علم بأنه قد وصله كتاب من بونابرت، فقال في رسالته إلى «أربثنوت» في 10 مايو: إن الغرض من إرساله إلى الشيخ لا محالة هو تسهيل غزو فرنسا لمصر. وقد سجل «مسيت» في كتابه هذا نتيجة مساعيه مع المسيري الذي أقسم مصرحا، بعد أن أكد أنه لن يحذو حذو العثمانيين الذين تحت قناع الصداقة للإنجليز وللفرنسيين قد خدعوا كلا الفريقين، بأنه سوف يضع نفسه على رأس أهل الإسكندرية، ويتولى الدفاع عنها إلى النهاية إذا جاءها جيش فرنسي، ولكن «مسيت» ما عتم أن قال تعليقا على تصريح الشيخ: ولا يكاد يكون ضروريا أن أذكر لكم تعذر الاعتماد على تصريحات مثل هذه؛ لأن الشيخ المسيري ينقم على الأتراك مظالمهم، وقد سمع عنه وهو بين خاصته يردد مرارا وتكرارا ميله إلى الحكومة الفرنسية، زد على ذلك أنه تعوزه الوسائل والسلاح اللذان يقدر بهما على الدفاع عن الإسكندرية حتى إذا كان صادق الرغبة في ذلك، وعلاوة على هذا فالأهلون جهلة ولا يدرون من وسائل هذا الدفاع شيئا، ثم إن «مسيت» ما لبث أن عاد يكرر القول بضرورة احتلال البريطانيين للإسكندرية.
فراح يبسط لأربثنوت في كتابه هذا البواعث التي تدعو - في نظره - إلى ضرورة احتلالها، فقال: إن ممتلكات العدو أي الفرنسيين التي حازها أخيرا في البحر الأبيض المتوسط وفي خليج الأدرياتيك تجعل من السهل عليهم بدرجة عظيمة تنفيذ مشروعاتهم العدوانية ضد مصر، فالساحل المصري طويل وتصعب لذلك حراسته على السفن الإنجليزية المتجولة في البحر الأبيض، ومع أنه قد يتعذر على عمارة كبيرة الوصول إلى الشاطئ المصري، ففي وسع قوة صغيرة الإفلات من يقظة الأسطول الإنجليزي والاستيلاء على الإسكندرية في وقت قصير، وسوف يكون طبيعيا أن يعمد الفرنسيون إلى خطب ود المماليك ثم محالفتهم وعندئذ يسيطرون على مصر بأسرها، ولا سبيل لمنع ذلك قطعا غير أن يحتل جند بريطانيون الإسكندرية، وأما إذا كانت الحكومة الإنجليزية لا تريد اتخاذ هذه الخطوة، فإني أوصي بكل تواضع بأن يكون لمجموعة صغيرة من السفن الحربية المتنقلة مواقع في هذه البحار مع صدور الأوامر إليها بالإكثار من زيارة الميناء (الإسكندرية) وسواحل مصر والشام؛ وذلك لأن الأهلين بسبب عدم ظهور مركب حربي إنجليزي أمام الإسكندرية صاروا يعتقدون - على الرغم من تأكيدي لهم عكس ذلك - أن بريطانيا لا تعبأ بأمر مصر، وقد ترتب على الاعتقاد بأنه لا أمل في تدخلنا في شئون هذه المقاطعة أن كثيرين منهم صاروا ينظرون إلى فرنسا كالدولة التي يرجون خلاصهم على يدها من مظالم الأتراك، ويقبلون - دون تبصر في عواقب الأمور - على مساعدة وكلائها في مؤامراتهم التي لا يبغون منها سوى استمرار الفوضى في مصر.
ومع أن «مسيت» أخفق في محاولته هذه مع الشيخ المسيري، فقد أصاب نجاحا في مساعيه مع الشوربجي رئيس قضاة الإسكندرية (سيدي قاسم غرياني) الذي ما إن جاءت الأخبار من أزمير في أوائل شهر يونيو 1806 بتوقع قطع العلاقات بين تركيا وروسيا واحتمال دخول إنجلترة الحرب ضد الدولة العثمانية حتى انتقل إلى سفينة إنجليزية بالميناء مزمعة الإبحار إلى مالطة تجنبا للمخاطر التي أعتقد أنه لا محالة سوف يتعرض لها إذا نشبت الحرب فعلا بين تركيا وإنجلترة، وفي 11 يونيو كتب «مسيت» إلى السير «ألكسندر بول» حاكم مالطة يوصيه خيرا بالشوربجي الذي قال عنه: إنه رجل يخلص كل الإخلاص لحكومة صاحب الجلالة البريطانية. وقد ظل الشوربجي من أنصار المصلحة الإنجليزية وحضر بعد ذلك نزول جيش الجنرال «فريزر» بها واستيلاءه عليها، ثم هاجر مع من هاجروا من الإسكندرية عند تسليمها إلى محمد علي - كما سيأتي ذكره - وعلاوة على ذلك فقد نصب «مسيت» شباكه لاستمالة السلطات الحاكمة في الثغر وعلى رأسها أمين أغا حاكم الإسكندرية، وسوف نرى فيما بعد أنه نجح نجاحا أخيرا في استمالة الشيخ محمد المسيري إلى جانبه.
واسترعى انتباه «مسيت» وهو في غمرة هذا الانشغال بكسب صداقة الشيخ المسيري - الأمر الذي ثابر عليه فظفر بمبتغاه في النهاية على نحو ما سيأتي ذكره - أو باستمالة الشوربجي أو أمين أغا أو غير هؤلاء خصوصا من بين الأسرات اللبنانية في الصغر، ثم توضيح الأسباب التي بنى عليها دعوته لاحتلال الإسكندرية، وذلك إلى جانب سعيه لإبطال نشاط الوكلاء الفرنسيين من جهة وتأسيس الحكم المملوكي في مصر على أنقاض حكومة محمد علي التي يبغي هدمها وتفويضها من جهة أخرى، نقول: إنه قد استرعى انتباهه وصول علي بك العباسي إلى الإسكندرية في أوائل يونيو 1806، وقد سبق أن أوضحنا كيف أراد القبطان صالح باشا الاستعانة بدرايته في علم الفلك لمعرفة مصير مهمته عندما حضر بفرمان نقل محمد علي إلى ولاية سالونيك ولتنفيذ الاتفاق الذي أبرمه مندوبو الألفي مع الباب العالي في القسطنطينية، فقد ساورت «مسيت» الشكوك الكبيرة في هوية علي بك العباسي وكتب في 11-15 يوليو إلى «أربثنوت» ينبئه بوصول «رجل من المستحيل على المرء أن يعده إلا وكيلا سريا فرنسيا، يتخذ لنفسه اسم علي بك ويقول إن موطنه حلب، وقد أمضى هناك على كل الأحوال سنوات قليلة؛ لأنه انتقل وهو في سن مبكرة إلى جامعة قرطبة بإسبانيا لإتمام دراسته بها، وهذا الرجل الذي يدعي أنه من سلالة الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم
قد تلقى علومه في مدرسة أكليريكية مسيحية، وجال في كل أنحاء أوروبا تقريبا، ويتكلم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ولكنه يجهل التركية، ويعرف قليلا العربية، والغرض الظاهر من رحلته الذهاب إلى مكة وزيارة قبر الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ولكن ما أغراضه؟ لقد دلت أحاديثه حتى في رأي العثمانيين والمصريين على أنه وكيل سري للحكومة الفرنسية.» ولكنه ما إن مضت أيام قلائل حتى استحالت شكوك «مسيت» هذه إلى عقيدة ثابتة، فكتب إلى «شارلس جيمس فوكس» في 19 يونيو أن «علي بك العباسي من وكلاء العدو السريين (أو جواسيسهم) في مصر، وهو يحاول جاهدا في أحاديثه مع الأهالي أن يلقي في روعهم ويطبع في أذهانهم أن فرنسا قوة ضخمة عظيمة، ويصرح كثيرا بأنه يستحيل على إنسان مقاومة جيش بونابرت.» ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولذا فقد أوضحت لحاكم الإسكندرية ما ينطوي عليه السماح ببقاء مثل هذا الرجل بالإسكندرية من أخطار.» فوعد بإبعاده لأنه مقتنع شخصيا بأنه وكيل سري فرنسي، غير أن تردد الأتراك وما يقال عن قرب عقد محالفة بين الباب العالي وفرنسا منعا أمين أغا من الوفاء بوعده.
والحقيقة أن علي بك العباسي كان مغامرا إسبانيا يدعى «باديا»
Domingo Badia Y Leblich
اعتنق الإسلام سواء عن عقيدة وإيمان أو لمجرد نيل مآربه، زار وجاقات الغرب ومصر وبلاد العرب، وتسنى له بفضل معرفته للغات الشرق وعادات أهله أن يعيش بينهم كأي مسلم آخر، وادعى أنه ينحدر من العباسيين، ومن هنا كان لقب العباسي الذي اتخذه لنفسه، ولقد أحاط علي بك نفسه بمظاهر الثراء العريض، واستطاع أن يطرق أبواب علية القوم، وظل أمره سرا مكتوما زمنا طويلا، تحدث عنه الكاتب الفرنسي «شاتوبريان»
Chateaubriand
في مؤلفه عن رحلته إلى بيت المقدس، وقد قابله «شاتوبريان» بالإسكندرية في نوفمبر 1806 أثناء عودته من بيت المقدس وهو في طريقه إلى تونس ثم إسبانيا قبل أوبته إلى فرنسا، ومن الثابت أن علي العباسي أو «باديا» كان جاسوسا أو وكيلا سريا «لتاليران» كما عمل بعد ذلك جاسوسا للملك الفرنسي لويس الثامن عشر، وقد نشرت أسفاره في إفريقية وآسيا أثناء سنوات 1803-1807 في باريس عام 1814.
على أن ما أبداه «مسيت» من نشاط أثناء أزمة النقل إلى سالونيك لإخراج محمد علي من الولاية كان يفوق كثيرا ما بذله من جهود سابقة سواء فيما انطوى عليه من ختل ومخادعة من حيث علاقات «مسيت» نفسه مع محمد علي، أو ما اقترن به من جهود مضنية من حيث محاولته تأييد قضية الألفي لدى القبطان باشا واستنهاض همة المماليك على الاتحاد عموما، ثم تقوية الألفي وحثه على الصمود في نضاله ضد محمد علي، ولو أن الفشل كان نصيب هذه الجهود جميعها.
ويؤخذ من موقف «مسيت» في هذه الأزمة أن تغييرا ما لم يطرأ على الدوافع التي جعلته يناصب محمد علي العداء قبل مجيء القبطان صالح باشا، فهو لا يزال يريد إنشاء حكومة مملوكية تمهد لاحتلال الإنجليز لهذه البلاد، وهو لا يزال يلفت نظر حكومته إلى ضعف التحصينات بالإسكندرية وبالمواقع الأخرى على الشاطئ الشمالي، ويستحثها على إرسال جيشها إلى الثغر كخير وسيلة لدفع الغزوة الفرنسية المنتظرة عنها، وهو لا يزال يريد أن يجمع البكوات كلمتهم حتى يفيدوا من الاتفاق الذي حدث مع مندوبي الألفي بالقسطنطينية والذي يسترجعون بفضله سلطانهم السابق في حكومة هذه الولاية، وهو لا يزال يريد طرد محمد علي والأرنئود.
ولذلك فإنه ما إن ذاع خبر قرب وصول القبطان باشا بعمارته إلى المياه المصرية حتى راح يلفت نظر «وندهام» وزير الحربية وقتئذ - في 18 يونيو 1806 - إلى خلو الإسكندرية والشواطئ المصرية من وسائل الدفاع، وإلى الانقسامات السائدة بين طوائف المماليك، وإلى ما يبعثه امتلاك العدو أو الفرنسيين لمعظم الشواطئ الإيطالية وموانئها من خوف وقوع الغزو على مصر لا سيما وأن الوكلاء الفرنسيين في مصر يحيكون المؤامرات لجذب جماعات من المسيحيين المقيمين بالإسكندرية لخدمة مآربهم، بينما لا يبدو من جانب إنجلترة أي اهتمام بمصر، الأمر الذي جعل الأهالي يعتقدون أن هذه الدولة لا تعبأ بمصير البلاد بدليل أنها ممتنعة عن إرسال سفينة حربية إنجليزية إلى الإسكندرية مع وجود أسطول كبير لها في البحر الأبيض.
وبعد أيام قلائل من وصول القبطان باشا إلى الإسكندرية، بعث «مسيت» في 9 يوليو بتهانيه إلى إبراهيم بك على التغيير الذي سوف يحدث في مركزه ويقول: إن استعادة المماليك لوضعهم السابق سوف يحقق النفع للجميع ولا يريد حدوث ذلك إنسان أكثر مما يريده «مسيت» نفسه، ويوصيه بالاتحاد مع سائر زملائه لإمكان طرد محمد علي من الولاية، ويعتذر عن عدم قدرة السفير الإنجليزي بالقسطنطينية على التوسط بين مندوبي الألفي والديوان العثماني لرفض هذا الأخير لوساطته، وأرسل كذلك تهانيه للبرديسي وعثمان حسن، ولكنه لما كانت قد قامت مفاوضات طويلة بين بكوات الصعيد الذين لم يرضهم الاتفاق الذي أعطى كل السلطة الفعلية إلى الألفي وبين هذا الأخير، وظهرت مراوغة محمد علي ثم تصميمه على التمسك بولايته، فقد بعث «مسيت» إلى «أربثنوت» في 14 يوليو يحذره من مساعي الباشا في القسطنطينية ويقول: «إن أغراض العدو (الفرنسيين) العدوانية ضد مصر، وهي أغراض معروفة جيدا، لا تدع مجالا للشك في أن كل الجهود التي سوف يبذلها وكلاء العدو من أجل الإبقاء على أوضاع يترتب عليها إحياء روح النزاع الذي حرك مكامن الاضطراب في هذه البلاد من مدة طويلة بعنف وقسوة، من شأنها أن تجعل غزو مصر سهلا ميسرا.»
ثم أزعج «مسيت» ما لاحظه من بوادر إخفاق القبطان باشا في مهمته بسبب ما ترامى إليه على وجه الخصوص من حصول هذا الأخير على خمسين ألفا من الجنيهات من محمد علي، فكتب إلى «أربثنوت» في 31 يوليو، يعزو نجاح محمد علي إلى ما يلقاه من نصح وإرشاد من جانب الوكيل الفرنسي «دروفتي» الذي قال عنه: «إنه أبدى أخيرا نشاطا عظيما في مساعدة محمد علي ونصحه.» يبغي من ذلك تعزيز قضية فرنسا، وهي الدولة التي كما استطرد يقول: «سوف تظفر بنفوذ كبير في مصر لو أن محمد علي تثبت في حكومته هذه البلاد.» وأراد «مسيت» في الوقت نفسه أن يجس نبض محمد علي ليقف على مدى تمسكه بالولاية، كما أراد التمويه عليه بالتظاهر بصداقته له، فأبلغه سرا أن الباب العالي ولو أنه يريد إعطاءه باشوية سالونيك بدلا من باشوية القاهرة ولكنه لن يستخدم القوة في تنفيذ هذا النقل، فلم يلبث محمد علي أن أجاب بصوت عال - على حد ما ذكر «دروفتي» لتاليران في 30 يوليو - إنه لا يخشى أحدا ولا القبطان باشا نفسه، بل إنه على استعداد كامل لمقاومة الأوروبيين أنفسهم إذا أرادوا المجيء لنجدة البكوات، وقد كان عندئذ أن سأل الباشا «دروفتي» إذا كان في مقدور فرنسا تزويده بحوالي الخمسمائة جندي من جيشها في بلادها أو في إيطاليا، ووعد «دروفتي» بإحالة هذه المسألة على الوزير «تاليران».
وعندما ترك الألفي الفرصة تفلت من يده باستئناف ضرب الحصار على دمنهور بعد انتصاره في معركة النجيلة، وظهر امتناع دمنهور عليه بالرغم من مدفعيته الكبيرة التي جلب الوكلاء الإنجليز لخدمتها كثيرين من الطليان واليونانيين، أبلغ «مسيت» الوزير «وندهام» في 14 أغسطس أن محمد علي قد تتكلل مساعيه بالنجاح في القسطنطينية، وقد يتمكن من الحصول على فرمان يثبته في الولاية بفضل المساعدة التي يلقاها من الوزير الفرنسي الذي أوصى القائم بأعمال السفارة الفرنسية في القسطنطينية بتأييد مصالح الباشا، ثم قال: «إن الفوضى التي ستنجم عن تثبيت محمد علي سوف تعرض البلاد لخطر الغزو الفرنسي، وفضلا عن ذلك، فسوف يترتب على هذا التثبيت أن يظفر الفرنسيون بنفوذ عظيم في مصر مما يعود بأسوأ النتائج على بريطانيا العظمى في المستقبل.» ثم اختتم رسالته بقوله: «والخوف من ذلك كله هو الذي يجبرني جبرا على أن أعرض عليكم ملامة توجيه سفير حكومة جلالة الملك بالقسطنطينية بأن يسعى جهد طاقته لنيل إبعاد محمد علي.» ثم تزايد غضب «مسيت» عند إخفاق المحاولات التي بذلت للتوفيق بين بكوات الصعيد وبين الألفي، حتى يسهم الأولون في المبلغ الذي نص على دفعه ثمنا للاتفاق بين مندوبي الألفي وبين الديوان العثماني، ثم بسبب ما شاهده من تدفق الجنود الذين جلبهم محمد علي من الخارج لتعزيز قواته، وامتناع القبطان باشا ورجاله عن مقاومة نزول هؤلاء في الموانئ المصرية، سواء كان مبعث هذا الامتناع الإهمال أو الارتشاء، فقال «مسيت»: «إن مسلك القبطان باشا يهزم أغراض سلطانه النافعة.» وبعث يطلب من «وندهام» في 8 سبتمبر مركبا حربيا للتجول في المياه المصرية وزيارة الإسكندرية والشواطئ المصرية والشامية.
واستهول «مسيت» نتائج ما حاق من فشل بكل مساعيه لإقصاء محمد علي عن الولاية فراح يعزو - في رسالته إلى «أربثنوت» في 25 سبتمبر - هذا الفشل إلى نشاط «دروفتي» فقال: «إنه لما كان غرض الحكومة الفرنسية تقوية روح الخلاف والشقاق والحيلولة دون تنفيذ أية خطة تعيد السلام والهدوء إلى مصر، فقد أظهر الوكيل الفرنسي نفسه منذ وصول القبطان باشا صديقا لمحمد علي ومناصرا لقضيته، وحصل منه الأخير على معلومات صحيحة عن قوة القبطان باشا، ولم يمتنع ضباط القبطان باشا عن الإفضاء إليه بمعلومات خاصة عن نوايا سيدهم السليمة، وتسنى للوكيل الفرنسي أن ينصح محمد علي بأن في وسعه أن يضرب صفحا عن تهديدات القبطان العالية والتي في الحقيقة لا قيمة لها في حالة ما إذا كان قد صح عزمه على إخلاء مصر وتركها.» ثم استطرد يقول: «ولما كان المفهوم عموما أن محمد علي سوف يتثبت في الولاية، فقد صار الحزب الفرنسي يدعي الفضل لنفسه في ذلك، ومن المحتمل أن يستطيع هذا الحزب التأثير عليه بأنه من غير تأييدهم له لن يجديه نفعا ما بذله من مال بسخاء لرجال الديوان العثماني.» ولانبثاث هذه الفكرة في ذهن محمد علي آثار سوف تصعب إزالتها في المستقبل، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن البريطانيين لأسباب وظروف منوعة يعدون حماة المماليك عموما والألفي بك خصوصا، ووجه الغرابة في هذه الأقوال أن «مسيت» نسي أنه هو نفسه كان كذلك من بين الذين أبلغوا سرا محمد علي أن الباب العالي لا ينوي تنفيذ النقل إلى سالونيك بالقوة الجبرية.
وأما آثار هذه الحملة الشديدة التي حملها «مسيت» على الباشا بسبب استعلاء نفوذ الوكلاء الفرنسيين لديه وتوهم القنصل الإنجليزي أنه صار مبيعا لهم، فقد ظهرت بوضوح عندما صار رجال السفارة الإنجليزية بالقسطنطينية يعتقدون هم كذلك أن بقاء محمد علي في باشويته لا نتيجة له سوى تعزيز النفوذ الفرنسي في مصر وتمهيد الطريق للفرنسيين لغزوها، فكتب «أربثنوت » إلى «فوكس» في 8 سبتمبر يرسل إليه خطابي «مسيت» له بتاريخ 31 يوليو و3 أغسطس عن حوادث إذاعة محمد علي نبأ تثبيته في ولاية مصر، وانتصار الألفي عليه في معركة النجيلة وموقف موسى باشا، وتعليق «مسيت» بشأن الأخطار التي تنجم عن تثبيت محمد علي في الولاية ثم يقول: «وأما فيما يتعلق بالإجراءات التي يريد الباب العالي اتخاذها بالنسبة لمصر فليس لدي أية فكرة عنها، ولكن في ظني أن أي إجراء سوف يتخذ لا يكون من أثره إعادة تأسيس سلطان الباب العالي في هذه البلاد»، وعندما أبلغ «أربثنوت» في 29 سبتمبر أن الباب العالي قد قرر تثبيت محمد علي في منصبه، كتب في اليوم التالي إلى وزير خارجيته: «إن هذا الترتيب الجديد سوف يعود بنفع عظيم للغاية على الحزب الفرنسي، بينما ذهاب محمد علي لو أنه حدث لكان قد أفضى على نحو ما أعرف من الميجور «مسيت» إلى تحطيم نفوذهم (أي الفرنسيين) في مصر.»
ولقد ظهر عجز «مسيت» والتواء أساليبه؛ عندما ترك هو الآخر الفرصة تفلت من يده للوصول إلى اتفاق بين الألفي ومحمد علي، يكفل لحليفه الاستقرار والهدوء في وقت كان الألفي أشد ما يكون فيه حاجة إلى هذين بعد أن استنفد قوته حصار دمنهور، واتضح بسبب امتناع بكوات الصعيد عن الاتحاد معه أن عليه وحده تقع تبعة مواصلة النضال ضد محمد علي، فقد أوضحنا فيما سبق كيف أن الألفي عندما أدرك أن القبطان باشا قد تخلى نهائيا عن قضيته صار يريد الاتفاق مع محمد علي حتى يكسب فسحة من الوقت تمكنه من تقوية نفسه، وطلب وساطة «مسيت» في هذه المسألة، فإن «مسيت» بدلا من السعي جديا لعقد هذا الاتفاق بين الطرفين، عمل على تعطيله متعللا بأن هذا الاتفاق يبعد الألفي عن ميدان العمليات العسكرية المقبلة ويحرم الإنجليز عند مجيء جيشهم إلى الإسكندرية من معاونة فرسان الألفي لهم، ونظر إلى وساطته في هذه المفاوضة التي طلبها كل من الألفي ومحمد علي كوسيلة معطلة لنفوذ الوكلاء الفرنسيين لدى البكوات ولدى محمد علي معا، ونافعة من ناحية أخرى في زيادة سمعة بريطانيا، ثم إنه حتى يبرر هذه السياسة التي لا شك في أنها كانت خاطئة، راح يقول - في رسالته إلى «أربثنوت» في 29 سبتمبر - ما معناه أنه لا يثق في وعود الألفي ، ويرفض لذلك أن يكون على عاتقه ضمان أي اتفاق يحصل بينه وبين محمد علي، ولقد كان هذا كشفا غريبا من جانب رجل سياسة يبني كل مشاريعه على مؤازرة حليف لم ينجرف لحظة عن الطريق الذي رسمه لنفسه وهو الصداقة لبريطانيا.
ويزيد من هذه الغرابة أن «مسيت» كان يعلم تماما أن لا أمل ولا رجاء في انحياز أحد البكوات غير الألفي إلى تأييد مصلحة بريطانيا؛ فمسيت نفسه هو الذي كتب إلى «وندهام» منذ 8 سبتمبر أن خطابات من الحكومة الفرنسية قد وصلت عن طريق «تريستا» إلى عثمان بك البرديسي ردا على كتاب هذا الأخير إلى بونابرت من جملة شهور مضت، وأن الغرض من هذه المراسلات إنما هو طلب المساعدة من الحكومة الفرنسية ووعد هذه بإعطائها للبكوات؛ لأن هؤلاء يدركون تماما أن عودة سلطتهم السابقة إليهم أمر لا يمكن أن يحدث من غير تدخل دول أوروبية، وزد على ذلك أن «مسيت» لم يبذل أي جهد لكسب بكوات الصعيد إلى جانبه، واكتفى باعتبارهم مبيعين لفرنسا مثلهم في ذلك مثل محمد علي، فهو يذكر لوندهام أن عثمان البرديسي - وهو منافس خطر للألفي ويهمه أن يجرده من تأييد «مسيت» له - قد بعث إليه برسائل تفيض مودة، بل ويستفسر عما إذا كان الجنرال «ستيوارت» سوف يأتي إلى مصر ثانية، ثم يطرح «مسيت» هذا الموضوع جانبا واصفا مساعي البرديسي هذه بأنها من أساليب الخداع التي يلجأ إليها جريا على عادته معه! وهكذا اضطر «مسيت» بعد أسابيع من هذا الحادث إلى الشكوى لوندهام (في 29 سبتمبر) من أن إبراهيم بك وعثمان البرديسي قد أوفدا من مدة مملوكا اسمه أحمد كاشف إلى مرسيليا، وقال «مسيت»: «إن هذا المملوك قد غادر مصر من حوالي ستة شهور مضت بدعوى الذهاب إلى القسطنطينية لإنجاز بعض الأعمال الخاصة به .»
بل ويبدو أن الغرور وقصر النظر السياسي قد أعميا بصيرة «مسيت» في مسألة الوساطة بين الألفي ومحمد علي حتى إنه راح يزعم لأربثنوت أن من مزايا وساطته هذه المضللة لحليفه الألفي ولخصمه محمد علي معا، إذا اتضح أنه كان أداة سلام، ونجحت المفاوضة بطبيعة الحال بفعل خارج عن إرادته، نال شكر محمد علي وعرفانه لجميله، وبطل انحياز هذا الأخير إلى فرنسا؛ لما لديه الآن من خوف طبيعي من أن يحرض «مسيت» البكوات على الثورة ضده فيتسبب في خلق المتاعب والمصاعب له، تلك التي قال «مسيت»: إن مهمته هي إقناعه بأنه لا يستطيع الخلاص منها من غير مساعدته.
أما وقد جاء الططر بعد ذلك يحملون نبأ تثبيت محمد علي في ولايته نهائيا، وانهارت كل آمال «مسيت» فقد صار لا يجد وسيلة عندئذ لتفادي هذه الكارثة في نظره سوى تكرار تحذيراته لوزير الحربية من تعرض البلاد بسبب ذلك لخطر الغزو الفرنسي، ثم وجد في رفض البكوات لعروض الباب العالي عليهم إقطاعهم بعض أقاليم الصعيد التي يملكونها فعلا، معززا لما ذهب إليه وأفصح عنه لوندهام في 7 أكتوبر من بقاء مصر في تلك الحال الدقيقة وغير المستقرة التي تجعلها معرضة لهذا الغزو، وقد ظهر نفاق «مسيت» في هذه الأزمة عندما تأكد لديه أن الباب العالي قد ثبت محمد علي في ولايته، فكتب إلى يوسف عزيز في أكتوبر 1806 يكلفه بانتقاء مجوهرات هدية لمحمد علي وإبلاغه تهنئته، على نحو ما سبق ذكره في موضعه.
ولعل أقسى هزيمة مني بها «مسيت» نتيجة تضليله لحليفه الألفي في مسألة الاتفاق الذي وسطه فيه بينه وبين محمد علي، أن الألفي اضطر إلى رفع الحصار عن دمنهور والانسحاب من البحيرة في طريقه إلى الصعيد؛ أي الابتعاد عن ميدان العمليات العسكرية المنتظرة عند نزول الحملة الإنجليزية، ثم دخول بكواته في المفاوضة مع «روشتي» لطلب وساطة روسيا في صالحهم لدى الباب العالي - وهي مفاوضات تقدم ذكرها - أطلعه «البطروشي» عليها في رسالته إليه منذ 23 نوفمبر 1806، وراح «مسيت» يخفي انهزامه تحت وابل من المطاعن على «روشتي»، ويبدي تشككه بل اعتقاده بأن هذا الأخير إنما أقدم على مفاتحة بكوات الألفي في هذه المسألة من تلقاء نفسه ودون أن تكون لديه تعليمات بذلك من حكومته، ثم صار يؤكد - كما رأينا في رسالته إلى «أربثنوت» في 26 نوفمبر - أن الألفي نفسه يجهل نشاط شاهين بك في موضوع هذه الوساطة، مع العلم بأن شاهين عضد الألفي وساعده الأيمن، وقد تولى زعامة الألفية بعد وفاة كبيرهم، ومع أن وفاة الألفي كانت قمينة بأن تصدم «مسيت» الذي أدخل في حسابه دائما الاعتماد على الألفي وفرسانه في إنجاح حملة الإنجليز المنتظرة، فقد كان كل تعليقه على هذا الحادث أنه لا يدري سبب الوفاة الحقيقي، وأنه يبغي معرفة آراء شاهين بك خليفة الألفي من حيث تمسكه بالمسلك الذي سلكه سلفه مع الإنجليز والعمل منفردا عن سائر البكوات أو الاتحاد معهم، وكانت نتيجة حتمية ولا شك تلك التي أسفرت عنها مساعي «مسيت» مع شاهين بك، عندما كتب إليه هذا الأخير كتابا وصله في 13 فبراير 1807 جعل «مسيت» يعلق عليه بقوله في رسالته إلى «أربثنوت» في 8-14 فبراير 1807: «ومع أنه لا يوجد أدنى شك في أن شاهين بناء على تحريض «روشتي» له قد طلب مساعدة روسيا، فإنه لمما لا يزال يدعو إلى الارتياح (!) أن نراه يريد الإبقاء على علاقات المودة والصداقة التي كانت بيننا وبين الألفي، ويعقد آمالا كبيرة على ثقته في حماية بريطانيا له.» ثم يذكر في رسالة أخرى، في هذه المرة إلى حاكم مالطة السير «ألكسندر بول» أما في 14-15 أو 16 فبراير أنه قد وصله كتاب من شاهين بك يقول فيه إنه يريد الآن الانضمام إلى سائر البكوات في الصعيد، وأن يعود بعد ذلك لحصار القاهرة! وأما شاهين فقد كتب إلى «مسيت» في 2 فبراير 1807 يبلغه خبر وفاة محمد بك الألفي الذي قال عنه إنه لما وصل إلى دهشور كان في صحة جيدة وروح عالية؛ حيث إنه كان قد انتصر على محمد علي وجيشه انتصارا باهرا في المنصورية لم يلبث هذا بعده أن انسحب إلى قرية كفر حكيم ، وانتظر الألفي عبثا خمسة أيام بتمامها أن يخرج العدو منها حتى يلتحم معه ثانية، ثم استأنف سيره إلى دهشور حيث توفي بها فجأة، واختير شاهين رئيسا للألفية، وتحدث شاهين عن أغراض جماعته فقال: «إن غرضنا الآن هو الذهاب إلى والدنا إبراهيم بك وسائر البكوات بالصعيد، وسوف نعمل جادين بالاتحاد معهم من أجل استرجاع أملاكنا وانتزاعها من أيدي الأرنئود، تبعا لتعليمات سلطاننا المعظم أبقاه الله ورعاه - وبمشيئته تعالى سوف نتمكن في خلال هذا الشهر من تحقيق غرضنا ونيل مأربنا.» ثم رجاه أن يبلغ السفير الإنجليزي بالقسطنطينية ألا يصدق ما يترامى إليه من أنباء كاذبة قد يروجها أعداء شاهين ويعد أنه بمجرد وصوله إلى الصعيد وانضمامه إلى البكوات القبالي، سوف يجري إعداد عريضة من جانب البكوات إلى الباب العالي، ويرسلها هؤلاء إلى «مسيت» حتى يبعث هذا بها إلى السفير، واختتم شاهين كتابه برجاء «مسيت» الاستمرار على إسداء العون لهم كما كان يفعل مع الألفي وأن يكتب إليهم، ويؤكد له أنه سوف يسعدهم دائما أن يؤدوا له كل ما يمكنهم من خدمة.
وهكذا كانت الحقيقة الواضحة - بالرغم مما احتواه خطاب شاهين من عبارات الود والصداقة للوكيل البريطاني، والوعد بإسداء الخدمة التي قد يريدها «مسيت» من البكوات أن جماعة الألفي آثرت الانسحاب إلى الصعيد، بدلا من انتظار مجيء الحملة الإنجليزية؛ وعلى ذلك لم تجد هذه الحملة عند حضورها بعد شهر واحد من تاريخ وصول هذه الرسالة إلى «مسيت» أحدا من مماليك الألفي أو أجناد شاهين لاستقبالها.
حقيقة أثمرت جهود «مسيت» في الإسكندرية لأسباب سوف نذكرها في موضعها أفضت إلى تسليم هذه دون مقاومة، ولكن محمد علي باشا مصر وصاحب الحكم فيها كان قد صح عزمه على رد هذا العدوان بالقاهرة، ولم يجد «مسيت» بالرغم من نشاطه ونشاط وكلائه سوى أفراد قلائل معدودين رغبوا فعلا في مناصرة الإنجليز أو رضوا عن غزوهم.
تلك إذن كانت آثار السياسة الخاطئة والملتوية التي مضى فيها «مسيت» بإصرار وعناد لتحطيم حكومة محمد علي، حتى يتحطم بذلك نفوذ فرنسا في مصر، ولتأسيس الحكم المملوكي حتى يتمهد بذلك احتلال البريطانيين لهذه البلاد؛ وعلى ذلك فإنه بدلا من أن تتهدم المصالح الفرنسية أو يقضى على النفوذ الفرنسي في مصر في هذه الفترة أحرز هذا النفوذ تفوقا كبيرا أخذ يقوى تدريجا حتى بلغ ذروته أيام الغزو البريطاني في عام 1807، وكان سبب هذا إنما هو السياسة الحكيمة التي سار عليها «دروفتي» ثم نائبه «مانجان» في القاهرة. (2) سياسة «دروفتي» «برناردينو» (أو برناردان) ميشيل ماري «دروفتي»،
1
أصله من بيدمنت، تأثر بالآراء والمبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية، وانخرط في السلك العسكري الفرنسي في 1796، واشترك في الحملة الإيطالية، وعين بعد صلح كمبو فرميو (1797) قومسييرا للحكومة المؤقتة التي أقيمت في بيدمنت تحت النظام الفرنسي الجديد، ثم التحق بالجيش مرة أخرى عند استئناف الحرب، فحضر معركة مارنجو المشهورة (14 يونيو 1800)، وعهد إليه بتنظيم الجيش البيدمنتي، وفي 20 أكتوبر 1802 عين وكيلا للشئون التجارية بالإسكندرية، وشهد وهو بها في صيف 1803 ما أوقعه علي باشا الجزائرلي من مظالم على الأوروبيين، وبذل قصارى جهده لحماية مصالح هؤلاء، حتى نال ثناء بونابرت القنصل الأول، وعندما غادر «ماثيو لسبس» مصر في خريف 1804 تعين «دروفتي» في مكانه (أي نائب قومسيير للعلاقات التجارية الفرنسية)، وكان «دروفتي» يبلغ عندئذ الثامنة والعشرين، وأما نائبه في القاهرة «فيلكس مانجان»
Félix Mangin
فكان من الفرنسيين الذين بقوا بالبلاد منذ مغادرة الفرنسيين لها في 1801، اشتغل بالتجارة في القاهرة، وتزوج من ابنة مواطنه «كاف»
Caffe
وهذا تاجر فرنسي كذلك كان من بين أعضاء الديوان الكبير أيام بونابرت، وقد كلفه «ماثيو لسبس» رسميا في 16 أكتوبر 1804 بالعمل في القاهرة وكيلا للقوميسيرية العامة، وبأن يتراسل مع خليفته (أي خليفة «ماثيو لسبس») في الإسكندرية، وقد شكا «مانجان» إلى وزير الخارجية «تاليران» في أكتوبر 1806 أنه ظل يخدم الحكومة الفرنسية في القاهرة بنشاط وهمة ولكنه لم يحصل على أية مخصصات أو مرتبات، ويرجوه أن يتوسط لدى الإمبراطور في هذا الأمر، وقد عزز «دروفتي» طلب «مانجان» وقال: إنه ظل يقوم بعمله في القاهرة طوال العامين الماضيين باجتهاد عظيم، وكان «مانجان» يتلقى تعليماته من «دروفتي» ويعمل بنصائح هذا الأخير وإرشاداته له، بينما كانت تأتي التعليمات إلى «دروفتي» من حكومته رأسا.
والرأي السائد عند جمهرة المؤرخين الفرنسيين أن «دروفتي» صار يسترشد في نشاطه السياسي في السنوات التالية ومنذ أن عين في مكان «ماثيو لسبس» بالمبادئ والقواعد التي تركها هذا عند مغادرته مصر للوكلاء الفرنسيين حتى يسترشدوا بها ويسيروا عليها من بعده، وأهم هذه المبادئ الإقبال على تأييد محمد علي ومناصرته، والعمل على تعطيل مشاريع الإنجليز للقضاء على كل نفوذ لهم في البلاد، على أن الحقيقة فيما يتعلق بتأييد محمد علي خصوصا كانت على خلاف ذلك؛ لسببين هامين؛ أولهما: أن «ماثيو لسبس» كان لا يرى في محمد علي - وكما سبق ذكره - ذلك الرجل القادر على انتشال البلاد من الفوضى وتأسيس الحكومة الموطدة بها حتى يوصي خلفاءه بتأييده، وثانيها: أن «دروفتي» نفسه كان يشك كثيرا وقت المناداة بولاية محمد علي مايو 1805 في قدرة هذا الباشا الجديد على تذليل الصعوبات التي اعترضت حكومته حتى يقبل هكذا وعلى أثر المناداة به مباشرة على تأييده، بل إن «دروفتي» لم يعمد إلى مناصرة محمد علي إلا بعد أن تدخلت عوامل عدة جعلت «دروفتي» يقبل شيئا فشيئا على مؤازرة الباشا لاعتقاده بأن بقاء محمد علي في الحكم هو الوسيلة الفعالة لإبطال مساعي الإنجليز الذين يريدون إعادة الحكم المملوكي إلى مصر برئاسة حليفهم الألفي، وأما من حيث تلك التعليمات المزعومة التي تركها «ماثيو لسبس» لخلفائه فقد وصفها «دروفتي» نفسه في رسالة له إلى حكومته في 31 أغسطس 1805 بأنها إنما تدور حول شيء واحد، وواحد فقط هو إفساد خطط الإنجليز ومشاريعهم في مصر، ولم يكن «دروفتي» في حاجة إلى هذا النصح والإرشاد؛ لأنه يعتقد اعتقادا راسخا ومن مبدأ الأمر - وكما اعتقد نائبه «مانجان» أيضا - أن مهمته الكبرى والمباشرة إنما هي إفساد خطط الإنجليز ومشاريعهم بكل وسيلة.
والواقع أن «دروفتي» اختط لنفسه سياسة كانت مستقلة في تفاصيلها عن تلك التي سار عليها سلفه من قبل، أو أرادت حكومة القنصل الأول والإمبراطور في باريس إلزام مندوبيها في مصر باتباعها ، وإن اتفقت هذه السياسة في هدفها الأعلى وما كانت تريده فرنسا من حيث القضاء على كل نفوذ للإنجليز في مصر والحيلولة دون احتلال هؤلاء للبلاد مرة ثانية، وكان بفضل استقلال «دروفتي» بالعمل وعلى مسئوليته هو وحده أن انتقلت تدريجا السياسة الفرنسية المحلية من سلبيتها السابقة إلى سياسة إيجابية ترمي إلى التأثير على الوقائع ذاتها بدلا من الاكتفاء بالأمر الواقع والتسليم به أو محاولة تعديل ما ترتب على حدوثه من نتائج بعد حدوثه.
ولقد تضافرت عوامل عدة لإدخال هذا التعديل الجوهري على السياسة الفرنسية المحلية في مصر، منها ما ظهر وقتئذ من أن حكومة باريس لم تشأ - على ما يبدو - أن تخط لنفسها سياسة مصرية مرسومة، طالما أنها قنعت بذلك الهدف العام الذي ظل مسيطرا على تفكيرها حتى عام 1804؛ أي منع الإنجليز من احتلال مصر ثانية بعد أن تم إجلاؤهم عنها في مارس 1803، وطالما أنها بقيت راضية بما يظهره عثمان البرديسي (خصم الألفي حليف الإنجليز) من آيات الولاء والصداقة وضروب الاحترام لشخص بونابرت العظيم في مراسلاته معها، ولو أن الولاء لفرنسا والاحترام لعاهلها لم يمنعاه عندما تأسست الحكومة المملوكية أو الحكومة الثلاثية في القاهرة من إساءة معاملة «ماثيو لسبس»، حتى إن هذا الأخير طلب من حكومته أن تبعث في استدعائه من مصر، وكان السبب في عدم وجود أي سياسة مصرية مرسومة لدى حكومة باريس أن مشاغل الإمبراطور نابليون وحروبه في القارة الأوروبية ثم نضاله العنيف مع إنجلترة قد استغرقا كل وقته، واستأثرا بكل نشاطه وتفكيره، حتى إنه صار ينظر إلى مصر والفصل في مصيرها كمسألة ذات أهمية ثانوية تأتي في ترتيبها بعد إحرازه النصر في أوروبا وانهزام إنجلترة، فكانت التعليمات التي وصلت إلى «دروفتي» قليلة ومفرغة في قالب عام تركت له في حقيقة الأمر بين عامي 1805، 1807 حرية العمل وعلى مسئوليته هو وحده وما دام لا يفوت على فرنسا تعزيز مصالحها.
ولعل أهم ما يلاحظ في هذا التغيير الذي طرأ على السياسة الفرنسية المحلية - وهي التي وجب بحق تسميتها بسياسة «دروفتي» - أنه حدث لصالح محمد علي، ولم ينتفع منه البكوات الذين عرفوا بصداقتهم لفرنسا، وينسب الفضل في ذلك إلى «دروفتي» الذي لم تلبث الحوادث أن أقنعته رويدا رويدا بأن المناداة بمحمد علي في مايو 1805 إنما هي بمثابة حد يفصل بين عهدين، ولا ندحة عن إدخاله في حساب الديبلوماسية الفرنسية إذا شاءت فرنسا الوصول إلى غايتها التي هدفت إليها منذ استئناف نشاطها في مصر: تعزيز نفوذها في البلاد ورعاية مصالحها التجارية خصوصا، ثم منع عودة الاحتلال البريطاني إليها، ويتضح عجز حكومة باريس عن إدراك هذه الحقيقة من تلك التعليمات التي بعثت بها إلى «دروفتي» في 22 يوليو 1805 - كما سيأتي ذكره - وهي تعليمات لو أن «دروفتي» لم يكن صاحب همة ونشاط وذا حصافة وبعد نظر سياسي لعطلت المصالح الفرنسية في مصر وألحقت الأذى بها.
وقد رفض «دروفتي» أن يظل مكتوف اليدين بينما يتدخل غريمه «مسيت» تدخلا إيجابيا وينشئ حزبا مملوكيا مواليا للإنجليز، يتزعمه الألفي أعلى البكوات همة وأشدهم مراسا، وكان على «دروفتي» وقد اعتزم نبذ السلبية التي هددت بزوال كل نفوذ لفرنسا أن يختار بين أمرين: إما مؤازرة الحزب الفرنسي ورئيسه العامل عثمان البرديسي، ثم سائر البكوات كعثمان بك حسن وغيره من الذين يغضبهم استعلاء الألفي ولا يرضون برئاسته عليهم، وإما مؤازرة محمد علي. ولقد أوحت الحوادث إلى «دروفتي» وبعد تجربة، بأن من الخير له الإقبال على مناصرة محمد علي لا ضد الألفي فحسب، بل وضد البرديسي وجماعته كذلك، على أن هذا التحول الذي شكل سياسة «دروفتي» لم يحدث فجأة، بل مر في أدوار وعلى مراحل، وحدث بعد إمعان وترو، وتقليب لوجوه النظر فيما صار يجد من وقائع، لا سيما بعد حادث انقلاب 13 مايو 1805، واتخذ أول ما اتخذ مظهر المحاولة لمنع أي اتفاق بين الألفي ومحمد علي، خوفا من أن يؤدي ذلك إلى انتصار السياسة الإيجابية الإنجليزية في مصر، حتى إذا استبان «دروفتي» أن محمد علي يعتزم التحرر من كل نفوذ أجنبي ويرفض أن يشاركه الحكم أحد من البكوات لا الألفي ولا غيره، وأن القوة وحدها هي التي تستطيع زحزحته من الولاية وإخراجه من مصر، ثم شهد تخاذل المماليك بسبب خلافاتهم وانقساماتهم وتعذر تكوين جبهة متحدة منهم سواء بزعامة الألفي أو بزعامة البرديسي، وانتفاء كل رجاء لذلك في قيام حكومة مملوكية في مصر، ثم انهيار مثل هذه الحكومة إذا تسنى إنشاؤها لظروف طارئة كتلك التي حدثت في 1803-1804 فضلا عن إيثار بكوات الصعيد العيش في تلك الأقاليم النائية ينهبون ويسلبون، على البقاء بالقرب من مراكز النشاط السياسي ثم العسكري المنتظر في الوجه البحري، وتركهم الميدان فسيحا للألفي حليف الإنجليز، نقول: إن «دروفتي» حينما اتضح له ذلك كله لم يجد مناصا من مؤازرة حكومة محمد علي، ثم إنه ما إن وصل إلى تقرير هذه الخطة حتى أقبل على تنفيذها دون تردد في جرأة وشجاعة حققتا لها الانتصار لا من حيث المساعدة على إنقاذ ولاية محمد علي من الأخطار التي تهددتها وكادت تطيح بها بين عامي 1805، 1807 فحسب، بل ومن حيث إرساء قواعد ذلك التفاهم الذي قرب بين محمد علي وفرنسا، وأوجد تلك الصداقة التي جعلت باشا مصر يعتمد على ما صار يتوقعه من مناصرة هذه الدولة حتى آخر أيام حياته.
ويبدأ هذا التحول في السياسة الفرنسية المحلية في مصر عند المناداة بولاية محمد علي، ويتم أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم لا تلبث أن تظهر ثماره المباشرة عند مجيء حملة «فريزر» إلى مصر، ويرتبط باعتبارات معينة منها ضرورة الاطمئنان إلى موقف الباب العالي من فرنسا في النضال الأوروبي القائم حتى لا ينحاز إلى عدوتيها: إنجلترة وروسيا، ثم اتخاذ الحيطة من ناحية نشاط الوكلاء الإنجليز مع حلفائهم من المماليك الذين تزعمهم الألفي، وذلك حتى يتسنى تدبير الوسائل التي تكفل دفع الغزو الإنجليزي عند وقوعه، وقد كان الفرنسيون يتوقعون نزول حملة إنجليزية في هذه البلاد، كما كان غرماؤهم يتوقعون غزوة فرنسية عليها، وأخيرا التأكد من أن محمد علي هو القوة الداخلية في مصر ذاتها، وزوال أي اشتباه في قدرته على تذليل ما يصادفه من صعوبات، ورسوخ الاعتقاد بأن أسباب الدفاع عن البلاد ضد الغزو الإنجليزي المنتظر إنما تتركز في حكومته وتتوقف على بقاء ولايته.
المرحلة الأولى: بوادر التحول إلى الإيجابية
وقد بدأ «دروفتي» عمله في منصبه الجديد - مكان «ماثيو لسبس» - بتسجيل ما صار يلاحظه بيقظة وانتباه من حوادث لا معدى عن تأثيرها على المصالح الفرنسية من جهة، وعلى الوضع القائم في مصر من جهة أخرى، أبرزها نشاط القنصل الإنجليزي «مسيت» في الثغر، والنضال القائم بين حكومة خورشيد وبين البكوات سواء في الفيوم أو في الصعيد، ثم استقدام خورشيد لجنوده الدلاة، فقد زار الإسكندرية أسطول إنجليزي بقيادة «نلسن» في فبراير 1805، كما زارت الميناء فرقاطة إنجليزية بعد ذهاب الأسطول، وأكد الإنجليز، ولا سيما «مسيت» أن أسطولا فرنسيا قد غادر طولون من المتوقع أن يغزو مصر، فنشطت السلطات الحاكمة في الثغر لتحصين الإسكندرية تحت إشراف القنصل البريطاني الذي يعمل كل يوم على تمرين الجنود وبعض العربان، ويجري مناورات تشترك فيها المدفعية، وبعث خورشيد باشا لذلك بأحد ضباطه يحمل نداء إلى الإسكندريين يدعوهم فيه للتسلح من أجل الدفاع عن البلاد، ثم لاحظ «دروفتي» بعد أن سجل وقائع القتال الدائر بين جند خورشيد بقيادة محمد علي وبين البكوات، ثم سقوط المنيا في يد الأول في أبريل 1805 أن لا وجود لأي تفاهم أو سلام بين البكوات المماليك، وأن الباب العالي إذا أولى الأمر قليلا من عنايته استطاع في وقت قريب أن يصبح سيد البلاد تماما، ومنذ 4 أبريل كشف «دروفتي» لحكومته عن الآثار المتوقعة من استقدام الدلاة إلى مصر، وهم الذين قال عنهم: إنهم وصلوا إلى القاهرة في 29 مارس، فأوضح كيف أنه من الطبيعي أن يزعج وجودهم الأرنئود الذين صاروا يرون اليوم أنفسهم مهددين بفقد ذلك التفوق الذي أحرزوه بسبب أعدادهم الكثيرة عندما وجدت في الميدان قوات جديدة تعادلهم، وقال «دروفتي»: إن خورشيد يبغي من استقدامهم تأليف حزب من الدلاة يعاونه على التحرر من سيطرة الأرنئود، ثم نقل إلى حكومته ما يذيعه المتشائمون من أن وجود هاتين القوتين: الدلاة والأرنئود، سوف يفضي إلى وقوع الاصطدام بين رئيس الدلاة وبين محمد علي لتنازعهما المنتظر على القيادة العليا، ولما كان الدلاة قد صاروا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر لقمع البكوات وطرد الأرنئود، ومن المنتظر بسبب هذه الأقوال غير الحكيمة أن يتغير الأرنئود على حكومة خورشيد ، فقد أنذر «دروفتي» منذ 11 أبريل بتوقع حدوث الاصطدام بين خورشيد ومحمد علي، فقال: ولن يكون مثار دهشة إذا أعلن محمد علي في هذه الظروف تذمره وغضبه وهو الذي ليس هناك ما يدعوه لانتظار رضا الباب العالي وثنائه عليه، وأما خورشيد فإن مركزه سوف يتحرج حتما إذا لم ينشط في حكمة واعتدال لتهدئة الدلاة والأرنئود وفرض النظام والطاعة على الجماعتين. وفي 16 أبريل كتب «دروفتي» إلى «تاليران» أن سحب الثورة تتجمع في سماء القاهرة، وأن أحدا لا يعرف مشروعات محمد علي الطموح والجريء، وأن موقف الأهلين من هذه الأزمة لا يزال مجهولا، ثم انتقد «دروفتي» تصرف خورشيد؛ لأنه أعطى قيادة القلعة إلى صالح أغا قوش أحد الأرنئود وجمع حوله بالقلعة طائفة منهم، فكان من رأي «دروفتي» إذا اتضح أن لمحمد علي أطماعا تجعله يريد الاستيلاء على القاهرة، فإن خورشيد سوف يلقى نفسه في مركز على غاية من الحروجة للأسباب المتقدمة، وبالرغم مما يبدو من اعتقاد خورشيد وهو نفسه من الأرنئود بأن في وسعه التأثير على صالح قوش وسائر الأرنئود الذين معه بالقلعة، والصعوبة الكبرى التي يصادفها خورشيد وسط هذه الأحداث هي حاجته الملحة إلى المال، وعجزه الظاهر عن دفع مرتبات الجند.
ومع أن الاصطدام الذي خشي «دروفتي» وقوعه بين الدلاة وبين محمد علي لم يحدث؛ لنجاح الأخير في كسبهم إلى جانبه، ودخل محمد علي القاهرة ووافق خورشيد على أن يدفع بعد مهلة قصيرة جدا مبلغا من المال لدفع مرتبات الجند، فقد توقع «دروفتي» في 23 أبريل أن يظل الموقف في مصر متحرجا، وكان من رأيه أن الاتفاق الأخير بين خورشيد وبين محمد علي لا يبعث على الاطمئنان؛ لأن محمد علي إنما يريد الاستحواذ على باشوية القاهرة، وقد زود «مانجان» في الأيام التالية بمعلومات كثيرة عن حقيقة الحالة في القاهرة، وعن ازدياد نفوذ محمد علي على الجند والأهلين، وأوضح «دروفتي» لتاليران في 28 أبريل أن الأمور سوف تتأزم لا محالة بسبب خلو الخزانة من المال، وتوقع أن يحدث في مصر نفس ما حدث أيام خسرو باشا، ثم إنه لم تفته ملاحظة نشاط «مسيت» الذي لم يعنه شيء من أمر الأزمة التي كانت على وشك الانفجار في القاهرة، فراح يشيع الخوف بين أهل الإسكندرية وحكامها من الغزو الفرنسي المنتظر، فقد دخل إبريق إنجليزي إلى الميناء في 27 أبريل، حضر من مالطة، فذهب أحد الضباط الإنجليز بصحبة «مسيت» لمقابلة أمين أغا حاكم الإسكندرية والقبطان بك متولي قيادة السفن العثمانية في الميناء ليعلنا إليهما خروج أسطول فرنسي من طولون حتى يحتاطا للأمر، وخرجت فرقاطة عثمانية على الأثر من الميناء القديم للقيام بجولة أمام الإسكندرية، وفي 3 مايو كتب «دروفتي» إلى «باراندييه»: أن الإنجليز الذين تذرعوا دائما بحجة الدفاع عن هذه البلاد ضد الفرنسيين يحاولون وضع حامية بالإسكندرية تتألف من الفرقة العاشرة وجنود آخرين من المشاة الذين هم على ظهر سفينتين إنجليزيتين موجودتين بهذا الميناء، وأرادوا أن يتعاون معهم في إنجاز هذه العملية غير الحكيمة ضباط الباب العالي من غير أن ينال هؤلاء الأخيرون موافقة حكومتهم على ذلك، واعتقد «دروفتي» لذلك أن الإنجليز إنما يريدون الاستيلاء على الإسكندرية منتهزين فرصة عدم الاستقرار السائد في مصر لتنفيذ مآربهم، بينما قد بلغ اليأس بأهل البلاد كلهم تقريبا بسبب استمرار الثورات التي تكاد تقع يوميا والتي أتعبتهم وأنهكت قواهم حدا جعلهم يطلبون الفرج على يد نجدة تأتي لإنقاذهم من المظالم التي يقاسونها، سواء جاءت هذه النجدة من فرنسا أو من إنجلترة.
ثم ظل «دروفتي» يرقب بيقظة وانتباه ما يجري من حوادث في القاهرة، فسجل تدخل الدفتردار جانم أفندي والمشايخ بين خورشيد ومحمد علي لإنهاء الأزمة، وتوصل هؤلاء لاتفاق بين هذين، حصل في منزل جانم أفندي، قد يفضي إلى تمتع القاهرة بالهدوء إذا أمكن تنفيذه، وهذا ما لم يكن «دروفتي» يتوقعه، فقد كتب إلى «تاليران» في 6 مايو يطلب تعليمات جديدة، فقال: إنه بالرغم من الأخبار التي بلغته عن إجراء الصلح نهائيا بين خورشيد ومحمد علي على أساس أن يدفع الأول مرتبات ستة شهور للأرنئود، وأن يبعث الأخير بالقسم الأكبر من جنده إلى الصعيد لمواصلة القتال ضد البكوات هناك، فهو يعتقد أن الموقف يتطلب منه أن يسأل «تاليران» إرسال تعليمات جديدة إليه بشأن ما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا استولى محمد علي على زمام الحكم، أو إذا ترتب على حدوث ثورة أخرى أن سلبت السلطة من ممثلي الباب العالي الشرعيين في هذه البلاد.
ولقد كان لدى «دروفتي» ما يحمله على الاعتقاد - ومنذ 6 مايو - أن الأمور في القاهرة سوف تجري في غير صالح خورشيد باشا، حتى إنه وجد من الضروري عدم انتظار وصول تعليمات «تاليران» إليه، ورأى أن الواجب يقتضيه سؤال «باراندييه» القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية أن يبعث إليه بتعليمات مؤقتة يعمل بها حتى تأتيه توجيهات حكومة باريس، وقد صح تقدير «دروفتي»؛ لأن الحوادث سرعان ما وقعت متلاحقة في أثر بعضها بعضا بالصورة التي عرفناها والتي انتهت بالمناداة بولاية محمد علي في 13 مايو 1805، وقد سجل «دروفتي» و«مانجان» وقائع هذه الحوادث بين يومي 4، 13 مايو، وأصدر الوكيل الفرنسي إلى نائبه في القاهرة تعليماته بضرورة زيارة محمد علي واستطلاع آرائه من حيث رعاية المصالح الفرنسية عند استيلائه على حكومة القاهرة، فكتب «مانجان»: إن هذا القائد الأرنئودي (أي محمد علي) قد أبدى له ما يكنه من مشاعر المحبة العظيمة للأمة الفرنسية وحكومتها.
وقد عني «دروفتي» بدراسة الموقف في القاهرة عقب انقلاب 13 مايو واعتصام خورشيد بالقلعة، واستخلص من دراسته هذه حقائق معينة جعلته يصدر تعليمات إلى «مانجان» فيما يجب أن يكون عليه مسلكه مع محمد علي، وقد بسط «دروفتي» ذلك كله في رسالة هامة بعث بها إلى «باراندييه» من الإسكندرية في 16 مايو 1805، فقال: «ولو أن خورشيد قد نجح في طلب النجاة بالاعتصام بالقلعة، فليس هناك ما يدل على أنه سيبقى في حكومة مصر، فعليه أن يناضل ضد تدابير رجل صاحب أطماع ونشاط كبيرين - يعني محمد علي - ويحذق فن التآمر، ويناصره الرأي العام كما أن لديه القوة والسلاح، وهذا الرجل اللبق قد عرف كيف يسترضي المشايخ وأهل القاهرة، وأن يجعلهم يصدقون أن السبب الفرد في سوء الحالة المالية مرده إلى سوء الإدارة والحكم الذي هو مبعث كل الاضطرابات التي أزعجت القاهرة وحركتها على الثورة؛ وعلى ذلك؛ فقد أشاع بينهم روح السخط والتذمر، واستطاع أن يشق لنفسه طريقا إلى الولاية دون أن يبدو منه ما يشعر أنه يريد الحكم، فهو مسيطر في هذه اللحظة تماما على رؤساء الأهلين الظاهرين، وما عليه إلا أن يبدي إرادته حتى يظفر بنيل مأربه، ولكن هذا الرجل صاحب الأساليب المكيافيلية دائما إنما يبغي ما يظهر أن يكون وصوله إلى السلطة عن طريق الشعب، وبهذه الوسيلة لا يفوز بتأييد المشايخ والأهلين لكل مشاريعه فحسب، بل ويجعل نفسه كذلك وبصورة من الصور رجلا أو حاكما لا معدى عن حاجة الحكومة العثمانية إليه، ومع أن أنصار المماليك قد أعلنوا منذ انسحابه من الصعيد ومجيئه إلى القاهرة أن محمد علي إنما يعمل بالاتفاق مع البكوات، إلا أن مسلك هؤلاء الأخيرين لا يدل في الحقيقة على وجود خطة مثل هذه، فمحمد علي يستخدم كل الوسائل الممكنة التي تجذب إليه قلوب أهل القاهرة، بينما يعمل المماليك على تخريب الوجه البحري والجهات المجاورة للقاهرة ذاتها، ويقطعون المواصلات ولا يدعون الإمدادات والمؤن تأتي العاصمة من الصعيد، بل ويجوعون القاهرة وينشرون بها المجاعة مما أثار الأهلين عليهم، وقد يكون تصرفهم مخالفا لما يفعلونه لو أنهم سلكوا نفس الطريق الذي اتبعه محمد علي، والحقائق المتصلة بالموقف هي ما يأتي: الانقسام التام يفرق بين حزبي البرديسي والألفي، والأخير قد يرى فيما لحق بعثمان البرديسي من هزيمة انتقاما له منه وقع على أيدي الأرنئود، بينما قد طرد الأرنئود البرديسي من القاهرة، وقد توصل الإنجليز سابقا في عقد صلح بين خورشيد والألفي، وقد سعوا لدى الباب العالي في صالح الألفي، ويهمهم أن يروا حزب البرديسي وقد تحطم بينما يلازم النجاح والانتصار الألفي وحزبه ، وأخيرا، فإن الألفي رابض بالقرب من القاهرة في انتظار ما تسفر عنه الحوادث، وعلى كل حال، فمن المتعذر أن يرضى محمد علي بمشاركة الألفي له في ممارسة شئون السلطة العليا، وقد وجدت من واجبي مهما يكن الأمر أن أبعث بتعليمات إلى «مانجان» بالقاهرة حتى يبذل قصارى جهده لإحباط كل مشروع يضع في الحكم صنيعة الإنجليز (أي الألفي)، وعندما أوضحت لمانجان المهمة التي عليه القيام بها لدى محمد علي، أوصيته باجتناب كل إجراء يستثير عمال أو ضباط الباب العالي ويغضبهم، وهم الذين يجب علينا علاوة على ذلك في علاقاتنا معهم المحافظة على مصالحنا بأن نحول دون أن يكون للإنجليز أي نوع من النفوذ في حكومة مصر.»
وعلى ذلك، فقد أصدر «دروفتي» تعليماته إلى «مانجان» في اليوم نفسه (16 مايو)، يوصيه بأن يثابر على جهوده لكسب صداقة محمد علي مع مراعاة الحكمة؛ نظرا لما كان متوقعا من استئناف العلاقات الودية القديمة بين فرنسا والباب العالي نتيجة للتغيير الوزاري الذي حدث وقتئذ في تركيا، ثم ذكر لمانجان رأيه في أغراض محمد علي وذلك بما لا يخرج عما ذكره في رسالته السابقة إلى «باراندييه»، ولما كان «دروفتي» قد جزم بأن الاستئثار بالحكم عن طريق الشعب، وجعل الباب العالي في حاجة ملحة إلى بقائه في هذا الحكم، هما غرضا محمد علي، فقد عدد «دروفتي» الصعوبات التي تعترض سبيله، ومنها جعل الجند يطيعون أوامره؛ لأن هؤلاء - كما قال - يصرون على عدم الخروج لقتال المماليك الذين يتجولون في مديريات الوجهين البحري والقبلي كغزاة فاتحين، ينهبون القرى ويجوعون القاهرة، مما من شأنه إذا استمر الحال على ذلك إثارة تذمر الشعب من الحاكم الجديد وكذلك سوف يثور التجار - وهم طبقة من الناس ينبغي رعاية جانبهم - إذا وجدوا المماليك والعربان المسيطرين على شواطئ النيل يقطعون المواصلات، ثم تساءل «دروفتي» وماذا يحدث للدلاة؟ لا شك في أن هذه كذلك مسألة شائكة عويصة؛ وعلى ذلك، فقد أوصى «مانجان» بأن يجتمع بمحمد علي وأن يتحدث معه في هذه الشئون جميعها، ولكن دون أن يبدو منه ما يدل على أنه يريد التحدث إليه في مشاريعه، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وأما إذا لاحت الفرصة، فعلى «مانجان» أن يذكر لمحمد علي أن «دروفتي» قد خلف مؤقتا «ماثيو لسبس»، وأن هذا قد عهد إليه بأسرار بعثته أو مهمته في مصر، وأن «دروفتي» قد وقف على سر محمد علي من زمن طويل - قل له: إننا نحبه؛ لأننا نعلم أنه يحب أمتنا وحكومتنا، ولكن قبل كل شيء تأكد من ولاء تراجمتنا قبل أن تصل إلى المرحلة التي تدلي فيها بهذه التصريحات، وإنه لمما يهمنا أن نعرف بالتمام آراء محمد علي وغاياته، ولكن الواجب يقتضينا عدم المجازفة بالتورط بأية صورة من الصور، فاعمل إذن بمنتهى ما يمكن من الحكمة، وأنت تعرف أن الإطراء والمداهنة ضروريان قبل أي شيء آخر إذا أريد عرفان أسرار الترك، والزم عند حديثك مع محمد علي أسلوب الأسئلة غير المحددة والمفرغة في صيغ شرطية، واجتهد حتى تعرف ما إذا كانت له علاقات مع البكوات.
وفي 20 مايو بعث «دروفتي» بتعليمات جديدة على ضوء ما بلغه عن حوادث القاهرة: استمرار النضال بين خورشيد ومحمد علي، وقوف الألفي قريبا من القاهرة يستعد لدخولها، وتجري المفاوضات بينه وبين محمد علي بشأن ذلك، ويحاول الأخير بمساعدة عمر مكرم خديعة الألفي وشل حركته، بقاء البرديسي وإبراهيم وسائر البكوات القبالي بالصعيد إلى غير ذلك من المسائل التي عرف «دروفتي» بعضا منها، لا سيما محاولة الألفي الاتفاق مع محمد علي: الأمر الذي استأثر بكل اهتمام «دروفتي» في هذه الأزمة، فقال «دروفتي»: إن الموقف يتطلب من «مانجان» إظهار مهارة فائقة، وحكمة بالغة حتى لا يستثير ضده أية جماعة من الجماعات المتناضلة، ثم تحدث طويلا عن مسألة الألفي، فقال: إن الإشاعات رائجة في الإسكندرية بأن الألفي متفق مع محمد علي وأنه على وشك دخول القاهرة إن لم يكن قد دخلها فعلا؛ ولذلك فواجب «مانجان» أن يسعى لمقابلة محمد علي وأن يطلب منه تصريحا في هذه المسألة، فإذا وجد «مانجان» أن محمد علي قد قرر مراعاة خاطر الألفي ومحاباته؛ فعليه حينئذ أن يبذل قصارى جهده لمنعه من ذلك، بأن يبين له أن هذا العطف على الألفي يجلب عليه غضب الباب العالي، بينما هو في استطاعته أن ينشئ علاقات طيبة مع الباب العالي، حيث قد تسلم الحكم بفضل تأييد الشعب له. ثم عمد «دروفتي» إلى لهجة الوعيد الخفي والتهديد المستتر فطلب من «مانجان» أن يجعل محمد علي يشعر بأنه من الممكن أن يأتي جيش فرنسي إلى مصر، وأن البكوات الموالين للإنجليز والذين هم تحت حماية هؤلاء سوف ينالون جزاءهم، ثم استطرد يقول: «وأخبره (يعني محمد علي) أن الإمبراطور نابليون يعلم إخلاصه وولاءه للأمة الفرنسية، وأنه لمن الأوفق له (أي لمحمد علي) تحت كل الأحوال والظروف أن يسلك طريقا لا يتعارض مع تلك التصريحات التي أدلى بها على عهد القومسيير العام «لسبس».
وقد لفت «دروفتي» نظر «مانجان» إلى النتيجة المنتظرة من اقتسام الألفي السلطة العليا مع محمد علي، وهي انتصار الإنجليز؛ ولذلك فقد صار واجب الوكلاء الفرنسيين أن يبطلوا مثل هذا المشروع إذا كان له وجود، وأما إذا وجد «مانجان» أن محمد علي قد أبرم فعلا اتفاقا مع البكوات، وهذا أمر استبعده «دروفتي» - كما قال - كشيء مستحيل، فالواجب على «مانجان» عندئذ أن يغير أسلوبه وأن يتناول هذه المسألة بالعناية الكبيرة، وعليه قبل أن يطرق هذا الموضوع مع محمد علي أن يبلغ ما وقف عليه إلى «دروفتي» حتى يبعث إليه هذا بنصائحه فيما يجب أن يكون عليه مسلكه من محادثاته مع الباشا، وكان مما أقض مضجع «دروفتي» ما وصله من أنباء من رشيد تفيد بأن الألفي قد تناول الطعام عند محمد علي يوم العيد الكبير، وأن محادثات دارت بين هذين حول تسمية الألفي شيخا للبلد وبقاء محمد علي في منصب الولاية، وأن الوكلاء الإنجليز يعتبرون هذا الحادث دليلا على نجاح مساعيهم، وطلب «دروفتي» من «مانجان» أن يبذل قصارى جهده حتى يعرف ما إذا كان لهؤلاء الوكلاء الإنجليز مراسلات مع محمد علي ثم نوعها.
وفي 15 مايو بعث «مانجان» إلى «دروفتي» يخبره بزيارته لمحمد علي بعد وصوله إلى الولاية ويشكو من مسلك «كارلو روشتي»، وكيل النمسا في مصر، وقد اهتم «دروفتي» بهذه المسألة، واعتبر أن نشاط «روشتي» يعدل في أذاه للمصالح الفرنسية في هذه البلاد ما يلحقه الوكلاء الإنجليز أنفسهم بنشاطهم من أذى بها؛ لأن «روشتي» - كما قال «دروفتي» - معروف بعدائه لفرنسا؛ ولذلك فالواجب الحذر منه ومن جماعته أكثر من الحذر من الإنجليز، ويرجو أن يسفر ما يحمله «ماثيو لسبس» من شكايات ضده إلى الإمبراطور، وتدخل هذا الأخير لدى حكومة فينا في وضع حد لجهود «روشتي» هذه وقصر نشاطه على تأدية واجباته السياسية؛ أي عدم التآمر ضد مصلحة فرنسا، ولما كان «دروفتي» حريصا على عدم إغضاب الباب العالي، فقد أبلغ «مانجان» في 22 مايو موافقته على زيارته لمحمد علي (الباشا الجديد) ولكنه يكرر عليه ضرورة اتخاذ الحيطة في اتصالاته معه حتى يتضح موقف الباب العالي من هذه الثورة أي انقلاب 13 مايو، وحتى تأتي «دروفتي» تعليمات من الجهات العليا. ومع ذلك، فقد وجد «دروفتي» من واجبه أن يذكر لمانجان أن مقابلة الأخير لمحمد علي وتردده عليه ضروريان لكسبه إلى جانب المصلحة الفرنسية ولإبطال مشاريع أعداء فرنسا، ثم أوصاه بأن تظل علاقاته به محاطة بالكتمان وغير علنية بقدر الإمكان؛ حتى لا تثير غضب ضباط أو رجال الباب العالي، وهم ممثلوه الشرعيون في هذه البلاد ضد الوكلاء الفرنسيين.
وفي اليوم نفسه الذي بعث فيه «دروفتي» بهذه التعليمات إلى «مانجان» في القاهرة، كتب الوكيل الفرنسي في 22 مايو إلى «باراندييه» بالقسطنطينية: أن أحدا لا يعرف عواقب الثورة التي حدثت، وأنه من المشكوك فيه أن يستطيع محمد علي تحقيق الشروط التي عرضها العلماء على خورشيد ورفضها هذا وتسلم محمد علي زمام الحكم على أساسها، إذ كيف يتسنى لمحمد علي إعادة فتح المواصلات مع الصعيد وطرد المماليك ما دام خورشيد موجودا بالقلعة وحوله جماعة من الأرنئود الموالين له، والاحتمال ضعيف في أن حامية المنيا التي منها قسم عظيم من العثمانلي وتحت قيادة سلحدار خورشيد باشا تضمر ولاء لمحمد علي، وفضلا عن ذلك، فمما يثير الاهتمام حقا معرفة نوايا الجند الدلاة ومدى تأثير نفوذ خورشيد عليهم، وكل هذه ظروف صعبة تتطلب إبداء همة ومهارة كبيرتين من جانب محمد علي لمواجهتها، أضف إلى هذا ضرورة استمالة جانم أفندي الدفتردار وهو صادق الولاء للباب العالي ولا يريد انتشار الحروب الأهلية في مصر ويبغض ما يقترن بها من فظائع، ولا يريد فقد البلاد، ويبغي المحافظة على سيادة الباب العالي عليها، تلك كانت الصعوبات التي رأى «دروفتي» أنها تعترض سبيل محمد علي، وأما فيما يتعلق بالمصالح الفرنسية فقد كان من رأي «دروفتي» بناء على ما سمعه من «ماثيو لسبس» ثم من «مانجان»: «إن هذه المصالح سوف تنال من الرعاية على يد محمد علي مثلما تناله على يد خورشيد باشا، ولم يجد الوكلاء الفرنسيون أبدا ما يقولونه عن هذا الأخير سوى الثناء على مسلكه، وإذا كان هناك ما أبطل ميوله الطيبة نحونا في بعض الظروف المعينة، فإن مبعث ذلك تحريض أعدائنا له ضدنا وخديعته، ولقد كان في استطاعتي شخصيا أن أحصل منه (أي من خورشيد) دائما على ممارسة حقوقنا وامتيازاتنا، ومع ذلك، فإني أعتقد - إذا أجيز لي إبداء رأيي - أن مصالح حكومتنا في هذه البلاد تغدو أكثر استقلالا وتحررا من تأثير النفوذ الإنجليز عليها إذا ثبت أن التصريحات التي أدلى بها محمد علي وأبان فيها محبته وولاءه لنا قد صدرت عن إخلاص حقيقي ويمكن الوثوق بها، فإن هذا الرجل الأرنئودي لعلى خلق كبير، وسوف يكون أقل تأثرا بوسائل الإغراء التي يلجأ إليها أعداؤنا، بل ومما يبدو لي أكثر استرعاء من غيره للانتباه، ما هنالك من قرائن عظيمة تشير إلى أن محمد علي بفضل القوات التي لديه سوف يتولى تنظيم مقدرات هذا البلد بالصورة التي تتفق ورغبات الحكومة التي تريد أن يكون لها شيء من النفوذ به عن طريق محمد علي.»
وأزعج «دروفتي» استمرار نشاط «روشتي» قنصل روسيا العام، وهو أيضا وكيل النمسا - الذي قال عنه: إنه يتراسل علانية مع البكوات في الوجه البحري في الوقت الذي يذيع فيه هؤلاء أنهم يعدون هجوما في القريب على رشيد والإسكندرية، ويحصلون الميري من بلدان الوجه البحري، كأنهم أصحاب الحكم الشرعيون في البلاد، كما أن «دروفتي» صار يشكو من «البطروشي» الوكيل الإنجليزي في رشيد، والذي أمد البكوات بالمؤن والذخائر والأسلحة، ومعنى هذا كله أن الوكلاء الإنجليز انتهزوا فرصة النضال القائم بين خورشيد ومحمد علي؛ ليساعدوا الألفي وجماعته على تمكين سلطان المماليك في الوجه البحري تمهيدا لتأسيس الحكومة المملوكية تحت رعايتهم، وتزايد قلق «دروفتي» عندما علم من «مانجان» أن الألفي قد بعث بأحد كشافه لمقابلة محمد علي يعرض عليه الاتفاق معه، ولو أن محمد علي قد رفض ذلك، ثم إن «دروفتي» لم يلبث أن وقف مما بعث به إليه «مانجان» من معلومات في 19، 20 مايو على التطورات التي حدثت بالقاهرة من حيث ذهاب الططر بعرائض المشايخ وعلماء القاهرة إلى القسطنطينية وهي العرائض التي يطلبون فيها عزل خورشيد وتثبيت محمد علي في باشوية مصر، ومن حيث وقوف الألفي بالقرب من الطرانة ينتظر دعوته لدخول القاهرة.
وعلى ذلك، فقد بعث «دروفتي» إلى «مانجان» في أول يونيو بتعليمات تدل على أنه لا يزال يقلب وجوه الرأي في إحدى الخطط الواجب اتباعها لمنع دخول الألفي حليف الإنجليز القاهرة، ولإضعاف حزبه، ولمنع أي اتفاق بينه وبين محمد علي، ولرعاية المصالح الفرنسية قبل أي شيء آخر، سواء تحقق هذا على يد محمد علي أو البكوات الموالين لفرنسا، فقال إنه يبدو له بناء على ما كتبه «مانجان» له: «إن حزبي خورشيد باشا ومحمد علي سوف لا يؤثران على مقدرات هذا البلد الذي يتوقف مصيره على إرادة المشايخ؛ ولذلك فالواجب الاتجاه نحو المشايخ إذا شئنا منع حزب الألفي من السيطرة، أما إذا لم يكن هناك مناص من وجود البكوات في القاهرة (أي دخولهم إليها)، فالأفضل أن يوجد بها عثمان البرديسي وليس الألفي عدو فرنسا، ومن الخير الحيلولة دون وجود الاثنين بالقاهرة إذا كان ذلك ممكنا.» ثم إن «ماثيو لسبس» كان قد ذكر له (أي ل «دروفتي») أنه كان اتفق مع محمد علي على طرد البرديسي من القاهرة؛ ولذلك فقد وعد البرديسي بالانتقام من شخص «لسبس» نفسه ومواطنيه إذا دخل القاهرة مرة ثانية، ومن هذا كان في وسع «مانجان» أن يدرك أن مصالح فرنسا السياسية والتجارية سوف تلقى عنتا كبيرا إذا دانت السلطة في القاهرة لأحد هذين: الألفي والبرديسي، وقد يكون سليمان بك أحد البكوات الآخرين أكثر ميلا من زميليه لخدمة المصالح الفرنسية، ولكن «دروفتي» لا يعرف الكفاية عن هذا البك، ويسأل «مانجان» أن يزوده بما يعرفه عنه، ثم خلص «دروفتي» من هذا كله إلى بيت القصيد من تعليماته هذه، وهو الاستعانة بالمشايخ الذين يتوقف في رأيه مصير هذا البلد على إرادتهم، فكتب: «وصفوة القول إذا استطاع المشايخ حقيقة أن يعطوا السلطة العليا لمن يروق لهم واستقر رأيهم على دعوة البكوات فمن صالحنا أن يقع اختيارهم على الرجل الذي يسعنا الاعتماد على صداقته فيما يعود بالنفع على المصالح الفرنسية.» ولذلك فهو يرجوه أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لخدمة دولته، بالعمل من أجل استمالة المشايخ المعروف أنهم موالون لفرنسا، وبعد أن كرر له تعليماته السابقة بشأن منع أي اتفاق بين الألفي ومحمد علي، وذكر أن استئثار الألفي أو البرديسي بالحكم في القاهرة معناه انضمام محمد علي إلى الجانب الذي يحرم من هذه الحكومة، ثم وقوع الحرب الأهلية.
عاد «دروفتي» إلى مسألة المشايخ فقال: «ولا تنس - مخاطبا «مانجان» - أن تجعل أولئك المشايخ الذين يحفظون الود والاحترام للإمبراطور (نابليون) يشعرون أنهم بحمايتهم لذلك البك الذي يؤثره أعداؤنا على غيره إنما يحرمون أنفسهم من عطف وحماية الإمبراطور لهم، وعليك أن تجعلهم يرجون دائما أن الإمبراطور لن يحول أنظاره عن هذه البلاد.» وعلى «مانجان» أن يكون حكيما في مسلكه مع المشايخ وأن لا يتقيد بشيء معهم قبل استشارة «دروفتي» إلا عند الضرورة القصوى، وذلك إذا وجد المشايخ ينحازون إلى الألفي، فعليه عندئذ أن يعمل بحزم وبسرعة ودون أن يفقد لحظة واحدة، وأوضح «دروفتي» الموقف لمانجان في البحر الأبيض والأسباب التي تبعث القلق في نفسه من ناحية الإنجليز والألفي، فقال: «إن الرأي السائد بالإسكندرية أن الإنجليز إذا جاءوا إلى مصر، فسيكون ذلك بدعوى أنهم يريدون تجنيبها أخطار الغزو الفرنسي، وأنهم حصلوا من السلطان العثماني على فرمانات تخولهم إرسال حاميات إلى الأساكل وبخاصة إلى الإسكندرية، ومع ذلك، فإنه لا مسوغ - كما استمر «دروفتي» يقول - للخوف من الأسطول الفرنسي الذي غادر طولون؛ لأن هذا قد ذهب إلى المحيط الأطلسي، ولا وجه للخوف كذلك على جزيرة مالطة، بل من المستطاع إنقاص حاميتها، فإذا انضم حوالي الثلاثة أو الأربعة آلاف أوروبي إلى أعداد مساوية لهم من القوات التي يأتي بها الإنجليز من الهند، ثم انحاز إليهم الألفي وسائر البكوات الصغار الذين سوف ينضمون إليه ولا شك عندما يرونه وقد تزايدت قوته، فإن هذه الجموع تكفل للإنجليز الاستيلاء على مصر في هدوء وتولي إدارتها وحكومتها باسم الباب العالي.» وتوقع «دروفتي» انفصام العلاقات قريبا بين الباب العالي وفرنسا بسبب ما بلغه عن امتناع السلطان سليم من مقابلة «جوبير» رسول الإمبراطور الشخصي إليه؛ وعلى ذلك، «فسواء حضر الإنجليز إلى مصر وسواء قامت الحرب بين فرنسا والباب العالي، فمن الصالح لنا أن نعمل بكل وسيلة لإنشاء حزب في مصر يجعل احتلال أعدائنا لها أمرا متعذرا، ويضع العراقيل في طريق الإنجليز حتى لا يستطيعوا أثناء الحرب أن يظفروا بأي نفوذ سياسي وتجاري من شأنه أن يخلق مصاعب لا حصر لها وذات آثار ضارة مؤذية عندما يحين عقد السلام وللمستقبل»، وهكذا راح «دروفتي» يؤكد مرة أخرى ضرورة تأليف حزب وصف مهمته بأنها حمل حكومة القاهرة على تعيين قسم من قواتها البرية والبحرية للعمل من أجل دعم سلطانها في مصر في حالة انفصام العلاقات بين تركيا وفرنسا؛ أي تأليف حزب - كما قال - مهمته الإبقاء على الفوضى وركود التجارة وضمان استمرار ميدان الاقتصاد في مصر مجدبا حتى إذا عقد الصلح تسنى لفرنسا أن تعمر هذا الحقل المجدب بمنتجات مصانعها.
وواضح من هذه التعليمات ومما سبقها أن «دروفتي» حتى أول يونيو 1805 كان يرى أن هناك صعوبات كثيرة سوف يتعذر على محمد علي اجتيازها وأن ولايته لذلك غير مستقرة، ومن عوامل عدم هذا الاستقرار أيضا تحصن خورشيد بالقلعة، وتصميم الألفي على دخول القاهرة وإعادة تأسيس الحكومة المملوكية بها، منفردا أو بالاشتراك مع محمد علي، واعتقد «دروفتي» أن نجاح الألفي في أي الحالين سوف يلحق الأذى بالمصالح الفرنسية، ويترتب عليه تفوق النفوذ الإنجليزي في مصر، واحتلال الإنجليز للبلاد في آخر الأمر، وكان في هذه المرحلة إذن التي كانت بالنسبة ل «دروفتي» فترة دراسة وبحث للموقف من كل جوانبه، أن استقر رأيه على استخدام المشايخ على اعتبار أنهم القوة ذات الوزن في تقرير مصير هذه البلاد فأراد أن يؤلف منهم حزبا مستقلا في نشاطه عن جماعات خورشيد ومحمد علي والألفي، ولما كان محمد علي هو المسئول فعلا عن حكومة القاهرة، وكان الألفي صاحب قوات كبيرة في الوجه البحري ويربض بالقرب من القاهرة، وينال مؤازرة الوكلاء الإنجليز الذين يمدونه بالعتاد والأسلحة، فقد صار أخشى ما يخشاه أن يتفق الألفي ومحمد علي، على أساس مشاركة الأول كشيخ للبلد للثاني كباشا للقاهرة في الحكم، فيكفل هذا الاتفاق النصر للإنجليز ووكلائهم في مصر.
على أنه مما تجدر ملاحظته إلى جانب هذا كله أن الاعتماد على حزب المماليك الذي يرأسه البرديسي، والذي تظاهر بالولاء دائما لفرنسا، لم يدخل في هذه الأزمة في حساب «دروفتي» كوسيلة جدية ونافعة لتعطيل مساعي الوكلاء الإنجليز وإحباط مشروعاتهم، للأسباب التي أوضحها «دروفتي» نفسه؛ ولذلك فقد دار تفكير «دروفتي» في هذه المرحلة حول مواضيع ثلاثة: الألفي ومؤازرة الإنجليز له وفي نجاحه الفشل كل الفشل للسياسة الفرنسية في مصر مع ما يترتب على ذلك من آثار على تطور النضال القائم بين الإمبراطور وأعدائه في القارة الأوروبية ولا سيما الإنجليز، لن تكون في صالح فرنسا، ثم المشايخ، وقد صار واجبا أن تمر فترة من الزمن حتى يتأكد لدى «دروفتي» أنهم يناصرون محمد علي قطعا وأنهم قد تخلوا عن خورشيد نهائيا، حتى إذا استقر محمد علي في الحكم انتهى دورهم في الفصل في مصير البلاد حسبما تمليه إرادتهم، واستطاع «دروفتي» أن يقطع برأي حاسم في مصير الحكم في هذه البلاد، ثم محمد علي وقد رأى «دروفتي» أن يخاطبه بلغة الوعد والوعيد، حتى يستوثق من موقفه من فرنسا، فهو يذكره على لسان «مانجان» بتصريحاته الودية نحو فرنسا من جهة، ويذكره كذلك بأنه يعرف سره الذي أفضى به إلى «ماثيو لسبس»، ولا شك في أن «دروفتي» يعني بذلك رغبة محمد علي من مدة سابقة في الوصول إلى الحكم والولاية سواء رغب الباب العالي في ذلك أو لم يرغب.
وقد تبين ل «دروفتي» بعد أيام قلائل، أنه لم يكن في حاجة - في واقع الأمر - إلى اللجوء لهذا التهديد المستتر معه، فقد أكد «مانجان» أن الباشا متمسك بصداقته للفرنسيين، كما أكد له أنه يرفض الاتفاق مع الألفي، ومع ذلك فلم يكن هناك معدى عن تضافر عوامل عدة في الأسابيع القليلة التالية لإقناع «دروفتي» رويدا رويدا بأنه إذا شاء حقا إحباط مساعي الوكلاء الإنجليز، ومنع الألفي صنيعتهم وحليفهم من الاستئثار بالحكم، وجب عليه أن يبذل قصارى جهده لتأييد محمد علي حتى يضمن بقاءه في ولايته، وقد بدأ يظهر هذا التحول في صالح محمد علي بصورة محددة بعد التعليمات الأخيرة التي بعث بها «دروفتي» إلى «مانجان» في أول يونيو.
فقد كتب «دروفتي» إلى «باراندييه» في 6 يونيو أن معلومات قد جاءته من «مانجان» تفيد بأن الباشا لا يميل قطعا للاستماع إلى مقترحات الألفي، وذلك بناء على ما استقاه «مانجان» من أحد المقربين من محمد علي وخلصائه، بل وإنه ليس للإنجليز أية مراسلات معه، ويغضبهم أن يستمر محمد علي في منصبه واليا لمصر، وفضلا عن ذلك، فقد أكد «مانجان» أن خورشيد لن يستطيع البقاء طويلا في القلعة والدفاع عن نفسه في معقله هذا، ومع أن «دروفتي» اطمأن لتأكيدات «مانجان» الأولى، فإنه كان لا يزال يساوره الشك في عجز خورشيد عن الدفاع، فكان من رأيه أن هذا سوف يظل ممتنعا بالقلعة حتى يعود الططر الذين أرسلوا إلى القسطنطينية بقرار الباب العالي في النزاع القائم بينه وبين محمد علي، وبنى «دروفتي» رأيه هذا على جملة اعتبارات: منها مناصرة بعض الزعماء الأرنئود لخورشيد، ومن هؤلاء حسن باشا الذي قال عنه: إنه يمكن اعتباره منافسا لمحمد علي، ولأن محمد علي الذي يتمسك في ظاهر أعماله بالخضوع لمشيئة الباب العالي؛ بدليل أنه بعث مع المشايخ يطلب تعليمات جديدة من القسطنطينية، لا يمكن أن يلجأ إلى استخدام القوة مع خورشيد وهو ممثل السلطان الشرعي في مصر، ولأن «مانجان» نفسه يذكر وجود حزبين من العامة أو الشعب بزعامة المشايخ أحدهما مع خورشيد والآخر مع محمد علي، ومن صالح هؤلاء جميعا أن يسود الهدوء وأن تنتعش التجارة ويستقر الأمن والنظام؛ ولذلك فهم سوف ينتظرون أوامر الباب العالي، ولن يحمل المشايخ الشعب على اتخاذ أية إجراءات متطرفة، ثم إن «مانجان» لا يذكر شيئا عن الدلاة وهم عامل لا يجب في رأي «دروفتي» إغفال أثره.
ولكن «دروفتي» الذي فضل التريث فيما يتعلق بالجالية في القاهرة لم يفته أن يذكر لباراندييه ما لاحظه من نشاط «مسيت» والوكلاء الإنجليز الذين يذيعون أن حملة إنجليزية في طريقها إلى مصر، ويدبرون المظاهرات للهتاف بحياة السلطان جورج، ويدعون ابن الشيخ المسيري لمأدبة أقامها «مسيت» نفسه له، ويبذلون المال بسخاء لإثارة الاضطرابات بالثغر من جهة، ولإعداد الرأي العام به لقبول فكرة الاحتلال البريطاني، ويعملون على تشويه سمعة فرنسا وتنفير السلطات الحاكمة بالإسكندرية ثم البكوات منها، وكان على «دروفتي» في هذه الظروف أن يجزم برأي قاطع فيما يجب عليه أن يسلكه لعلاج الموقف، لا سيما وأن الباب العالي بدأ يهتم جديا بالأحوال السائدة في مصر فأوفد الصدر الأعظم الجديد سلحداره إلى هذه البلاد على ظهر إحدى الفرقاطات العثمانية، من المنتظر عند عودتها إلى القسطنطينية أن تحمل ططريا من قبل سلحدار الوزير لإبلاغ سيده حقيقة الموقف، أضف إلى هذا أن الوكيل الفرنسي في رشيد «تورنو»
Tourneau
الذي خلف «سانت مرسيل»
Saint-Marcel
هناك راح يؤكد ل «دروفتي» أن الألفي لديه حوالي 2000 رجل من مماليك ومغاربة وعثمانلي، عدا بضعة ألوف من العربان، وأن الوكلاء الإنجليز يمدونه بكل ما يمكنهم من سلاح وذخائر، ويمنونه بقرب وصول نجدات من الجند الأوروبيين من مالطة، وأن الألفي يستفسر من هؤلاء الوكلاء في كل لحظة عن موعد وصول هذه النجدة، ولو أن الشك بدأ يساوره في جدية هذه الوعود التي يبذلونها له حتى إنه قال: «ليحضر من يشاء من الأمم، طالما أن الحاضرين يفردون علما على رءوسهم لنعرفهم، وطالما أنهم يعيدون السلام إلى هذه البلاد، أو يمكنوننا من العيش في سلام.» وقد قلق العربان كذلك من تسويف الإنجليز الذين ينتظرون مجيئهم بفارغ الصبر.
وكان عندما قرر الباب العالي إرسال القبطان عبد الله رامز باشا بأسطوله إلى الإسكندرية، ثم القابجي باشا مفوضا بتقليد الولاية لمن يراه صاحب النفوذ الأعلى أو السلطة في مصر بين محمد علي وخورشيد باشا، أن وجد «باراندييه» لزاما عليه أن يبسط حقيقة الموقف لوزير الخارجية الفرنسية «تاليران» وأن يطلب على ضوء ما أفضى إليه من معلومات تعليمات قد طلبها «دروفتي» منه، في وسع «باراندييه» إذا ما جاءته أن يبعث بها إليه حتى يسترشد بها، ويبغي بارنداييه من ذلك ولا شك إخراج السياسة الفرنسية من سلبيتها السابقة، وإدخالها في دور جديد من الإيجابية، فكتب إليه في 24 يونيو أن هناك ثلاثة أحزاب في مصر: الحزب الإنجليزي وهو حزب قوي جدا، والحزب العثماني وهو ضعيف جدا، ثم الحزب الفرنسي وهذا لا يكون له ثبات وصلابة إلا بقدر شعور أنصار فرنسا بعزمها على تأييدها لهم، والإنجليز ينثرون الذهب ويعضدهم الألفي، وتناضل الحكومة العثمانية ضدهم بوسائلها القاصرة وغير المجدية، ولم يستطع الفرنسيون حتى هذه اللحظة عرقلة شيء من نشاط الإنجليز، وقد استفاد هؤلاء من ذلك فأخذوا يثيرون مخاوف محمد علي من ناحية فرنسا بأن صاروا يدعون أن حملة فرنسية سوف تأتي إلى مصر لغزوها، ثم استطرد «باراندييه» يقول: «ولكني لا أظن أن محمد علي ينقصه التنور لدرجة تصديق مزاعمهم، وذلك خصوصا - على الأقل - إذا لم يجد نفسه مرغما بسبب مركزه على استخدام الإنجليز، بل إني أعلم أنه موال لنا نبدو له أقل خطرا الآن (من الإنجليز على حكومته)؛ ولذلك فمن الواضح أنه سوف يكون في وسعنا إذا قضى نهائيا على خورشيد باشا، أن نجعله بسهولة يعمل في صورة ملائمة تنال موافقة الإمبراطور عليها، ومهما تكن نوايا بونابرت نحو مصر فمن الواجب أن يكون له وكيل صاحب حكمة ومهارة يعرف كيف يحسن التصرف فيما يوضع تحت يده من أموال لهذه الغاية، وتمنع الظروف من اتخاذ خطوات حاسمة الآن، وقد يكون مفيدا ترك الإنجليز يتورطون في علاقاتهم ضد الباب العالي، وذلك حتى يرى الأخير كيف يتآمرون مع الروس لضياع الإمبراطورية العثمانية وكيف أنهم أعداؤه الطبيعيون.» واختتم «باراندييه» رسالته بقوله إن «دروفتي» قد طلب منه تعليمات فيما يجب أن يكون عليه مسلكه، وإن «باراندييه» يطلب بدوره هذه التعليمات حتى يبعث بها إليه.
ولكنه قبل وصول أية تعليمات من تاليران، كان قد وصل القبطان باشا والقابجي باشا صالح أغا إلى مصر، ليجد قوات الألفي محتشدة في البحيرة، والألفي نفسه يحاصر دمنهور ويدعو أهلها للتسليم، ويحاول الاتصال بالألفي الصغير بشتك بك، والدلاة رابضين عند فوة، ومن المتوقع التحامهم مع قوات الألفي، وخورشيد لا يزال ممتنعا في القلعة، والأهلين والمشايخ يناصرون محمد علي، وقد خفوا لاستقباله، والبكوات القبالي: البرديسي وإبراهيم لا يزالان في منفلوط، والاضطراب يسود القاهرة، ويتدخل محمد علي والمشايخ لإنهاء العداء بين القاهريين والجند بسبب اعتداءات هؤلاء الأخيرين على سكان القاهرة حتى استمر تبادل إطلاق الرصاص بين الفريقين يومين، ويستمع الأهلون لنصح محمد علي والمشايخ لهم بفتح الدكاكين والوكائل والانصراف إلى أعمالهم، وسلحدار خورشيد علي باشا يتراسل مع الألفي، وخورشيد يسعى للاتفاق مع البكوات مما يهدد بدخول هؤلاء العاصمة، وذيوع الاعتقاد بأن مؤامرة القلعة ذات جذور ممتدة في طول البلاد وعرضها بدرجة سببت خوف المشايخ من أن تؤدي هذه العاصفة إلى استرجاع البكوات لسلطانهم في القاهرة، واقتنع صالح أغا بأن محمد علي الأحق بالولاية. ومنذ 25 يوليو قرئ الأمر بإبقاء محمد علي في القائمقامية، وطلب إلى خورشيد النزول من القلعة، ثم اضطر هذا الأخير في الظروف التي سبق أن ذكرناها إلى تسليم القلعة في 6 أغسطس، وفاتت الفرصة على الألفي، وكان هذا قد رفع الحصار عن دمنهور، وسار صوب القاهرة ومعه «البطروشي» ملازما معسكره، ويأمل الألفي أن يسفر اتفاقه مع خورشيد عن دخوله القاهرة .
وكان أثناء هذه الأزمة أن راح «مسيت» - على نحو ما عرفنا - يؤيد كخيا الألفي وسلحدار خورشيد في مفاوضتهما مع القبطان باشا بالإسكندرية، فقد وصل هذان إلى الثغر في 31 يوليو ونزلا عند «مسيت»، وبدأت مفاوضتهما مع القبطان باشا في أول أغسطس، وانبرى «دروفتي» يبذل قصارى جهده لإحباط هذه المفاوضات، فعلم أن مندوبي الألفي وسلحدار خورشيد قد سلموا إليه رسائل تعلن اتحاد جميع البكوات وتأييدهم لخورشيد باشا، وتدعوه للذهاب إلى القاهرة بمن معه من جند للعمل بالاتحاد مع البكوات وحزب خورشيد من أجل طرد الأرنئود واتخاذ الوسائل الكفيلة باستتباب الهدوء واستقرار النظام في مصر، وعقد الوكلاء الإنجليز آمالا عظيمة على نجاح مساعيهم، الأمر الذي جعل «دروفتي» يرى من واجبه - كما ذكر لتاليران في 3 أغسطس - أن يعمل حالا لإحباط مكائد الإنجليز وإلحاق الفشل بمشروعاتهم إذا كان ذلك ممكنا، فقابل في 2 أغسطس ترجمان القبطان باشا الأول، وأوضح له ضرورة أن يبلغ القبطان أن الألفي عدو الحكومة الفرنسية، ثم راح يفسر له رأيه في مكائد الإنجليز ودسائسهم، وأكد له أن اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي أمر لا يمكن عمليا تحقيقه لأسباب عدة: منها عداء الألفي لسليمان بك البواب مخلوق البرديسي وصنيعته، ولأن اتحاد الألفي وخورشيد خطوة مؤقتة وانتهازية أملتها الظروف الراهنة فحسب، ولأن الإنجليز لا يأبهون لحقوق السيادة التي للباب العالي على مصر، وآية ذلك أنهم يمدون الألفي عدو السلطان العثماني بالذخائر والأسلحة، ويقيم أحد وكلائهم «البطروشي» في معسكره، ثم إنهم يذيعون من مدة طويلة أن جيشا إنجليزيا سوف يحضر إلى مصر؛ ليضع الألفي على عرشها، ولاحظ «دروفتي» أن هذه الحجج التي ساقها لكشف مكائد الإنجليز وحليفهم قد تركت أثرا سيئا من جهة هؤلاء في ذهن ترجمان القبطان باشا.
ومع أن مندوبي الألفي وسلحدار خورشيد (علي باشا) والوكيلين الإنجليزيين «مسيت» و«بريجز» قد زاروا القبطان مرة ثانية يوم 3 أغسطس وتولى «مسيت» نفسه عرض مقترحات الألفي عليه، وبذل جميعهم قصارى لجهدهم لحمل القبطان باشا على ضم قواته إلى قوات الألفي لطرد محمد علي والأرنئود من مصر بدعوى أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لإعادة السلام والهدوء إليها وبدونها يتحقق تدمير القاهرة حتى تصبح أطلالا، ثم حاولوا إقناعه بأن من واجب الباب العالي أن يخشى دائما من وقوع غزو فرنسي على مصر، وأن إنجلترة قد تجد نفسها ملزمة باتخاذ ما تراه من وسائل لمنع سقوط هذه البلاد التي يهمها أمرها في قبضة أعدائها الفرنسيين حيث إن تركيا ليس لديها من القوات ما يكفي لدفع الغزو الفرنسي عنها، فقد استطاع «دروفتي» أن يكتب إلى «تاليران» في 4 أغسطس: أن القبطان باشا قد أجاب على ذلك كله بأن لديه أوامر قاطعة لا يحيد عنها وأن الباب العالي قد سمى محمد علي واليا على القاهرة، وخورشيد باشا حاكما لجدة، وأن من واجب هذا الأخير أن يذهب إلى مقر عمله مصطحبا معه سلحداره علي باشا، وأنه بمجرد استتباب الهدوء في مصر بفضل هذه الخطوات، سوف يكون مصير البكوات أنفسهم موضع النظر، ثم استطرد «دروفتي» يقول: والقبطان باشا مرتاح للمعلومات التي زوده بها «دروفتي» عن الموقف في مصر، وقد بعث «دروفتي» إلى «تاليران» في 23 أغسطس يبرر نشاطه لإحباط مكائد الإنجليز بعد انقضاء الأزمة، وحادث يوم 19 أغسطس - وهي المكيدة التي فتك بها محمد علي بعدد من البكوات يوم فتح الخليج - فقال: إن الإنجليز يشاركون الأتراك في الإسكندرية استياءهم من وقوع هذه المكيدة، مما ينهض دليلا على أن خورشيد باشا كان قد نجح في خططه، وأن القبطان باشا كان قد وافق على إعادة تأسيس حكم البكوات في القاهرة وطرد الأرنئود منها؛ لأن الخوف من تأسيس أسرة أرنئودية في الحكم يفوق كثيرا الخوف من تأسيس أسرة مملوكية، فالأولى ذات قوة أكبر ويسود الاعتقاد بأنه صديقة لفرنسا، ويدهش العثمانيون في الإسكندرية من عدم اشتراك علي باشا سلحدار خورشيد والمقيم بالجيزة، ثم عمر بك الأرنئودي الذي كان موجودا بالقاهرة.
ثم عاد «دروفتي» فكتب إلى «تاليران» في 29 أغسطس يفسر له حادث 19 أغسطس، ومما يسترعي النظر أنه لم يلبث عند التعليق عليه أن جزم بناء على ما وصله من أخبار من القاهرة بأن البكوات جميعهم ولا سيما عثمان بك البرديسي منحازون قطعا ونهائيا إلى جانب الإنجليز، وأن خورشيد باشا - على نحو ما اتضح ل «دروفتي» عند زيارته لهذا الباشا بعد وصوله إلى الإسكندرية - إنما يعتمد الاعتماد كله على الإنجليز الذين يرجون بدورهم عند إرسال حملتهم على مصر أن لا يدعوه يذهب، ثم كتب في 30 أغسطس يبين مدى ما هو واقع من انقسام في صفوف البكوات بعد كارثتهم الأخيرة في القاهرة، فقال: إن الفتنة قد بذرت بذورها من جديد بين رؤسائهم البرديسي وإبراهيم بك والألفي وسليمان بك البواب، وأما القاهرة فيسود فيها اليوم الهدوء التام، ثم إنه لم يلبث أن بعث بمندوب عنه إلى معسكر المماليك؛ ليقف - كما قال - على مدى اتحاد المماليك، ذلك الاتحاد الذي أكده مندوبو الألفي وعلي باشا سلحدار خورشيد للقبطان باشا، ووثق الإنجليز من وجوده، ثم لمعرفة مشاريع المماليك، فحصل على معلومات بشأن ذلك كله بعث بها إلى «تاليران» في 31 أغسطس، فحواها أن الألفي يعول دائما على نجدة الإنجليز له، ويتراسل مع بكوات الصعيد حتى يستميلهم للاتفاق في العمل مع حزب خورشيد، ويقيم في معسكره «البطروشي» الذي هو دائما مصدر كل هذه التدابير، ويقول أحد البكوات إنهم قد جمعوا فيما بينهم ألف كيس لتوزيعها على جند علي باشا نظير أن يأتي هؤلاء لهم بشخص محمد علي حيا أو ميتا، وفضلا عن ذلك، فبكوات الصعيد أنفسهم يتراسلون مع الألفي وللبطروشي وكيل مقيم مع عثمان البرديسي لرعاية المصالح الإنجليزية، ويؤكد له قرب وصول جيش إنجليزي، ويبدي البرديسي ازدراءه بالوعود التي وعده بها «ماثيو لسبس» عن نجدة فرنسا له، ويحاول الإنجليز إعطاء محميهم الألفي مكانا في حكومة مصر، وقد بذلوا قصارى جهدهم لضم البكوات إلى خورشيد لهزيمة محمد علي الذي يكرهونه؛ لأنهم يرونه محاطا بالفرنسيين ، وقد استمالوا خورشيد للتوسط لدى القبطان باشا في صالح الألفي، ولإقناعه بالتأثير على حكومته حتى ترجع البكوات إلى القاهرة كالسبيل الوحيد لتهدئة البلاد، ثم انتهى «دروفتي» بعد بيان ذلك كله إلى ذكر أن الواجب يقتضيه إحباط كل هذه المحاولات، وراح يشكو من أنه ليس لديه تعليمات باستثناء الاسترشاد في كل ما يفعله بتعليمات «ماثيو لسبس» وهي التي توصي دائما بإبطال مشاريع الإنجليز.
وهكذا يكون «دروفتي» قد بدأ يخطو تلك الخطوات التي نقلت السياسة الفرنسية من سلبيتها المعروفة إلى الإيجابية التي تبغي التدخل والتأثير على مجريات الحوادث بدلا من انتظار ما قد تسفر هذه عنه من نتائج مؤذية للمصالح الفرنسية والتسليم بالأمر الواقع، على أنه مما يجدر ذكره أن هذه الإيجابية في مرحلتها الأولى قد استهدفت مباشرة - وكما رأينا - إحباط مساعي الإنجليز وإقصاء الألفي عن السلطة، ثم إنها انطوت على تعزيز مركز محمد علي واستمراره في الحكم، ولم يؤيد «دروفتي» في مسعاه هذا من قريب أو بعيد صالح طائفة المماليك والبكوات التي يتزعمها صديق فرنسا عثمان البرديسي، وذلك لسبب واضح ذكره لتاليران هو اعتقاده أن البرديسي قد انحاز هو الآخر إلى جانب الإنجليز، وقد تحمل «دروفتي» على مسئوليته وحده - وكما ذكرنا سابقا - الآثار المترتبة على هذا التدخل، فمع أنه ظل يطلب تعليمات من حكومته، فإنه حتى نهاية شهر أغسطس قطعا لم تكن قد وصلت إليه أية تعليمات منها، أضف إلى هذا أن حكومته عندما أصدرت إليه تعليماتها كانت لا تزال متمسكة بسياستها السلبية القديمة، ولو أن «دروفتي» لم يلبث أن وجد في هذه التعليمات بالرغم من قصورها ما جعله يمضي قدما في سياسته الإيجابية وبدرجة من المرونة جعلته يقبل في آخر الأمر على مناصرة محمد علي كغرض أساسي يجب أن يهدف إليه مباشرة إذا شاء رعاية المصالح الفرنسية، ولو أن «دروفتي» حتى هذا الوقت لم يكن قد وصل إلى رأي قاطع في مسألة الإقبال على معاونة محمد علي، بل ظل يخيل إليه أن في وسعه إبعاد نفوذ الوكلاء الإنجليز عن البرديسي وتأليف حزب قوي من المماليك برئاسته يشل من نشاط هؤلاء، ويقدر على الدفاع عن البلاد إذا جاء الإنجليز بحملتهم التي وعدوا بها الألفي طويلا، على أنه كان لا بد من اقتناع «دروفتي» أولا بضرورة أن ينفض يده من البرديسي نهائيا حتى يقبل على مؤازرة محمد علي، وارتهن هذا التحول بما وقع من حوادث بعد ذلك، وفي هذه المرة كذلك تحمل «دروفتي» مسئولية سياسته على عاتقه وحده.
فقد فرغت حكومة الإمبراطور في باريس من إعداد تعليماتها التي طلبها «دروفتي» منذ 6 مايو وفي 22 يوليو؛ أي بعد أن تم انقلاب 13 مايو ونودي بولاية محمد علي في القاهرة، فاستهل «تاليران» كتابه إلى «دروفتي» بقوله: إنه تسلم رسالة هذا الأخير المؤرخة في 6 مايو والتي يطلب فيها تعليمات بشأن ما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا أفضت الحوادث إلى وصول محمد علي إلى الحكم، على أنه بعد هذا التأخير الطويل، وبدلا من أن تأتي هذه التعليمات واضحة محددة، اتسمت بطابع المكيافيلية التي يبغي صاحبها عدم التقيد بخطة معينة بل يؤثر الاستفادة من الظروف، وفي صورة تدل على الحقيقة الواقعة وهي أنه لم يكن لدى الحكومة الفرنسية ذاتها وقتئذ أية سياسة إيجابية في المسألة المصرية، فقد خلت التعليمات من ذكر أية تفصيلات، واكتفت بدلا من ذلك بإجمال بعض القواعد العامة، كما أنها تضمنت توجيه اللوم والتقريع ل «دروفتي» وألزمته بعدم مغادرة مقر عمله بالإسكندرية مهما جرى من حوادث في القاهرة، فقال «تاليران»: «إن رغبة جلالة الإمبراطور هي أن تبقى في مقر عملك مهما وقع من حوادث في مصر، وأن تظل دائب الاتصال في الوقت نفسه بالسلطات ذات الكلمة العليا مهما كانت هذه؛ حيث إنه من المعروف بشأن المبادئ المقررة دائما فيما يتعلق بالوكلاء التجاريين في الليفانت (حوض البحر الأبيض الشرقي) أن واجب هؤلاء يقتضيهم عدم التدخل بأي حال من الأحوال في شئون الحكومة (المحلية)، ولما كان الواجب أن يبتعد هؤلاء عن كل أمر سياسي في جوهره، فإنه لما يستتبع ذلك ألا يكون للوكلاء التجاريين صلة ما بعمل الوكلاء السياسيين، فموضع الاهتمام إذن هو النظر فيما يعود بالنفع أو الضرر على التجارة الفرنسية من ناحية السلطة العامة القائمة فعلا.» أي إن مهمة «دروفتي» حسبما جاء في هذا القسم من التعليمات يجب أن تظل مقصورة على رعاية المصالح التجارية فحسب، وذلك عن طريق مراجعة السلطات القائمة فعلا فيما تدعو إليه الضرورة كإجراء عادي من أجل رعاية هذه المصالح ودون أن يكون لهذا الإجراء أية صفة سياسية، زد على ذلك أنه يؤخذ من هذا القسم من التعليمات كذلك أن الحكومة الفرنسية لا تزال متمسكة بسياستها السلبية في مصر، وهي السياسة التي تدور على الاعتراف بالأمر الواقع، بالرغم من كل ما حدث من وقائع بعد انقضاء بعثة «ماثيو لسبس» أهمها زيادة نشاط الوكلاء الإنجليز بعد عودة الألفي من سفارته المعروفة في لندن، والمناداة بولاية محمد علي في القاهرة، وبالرغم من أن «روفان»
Ruffin
منذ 22 يونيو و«باراندييه» منذ 24 يونيو قد أبلغا «تاليران» بعزم الباب العالي على إيفاد صالح أغا للفصل في النزاع القائم بين خورشيد ومحمد علي، مزودا بسلطات تخوله إعطاء الولاية لصاحب النفوذ الأقوى منهما وذلك عدا المعلومات التي بعث بها إليه «باراندييه» في 24 يونيو كذلك عن حالة الأحزاب في مصر، أو تلك التي ظل يبعث بها إليه كذلك «دروفتي» من الإسكندرية طوال شهور مايو ويونيو ويوليو، بما في ذلك النشرة الإخبارية التي أرسلها الوكلاء الفرنسيون من القاهرة في 12 يوليو عن قراءة الفرمانات التي يحملها صالح أغا بتعيين محمد علي في قائمقامية القاهرة استجابة لرغبات المشايخ.
بل إن «تاليران» لم يلبث أن أكد القاعدة التي طالب «دروفتي» باتباعها بوصفه وكيلا تجاريا، كما أكد سلبية سياسة حكومته عندما استمر يقول في القسم الثاني من تعليماته: ومهما يكن موئل هذه السلطة الفعلية في البلاد فواجب الوكلاء التجاريين أن يعتبروها سلطة شرعية ما دام لا يصدر عنها شيء من شأنه تعطيل نشاط وكالتهم أو إلحاق الأذى بالمصالح التجارية التي تعمل هذه الوكالة لحمايتها ورعايتها؛ وعلى ذلك، فإذا اتضح أن هناك تهيؤا لتغيير الإدارة أو الأداة الحكومية أو أن هذا التغيير قد وقع فعلا، فواجب الوكلاء التجاريين أن يلزموا الحكمة في مسلكهم، ثم إنهم قبل كل شيء في حاجة ظاهرة إلى مهارة كبيرة تتيح لهم إدراك ما سوف تنتهي إليه الحوادث سلفا، على أن «تاليران» لم يلبث أن اختتم تعليماته هذه بذكر قاعدتين أساسيتين للاسترشاد بهما عموما، فقال: وفي كل الحالات فهناك قاعدتان على الوكلاء التجاريين ألا ينحرفوا عنهما أبدا؛ أولا: عدم الاعتراف بأية سلطة أو حكومة إلا إذا قرر الانتصار مصير البلاد، وثانيا: عدم مغادرة مقر العمل مهما حدث من انقلابات وثورات داخلية.
ومعنى ذلك أن «دروفتي» عليه الابتعاد عن أي نشاط سياسي؛ وعليه تبعا لذلك الرضوخ للأمر الواقع والتسليم به، وفضلا عن ذلك فقد خلت هذه التعليمات من أية إرشادات عملية قد يستعين بها الوكلاء الفرنسيون في تكييف موقفهم مما يقع من حوادث يومية في البلاد، ومع ذلك، فقد استفاد «دروفتي» من الطابع المكيافيلي الذي اتسمت به هذه التعليمات من حيث إنها تركت لذكاء ومهارة الوكلاء الفرنسيين تقدير الحالات التي يجوز لهم فيها الاعتراف بالسلطات أو الحكومة القائمة، والتنبؤ سلفا بما سوف تفضي إليه الحوادث حتى يتسنى لهم رعاية المصالح التجارية الفرنسية، ولقد اعتمد «دروفتي» على ذكائه ومهارته ثم على قدرته على هذا التنبؤ في رسم الطريق الذي سار عليه قبل وصول هذه التعليمات إليه ثم بعد علمه بها، مستهدفا رعاية المصالح التجارية والتي كان من المتعذر على الوكلاء الأجانب لإنجلترة أو روسيا أو النمسا أو فرنسا ذاتها أن يفصلوا بينها وبين المصالح السياسية، ثم كان بعد شهر أغسطس 1805 أن بدأت تجتمع الأسباب التي جعلت «دروفتي» يمعن في تدخله في شئون السلطات المحلية من جهة، ثم يقبل علانية على تأييد محمد علي وحكومته من جهة أخرى.
المرحلة الثانية: مؤازرة محمد علي
ففي شهر سبتمبر 1805، أجاب محمد علي إجابة مرضية على مذكرة الاحتجاج التي بعث بها إليه «دروفتي» ضد الإتاوات والمغارم التي فرضتها حكومة الباشا على المحميين الفرنسيين، وكلف محمد علي «مانجان» أن يؤكد ل «دروفتي» أنه يميز الفرنسيين عن سائر رعايا الدول الأخرى، وعين فرنسيا طبيبا له هو «روير» الذي كان قد قصد إلى معسكر البكوات ولكنه لم يلبث أن ترك خدمتهم بسبب سوء معاملتهم له، فقبله محمد علي ، ومع أنه كانت تدور المفاوضات بين محمد علي والألفي وبينه وبين بكوات الصعيد، طوال الشهور التالية، وهي المفاوضات التي سبق أن تحدثنا عنها في فصول سابقة، فقد أخفقت هذه المفاوضات، وصرف الباشا جهده لتهيئة الوسائل التي يستطيع بها دفع العدوان الإنجليزي إذا جاءت الحملة التي ظل الوكلاء الإنجليز يذيعون أنها سوف تحضر قريبا بالاتفاق مع الباب العالي، فأوقف الباشا الحملة التي كان قد أعدها للسير إلى جدة (أكتوبر)، ثم شرع في تجهيز تجريدة عظيمة ضد الألفي في أوائل ديسمبر، وأبطل لذلك نهائيا حملة جدة، واقتنع «دروفتي» بأن الباشا لن يقبل الاتفاق مع الألفي، واطمأن باله من هذه الناحية، فكتب إلى «روفان» بالقسطنطينية في 9-19 فبراير 1806 أنه يعمل جادا لإحباط مساعي الوكلاء الإنجليز حماة الألفي، وأن الباشا يرحب بكل ما يحاول «دروفتي» إدخاله في روعه عنهم وعن خطورة تأثيرهم السيئ على الألفي، ولقد صرح محمد علي بأنه لن يتفاوض مع الألفي إلا إذا أقلع هذا عن الزهو والافتخار بحماية الإنجليز له.
وأزعج «دروفتي» ما صار يحيط بحكومة محمد علي من صعوبات مبعثها مطالبة الجند بمرتباتهم المتأخرة وتمرد الجنود في إمبابة والمنيا ومغادرة الأرنئود للجيش، وذهابهم للعمل مع البكوات، وحاجة الباشا الملحة إلى المال، مما زاد في خطورة مركزه وجعل الولاية ذاتها متأرجحة، وذلك كله في وقت كان مندوبو الألفي في القسطنطينية يتفاوضون مع الباب العالي لإخراج محمد علي من الولاية وإرجاع السيطرة المملوكية إلى البلاد برئاسة الألفي؛ أي تمكين النفوذ الإنجليزي منها كما كان يرى «دروفتي»، ثم تزايد انزعاجه بسبب انتصار الألفي في معركة النجيلة، حتى إنه كتب إلى «تاليران» في 2 يونيو 1806 أن أخبار المعارك الأخيرة لا تدع مجالا للشك في أن الألفي صنيعة الإنجليز سوف يصبح ذا نفوذ أكبر مما كان له حتى الآن، ومع أن نتائج مساعي مندوبيه في القسطنطينية والتي يؤيدها الإنجليز لا تزال غير معروفة، فإن وكلاءهم في الإسكندرية يزعمون أن الباب العالي سوف يستجيب لهذه المساعي.
ولقد حرص «دروفتي» على إرسال أخبار الموقف في مصر تباعا إلى حكومته، وكان ينتظر ولا شك أن يظفر من حكومته بتعليمات واضحة محدودة تبين له الطريق الواجب عليه أن يسلكه، لا سيما وأنه كان هنالك من القرائن ما يدل على أن مندوبي الألفي قد ينجحون في مهمتهم بفضل مؤازرة الإنجليز لهم على نحو ما اعتقد «دروفتي» ورجال السفارة الفرنسية في القسطنطينية ولكن حكومة الإمبراطور في باريس لم تشأ التخلي عن سياستها القديمة أو أنها على الأصح لم تشأ أن تختط لها سياسة واضحة المعالم في المسألة المصرية وينهض دليلا على تمسكها بسياستها السلبية السابقة تكليفها «ماثيو لسبس» بالعودة إلى مصر لاستئناف وظائفه بها، فقد كتب «ماثيو لسبس» إلى «تاليران» من فرساي في 22 مارس 1806 يخبره بأنه قد جاءه كتاب من رجل كان قد استخدمه رسولا سريا مع البكوات حين وجوده في هذه البلاد، يذكر له فيه أن البكوات بأسرهم ما عدا الألفي الذي يخلص الولاء لإنجلترة دائما يريدون أن يذكرهم الإمبراطور وأن يعتبرهم مستحقين للنجدة والمساعدة وأنهم لا يشتطون في مطالبهم الآن كما كانوا يفعلون في الماضي، فأجاب «تاليران» على هذه الرسالة في 12 أبريل بأن الإمبراطور قد أصدر أوامره إليه بإبلاغ «ماثيو لسبس» أنه يريد منه العودة دون إبطاء لاستئناف وظائفه في مصر، وأن التعليمات سوف تصدر إليه خلال الأسبوع المقبل، ويطلب منه الحضور إلى باريس لمقابلة الإمبراطور.
وفي مايو 1806 أصدر «تاليران» تعليماته إلى «سباستياني» الذي عين سفيرا فرنسيا جديدا لدى الباب العالي، وقد تضمنت هذه التعليمات فيما يتعلق بمصر التوجيهات الآتية: أن يلاحظ السفير الحالة في مصر التي صارت مسرحا للفتن والحروب الأهلية منذ أن جلا الفرنسيون عنها، فاستأثر بالسلطة فيها الترك والأرنئود والمماليك والعربان، كل جماعة منها بدورها، بينما انقسم المماليك على أنفسهم، وأدخل الإنجليز أنفسهم في الاضطرابات السائدة، وصار الباب العالي ولا سلطان له، ويخشى الجند والباشوات الذين يرسلهم من العمل بالاتحاد فيما بينهم لإعطائه في هذه البلاد السلطة التي يؤثرون اغتصابها لأنفسهم، ثم استطردت التعليمات توصي «سباستياني» بأن يدع الآن الحوادث تجري في هذه البلاد (مصر) دون أن يكون له دخل بها؛ حيث إنه فيما يحدث في المقاطعات الأوروبية التي للعثمانيين فحسب سوف يلقى في بعض الأحايين ما يوجب تدخله لتوجيهها؛ لأن في هذه ما يستغرق طاقة الباب العالي كما يستغرق طاقتك، وفي تعليمات إضافية قال «تاليران»: «إن الإمبراطور لا يريد مناصرة أي ثائر على الباب العالي، سواء أكان هذا يونانيا أم من أصدقائه القدامى في مصر والشام، وكل سياسته لحمتها وسداها الارتباط الوثيق بالباب العالي.»
ولا جدال في أن هذه التعليمات إنما تقر في جوهرها وتفاصيلها تلك السياسة السلبية التي درجت عليها الحكومة الفرنسية منذ استئناف علاقاتها مع مصر، زد على ذلك أن الإمبراطور نفسه كان لا يزال يمني نفسه بالتدخل في شئون مصر وفي صالح العصاة الثائرين على الباب العالي بالرغم من توكيده التخلي عن أصدقائه القدامى في مصر وهم البكوات من جماعة البرديسي خصوصا، فناقض نفسه في أمرين: أولهما اعتزامه إرسال «ماثيو لسبس» لاستئناف النشاط مع البكوات الموالين لفرنسا، وثانيهما الحرص على الاستماع لما يقوله مندوب البكوات أحمد كاشف عند ذهابه إلى فرنسا لبسط قضية إخوانه على الإمبراطور وطلب النجدة والمساعدة منه، وبالرغم من أن هذا الكاشف كان من بيت الألفي، وتفصيل هذه المسألة الأخيرة أن «دروفتي» كان قد أبلغ «تاليران» منذ 24 مارس 1806 أن أحمد كاشف جاءه ينهي إليه أنه مكلف من قبل الألفي بمهمة لدى الإمبراطور ويرجوه التوصية به وإعطاءه جوازا للسفر، ولكنه لما كان «دروفتي» قد عجز عن الوقوف على الغرض الصحيح من مهمته، ورفض أحمد كاشف أن يطلعه على أي ترخيص من جانب الألفي له بشأن هذه المهمة فقد رفض إعطاءه الجواز المطلوب، ومع ذلك، فقد استطاع أحمد كاشف السفر إلى فرنسا ووصل إلى مرسيليا، وعلمت حكومة باريس بوجوده بها.
ومع أن «دروفتي» استمر يبعث تباعا إلى حكومته بتفاصيل ما كان يجري من حوادث حتى وقت وصول القبطان صالح باشا وذيوع خبر الاتفاق الذي أبرم بين مندوبي الألفي بالقسطنطينية وبين الباب العالي، ثم بعث إلى «تاليران» منذ 12 يونيو بمناسبة ما وصله من رسائل من البرديسي الذي كلف المندوب الذي كان قد أوفده إليه «ماثيو لسبس» من سنتين مضيتا بالكتابة إلى «دروفتي» حتى يوضح له مدى ما يكنه من ولاء للحكومة الفرنسية، ثم انتظاره لتنفيذ الوعود التي أعطيت له، وطمعه في كرم الإمبراطور، ثم كتب تعليقا على ذلك: أن من رأيه (أي رأي «دروفتي») إذا اتضح أن الباب العالي قد قرر فعلا إعطاء حكومة مصر للبكوات، وذلك ما قد يضطر لفعله إذا شاء أن يجني أية فائدة من هذه المقاطعة، فقد يكون ملائما إنشاء صلات مع البكوات تفضي إلى تعديل ذلك النفوذ الذي للقناصل الإنجليز وهم الذين يذيعون بين الأهالي ما يوحي إليهم بأن الفضل في إقامة الوضع الجديد إنما ينسب إليهم نتيجة لتدخلهم، ومع أن «دروفتي» بعث يطلب في رسالته هذه تعليمات من حكومته، نقول: إنه بالرغم من ذلك كله، آثرت حكومة باريس التزام خطة الصمت، فلم تصل «دروفتي» أية تعليمات من باريس منذ تلك التي أصدرها إليها «تاليران» في 22 يوليو 1805، ومضت الشهور الطويلة دون أن تصل «دروفتي» أية توجيهات من باريس أو من القسطنطينية يسترشد بها في رسم خطته إزاء ما كان يقع من حوادث يومية لا ندحة عن تأثير نتائجها على المصالح الفرنسية سواء أكانت هذه تجارية أم سياسية، وقد ظل الحال على ذلك حتى رأى «تاليران» أخيرا أن يرسل إليه إخطارا في 28 يوليو 1806 يشعره فيه بأنه قد تسلم رسائله ويشكره على الأخبار المفصلة التي احتوتها هذه الرسائل، ويبلغه بأنه قد عرض بحوث «دروفتي» التي تناول فيها بالتحليل الدقيق الموقف في مصر على الإمبراطور، وقد اختار «تاليران» في هذا الإخطار أن يجيب على مسألة أحمد كاشف بأن هذا الأخير قد حضر إلى فرنسا في مهمة معينة، ثم إنه مما يسترعي النظر حقا، ويدل على انعدام وجود أية سياسة مصرية لحكومة فرنسا وقتئذ، قول «تاليران» تعليقا على هذه الأخبار المفصلة التي بعث بها إليه «دروفتي»: إن هذه مع ذلك لا تتطلب إصدار أية تعليمات خاصة من جانبي إلى أن قال: «ولكني سوف أستخدم مع ذلك المعلومات التي بعثت بها إلي عن المماليك!» وأما تخبط سياسة الحكومة الفرنسية فيبدو من انصرافها عن إرسال «ماثيو لسبس» إلى مصر وتعيينه للقومسيرية العامة في ليفورنة، كما أن بعثة أحمد كاشف إلى فرنسا لم يترتب عليها أي تعديل في سياستها.
ذلك كان الموقف إذن عندما نجح مندوبو الألفي في الاتفاق مع الباب العالي ونشأت أزمة النقل إلى سالونيك التي كادت تطوح بولاية محمد علي.
فكان على «دروفتي» - كما أسلفنا القول - أن يعتمد على ذكائه ومهارته، ويتدخل إيجابيا وفي صالح محمد علي مباشرة في هذه المرة حتى يحول دون استئثار الإنجليز بكل نفوذ أعلى في مصر.
ولقد سبق أن تكلمنا بإسهاب عن تطور هذه الأزمة والدور الذي قام به كل من «مسيت» و«دروفتي» أثناءها، وقد أزعج الأخير وأدهشه - كما أوضحنا - أن يرضي الباب العالي بإعطاء كل هذه السلطة العظيمة التي ينطوي عليها إنشاء النظام الجديد للألفي لما يترتب على ذلك من وضع موارد هذه البلاد تحت تصرف الإنجليز حماة الألفي، الأمر الذي يتعارض مع مصلحة الباب العالي ذاتها، ويؤذي المصالح الفرنسية في مصر، فكان هذا الانزعاج وهذه الدهشة هما مبعثا مبادرة «دروفتي» على الفور بإبلاغ محمد علي تفاصيل الاتفاق التي عرفها، وما إن اطمأن إلى موقف هذا الأخير وتصميمه على الدفاع عن ولايته بحد السيف وتقريره طلب النجدة من فرنسا إذا جاءت الألفي نجدات من إنجلترة حتى انبرى «دروفتي» يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لتأييد ولايته، على اعتبار أنه وحده الرجل القادر على الوقوف في وجه أي اعتداء يأتي البلاد من ناحية الإنجليز أعداء فرنسا، واعتقد أن بقاء محمد علي في الحكم خير كفيل برد هذا الغزو المنتظر إذا قطع الباب العالي العلاقات بينه وبين إنجلترة؛ لأن محمد علي عدو البكوات أصدقاء الإنجليز.
فكان إذن بفضل نشاط «دروفتي» في هذه الأزمة أن امتنع الشيخ المسيري الموالي دائما لفرنسا عن دعوة مشايخ القاهرة للتعاون مع القبطان باشا على تنفيذ أوامر الباب العالي، ولو أن «دروفتي » نفسه كانت تساوره الشكوك من ناحية هذا الشيخ، ومع أن هذا ظل ممتنعا عن زيارة القبطان باشا منذ مقابلته الأولى له، ورفض بعد ذلك طلب القبطان باشا منه الذهاب لإقناع الدمنهوريين بالتسليم للألفي الذي وقف على حصار مدينتهم، ثم كان «دروفتي» هو الذي حاول ردع الألفي وتخويفه بنقل أخبار انتصار نابليون العظيم في معركة أوسترليتز، وذلك كي يشيع روح الهزيمة في معسكر الألفي، ويشن عليه نوعا من حرب الأعصاب لعله يخفف من غلوائه أو تهن عزيمته، فبعث إليه بأحد رجاله يحمل ترجمة عربية لتقرير واف عن معركة «أوسترليتز» التي أوقع فيها نابليون هزيمة بالغة بجيوش النمسا وروسيا في 2 ديسمبر 1805، فقابل مندوب «دروفتي» الألفي ولكن دون طائل؛ لأن الألفي - كما كتب «دروفتي» في 10 يوليو 1806 - اعتبر سلطة بونابرت العظيمة شيئا عابرا أو لا دوام له؛ لأنه إذا كان قد نجح في هزيمة النمساويين والروس فهو لا يستطيع الادعاء بأنه قد هزم الإنجليز الذين يولونه أي الألفي حمايتهم، وأن الألفي وقد تم الصلح بينه وبين الباب العالي صار لا يعبأ بما يحدث في أوروبا، وأنه لا توجد دولة على وجه الأرض تقدر على زحزحته من مصر، أو أن تأخذ منه بلادا هي ملك يمينه، وفضلا عن ذلك، فهو يرى في استمرار الحرب بين الإنجليز والفرنسيين أمنه وسلامته؛ ذلك أنه بينما يتطاحن هؤلاء الكلاب ويفني بعضهم بعضا يجد هو فرصته السانحة للجلوس على عرش مصر في فسحة من الوقت ودون عجلة، فيتحصن بها تحصنا قويا يجعله لا يخشى أحدا، وأما فيما يتعلق بالفرنسيين أنفسهم فهو يقينا يبغضهم؛ لأنهم حطموا قوة المماليك، ولأنهم أعداء للإنجليز، وأعداء الإنجليز هم أعداؤه كذلك.
و«دروفتي» هو الذي حاول كذلك أن يشل نشاط بكوات الصعيد، فقابل كخيا البرديسي، وأثمرت مساعيه معه، حتى إنه كتب إلى «تاليران» في 10 يوليو: إن كخيا البرديسي قد رجاه أن يظل الإمبراطور العظيم على عهده من عدم نسيان البكوات الذين لم ينحازوا أبدا إلى أية جماعة تعمل ضد صالح فرنسا أو إلى أعدائها، واتصل «دروفتي » بأرملة مراد بك، وأكدت هذه ولاءها لنابليون العظيم، وأعلنت سخطها ونقمتها على الألفي الذي باع نفسه للإنجليز عن جبن ونذالة، وحاول «دروفتي» كذلك الاتصال بكخيا إبراهيم بك الذي كان بالإسكندرية، ولكن هذا خشي من مقابلة «دروفتي» لئلا يسيء ذلك إلى الإنجليز فيؤذون مصالح سيده، الأمر الذي جعل «دروفتي» يقول في رسالته إلى «تاليران» في 15 يوليو: ومن هذا يتضح لكم كيف يبغي الإنجليز الفوز بالسيطرة في هذه البلاد، وزار «دروفتي» موسى باشا، وأنشأ معه صلات ود وصداقة، وعندما صار القبطان باشا يعمل لتمكين الألفي من الاستيلاء على دمنهور، حصل «دروفتي» على وعد من البرديسي بعدم اشتراكه في هذه العمليات، وقد كان حصار دمنهور الموضوع الذي استأثر بقسط وافر من انتباه «دروفتي» في هذه الأزمة؛ لأن حصارها على يد الألفي وإخضاعها كان جزءا من مشروع كبير - كما رأينا - قسمه الآخر الزحف على رشيد والاستيلاء عليها، فتصبح بفضل ذلك منطقة البحيرة والإسكندرية (وبهذه القبطان باشا) ورشيد في قبضة الألفي، الأمر الذي يجعل من السهل على الإنجليز عند مجيء حملتهم التي يشيع وكلاؤها قرب مجيئها أن تنزل بسلام وتخضع هذه المنطقة بأسرها وتهدد بعد ذلك الحكومة القائمة بالقاهرة، (أي حكومة محمد) علي تهديدا خطيرا وتقضي تبعا لذلك على المصالح الفرنسية بالبلاد.
وفي 25 أغسطس 1806 تحدث في كتاب بعث به إلى «تاليران» عن مساعيه لدى موسى باشا لإقناعه بتعارض مصلحته مع مصلحة الألفي وعن محاولاته التي بذلها للتأثير على القبطان باشا حتى يعطل استعداداته العظيمة التي شرع فيها لمعاونة الألفي، وقد عمد «دروفتي» إلى تشويه سمعة الألفي في كل مرة اجتمع فيها مع القبطان باشا، فراح يندد بعجز الألفي وعدم قدرته على ابتكار أية خطة نافعة أو اتباع ما يعهد إليه من خط بنجاح، وصوره بالرجل الذي لا يمكن أن تسلم إليه القيادة في الظروف العصيبة، وأنه إنما خدع الباب العالي عندما بالغ في وصف قوته، آية ذلك امتناع دمنهور عليه وفشل هجماته عليها لإخضاعها، ووصف «دروفتي» هذه الهجمات بأنها عمليات عسكرية قليلة النفع عديمة الأهمية .
ثم إنه كان في هذا الكتاب الذي بعث به «دروفتي» إلى «تاليران» في 25 أغسطس أن ذكر الوكيل الفرنسي وصول رسالة إليه من عثمان البرديسي يؤيد ما سبق أن أبلغه إياه الرسول الذي ذكره «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» بتاريخ 12 يونيو، ووعد «دروفتي»: بأنه سوف يجبب على البرديسي بأنه من المنتظر عودة «ماثيو لسبس» دون أي إمهال إلى مصر وأنه ولا شك سوف يأتي معه بتعليمات بشأن ما يطلبه، وحيث إن الإمبراطور يمتدح شجاعة البكوات ويشيد بإبائهم أن يبيعوا أنفسهم للإنجليز فإنه سوف يرحب بطلباتهم، وكان عثمان البرديسي قد تحدث في رسالته هذه طويلا عن الوعود التي قطعها له «ماثيو لسبس» ثم «دروفتي» نفسه، والتي كان مبعث عدم الوفاء بها سفر «لسبس» الذي هو من أعظم أصدقاء البرديسي وجماعته، ثم استطرد يقول في لغة تمزج بين طلب المعاونة من الإمبراطور والتهديد بالتخلي عن مؤازرة المصلحة الفرنسية ونحن نعرف خلق الأوروبيين لا سيما الفرنسيين الذين يتحمسون لخدمة أناس يجدون أنفسهم في مركز متحرج كما نفعل نحن، كما نعرف بخير تلك الأشياء العظيمة التي فعلها الإمبراطور بونابرت وأنه قد استولى على أوروبا بأسرها بحد سيفه وأنه قد صفح بعد ذلك عن أعدائه فأرجع إلى كل واحد من هؤلاء أملاكه، ونحن نعتقد أنه لا يزال يذكرنا ونرجو منه أن يصفح عنا ويبذل لنا المساعدة في كل أعمالنا، ولقد انتظرنا حتى هذه اللحظة لنرى أثر وعودك لنا وأنت تدري ولا شك أن هذا أمر تتحقق بفضله مصلحتكم، كما تعلم من غير شك أن هناك أناسا في وسعك الاعتماد على صداقتهم بدليل ما قدموه من براهين ساطعة على ذلك في الماضي، وأما إذا كنت لا تريد تنفيذ وعودك لنا فرجاؤنا منك أن تذكر لنا ذلك حتى نترك نحن أيضا هذا الانتظار، ولكننا نعتقد أن فرنسا لن تتخلى أبدا عن كلمتها أو تنبذ وعودا قطعتها على نفسها؛ ولذلك نرجوك أن تبعث من قبلك رجلا يحمل خطابات منك إلى الإمبراطور بونابرت وفي وسعك معرفة نوايانا وكل ما نبغي نحن فعله هنا من ترجماننا يوسف (وهو الذي حمل هذه الرسالة إلى «دروفتي»)، ونحن مستعدون لخدمتك، ومع أنه لم يسبق لنا شرف التعرف بك فقد سمعنا عنك أنك إنما تتحلى بكل صفات الأخلاق الحميدة والذكاء والحصافة، ونأمل أن تبلغنا ما صح عليه عزمك.
ولما كان «دروفتي» قد صح عزمه على إحباط مهمة القبطان باشا بكل وسيلة، ومن عوامل ذلك حتما الحيلولة دون اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي في نضال هذا الأخير ضد محمد علي من جهة، وفي مساعيه بمؤازرة الوكلاء الإنجليز لدى القبطان باشا من جهة أخرى، ثم إتاحة الفرصة لمحمد علي حتى يتفرغ لمواجهة الصعوبات التي تواجهه في القاهرة والوجه البحري والإسكندرية، وذلك بتخدير أعصاب بكوات الصعيد وحملهم على البقاء في أمكنتهم فلا يخلقون بنزولهم من مظاعنهم متاعب ومشاكل جديدة، فقد آثر أن يكذب على البرديسي تلك الكذبة التي أحيا بها آماله وجعله بسببها يزيد صلابة وعنادا في رفض أي اتفاق مع الألفي ودفع حصة البكوات القبالي من مبلغ ال 750000 قرش الذي اتفق مندوبو الألفي على دفعه ثمنا للترتيب الجديد مما كان من العوامل ذات الأثر البعيد في مسلكه، فقد أجاب على البرديسي بالصورة التي ذكر لتاليران أنه سوف يجيب بها عليه، فكتب إلى البرديسي يقول: «إن الألفي يعتبر نفسه من الآن سيدا لمصر وأن مهمة القابجي باشا ليست سوى شرك نصب لإيقاعك فيه دون حذر منك أو احتياط، وليس للإنجليز الذين يتولون تدبير هذه المؤامرة من غرض سوى جعلك تعترف بالألفي سيدا عليك، ثم يستولون على مصر باسمك وباسم الألفي، فاحترس إذن وكن حذرا، وفي وسعي فضلا عن ذلك أن أؤكد لك أن فرنسا لم تنس بتاتا الوعود التي بذلتها لك، بل إن الأمر بعكس ذلك تماما لأنك على وشك أن ترى تحقيق هذه الوعود، ومن المنتظر قطعا حضور «ماثيو لسبس» الذي تعرفه بين لحظة وأخرى، وسوف يأتيك بلا شك بكل أنواع النجدات، ثم ما الذي تخاطرون به إذن لو أنكم انتظرتم؟ وأنتم الذين إذا تريثتم أياما قليلة فحسب تصبحون سادة مصر وأصحاب السلطة فيها، أو أنكم تؤثرون باستعجالكم للحوادث أن تكونوا رعايا لإنجلترة وللألفي بك؟»
وقد أخذ المؤرخون على «دروفتي» كذبه على البرديسي في هذا القسم الأخير من رسالته الذي يؤكد له فيه قرب وصول النجدات الفرنسية إليه قطعا بين لحظة وأخرى، ولكن «فولابل»
Vaulabelle
مع استنكاره الشديد لهذا الأسلوب الذي لجأ إليه «دروفتي» في معالجة مسألة بكوات الصعيد أثناء هذه الأزمة، لم يلبث أن وجد ما يمكن اعتباره مبررا لهذه الكذبة التي يبدو أن «دروفتي» لم يجد مفرا في رأي فولابل من ارتكابها، أما وجه التضليل الذي عمد إليه «دروفتي» عندما أكد قرب وصول النجدات الفرنسية فمبعثه أن الإمبراطور نابليون كان منصرفا الانصراف كله إلى مواصلة فتوحه في القارة الأوروبية، فقال فولابل: إنه لم يكن لدى وزارة التويلري في باريس أي تفكير في إرسال جند إلى مصر، وعلاوة على ذلك، فقلما كان الظرف وقتئذ مناسبا؛ فالإنجليز لهم السيطرة في البحر، وبقايا بحريتنا لا تزال سفنها منزوعة الصواري في الموانئ، ونابليون وهو يدفع بجيوشه حتى نهر «النيمن» قد فرق أوصال بروسيا، وأنشأ إقطاعات كبيرة، وأوجد مملكتين أو ثلاث ممالك جديدة، وبكل صعوبة وسط هذه الأعمال العظيمة يكاد يخطر في ذهنه خاطر ولو مبهم عن إفريقية، ووجد وكلاؤنا أنفسهم متروكين للاعتماد على ما توحي به إليهم قرائحهم، ولقد كان من شأن هذا الإغفال إلحاق الأذى البليغ بنفوذنا لولا أن الرجل الذي كلف وقتئذ بتمثيل فرنسا في مصر تلافى نقص التعليمات الصادرة إليه من أرض الوطن بما أبداه من نشاط ذهني عظيم وقدرة نادرة على تعيين الأغراض التي استهدف تحقيقها.
ومع أننا أبعد ما نكون رغبة في قبول الوسائل التي عمد إليها «دروفتي» لتأمين مصالحنا السياسية والتجارية في هذا الجزء من أجزاء الإمبراطورية العثمانية ، ولكنه مع استنكارنا لنواح معينة من الدور الذي قام به في شئون هذا البلد فمن الواجب أن نعترف بكل تلك المصاعب التي وجد نفسه محاطا بها وأن نحيي ذكاءه الممتاز، وعلاوة على ذلك، فإن ميول الألفي بك نحو فرنسا اتسمت بطابع لم يكن من شأنه أن يجعل «دروفتي» كثير التدقيق عند اختيار الوسائل التي يمنع بها انتصار هذا البك ويكفل بقاء محمد علي وامتلاكه مصر إلى أن قال: ومع ذلك، فقد طلب البرديسي في خطابه إلى «دروفتي»، تفسيرا دقيقا وسريعا - عن موقف فرنسا منه وعزمها على تحقيق وعودها له - ثم إنه بات من المحتمل قبل مضي أيام قلائل أن تسفر المقترحات التي كلف بحملها صالح أغا عن وصول بكوات الصعيد إلى قرار يحددون به مسلكهم، ومن المحتمل أنهم قد يتناسون مبعث كل تلك الأحقاد والمنافسات المبنية على الحسد والغيرة التي جعلتهم يثورون على الألفي ويقفون حجر عثرة لتعطيل أطماعه وآماله وإبطال مشروعات الحكومة الإنجليزية، ثم كان من حسن حظ «دروفتي» أنه وجد فيما اتصف به صنيعة الإنجليز الألفي من زهو وصلف مفرطين، ثم في قرب وصول القنصل العام «ماثيو لسبس» تلك الحجج التي ما كان يعثر عليها لو أنه أراد أن يستند في إجابته على البرديسي على وزن صحيح لكل حزب من الأحزاب المتناضلة أثناء هذه الأزمة فقال: «لقد اتخذ الألفي لنفسه علنا لقب سلطان القاهرة، ولتشوقه لممارسة السلطة دون إبطاء صار يتصرف مقدما في إيرادات مصر، ومن الآن عمد إلى إعطاء التزام حصيلة الضرائب المفروضة على السنا والنطرون إلى بيوت تجارية من لندن، ولم ينس «دروفتي» في جوابه على البرديسي كل هذه التفاصيل، بل تحولت هذه بين يديه إلى سلاح قاطع ...»
ومهما يكن من أمر، فقد حققت هذه الكذبة الغرض المقصود منها، وشلت حركة بكوات الصعيد، ومنعتهم من الاتفاق مع الألفي، وجعلت القبطان باشا الذي لم يظفر من البكوات بمبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش يقرر المضي في الاتفاق مع محمد علي، فأوقف استعداداته ضد رشيد وبدأت تفتر همته في تزويد الألفي بالأسلحة والذخائر لإخضاع دمنهور، وانفرجت الأزمة عند وصول إبراهيم بن محمد علي إلى الإسكندرية، وغادر القبطان باشا الإسكندرية في 18 أكتوبر في طريقه إلى القسطنطينية، وحق ل «دروفتي» عندما علم في منتصف نوفمبر 1806 أن «ماثيو لسبس» قد تعين لقنصلية ليفورنة أن يطلب إعطاءه منصب القنصل العام في مصر مستندا في هذا الطلب على ما أداه من خدمات في هذه البلاد لرعاية المصالح الفرنسية.
تلك إذن كانت معالم السياسة الإيجابية التي سار عليها «دروفتي» في مصر من تلقاء نفسه، ومتحملا مسئولتيها هو وحده، ولعل أهم ما تجب ملاحظته أن «دروفتي» لم يندفع اندفاعا في هذه السياسة، كما كان بعيدا كل البعد عن ذهنه مخالفة أوامر حكومته له، ولكنه بنى خطته الإيجابية على عوامل معينة نشأت من تطورات الموقف في مصر، لم يجد في تعليمات حكومته له ما يدل على أن هذه الحكومة قد أخذت بعين الاعتبار ما كان «دروفتي» نفسه يبعث به إليها من تفاصيل الحوادث التي شهدها، ويعرضه عليها من آراء لم تكن مبتسرة بل جاءت بعد دراسة وبحث مستفيضين للموقف، فصار عندئذ واجبا عليه أن يسد هذا النقص - على حد قول فولابل - بالاعتماد على ذكائه ومهارته، وثمة ملاحظة أخرى أنه كان بعد هذا البحث وهذه الدراسة أن انتهت سياسة «دروفتي» الإيجابية إلى الإقبال على تأييد حكومة محمد علي بوصف أنها القوة التي إذا تدعمت أركانها استطاعت إحباط مشاريع الإنجليز والألفي حليفهم ورد الغزو الإنجليزي إذا وقع على البلاد، وما إن رسخ في ذهن «دروفتي» هذا الاعتقاد حتى تخلى نهائيا عن صديق فرنسا عثمان البرديسي، بل ولم يجد أية غضاضة في الكذب والتمويه عليه حتى يصل إلى غرضه.
وأما هذه السياسة الإيجابية والتي وضعت كل ثقلها لترجيح كفة محمد علي خصوصا أثناء أزمة النقل إلى سالونيك فقد بدأت تجني باكورة ثمارها عندما كتب «دروفتي» نفسه إلى «تاليران» في 21 نوفمبر 1806 أنه لينتظر بفارغ الصبر جواب الوزير على الرسائل المنوعة التي بعث بها إليه بشأن النجدات من الأسلحة والرجال التي يطلبها محمد علي من فرنسا، فإن هذا الباشا لا ينقطع يردد مطلبه هذا ويستعجل الجواب عليه بكل سرعة.
وأما مبعث طلب النجدة من فرنسا فكان ما يصادفه محمد علي من صعوبات ناجمة عن تمرد الجند لا سيما في حامية المنيا وحروجة الموقف تبعا لذلك في الصعيد، واستعداد الألفي لتشديد الحصار على دمنهور بعد ذهاب القبطان باشا، والخوف من أن يرسل الإنجليز حملتهم إلى الإسكندرية، تلك الحملة التي استمر الوكلاء الإنجليز يؤكدون قرب مجيئها. (3) الموقف قبل مجيء حملة «فريزر»
ولقد ظل «دروفتي» يرقب بيقظة واهتمام الموقف في مصر بعد انقضاء أزمة النقل إلى سالونيك، وكان مما استرعى نظره ونظر نائبه «مانجان» في القاهرة، جسامة الصعوبات التي أحاطت بحكومة محمد علي من كل جانب، وأخطر هذه حاجة الباشا المستمرة إلى المال، وتمرد الجنود الذين يطالبون في عناد بدفع مرتباتهم المتأخرة لهم، ثم ما كان يخشى من نشاط البكوات: الألفي وجماعته في الوجه البحري، والبرديسي وإبراهيم وعثمان حسن وغيرهم من البكوات القبالي في الصعيد، واتحاد الفريقين في عمل مشترك ضد حكومة محمد علي، وذلك كله في وقت تأزمت فيه العلاقات بين تركيا وبين روسيا وإنجلترة بصورة أفضت إلى إعلان الحرب من تركيا على روسيا، وتوقع انضمام إنجلترة إلى حليفتها ضد الباب العالي وحضور الحملة الإنجليزية إلى هذه البلاد على نحو ما أكد الوكلاء الإنجليز.
أما الحاجة إلى المال فقد سبق الكلام عنها وعن الآثار التي ترتبت عليها، وقد كان من بين هذه على وجه الخصوص تذمر القاهريين من الإتاوات والمغارم التي فرضت عليهم، ولكن الباشا استطاع بسط الهدوء والسكينة في القاهرة بفضل اعتماده على مؤازرة المشايخ له لا سيما السيد عمر مكرم، بل ويذكر الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن المدة بين أول وعشرين أكتوبر 1806 أن عمر مكرم قد كشف للباشا عن مكايد شيخين كانا يحرضان القاهريين على الثورة، وقد تأثر هذان الشيخان بمساعي الوكلاء الإنجليز والقبطان باشا فألقى القبض عليهما في 5 أكتوبر، وأظهر عمر مكرم ولاء عظيما للباشا، وعاونه معاونة صادقة على استتباب الأمن والنظام في القاهرة، وكان بعد حوالي عشرة أيام أن أطلق الباشا سراح الشيخين بناء على توسط الشيخ سليمان الفيومي في أمرهما على شريطة مغادرتهما القاهرة إلى الريف.
وأما مشكلة الحاميات المتمردة فقد تزايدت خطورتها عندما أوفد الباشا في 20 أكتوبر أحد كبار ضباطه إلى حامية المنيا، ولم يلبث هذا أن عاد من مهمته فاشلا في 12 نوفمبر، ثم انضم إلى البكوات كاشفه الذي حكم الفيوم باسمه، وأظهر جند حسن باشا رغبتهم في تمضية أيام العيد الصغير بالقاهرة، ورفض جند رشيد الذهاب إلى الرحمانية للاشتباك مع الألفي (نوفمبر 1806) وإرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، وتعالت صيحات جنود الباشا في كل مكان مطالبة بالنقود، النقود، وتعرض الرحالة الفرنسي «شاتوبريان» لإطلاق الرصاص عليه بكثرة عند عودته إلى القاهرة، وكان بسبب مشكلة الجند هذه أن كتب الوكلاء الفرنسيون في تقريرهم عن الموقف في مصر بين 14، 27 ديسمبر 1806: «إنه لمن المؤسي حقا أن يجد هذا الرجل محمد علي صاحب الآراء والمشاريع الضخمة نفسه على رأس طبقة عسكرية شيمتها الشره وحب المال والجبن ونبذ كل نظام»، ولكن محمد علي الذي استمر يطلب الفرض والسلف من القاهريين، وفتح الميري عن السنة القابلة، وصادر قافلة سنار، استطاع أن يدفع قسما كبيرا من مرتبات الجند، ثم إنه منع حسن باشا وجنده من الحضور إلى القاهرة، وبدا كأنما في وسعه أخيرا التغلب على كل الصعوبات التي تصادفه عندما جاءت الأنباء معلنة عن وفاة البرديسي، ثم عن وفاة الألفي بعد ذلك، ثم شغل الجند بالاستعداد للخروج في تجريدة كبيرة يترأسها الباشا نفسه ضد البكوات المماليك.
وكانت مسألة البكوات من المسائل التي وجب على الباشا إيجاد حل سريع لها حتى يأمن جانب هؤلاء إذا تعرضت البلاد للغزو نتيجة لتأزم العلاقات بين تركيا وروسيا وإنجلترة، وليس من شك في أن محمد علي كان يتوقع هذا الغزو عندما كانت الاستعدادات قائمة بالإسكندرية لتحصينها وراجت الأخبار عن حدوث مثل ذلك في رودس وكريت، فقد كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في آخر ديسمبر 1806 أن هناك استعدادات عسكرية وتحصينات تجري بالإسكندرية يعزو أمين أغا سببها إلى وجود حشود الأرنئود في رشيد والرحمانية وخوفه من المفاجأة إذا قرر هؤلاء الهجوم على الإسكندرية، ولكن «مسيت» - كما كتب - يعتقد أن سبب هذه الاستعدادات والتحصينات إنما هو وصول ططر من القسطنطينية بدأت الاستعدادات بعد مجيئهم مباشرة، مما يدل دون شك على أن أوامر قد بلغت هذا الحاكم من الباب العالي بشأنها، لا سيما وأن «مسيت» قد ترامي إليه أن نفس الشيء يحدث كذلك في كل من رودس وكريت؛ وعلى ذلك، فإن صح هذا فإن ما يجري هنا من استعدادات للدفاع إنما الغرض منها التهيؤ لدفع غزو أجنبي وليس لصد الأرنئود، ثم تساءل «مسيت»: ولكن من يكون هذا العدو الأجنبي الذي يستطيع غزو مصر في هذه اللحظة؟ لا شك في أن «أربثنوت» يعرف هذا العدو من معرفته لسياسة تركيا.
وقد كتب «دروفتي» بعد ذلك إلى «تاليران» في 2 مارس 1807: «إن مغادرة السفير الإنجليزي للقسطنطينية أحيت آمال أعدائنا هنا في وقوع غزوة بريطانية (على مصر) ويذيع وكلاؤهم هذا الرأي، ويبغي محمد علي الاستفادة من الاضطراب الذي وقع في صفوف المماليك بسبب وفاة البرديسي والألفي، فخرج على رأس جيشه إلى الصعيد لإرغام بكواته على التسليم، وغرضه أن يحطم أعداءه الداخليين حتى يمكنه التفرغ لمراقبة الشاطئ.»
واعتقد محمد علي أن الفرصة قد صارت مواتية لمعالجة مسألة البكوات من بيت الألفي بعد وفاة كبيرهم، فقد تبدل الحال الآن في معسكر شاهين بك خليفة الألفي، فساءت العلاقات بينه وبين العربان، وكاد هؤلاء ينهبون معسكر شاهين لو أن هذا لم يبادر بالقبض على رؤساء القبائل وحبسهم، وقد ترتب على ذلك أن غادر معسكره بعد ذلك مباشرة أكثر من نصف هؤلاء الفرسان البدو، وقد شجع محمد علي هذه الحركة بفضل ما صار يمنيهم به من وعود طيبة، كما أنه رحب بمن حضر منهم إليه، ثم إنه حتى يزيد من ضعف شاهين، لم يلبث أن سمح لكل من أراد من أهل القاهرة وأعيانها العودة إلى أسراتهم بدخول القاهرة وكان هؤلاء قد انضموا إلى معسكر الألفي، وانفض الآن عدد كبير منهم من حول شاهين، فرأى محمد علي وقد نقصت قوات شاهين وضعف جيشه أنه سوف يؤثر الصلح على الاستمرار في النضال والمقاومة، فأرسل إليه وإلى سائر البكوات في معسكره مكاتبة يستميلهم ويطلبهم للصلح ويدعوهم للانضمام إليه ويعدهم أن يعطيهم فوق مأمولهم ونحو ذلك، وأرسل تلك المكاتبة صحبة قادري أغا الذي كان قد طرده الألفي ونفاه، كما جعل بعض وسطائه السابقين مع البكوات، مصطفى أغا كاشف الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وغيرهما يكتبون إليهم بنفس المعنى، وكان شاهين بك يقيم بالبهنسا منذ وفاة الألفي، ثم قرن الباشا عروضه السخية على شاهين بك وسائر البكوات بمظاهر التهديد والتخويف فأخذ - كما يقول الشيخ الجبرتي - في الاهتمام والركوب واللحوق بهم، وفي كل يوم ينادي على العسكر بالمدينة بالخروج، وقوي نشاطهم ورفعوا رءوسهم وسعوا في قضاء أشغالهم، وخطفوا الجمال والحمير، وحضر الباشا إلى بيته في الأزبكية، وبات به ليلة الأحد أول فبراير 1807 وخرج لسفره يوم الخميس 5 فبراير وخرج إلى العرضى ثانية، ثم إنه أعد عددا عظيما من المراكب المحملة بالمؤن والذخائر والعتاد.
ولكن قادري أغا ما لبث أن عاد في 7 فبراير من مهمته فاشلا، فقد أحضر معه جوابا على رسالة الباشا عليه ختم شاهين بك وباقي خشداشينه الكبار، وآخر لمن كاتبهم يذكرون في جوابهم إن كان سيدهم قد مات وهو شخص واحد فقد خلف رجالا وأمراء وهم على طريقة أستاذهم في الشجاعة والرأي والتدبير، وكان ذلك من ضروب المبالغة في إطراء أنفسهم عن غير جدارة، حتى إن الشيخ الجبرتي لم يلبث أن علق على ذلك بقوله: «وليس كل مدع تسلم له دعواه، ومن أمثال المغاربة: ما كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة.» ثم إنهم ذكروا في جوابهم أيضا أنه «إن اصطلح محمد علي مع كبرائهم الكائنين بقبلي (في أسيوط) وهم إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن وباقي أمرائهما كنا مثلهم، وإن كان يريد صلحنا دونهم فيعطينا ما كان يطلبه أستاذنا من الأقاليم.» وعندئذ لم يجد الباشا مناصا من الخروج لمحاربة البكوات، وقد غادر شاهين الألفي البهنسا، قاصدا إلى المنيا التي يحتلها سليمان بك المرادي يبغي الانضمام بقواته إليه.
ولم يمنع محمد علي من الخروج فورا في تجريدته ضد البكوات سوى إصابته في ليل 6-7 فبراير بمرض خطير مفاجئ حيث نزل به حادر وتحرك عنده خلط وحصل له إسهال وقيء، وأشاع الناس موته يوم 7 فبراير، وكاد العسكر ينهبون العرضى، ثم حصلت له إفاقة، وخرج السيد عمر مكرم والمشايخ للسلام عليه في اليوم التالي (8 فبراير) وليهنوه بالعافية، وقد أشرف على علاجه طبيبه «بوزاري»
Bozari
وفي 9 فبراير ارتحل الباشا بالعرضى إلى ساقية مكي بالجيزة متوجها لقبلي، بعد أن كلف كخياه كتخدا بك «طبوز أوغلي» بالقيام بشئون الحكم في غيابه، وفي 12 فبراير بدأ زحفه صوب الصعيد.
وكان أثناء غياب محمد علي وبعد حوالي أسبوعين من خروجه من القاهرة أن جاء الخبر بقيام الحرب بين تركيا وروسيا وتوقع حدوث غزو على مصر من جانب الإنجليز حلفاء الموسكوب.
الفصل الثالث
تخطي العاصفة: حملة «فريزر» وفشلها
تمهيد
لم يكن الغرض من إرسال حملة الميجور جنرال «ماكنزي فريزر»
Machenzie Fraser
إلى مصر احتلال هذه البلاد، بل كانت هذه الحملة - عند التفكير في إرسالها - جزءا من مشروع أساسي يرمي إلى تخويف الباب العالي والضغط عليه للانفصال عن فرنسا، والانضمام إلى عدوتيها إنجلترة وروسيا، فكان القصد من إرسالها احتلال الإسكندرية، وتأييد الأحزاب الصديقة لبريطانيا في مصر (أي جماعة الألفي) وذلك لإنشاء دفاع عن البلاد بمعاونة البكوات يحول دون الفرنسيين إذا جاءوا بحملتهم إليها، فقد سيطر على تفكير الإنجليز من سياسيين وعسكريين أن نابليون لن يتخلى عن محاولة امتلاك مصر مرة ثانية، واستبد بهم الخوف من نزول الفرنسيين في هذه البلاد، حتى إنهم صاروا يرون في صداقة فرنسا لتركيا أو مناصبتها العداء مفضيا في كلا الحالين إلى احتلال الفرنسيين لمصر، سواء بوصفهم أصدقاء الباب العالي أو أعداء له.
وأدخل «مسيت» - كما رأينا - في حسابه هذا الاحتمال على وجهيه، عندما صار يلح على حكومته في ضرورة احتلال جيشها للإسكندرية، تمهيدا ولا شك - كما أراد «مسيت» لاحتلال مصر بأسرها، ولقد تسلطت فكرة احتلال الإسكندرية أو مصر على أذهان غيره من رجال الحرب والسياسة الإنجليز، وفي مقدمة هؤلاء الأميرال «نلسن»، على أنه بالرغم من هذا كله، ومما أخذ به «مسيت» خصوصا، لم يكن غرض حكومة لندن - بحال من الأحوال - احتلال مصر أو حتى امتلاك الإسكندرية ذاتها، بل إن كل ما اهتمت به هذه الحكومة كان أمر مراقبة الحرب في القارة الأوروبية، وتدارك الأخطار التي قد تهدد مواقع الإنجليز في البحر الأبيض لا سيما في مالطة وصقلية، نتيجة لتمكن سيطرة نابليون في إيطاليا ولانتصاراته في أوروبا، زد على ذلك أن إنجلترة كانت تريد التمسك بالإسكندرية ذاتها، بل إذا حدث أن اقتضت الظروف بقاء احتلال جيوشها لها حتى نهاية الحرب، فإنها كانت تنوي عند عقد السلام العام إعادتها إلى تركيا؛ ولذلك فقد ارتهن مصير حملة «فريزر» - من مبدأ الأمر - بتطور الحوادث في الميدانين: السياسي والعسكري في أوروبا.
بيد أن هذه الحملة كانت حلقة من حلقات تلك الصعوبات التي صادفت محمد علي بين عامي 1805، 1807، وكادت تودي بولايته، ولا جدال في أن حملة «فريزر» كانت ذات آثار عظيمة في حياة محمد علي، فقد استطاع قواده إنزال هزيمة ساحقة بجيش «فريزر» في معركة الحماد، وأقام محمد علي الدليل عند مجابهته هذا الخطر - سواء بالإشراف على تحصين القاهرة أو العمل على استتباب الهدوء والسكينة بها، أو معالجة مسألة بكوات الصعيد - على أن في استطاعته الاضطلاع بأعباء الحكم على خير صورة، أضف إلى هذا أن اجتياز هذه الأزمة الأخيرة بسلام بعد انتصاره على البريطانيين رفع ذكره في العالم الإسلامي، كرجل استطاع وحده مقاومة أقوى دول أوروبا وقتئذ، ثم أكسبه نجاحه عطف الباب العالي، وكان لا مناص من جلب رضاء هذا عليه، إذا شاء الاستقرار في حكومته، ثم إن انصراف الديوان العثماني عن الكيد له - مؤقتا - لم يلبث أن أتاح له الفرصة خلال السنوات الثلاث التالية ليعمل على دعم أركان ولايته، ثم إن نجاحه هذا لم يلبث أن زاده ثقة في نفسه وفي قدرته على الاحتفاظ بولايته، فتزايدت من ثم أطماعه، وارتسمت في ذهنه من هذا الوقت المبكر معالم الخطة التي قر رأيه على اتباعها لتحقيق أهدافه، فقد صار لديه الآن من القوة ما يجعله يرفض استبدال أي باشوية أخرى من باشويات الدولة بولاية مصر، بل صارت تنم أحاديثه وفعاله عن رغبته في الظفر من الباب العالي بوضع يميزه عن سائر باشوات الدولة وحكام ولاياتها، ولقد كان لحملة «فريزر» من هذه الناحية أهمية كبرى؛ ذلك لأن الباشا كشف للمرة الأولى أثناء مفاوضاته مع مندوبي هذا القائد الإنجليزي بصدد إخلاء الإسكندرية وإنهاء احتلالها عن حقيقة هذا الوضع الجديد الذي يبغيه، وهو أن ينشئ حكما وراثيا في أسرته في مصر مع التبعية للباب العالي على غرار الوضع القائم في وجاقات الغرب، حيث كانت تحكم وقتئذ أسرة القره مانلية في طرابلس الغرب، والحسينية في تونس، ويستأثر الدايات: (جمع داي) في الجزائر بكل سلطة، والواقع أن حملة «فريزر» قد اختتمت دور التجربة والاختبار الذي مر به محمد علي، وكان دورا عاتيا قاسيا، وبدأ محمد علي يمارس شئون الحكم من الآن فصاعدا كمن صار له السلطان نهائيا، ويظهر في كل أعماله كمن صارت له كل حقوق السيادة.
ولقد كان لحملة «فريزر» أهمية أخرى من حيث تشكيل علاقات باشا مصر مع الدولتين اللتين تنازعتا على النفوذ في مصر نزاعا عنيفا منذ أن جلا الفرنسيون في 1801 ثم البريطانيون في 1803 عن هذه البلاد، وهو نزاع أثر على مجرى الحوادث بها بصورة ساعدت محمد علي نفسه على الاستفادة منها وتأسيس حكمه في مصر، فقد أقبل «دروفتي» أثناء الأزمة التي أوجدتها هذه الحملة على تعضيد حكومة محمد علي بكل ما وسعه من جهد وحيلة، وتبين للباشا أن في وسعه - من الآن فصاعدا - الاعتماد على صداقة فرنسا، فكانت هذه التجربة التي مرت بمحمد علي و«دروفتي» معا منشأ ذلك الوفاق الذي ظل يسود العلاقات بين مصر وفرنسا في عهد محمد علي سنوات طويلة، ومن ناحية أخرى دل فشل حملة «فريزر» والظروف التي لابست هذا الفشل، على أن إنجلترة في معركة التنازع على النفوذ في مصر مع فرنسا قد أخطأت التقدير، فقامرت على حصان خاسر منذ أن بنت كل آمالها على إمكان طوائف المماليك الذين فرقهم التباغض والتحاسد، وسيطرت الأطماع والأنانية على أعمالهم، أن يؤسسوا حكما في مصر ينهي منها الفوضى، ويكفل لها الاستقرار الذي يدفع الغزو الأجنبي عنها.
وقد نبتت هذه الفكرة الخاطئة في ظروف كان يبدو فيها بعد جلاء الفرنسيين أن البكوات هم وحدهم القادرون على منع نزول حملة فرنسية أخرى في البلاد، وقد كان لهذه الفكرة مبرراتها وقتئذ للأسباب التي ذكرناها في موضعها، ولكن العسكريين والسياسيين الإنجليز أعوزتهم المرونة، فأصروا على التمسك بفكرتهم بعناد، على الرغم من تطور الحوادث، وقد أوضحنا كيف أنهم لم يدخلوا في حسابهم المناداة بولاية محمد علي كعامل قد يدعوهم إلى تعديل خطتهم، لا سيما عندما ظهر تخاذل البكوات، واتساع شقة الخلاف بسبب المنافسة والغيرة الشديدتين بين صنيعتهم الألفي وعثمان البرديسي، وتقع المسئولية على «مسيت» خصوصا في ترويج أن محمد علي قد اشتراه الوكلاء الفرنسيون، وأنه طالما بقي في الحكم تظل البلاد معرضة لغزو الفرنسيين واحتلالهم لها، وراح «مسيت» يطلب مرارا وتكرارا تدخل حكومته للحصول من الباب العالي على أمر بعزله أو نقله وطرد الأرنئود، فزاد «مسيت» - بفعله هذا - من تمكين الفزع في نفوس المسئولين في حكومته من ناحية الغزو الفرنسي المنتظر، ولقيت بسببه مخاوف «نلسن» الذي ظل هو الآخر ينادي بوجوب القيام بعمل عسكري بريطاني في مصر؛ لمنع هذا الغزو ما يعززها ويقويها.
ومع ذلك، فقد أظهرت حملة «فريزر» محمد علي بمظهر السياسي المحنك بعيد النظر، فقد انتهز فرصة وجود قوات الإنجليز في البلاد، ليعمل على جذب إنجلترة إلى جانبه، وهو الذي قد تخطى العاصفة بسلام، وصار يهمه الآن أن يحاول الظفر بتأييد هذه الدولة التي ناصبه وكلاؤها العداء لقضيته؛ أي الفوز بالولاية الوراثية في الوضع الذي سبق ذكره، ولم تمنعه صداقة «دروفتي» ومساعدته له عن إقصاء نائبه «مانجان» وقت مفاوضاته مع مندوبي الجنرال «فريزر»؛ وذلك لأنه لم يفته أن هذه الدولة (إنجلترة) لها أسطول كبير، ولا تزال مسيطرة في البحر الأبيض، وعجز نابليون العظيم عن غزوها في عقر دارها أو هزيمتها، وفي وسعه فضلا عن ذلك كله، أن يجعل منها عميلا طيبا يجني من معاملاته معها ربحا محققا، بسبب حاجتها إلى منتجات وحاصلات باشويته لتموين قواتها الرابضة في شتى المواقع في البحر الأبيض، وإذا كانت إنجلترة قد ناصبته العداء بعد ذلك بسبب اصطدامه المعروف في الحرب الشامية مع الباب العالي وتمسك الإنجليز بخطة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، فقد أتاحت حملة «فريزر» الفرصة لإرساء قواعد تلك السياسة التي حرص محمد علي من جانبه على اتباعها في مستقبل أيامه، ونعني بذلك كسب صداقة إنجلترة دائما.
وأما النتيجة المباشرة لحملة «فريزر» فيما يتعلق بباشوية محمد علي، فكانت تمكينه من الاستيلاء على الإسكندرية التي كانت خارجة عن حكمه، واطمأن بفضل ذلك إلى تحطيم هذه الحلقة التي ربطت بين باشويته والباب العالي، والتي أفاد هذا الأخير من وجودها، فاتخذ من الإسكندرية مكانا لتدبير مؤامراته ضد حكومته، كما وجد أعداء الباشا مرتعا خصيبا يحيكون فيه كذلك دسائسهم ضده، على نحو ما كان يفعل الوكلاء الإنجليز، فأغلق هذا الباب الآن بعد دخول الإسكندرية في حوزة محمد علي، أضف إلى هذا أن امتلاك الإسكندرية كان الخطوة الأولى التي خطاها محمد علي من أجل بسط سلطان باشويته على أرجاء القطر الذي تألفت هذه منه، حتى إذا قضى على المماليك نهائيا بعد ذلك بثلاثة أعوام تقريبا، ودخل الصعيد جميعه في حوزته، تم بسط سلطانه على هذه الباشوية: الأمر الذي كان لا مناص من حدوثه، إذا شاء محمد علي دعم أركان الولاية واستقرار حكمه بها. (1) الفزع من الغزو الفرنسي
وترتد أسباب حملة «فريزر» في أصولها البعيدة إلى الأغراض التي استهدفتها سياسة الإنجليز الإيجابية في مصر منذ جلائهم عنها، وقد تحدثنا عنها طويلا، ثم إنها ترتد في أصولها القريبة إلى تأزم العلاقات بين تركيا وبين روسيا وحلفائها الإنجليز، بالصورة التي أوضحناها، وفي كلا الحالين، كان منع تكرر الغزو الفرنسي لهذه البلاد هو مرمى رجال السياسة والحرب من الإنجليز، ولقد كان جلاء البريطانيين في مارس 1803 هو التضحية التي لم يجدوا مناصا من بذلها، إذا شاءوا المحافظة على السلم الذي قررته معاهدة «أميان»، على أمل أنه إذا تنفذت شروط هذا الصلح واستقر السلام، انتفى خطر الغزو الفرنسي على مصر، ولم تتجدد التجربة القاسية التي نشأت من نزول حملة بونابرت في هذه البلاد عام 1798، ولكنه سرعان ما تبين للإنجليز أن هذه التضحية ذهبت سدى، ودون مقابل، عندما استؤنفت الحرب مع فرنسا بعد شهرين فحسب من جلاء القوات البريطانية عن مصر، ولقد وجد من السياسيين الإنجليز - قبل أن يتحطم صلح «أميان» نهائيا - من كان يرى لتأمين سلامة إنجلترة وخاصة ممتلكاتها في الهند أن يستمر الاحتلال البريطاني لمالطة والإسكندرية ورأس الرجاء الصالح بصورة دائمة، أو على الأقل لمدة طويلة أخرى، بالرغم مما في ذلك من خرق لمعاهدة «أميان»، واستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه على ما ظهر من إصرار من جانب بونابرت القنصل الأول وقت إبرام الصلح على اشتراط إخلاء البريطانيين لمالطة والإسكندرية، فراحوا يؤكدون أنه ما فعل ذلك إلا ليفسح الطريق بين طولون والإسكندرية؛ لإرسال حملة فرنسية إلى مصر فيما بعد وعند أول فرصة سانحة، وكان من أثر تزايد شكوك الحكومة الإنجليزية في نوايا بونابرت بعد جلاء الجيش البريطاني عن الإسكندرية، ثم بسبب بقاء الجيوش الفرنسية في إيطاليا كذلك، أن رفض الإنجليز إخلاء مالطة، واحتدم النقاش حول مسألة مالطة بين بونابرت وبين «اللورد هويتوورث»
Whitworth
السفير الإنجليزي في باريس، واضطر الأخير إلى مغادرة باريس في 13 مايو 1803، وقطعت العلاقات بين فرنسا وإنجلترة، واستبد الخوف برجال السياسة والحرب الإنجليز من محاولة فرنسية جديدة لغزو مصر.
وكان مبعث مخاوف الحكومة الإنجليزية - سواء أكانت هذه المخاوف حقيقية أم وهمية، وما صار يساورها من شكوك في نوايا بونابرت من حيث عزمه على إجراء انقلاب في الشرق يقلب به الأوضاع رأسا على عقب، ثم فتح مصر مرة ثانية - أولا: استئناف العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وتركيا بعد صلح «أميان»، ونشاط السياسة الفرنسية في القسطنطينية، وثانيا: قيام «سباستياني» بمهمته المعروفة خصوصا في مصر، ثم نشر تقريره المشهور في يناير 1803، وأخيرا: تحذيرات القواد الإنجليز: «هتشنسون» و«كافان» و«ستيوارت» الذين اعتقدوا أن الفرنسيين وقد كانوا يمتلكون البلاد في عهد حملتهم على مصر، فإنهم لن يتخلوا عن الرغبة في العودة إليها، وبسط سلطانهم عليها مرة أخرى، وكان عندما وصل تقرير «سباستياني» عن استطالة الاحتلال البريطاني للإسكندرية أن بعث «هويتوورث» - الذي اتفق وصوله إلى مقر سفارته في باريس حوالي هذا التاريخ - إلى «هوكسبري» وزير الخارجية في نوفمبر 1802، يؤكد كأمر مفروغ منه أن القنصل الأول بموافقة القيصر وتواطؤ الأتراك قد قرر إرسال حملة فرنسية جديدة إلى مصر، ويوصي لذلك بإرسال أسطول إنجليزي قوي لمراقبة طولون، وحراسة الأدرياتيك، ويقول: إنه لإحباط مشروعات بونابرت العدوانية لا معدى عن تمسك الإنجليز بمالطة والإسكندرية، فعززا اتهام «هويتوورث» للقنصل الأول بالتآمر مع الروس، بل ومع الأتراك أنفسهم على غزو مصر شكوك الحكومة الإنجليزية، وكان من أقوى العوامل التي دعتها إلى خرق معاهدة «أميان» من جانبها، ثم إن هذه الحكومة لم يعوزها الدليل على اعتزام بونابرت امتلاك هذه البلاد ثانية، عندما نشر القنصل الأول تقرير «سباستياني» في آخر يناير 1803، واتخذت من نشر هذا التقرير ذريعة لإصرارها على عدم إخلاء مالطة، قبل أن يدلي القنصل الأول بتفسيرات مرضية تزيل ما يساورها من قلق من ناحية سياسته.
ومع أن «سباستياني» نفسه - وقد عاد من بعثته إلى باريس - راح يؤكد للسفير الإنجليزي «هويتوورث» أنه ما كان ينوي بتاتا - عند حديثه عن الجيش البريطاني في مصر - إهانة هذا الجيش في تقريره، وقد كانت هذه إحدى المآخذ التي أخذها الإنجليز على هذا التقرير، ومع أن «تاليران» وزير الخارجية الفرنسية راح بدوره ينفي للسفير وجود أية مشروعات عدوانية ضد مصر لدى القنصل الأول، ويؤكد أن الحالة المالية في فرنسا تجعل السلم ضروريا ولا غنى لها عنه، ويعزو ما قد يكون قد تضمنه التقرير من مسائل جرحت شعور البريطانيين إلى حماس ضابط شاب، فسر وجود القوات البريطانية بالإسكندرية بمثابة إعلان للحرب من جانب إنجلترة على فرنسا، ثم صار يسأل «هويتوورث» عن نوع الترضية التي يطلبها لتسوية هذه المسألة، ومع أن بونابرت نفسه قد دعا السفير لمقابلته في قصر «التويلري» للمباحثة معه في موضوع معاهدة «أميان»، وأعلن إليه أن مصر لا تستحق دخول فرنسا في حرب بسببها، وأنه لا يفكر في أية مشروعات عدوانية ضدها؛ لأنه يعتقد أن هذه البلاد سوف تكون من نصيب فرنسا إذا حدث انهيار الإمبراطورية العثمانية، ووزعت أملاكها بين الدول، وأنه يصر على إخلاء مالطة والإسكندرية لصون السلام، فقد ذهبت سدى جميع هذه المساعي في انتزاع مخاوف الإنجليز من ناحية مشروعات بونابرت في الشرق، وجعلتهم هذه المخاوف والشكوك يقررون البقاء في مالطة، وإن وافقوا على إخلاء الإسكندرية لردها إلى حليفهم الباب العالي، تنفيذا لوعودهم له، واستبقاء لمودته، حتى لا ينضم إلى أعدائهم عند استئناف الحرب بينهم وبين فرنسا، ولقد كانت تلك الموافقة على إخلاء الإسكندرية مبعث ندم في الدوائر الحكومية وغيرها في إنجلترة، ولما كان بونابرت قد تحدث في مقابلته مع «هويتوورث» عن انتقال مصر إلى حوزة فرنسا عند انهيار الإمبراطورية العثمانية، فقد تزايد إصرار الإنجليز على التمسك بمالطة كخطوة لا غنى عنها لدرء أي خطر فرنسي يتهدد مصر، ثم تبعا لذلك أملاكهم في الهند، وكان «بيت»
الذي اعتزل الوزارة منذ مارس 1801، من أكبر مؤيدي هذا الرأي، كما كان أعضاء الوزارة التي شكلها بعده «أدنجتون»
Addington
من هذا الرأي، الأمر الذي أفضى إلى إنهاء صلح «أميان»، واستئناف الحرب بين إنجلترة وفرنسا، وكان التمسك باحتلال مالطة إذن هو الضمان الذي لجأت إليه الحكومة الإنجليزية لمنع ذلك العدوان الذي توقعت حدوثه على مصر كجزء من مشروعات بونابرت في الشرق.
والخوف من مشروعات بونابرت في الشرق، ومن محاولته إنزال جيش فرنسي لاحتلال مصر، جعل «دراموند» والسير «ألكسندر بول» يضعان تلك المشروعات التي هدفت لتأسيس الحكم المملوكي في مصر تحت قيادة بريطانيا، ثم إنه كان منشأ كل ذلك النشاط الذي بذله الوكلاء الإنجليز، وعلى رأسهم «مسيت» لاستمالة البكوات إلى جانب إنجلترة وإحباط مساعي الوكلاء الفرنسيين لديهم، ثم مناصبة حكومة محمد علي العداء، وسيطر على ذهن «ألكسندر بول» - على وجه الخصوص - أن الفرنسيين سوف يحاولون الاستيلاء على الإسكندرية بمساعدة البكوات ومحالفتهم لهم، وتدعمت هذه الفكرة لديه بفضل ما صار يرسله إليه «تابرنا» من أخبار عن نشاط الوكلاء الفرنسيين مع البكوات، واعتقاد هؤلاء الأخيرين أن الإنجليز قد تخلوا عنهم، بينما توقع «تابرنا» أن يعمد محمد علي والأرنئود إلى الاستفادة من هذه الفوضى، فيحدثون انقلابا يستولون بفضله على البلاد، وتلك ثورة تنتفع منها فرنسا؛ لأن الأرنئود أصدقاؤها، وقال «تابرنا» وهو يتحدث إلى «ألكسندر بول» - في تقريره له في 28 فبراير 1804 - عن الأعداء الخارجيين أي الفرنسيين: «إنه إذا شاء سوء الحظ أن يفلت هؤلاء من رقابة الأسطول الإنجليزي، فإنهم لن يلقوا أية مقاومة في مصر.» ثم عزز هذه الأقوال عند «ألكسندر بول» وكيل آخر في مصر لم يذكر اسمه في تقريره الذي بعث به إليه من القاهرة في 13 ديسمبر 1804، قال: إن مصر في حاجة شديدة إلى سيد جديد، وأن أول القادمين سوف يلقى ترحيبا كهذا السيد المنشود، وأن الأحزاب المناضلة فيما بينها سوف تلتف حول العلم الأجنبي، ويتوق الفلاحون للحماية الأجنبية تبسط عليهم لتمنع عسف الحكام بهم، وإن قوة أجنبية صغيرة سوف تكفي للاستيلاء على مصر وعلى حكومتها، ثم إن هذا الوكيل لم يلبث أن اختتم رسالته بتأكيد أن أهل البلاد يفضلون كثيرا الإنجليز على الفرنسيين.
ولا جدال في أن مثل هذه المعلومات التي تلقاها «بول» قد أظهرت خطر الغزو الفرنسي المتوقع كحقيقة ماثلة، وزادت من مخاوفه من هذا الخطر.
وكان «نلسن» الذي أوفد مرة ثانية إلى البحر الأبيض رئيسا للقوات البحرية الإنجليزية به عند استئناف القتال بين إنجلترة وفرنسا، من الذين أفزعهم كذلك خطر الغزو الفرنسي المنتظر لمصر، وحرصت الأميرالية وهي تصدر تعليماتها إليه على لفت نظره إلى ضرورة مراقبة حركات الفرنسيين في إيطاليا بانتباه عظيم، حتى لا يفلت من مراقبته - كما حدث في 1798 - خروج قواتهم لمهاجمة مصر، أو لأي جزء آخر من الأملاك العثمانية، ولكن «نلسن » لم يكن في حاجة إلى هذا التنبيه؛ لأن حوادث 1798 كانت لا تزال آثارها عالقة بذهنه، ولأنه اعتقد اعتقادا راسخا بأن الفرنسيين يدبرون إرسال حملة إلى الشرق، إما ضد المورة، وإما ضد مصر، ومنذ شهر يونيو 1803 سأل «دراموند» بالقسطنطينية رأيه في أي المشروعين سوف يبدأ الفرنسيون بتنفيذه متفقا مع إنشاء المورة جمهورية يونانية؛ لأن الهجوم على المورة ليس في رأي «نلسن» نفسه سوى مجرد وسيلة لتمكين فرنسا من الاقتراب من مصر، ثم كتب إلى «أدنجتون» في 28 يونيو: «إنه إذا فتح الفرنسيون أو أصدقاؤهم المورة، فسوف تكون مصر الثمن الذي في مقابله يعيدون المورة، إن لم يتمكنوا من الاحتفاظ بكليهما، بفضل محالفة ينشئونها مع المماليك.» وظل «نلسن» يردد هذه المخاوف في الشهور التالية، ويعزو إلى بونابرت مشروعات عدوانية على المورة سواء بتحريض أهلها على الثورة ضد الباب العالي، أو بالاتحاد في العمل مع روسيا لتحقيق مآربه، وتوقع «نلسن» أن تشترك فرنسا وروسيا في تقويض عروش الإمبراطورية العثمانية في أوروبا، حتى إذا تم لهما ما يريدان صارت كريت ومصر - بكل تأكيد - من نصيب فرنسا، وعندئذ تعرضت الهند لخطر الضياع وفقدتها بريطانيا، وفي وسع بونابرت على كل حال إذا امتنعت روسيا عن المضالعة معه في مشروعاته خلق المشكلات والمتاعب لتركيا بتحريض اليونانيين ضدها، أو تأييد علي باشا والي «يانينا» في عصيانه عليها، وعندئذ يتدخل بونابرت، إما لإخماد هذه الثورات أو لتأييدها، طالما أن مصر هي التعويض الذي يناله في الحالين مقابل هذا التدخل، واعتقد «نلسن» أن فرنسا إنما تحشد جيوشها في إيطاليا لإرسالها إلى المورة، ثم من هناك إلى مصر، أو لتحصل على الأخيرة في نظير تخليها عن الأولى؛ حيث إن الاستيلاء على مصر هو غرض بونابرت دائما، «ومن يعش يره»، كما قال «نلسن».
وقد شارك نسلن - بطبيعة الحال - السير «ألكسندر بول» في اعتقاده بأن بونابرت يعتزم إرسال حملة إلى الإسكندرية، وكتب إليه في 6 أكتوبر 1803: «إن الحالة في مصر لتدعو إلى الحزن والأسى، ولا أشك بتاتا في أن الفرنسيين قد أبرموا معاهدة مع المماليك ، أو أنهم قد عقدوا معاهدة حتى مع الأتراك، ولم أكتف بالكتابة إلى «أدنجتون»، بل بذلت جهدي حتى أغرس في ذهنه ضرورة الحيلولة دون ارتماء المماليك والأتراك في أحضان فرنسا.»
وهكذا ظل «نلسن» يفكر في أمر مصر أثناء قيامه بمراقبة عمليات الفرنسيين في إيطاليا، وسد الطريق على أسطول الأميرال الفرنسي «لاتوش تريفيل»
La Tounche-Treville
في ميناء طولون، وفي نوفمبر 1803 كتب إلى «دراموند» بالقسطنطينية يطلب منه تحذير السلطات العثمانية؛ لأنه من المحتمل أن يحدث بالرغم من يقظته هو وعنايته أن يفلت من مراقبته الأسطول الفرنسي، ويستطيع الوصول إلى مصر أو المورة، قبل أن يتمكن «نلسن» من مقابلته والالتحام معه، وفي 11 فبراير 1804 كتب إلى القبطان باشا يحذره من أنه سوف يجد نفسه؛ أي القبطان باشا قريبا مرغما على قتال الفرنسيين؛ لأن بونابرت الخائن الغادر سوف يعتدي لا محالة - إذا استطاع - على ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وكتب في الوقت نفسه إلى الصدر الأعظم: «إذا جمع الفرنسيون قواتهم البحرية بالمحيط بتلك الموجودة في طولون، فإن السلم القائم بين الباب العالي وبونابرت لن يجدي نفعا في منع الأخير من غزو المورة ومصر، ولا شك أن الصدر الأعظم وقد عرف الفرنسيين جيد المعرفة لا ينخدع بأقوالهم، فلسان بونابرت كلسان الأفعى الملساء الناعمة، ولن أدع شيئا لا أفعله لإحباط مشروعات هذا البلاء الذي نزل بالبشرية.» وحز في نفس «نلسن» أن حكومته على ما ظهر له لا تميل إلى الأخذ بنصائح «ألكسندر بول» لوضع حامية بريطانية أو أخرى تحت إشراف ضباط بريطانيين بالإسكندرية، وصار يرجو أن إذاعة مشروع «لبنتز»
Leibnitz
الذي اقترح فيه هذا العالم والفيلسوف الألماني على لويس الرابع عشر توجيه جيوشه صوب مصر، والذي عثر عليه عند احتلال الفرنسيين لهانوفر في مكتبتها في عام 1803 سوف يفتح أعين أوروبا، ولو أن هناك أناسا لا تزال أعينهم معصبة ولا يجسرون على فك الأربطة عنها، وفي 30 يونيو 1804 كتب إلى «هوبارت» أن باشا طرابلس قد وافق عند الضرورة وفي حالة ذهاب الفرنسيين إلى مصر (أي غزوهم لها) أن يحتل الإنجليز درنة، وهذه موقع هام جدا لمنع الفرنسيين من أن تكون لهم خطوط مواصلات مع مصر، وعندما استولى الفرنسيون على السفن اليونانية في ميناء ليفورنة بإيطاليا، قال «نلسن» إن غرضهم من ذلك استخدام هذه السفن؛ لنقل جنودهم إلى المورة وإلى مصر، ثم إنه اعتقد أن قسما من أسطول «غانتوم»
Ganteaume
في برست سوف يقصد إلى البحر الأبيض، حيث كان للفرنسيين بهذا البحر أطماع محققة، كما قطع بذلك «ألكسندر بول» نفسه في مراسلاته مع «نسلن»، وقد كتب هذا الأخير إلى «بول» في 3 أغسطس 1804، أن نابليون يبغي الاستيلاء على الجزائر، وأن الفرنسيين سوف يملكونها بعد انقضاء عام واحد بعد عقد الصلح، وأما فيما يتعلق بمصر، فهو (أي «نلسن») يوافق «بول» على آرائه بصددها، ولم يكن «بول» هو وحده الذي يساوره القلق من ناحية مصير هذه البلاد، بل اعتقد «هالويل» كذلك أن الفرنسيين يريدون الاستحواذ على مصر، وكان «هالويل» من الذين اشتركوا في معركة أبي قير البحرية، ويدين بولاء عظيم لنلسن.
وعندما غادر أسطول الأميرال «لاتوش تريفيل» طولون أخيرا في 17 يناير 1805، حار «نلسن» في أمره: هل يقصد هذا الأسطول إلى «كاجلياري» على شاطئ «سردينيا» الجنوبي؟ أو يقصد المورة؟ أو مصر؟ ثم لم يلبث أن رجح أن تكون مصر هي مقصده، فقصد «نلسن» بدوره إلى المورة، وبلغته إشاعات كاذبة عن قطع العلاقات بين فرنسا والباب العالي، اعتقد بسببها أن بونابرت بسبيل الاعتداء على ممتلكات الباب العالي، وحيث إن الأسطول الفرنسي لم يظهر في مياه المورة، فقد رجح «نلسن» ذهابه إلى مصر، فواصل هو رحلته مارا بكريت إلى الشاطئ المصري، واقترب من الإسكندرية 4 فبراير 1805، وكتب في اليوم نفسه إلى «صمويل بريجز» القنصل البريطاني بالإسكندرية: «إذا حضر الفرنسيون إلى هذا المكان قبلي، فلن يصلك بطبيعة الحال كتابي هذا إليك، وأما إذا لم يحضروا فمعنى هذا أن أسطولهم قد بعثرته الأنواء، ورداءة الجو التي تعرضوا لها منذ مغادرتهم طولون، وقد كتب إلى حاكم الإسكندرية حتى يحترس من زيارة هؤلاء السادة لمدينته؛ لأنه حيث مضى أسبوع الآن دون أن يصل هؤلاء إلى سردينيا أو نابولي أو صقلية، فاعتقادي أنهم في طريقهم إما إلى مصر وإما إلى المورة ... وحيث إن حاكم الإسكندرية قد أبلغ وحذر، فأملي أن يتخذ كل ما يمكنه من وسائل للدفاع عنها، خصوصا إعداد سفن لإغراقها كي يمنع دخول الأسطول الفرنسي في الميناء القديم، وحتى يمكن تنظيف الممر إلى الميناء، أكون قد أعطيت الوقت الكافي بفضل ذلك لإيقاع العدو في الفخ مرة ثانية.» وطلب «نلسن» من بريجز أن يبعث برسالته هذه إلى «مسيت»، وأن يرسل هو؛ أي بريجز إلى أمير البحر الإنجليزي كل ما لديه من معلومات نافعة.
وهكذا كانت الفكرة المسيطرة على ذهن «نلسن» أن الفرنسيين ينوون لا محالة غزو مصر، ومع أنه وصل أمام الإسكندرية في 7 فبراير 1805، ولم يجد أثرا لأسطول فرنسي في مياهها، وزوده «بريجز» بالمعلومات التي يريدها عن الحالة في هذه البلاد، واضطر إلى استئناف مطاردته لأسطول «لاتوش تريفيل» في أماكن أخرى، فقد ظل متشبثا بفكرته وأكد للسير «ألكسندر بول» أن المعلومات التي تلقاها من «بريجز» عن الحالة في مصر - أيام حكومة خورشيد - قد زادته اقتناعا بأن مصر هي المكان الذي تقصده تلك العمارة المسلحة التي خرجت من ثغر طولون في يناير.
يؤيد ذلك ما حصل عليه «نلسن» من معلومات من «بريجز» - بسطها بدوره إلى «بول» في كتابه إليه في 11 فبراير 1805 - وهذه تبين ضعف البلاد بسبب الفوضى السياسية المنتشرة بها، مما يجعلها فريسة سهلة للفرنسيين، بينما لم يكن بالإسكندرية ذاتها سوى ثلاث فرقاطات عثمانية، وحوالي ثلاثمائة جندي في حال سيئة؛ أي انعدام وسائل الدفاع عنها، حتى إنه ليكفي في رأي «نلسن» أن يستولي عليها ستمائة جندي دون أية صعوبة، وقد أبلغ القنصل البريطاني الكابتن «هالويل» أن حاكم الإسكندرية عندما ظهر الأسطول الإنجليزي ظنه عمارة فرنسية، فاستولى عليه اليأس تماما، والسبب في ذلك أن شيئا لم يصنع لتقوية تحصينات المدينة، بل بقيت هذه على ما كانت عليه عندما غادر الإنجليز الإسكندرية في 1803، ومن المنتظر إذا استولى الفرنسيون عليها أن يعمد هؤلاء إلى تحصينها بصورة تجعلها ممتنعة على كل غاز لها ، أضف إلى هذا أن الأتراك والمماليك في حرب مستمرة في الصعيد، وقد انحاز الأرنئود في هذا النضال ضد المماليك إلى جانب الأتراك، ومن المتوقع - كما اعتقد نلسن - إذا نزل الفرنسيون في البلاد أن ينضم الأرنئود أو على الأقل قسم كبير منهم إليهم، لا سيما وقد وعدهم «ماثيو لسبس» إذا رغبوا في حضور خمسة آلاف جندي فرنسي لمساعدتهم أن تبادر فرنسا بإرسالهم إليهم، ولن يكون هناك جيش تركي لصد العدو، وسوف تقع القاهرة بسهولة في قبضة الفرنسيين كما يحدث للإسكندرية، وفي استطاعة هؤلاء عند انضمام قسم من الأرنئود إليهم أن ينشئوا جيشا في مصر من ثلاثة عشر ألف مقاتل، بل وفي وسعهم إرسال سفن صغيرة محملة بالجنود من إيطاليا، تستطيع الإفلات من مراقبة الأسطول الإنجليزي، وبهذه الطريقة ينقلون إلى مصر عشرين ألف رجل يرحب بهم أهلها، ويتعذر بعد ذلك طردهم منها، ثم اختتم «نلسن» رسالته هذه بقوله: «وعندما نأخذ بعين الاعتبار ما لمصر من أهمية في نظر فرنسا، والضرر الذي سوف تلحقه هذه بنا باستيلائها على مصر، لا يبقى هناك لدي أدنى شك في أن مقصد الأسطول الذي غادر طولون في 17 يناير والشاطئ الفرنسي في 18 يناير، إنما هو الذهاب إلى الإسكندرية ... وبناء على ما لدي من معلومات، لا أشك بتاتا في أن مصر هي الهدف الأساسي الذي يقصده أسطول طولون.»
واستمرت هذه الفكرة ذاتها مسيطرة على ذهن «نلسن» طوال الشهور التالية، فيقول «فورتسيكو»
Fortescue - صاحب تاريخ الجيش البريطاني: «إن «نلسن» في عام 1806 ظل يعتقد بأن نابليون يريد احتلال مصر، ويرغب هو بسبب الغيرة فحسب أن يسبقه إلى ذلك.» وكان من أثر أقوال «نلسن»، و«ألكسندر بول» ذيوع هذه الفكرة عن توقع حدوث غزو فرنسي على مصر في الدوائر الإنجليزية المسئولة، ثم إنه كان من أسباب رسوخها ما صار يبعث به وكيلها في مصر الميجور «مسيت» من تقارير يؤيد ما ذهب إليه «نلسن»، وقد شاهدنا كيف أن «مسيت» استمر يصف في رسائله إلى حكومته منذ 1803 إلى أوائل 1807؛ أي قبل مجيء حملة «فريزر» الفوضى السائدة في مصر، والانقسامات التي أضعفت البكوات، وجعلتهم يعجزون عن دفع الغزو الأجنبي، ونشاط الوكلاء الفرنسيين ومساعيهم لدى هؤلاء البكوات ولدى الأرنئود ومحمد علي، كما أوضحنا كيف أنه صار يدعو لتدخل البريطانيين المسلح لمنع الفرنسيين من النزول في هذه البلاد، وصار يعتمد على هؤلاء البكوات أنفسهم في مؤازرة عمليات الإنجليز العسكرية، بالرغم من انقساماتهم وتفرقهم شيعا وأحزابا، ينحاز بعضها إلى الإنجليز والبعض الآخر إلى الفرنسيين، ويطاردهم محمد علي، فالميجور «مسيت» هو الذي ظل لا يرى أثناء هذه السنوات الأربع (1803-1807) في أي تغيير يحدث في ميدان هذه الفوضى الضاربة أطنابها في مصر سوى مبرر لأن يطلب من حكومته إما إرسال جند بريطانيين، أو فرقاطة للتجول في مياه الإسكندرية وعلى طول الساحل المصري إنقاذا للموقف، ولاحتلال الإسكندرية تمهيدا لاحتلال البلاد بأسرها، ولقد ترتب على أقوال «مسيت» وتأكيداته أن ساد اعتقاد المسئولين في لندن أن مصر - وقد عجز أصحاب السيادة عليها وهم العثمانيون عن دعم سلطانهم بها، وأنهكت النزاعات الداخلية قوى الطوائف المتنافسة على السلطة والحكم - فقد صارت فريسة سهلة للطامعين فيها، وهم الفرنسيون الذين أصبح من المنتظر انقضاضهم على البلاد في أي وقت، حتى إنه صار لزاما على إنجلترة أن تتأهب بين لحظة وأخرى لدفع هذا العدوان.
ثم تزايد فزع الإنجليز من الغزو الفرنسي، كما رسخ اعتقادهم بقرب وقوعه عندما حدث التفاهم بين نابليون والسلطان العثماني سليم الثالث في غضون عام 1806، وهو التفاهم الذي أوضحنا أسبابه وظروفه في فصول سابقة، وتوهم الإنجليز أن مصر هي ثمن هذا التفاهم الفرنسي العثماني، فيتمكن الفرنسيون الآن من تحقيق ما امتنع عليهم فعله في عام 1798؛ أي احتلال هذه البلاد بموافقة الباب العالي، وهكذا اتفقت أساليب الإنجليز في الحالين: التصميم على التدخل بالقوة المسلحة؛ لمنع نزول الفرنسيين في مصر، ثم طردهم منها عندما كان هؤلاء في عداء مع تركيا، وتقرير التدخل بالقوة المسلحة لدفع الغزو الفرنسي المتوقع، عندما كان الفرنسيون - الآن - أصدقاء للباب العالي.
وصح عزم الحكومة الإنجليزية على استخدام الضغط، ووسائل التخويف مع الباب العالي لحمله على فصم عرى التحالف مع تركيا، ثم التدخل تدخلا مسلحا لمنع نزول الفرنسيين في مصر، فصدرت التعليمات - إلى الأميرال «كولنجوود» وهي التعليمات التي أسفرت عن إرسال «داكويرث» إلى مياه القسطنطينية، ثم إقلاع حملة «فريزر» إلى الإسكندرية . (2) الغرض من إرسال حملة «فريزر»
ولم يكن قطعا الغرض من إرسال حملة «فريزر» فتح مصر وامتلاكها، ولكن احتلال الإسكندرية فحسب؛ لمنع نزول الفرنسيين في البلاد، ثم لتأييد الأحزاب الموالية للإنجليز في مصر، ولما لم يكن إذن الغرض من إرسال هذه الحملة فتح مصر واحتلالها، فقد اعتمد الإنجليز على احتلالهم للإسكندرية كخير وسيلة تمكنهم من دعم سلطان البكوات من أصدقائهم برئاسة الألفي، وتمهد لهم تعزيز نفوذهم في هذه البلاد، عن طريق هؤلاء وعلى أنقاض النفوذ الفرنسي، وتتضح هذه الحقائق من نص وروح التعليمات التي صدرت إلى الجنرال «فوكس»، وهي تعليمات اعتبرت سرية جدا، فقد جاء في هذه ما معناه: إن بعض التصرفات التي صدرت عن الباب العالي أخيرا، جعلت ضروريا ولا ندحة عنه اتخاذ إجراءات سريعة وفاصلة مع الحكومة العثمانية؛ ولذلك فقد كلفت بإبلاغكم أن تعليمات قد صدرت إلى اللورد «كولنجوود» نائب أمير البحر لإرسال قسم من الأسطول للإبحار، دون إضاعة لحظة واحدة إلى مضايق القسطنطينية، حتى يتخذ موضعا يتيح لأسطوله القيام بعمل عدواني ضد القسطنطينية في حالة عدم نجاح مساعي السفير «أربثنوت» لدى الباب العالي، ولقد كلفت كذلك بإبلاغكم أن تعليمات قد أرسلت إلى اللورد «كولنجوود» بتوجه الضابط المتولي قيادة هذا القسم من الأسطول في حالة بدء العمليات الحربية أن يرسل فورا إحدى سفنه لإبلاغكم ذلك، ومن واجبي تعريفكم أن رغبة حكومة جلالة الملك أن تبادروا حتى قبل أن تأتيكم هذه الإفادة من جانب «كولنجوود» باتخاذ كل الترتيبات، وإتمام كل الاستعدادات اللازمة لنقل جيش من خمسة آلاف جندي إلى مصر، وأنه بمجرد وصول إفادة «كولنجوود» إليكم تصدرون الأوامر اللازمة لوضع هذا الإجراء؛ أي إرسال الجيش إلى مصر موضع التنفيذ.
وليس غرض حكومة جلالة الملك من تقرير هذا الإجراء فتح مصر، وإنما الاستيلاء على الإسكندرية فحسب؛ لمنع الفرنسيين من وضع أقدامهم مرة أخرى في هذه البلاد؛ ولتمكين قوات جلالته الموجودة بالإسكندرية من إعطاء تأييدهم وحمايتهم لما قد يوجد من أحزاب في هذه البلاد قد تكون ذات رغبة صادقة في أن تكون لها علاقات ودية في كل الأوقات مع بريطانيا العظمى؛ ولذلك فإنه لا مناص عند اختيار قائد لهذه الحملة من بذل كل عناية ليس للتحقق من أنه صاحب مواهب عسكرية فحسب، بل وللتحقق كذلك من تمتعه بكل تلك المزايا التي تؤهله للقيام على خير وجه بما يعهد إليه من مهام مدنية وسياسية على جانب عظيم من الأهمية، الأمر الذي تستلزمه حتما طبيعة الخدمة أو المهمة المكلف بها.
فقد لا يكون هناك معدى عن تدخله في الخلافات الداخلية التي تشغل مصر، وتثير فيها الفتن والاضطرابات، أو تدخله في النزاع الدائر حول الاستئثار بالسلطة بين البكوات، جريا على عادة هؤلاء، ومن الصعب في هذا الوقت، وبسبب بعد المسافة، تحديد المسلك الملائم على وجه الدقة، والذي عليه أن يتبعه في تدخله، إلا أنه عند معالجة مثل هذه المسائل؛ أي المدنية والسياسية من الحكمة والصواب أن يتصل هذا القائد بالميجور «مسيت» وأن يصغي بانتباه لما يبديه هذا الضابط من آراء، يبدو بفضل ما لديه من معلومات محلية وخبرة أو معرفة بالحوادث المحلية أن لها قيمتها.
وأما هذه التعليمات التي كان طابعها في رأي بعض المؤرخين الإنجليز الطيش أو قلة التفكير، والتي هدفت - كما أوضحنا - إلى احتلال أهم المواقع البحرية في مصر؛ أي الإسكندرية - إلى جانب بسط النفوذ الإنجليزي في سائر البلاد، عن طريق البكوات من جماعة الألفي أصدقاء الإنجليز، فقد أوجز معناها «فورتسكيو» في قوله: «لقد أرسلناك (أي الجنرال «فريزر») مع خمسة آلاف مقاتل إلى مصر، حيث يكون عليك هناك الاستيلاء على الإسكندرية فقط، وليس لك أن تحتل البلاد (مصر) بل تعمل لإحراز التفوق للنفوذ الإنجليزي بها، وأما كيف يتسنى لك فعل ذلك؟ فليس لدينا (أي الحكومة الإنجليزية) أية فكرة، ولكن تقريرنا عند إرسال الخمسة آلاف مقاتل، إنما هو عدم المجازفة بشيء في سبيل الظفر بمأربنا.»
ومع أن الظرف لم يكن ملائما لإرسال هذه الحملة، بسبب ما كان يجري من حوادث في أوروبا ذات تأثير على تطور الموقف في البحر الأبيض، وتعريض مواقع الإنجليز في هذا البحر للخطر، من جانب جيوش نابليون المنتصرة في القارة الأوروبية، والرابضة في شبه الجزيرة الإيطالية، ومع أن الاستعدادات لهذه الحملة كانت غير كافية، وقواتها ضئيلة لتحقيق الغرض منها، وهو الاستيلاء على الإسكندرية ثم البقاء بها بعد احتلالها، فقد كان العامل الحاسم في إرسالها تصحيح الخطأ الذي وقع فيه الإنجليز عندما أخلوا الإسكندرية في مارس 1803، وذهبت هذه التضحية من جانبهم سدى، ثم استئناف ذلك النشاط السياسي الذي نال منه كثيرا أو عطله إخلاؤهم لها، وذلك بالعمل من أجل تأسيس حكومة مملوكية في مصر تستطيع - في اعتقاد الإنجليز - الدفاع عن البلاد، ورد أي غزو فرنسي يقع عليها، ثم الخضوع لإرشادات الإنجليز أنفسهم وتعزيز نفوذهم بها؛ أي تحقيق ذلك الغرض الذي ظل القواد الإنجليز خصوصا يسعون للظفر به دون طائل منذ خروج الفرنسيين من مصر في عام 1801 إلى وقت جلائهم عنها في عام 1803.
وكانت هذه - ولا شك - مهمة جسيمة، كما كان ازدواج الهدف: احتلال الإسكندرية، ومحاولة بسط النفوذ الإنجليزي في البلاد عن طريق البكوات المماليك، من العوامل الحاسمة في فشل هذه الحملة عسكريا وسياسيا، وثمة عامل حاسم آخر في فشلها، ذلك أنها إنما جاءت كجزء من مشروع مرتبط بتدابير روسيا وحليفتها إنجلترة من الناحيتين السياسية والعسكرية في نضالهما ضد نابليون، فكانت لحمة هذا المشروع وسداه محاولة إزعاج تركيا وإقناعها بقطع علاقاتها مع فرنسا، الأمر الذي جعل مصير حملة «فريزر» مرهونا من مبدأ الأمر بتطور الموقف في أوروبا.
وقد عين لقيادة هذه الحملة الميجور جنرال «ماكنزي فريزر»، يليه في القيادة الميجور جنرال «ووكوب»
Wauchope
ثم القائدان: «ميد»
Meade
و«ستيوارت»
Stewart
بينما عهد بالقيادة البحرية إلى الكابتن «بنيامين هالويل» ومجموع قواتها حوالي 5100 رجل، ولما كان السفير الروسي «ديتالنسكي» قد غادر القسطنطينية في الظروف التي سبق ذكرها، ووصل إلى مالطة، وتأيد إعلان الحرب بين تركيا وروسيا منذ 22 ديسمبر 1806، وعلم الجنرال «فوكس» بخروج «أربثنوت» السفير الإنجليزي من القسطنطينية في طريقه إلى جزيرة «تينيدوس»، فقد أصدر «فوكس» أوامره بإبحار الحملة في 18 فبراير، وأقلعت من «مسينا» في 6 مارس 1807. (3) تسليم الإسكندرية
ومنذ شهر يناير 1807 صار من المقطوع به في مصر أن البريطانيين يعتزمون إرسال حملة إلى مصر، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» من الإسكندرية في 22 يناير، أنه علم بوصول فرمانين إلى محمد علي، أحدهما يطلب فيه الباب العالي أن يكون موقفه من الأمة الفرنسية ووكلائها ومسلكه مع هؤلاء خصوصا بشكل لا يجعلهم يرسلون أية شكاوى بتاتا إلى سفيرهم بالقسطنطينية، والآخر يأمره بأن يحصن كل موقع معرض للغزو حتى يتسنى الدفاع عن البلاد، وقد جزم «مسيت» بأن الباب العالي قد طلب من محمد علي في هذا الفرمان الثاني أن يقاوم الإنجليز بكل ما لديه من قوة وجهد، إذا حاول هؤلاء النزول في مصر دون أن يكون لديهم خط شريف من السلطان العثماني يأذن لهم بذلك، ثم يستطرد «مسيت» فيقول: وينهض دليلا ساطعا على أن الباب العالي كان يخشى في وقت غير بعيد من وقوع الغزو على مصر، كل تلك الخطوات التي يتخذها الباشا في القاهرة، والأوامر التي أصدرها لحاكم رشيد لإصلاح القلعة التي مهمتها الدفاع عن مدخل فرع النيل الغربي (قلعة جوليان) وإمدادها بحاجتها من المؤن والذخائر، زد على ذلك ما يجري من استعدادات في الإسكندرية، وفي 4 فبراير وصل من أزمير مركب عثماني تحمل خبر إعلان الحرب بين روسيا وتركيا، وفي اليوم التالي وضعت ثمان قطع من المدافع الصغيرة عند رأس التين، وصدرت الأوامر بعدم خروج الأدلاء أو المرشدين من الميناء لمقابلة السفن في عرض البحر، كما تلقى أصحاب السفن أمرا بعدم نقل القناصل أو مأموري القنصليات والتراجمة، ثم جمع بعد ظهر اليوم نفسه رؤساء الأهالي في الجوامع وأبلغوا أن روسيا قد أعلنت الحرب على تركيا، ودعوا إلى تسليح أنفسهم للدفاع عن البلاد، ووعد أمين أغا بإعطائهم الأسلحة والذخائر، كما سأل أحد شيوخ العربان إمداده بأربعمائة من الرجال؛ للدفاع عن الإسكندرية.
وفي 20 فبراير علم «مسيت» من «أربثنوت» نفسه أن السفير الإنجليزي قد غادر القسطنطينية، وفي اليوم التالي كتب إلى «وندهام» أن باشا مصر محمد علي قد وصلته أوامر قاطعة من الباب العالي بالامتناع عن محاربة المماليك، وتطلب منه إرجاع أملاكهم الخاصة إليهم، والاتحاد معهم؛ لمقاومة نزول أي جند أجانب في هذه المقاطعة، ثم إن الباب العالي قد دعا البكوات في الوقت نفسه إلى قبول الشروط التي كلف الباشا بعرضها عليهم، وأن يضموا قواتهم إليه ليعينوه على صد هجوم أعداء السلطان الكثيرين على هذه البلاد، وكان من رأي «مسيت» أن البكوات لن يجيبوا هذه الرغبة؛ حيث إنهم يبغون امتلاك مصر دون منازع، وكما كان الحال سابقا، ومع ذلك، فإنه حتى يحول دون تخاذل البكوات وقبول فريق منهم لعروض الباشا عليهم، فقد أوفد إليهم رسولا ينقل إليهم خبر قطع العلاقات بين إنجلترة وتركيا، ويطمئنهم إلى انتظار أيام أسعد في المستقبل؛ حيث إن هذا الحادث لن يترتب عليه إلا كل ما فيه النفع والفائدة لهم، واعتقد «مسيت» أن من الميسور دائما تحطيم أية معاهدة قد يعقدها البكوات مع محمد علي إذا غزا الإنجليز هذه البلاد، وأغرى البكوات بنبذها نظير تمكينهم من أخذ القاهرة، ثم اختتم «مسيت» رسالته بما يدل على مبلغ نجاحه في استمالة أمين أغا ومشايخ الإسكندرية إلى قبول فكرة الغزو البريطاني لمدينتهم، فقال: «ولما كانت هذه الحكومة لم يبلغ إليها رسميا قيام الحرب مع بريطانيا، ففي وسعي الإبحار إلى مالطة دون أن ألقى عراقيل تمنعني من ذلك، ولكن حاكم الإسكندرية أمين أغا، وكبار العلماء بها، قد أكدوا لي تأكيدا قويا أنه لن يتعرض لي أحد بشيء مهما كانت الظروف والأحوال؛ ولذلك فقد قررت البقاء في مصر حيث لا يزال بقائي بها نافعا؛ لتقوية الميول الودية التي لدى جملة قبائل من العرب نحونا الآن؛ لأن خدمات هؤلاء قد يفيد منها جيش بريطاني يحضر إلى مصر فائدة جوهرية في عملياته العسكرية.» وفي اليوم نفسه (21 فبراير) كتب «مسيت» إلى «فوكس» يوضح له موقف البكوات المنتظر، بما لا يخرج عما ذكره لأربثنوت ويستحثه على تنفيذ ما لديه من تعليمات - إذا كان قد طلب إليه إرسال حملة إلى مصر - دون أي إمهال؛ حيث إن السرعة والعمل النشيط من شأنهما إنجاز فتح البلاد دون إراقة أي دماء؛ لأن حامية الإسكندرية لا تبلغ ثلاثمائة رجل، ولأن الأهلين يرغبون من زمن طويل في أن يحتل الجنود البريطانيون بلادهم، وهم لن يقاوموهم إذا حضروا.
وقد وصلت إلى الإسكندرية في 20 فبراير سفينة إنجليزية قيل إنها غادرت القسطنطينية في 6 فبراير وعلى ظهرها جماعة غادرت العاصمة العثمانية وقت مغادرة السفير الإنجليزي لها، وقال «دروفتي» الذي نقل هذا الخبر إلى «سباستياني» في 2 مارس: إن الإنجليز يذكرون أن حملة سوف تحضر إلى مصر، ويشيعون أن لدى حكومتهم أغراضا معينة بالنسبة لمصر، وأنها تتوقع أن تلقى معاونة من جانب البكوات، ثم من جانب الأهلين، في نظير تخليصهم من مظالم وطغيان الأرنئود، ولأن الحملة البريطانية عند حضورها سوف تضعهم تحت حكم إمارة أوروبية، الأمر الذي يرجوه الأهالي من مدة طويلة، وأما هذه السفينة فقد أنزلت في الإسكندرية قنصل سالونيك، ورجال السفارة البريطانية في القسطنطينية، وصار «مسيت» و«صمويل بريجز» يتوقعان - حتما - وصول حملة إنجليزية إلى الشواطئ المصرية.
وفي 13 مارس وصلت السفينة الحربية «ويزارد»
Wizard
إلى الإسكندرية، تحمل أخبار قرب وصول الحملة الإنجليزية، وفي اليوم التالي كتب «مسيت» إلى الجنرال «فريزر» أنه قد تلقى رسالته المؤرخة في 5 مارس، والتي يطلب القائد فيها منه مقابلته هو والكابتن «هالويل» قبل عملية إنزال الجنود إلى البر، ثم اعتذر من عدم قدرته على تلبية هذه الرغبة؛ لضعف صحته، ثم لاعتبارات هامة تلزمه بالبقاء في الإسكندرية، أوضحها «مسيت» في قوله: «إن الوكلاء الفرنسيين قد صاروا يبذلون قصارى جهدهم، منذ أن عرف في هذه البلاد خبر مغادرة السفير البريطاني للقسطنطينية؛ ليقنعوا حاكم الإسكندرية وأهلها بقبول دخول قوة من الأرنئود إلى المدينة؛ لتقوية الحامية، ولكنه لما كان لم تبلغ هذه الحكومة (بالإسكندرية) أية أنباء رسمية عن قطع العلاقات بين بريطانيا العظمى والباب العالي ، فقد تمكنت من إحباط هذا المشروع، بأن أوضحت للحاكم (أمين أغا) أنه إنما يلغي كل سلطاته تماما إذا هو سمح للأرنئود بالدخول إلى المدينة، ولقد كان كافيا لجعل الأهلين يأخذون برأيي في عدم السماح بدخول الأرنئود أن أذكر ما أنزله هؤلاء من كوارث على أهل كل مكان ذهبوا إليه، فإذا غادرت الإسكندرية لم يعد هناك شك في وقوع الحرب لا محالة، وعندئذ سوف يستعيد الوكلاء الفرنسيون ذلك النفوذ الذي فقدوه مع أمين أغا بفضل ما أثاروه في نفسه من اشمئزاز وكره لهم، بسبب صلفهم وعجرفتهم، ويتدفق الجند من كل مكان على الإسكندرية، وحامية هذه المدينة في الوقت الحاضر على درجة كبيرة من الضعف، ثم إن السكان يميلون إلى الإنجليز بدرجة طيبة، مما يجعلني عظيم الرجاء في أن يستولى الجنود الذين تحت قيادتكم على المدينة والحصون دون إطلاق رصاصة واحدة.»
ثم استطرد «مسيت» يوضح الخطوات التي سوف يقوم بها عند ظهور الأسطول، ويدلي بآرائه فيما يجب على الجنرال «فريزر» اتخاذه من ترتيبات لإنزال جند الحملة ومباشرة العمليات العسكرية، فقال: «وسوف أذهب لمقابلة الحاكم بمجرد ظهور الأسطول، وأبذل كل جهدي لإقناعه بأن يبعث إليكم بمن يتفاوض معكم، فإذا فشلت في مسعاي هذا فسوف أرجوه أن يأذن بانسحابي مع البعثة (القنصلية)، وأرجو ألا يمانع في ذلك، ولما كنت مع ذلك غير متأكد من أنه سوف يأذن لي بمبارحة الإسكندرية، فإني أجد من الواجب علي أن أدلي إليكم ببعض آراء قد تساعدكم على رسم خطة لإنزال الجنود، ففي أبي قير يجد الأسطول مكانا أمينا، ويستطيع الجنود النزول إلى البر دون أن يتعرض لهم أحد؛ لأن القلعة في حالة تهدم، وليس بها سوى عشرين من الجند فحسب، ويمكن الحصول على الماء في كل مكان من هذا الساحل، وفي أكثر أجزاء الصحراء الرملية والممتدة بين أبي قير والإسكندرية بحفر الآبار على عمق أقدام قليلة لا سيما في الجهات التي توجد بها تجمعات النخيل، ولا يليق بي التقدم بأي نصح فيما يجب اتباعه بصدد الطريقة التي يجري بها الزحف من أبي قير إلى أسوار الإسكندرية، ويكفي أن أذكر أنه إذا قرر العدو اتخاذ مواقعه على هذه الأرض المسماة بالخطوط الفرنسية، فهم سوف يعجزون تماما عن الصمود أمام قوة من الجند البريطانيين تشن عليهم هجوما بالسونكي، ويبدو لي أن من الممكن القيام بعملية ثانوية قوية لشغل العدو، وذلك بإنزال عدد من ألف ومائتي جندي إلى ألف وخمسمائة عند مرابط العجمي، وهي بقعة يعرفها الكابتن «هالويل» معرفة جيدة، ويوجد بين جزيرة مرابط والإسكندرية خط دفاع ممتد من الميناء حتى بحيرة مريوط يتألف من خندق وسياج من الأوتاد (متاريس) للدفاع، وتعززه قلعة الحمامات من جهة اليسار، وبطارية من مدفعين في الوسط، وبطارية من مدفع واحد من جهة اليمين، ويبدو من نافلة القول ملاحظة أن الأتراك ليسوا أصحاب دراية في فن المدفعية.»
ثم تحدث «مسيت» عن ثمرة نشاطه مع مشايخ الإسكندرية، ونجاح مساعيه أخيرا على وجه الخصوص لجذب الشيخ المسيري لتأييد المصلحة الإنجليزية: فقال: وإني لأذكر بمنتهى الارتياح وأعظمه أن الشيخ محمد المسيري وهو رجل متمتع بنفوذ لا حد له على سكان هذه المدينة، قد أرسل إلي هذا الصباح (15 مارس) يجدد تأكيداته التي أعطاها لي مرارا وتكرارا، بأنه إذا حدث وغزا البريطانيون مصر، فإن أهل الإسكندرية سوف يتلقونهم بصدور مفتوحة، وأنهم أبعد ما يكونون عن مقاومتهم.
وحرص «مسيت» على إبلاغ شاهين بك الألفي بقرب وصول الحملة الإنجليزية، وحثه على القدوم من الصعيد لاستقبالها، وإذاعة هذا النبأ بين زملائه البكوات، فكتب إليه في 15 مارس أن سفينة حربية إنجليزية قد دخلت إلى ميناء الإسكندرية يوم 13 مارس، وأعلنت أن أسطولا إنجليزيا في طريقه إليها؛ ولذلك فقد صار وجود شاهين بك ضروريا، وطلب «مسيت» من شاهين أن يبعث بوفد من أنصاره إلى الإسكندرية، وأن يذيع هذا النبأ بين زملائه القواد وأن يقول لهم: إن بريطانيا العظمى تحارب تركيا، وذلك حتى تجعل الأمراء يدخلون القاهرة.
وأما الأسطول الإنجليزي فقد ظهر أمام الإسكندرية بعد ظهر يوم 16 مارس، ولم يكن كاملا؛ لأن إحدى فرقاطته «أبولو»
Apollo
كانت قد انفصلت بسبب الأنواء مع عدد من النقالات عن سائر قطع الأسطول غداة الإبحار من «مسينا»، فكانت فرقاطة واحدة هي «التيجر»
Tigre
من أربع عشرة نقالة هي التي ألقت مراسيها في مساء 16 مارس قريبا من الميناء القديم، وكان بسبب نقص قواته أن امتنع «فريزر» عن إنزال جنوده إلى البر، بالرغم من المعلومات المشجعة التي بعث بها إليه «مسيت» - كما شاهدنا - وآثر إرسال مندوب للمفاوضة هو الكابتن «أكورت»
A’Court
يطلب من أمين أغا التسليم دون قتال، ولكن أمين أغا رفض التسليم في ظروف سوف نذكرها، كما أن «مسيت» ظل يلح على «فريزر» في وجوب إنزال الجند إلى البر فورا، فأنزل «فريزر» - عندئذ - القسم الأول من جنده في مساء 17 مارس في مكان يبعد أميالا قليلة إلى الشرق من مرابط، ودون أن يلقى أي مقاومة، ثم أنزل القسم الثاني في صبيحة اليوم التالي، ولما كان تلاطم الأمواج العنيف على طول الشاطئ لا يجعل الاتصال مع النقالات مأمونا، فقد قرر «فريزر» اتخاذ موضعه إلى الشرق من الإسكندرية، والاعتماد في تموينه على أبي قير، ثم محاولة الدخول إلى الإسكندرية في الوقت نفسه أثناء عملية هذا الانتقال.
وعلى ذلك بدأ زحف الجند على الإسكندرية في مساء 18 مارس، فاقتحموا خطا من المتاريس ممتدا من قلعة الحمامات على البحر بين مرابط والميناء القديم إلى بحيرة مريوط، تعززه ثلاث بطاريات من المدفعية الخفيفة، وهذا عدا بطاريات قلعة الحمامات، وهي من ثلاثة عشر مدفعا، وقد قابل المدافعون عن هذا الخط الإنجليز بوابل من الرصاص، ولكن هؤلاء استطاعوا الوصول إلى باب عامود بومبي حيث وجدوا الحامية به مستعدة لملاقاتهم، والباب محصنا، والأسوار خلفها الجند والأهلون مسلحين، وعندئذ آثر الإنجليز بقيادة «فريزر» متابعة الزحف شرقي المدينة لاتخاذ مواقعهم في المراكز التي احتلها جيشهم قبل ذلك يوم معركة «كانوب» (21 مارس 1801) في حربهم مع الجنرال «منو»
Menou ؛ وذلك لأنه كانت تعوزهم الوسائل التي تمكنهم من تسلق الأسوار من جهة، ولعدم معرفتهم بالحالة في هذا المكان، وتوقعهم لذلك أن يلقوا مقاومة عنيفة لا سيما وأن هذا الموقع كان محصنا بمتاريس قوية من جهة أخرى، فخشي «فريزر» من المجازفة، وفي صبيحة 19 مارس وصل الجيش الزاحف إلى المواضع التي أرادها، ثم بادر «فريزر» بإرسال قوات لاحتلال قلعة أبي قير، والقطع الذي يصل بين بحيرتي المعدية ومريوط، وغرضه من ذلك عزل الإسكندرية عن رشيد، وفي اليوم نفسه حضر الفرقاطة «أبولو» مع النقالات الأخرى، وعندئذ وافق أمين أغا على التسليم عندما طلب منه الإنجليز ذلك مرة ثانية، وفي 10 محرم 1222 (20 مارس 1807) وقعت شروط تسليم الإسكندرية.
وتألفت شروط تسليم الإسكندرية من سبع مواد، فنصت المادة الأولى على احترام حقوق الملكية، وتأمين أهل الإسكندرية على أموالهم وأملاكهم سواء منها ما كان يجري على سطح الماء؛ أي السفن، أو ما كان عقارا أو أرضا، ثم احترام عقائد السكان ودياناتهم، وجوامعهم وقوانينهم وحمايتها، وعدم مساسهم هم وأسراتهم بأي أذى، وفي المادة الثانية ووفق على انتقال أمين بك حاكم المدينة وصالح أغا قومندان البحرية؛ أي قائد العمارة العثمانية في مياه الإسكندرية، وكانت هذه تتألف من فرقاطتين وقرويت واحدة تركها القبطان صالح باشا عند مغادرته البلاد في العام السابق، ومحمد نعيم أفندي مع سائر موظفي الحكومة وجميع العسكر والأطقم في السفن التي للحكومة إلى ميناء تركي بسلاحهم وعتادهم كأسرى حرب، بشريطة عدم القتال ضد البريطانيين أثناء الحرب مع تركيا، وضد حلفائهم وأصدقائهم، على أن يترك لأمين أغا وصالح أغا ومحمد نعيم أفندي اختيار المكان الذي يريدون الذهاب إليه، وأما الباقون من حامية الإسكندرية وعددهم 277 فقد نقلوا إلى مالطة، ثم نصت المادة الثالثة على استيلاء قوات صاحب الجلالة البريطانية على سفن ومتعلقات الحكومة التي للباب العالي بالإسكندرية، وأن يتعين لوضع قائمة بهذه السفن والمتعلقات مندوب عن كل من الطرفين، وقد استولى الإنجليز على الفرقاطتين والقرويت العثمانية، وفي المادة الرابعة تقرر إبقاء السفن التجارية الخاصة بالأفراد أو الرعايا العثمانيين في حوزة أصحابها، وكذلك احترام أملاك الأفراد ومتاجرهم في المدينة أو في الميناء، كما صار لمن يرغب من هؤلاء في البقاء بالإسكندرية ومزاولة عمله بها الحق في ذلك، وسمح لمن يشاء منهم مبارحة المكان آخذا معه أمواله أن يفعل على أن يحصل على جواز السفر اللازم للذهاب إلى ميناء عثماني غير محاصر، وتقرر في المادة الخامسة إصدار عفو شامل عن السكان جميعهم، بغض النظر عن مسلك أي فرد منهم، بمناسبة الدفاع عن المدينة، ونصت المادة السادسة على عدم إجراء أي تفتيش في منازل الأفراد حتى ولو كانوا أعداء لبريطانيا، وأخيرا تقرر في المادة السابعة أن تتسلم القوات البريطانية باب رشيد، وقلعتي أو كومي «كريتان»
Crétin
و«كفاريللي»
Caffarelli .
وقد وقع على هذا الاتفاق الميجور جنرال «ماكنزي فريزر» والكابتن «هالويل» من الجانب البريطاني، والحاج محمد خطاب والشيخ إبراهيم باشا عبد الله، وهما يمثلان أعيان الإسكندرية، والأخير كما سبقت الإشارة إليه زوج ابنة الشيخ محمد المسيري، ثم محمد نعيم أفندي مندوبا عن أمين أغا، وفي ليل 20-21 مارس 1807 تسلم الإنجليز قلعتي «كريتان» و«كفاريللي»، ولم يكلفهم أخذ الإسكندرية سوى ستة قتلى وثمانية جرحى فحسب.
على أنه مما يجدر ذكره أن الجنرال «فريزر» كان قبل بدء العمليات التي انتهت بالاستيلاء على الإسكندرية قد أصدر عن الفرقاطة «التيجر» منشورا موجها إلى حاكم الإسكندرية وسكانها، وقع عليه كذلك «هالويل»، ويدعوهم إلى التسليم طوعا، وتحدث فيه عن الغرض من مجيء الحملة البريطانية، فقال: إنه للاستيلاء على ميناء ومدينة الإسكندرية وقلاعها وملحقات هذه جميعها، وإن البريطانيين لم يحضروا لفتح البلاد، وإنما لمنع الفرنسيين من وضع أقدامهم بها مرة أخرى، ولتمكيننا من إعطاء تأييدنا وحمايتنا لما قد يوجد من أحزاب في هذه البلاد قد تكون ذات رغبة صادقة في أن تكون لها علاقات ودية في كل الأوقات مع بريطانيا العظمى؛ أي إن «فريزر» عاد فأكد في منشوره هذا الأغراض التي نصت عليها التعليمات التي أصدرتها الحكومة الإنجليزية إلى الجنرال «فوكس» في 21 نوفمبر 1806، وقد استطاع «فريزر» إدخال هذا المنشور إلى المدينة عندما تسلل أحد العربان الموالين للإنجليز من الإسكندرية إلى خطوطهم، فسلمه «فريزر» هذا المنشور في 20 مارس، وعاد به هذا الأعرابي وأذاعه على سكان الإسكندرية. (4) أسباب تسليم الإسكندرية
وكان لهذا النصر الرخيص الذي أحرزه البريطانيون أسباب عدة، فقد كانت الإسكندرية - كما سبق القول - لا تخضع لحكومة محمد علي، ويتصل حاكمها مباشرة بالقسطنطينية، وحرص الباب العالي على بقائها منفصلة عن باشوية القاهرة، وظهر حرصه هذا - على وجه الخصوص - في أزمتي 1805، 1806، وقد شاهدنا كيف نص فرمان تثبيت محمد علي في الولاية بعد انقضاء أزمة النقل إلى سالونيك على ألا يكون له تعلق بثغر رشيد ولا دمياط ولا الإسكندرية، وكان حاكم الإسكندرية أمين أغا أو أمين قبطان الكريتلي، وهو الذي وصله فرمان من الباب العالي مباشرة بعد إبحار القبطان صالح باشا من الإسكندرية، يعهد إليه بحكومة هذه المدينة وقومندانية البر والبحر بها، وهو تعيين رأي فيه «دروفتي» وقتئذ - وعلى نحو ما أشرنا إليه سابقا - دليلا على أن الباب العالي يريد التمسك بهذا المكان مستقلا عن باشوية مصر، نقول إن هذا الحاكم كان لا يظهر ميلا للاعتراف بسلطان صاحب الولاية؛ أي محمد علي، وبخاصة عندما تسلم هذا أزمة الأمور، ووصل إلى الولاية ضد رغبة الباب العالي، ولقد خشي أمين أغا وأهل الإسكندرية أن تخضع مدينتهم لسطوة الأرنئود فينهبها هؤلاء، ويعيثون فيها فسادا، وقد رأينا كيف فخر «مسيت» بأنه جعل الإسكندريين يكتبون إلى القسطنطينية يطلبون منها إبقاء مدينتهم خارجة عن نطاق باشوية القاهرة، وأجيب مطلبهم.
وكانت الطبقة ذات النفوذ في الإسكندرية من التجار الذين لا يعنيهم سوى ضمان مصالحهم التجارية وأمنهم على أموالهم وأشخاصهم فحسب، فضلا عن أنهم ما كانوا يعرفون عن حكومة محمد علي إلا ما صار يبلغهم عنها ويذاع بالمدينة من قصص عن فعال الجند واعتداءاتهم على القاهريين، وفتكهم بهم أثناء حوادث التمرد والعصيان والمذابح المتكررة التي وقعت بالقاهرة خلال العامين السابقين؛ ولذلك فقد آثر الإسكندريون أن يظلوا في شبه عزلة عن سائر أهل البلاد، وصار لا يربطهم بهم أي شعور مبعثه التضامن واتحاد المصلحة، بل إنهم اعتقدوا أنه إذا حدث الغزو الأجنبي ونزل الغزاة بمدينتهم، فإن ذلك من شأنه أن يعود عليهم بالنفع المحقق، من حيث زيادة نشاط الحركة التجارية في الثغر، أضف إلى هذا أن الإسكندريين ما كانوا يثقون بتاتا بأن في مقدور محمد علي رد هؤلاء الغزاة، ومنعهم من احتلال الإسكندرية.
وواضح أن مدينة لا تخضع لسلطان باشا القاهرة، ولا يشعر أهلها بوجود روابط قوية تربطهم بسائر مواطنيهم، كان لا مفر من أن تصبح ميدانا فسيحا لدسائس الوكلاء الإنجليز الذين عملوا على إشاعة روح التخاذل بين الأهلين ورؤسائهم ومشايخهم، وبذلوا قصارى جهدهم لاستمالة حاكم المدينة أمين أغا، وقائد العمارة العثمانية بالثغر صالح أغا، وخصوصا الشيخ محمد المسيري ومن لف لفه، وقد أوضحنا كيف أن «مسيت» استطاع أن يطمئن إلى انحياز هذا الشيخ إلى جانبه كما اعتمد على ولاء أمين أغا الذي أكد له مرات عديدة أنه سوف يعامله كصديق إذا حدث أن انقطعت العلاقات بين إنجلترة وتركيا، حتى إن «دروفتي» صار يعتقد أن صالح أغا هو الرجل الوحيد الذي ظل من أصدقاء فرنسا، ومع ذلك فإن صالح أغا هذا لم يكن له أي تأثير على أمين أغا.
ومع أن أمين أغا رفض التسليم، واتخذ تلك الإجراءات التي سبق ذكرها للدفاع عن المدينة، فإن ما حدث من تخاذل بعد ذلك سواء من جانب أمين أغا أو من جانب الإسكندريين أنفسهم، لينهض دليلا على أن هؤلاء جميعا لم يكونوا جادين فيما أظهروه من رغبة في الدفاع عن مدينتهم، بل إن أمين أغا لم يقصد من التظاهر بهذا الاهتمام سوى التغطية والتعمية حتى يتفادى غضب الباب العالي ونقمته عليه وانتقامه منه لتخاذله وخيانته، ثم إنه كان من الواضح أن الإسكندرية سوف تعجز عن صد أي هجوم يقع عليها، ويقوم به جيش منظم على الطريقة الأوروبية، ومزود بأسلحة الحرب الحديثة؛ وذلك بسبب ضعف تحصيناتها وحاميتها وقلة عدد الجنود بهذه الحامية، ثم ضعف القوة البحرية التي عهد إليها بالدفاع عن الساحل بأسره، بينما كانت هذه لا تتجاوز فرقاطتين وقرويت واحدة لا قدرة لها على مواجهة مركب حربي إنجليزي بمفرده في عرض البحر، أضف إلى هذا أن عدد هذه القوة كان لا يزيد على 208 رجال، ولم يتجاوز عدد القوات البرية والبحرية جميعها بالإسكندرية في منتصف مارس 1807، 467 فحسب، وقد أدرك هذه الحقائق على وجه الخصوص «دروفتي» الذي بادر من فوره منذ أن شهد وصول المركب الإنجليزي الذي دخل الميناء في 20 فبراير، بتحذير محمد علي ونصحه بضرورة تقوية الحاميات والمواقع المختلفة على طول الساحل في الإسكندرية ورشيد ودمياط، ثم المواقع المحصنة بالدلتا ولا سيما دمنهور التي يؤدي سقوطها في يد العدو إلى قطع المواصلات بين الإسكندرية والقاهرة، ثم إن «دروفتي» حاول جهد طاقته أن يستنهض همة أمين أغا للتهيؤ والاستعداد بصورة جدية لمقابلة الغزو المنتظر، كما صار يبذل كل مسعى لدى الشيخ المسيري لحثه وحث الأهلين على الدفاع، ولكن الهمة التي ظهرت في أول الأمر من جانب أمين أغا والشيخ المسيري ما لبثت أن فترت بفضل تدخل «مسيت» و«صمويل بريجز» ومساعيهما، وقد تحول أمين أغا والشيخ المسيري خصوصا عندما وصلت السفينة «ويزارد» في 13 مارس تحمل نبأ قرب حضور الحملة، ثم سرعان ما بدت آثار هذا التحول عندما رفض أمين أغا والشيخ المسيري دخول قوة من الأرنئود حضرت وقتئذ بقيادة سليمان أغا لتعزيز حامية الإسكندرية.
وتفصيل ذلك أنه لما وردت الأوامر بتحصين الثغور، وجاء فرمان الباب العالي إلى محمد علي يأمره بمقاومة الإنجليز إذا حاولوا النزول في البلاد، وهو الفرمان الذي تحدث عنه «مسيت» في رسالته إلى أربنثوت في 22 يناير - على نحو ما أوضحنا - عمد محمد علي من فوره إلى إجراء الاستعدادات اللازمة لتحصين القاهرة، وأصدر أوامره إلى علي بك السنانكلي حاكم رشيد لإصلاح قلعة جوليان وتزويدها بالذخائر والمؤن، وأرسل طائفة من الجند الأرنئود بقيادة سليمان أغا بطريق النيل إلى الإسكندرية من أجل الاشتراك في الدفاع عنها، وأرسل إلى أهالي الثغور والمحافظين عليها مكاتبات بأنهم إن كانوا يحتاجون إلى عساكر فيرسل لهم الباشا عساكر زيادة على الذين أرسلهم، ووصل سليمان أغا بجنده إلى رشيد، ثم انتقل بهم إلى أبي قير في 14 مارس استعدادا لدخول الإسكندرية.
ولكنه لما كان مجيء النجدات إلى الإسكندرية يتعارض مع خطط الوكلاء الإنجليز وتدابيرهم، فقد روج هؤلاء شتى الإشاعات المجنونة عن الغرض من إرسال الأرنئود، وعن التعليمات المعطاة لهم، وراحوا يؤكدون أن المدينة إذا دخلها الأرنئود فسوف تسود فيها الفوضى، وتنهب متاجرها وأموالها، ولا يأمن أحد من سكانها على حياته، وهاج الأهلون هيجانا عظيما، وهرعوا إلى تسليح أنفسهم لمنع دخول الأرنئود إلى مدينتهم بالقوة، وتزعم حركة المقاومة هذه الشيخ محمد المسيري، والتف حوله أعيان الثغر، ثم ذهب بهم الشيخ إلى أمين أغا يطالبونه بتأمين مصالحهم، وأظهر أمين أغا عزمه على مقاومة أوامر محمد علي بالقوة، وقال «دروفتي»: إن سكان الإسكندرية جميعهم قد تسلحوا في ليل 14 مارس لدفع الأرنئود إذا حضروا، وإن أمين أغا يؤكد انتفاء الحاجة إلى هؤلاء الجنود؛ حيث إن أهل الإسكندرية في وسعهم وحدهم الدفاع عنها، وكان «دروفتي» قد حاول تدارك الأمر، فأرسل إلى أهالي رشيد يبلغهم عزم أهل الإسكندرية على رد جند سليمان أغا بالقوة، ووجد على بك السنانكلي من الحكمة قبل ذهاب هؤلاء إلى الإسكندرية أن يبعث بسفارة إلى أمين أغا والمشايخ بالثغر لإقناعهم بضرورة الاتحاد في العمل تنفيذا للأوامر العليا الصادرة من الباب العالي بشأن تحصين الثغور والدفاع عنها، ثم تهدئة الإسكندريين وتسكين خواطرهم، ووصل فعلا مندوبه المكلف بهذه المهمة يوم 13 مارس، ولكن هذه المساعي ذهبت سدى؛ وعلى ذلك فإنه ما إن وصلت المراكب تحمل الأرنئود إلى الميناء القديم في صبيحة يوم 15 مارس حتى وجد هؤلاء أبواب المدينة مغلقة، والأسوار محصنة، والأهالي على قدم واحدة لردهم بالقوة، فاضطر سليمان أغا إلى الانسحاب إلى رشيد، وقد شهد هذه الحوادث قومندان السفينة الإنجليزية «ويزارد»، وكان بعد انسحاب الأرنئود وسليمان أغا أن غادرت هذه السفينة الميناء، وأبلغ أمين والمشايخ حكومة الباشا في القاهرة ردا على المكاتبة التي سبق إرسالها إلى أهل الثغور والمحافظين عليها بأن فيهم الكفاية ولا يحتاجون إلى عساكر زيادة تأتيهم من مصر، فإنهم إذا كثروا في البلد تأتى منهم الفساد والإفساد، فرأى مشايخ القاهرة وأعيانها والسلطات الحاكمة بها برئاسة «طبوز أوغلي» كتخدا بك الذي عهد إليه الباشا - كما أسلفنا القول - بإدارة شئون الحكم أثناء غيابه ، عقد جمعية ببيت القاضي ... لإثبات هذا القول، ولخلاص عهدة الباشا لئلا يتوجه عليه اللوم من السلطنة وينسب إليه التفريط وذلك يوم 17 مارس.
على أنه ما كاد ينسحب سليمان أغا إلى رشيد بجنده، حتى رجعت السفينة «ويزارد » في اليوم التالي (16 مارس) تتبعها في هذه المرة سفينة أخرى نزل منها «أكورت» وضابط آخر، يطلبان مقابلة أمين أغا، وأعلنا إليه نبأ قطع العلاقات بين تركيا وإنجلترة، وأن أسطولا إنجليزيا قد حضر يحمل عددا عظيما من الجنود، ويقف في مكان قريب جدا من الشاطئ، وطلبوا الطلوع إلى الثغر، وتسليم الإسكندرية طوعا، وحضر «مسيت» هذه المقابلة، ولكن أمين أغا لم يسعه في هذه المفاوضة الرسمية إلا التمسك بما لديه من أوامر الباب العالي، فأجاب بأنه لا يمكنهم من الطلوع إلا بمرسوم سلطاني، فقالوا لم يكن معنا مراسيم، وإنما مجيئنا لمحافظة الثغر من الفرنسيس، فإنهم ربما طرقوا البلاد على حين غفلة، وقد أحضرنا صحبتنا خمسة آلاف من العسكر نقيمهم بالأبراج لحفظ البلدة والقلعة والثغر، فقال أمين لم يكن معنا إذن، وقد أتتنا مراسيم بمنع كل من وصل عن الطلوع من أي جيش كان، فقالوا لا بد من ذلك، فإما أن تسمحوا لنا في الطلوع بالرضا والتسليم، وإما بالقهر والحرب، والمهلة في رد الجواب بأحد الأمرين أربعة وعشرون ساعة، فقال أمين: إنه لا يستطيع تقرير شيء إلا إذا استشار المشايخ، وذكر «دروفتي» أن أمين أغا أشرك في هذا المجلس الذي دارت فيه المباحثات مع أكورت وزميله نفرا من المشايخ، ولم يعرف أحد شيئا عما دار وقتئذ في هذا المجلس السري، ولكنه سرعان ما ساورته الشكوك في عزم الحاكم والمشايخ على المقاومة، عندما شهد الاجتماعات تعقد في كل مكان طوال هذا اليوم دون الوصول إلى قرار حاسم، وتأكد لديه تخاذل الإسكندريين ورؤسائهم الذين عظمت دهشتهم عندما فوجئوا في صبيحة اليوم التالي (17 مارس) بمشاهدة سبعة عشر مركبا إنجليزيا تسد مدخل الميناء القديم.
ولقد كان بسبب هذا التخاذل أن استطاع «فريزر» - كما أسلفنا - إنزال قسم من جنوده إلى البر في مساء 17 مارس دون مقاومة، وذلك بالرغم من خطورة هذه العملية بسبب شدة الأنواء، ولعجز الإنجليز عن إدخال سفينة قيادتهم تيجر في الميناء القديم، نتيجة لتسرب المياه إليها، ثم لرسو بقية قطع القافلة البحرية على مسافة ميلين من الشاطئ، حتى إنه كان في استطاعة العمارة العثمانية مع قلة عدد قطعها، والرابضة على مسافة تقل عن أربعة أميال فحسب، تحطيم السفن الإنجليزية لو أنها اشتبكت معها في معركة وقتئذ، ولكن مغامرة إنزال الجنود البريطانيين إلى البر مرت في سلام، وانقضى ليل 17 مارس دون أن يلقى الإنجليز أية مقاومة، ثم بدأ في اليوم التالي ذلك الزحف الذي انتهى بسقوط الإسكندرية وتسليمها دون إطلاق رصاصة واحدة في الظروف التي ذكرناها، وكان بعد تسليم الإسكندرية أن كتب «مسيت» إلى «وندهام» في 23 مارس، ينقل إليه نبأ هذا التسليم، ثم يقول: «وأجد من حقي أنه قد اتضحت صحة التقرير الذي ذكرت فيه ضعف الحامية، وميول السكان الطيبة نحونا، فإنه إذا كان حاكم الإسكندرية قد امتنع عن التسليم ثماني وأربعين ساعة بعد إنزال الجنود إلى البر، فإنه إنما فعل ذلك حتى يحمي نفسه من غضب حكومته، وإذا كان الأهلون لم يبادروا فورا بفتح أبواب المدينة أو يرغموا حاميتها على التسليم، فالواجب أن يعزى ذلك إلى قلة نشاطهم، حيث إن الظلم الذي عانوه طويلا قد قضى على روحهم المعنوية، ولكنه ما إن وقع الهجوم على خط التحصينات الممتد من الميناء القديم إلى بحيرة مريوط واتخذ البريطانيون مواقعهم إلى الشرق من الإسكندرية، حتى ترك الجنود قلاعهم وغادر معظمهم الصفوف، وبمجرد أن وجد الأهلون أنهم ما عادوا يخشون شيئا من جانب الحامية، بادروا بإرسال علم الهدنة يعرضون تسليم المدينة.»
وأما هذا التخاذل المتعمد الذي بدا من جانب أمين أغا والشيخ المسيري وأضرابهما فقد أقنع «دروفتي» بوجوب مغادرة الإسكندرية قبل سقوطها في أيدي البريطانيين الذي بات متوقعا، فاستطاع مبارحتها يوم 17 مارس والذهاب إلى القاهرة، فقد حرص «دروفتي» منذ أن شاهد السفينة الإنجليزية التي دخلت الإسكندرية في 20 فبراير تحمل بعض رجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية، على إبلاغ محمد علي وحكومته في القاهرة بما أذاعه هؤلاء الأخيرون والوكلاء الإنجليز في الثغر عن قرب مجيء الحملة البريطانية حتى يعمل على تحصين الشاطئ الشمالي، ثم إنه انتهز هذه الفرصة ليشير عليه بضرورة مضاعفة جهده ضد البكوات؛ لأن الإنجليز يعتمدون عليهم قبل أي شيء آخر في نجاح مشروع غزوهم، واستطاع «دروفتي» بفضل ما بذله من رشاوى أن يقف على الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي «ويزارد» إلى الإسكندرية، وذهاب القنصل الإنجليزي بالثغر «صمويل بريجز» لمقابلة قائده، ثم إرسال الرسل عقب هذه المقابلة إلى القاهرة ورشيد ودمياط، وذلك لإبلاغ البكوات بأن أسطولا إنجليزيا سيأتي إلى الإسكندرية، ويطلب إليهم لذلك النزول من الصعيد للانضمام إلى البريطانيين ضد العدو المشترك، فأرسل «دروفتي» عندئذ الرسل على عجل، لنصح الباشا بقطع كل المواصلات بين الصعيد والإسكندرية، وبأن يبذل قصارى جهده وهو بالصعيد لإرغام البكوات على التسليم، وبأن يرسل قوات كبيرة إلى الرحمانية ودمنهور والإسكندرية، كما أن «دروفتي» صار يلح على أمين أغا في ضرورة الاستعداد لمقاومة كل هجوم يقع على الإسكندرية، وعمل وقتئذ أمين أغا برأي «دروفتي» وقام بتسليح كل سكان الإسكندرية، ثم حضر الأرنئود بقيادة سليمان أغا إلى رشيد، ولكن مساعي الوكلاء الإنجليز لدى أمين والشيخ المسيري ولدى الأهلين عموما لم تلبث أن تكللت بالنجاح، وعارض هؤلاء - كما رأينا - في دخول الأرنئود إلى مدينتهم، وعندئذ وجد «دروفتي» أنه لم تعد هناك أية فائدة من وجوده بالإسكندرية، وأن هذه سوف يأتيها الإنجليز وتسقط في أيديهم من غير مقاومة.
وتبين نفاق الشيخ المسيري عندما صار يبدي ل «دروفتي» أسفه وغضبه لأن الأرنئود لم يدخلوا الإسكندرية، ويعد بأنه سوف يبذل قصارى جهده لإحضار هؤلاء وإدخالهم إلى المدينة، ومع أن «دروفتي» علق على ذلك بقوله: إن هذا الأسف والغضب، وهذه الوعود التي جاءت متأخرة جدا، فقد ظل - على ما يبدو - منخدعا بالشيخ واعتقد أن هذا يعني حقا ما يقوله، ولقد ظهر نفاق الشيخ المسيري كذلك عندما أراد «دروفتي» في 16 مارس أن يحصل على جواز مرور لخوفه من الوقوع في قبضة الإنجليز، وتكليف حرس بحمايته في طريقه إلى رشيد، فوعد الشيخ بمساعدته، ولكنه حتى صباح اليوم الثاني لم يكن «دروفتي» قد ظفر ببغيته؛ لأن الوكلاء الإنجليز الذين خشوا من نشاطه، طلبوا من أمين أغا منعه من مغادرة الإسكندرية، فلم يجد «دروفتي» عندئذ مناصا من جمع حوالي خمسة عشر أو عشرين نوتيا فرنسيا كانوا يمرون وقتئذ بالإسكندرية، وذهب بهم (17 مارس) إلى أحد أبواب الإسكندرية، وتمكن من الخروج بعد تهديد الحراس ومسدسه بيده، ووصل في ليل 17 مارس إلى رشيد، وأبلغ حاكمها علي السنانكلي أن الشيخ المسيري يميل لقبول الأرنئود، وفي صبيحة يوم 19 مارس تحرك هؤلاء من جديد صوب الإسكندرية، ثم عسكروا تحت أسوارها، ولكن دون طائل؛ لأن أمين أغا لم يلبث أن وافق على تسليم الإسكندرية، وأبرمت شروط التسليم - كما عرفنا - في 20 مارس، فعادوا أدراجهم إلى رشيد، وأما «دروفتي» فقد غادر رشيد ظهر يوم 19 مارس بطريق النيل إلى القاهرة، فبلغها في 24 مارس، ولم يجد «دروفتي» محمد علي بالقاهرة لأنه كان لا يزال بالصعيد. (5) القاهرة في غياب محمد علي
وأما القاهرة وقت أن بلغها «دروفتي» فكانت في اضطراب عظيم، فقد وردت إليها مكاتبات بعد خروج محمد علي إلى الصعيد بحوالي أسبوعين من وزير الدولة العثمانية، وفيها الخبر بوقوع الغزو بين العثماني والموسكوب، والأمر بالتيقظ والتحفظ وتحصين الثغور، فربما أغاروا على بعضها على حين غفلة، وكذلك وردت أخبار بمعنى ذلك من حاكم أزمير وحاكم رودس، وأن الإنجليز معاونون لطائفة الموسكوب لاستمرار عداوتهم مع الفرنساوية؛ لكون الفرنساوية متصادقين مع العثماني، وعرف القاهريون أن أهل الإسكندرية قد شرعوا في تحصين قلاعها وأبراجها، وأن العمل يجري لتحصين أبي قير كذلك، وبادر كتخدا بك «طبوز أوغلي» الذي تركه محمد علي في حكومة القاهرة يعاونه حسن باشا والدفتردار وغيرهما من كبار الموظفين والرؤساء العسكريين، ثم السيد عمر مكرم - بإرسال من يتقيد ببناء قلعة البرلس، فكان من أثر ذلك كله أن اهتاجت الخواطر، وحصل لمصر - كما يقول الشيخ الجبرتي - قلق ولغط وغلت الأسعار في البضائع المجلوبة، وعقدت الاجتماعات في بيتي الكتخدا بك والسيد عمر مكرم، واستقر الرأي على إرسال ديوان أفندي بالمكاتبات التي وصلت من القسطنطينية والأخبار التي جاءت من أزمير ورودس إلى محمد علي باشا بالجهة القبلية، وأمر محمد علي بضرورة أن تذهب فورا قوة من أربعمائة أرنئودي بقيادة سليمان أغا لتعزيز حامية الإسكندرية، وهي القوة التي وصلت فعلا إلى رشيد، ولم تفلح في الدخول إلى الإسكندرية للأسباب التي ذكرناها، وفي 28 فبراير اجتمع الفقهاء بالأزهر لقراءة صحيح البخاري في أجزاء صغار، وفي 6 مارس بلغ القاهرة نبأ تهديد حملة «داكويرث» للقسطنطينية، وانزعاج أهل هذه انزعاجا شديدا حتى إنهم أيقنوا بأخذ الإنجليز البلدة، ولو أرادوا حرقها لأحرقوها عن آخرها، ثم خروج أسطول «داكويرث» من البغاز (البوغاز) سالمين مغبوطين بعفوهم مع المعذرة، ثم لم تلبث أن جاءت الأخبار القاهرة في 18 مارس عن وصول حملة «فريزر» إلى الإسكندرية، ومطالبة القائد الإنجليزي لحاكمها أمين أغا بالتسليم وإمهاله أربعا وعشرين ساعة، بعث الإسكندريون بهذه الأخبار في مكاتبات إلى القاهرة، وعندئذ اجتمع كتخدا بك وحسن باشا وبونابرتة الخازندار وطاهر باشا والدفتردار والروزنامجي وباقي أعيانهم، وذلك بعد الغروب، وتشاوروا في ذلك، ثم أجمع رأيهم على إرسال الخبر بذلك إلى محمد علي باشا ويطلبونه للحضور هو ومن بصحبته من العساكر؛ ليستعدوا لما هو أولى وأحق بالاهتمام، ففعلوا ذلك، ويستمر الشيخ الجبرتي في تسجيل هذه الوقائع فيقول: وانصرفوا إلى منازلهم بعد حصة من الليل، وأرسلوا تلك المكاتبة في صبح يوم الجمعة 19 مارس صحبة هجانين، وشاع الخبر، وكثر لغط الناس في ذلك، وفي ليلة الاثنين 22 مارس، وردت مكاتبة من رشيد بأن الإنجليز قد طلعوا إلى الثغر ودخلوا البلدة (الإسكندرية) وعدم علمهم بالكيفية.
وأما «دروفتي» فقد وصل إلى القاهرة - كما ذكرنا - في 24 مارس، وقال الشيخ الجبرتي إنه ذكر عند وصوله أنه يريد السفر إلى الشام هو وباقي الفرنساوية القاطنين بمصر، وقابل «دروفتي» كتخدا بك، وكان قد أرسل إليه الرسل من الإسكندرية في 16، 17 مارس، ثم من رشيد في 18 مارس لإبلاغه بما حدث، وتشاور معه طويلا في الأمر، وكتب «دروفتي » إلى «سباستياني» في 25 مارس أن الباشا الموجود بالصعيد سوف يحضر إلى القاهرة حتى يكون - كما يقول كتخدا بك - في مركز الحوادث، واقترح «دروفتي» من جانبه أن يكتب إلى بكوات بيت البرديسي وسليمان بك الجرجاوي حتى لا ينضموا إلى الإنجليز، وينظروا في هدوء ما قد تسفر عنه الحملة الإنجليزية من نتائج، حيث من المتوقع أن تفضي هذه الغزوة إلى إرسال حملة فرنسية، سوف يتوقف عليها الفصل نهائيا في تنظيم البلاد السياسي، وطلب «دروفتي» من «طبوز أوغلي» إرسال ططري إلى القسطنطينية مزودا بأخبار الحوادث الأخيرة، ويطلب النجدة، ولكن الكتخدا بك رفض ذلك، حتى يعرف حقيقة قوات العدو، ومسلك حامية الإسكندرية.
ثم وجد «دروفتي» القاهرة في خوف واضطراب عظيمين، بسبب ما ورد من أخبار عن سقوط الإسكندرية، وقد تزايد الخوف والاضطراب عندما جاءتها الأخبار في 27 مارس تؤيد نبأ أخذ الإسكندرية واستيلاء الإنجليز عليها، ودخولهم إليها وامتلاكهم لأبراجها ونزول صاري عسكرهم «فريزر» بوكالة القنصل، بل وعرفت الشروط التي سلمت بمقتضاها الإسكندرية، فأثبتها الشيخ الجبرتي - كما عرفها - في قوله: وشرطوا مع أهالي البلد شروطا منها: أنهم لا يسكنون البيوت قهرا عن أصحابها، بل بالمؤاجرة والتراضي، ولا يمتهنون المساجد، ولا يبطلون منها الشعائر الإسلامية، وأعطوا أمين أغا الحاكم أمانا على نفسه، وعلى من معه من العسكر، وأذنوا لهم بالذهاب إلى أي محل أرادوه، ومن كان له دين على الديوان يأخذ نصفه حالا والنصف الثاني مؤجلا، ومن أراد السفر في البحر من التجار وغيرهم فليسافر في خفارتهم إلى أي جهة أراد، ما عدا إسلامبول، وأما الغرب والشام وتونس وطرابلس ونحوها فمطلق السراح لا حرج ذهابا وإيابا، ومن شروطهم التي شرطوها على أهل البلد أنهم إن احتاجوا إلى قومانية أو مال لا يكلفون أهل الإسكندرية بشيء من ذلك، وأن محكمة الإسلام تكون مفتوحة تحكم بشرائعها، ولا يكلفون أهل الإسلام بقيام دعوى عند الإنجليز بغير رضاهم، والحمايات من أي بنديرة تكون مقبولة عند الإنجليز الموجودين في الإسكندرية، ويقيمون مأمونين رعاية لخاطر أهل الإسكندرية، ولم يحصل لهم شيء من المكروه حتى الفرنساوية، والجمارك من كل الجهات على كل مائة اثنان ونصف؛ وعلى ذلك انتهت الشروط.
فكان من أثر ذلك، أن تزايد هياج الخواطر في القاهرة، واستبد الرعب على وجه الخصوص بطوائف العسكر الذين أفزعهم تسليم الإسكندرية ، وهي التي يعدونها أقوى مواقع الدفاع في البلاد، ويصف الشيخ الجبرتي ما وقع لهم، فيقول: «ولما شاع أخذ الإنجليز للإسكندرية داخل العسكر والناس وهم عظيم، وعزم أكثر العسكر على الفرار إلى جهة الشام، وشرعوا في قضاء أشغالهم، واستخلاص أموالهم التي أعطوها للمتضايقين والمستقرضين بالربا وإبدال ما بأيديهم من الدراهم والقروش والفرانسة التي يثقل حملها بالذهب البندقي والمحبوب الزر لخفة حملها، ثم سعوا في مشترى أدوات الارتحال والأمور اللازمة لسفر البر، وفارق الكثير منهم النساء، وباعوا ما عندهم من الفرش والأمتعة.»
ولاحظ «دروفتي» وسائر رجال بعثته بالقاهرة، أن هذا الوهم لم يشغل سواد القاهريين بالتفكير في مصيرهم، بل كان هؤلاء منهمكين في سلب الجند الذين ازدحمت بهم شوارع القاهرة، حتى صار المرء لا يرى فيها إلا عثمانيين وأرنئود يروحون ويغدون سائلين عن الذهب الذي يستبدلونه بما في أيديهم من الدراهم والقروش والفرانسة، ويبيعون فرشهم وأمتعتهم ويبحثون عن الدواب ووسائل النقل المختلفة حتى يتمكنوا من مبارحة القاهرة، ثم إن القاهريين الذين أثقلتهم الضرائب، ما كانوا يهتمون بتغير حكامهم؛ وعلى ذلك، فقد عمد الوكلاء الفرنسيون لإثارة اهتمام الشعب، وإنهاض روحه المعنوية إلى إذاعة الإشاعات عن قرب قدوم جيش فرنسي لطرد الإنجليز، وإعطاء البلاد نظاما سياسيا ثابتا في صالح محمد علي، ففعلت هذه الإشاعات فعلها، وصدقها القاهريون، وعاد الهدوء رويدا رويدا، وسكنت الجماهير، ثم استرد الأتراك والأرنئود شجاعتهم، ولم يعد قسم كبير من الجنود يظهر الرغبة الملحة في الذهاب إلى الشام، وأفاد «طبوز أوغلي» من هذا الهدوء، فشرع في إرسال جملة طوائف من الجند إلى رشيد ودمنهور والمواقع الرئيسية في البحيرة، ولو أن هذه الإجراءات كانت تسير ببطء، ودون تصميم قاطع، لما أصاب عزائم الجميع من وهن وضعف بسبب غياب محمد علي.
واعتقد «دروفتي» أن المشايخ والعلماء وأصحاب الأملاك من أعيان القاهرة الذين تورطوا في تلك الثورة التي أفضت إلى المناداة بولاية محمد علي ثم آزروه أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، هم الذين وجب أن يستبد بهم الخوف أكثر من غيرهم من انتصار الإنجليز الذي يتبعه حتما انتصار المماليك، واسترجاعهم لسلطانهم السابق في حكومة مصر، وعودتهم إلى القاهرة، وتوقع «دروفتي» لذلك أن يلقى كل معاونة منهم، ولا سيما السيد عمر مكرم في استنهاض همة القاهريين وحثهم على الاستعداد للمقاومة، إذا زحف الإنجليز على القاهرة، ولكن «دروفتي» سرعان ما صدم في آماله عند مقابلته للسيد عمر وحديثه معه، فقد كتب إلى «سباستياني» في 26 مارس: «والسيد عمر مكرم المتورط بدرجة خطيرة مع البكوات (ومن المتوقع لذلك أن يسيء هؤلاء معاملته إذا دخلوا القاهرة) لا ينشط - كما يبدو لي - ذلك النشاط الذي تتطلبه الظروف الراهنة، ولعل السبب في ذلك فلاح الوكلاء الإنجليز في كسبه إلى جانبهم، فقد أعطاه هؤلاء كل الضمانات التي يطلبها منهم لحماية شخصه وأمواله، فإذا كان هذا هو الواقع، فإن محمد علي لا يستطيع الاعتماد على مؤازرة أهل القاهرة له؛ لأن هؤلاء بسبب إرهاق الأرنئود لهم لن يقبلوا على مساعدتهم والدفاع عنهم؛ حتى يتخلصوا من ظلمهم واستبدادهم بالأهلين»، وقد شكا «دروفتي» بعد ذلك بيومين من مسلك عمر مكرم الذي بلغه عنه أنه أخفى عنده الترجمان الإنجليزي يوسف عزيز الذي يقوم بأعمال القنصلية العامة في القاهرة، بعد أن كان قد طلب جواز مرور للذهاب إلى رشيد وحصل عليه، ثم علق على هذا الحادث بقوله: فإذا كان هذا صحيحا، فلا مجال للشك عندئذ في أن هذا المهيج الشعبي المقتدر قد انحاز إلى الإنجليز وكسبه هؤلاء إلى جانبهم، وأنه أراد العثور على وسيلة يأمن بها على سلامة نفسه، الأمر الذي يفسر مسلكه في هذه اللحظة وهو مسلك يكاد يكون طابعه عدم الاهتمام التام.
ويتضح مبلغ تخاذل القاهريين ومشايخهم وخصوصا عمر مكرم، ثم تخاذل الجند ورؤسائهم الذين كانوا بالقاهرة وقت هذه الأزمة، بل ومبلغ اليأس الذي استولى على كتخدا بك وديوان أفندي بسبب هذا التخاذل من الأقوال التي أدلى بها يوسف عزيز الترجمان الأول للبعثة الإنجليزية في مصر، ووكيل الميجور «مسيت» في القاهرة، عندما دار البحث أو التحقيق في صقلية بعد فشل حملة «فريزر» نهائيا في أسباب هزيمتها ، وكان يوسف عزيز من بين الأسرى الإنجليز الذين غادروا القاهرة في 14 سبتمبر، فقد سئل هذا عن موقف سكان القاهرة عند نزول الإنجليز في الإسكندرية، وعن موقف الجنود العثمانيين، كما سئل عن كتاب بعث به قنصل روسيا والنمسا العام في مصر «ماكاردل»
Macardle
بناء على طلب عمر مكرم - إلى «مسيت» وقادة الحملة الإنجليزية بالإسكندرية، فأجاب بما يلي: أظهر جميع أهل القاهرة فرحهم بصورة علنية لوصول الإنجليز، وفي اليوم التالي لإذاعة خبر نزول هؤلاء إلى الإسكندرية من سفنهم، بدأ القاهريون يردون إهانات الأرنئود الذين اعتاد هؤلاء توجيهها لهم بقولهم للأرنئود: إن الإسكندرية قد احتلها جند أوروبيون، ثم إن رؤساء الشريعة أنفسهم أي العلماء والمشايخ كانوا متفقين فيما بينهم على عدم السماح للجنود العثمانيين بدخول القاهرة إذا عاد هؤلاء منهزمين على يد الإنجليز، بل إنهم رفضوا تلبية طلب الحكومة منهم أن يأمروا السفن بالتسلح.
ثم إن عددا من رؤساء الجند الأرنئود اتفقوا فيما بينهم كذلك على الذهاب إلى إمبابة، وانتظار الجيش الإنجليزي بها؛ وذلك حتى يطلبوا من القائد الإنجليزي وقد ألقوا بسلاحهم أن يأذن بنقلهم هم وأتباعهم وأموالهم وعتادهم إلى «تريستا»، أو إلى أي مكان آخر يكون فيه في مأمن من انتقام الحكومة العثمانية منهم، وقد بلغ عدد الجنود العثمانلي والأرنئود الذين تركوا سلاحهم عندما بلغهم وصول الإنجليز إلى الإسكندرية ألفا وخمسمائة، وقد أخفى هؤلاء أنفسهم في بيوت المدينة في الأحياء الأكثر عزلة عن غيرها، ولم يجرءوا على الظهور إلا بعد وصول الأسرى الإنجليز إلى القاهرة، وأما حسن باشا وكثيرون من الرؤساء الأرنئود غيره فقد أخفوا أموالهم حتى أثاث منازلهم، وعندما شهد كتخدا بك «طبوز أوغلي» وديوان أفندي ما أبداه الأهلون من فرح ظاهر بقدوم الإنجليز إلى الإسكندرية، بادر كلاهما بحزم أمتعتهما، وأعدا الهجن اللازمة لنقل عتادهما إلى الشام، وهو المكان الذي انتويا الالتجاء إليه والنجاة بأنفسهما، وقد صادرت حكومة القاهرة - بعد قليل من وصول الإنجليز إلى الإسكندرية - خطابا بالشفرة، كان قنصل النمسا وروسيا العام «ماكاردل» يحاول إرساله إليهم، أكد يوسف عزيز الذي كان يقيم مع «ماكاردل» في منزل واحد أن هذا الأخير قد كتبه بناء على رجاء السيد عمر مكرم له وجماعة آخرين من رؤساء المشايخ والعلماء، وذلك ليؤكدوا لمسيت و«فريزر» صدق نواياهم الطيبة نحو الإنجليز.
ومع ذلك فقد كانت لا تزال لدى «دروفتي» بارقة أمل في إمكان استنهاض همة عمر مكرم وسائر المشايخ أصحاب النفوذ الكبير على القاهريين، ثم رجال الحكومة لأن هؤلاء جميعا - كما قال - كانوا يعتقدون أن الإنجليز لن يستمروا طويلا في احتلال البلاد، وأن الفرنسيين سوف يرسلون - لا محالة - جيشا لطردهم منها، وقد سعى «دروفتي» جهد طاقته حتى يؤكد هذا الاعتقاد الذي من شأنه - على الأقل - إحباط نشاط أعدائنا، وتمكين الباشا من العمل من غير خوف من حدوث ثورة داخلية، ثم بعث «دروفتي» برسول إلى الصعيد يحمل تعليمات إلى رجال موثوق بهم من جماعتي سليمان بك الجرجاوي وشاهين بك البرديسي لحمل هذين على الوقوف موقف الحياد في هذه الأزمة.
وزادت المتاعب في القاهرة عندما لجأ إليها الكثير من أهالي الفيوم وهم في أسوأ حال من الشتات والعري مما فعل بهم ياسين بك، وكان ياسين بعد انهزامه على يد الألفي في الفيوم في أكتوبر 1805، وهربه مع جماعته للانضمام إلى سليمان بك المرادي، قد بعث يطلب من البكوات - هو وكاشف الفيوم الذي أعلن هو الآخر عصيانه على محمد علي - مرتبات للجند في آخر عام 1806، فلما لم ينالا شيئا أرسلا إلى الباشا مندوبين عنهما يسألونه الصفح عنهما، وقد تقدم كيف أن الباشا قد قبل رجاءهما وصفح عنهما في ديسمبر من ذلك العام، ولكن ياسين استمر يعيث فسادا في الفيوم، وانتهز فرصة انشغال محمد علي بمسألة بكوات الصعيد، ثم مجيء حملة وصل بأسطوله إلى أبي«فريزر»، فعول على تجربة حظه وامتلاك القاهرة؛ لأنه حقد على محمد علي دائما - وهو الأرنئود مثله والذي اعتبره ياسين مغامرا من طرازه هو نفسه - وصوله إلى الولاية؛ وعلى ذلك، فإنه لم يمض يوم على وصول لاجئي الفيوم إلى القاهرة حتى كان هو قد وصل إلى ناحية دهشور في 27 مارس، وأرسل مكاتبة إلى السيد عمر مكرم والقاضي عارف أفندي وسعيد أغا وكيل دار السعادة يذكر فيها: أنه لما بلغه وصول الإنجليز أخذته الحمية الإسلامية، وحضر وصحبته ستة آلاف من العسكر؛ ليرابط بهم بالجيزة أو بقليوب، ويجاهد في سبيل الله، فكتبوا له أجوبة مضمونها إن كان حضوره بقصد الجهاد فينبغي أن يتقدم بمن معه إلى الإسكندرية، وإذا حصل له النصر، تكون له اليد البيضاء والمنقبة والذكر والشهرة الباقية، فإنه لا فائدة بإقامته بالجيزة أو قليوب وخصوصا قليوب بالبر الشرقي.
وفي 28 مارس كتب «دروفتي» أن كتخدا بك قد أرسل جندا إلى رشيد ودمنهور بقيادة طاهر باشا وبونابرتة الخازندار، بينما يستعد حسن باشا للخروج إلى الوجه البحري، ثم علق على ذلك بقوله: ولكن غياب محمد علي يؤثر على كل هذه الحركات، فهي بطيئة، وحتى إن «دروفتي» طلب الذهاب بنفسه إلى محمد علي، ولكن «طبوز أوغلي» وسائر رجال الحكومة منعوه من الذهاب، وطلبوا إليه البقاء في القاهرة؛ لأن وجوده بها مرغوب فيه في الظروف الراهنة، وعندئذ أعاد «دروفتي» الكرة على كتخدا بك بشأن إرسال ططري إلى القسطنطينية، ولكن هذا رفض إرساله قبل حضور محمد علي الذي قال إنه سوف يكون قريبا، وأما الأخبار التي جاءت القاهرة عن محمد علي وقتئذ فكانت مطمئنة، إذ أكد له «طبوز أوغلي» أن الباشا قد انتصر على المماليك، وفاجأ جنده معسكر شاهين بك الألفي، وهزموه، وأن الباشا قد انتصر كذلك في معركة قريب أسيوط، استولى بفضلها على هذه البلدة، وأن إبراهيم بك وعثمان بك حسن لم يشتركا في هذه المعركة، وآثرا الانسحاب إلى الجبال، وأكد كتخدا بك أن عثمان حسن قد عقد صلحا منفردا مع الباشا الذي كساه بالفرو، وأعطاه لقب أمير الحج، وأن شاهين الألفي وحده هو الذي استجاب لنداءات الإنجليز، ونزل من الصعيد قاصدا إلى إقليم البحيرة.
وكان مجيء ياسين بك إلى جهة دهشور، واعتزامه الإقامة بجنده بالجيزة أو قليوب سببا في عدم خروج حسن باشا إلى إقليم البحيرة، فقد استقر الرأي على أن يقيم حسن باشا بالجيزة لئلا يأتي ياسين بك ويملكها، فعدى حسن باشا يوم 30 مارس وأقام بها وأعرض عن السفر إلى جهة البحيرة.
ولما كانت قد جاءت الأخبار من محمد علي بعزمه على الرجوع إلى القاهرة قريبا، حيث إن العساكر يطالبون بالعلائف، ويأمر رجال حكومته بتحصيل ذلك، وتنظيمه ليتسلموها عند حصولهم بمصر، ويتجهزوا لمحاربة الإنجليز، فقد صار في وسع الكتخدا بك الموافقة على إرسال الططري إلى القسطنطينية على نحو ما طلب «دروفتي»، لا سيما وأن «طبوز أوغلي» لم يلبث أن وقف على المعلومات التي أرادها عن مسلك حامية الإسكندرية عندما جاءت رسالة من أهل دمنهور في 2 أبريل خطابا إلى السيد عمر النقيب مضمونه أنه لما دخلت المراكب الإنجليزية إلى الإسكندرية هرب من كان بها من العساكر وحضروا إلى دمنهور، وقد حملت هذه الرسالة - علاوة على ذلك - أنباء على درجة بالغة من الخطورة عن موقف حاكم دمنهور نفسه، وتعرض هذه للغزو وعجزها عن الدفاع إذا زحف الإنجليز عليها، فإن كاشفها ومن معه من العسكر عندما شاهدوا هؤلاء العسكر يحضرون إلى دمنهور انزعجوا انزعاجا شديدا وعزموا على الخروج من دمنهور، فخاطبهم أكابر الناحية قائلين لهم كيف تتركوننا وتذهبون ولم تروا منا خلافا؟! وقد كنا فيما تقدم من حروب الألفي من أعظم المساعدين لكم، فكيف لا يساعد الآن بعضنا بعضا في حروب الإنجليز؟! فلم يستمعوا لقولهم لشدة ما داخلهم من الخوف، وعبوا متاعهم، وأخرج الكاشف أثقاله وجبخانته ومدافعه وتركها وعدى، وذهب إلى فوة من ليلته، ثم أرسل في ثاني من أخذ الأثقال، ثم إن القواد الذين أرسلهم «طبوز أوغلي» لمحاربة الإنجليز لم يلبثوا أن صرفوا نشاطهم لفرض الإتاوات والمغارم على البلاد التي مروا بها، فنزل بونابرتة الخازندار على القليوبية، وفعل ما أمكنه وقدر عليه بالبلاد من السلب والنهب والجور والكلف والتساويف حتى وصل إلى المنوفية، وكذلك طاهر باشا الذي سافر في أثره، وإسماعيل كاشف المعروف بالطوبجي فرض على البلاد جمالا وخيولا وأبقارا وغير ذلك، وإسماعيل الطوبجي هو كاشف المنوفية.
على أن ذيوع الخبر بقرب حضور محمد علي إلى القاهرة سرعان ما ظهرت آثاره في إقبال السيد عمر مكرم والمشايخ على تأييد مصلحة الباشا، فقال «دروفتي» إن هؤلاء نواياهم حسنة نحو محمد علي، وينحازون إليه، وقد وصلوا إلى استنتاجات طيبة من بطء عمليات الإنجليز العسكرية، ولما كان «دروفتي» عند كتابة رسالته هذه في 2 أبريل لا يعرف شيئا عن عمليات هؤلاء، فقد قال: «والظاهر أن الإنجليز لا يريدون التحرك من الإسكندرية قبل أن يتأكدوا من تأييد البكوات لهم.» ثم اختتم رسالته بقوله: «وإني منشغل دائما بإيجاد الوسائل التي يمكن بها إلقاء العقبات التي تحول دون وقوع هذا الاتحاد، وانضمام البكوات إلى الإنجليز، الأمر الذي يهدد مصالح الباشا - إذا حدث - تهديدا خطيرا، تلك المصالح التي هي في هذه اللحظة - كما يبدو لي - متحدة تماما مع مصالح حكومتنا.» ولقد كان مسلك محمد علي دائما - كما استمر «دروفتي» يقول - متفقا مع صالح فرنسا.
ذلك إذن كان الموقف أثناء غياب محمد علي بالصعيد: القاهريون خواطرهم مهتاجة بسبب ما كان يبلغهم من أنباء حملة الإنجليز، وتسليم الإسكندرية وتخاذل أهلها، وفرار الجند إلى دمنهور بدلا من الدفاع عنها، ثم فرار كاشف دمنهور نفسه، يشاهدون هرج ومرج الرؤساء والأجناد الأرنئود والعثمانلي، يبيعون أمتعتهم، ويطلبون الدواب لنقلهم من القاهرة، ويبحثون عن النقد الذهب خفيف الحمل؛ يرقبون خروج جند طاهر باشا وحسن باشا وبونابرتة الخازندار بدعوى القتال ضد الإنجليز، ثم لا يلبث هؤلاء حتى يعودوا إلى القاهرة ينهبونهم ويسلبونهم، بعد أن يكونوا قد نهبوا وسلبوا أهل الجهات التي خرجوا إليها، يزيد اضطرابهم عندما يأتي مدينتهم لاجئو الفيوم، ثم يستبد بهم الهلع عندما يجيء ياسين بك إلى دهشور بأجناده، يهدد أبواب القاهرة، ثم يسود اليأس بينهم وسط ذلك كله وبسببه، فلا يأبهون لما قد يحدث لمدينتهم، بقيت في حوزة محمد علي أو دخلها الإنجليز والبكوات، لا يشعرون بأي عطف على الأرنئود، بل يكرهونهم ويودون الخلاص منهم، ولا يجدون في مشايخهم والسيد عمر مكرم تلك الزعامة الرشيدة التي تمسك بها هؤلاء وادعوها لأنفسهم، لتوجيههم الوجهة النافعة، وأما المشايخ والسيد عمر مكرم فقد ظهر تخاذلهم، وتقاعسهم، واطمأن عمر مكرم على - وجه الخصوص - لوعود الوكلاء الإنجليز له بتأمينه على أمواله وعلى سلامته الشخصية، فآوى أحد هؤلاء في بيته، وهم أعداء الدولة، وأعداء حكومة الباشا، وأراد مكاتبة قوادهم والاتصال بهم.
على أن الحالة في القاهرة سرعان ما تبدلت تبدلا تاما، عندما تأكد لدى القاهريين ومشايخهم وزعمائهم، أن الباشا قد اعتزم العودة من الصعيد، وعندما جاءتهم الأخبار تعلن هزيمة الإنجليز في رشيد. (6) الباشا وبكوات الصعيد
وأما سبب غيبة محمد علي الطويلة عن القاهرة (ثلاثة شهور بتمامها)، فهو أنه كان في اشتباك مستمر مع بكوات المماليك منذ أن بدأ زحفه على الصعيد في 12 فبراير، فقد كان غرض الباشا منذ وفاة الألفي شل نشاط ما كان لديه من قوات كبيرة تولى رئاستها الآن خليفته شاهين، وقدرها «مانجان» وقتئذ بستمائة من المماليك، وثمانمائة من المشاة الأرنئود والأتراك، عدا آلاف العربان، وأوفد قادري أغا يعرض على شاهين الصلح، ولكن هذا رفض الاتفاق إلا على الشروط التي كان طالب بها الألفي، وأجاب الباشا برسالة سبق أن ذكرنا مضمونها، ظهر في دبج عباراتها أثر «مسيت» على شاهين، وقضت على كل أمل في إمكان حصول أي اتفاق مع الألفية، وصار لزاما على الباشا أن يلحق الهزيمة بجيوش البكوات في الصعيد، أو إذا تعذر الانتصار عليهم انتصارا حاسما أن يبذر بذور الشقاق والتفرقة بينهم، بفضل ما قد يستطيع عرضه عليهم من شروط للصلح من المحتمل أن يقبلها فريق منهم، لما كان يعرفه عن منافساتهم وأحقادهم الشخصية وصعوبة اتحاد كلمتهم لفترة طويلة من الزمن، وغرضه من ذلك كله أن يشل نشاطهم، ويبطل حركتهم، ويلزمهم - على الأقل - الوقوف موقف الحياد في النضال المنتظر عند حدوث الغزو الأجنبي على البلاد.
وتألفت قوات محمد علي من ثلاثة آلاف من المشاة، ومثلهم من الفرسان، وست سفن مسلحة لحراسة مئات المراكب بالمؤن والذخائر وعتاد العسكر، وعندما علم شاهين بك الألفي بتحرك محمد علي غادر البهنسا قاصدا إلى جهة المنيا، حتى ينضم إلى قوات سليمان بك البواب المرابط بالقرب منها، وفي 18 فبراير وصل محمد علي إلى بني سويف، حيث وقف عندها وبعث يطلب من القاهرة كل الجنود الذين بها، على أمل أن التظاهر بالقوة العظيمة سوف يلقي الرعب في قلوب البكوات، ويحملهم على المفاوضة والاتفاق معه، ولكنه لم يلبث أن عرف من ديوان أفندي الذي جاءه بالمراسلات من القاهرة نبأ قطع العلاقات بين روسيا وتركيا، فأعاده إلى القاهرة مزودا بمكاتبات وفيها طلب جماعة من الفقهاء؛ ليسعوا في إجراء الصلح بين الأمراء المصريين وبين الباشا، فبلغها ديوان أفندي في 28 فبراير، وفي القاهرة وقع الاتفاق على تعيين ثلاثة أشخاص؛ هم ابن الشيخ الأمير وابن الشيخ العروسي وابن السيد محمد الدواخلي، فسافروا في 6 مارس إلى الصعيد، وفي هذه الأثناء كان محمد علي قد استطاع مفاجأة جند شاهين بك الألفي وسليمان بك البواب بالقرب من المنيا، واستولى على مدفعيتهم وعتادهم، وخسر هؤلاء في المعركة ثلاثمائة رجل بين قتيل وجريح وأسير، وفي 11 مارس وصلت هذه الأنباء القاهرة وصادفت هذه البشارة ورود القابجي الذي كان هو الآخر قد وصل إلى القاهرة في اليوم نفسه وعلى يده التقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر، فعمل لذلك «شنك» وضربت لذلك مدافع كثيرة من القلعة.
ولكن انتصار الباشا الأخير لم يفد شيئا في إنهاء مسألة البكوات، ولم ينعقد الصلح بينهم وبين محمد علي، ولم يعد هذا إلى القاهرة؛ ولذلك فقد وجد «طبوز أوغلي» وسائر المسئولين بها عندما جاءتهم الأخبار في مساء يوم 19 مارس عن ظهور الأسطول الإنجليزي أمام الإسكندرية، وطلب الإنجليز من أمين أغا تسليمها، أن يبعثوا في دعوة الباشا إلى الرجوع إلى القاهرة بكل أجناده بأقصى سرعة، وقد أوضحنا كيف أن «دروفتي» عند بلوغه القاهرة قد كتب هو الآخر إلى محمد علي يوصيه بعدم ترك المماليك إلا بعد أن يكون على الأقل قد نال عليهم انتصارا حاسما، ثم كيف أنه أرسل إلى أفراد موثوق بهم من جماعتي سليمان بك الجرجاوي وشاهين بك البرديسي، حتى يحملوا هذين على الوقوف موقف الحياد التام في النضال المنتظر بين حكومة الباشا والحملة البريطانية، على أنه قبل أن يتأكد في القاهرة خبر تسليم الإسكندرية نهائيا كان محمد علي قد انتصر على المماليك في معركة أخرى بالقرب من أسيوط، اختلف المعاصرون في تحديد مكانها وتاريخها، فقال «مانجان» إن الواقعة كانت بمنقباد في 2 أبريل، ويقول الشيخ الجبرتي إنها كانت بمنفلوط، وقد سجل الشيخ في حوادث ليلة الخميس سادس عشرينه؛ أي 26 مارس 1807 أن مكاتبة وردت من الباشا يذكر فيها أنه تحارب مع المصريين، وظهر عليهم، وأخذ منهم أسيوط، وقبض على أنفار منهم، وقتل في المعركة كثير من كشافهم ومماليكهم، فعملوا؛ أي في القاهرة في ذلك اليوم شنكا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة، ويؤخذ من هذا أن المعركة حدثت قطعا قبل يوم 26 مارس، وقد أشار «دروفتي» إلى هذه المعركة في إحدى رسائله إلى «سباستياني» في 28 مارس، ثم إن شاهين بك الألفي ذكر في جوابه على خطابين كان «مسيت» قد بعث بهما إليه بتاريخي 13، 15 مارس، أنه بعد أن تسلم رسالة من إسماعيل أبو صخر - وسيط «مسيت» لدى البكوات - بتاريخ 19 مارس، ينبئهم فيها بدخول البريطانيين الإسكندرية انتقل إلى أسيوط حتى ينضم إلى إبراهيم بك، ثم استمر يقول: «وبالقرب من هذا المكان وافانا محمد علي بكل ما لديه من فرسان ومشاة؛ للاشتباك معنا في معركة، ولكننا انتصرنا عليه، وقتلنا تسعمائة من رجاله، من بينهم عدد من الضباط الممتازين، فهرب الباقون إلى قواربهم وتقهقروا نازلين في النيل»، والذي يظهر من رسالته هذه أن المعركة وقعت عقب يوم 19 مارس مباشرة؛ ولذلك فالمرجح أن الواقعة التي حدثت بالقرب من أسيوط جرت بين يومي 20، 25 مارس قطعا، وقد ذهب ضحيتها ثلاثة من البكوات ذكرهم شاهين نفسه وهم سليمان بك إبراهيم ورشوان بك سليمان وسليمان بك المرادي الجرجاوي وهو الذي كان يعرف باسم ريحه، قال الشيخ الجبرتي : «إنه كان ظالما غشوما وسبب تسميته بذلك؛ (أي بريحه بتشديد الياء) أنه كان إذا أراد قتل إنسان ظلما، يقول لأحد أعوانه خذه وريحه فيأخذه ويقتله»، ومع أن شاهين ذكر أن أربعة من المماليك فحسب قتلوا في المعركة، فالثابت أن عدد من قتلوا كان خمسة عشر مملوكا، وأربعة كشاف، بينما فقد محمد علي المائتين، ومما يجدر ذكره أن عثمان بك حسن وإبراهيم بك الكبير لم يشتركا في المعركة.
ومع أن شاهين بك قد تفانى في وصف نتيجة هذه المعركة لمسيت وادعى البكوات لأنفسهم النصر، ثم ادعى الباشا لنفسه النصر كذلك، فإن محمد علي على كل حال، لم يعتبر نصره عليهم حاسما؛ ولذلك أوفد المشايخ الثلاثة إلى البكوات ليتفاوضوا في الصلح معهم، وكان هؤلاء لما وصلوا إلى الباشا بناحية ملوي استأذنوه في الذهاب فيما أتوا بسببه من السعي في الصلح، فاستمهلهم وتركهم بناحية ملوي، واستعد وذهب إلى أسيوط وأودع الجماعة بمنفلوط، وتلاقى مع الأمراء وحاربهم، وظهر عليهم في المعركة التي ذكرناها، ثم طلب المشايخ وزودهم بمكاتبات إلى البكوات، وكان هؤلاء بعد المعركة قد قصدوا إلى ملوي.
وكان في ملوي أن تسلم البكوات في 31 مارس رسائل «مسيت» التي سبقت الإشارة إليها، وخصوصا رسالته بتاريخ 15 مارس، وبادر إبراهيم بك بالكتابة إليه في أول أبريل، يعرب عن سروره العظيم والذي لا يمكن وصفه بسبب ما بلغهم من أنباء عن وصول الجيش البريطاني سالما إلى مصر؛ حيث إن حضور هذا الجيش إنما ينهض دليلا ساطعا على ما تكنه الحكومة البريطانية من عواطف الود والصداقة نحو البكوات، ويبلغ «مسيت» أنهم في طريقهم إلى الوجه البحري، وأنهم بمشيئة الله تعالى سوف يكونون بالجيزة قبل نهاية هذا الأسبوع، حتى يتسنى لهم عندئذ إجراء الترتيبات التي تنيلهم أغراضهم بمعاونة الإنجليز، وقال إبراهيم بك: إن محمد علي عندما علم بوصولنا إلى ملوي خانته شجاعته لدرجة عظيمة، حتى إنه تقهقر نازلا في النيل، ولكنه من غير المعروف لدى البكوات ما إذا كان نزوله لتحصين نفسه في القاهرة أو لمغادرة البلاد؟ فهذا ما لم يتأكد البكوات منه، ولكنهم عند وصولهم إلى الجيزة سوف يعرفون ما صح عزمه عليه، وفي كلا الحالين سواء تحصن في القاهرة أو غادر البلاد، فإن البكوات سوف يسترشدون في مسلكهم بما يسديه إليه «مسيت» نفسه من نصائح، وأما شاهين بك الألفي فقد كتب إلى صديقه المحترم جدا الميجور «مسيت» يبلغه وصول قريب إسماعيل أبو صخر إلى معسكر البكوات يحمل رسائل «مسيت» المؤرخة في 13، 15 مارس، وقد عرف من رسالة «مسيت» الأولى بإعلان الحرب من جانب بريطانيا والروسيا على الباب العالي، ولكن الشخص الذي أوفده «مسيت» لإبلاغ هذا الخبر شفويا للبكوات لم يحضر، ويقول مخاطبا «مسيت»: «ولقد أنبأتني في الرسالة الثانية بأن أولى سفن الأسطول المرسل إلى مصر قد وصلت إلى الإسكندرية وترجوني بكل سرعة ممكنة أن أسير صوب الإسكندرية أو أن أرسل شخصا من جانبي إليها، وهو رجاء لم أتوان لحظة في تحقيقه، فقد عرضت فورا رسالتك على والدنا إبراهيم بك شيخ البلد وعلى سائر البكوات الذين عظم فرحهم لذلك، وبخاصة عندما عرفوا أن بريطانيا العظمى قد أعلنت الحرب على الباب العالي من أجل إعادة السلام والهدوء وإرجاع الحكومة المملوكية في مصر.» ثم ذكر شاهين أنه تسلم خطاب إسماعيل أبو صخر، وذكر اشتباك البكوات مع محمد علي في المعركة التي سبق الحديث عنها، واستطرد يقول: «وقد قررنا جميعنا بعد هذه المعركة العودة إلى الوجه البحري، وكان أثناء سيرنا إلى هناك أن تسلمنا عند ملوي خطابيك سالفي الذكر، اللذين جعلانا نقرر السير بكل سرعة إلى الجيزة حيث من المنتظر وصولنا إليها في هذا الأسبوع، ورجاؤنا بفضل حمايتك ومساعدتك أن يتسنى لنا تحقيق كل مآربنا.» ووعد شاهين في رسالته هذه أن يبعث البكوات ببعض زملائهم حسب رغبة «مسيت» لمقابلة الجيش البريطاني؛ لإمداد الجند بكل حاجتهم من المؤن وغيرها، وأن تكون هذه الفرقة تحت أوامر القائد البريطاني لحين وصول شاهين وسائر البكوات الذي يرجو أن يكون قريبا جدا، وبعد أن ذكر له تقهقر محمد علي صوب القاهرة وسببه، وفيما لا يخرج عما جاء في كتاب إبراهيم لمسيت، أبلغه شاهين أنه قد أرسل ابنه موسى سلحدار حتى يحصل من القائد الأعلى للجيش البريطاني جوابا وتفسيرا عن كل شيء يتعلق بمسألتنا.
ولكنه بالرغم مما جاء في رسالتي شاهين بك الألفي وإبراهيم بك الكبير من تأكيدات عن نزول البكوات إلى الجيزة ومعاونتهم للجيش البريطاني، فقد كان الخلاف يسود صفوفهم، وقال الشيخ الجبرتي: إنه لما وصلتهم مراسلة الإنجليز تفرق رأيهم، وكان عثمان بك حسن منعزلا عنهم، وهو يدعي الورع وعنده جيش كبير، فأرسلوا إليه يستدعونه للحضور، فامتنع وتورع، وقال: أنا لا أنتصر بالكفار، وقال: أنا مسلم هاجرت، وجاهدت وقاتلت في الفرنساوية، والآن أختم عملي وألتجئ إلى الإفرنج، وأنتصر بهم على المسلمين، أنا لا أفعل ذلك، وعثمان بك يوسف كان بناحية الهو، والكوم الأحمر ووافق عثمان بك حسن على رأيه، واختلفت آراء باقي الجماعة، وهم إبراهيم بك الكبير وشاهين بك المرادي وشاهين بك الألفي وباقي أمرائهم.
وقد أفاد من هذه الانقسامات المشايخ الثلاثة الذين ذهبوا للمفاوضة معهم بالجانب الغربي من ناحية ملوي، وقد سجل الجبرتي ما دار في هذه المفاوضات نقلا عن هؤلاء المشايخ أنفسهم بعد عودتهم من مهمتهم إلى القاهرة فقال: «فتفاوض هؤلاء مع البكوات فيما أتوا بسببه من أمر الصلح مع الباشا وكف الحروب، فقالوا كم من مرة يراسلنا في الصلح ثم يغدر بنا ويحاربنا؟! فاحتجوا عليهم بما لقنه الباشا لهم من مخالفة البكوات لأكثر الشروط التي كان اشترطها عليهم من إرسال الأموال الميرية والغلال وتعديهم على الحدود التي يحددها معهم في الشروط، ثم إن البكوات اختلوا مع بعضهم بعضا وتشاوروا فيما بينهم، وكان عثمان بك حسن منعزلا عنهم بالبر الشرقي، ولم يكن معهم في الحرب ولا في غيره، وبعد انقضاء الحرب استعلى إلى جهة قبلي، وعثمان بك يوسف كان بناحية الهو والكوم الأحمر.
وفي أثناء ذلك ورد على الباشا خبر الإنجليز، وأخذهم الإسكندرية وأن هؤلاء قد أرسلوا رسلهم إلى الأمراء القبالي، فارتبك في أمره وأرسل إلى المشايخ يستعجلهم في إجراء الصلح وقبولهم كل ما اشترطوه على الباشا، ولا يخالفهم في شيء يطلبونه أبدا.» ولما كان البكوات قد اختلفوا فيما بينهم، وظهر الانقسام في صفوفهم بالصورة التي أوضحناها فقد اجتمعوا ثانيا بالمشايخ، وقالوا لهم ما المراد بهذا الصلح؟ فقالوا المراد منه راحة الطرفين، ورفع الحروب، واجتماع الكلمة، ولا يخفاكم أن الإنجليز تخاصمت مع سلطان الإسلام، وأغارت على ممالكه، وطرقت ثغر إسكندرية، ودخلتها، وقصدهم أخذ الإقليم المصري كما فعل الفرنساوية، فقال البكوات: إن الإنجليز أتوا باستدعاء الألفي لنصرتنا ومساعدتنا، فقالوا لهم لا تصدقوا أقوالهم في ذلك، وإذا تملكوا البلاد لا يبقون على أحد من المسلمين، وحالهم ليس كحال الفرنساوية، فإن الفرنساوية لا يتدينون بدين، ويقولون بالحرية والتسوية، وأما هؤلاء الإنجليز فإنهم نصارى على دينهم، ولا تخفى عداوة الأديان، ولا يصح ولا ينبغي منكم الانتصار بالكفار على المسلمين، ولا الالتجاء إليهم، ثم استطرد الشيخ الجبرتي يقول: «وقد وعظوهم وذكروا لهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأن الله هداهم في طفوليتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد نشئوا في كفالة أسيادهم، وتربوا في حجور الفقهاء، وبين أظهر العلماء، وقرءوا القرآن، وتعلموا الشرائع، وقطعوا ما مضى من أعمارهم في دين الإسلام، وإقامة الصلوات، والحج والجهاد، ثم يفسدون أعمالهم آخر الأمر، ويوادون من حاد الله ورسوله، ويستعينون بهم على إخوانهم المسلمين ويملكونهم بلاد الإسلام يتحكمون في أهلها، فالعياذ بالله من ذلك.»
وكان بصحبة المشايخ مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، يكلم البكوات باللغة التركية ويترجم لهم أقوال المشايخ، وهو فصيح الكلام، فقال البكوات: «كل ما قلتموه وأبديتموه نعلمه، ولو تحققنا الأمن والصدق من مرسلكم (أي الباشا) ما حصل منا خلاف، ولحاربنا وقاتلنا بين يديه، ولكنه غدار لا يفي بعهد ولا وعد، ولا يبر في يمين ولا يصدق في قول، وقد تقدم أنه يصطلح معنا، وفي أثر ذلك يأتي لحربنا ويقتلنا ويمنع عنا من يأتي إلينا باحتياجاتنا من مصر، ويعاقب على ذلك حتى من يأتي من الباعة والمتسببين إلى الناحية التي نحن فيها، ولا يخفاكم أنه لما أتى القبودان صالح باشا ومعه الأوامر بالرضا والعفو الكامل عنا والأمر له بالخروج إلى ولاية سالونيك فلم يمتثل، وأرسل إلينا وخدعنا وتحيل علينا بإرسال الهدايا وصدقناه، واصطلحنا معه، فلما تم له الأمر غدر بنا، وما مراده بصلحنا إلا تأخرنا عن ذهابنا إلى الإنجليز ، فلا نذهب إليهم ولا نستعين بهم، وإن كان مراده يعطينا بلادا يصالحنا عليها، فها هي البلاد بأيدينا، وقد عمها الخراب، باستمرار الحروب من الفريقين، وقد تفرق شملنا وانهدمت دورنا، ولم يبق لنا ما نأسف عليه، أو نتحمل المذلة من أجله، وقد مات إخواننا ومماليكنا، فنحن نستمر على ما نحن معه عليه، حتى نموت عن آخرنا، ويرتاح قلبه من جهتنا.» فقال لهم: «الجماعة هي الأخرى وليس بعدها شر ولا حرب، بل بعدها الصداقة والمصافاة، ويعطيكم كل ما طلبتموه من بلاد وغيرها، فلو طلبتم من الإسكندرية إلى أسوان لا يمنع ذلك بشرط أن تكونوا معنا بالمساعدة في حرب الإنجليز، ودفعهم عن البلاد، وأيضا تسيرون بأجمعكم من البر الغربي، والباشا وعساكره من البر الشرقي، وعند انقضاء أمر الإنجليز ورجوعكم إلى بر الجيزة ينعقد مجلس الصلح بحضرة المشايخ الكبار والنقيب السيد عمر مكرم، والوجاقلية وأكابر العسكر، وإن شئتم عقدنا مجلس الصلح بالجيزة قبل التوجه لمحاربة الإنجليز، ولا شر بعد ذلك أبدا.»
فانخدع البكوات لذلك وأقنعتهم هذه التأكيدات الرسمية بصدق نوايا محمد علي.
وأمام الحجج التي استند عليها المشايخ بمهارة في بيان أن مسلك البكوات إذا آزروا الإنجليز ضد محمد علي يكون مخالفا لتقاليدهم ومناقضا لمعتقداتهم الدينية، لم يسع هؤلاء إلا قبول السلام وكتبوا أجوبة، ورجع بها مصطفى أفندي كتخدا القاضي وصحبته يحيى كاشف، ثم رجع إليهم ثانيا، وسار الفريقان إلى جهة مصر، وحضر المشايخ وأخبروا بما حصل، وقد بلغ المشايخ الثلاثة القاهرة يوم 8 أبريل.
ومع أنه كان من الواضح أن كلا الفريقين: البكوات ومحمد علي قد بيتا النية على تعليق تنفيذ هذا الاتفاق وإبرام الصلح نهائيا على ما قد تسفر عنه حملة الجنرال «فريزر» من نجاح أو فشل، بحيث إذا انتصر «فريزر» انضم إليه المماليك فورا، وإذا أخفق استأنف محمد علي الحرب في الصعيد، فقد أحرز الباشا في هذه المفاوضة مع البكوات نجاحا دبلوماسيا باهرا، إذ أعطاه هذا الاتفاق المبدئي فسحة الوقت التي أرادها للتفرغ فورا لمواجهة الإنجليز الذين وصلته - وهو بأسيوط في 4 أبريل - أخبار نزولهم بالإسكندرية واستيلائهم عليها؛ وعلى ذلك، فقد أخلى الباشا الصعيد، ثم نزل بجيشه بكل سرعة قاصدا القاهرة، واستولى البكوات وهم سائرون على الشاطئ الأيسر للنيل على البلدان التي أخلاها الجند الأتراك والأرنئود واحدة بعد الأخرى، وكان تقدمهم صوب الجيزة بطيئا للغاية.
ودخل محمد علي القاهرة ليلة الأحد 3 صفر 1222؛ أي في ساعة متأخرة من مساء السبت الموافق 11 أبريل 1807؛ أي بعد أن وصله نبأ تسليم الإسكندرية بأسبوع واحد فقط، أتم في خلاله الاتفاق مع البكوات القبالي، ولا صحة لما يزعمه الشيخ الجبرتي الذي وقع تحت تأثير ما شاهده من رعب وفزع في القاهرة عند ذيوع الخبر بدخول الإنجليز إلى الإسكندرية، ثم اعتزام الكثير من رؤساء الأرنئود وغيرهم الفرار إلى الشام، فتوهم أن الباشا قد أصابه هو الآخر الهلع، حتى صار يتعمد الإبطاء والتلكؤ في سيره يظن - كما قال الشيخ - ورودهم (أي الإنجليز) إلى المدينة (القاهرة)، فيسير مشرقا على طريق الشام ويكون له عذر بغيبته، والواقع أن الذي قيد حركته بعض الشيء كان بطء سير الجيش بعتاده ومهماته، حتى إذا اقترب الجيش من القاهرة، تركه محمد علي وراءه، وركب النيل حتى يصل بسرعة إلى القاهرة.
وعندما دخل محمد علي القاهرة، كانت الحال قد بدأت تتبدل تبدلا محسوسا، بسبب ما بلغ القاهريين منذ 3 أبريل عن هزيمة الإنجليز في رشيد، فقد صار الناس في أول الأمر ما بين مصدق ومكذب، فلما كان يوم 5 أبريل أشيع وصول رءوس القتلى ومن معهم من الأسرى إلى بولاق، فهرع الناس بالذهاب للفرجة، وشاهدوا ورءوس القتلى على نبابيت، وتأكد الخبر، وزال عن القاهريين الوهم الذي كان مستوليا عليهم، وبدءوا يستردون الثقة في نفوسهم، وبدأ المشايخ ومعهم السيد عمر مكرم ينشطون ويتحمسون. (7) هزيمة الإنجليز في رشيد (31 مارس 1807)
وكان «فريزر» بعد الاستيلاء على الإسكندرية لا يريد مبارحتها والقيام بعمليات عسكرية جديدة؛ لاعتقاده بأن القوات التي لديه لا تكفي لاحتلال الإسكندرية، ثم الاشتباك في الوقت نفسه في معارك جديدة مع العدو، لا سيما وأن أحدا من المماليك لم يستقبل جيش الحملة أو يتقدم لمعاونتها بعد نزولها واستيلائها على الإسكندرية، على خلاف ما كان يؤكد «مسيت» حدوثه قبل حضور الإنجليز، وقد طلب «فريزر» من هذا الأخير أن يكتب إلى البكوات غداة سقوط الإسكندرية يستعجلهم في الحضور، فبعث «مسيت» إليهم برسالة بتاريخ 22 مارس معنونة باسم إبراهيم بك وعثمان بك حسن وسائر البكوات والكشاف والمماليك، أبلغهم فيها نبأ استيلاء البريطانيين على الإسكندرية، ثم رغبة الجنرال «فريزر» في تعريفهم أنه لم يحضر إلى مصر لغرض فتحها، وإنما ليمنع الحكومة الفرنسية من تنفيذ مشروعها العدواني ضد هذه المقاطعة، وحتى يعيد إليها النظام والهدوء، وليعاون تلك الجماعات أو الأحزاب التي تريد عقد أواصر الصداقة مع بريطانيا العظمى، وقد خاطب «مسيت» البكوات في هذه الرسالة بقوله: ولذلك فمن الواجب عليكم إدراك كيف أنه من صالحكم كثيرا أن تربطوا أنفسكم بنا؛ حيث إن هذا الأمل الوحيد لكم لبلوغ غاياتكم إطلاقا، ولما كنت متيقنا من أنكم تقدرون تماما المزايا التي تنتفعون بها من وضع ثقتكم التامة في سخاء وكرم جلالة الملك البريطاني، وانتفاء أية مصلحة ذاتية له، فإني أدعوكم إلى إنقاذ شخص تثقون به ليبسط مطالبكم ورغائبكم أمام قائد القوات البريطانية الأعلى، وقد تعمد «مسيت» - كما هو ظاهر من رسالته هذه، وكما أكد هو بنفسه في كتابه إلى «وندهام» يوم 23 مارس ألا يتقيد فيما كتبه إلى البكوات بأية تعهدات محددة، ولو أنه كان يعتقد - كما ذكر «وندهام» - أنه لا أمل في محالفة البكوات وصداقتهم للإنجليز، إلا إذا ساعدهم هؤلاء مساعدة قوية فعالة في فتح القاهرة والاستحواذ عليها، وسواء كان من المنتظر أن يلبي البكوات نداءاته لهم أم أنهم في هذه الظروف قد لا يلبونها - وقد كان من المتوقع أنهم لن يفعلوا بسبب انقسامهم ومساعي محمد علي لديهم واتفاقهم الأخير معه - فإن «مسيت» لم يشأ انتظار جواب البكوات، وراح يلح على «فريزر» بضرورة احتلال رشيد، وعدم الوقوف جامدا بالإسكندرية.
وكان غرض «مسيت» من حمل «فريزر» على توسيع نطاق عملياته العسكرية، أن يثبت للمماليك دعواه التي كررها لهم دائما من أن احتلال مصر بأسرها، إنما هو غرض الحملة البريطانية التي صار يؤكد لهم قرب حضورها من مدة طويلة، ورسخ في ذهنه الآن أن القيام باحتلال رشيد ودخول الجيش البريطاني في عمليات عسكرية نشيطة من شأنه أن يدفع البكوات إلى العمل، ويكون حافزا لهم على التعجيل بالحضور من الصعيد يغني في حد ذاته عن التقيد بتلك التعهدات المحددة التي امتنع عن إعطائها لهم في رسالته الأخيرة إليهم؛ وعلى ذلك، فقد راح «مسيت» بدعوى الحاجة إلى المؤن اللازمة لجيش الاحتلال بالإسكندرية، وبوصفه الرجل ذا الخبرة والدراية بالشئون المحلية والذي أوصت التعليمات المعطاة إلى «فريزر» بوجوب الإصغاء إليه، يطلب من هذا الأخير احتلال رشيد، ثم سجل مطلبه هذا في كتاب إلى «فريزر» في 23 مارس جاء فيه: «إنه عندما سلمت الإسكندرية إلى الجيش الذي تحت قيادتكم، كانت كميات الحنطة الموجودة بالإسكندرية لا تكاد تكفي سكانها مدة أسبوعين، ولما كانت الرياح المعاكسة قد ألزمت النقالات على البقاء في خليج أبي قير، فقد تعذر على القومسيير العام (المشرف على تموين الجيش) أن يحصل على إمدادات من الأسطول، واضطر لذلك إلى أخذ قسم من القمح المخصص أصلا لاستهلاك المدينة (الإسكندرية) وكان بشيء من الصعوبة أن حصل من اللحم على ما يكفي الجند يوما واحدا فحسب، وبناء عليه، فإنه لن تنقضي أيام قليلة حتى يجد الإسكندريون أنفسهم وقد حرموا من غذائهم، وسوف لا يجد الجيش مناصا من الاعتماد في غذائه على المؤن المحفوظة أو القديد وهو غذاء غير صحي أبدا في الجو الحار؛ وعلى ذلك، وبسبب هذه الظروف أجد لزاما علي بصورة قاطعة أن ألح عليك في ضرورة احتلال مدينة رشيد فورا، وكذلك موقع الرحمانية، فمن الأولى تصدر الحنطة والأرز إلى هذا الميناء (الإسكندرية)، ثم إنه باستيلائك على الرحمانية تصير لك السيطرة على إقليم البحيرة الذي يمون الإسكندرية بالشعير والأغنام والثيران الصغيرة والجاموس، ولا يسعني إلا أن أذكر لك أن فرقا من الأرنئود تتدفق على مصر باستمرار، الأمر الذي يزيد من أعداء أولئك الذين يسومون الخسف أهل هذه المقاطعة التعسة، وينزل هؤلاء عند مجيئهم في دمياط، وإذا كنت لا ترى من الحكمة احتلال هذه المدينة، فإنه ليبدو ضروريا ولا غنى عنه أن يسأل القائد الأعلى لقوات جلالة الملك البريطاني البحرية في هذه السواحل لوضع مركب حربي عند هذا الميناء دمياط حتى يحول دون نزول الجند الذين تحملهم السفن إليه.»
وتردد «فريزر» في مبدأ الأمر؛ لعلمه أن في إنفاذه حملة إلى رشيد، خرق للتعليمات التي لديه والتي طلبت منه احتلال الإسكندرية فحسب، ولكنه لم يلبث أن غير رأيه بسبب إلحاح «مسيت» المستمر، ثم موافقة السير «داكويرث» على أخذ رشيد، وكان «داكويرث» بعد أن فشلت مظاهرته البحرية أمام القسطنطينية، قد وصل بأسطوله إلى أبي قير في 22 مارس، ولم يغادرها إلا يوم 29 مارس بعد أن ترك السير «توماس لويس»
Sir Thomas Louis
من قطع أسطوله لتعزيز عمليات «فريزر» ضد رشيد، ورأى «فريزر» أن من واجبه تبرير هذا القرار الذي وصل إليه، فكتب إلى «وندهام» في 27 مارس يوضح الأسباب التي دعته إلى إرسال قسم من الجيش للاستيلاء على رشيد والرحمانية، والإجراءات التي اتخذها لتحقيق هذه الغاية، كما خصص جزءا من رسالته لبيان المعلومات التي حصل عليها، والتي كان غرض «فريزر» من ذكرها إقامة الدليل على أنه محق في الخطوة التي اتخذها، فقال: إنه بالرغم من التعليمات التي أصدرها «وندهام» إلى الجنرال «فوكس» في 21 نوفمبر 1806، وتلك التي أصدرها هذا إليه في 21 فبراير 1807 وهي تخوله الاستيلاء على الإسكندرية فقط، فإن ما بسطه «مسيت» من أسباب في عبارات قوية تضمنها كتابه إليه جعلته بموافقة «داكويرث» يرضى بالرغم من معارضة ذلك لميوله معارضة شديدة بإرسال قسم من القوات التي تحت قيادته للاستيلاء على رشيد والرحمانية، وأن يعهد بهذه المهمة الميجور جنرال القائد «ووكوب»
Wauchope
مع «ميد»
Brigadier-General Meade ، مع فرقته التي تتألف من الآلاي الواحد والثلاثين والقناصة البريطانيين، بما يبلغ الألف وأربعمائة رجل إلى جانب تزويدهم بمدفعية ملائمة وغير ذلك من عتاد الحرب، وعلى أن يعودا أدراجهما بعد تنفيذ هذه المهمة وترك حاميات كافية في رشيد والرحمانية، وطلب «فريزر» نجدات جديدة كبيرة؛ حيث إن إرسال هذا القسم من جيشه إلى جانب الأقسام الأخرى التي كانت تحتل قلعة أبي قير والقطع (قطع المعدية) بالإضافة إلى ضرورة احتلال بعض المواقع الأخرى أثناء العمليات المقبلة، من شأنه إنقاص ما لديه من قوات، وذلك كله عدا حاجته إلى عدد كاف من الجند معه لرد أي هجوم قد يقع عليه هو بالإسكندرية، على أن تحضر هذه النجدات الكبيرة إليه فورا.
ثم إن «فريزر» طلب كذلك في رسالته هذه أن ترسل إليه حكومته تعليماتها ورغباتها بصدد ما تراه في مسألة إسداء العون أو عدمه إلى المماليك؛ لتمكينهم من الاستيلاء على القاهرة وطرد الأرنئود كلية من مصر بأسرها، وتلك أشياء قال «فريزر»: إنه يعرف أن مقصد المماليك منصب على تحقيقها، وأن الميجور «مسيت» قد شجعهم على انتظار مساعدة البريطانيين لهم في ذلك، ثم استطرد «فريزر» يقول إنه قد بعث برسائل ودية إلى رؤساء العربان الذين فهم عن أكثرهم أنهم يكنون الود للبريطانيين، كما أنه قد أرسل كتبا مصاغة في عبارات عامة إلى المماليك، تتضمن بيانا عن حسن نوايا الحكومة البريطانية نحوهم وتعبر عن رجائه في أن يظل هؤلاء في علاقات طيبة دائما مع البريطانيين.
وأما المعلومات التي أرسلها «فريزر» إلى «وندهام»، فقد أفرد لها قسما خاصا من كتابه - كما ذكرنا - فقال: «تفيد الأنباء التي بلغتنا بأن باشا القاهرة محمد علي قد غادرها من شهر مضى تقريبا في طريقه إلى الصعيد، وأنه موجود مع أكثر قواته ببني سويف، حسب ما بلغنا من آخر الأنباء عنه، وأن القنصل الفرنسي كان يلح عليه بقوة للنزول والسير إلى الإسكندرية لمقاومة الإنجليز في حالة مجيء الأخبار عن اقتراب حملتهم من مصر، وأن المتوقع أن الباشا سوف لا يحاول ذلك بعد أن لقى من جانب المماليك ما أوقفه في التحامه معهم، ولأن لديه ما يكفي أشغاله في الوقت الحاضر، وأن جميع الأرنئود من كل الأوصاف وبما يبلغ الاثني عشر ألف رجل، هم في خدمة محمد علي وأصدقائه، وأن معظم الزعماء العرب إن لم يكونوا جميعهم ميولهم طيبة جدا نحو الإنجليز، وأن سكان الإسكندرية ميولهم عموما طيبة جدا نحونا كذلك، وأنهم إنما أرغموا إرغاما يوم 18 مارس على قتالنا، الأمر الذي أميل إلى الاعتقاد بأنه الواقع، وأن القنصل الفرنسي «دروفتي» استطاع الهرب قبل تسليم الإسكندرية، وذهب إلى القاهرة من رشيد، وأن الشيخ محمد المسيري - الذي يعتبر بمثابة القديس في الإسكندرية - صاحب ميول ودية نحو الإنجليز، ويرحب، أو يتظاهر بأنه يرحب بمجيئهم، وأن الميجور «مسيت» قبل وصولي بمجرد أن علم بأن الحملة في طريقها في عرض البحر إلى مصر أبلغ هذا النبأ إلى البكوات، وأكد لهم بأن حكومتهم سوف يعاد تأسيسها في البلاد، ويقول: إن الذي حدا به إلى اتخاذ هذه الخطوة، علمه بأن باشا مصر محمد علي كان يحاول جادا لعقد السلام مع البكوات.»
تلك إذن الأسباب التي برر بها «فريزر» مخالفته للتعليمات التي لديه، والتي قصرت الغرض من حملته على الاستيلاء على الإسكندرية واحتلالها، وأظهر هذه الأسباب - كما رأينا - الاعتقاد بأن سكان الإسكندرية معرضون لخطر الموت جوعا إذا لم يأخذ الجنود البريطانيون رشيد والرحمانية وتتضافر عوامل أخرى، أهمها عدم توقع أي دفاع عنها يأتي من جانب محمد علي، ثم انتظار أن يقنع نجاح هذه العملية العسكرية المعتقد أنها سوف تكون بمثابة نزهة حربية البكوات بالنزول من الصعيد لمؤازرة جيش الاحتلال البريطاني، ولكن «فريزر»، وقد وافق أخيرا على الأخذ برأي «مسيت» أضاع بضعة أيام في الاستعداد الذي اتضح - كما سنرى - أنه كان استعدادا ناقصا، فكان فقط في 29 مارس 1807 وبموافقة نائب أمير البحر السير «جون داكويرث» - الذي أبحر في اليوم نفسه - كما قدمنا - إلى صقلية تاركا في القيادة البحرية السير «توماس لويس» - أن سير قوة من حوالي الألف وأربعمائة جندي من الآلاي الواحد والثلاثين بقيادة «ووكوب» و«ميد»، سارت برا إلى قصر أبي قير حيث كان الكابتن «هالويل» قد أعد به سفنا مسلحة لنقل الجنود إلى منفذ بحيرة إدكو الذي يصل بينها وبين خليج أبي قير، فأقام الجند قاعدة ارتكاز أو محطة
Caravansera
أو قيروان سراي بالقرب من هذا المنفذ، وساروا منها في تعب ومشقة حتى وصلوا إلى مرتفعات أبو منضور جنوب رشيد والمطلة عليها، فاتخذوا بها مواقعهم في مساء يوم 30 مارس، وكان مع هذه الحملة كرئيس للأدلاء أو المرشدين لها في سيرها «فيشنتزو تابرنا».
وكان برشيد وقتئذ قوة سليمان أغا الذي اضطر إلى الارتداد إليها منذ حوادث 15، 20 مارس التي صحبت تسليم الإسكندرية، وهذا عدا حوالي المائتين من الجنود العثمانلي المجلوبين من دمنهور وحامية رشيد الأصلية، وقد تراوح عدد الجنود جميعهم بها بين 450، 550 حسب تقديرات «مسيت» و«تابرنا» و«مانجان»، كانوا مسلحين تسليحا رديئا، ولا ذخائر كافية معهم، ولا أثر لأية روح معنوية لديهم؛ لأنهم على وجه الخصوص ما كانوا يستطيعون الاعتماد على مناصرة أهل رشيد لهم، وقد كتب منها منذ 27 مارس «روشتي» إلى «البطروشي»، وكان الأخير يقيم وقتئذ في قرية قريبة من رشيد، أن الشيخ حسن (وهو السيد حسن كريت نقيب الأشراف برشيد) قد استمر في هذه الأيام الأخيرة يبذل قصارى جهده دون انفكاك لإقناع أهل رشيد والجند الذين بها معا بأن المكان لا يمكن الدفاع عنه، ولا يزال الشيخ حسن كريت يعمل بطريقة تفضي إلى إغراء الجنود على إخلاء المدينة، ويبدو أن هؤلاء قد بدءوا فعلا يتبعون نصائحه ويخلون المدينة مما سوف يكون عند تمامه مبعث راحة عظيمة لنا، ولجميع السكان على السواء، والواقع أن الشيخ حسن كريت كان قد نجح في التأثير على الأهالي، وإقناعهم باستحالة الدفاع عن مدينتهم ضد الإنجليز، حتى إنهم صاروا لا يخفون ولاءهم لهؤلاء الأخيرين، وميولهم الودية نحوهم، ثم إن مساعي الشيخ لدى الجنود لإغرائهم على الانسحاب من رشيد وإخلائها، جعل مقاومة هؤلاء للإنجليز عند قدومهم ميئوسا منها.
وبالفعل ظهر كأنما الإنجليز لن يلقوا أية مقاومة في هجومهم على رشيد، عندما لم يعترض سيرهم شيء، حتى وصلوا إلى مرتفعات أبو منضور وبدا كل شيء هادئا، وساد الاعتقاد بأن المدينة سوف تسقط من غير قتال، وقرر «ووكوب» لذلك دخول رشيد في اليوم التالي، وفي 21 مارس خرج قسم من حامية رشيد لملاقاة العدو خارج أسوار المدينة وتبادل مع كشافة الإنجليز الذين أرسلوا للاستطلاع إطلاق الرصاص، ولكن هؤلاء أرغموهم على الارتداد والدخول إلى مدينتهم ثانية، وعندئذ نظم «ووكوب» قواته في ثلاثة طوابير، الأول لاقتحام المدينة من ناحية البساتين الممتدة على طول شاطئ النيل، والثاني لاقتحامها من الوسط؛ أي من باب المدينة الرئيسي، والثالث في الميسرة لاقتحامها من باب الإسكندرية، وفي هذا الترتيب لم يحتفظ «ووكوب» بقوة احتياطية تحمي مؤخرته إذا حدث تقهقر وارتداد، أو تمنع العدو من الخروج من المدينة لمحاولة إشغال الجنود وإزعاجهم وهم يقاتلون بداخلها، فكان إغفال تنظيم هذه القوة الاحتياطية خطأ من جانب قائد الحملة الذي أغفل كذلك توضيح نوع المقاومة التي قد يلقاها جنوده وضباطه داخل مدينة مزدحمة بالمباني، وإرشادهم إلى الوسائل التي يستطيعون بها التغلب عليها، والظاهر أن «ووكوب» كان يعتقد - بفضل المعلومات التي لديه عن الحالة في رشيد - أن الجند المدافعين عنها سوف يضطرون إلى إخلائها عند دخول الإنجليز واقتحامهم لها أو التسليم كأسرى حرب، ومن المحتمل كذلك أنه كان يجهل طرق العثمانيين في الدفاع داخل مدينة يجدون في مبانيها ودورها وسائل للوقاية من نيران العدو من جهة، ومواقع قد يستخدمونها في إصلاء العدو نارا حامية من النوافذ والطيقان وما إليها، وهم ممتنعون خلف جدرانها من جهة أخرى، ثم إن شوارع المدينة الضيقة تمكن المدافعين عنها إذا شاءوا الثبات والصمود والمقاومة من الالتحام مع عدو يجهل على وجه الخصوص مسالكها، فرادى أو جماعات صغيرة؛ حيث إنه من المتعذر - لضيق الدروب والشوارع - تجمع وحدات كبيرة بها، وفضلا عن ذلك فقد أهمل «ووكوب» - لاعتقاده دائما بأن الأرنئود والعثمانلي سوف يسلمون أو يخلون المدينة - القيام بعمليات استكشافية دقيقة أو كاملة، ولم تتجاوز التعليمات التي أصدرها إلى جنده مطالبتهم بالدخول إلى المدينة فحسب، حقيقة كان بعض الأرنئود قد بدءوا يتقهقرون عند بدء الهجوم، وأعطيت الأوامر لحرق رشيد، وبعث بعض التجار والمسيحيين بها يطلبون ضمانات من الإنجليز لحمايتهم وتأمينهم، ولكنه فات على «ووكوب» إدراك أنه من النادر جدا أن يلقي العثماني أو الشرقي سلاحه، وأنه لا يتوقع أن ينال رحمة من أحد؛ حيث إنه هو نفسه لا يرحم أحدا، وأنه؛ أي العثماني أو الشرقي قد يفر هاربا دون تردد إذا سنحت الفرصة، ولكنه إذا لم تكن هناك وسيلة أخرى غير الصمود والدفاع عن نفسه، فإنه سوف يدافع عن نفسه حتى اللحظة الأخيرة، ولن يبيع حياته عندئذ بثمن بخس، وتلك كانت أخطاء عزا إليها «مسيت» فيما بعد بعض الأسباب الهامة التي أدت في نظره إلى فشل الحملة؛ لأن الإنجليز انهزموا شر هزيمة في هذه الواقعة.
فقد بدأت الطوابير الثلاثة حركتها حسب الأوامر المعطاة لها، ودفع طابورا الجناحين أمامهما في أول الأمر العدو حتى أرغماه على الانسحاب والارتداد السريع، ولكن الطريق الذي كان على الطابور الأول أن يسير فيه لاقتحام البلدة كان صعبا؛ لأنه كان ممتدا على طول حافة النهر (النيل) ويقع على يساره مرتفع مغطى بالأحراش، وأهمل «ووكوب» احتلال هذا المرتفع، ولو أنه فعل لما استطاع المدافعون القيام بحركة خروج مسلح للاشتباك مع المهاجمين، زد على ذلك أن «ووكوب» أخطأ خطأ كبيرا في اجتياز هذا الطريق؛ لأن أسوأ المعلومات عنه ومهما كانت ناقصة، ما كان ينبغي حتى مع قصورها هذا أن تجعله يقرر اتخاذه مدخلا لاقتحام المدينة منه؛ وعلى ذلك، فقد تعرض المهاجمون من هذا الطريق لضرب شديد متصل من المرتفع الذي سبقت الإشارة إليه، وكذلك من مرتفع آخر على ضفة النهر المقابلة دون أن يستطيعوا المجاوبة، فكانت مفاجأة أشاعت الاضطراب في صفوف المهاجمين الذين اضطروا إلى ترك المدفع الذي كانوا يجرونه بأذرعهم، وفقدوا ثلثيهم بين قتيل وجريح، وعندئذ خرجت حفنة من فرسان المدافعين كادت تجهز تماما على البقية الباقية منهم.
وأما الطابور الثاني المكلف باقتحام المدينة من بابها الرئيسي في الوسط، فإنه لم يلبث أن قام بحركة انتشار غير حكيمة، عندما صار على بعد ثمانين ياردة فقط أو ثمانمائة متر تقريبا من منازل المدينة، فتعرض لضرب شديد من مبانيها وطيقان أسوارها، ولكن المهاجمين استطاعوا إسكات هذا الضرب، ثم تمكنوا بعد مشقة من فتح ثغرة في السور تدفق منها المهاجمون وعلى رأسهم الجنرال «ووكوب» إلى داخل المدينة، فأخلى الأتراك والأرنئود المنازل الأمامية، وتقدم الإنجليز بسرعة ودون تكبد خسائر كبيرة إلى وسط المدينة، ولكن دون أن يكون لهم هدف محدد كذلك.
وكان عندئذ أن عرف «ووكوب» أن الطابور الثالث قد أبدى ترددا في اقتحام المدينة من جهة باب الإسكندرية، بسبب مقاومة المدافعين عنه الذين أرغموهم على الارتداد، فأسرع «ووكوب» بالذهاب إلى هذا الموقع، ليجد أن الجنرال «ميد» قد أصيب بجرح بليغ، وأن شيئا من الفوضى منتشر بين الجند، فأعاد النظام إلى نصابه، وعاود الجند الهجوم، وفي هذه المرة تمكنوا بعد مشقة من الدخول إلى رشيد، ولكن على مسافة كبيرة من يسار الهجوم الرئيسي، وعاد «ووكوب» أدراجه لينضم ثانية إلى طابوره الثاني الذي كان عندئذ قد استولى تماما على المواقع الرئيسية بداخل رشيد، وأصيب «ووكوب» عند دخوله إلى المدينة بجرح بسيط في كتفه، ولكنه لم يشأ إطلاع أحد على إصابته، وتقدم حتى وصل إلى مكان الجند الذين وجدهم يحتلون معسكرا أو محلة صغيرة للعدو، وسكت إطلاق الرصاص من البيوت المطلة على هذا الموقع والمجاورة له، عدا بيت واحد، وكان أثناء إصداره الأمر باقتحام هذا البيت أن أصيب «ووكوب» بإصابة قضت عليه من فوره، واقتحم الجند هذا البيت وقتلوا من به من الأتراك، ولكن موت قائد الحملة كان خسارة لا تعوض.
ومع أنه لا يعرف على وجه الدقة ما حدث بعد ذلك، فالثابت أن الإنجليز استمروا مدة ساعة واحدة لا ينازعهم منازع في امتلاك المدينة، ورسخ الاعتقاد في أذهان سكانها بأن رشيد قد سقطت نهائيا في أيدي الإنجليز، حتى إن عددا من كبار أهلها وتجارها المسيحيين، ومن بين هؤلاء «روشتي» كتبوا يطلبون من المحتلين ضمانات تؤمنهم على أرواحهم وأموالهم، وبادر «روشتي» نفسه بالكتابة إلى «بطروشي » يؤكد له أن الجيش البريطاني يحتل معظم المدينة، وأن السكان لم يشتركوا في المعركة؛ أي إنهم لم يدافعوا عن مدينتهم، بل على العكس من ذلك فإنهم راحوا يختلطون بالجنود الإنجليز، وقد بعث بهذا الخبر إلي الشيخ حسن كريت حتى أبلغك إياه، ثم إن الشيخ حسن يطلب حرس شرف لنفسه، ومن رأيي أنه ينبغي عليه أن يكتب بنفسه إلى القائد في ذلك كما اقترحت عليه في وقته، ولكن ما رأيك أنت في هذا كله؟ أرجوك إذا كان لديك وسيلة أخرى أن تحيطني علما بها؛ حيث إني في انتظار ردك علي بأقرب وقت ممكن، وقد أكد فيما بعد قومندان رشيد أو حاكمها علي بك السنانكلي أنه عندما هاجم الإنجليز رشيد للمرة الأولى لم يكن لديه سوى كمية ضئيلة من الذخائر، وأن المدينة التي كان الأرنئود قد أخلوا قسما كبيرا منها كان لا مناص من أخذ الإنجليز لها، لو أن هؤلاء لم يقعدوا ليأكلوا ويشربوا بدلا من الاستمرار في عملياتهم للاستفادة من المزايا التي كانت لهم، ثم إنه عندما سئل «تابرنا» بعد فشل حملة «فريزر» نهائيا وإخلائها الإسكندرية في الظروف التي سوف يأتي ذكرها ثم انسحابها إلى صقلية، وأريد الوقوف على أسباب هزيمة الإنجليز في رشيد، أجاب «تابرنا» على ما قدم إليه من أسئلة، بأن عدد الجند برشيد كان حوالي 450 رجلا، وأن الإنجليز لو أنهم طلبوا من حاكمها التسليم لكان الشيخ حسن كريت والسكان جميعهم قد أرغموا هذا الحاكم على التسليم بالقوة، وأن جنود حاميتها وعلى رأسهم قائد القوات الألبانية قد ألقوا بأنفسهم في النيل طلبا للنجاة بالوصول إلى الشاطئ الآخر سباحة، كما استخدم آخرون لهذا الغرض القوارب أو الألواح وقطع الخشب الطافية في النهر، حتى إنه لو لم يصدر أمر بتقهقر الجيش البريطاني لكان قد تسنى استيلاؤه على المدينة تماما، وأن أهل رشيد أبدوا أصدق العواطف نحو الإنجليز، وخرج عدد عظيم من رجال رشيد ونسائها من المدينة يحملون الخبز والماء وهم يصيحون: ينصر الله الإنجليز، وأنه بعد تقهقر هؤلاء الأخيرين، وانسحابهم ألبس عديدون من هؤلاء التعساء ملابس الجند الإنجليز القتلى، ثم ذبحوا انتقاما منهم.
والحقيقة أن فقد «ووكوب» حرم الجند من القيادة التي في وسعها إرشادهم وتوجيههم، كما أنه لم تكن هناك خطة موضوعة سلفا لبيان ما يجب على الجيش أن يفعله بعد اقتحام المدينة، فلم يعرفوا كيف يسلكون، وغرهم اختلاط الأهالي بهم وما لاحظوه من هدوء، فاعتقدوا أن العدو لن يعاود الكرة عليهم، وزاد في خديعتهم واطمئنانهم بظواهر الأمور أن «البطروشي» نائب القنصل البريطاني في رشيد، بادر بإقامة وليمة غذاء فخمة لضباط الحملة وكبارها في منزله - وقد كانت هذه من نصيب علي بك السنانكلي ورجاله بعد ذلك - فراح الجنود في جماعات صغيرة أو فرادى يجوبون أحياء المدينة وشوارعها الضيقة، وجلسوا في القهاوي والمطاعم يشربون أو يأكلون، بينما استلقى فريق منهم على الأرض ينشد الراحة، أو يطلب الظل في جوار الجدران، وذلك كله بدلا من أن يحتلوا المباني والمواقع الرئيسية في البلدة، أو يعملوا على تأمين خطوط مواصلاتهم.
لاحظ هذا الخمول وعدم النشاط علي بك السنانكلي الذي سرعان ما استرد شجاعته وثقته في نفسه عندما رأى أن أحدا لا يحاول مطاردته أو تعقبه، فعمد إلى نقل كل القوارب والسفن إلى شاطئ النيل الآخر، حتى يوقف ذهاب جنده إلى هذا الشاطئ، ويرغمهم على إطاعة أوامره، واسترد هؤلاء بدورهم شجاعتهم، ودخل بهم علي بك إلى المدينة مرة أخرى، ثم احتلوا المنازل من جديد وبدءوا في التو والساعة إطلاق الرصاص من النوافذ والطيقان على الجند الإنجليز المبعثرين في الشوارع والدروب، وفوجئ هؤلاء مفاجأة بنوع من القتال لا عهد لهم به، وصار من المتعذر عليهم أن يلموا شملهم، أو يدافعوا عن أنفسهم في أي جهد مشترك أو خطة منسقة، فسقط كثيرون منهم قتلى وجرحى، ومع ذلك فإن الموقف لم يكن ميئوسا منه؛ لأن حوالي المائة من الإنجليز بقيادة أحد ضباطهم استطاعوا الصمود في المكان الرئيسي وسط البلدة، ولكن أحد ضباط أركان الحرب تسرع في إبلاغ الجنرال «ميد» الذي تسلم القيادة العامة بعد موت «ووكوب» أن الهزيمة محققة، وأنه يخشى من إفناء الجند وإبادتهم، ولما كان «ميد» جريحا خارج البلدة ولا يعرف ما حدث بها، فقد أصدر أمره بالانسحاب منها، ووجب على الجند إطاعة الأوامر الصادرة إليهم، بالرغم من توقعهم تكبد خسارة فادحة من جراء التقهقر في الشوارع الضيقة، وعلمهم بأن العدو يهدد بقطع خط الرجعة عليهم.
ولشد ما كانت دهشة الجند الآخرين الذين كانوا مع ضابطهم لا يزالون صامدين في المكان الرئيسي بالبلدة، عندما شاهدوا زملاءهم على أهبة التقهقر والانسحاب، بينما يجد الأتراك والأرنئود في تعزيز مراكزهم خارج المدينة ومن جانبها، فلم يجدوا مناصا من الانسحاب هم أيضا، وكان عليهم أن يمروا في شارع ضيق ينتهي إلى الثغرة التي فتحت في السور وقت اقتحام المدينة، ولما لم تتسع هذه لمرور المدفع الذي كان معهم اضطروا إلى تركه.
ويقول التقرير الذي سجل حوادث حملة «فريزر»: «إن كثيرين من الجرحى بالمدينة وقعوا في يد العدو أثناء هذا الانسحاب، كما أن قسما من الجرحى الذين كانوا قد حملوا قبل ذلك خارج المدينة ووضعوا تحت حماية حرس صغير، لم يلبث الفرسان الأتراك أن أجهزوا عليهم، فكان عندئذ أن قتل البارودن «دي لوفين»
Leuwene
وهو ضابط متقدم في السن وموضع احترام عظيم، أصيب بجرح في ساقه، وحمل خارج البلدة، وهناك جاءه الفرسان الأتراك ومزقوه إربا، ووجدت الحملة الثانية إلى رشيد جذعه مفصول الرأس، وقد أظهر العدو أقصى ضروب الوحشية أثناء هذه العمليات فلم يرحم أحدا وقع في يده.» هذا ومما يجدر ذكره أنه قد قتل في معركة رشيد عدد من المهاجرين الفرنسيين الذين التحقوا بالجيش البريطاني في صقلية، هم «سانت جورج»
Saint-Georges
و«دي تو»
Thou
و«دي سومر كور»
Sommercourt
و«دي لافايت»
Lafitte
و«دي بلاتيل»
.
وبمجرد أن أعيد النظام إلى صفوف الجنود تحت إشراف الضابط «بروس»
Bruce
غادر الإنجليز رشيد وساروا حول قلعة جوليان قاصدين إلى شاطئ النيل حيث كان «هالويل» قد دخل ببعض قوارب الأسطول إلى النيل، ولكنه لم يستطع التقدم في النهر بسبب وجود هذه القلعة من جهة، ولوجود ثلاث من سفن المدفعية سدت الطريق عليه، وكانت خسارة هذه الحملة جسيمة؛ فقد قتل قائدها «ووكوب» وجرح «ميد» التالي له في القيادة جرحا بليغا، وبلغ عدد القتلى والجرحى والمفقودين أربعمائة، من بينهم كثير من الضباط، وأما الجرحى الذين وصلوا مع الجند المتقهقرين فقد حملوا إلى القوارب، ودار البحث الآن فيما يجب فعله.
ولما كان من المتعذر عمليا على «ميد» الاستمرار في القيادة فقد تولاها «بروس»، وكان الموقع الذي انسحب إليه الجند موقعا طيبا، يمكنهم من الدفاع فيه عن أنفسهم بسهولة، ويتيح تمسكهم به الفرصة لهم لإعادة تنظيم صفوفهم والبقاء قريبا من رشيد حتى إذا جاءتهم النجدات استطاعوا استئناف الهجوم عليها، ولم يكن من المنتظر أن يحاول علي بك السنانكلي ومن معه من رؤساء الأجناد الأرنئود والعثمانلي تجربة حظهم بشن هجوم عليهم، ولكن «بروس» بعد البحث مع زملائه في شتى الخطط الواجب اتباعها قرر الانسحاب إلى نقطة الارتكاز الأولى وهي المحطة أو قيروان سراي التي أنشئوها بالقرب من منفذ بحيرة إدكو، على أن يقيموا عند وصولهم إليها مركزا مسلحا لحماية الممر الرئيسي إلى الإسكندرية.
وقد احتج الكابتن «هالويل» على هذه الخطة وطلب بقاء القوة على الأقل حتى تغادر النيل القوارب المحملة بالجرحى؛ لأن وجود الأحراش يعرض هذه للخطر والهجوم عليها من جانب قوارب المدفعية التي للعدو، وكانت هذه مسلحة بمدافع أقوى من مدفعية سفنه، ولكن احتجاجات «هالويل» ذهبت سدى، وتقهقر الجيش في طريقه إلى قيروان سراي تاركا قوارب الجرحى في خطر عظيم، لو أن الريح هبت من البحر وانتهز الأتراك هذه الفرصة فنشروا جنودهم على الشاطئ، وشنوا هجوما على السفن بمساعدة مدفعية قواربهم، ولكن سفن الجرحى استطاعت بفضل هبوب ريح ملائمة مغادرة النيل في صبيحة اليوم التالي بسلام وانضمت إلى الأسطول الإنجليزي بالإسكندرية.
وأما الجنود فقد جدوا في السير حتى وصلوا إلى المحطة، أو قيروان سراي بعد تعب ومشقة، ولكنهم لم ينشئوا بها ذلك المركز المسلح الذي كان مقررا إقامته بها، بل نزلوا إلى السفن التي حملتهم إلى أبي قير.
وتضافرت أسباب عدة متنوعة على إحباط هذه الحملة الموجهة ضد رشيد وفشلها، فتجهيز الحملة كان ناقصا من حيث المؤن المزودة بها ومن حيث المدفعية التي معها، وقد أوضحت المعلومات التي اعتمد عليها المشرفون على إعداد الحملة وإرسالها أن رشيد مكان يتسنى إخضاعه بالالتجاء إلى المفاجأة أكثر من محاولة اقتحامه بالقوة، ومن الواجب الاعتراف أيضا بأن انطباع هذه الفكرة الخاطئة في أذهان قواد الحملة كان مبعث تدبير خطة العمليات العسكرية بالصورة التي تمت بها، وأن هذه الخطة بدليل ما أسفرت عنه من إصابات بين قتلى وجرحى قد أسيء تنفيذها، فلا يمكن الدفاع بتاتا عن مسألة إرسال الفريق الذي طلب منه السير في الطريق إلى اليمين، وهو طريق يصعب اختراقه عمليا، وذلك دون الاحتياط سلفا بتنظيف المرتفع من العدو، ولم يزود الجنود والضباط بمعلومات كافية عن طبيعة المهمة التي كلفوا بها، وكان يجب إعطاء الجنود العتل الحديدية والمطارق الكبيرة، ثم إنه كان يجب قبل كل شيء إشعارهم والتأكيد عليهم بضرورة اقتحام المباني القوية بالمدينة والاحتفاظ بها، كما أنه كان لا يجب الإذن بإطلاق النار حتى يتم أولا تأسيس المواقع والمراكز، ثم إنه كان لا معدى عن الاعتماد على استخدام السونكي؛ وذلك ليس لأنها السلاح الأجدى نفعا، بل لأنها أكثر من ذلك، السلاح الذي يخشاه الأتراك ويخافونه أعظم خوف من غيره.
وبلغ عدد القتلى الإنجليز يوم 31 مارس، 185 والجرحى 382، وكانت خسارة الأرنئود والجند المدافعين عن رشيد أربعين من القتلى وحوالي المائة من الجرحى، وذلك بناء على ما بلغ قنصل إسبانيا بالإسكندرية الماركيز «دالمينارا»
d’Almenara
الذي بادر بنقل تفاصيل هذه المعركة إلى السفير الإسباني في القسطنطينية في 3 أبريل، ويذكر «دالمينارا» أن الهجوم وقع على رشيد في الساعة السادسة والدقيقة الخامسة والأربعين من صبيحة يوم 31 مارس وأن القتال استمر مدة ساعتين، وأن علي بك السنانكلي بعد هزيمة الإنجليز وتقهقرهم قد عامل الأسرى معاملة طيبة، وعني بتضميد جروح الجرحى منهم، وأما القتلى فقد أرسلت رءوسهم إلى القاهرة، ويذكر «دروفتي» في رسالة له إلى «سباستياني» من القاهرة في 3 أبريل أن عدد الأسرى الذين وصلوا إلى القاهرة كان أربعين عدا أسير فرنسي يدعى «جيرار»
Gérard
أخذ معهم، وعدد الرءوس المقطوعة مائة وعشرون رأسا، وأن الأرنئود استدرجوا الإنجليز إلى داخل البلدة، وأن هؤلاء الأخيرين لم يكن معهم فرسان لاعتماد الحملة عند خروجها من صقلية على فرسان المماليك الذين توقعوا أن يجدوهم على قدم الاستعداد للانضمام إليهم والاشتراك معهم في عملياتهم العسكرية عن وصولهم إلى الإسكندرية، وكان من رأي «دروفتي» أن هذه الهزيمة سوف تعطل مشروع الإنجليز الذي يرمي إلى الاتصال بالمماليك، ثم إنها سوف تتيح الفرصة لمحمد علي للمفاوضة بنجاح مع البكوات من جهة، وتقوية حامية رشيد من جهة أخرى، ناهيك عن الأثر العظيم الذي سوف تحدثه في الرأي العام، وفي الجند العثمانيين خصوصا من حيث تعزيز ثقتهم بأنفسهم.
وأما الجنرال «فريزر» فقد نقل خبر هذه الكارثة إلى وزير الحربية «وندهام» في 6 أبريل، في كتاب حاول فيه إلقاء تبعة إرسال الحملة على رشيد على كاهل «مسيت» الذي قال «فريزر»: إنه أكد له أن عدم الاستيلاء على رشيد والرحمانية ينطوي على مجازفة خطيرة هي تعريض الإسكندرية للمجاعة، كما أن «فريزر» أشرك معه السير «جون داكويرث» في تحمل مسئولية إرسال هذه الحملة عندما قال: إن ذلك كان بموافقته، وقد تحدث «فريزر» عن أسباب الهزيمة فقال: «إن جنودنا احتلوا مرتفعات أبو منضور - التي تسيطر على المدينة - دون خسارة، ولكنه بسبب ظروف لم يمكن تفسيرها حتى الآن، وجد القائد «ووكوب» لسوء الحظ ما أغراه بالدخول إلى المدينة بجميع قواته، بدلا من الاحتفاظ بمركزه في أبو منضور، ومن غير أن يستكشف المكان سلفا، مما أدى إلى تعريض الجنود للضرب بقسوة من المنافذ، وسطوح البيوت، ودون أن يستطيعوا حتى رؤية العدو، مما ترتب عليه أنه رئي من الحكمة إصدار الأمر لهم بالانسحاب لا سيما وأن الجنرال «ووكوب» كان قد قتل، والقائد التالي له في القيادة الجنرال «ميد» كان قد أصيب بجرح بليغ.» ثم استطرد «فريزر» يذكر آثار هذه الهزيمة السيئة فقال: إن فشل هذه الحملة وانسحابها إلى الإسكندرية كان كارثة غير متوقعة ، وبخاصة لأن كل المعلومات التي لديه كانت قد جعلته يعتقد أنه إذا حدثت أية مقاومة فإنها سوف تكون تافهة ولا قيمة لها، فضلا عن جميع الاحتياطات التي قد تشير إليها الحكمة كان قد أوصى باتخاذها؛ ولذلك فليس هناك ما أعزو إليه هذه الخسائر الجسيمة التي تكبدناها إلا ما زهر من شغف وولوع عظيمين لسوء الحظ، بالسماح للجنود بدخول المدينة قبل استكشافها كما ينبغي مقدما، ووضع الجنود لذلك تحت تسلط العدو وسيطرته، وهو عدو لا يخشى بأسه عند الالتحام معه في ميدان مكشوف، ولكنه يصبح مبعث أخطار جسيمة للغاية إذا هوجم في موضع يفيد منه يقينا ويتلاءم تماما مع أساليب قتاله كذلك الوضع الذي وجد فيه.
أما هذه الهزيمة التي لحقت بالإنجليز في رشيد فقد طار نبؤها إلى الإسكندرية في 31 مارس؛ أي يوم المعركة ذاتها، كما وصلت أخبارها القاهرة أول ما وصلت يوم 3 أبريل، وكان لنبأ هذه الهزيمة وقع عظيم في الإسكندرية والقاهرة معا، ضد صالح الإنجليز، الذين أصيبت سمعتهم بسببها بضربة ماحقة. (8) محمد علي في القاهرة
سجل الشيخ الجبرتي الأخبار التي وردت إلى القاهرة يوم 3 أبريل عن هزيمة الإنجليز في رشيد، ثم تحدث عن أثرها في دمنهور فقال: «وكان كاشفها عندما بلغه ما حصل برشيد من انهزام الإنجليز، اطمأن خاطره ورجع بعد أن كان قد غادرها في الظروف التي مر ذكرها إلى ناحية ديبي ومحلة الأمير وطلع بمن معه إلى البر وصادف شرذمة من الفارين الإنجليز من رشيد إلى ناحية دمنهور فقتل بعضهم، وأخذ ما بقي منهم أسرى، وأرسلوا السعاة إلى مصر (القاهرة) بالبشارة، فضربوا مدافع وعملوا شنكا وخلع كتخدا بك على السعاة الواصلين.» وقد ذكرنا كيف خرج الناس للفرجة على الأسرى ورءوس القتلى عند وصول هؤلاء الأسرى وهذه الرءوس المقطوعة إلى القاهرة يوم 5 أبريل.
ومع أن يوسف عزيز قد أكد بعد ذلك عند سؤاله في «مسينا» في 20 أكتوبر 1807 عن الأثر الذي أحدثته هزيمة الإنجليز في رشيد في 31 مارس بأن أهل القاهرة قد صاروا يقولون علنا إن الجيش الذي هاجمها لم يكن مؤلفا من الإنجليز، وأنهم عرفوا جيدا عند وصول الأسرى إلى القاهرة كيف يميزون أن معظم هؤلاء كانوا من الأجانب، وأن كل أولئك الذين رأوا يوسف عزيز وقتذاك من القاهريين قد أكدوا له أن شعب مصر قد حزن أكثر مما حزن الإنجليز أنفسهم لهذه الهزيمة التي أصابتهم، ولكنه؛ أي شعب مصر يجد تعزيته في رجائه أن الجيش الإنجليزي سوف يعمد إلى إصلاح الخطأ الذي ارتكبه، وأنه سوف يحتل قريبا القاهرة، وتذاع الإشاعات يوميا بأن الإنجليز قد وصلتهم نجدات عظيمة حتى يرهبوا الأرنئود، ويحملوهم على مغادرة البلاد، فالثابت أن أخبار هذه الهزيمة قد أحيت معنوية القاهريين، وأزالت الوهم الذي كان مستوليا عليهم، وأثارت حميتهم وجعلتهم يهتمون بالدفاع عن مدينتهم؛ وذلك لأن أحدا من الناس ما كان يعتقد أنه يسهل الانتصار على جيش أوروبي مزود بأكمل الأسلحة وأحدثها، ولكن مشاهدة الأسرى وفيهم فسيال كبير وآخر كبير في السن، وهما راكبان على حمارين، والبقية مشاة في وسط العسكر الذين جاءوا بهم، ثم أولئك الذين خرجوا لاستقبالهم عند وصولهم إلى ساحل بولاق ورءوس القتلى معهم على نبابيت، وقد تغيرت وأنتنت رائحتها - قد نهض دليلا على أن هزيمة الإنجليز أمر يسهل إحرازه، ولا ينبغي لذلك أن يخشى الناس بأسهم.
وقد ظهر أثر هذه الهزيمة أكثر ما ظهر في مسلك السيد عمر مكرم والمشايخ عموما، فقد نبه الأول - في اليوم نفسه 5 أبريل - على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب للجهاد في الإنجليز حتى مجاوري الأزهر، وأمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ المدرسين بترك إلقاء الدروس، وفي هذا اليوم أيضا تزايد اطمئنان الناس، وتزايدت همة عمر مكرم والمشايخ عندما وصل عابدين بك وعمر بك وأحمد أغا لاظ أوغلي من الصعيد وأشيع وصول الباشا بعد يومين، ثم لم تلبث أن وصلت إلى بولاق يوم 6 أبريل جملة من الرءوس والأسرى، فطلعوا بهم على الرسم المذكور وعدتهم مائة رأس وإحدى وعشرون رأسا وثلاثة عشر أسيرا وفيهم جرحى، وقد مات أحدهم على بولاق، فقطعوا رأسه ورشقوها مع الرءوس على النبابيت وشقوا بهم من وسط المدينة آخر النهار.
ثم إن رجال الحكومة والمشايخ لم يلبثوا أن عقدوا اجتماعا ببيت القاضي يوم 7 أبريل حضره حسن باشا وعمر بك والدفتردار وكتخدا بك «طبوز أوغلي» وعمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير وسائر المشايخ، وقال الشيخ الجبرتي: «إنهم تكلموا في شأن حادثة الإنجليز والاستعداد لحربهم وقتالهم وطردهم، فإنهم أعداء الدين والملة، وقد صاروا أيضا أخصاما للسلطان، فيجب على المسلمين دفعهم، ويجب أيضا أن يكون الناس والعسكر على حال الألفة والشفقة والاتحاد، وأن تمتنع العساكر عن التعرض للناس بالإيذاء كما هو شأنهم، وأن يساعدوا بعضهم بعضا على دفع العدو، ثم تشاوروا في تحصين المدينة وحفر خنادق، فقال بعضهم إن الإنجليز لا يأتون إلا من البر الغربي، والنيل حاجز بين الفريقين، وإن الفرنساوية كانوا أعلم بأمر الحروب، وإنهم لم يحفروا إلا الخندق المتصل من الباب الجديد إلى البر، فينبغي الاعتناء بإصلاحه ولو لم يكن كوضعهم وإتقانهم؛ إذ لا يمكن فعل ذلك، واتفقوا على ذلك.»
ولما كان حاكم رشيد علي بك السنانكلي يتوقع أن يستأنف الإنجليز هجومهم على رشيد، فقد بعث يطلب هو وأحمد بك المعروف ببونابرتة الخازندار النجدة من القاهرة، ووصل كتابهما يوم 7 أبريل، وفيه يقولان: «إن الإنجليز لما حضروا إلى رشيد وحصل لهم ما حصل من القتل والأسر ورجعوا خائبين حصل لباقيهم غيظ عظيم، وهم شارعون في الاستعداد للعود والمحاربة، والقصد أن تسعفونا وتمدونا بإرسال الرجال والمحاربين والجبخانة بسرعة وعجلة، وإلا فلا لوم علينا بعد ذلك، وقد أخبرناكم وعرفناكم بذلك.» ويحمل هذا الكتاب تاريخ 3 أبريل.
فبادر المسئولون والمشايخ على الفور بإرسال عدة من المقاتلين في هذا اليوم نفسه، ثم إنهم كتبوا مكاتبات إلى البلاد والعربان الكائنين ببلاد البحيرة يدعونهم للمحاربة والمجاهدة، وفي اليوم التالي (8 أبريل) اطمأن خاطر «دروفتي» عندما صحب السيد عمر مكرم والقاضي والمشايخ والأعيان ونزلوا جميعا إلى ضاحية بولاق لترتيب أمر الخندق الذي تقرر إصلاحه في اجتماع اليوم السابق، وذكر الشيخ الجبرتي أن «دروفتي» هو الذي أشار عليهم بذلك، وقد صحبهم في خروجهم هذا الجمع الكثير من الناس والأتباع والكل بالأسلحة، وشرعوا في نفس اليوم في حفر الخندق المذكور ووزعوا حفره على مياسير الناس، وأهل الوكائل والخانات والتجار وأرباب الحرف والروزنامجي، وجعلوا على البعض أجرة مائة رجل من الفعلة، وعلى البعض أجرة خمسين وعشرين، وكذلك أهل بولاق ونصارى ديوان المكس والنصارى الأروام والشوام والأقباط، واشتروا المقاطف والغلقان والفئوس والقزم وآلات الحفر وشرعوا في بناء حائط مستدير أسفل تل قلعة السبتية.
ولكن في اليوم الذي بعث فيه علي بك السنانكلي وبونابرتة الخازندار رسالتهما الآنفة بتاريخ 3 أبريل، كان «فريزر» قد سير حملة ثانية ضد رشيد في ظروف سوف يأتي ذكرها، وشرع الإنجليز في حصارها، فأرسل السيد حسن كريت نقيب الأشراف برشيد والمشار إليه بها كتابا إلى السيد عمر مكرم تسلمه هذا في القاهرة يوم 9 أبريل، جاء فيه «أن الإنجليز لما وقع لهم ما وقع برشيد ورجعوا في هزيمتهم إلى الإسكندرية، استعدوا وحضروا إلى ناحية الحماد قبلي رشيد ومعهم المدافع الهائلة والعدد، ونصبوا متاريسهم من ساحل البحر إلى الجبل عرضا وذلك ليلة الثلاثاء ثامن عشرينه (28 محرم 1222 الموافق 7 أبريل 1807)، فهذا ما حصل أخبرناكم به، ونرجو الإسعاف والإمداد بالرجال والجبخانة والعدة والعدد وعدم التأني والإهمال.» ويبدو أن السبب في تحول السيد حسن كريت عن مؤازرة الإنجليز في هذه المدة أنه صار بعد هزيمتهم الأولى لا يثق في قدرتهم على الاستيلاء على رشيد، لا سيما وأن حاكمها علي بك السنانكلي كان يبذل همة عظيمة في الدفاع عنها، وأبدى الأرنئود وسائر الجند بها استخفافهم بعمليات الإنجليز بعد أن ذاقوا طعم الانتصار عليهم، وفضلا عن ذلك فإن الشيخ بعد أن أظهر صداقته للإنجليز في المرة الأولى واطمأن إلى وثوق هؤلاء به واعتبارهم إياه من أصدقائهم، رأى من حسن السياسة الآن، وكما تصور هو وغيره من مشايخ الوقت حينذاك هذه السياسة الحسنة، أن يتمسك أو يتظاهر كذلك بولائه لحكومة الباشا، حتى إذا جاءت النجدات فعلا من القاهرة، وانهزم الإنجليز في هذه المرة أيضا، ظل مرضيا عنه، واحتفظ بثروته وجاهه، وأما إذا لم تأت النجدات واستولى الإنجليز على البلدة، استأنف سيرته معهم، ووجد في الوقت نفسه حجة في طلبه للنجدة وعدم وصولها، يستند عليها في تسويغ مسلكه مع العدو المحتل لبلده.
وأما كتاب حسن كريت فقد قرأه السيد عمر النقيب على الناس، وحث السيد الناس على التأهب والخروج للجهاد، فامتثلوا لأمره، ولبسوا الأسلحة، وجمع عمر مكرم إليه طائفة المغاربة وأتراك خان الخليلي، وكثيرا من العدوية والأسيوطية (ومن المعروف أن أسيوط مسقط رأسه) وأولاد البلد، وبلغ الحماس من السيد عمر للخروج في قتال الإنجليز ونجدة أهل رشيد مبلغا عظيما فركب في صبحها (10 أبريل) إلى كتخدا بك واستأذنه في الذهاب، ويبدو أن مسألة الخطاب الذي كان قد كتبه قنصل روسيا والنمسا العام في مصر «ماكاردل» إلى «مسيت» والقواد الإنجليز بالإسكندرية بناء على رغبة عمر مكرم، وقال يوسف عزيز إن الحكومة قد صادرته كانت لا تزال ماثلة في ذهن كتخدا بك، ولو أنه كان يجهل دور عمر مكرم في هذه المسألة، فقد رفض أن يسمح له بالذهاب إلى الجهاد المنشود، وقال حتى يأتي أفندينا الباشا ويرى رأيه في ذلك، فبقي عمر مكرم بالقاهرة ثم سافر من سافر وبقي من بقي، وفي اليوم التالي (11 أبريل) وردت مكاتبة من علي بك السنانكلي وأحمد أغا بونابرتة الخازندار وطاهر باشا بمعنى مكتوب السيد حسن كريت السابق، ويذكرون فيه أن الإنجليز ملكوا أيضا كوم الأفراح وأبو منضور ويستعجلون النجدة.
ولكن في تلك الليلة - 11 أبريل 1807 - وفي ساعة متأخرة وصل محمد علي باشا ودخل إلى داره بالأزبكية فلما طلع نهار ذلك اليوم ذهب عمر مكرم والمشايخ ورجال الحكومة للسلام عليه في داره ودار بينهم الكلام في أمر الإنجليز، وأظهر الباشا سخطه على أهل الإسكندرية والشيخ المسيري وأمين أغا حيث مكنوا الإنجليز من الثغر وملكوهم البلدة، ولم يقبل لهم عذرا في ذلك، ومما يجب ذكره أن الباب العالي نفسه ساورته الشكوك في مسلك أمين أغا ومضالعته مع الإنجليز هو وغيره من المسئولين في الإسكندرية، فقد كلف الريس أفندي - غداة وصول أخبار تسليم الإسكندرية إلى القسطنطينية - ترجمان الباب العالي بإبلاغ «سباستياني» السفير الفرنسي بها في 19 مايو 1807، أن محمد علي عندما علم أن أسطولا إنجليزيا يحمل جنودا بريين قد تقدم نحو شواطئ مصر ليحاول إنزال هؤلاء الجنود إلى البر، أرسل قوة من الجند لتعزيز حامية الإسكندرية، ولكن أمين أغا قبطان الكريتلي حاكم المدينة رفض هذه النجدة، وأرجع باحترام جند محمد علي قائلا: إنه ليست له حاجة بهم، وفي أثناء ذلك أنزل أسطول إنجليزي جندا في أبي قير ثم آخرين بعد ذلك عند قرية العجمي ثم أحاط بالإسكندرية، وعندئذ عقد أمين أغا مجلسا مع رؤساء البلد ثم أرسل مفاوضا إلى الجيش الإنجليزي الصغير، وسلم المدينة مع الحصن تسليما إلى الإنجليز؛ أي من غير مقاومة، وقد حدث هذا حوالي منتصف مارس، ومن المحتمل أن الحكام والقواد بالإسكندرية كانوا متفاهمين مع الإنجليز، الأمر الذي يفسر رفضهم للنجدات التي عرضها عليهم محمد علي باشا.
ومهما يكن من أمر، فقد وجب الآن تدبير الوسائل التي يمكن بها إنقاذ رشيد وإرسال النجدات إليها، وقد أبدى المجتمعون بالباشا رغبتهم في الخروج جميعا للجهاد مع الرعية والعسكر لا سيما وأن الرعية كانوا على قدم الاستعداد للخروج، بعد أن أمرهم السيد عمر مكرم بحمل السلاح، وجمع حوله طوائف كثيرة لهذا الغرض، على نحو ما سبقت الإشارة إليه، ولكن الباشا رفض ذلك وقال: «ليس على رعية البلد خروج وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر»، ثم أمر كتخدا بك «طبوز أوغلي» وحسن باشا بالخروج في اليوم نفسه لنجدة رشيد والاشتباك مع الإنجليز، فأخرجوا مطلوباتهم وعازتهم إلى بولاق، وفي المساء طلب الباشا السيد عمر في وقت العشاء الأخيرة، وألزمه بتحصيل ألف كيس لنفقة العسكر وأن يوزعها بمعرفته.
وفي 14 أبريل كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» أنه قابل الباشا عقب عودته إلى القاهرة وتباحث معه في الموقف في مصر مدة ساعتين، فدار الكلام بينهما حول مفاوضات الباشا الأخيرة مع بكوات الصعيد، وحول الاستعدادات اللازمة لدفع عدوان الإنجليز، فقال «دروفتي» إنه علم أن المفاوضات بين محمد علي وإبراهيم بك وسائر زملائه لم تسفر عن شروط نهائية، وأن الاتفاق كان على الشروط المبدئية فحسب، ومؤداها أن البكوات لا يتحالفون مع الإنجليز، وعند الضرورة يحملون السلاح ضدهم؛ أي يقاتلونهم، وأن يحتل البكوات الصعيد في نظير دفع الميري لخزينة الدولة، ثم قال «دروفتي»: «والباشا مخلص فيما تعهد به، وقد سحب جنده من الأماكن المحصنة في الصعيد، واحتل المماليك هذه الأماكن التي أخلاها العثمانيون، ومن المنتظر حضور إبراهيم بك إلى الجيزة حتى يمكن بواسطة العلماء والمشايخ عقد المعاهدة النهائية، ويعتقد محمد علي أن البكوات لا ينضمون إلى الإنجليز، وأنهم حتى إذا فعلوا هذا فإن جميع الأرنئود العثمانلي الذين في خدمتهم سوف يتركونهم حينئذ»، ثم استطرد «دروفتي» يقول: «وقد بادر الباشا فور وصوله باتخاذ الوسائل اللازمة لإرسال الجند مع كتخدا بك إلى رشيد التي يحاصرها الإنجليز، ومحمد علي يعمل في إنشاء خط من التحصينات الخارجية لحماية بولاق والطريق الممتد منها إلى القاهرة»، ثم أكد أن المشايخ وتبعا لذلك - كما قال - الأهالي يبدون روحا عالية طيبة، وقد اتخذ الباشا كل ما يمكن من تدابير لتكذيب دعوى القائد الإنجليزي الذي يقول: إن فتح مصر لا يكلف مشقات أكثر مما يكلفه فتح «بينوس أيرس»
Buenos Aires
بالأرجنتين - وكان الإنجليز قد بعثوا بحملة إلى أمريكا الجنوبية استولت على «بينوس أيرس» في يونيو 1806 ولكنهم لم يلبثوا أن فقدوها في فبراير من العام التالي - وختم «دروفتي» رسالته بقوله: «إن الباشا يبدي عواطف طيبة نحو الإمبراطور نابليون وفرنسا»، وأشار «دروفتي» على محمد علي بضرورة حشد جميع قواته الموجودة منها في القاهرة ومصر الوسطى والصعيد وتسييرها بأقصى سرعة ضد الإنجليز قبل أن يتمكن هؤلاء من تثبيت أقدامهم في الوجه البحري، وراح يضرب الأمثال لتأييد وجهة نظره بما فعله بونابرت عند نزول العثمانيين في أبي قير في يوليو 1799، فقد جمع هذا في مكان واحد كل قواته المنعزلة عن بعضها بعضا، فانتصر بفضل ذلك على جيش الصدر الأعظم في معركة أبي قير البرية (25 يوليو 1799)، كما فقد «منو»
Menou
مصر؛ لأنه خالف هذه الخطة، فوزع قواته في أماكن متعددة، واقتنع الباشا برأي «دروفتي» وشرع يجمع الجند تهيؤا لإرسالهم ضد الإنجليز.
وحدث أثناء ذلك أن وردت مكاتبة من رشيد وعليها إمضاء السيد حسن كريت بعث بها في 11 أبريل ووصلت إلى القاهرة في 14 منه، ويخبر فيها حسن كريت بأن الإنجليز محتاطون بالثغر ومتحلقون حوله، ويضربون على البلد بالمدافع والقنابر، وقد تهدم الكثير من الدور والأبنية ومات كثير من الناس، ثم يقول: وقد أرسلنا لكم قبل تاريخه نطلب الإغاثة والنجدة فلم تسعفونا بإرسال شيء، وما عرفنا لأي شيء هذا الحال، وما هذا الإهمال، فالله الله في الإسعاف، فقد ضاق الخناق، وبلغت القلوب الحناجر، من توقع المكروه وملازمة المرابطة والسهر على المتاريس، وكانت هذه الرسالة معنونة باسم السيد عمر مكرم النقيب والمشايخ.
فاهتم الباشا اهتماما بالغا حتى إنه اعتزم السفر بنفسه وركب إلى بولاق وصحبته حسن باشا وعابدين بك وعمر بك، ولكن الباشا لم يسافر وخرج أجناد كثيرون، ولو أن معظم هؤلاء ما كانوا يتعدون منية السيرج وشبرا أو الزاوية الحمراء والمطرية والأميرية، يعتدون على الأهالي ويأكلون مزروعاتهم ويخطفون مواشيهم ويعتدون على الأهلين، ومنهم من كان لا يسير إلى أبعد من بولاق ذاتها وجزيرة بدران، ثم يعود أكثر هؤلاء إلى القاهرة، فقال الشيخ الجبرتي: «إن الأجناد في الجهات التي ذهبوا إليها أكلوا زروعات الجميع، وخطفوا مواشيهم، وفجروا بالنساء، وافتضوا الأبكار، ولاطوا بالغلمان وأخذوهم وباعوهم فيما بينهم، حتى باعوا البعض بسوق مسكة وغيره»، وعلق الشيخ على ذلك بقوله في مرارة: «وهكذا يفعل المجاهدون! ولشدة قهر الخلائق منهم وقبح أفعالهم تمنوا مجيء الإفرنج من أي جنس كان، وزوال هؤلاء الطوائف الخاسرة الذين ليس لهم ملة ولا شريعة ولا طريقة يمشون عليها، فكانوا يصرخون بذلك بمسمع منهم، فيزداد حقدهم، وعدوانهم ويقولون: أهل هذه البلاد ليسوا مسلمين؛ لأنهم يكرهوننا ويحبون النصارى، ويتوعدونهم إذا خلصت لهم البلاد ولا ينظرون لقبح أفعالهم.» وكان مرتكبو هذه الفعال الجنود الحاضرون من الصعيد بعد إخلائه لا سيما جنود حامية المنيا الذين كانوا مع أحمد أغا لاظ أوغلي، وقد أوجبت هذه الحال بقاء الباشا في القاهرة لمعالجة مسألة هؤلاء الجند الذين كانوا يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، وقد ذكرنا كيف أنه ألزم عمر مكرم بتحصيل ألف كيس لنفقة العسكر، أما الجند الذين ساروا مع كتخدا بك «طبوز أوغلي» وحسن باشا وتحت قيادة الأول فكانوا أربعمائة من المشاة وألفا وخمسمائة من الفرسان، وساروا جيشا واحدا حتى وصلوا إلى منوف، ثم انقسموا بعد ذلك إلى فريقين، فعبر حسن باشا بفريق منهما النيل ليسير على الشاطئ الأيسر للنهر، بينما استمر كتخدا بك يسير على الشاطئ الأيمن ووجهة الجيشين رشيد.
وكان الباشا قد طلب إلى السيد عمر مكرم والمشايخ أن يكتبوا إلى البكوات القبالي يستحثونهم على التعجيل بالحضور إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي، فأرسل هؤلاء جوابا وصل القاهرة في 20 أبريل يعتذرون فيه بأن السبب في تأخرهم أنهم لم يتكاملوا، وأن أكثرهم متفرقون بالنواحي مثل عثمان بك حسن وغيره، وأنهم إلى الآن لم تثبت عندهم حقيقة الأمر؛ لأن من الثابت عندهم صداقة الإنجليز مع العثماني من قديم الزمان، وأن المراسيم التي وردت بالتحذير والتحفظ من الموسكوب ولم يذكر الإنجليز، ولا جدال في أن البكوات قد تعمدوا المغالطة في أجوبتهم هذه؛ لأن رسائل «مسيت» إليهم كانت قد أوقفتهم على الحقيقة، وقد تقدم كيف أن إبراهيم بك وشاهين بك الألفي قد أجابا عليها في أول أبريل بما يفيد أنهما كانا يعرفان بقطع العلاقات، وقيام الحرب بين تركيا وإنجلترة، وبأغراض الحملة التي أرسلها الإنجليز إلى مصر كما فسرها «مسيت» لهم، على أن المقصود من هذه المغالطة من جانبهم كان ولا شك كسب الوقت حتى تستبين لهم نتائج هذه الحملة الإنجليزية، ثم إن الانقسام الذي فرق كلمتهم، والذي أشرنا إليه سابقا، جعلهم عاجزين عن اتخاذ قرار حاسم في مسألة الصلح النهائي مع محمد علي، ولما كانوا يؤثرون الإبطاء في تقدمهم لاعتقادهم خطأ أن في ذلك صالحهم للأسباب التي ذكرناها، وأهمها عدم التورط مع محمد علي في اتفاق نهائي قد يفوت عليهم الانتفاع من آثار انتصار الإنجليز لو قدر لهؤلاء النصر، فإنهم حتى يوم 20 أبريل لم يكونوا قد تعدوا المنيا، وقد كان هناك أن ذهب إليهم مصطفى أفندي كتخدا القاضي، وهو الذي حضر المفاوضات السابقة بينهم وبين المشايخ الثلاثة، يحمل إليهم المراسيم التي وردت في شأن - التحذير والتحفظ - وفيها ذكر الإنجليز ومنابذتهم للدولة، وكان مصطفي أفندي قد سافر إليهم بهذه المراسيم في صبح هذا اليوم (20 أبريل).
ثم إن الباشا طلع في هذا اليوم إلى القلعة وصحبته قنصل الفرنساوية «دروفتي» يهندس معه الأماكن ومواطن الحصار، وعاون «دروفتي» الباشا معاونة صادقة في تدبير تحصين القاهرة، فوصف الشيخ الجبرتي ما أبداه من نشاط وقتئذ بقوله: «والقنصل المذكور يظهر الاهتمام والاجتهاد ويسهل الأمر ويبذل النصح، ويكثر من الركوب والذهاب والإياب وأمامه الخدم وبأيديهم الحراب المفضضة وخلفه ترجمانه وأتباعه»، وقد بذل الباشا جهدا صادقا في تحصين القاهرة بمعاونة «دروفتي»، فأصلحت الأسوار وأعيد ترميم خط التحصينات أو الخندق الذي كان الفرنسيون قد أقاموه أيام حملتهم، وأقيمت المتاريس على طول الخط من قلعة «كامان»
Camin
باب الحديد حتى بولاق، ثم أقيم متراسان كبيران نصبت بجوارهما مدافع الحصار لحماية الأماكن المكشوفة، كما وضعت بطريات مدفعية على الجزيرة في النهر أمام إمبابة، وأغرقت المراكب في عرض النيل بين شاطئيه لمنع الملاحة.
وفي 23 أبريل عملوا ديوانا ببيت القاضي، اجتمع فيه الدفتردار والمشايخ والوجاقلية وقرءوا مرسوما تقدم حضوره قبل وصول الإنجليز إلى الإسكندرية، مضمونه ضبط تعلقات الإنجليز وما لهم من المال والودائع والشركات مع التجار بمصر (القاهرة) والثغور، وقد وقع تحت طائلة هذا المرسوم كل من «البطروشي»، و«روشتي» في ظروف سوف يأتي ذكرها، وبعد هزيمة الإنجليز في حملتهم الثانية ضد رشيد ثم انزوائهم بالإسكندرية والتحصن بها، فقد وصلت الأنباء إلى القاهرة في هذا اليوم نفسه (23 أبريل) عن هزيمة هؤلاء عند الحماد هزيمة منكرة. (9) محاولة الإنجليز الثانية ضد رشيد
فقد أصابت هزيمة رشيد سمعة الجيش البريطاني بضربة ماحقة كما قدمنا، ولم يكن من المنتظر أن يرضى «فريزر» وسائر القواد بما أصاب سمعة الجيش وخدشها، وألا يحاولوا غسل الإهانة التي لحقت به، وكان «مسيت» بطبيعة الحال أعظم تشوقا من هؤلاء القواد للانتقام من هزيمة رشيد، وهو الذي بنى كل خططه على نجاح عمليات الحملة العسكرية، واتساع نطاقها في الدلتا خارج الإسكندرية حتى يستطيع جذب البكوات للحضور من الصعيد، وتأييد حلفائهم في مجهود قوي متحد لطرد الأرنئود ومحمد علي وإعادة تأسيس الحكومة المملوكية في القاهرة تحت حماية بريطانيا، فكان في بقاء الجيش بالإسكندرية بعد هزيمته في رشيد القضاء على كل آماله؛ ولذلك فقد راح «مسيت» يلح على «فريزر» بمجرد عودة الجيش المنهزم إلى الإسكندرية في ضرورة إعادة الكرة، وتجديد محاول إخضاع رشيد، واستند فيما أراده على نفس الدعوى التي استند عليها عند المحاولة الأولى، وهي أن الاستيلاء على رشيد والرحمانية ضروري لمنع حدوث المجاعة في الإسكندرية، ثم إنه أيد دعواه هذه بأن جعل الشوربجي سيدي قاسم غرياني رئيس القضاة بالثغر يطالب باسم أهل الإسكندرية عموما باحتلال رشيد؛ حيث إنه لا مفر من انتشار المجاعة بالإسكندرية بسبب احتلال الجيش لها إذا لم يبادر الإنجليز بالاستيلاء على رشيد التي تمون منها الإسكندرية، ولما كان «فريزر» يخشى مما سوف يتركه تخلي الجيش عن أخذ رشيد من أثر سيئ في أذهان العربان وغيرهم من الجماعات المناصرة للإنجليز، فقد قرر اتخاذ هذه الخطوة، ولكن «فريزر» أدرك في الوقت نفسه أنه مقدم على عمل خطير؛ لمخالفة ذلك للتعليمات التي لديه والتي خرقها في حملته الأولى دون جدوى، ولأن قواته قد حدثت بها ثغرة بعد الهجوم الفاشل ضد رشيد، ولأنه كان يتوقع بسبب هذه المحاولة الثانية التي أزمع عليها أن يتسع نطاق عملياته العسكرية في الدلتا والاشتباك مع ما قد يأتي من قوات لنجدة رشيد، وذلك كله إلى جانب ضرورة احتفاظه بالإسكندرية ذاتها الغرض الأساسي من مهمته؛ وعلى ذلك، فقد طلب «فريزر» من «مسيت» الإجابة رسميا على طائفة من الأسئلة المحددة كان الغرض من وضعها والحصول على جواب «مسيت» عليها - والأخير هو الذي أوصت تعليمات 21 نوفمبر 1806 بالإصغاء إلى آرائه - تبرير إنفاذ هذه الحملة الثانية إلى رشيد، ثم إن «فريزر» راح يطلب من «وندهام» وزير الحربية البريطانية إرسال النجدات إليه .
أما عن الأسئلة التي قدمت إلى «مسيت» والإجابات التي أدلى بها هذا الأخير، فقد سجلت هذه الأسباب التي دعت إلى إرسال هذه الحملة، في قول «مسيت» وتأكيده بأن امتلاك رشيد وقلعة جوليان ضروري لنقل المؤن التي تؤخذ من الأماكن المجاورة إلى الإسكندرية؛ حيث إن الاستيلاء على رشيد وقلعة جوليان يمكن من السيطرة على مصب النيل الغربي، وأنه من المتعذر الاحتفاظ بهذين الموقعين بصورة تضمن الاستفادة منهما في تموين الإسكندرية من غير امتلاك الرحمانية، وأن ناحية الرحمانية تمد الإسكندرية بالعجول والأغنام والشعير، ثم إن امتلاك الرحمانية من شأنه إحكام السيطرة على القرى الواقعة بينها وبين رشيد، وتكفي قوة من سبعمائة وخمسين رجلا فحسب للاحتفاظ بهذه المواقع الثلاثة: رشيد وقلعة جوليان والرحمانية بعد أخذها، وليس هناك من وسائل الدفاع عن الرحمانية سوى قلعة صغيرة على النيل، وأجاب «مسيت» بالنفي قطعا عند سؤاله: إذا كان في استطاعة الجند البريطانيين وسكان الإسكندرية العيش بها من غير احتلال هذه المواقع الثلاثة، ثم أجاب على سؤال آخر بقوله: إن الماء منقطع عن الإسكندرية الآن بسبب القطع الذي أحدثه الألفي بك في القناة التي تمدها بالمياه، وأن الإسكندرية سوف تكون في حاجة إلى الماء إذا لم يصلح هذا القطع، ثم أكد «مسيت» أخيرا أنه يرى من الواجب احتلال دمياط وذلك لمنع نزول الجنود الأرنئود الذين تأتي السفن باستمرار محملة بهم إليها، فيتدفقون على مصر من هذا الميناء، وفضلا عن ذلك فقد يكون من نافلة القول إلى جانب ذلك أن المماليك أنفسهم يتوقعون أن يحتلها الجنود البريطانيون.
وقد بعث «فريزر» بهذه الأجوبة على أسئلته إلى «وندهام» في 7 أبريل، ثم قال إنه إنما فعل ذلك حتى يبرهن لوندهام، وذلك بالإضافة إلى ما ذكره في رسالته إلى هذا الأخير بتاريخ 27 مارس - وقد ذكرناها في موضعها - أن العمليات السابقة والحالية ضد رشيد والأخيرة كان قد بدئ بها - كما سنرى - منذ 3 أبريل لم يبدأ في اتخاذها دون إمعان النظر العميق وبحث كل الاعتبارات المتصلة بها من جانبه؛ أي جانب «فريزر»، بل على العكس من ذلك فإنه لم يقدم عليها إلا بعد اقتناعه التام بضرورتها، وكما أظهر هذه الضرورة (الميجور «مسيت») المقيم البريطاني بالإسكندرية وهو الذي طلبت مني التعليمات المعطاة إلي الإصغاء لما يقوله، ثم اختتم «فريزر» رسالته بقوله : إن هذه الحقائق التي ذكرها من شأنها أن تزيد من قوة مطالبته السابقة بإرسال نجدات لتعزيز جيشه؛ لأن ما جاء في رسالته ينهض دليلا على ما هنالك من ضرورة لتقسيم قواته وتوزيعها من أجل إبقاء فرق من جيشه بصورة مستمرة في رشيد وقلعة جوليان والرحمانية، وذلك إلى جانب استخدام قسم من الرجال في إصلاح وامتلاك القطع الذي أحدثه الألفي بك في قناة الإسكندرية بالقرب من دمنهور، علاوة على احتلال دمياط، الأمر الذي يعتقد «مسيت» أنه ضروري كذلك.
وأما عن طلب النجدات الذي أشار إليه «فريزر» في رسالته هذه، فقد سبق أن ذكره في كتاب إلى «وندهام» نفسه بتاريخ 6 أبريل، تضمن الأسباب التي علل بها «فريزر» إخفاق حملة الجنرال «ووكوب»، على النحو الذي تقدمت الإشارة إليه في موضعه، وفي هذا الكتاب يبسط «فريزر» الأسباب التي دعته إلى إرسال الحملة الثانية ضد رشيد، ثم إلى طلب النجدة التي شعر أنه بحاجة إليها، فقال: إنه لما وجد بسبب ما عرضه عليه الميجور «مسيت» من بيانات عززها الطلب الذي تقدم به الشوربجي رئيس القضاة باسم الشعب عموما، فحواها أن المدينة مهددة بالمجاعة كنتيجة حتمية ومباشرة لبقائنا أي الجيش البريطاني بالإسكندرية دون احتلال رشيد، وهذا بالإضافة إلى ما يحدثه من أثر سيئ في أذهان العرب وغيرهم من الناس الموالين للمصلحة الإنجليزية في هذه البلاد تخلينا أو انصرافنا عن احتلال رشيد، ثم الشعور بواجب المحافظة على شرف بريطانيا وسمعتها، فقد قرر بموافقة السير «توماس لويس» الذي تولى قيادة الأسطول الإنجليزي هنا منذ ذهاب السير «جون داكويرث»، وبناء على نصح السير «توماس لويس» وبفضل تعاونه، فصل قسم من الجيش وتخصيصه لإنجاز هذه المهمة، تحت قيادة الجنرال «ستيوارت»
Stewart
والكولونيل «أسوالد»
Oswald
حيث إنه يبدو مستحيلا من غير تحقيق هذه المهمة تنفيذ الإجراء الذي نصت عليه التعليمات بشأن امتلاك الإسكندرية والاحتفاظ بها، وأرجو أن تأذن لي بأن أعرض عليك الوضع الذي نحن فيه الآن، والذي يختلف تمام الاختلاف عما كان يبدو أنه الغرض الأصيل من إرسال حملتنا إلى هذه البلاد ، وهو وضع أرجو أن تولوه كل تفكير جدي.
فإنه لما كان امتلاك الإسكندرية هو الغرض الفرد والمقصود وحده ودون غيره من إرسال حملة «فريزر» وذلك بناء على التعليمات الصادرة من الحكومة البريطانية إلى الجنرال «فوكس»، فقد كان من المحتمل أن تستطيع القوات المعينة لهذه المهمة القيام بها دون حاجة إلى غيرها، ولو أن هذه لم تكن تماما من النوع أو الصنف الذي كنت أرجوه، فتكفي للاحتفاظ بالإسكندرية على الأقل إلى حين وصول النجدات إليها، ولكننا إذا أدخلنا في حسابنا بسبب الحرب مع تركيا، وهذا أمر لم ينل انتباه الحكومة ولا الميجور «مسيت» على ما يبدو - أن علينا أن نواجه كل القوات الموجودة في البلاد من أتراك وأرنئود وأن نناضل معها - وهؤلاء يعرفون جيد المعرفة الحالة الدقيقة التي عليها الجنود والأهالي في الإسكندرية، وسوف يبذلون قصارى جهدهم لاحتلال المواقع التي تمكنهم بأعظم الطرق نفاذا من منع كل الإمدادات عن الإسكندرية، وذلك إلى جانب أننا لا زلنا نجهل ما استقر عليه رأي المماليك ولا ندري ماذا يكون مسلكهم، فإنه ليكاد يكون ضروريا أن أوضح لكم أنه يبدو مشكوكا فيه للغاية إمكان تنفيذ رغبات حكومة جلالة الملك من حيث الاحتفاظ بالإسكندرية وبتلك المواقع التي تعتمد هذه عليها، وهذا حتى بغض النظر عن توقع ما قد يحدث من هجوم علينا من جانب الفرنسيين أو من جانب القسطنطينية.
لقد ذكرت لكم في رسالتي السابقة المعلومات التي لدي عن وجود اثني عشر ألفا من الأرنئود في خدمة الباب العالي في مصر، عدا الجنود الأتراك العثمانلي، ثم إني أرى من واجبي تذكيركم بأن الميجور «مسيت» يذكر رسميا أن أعدادا كبيرة من الأرنئود تتدفق باستمرار على مصر بطريق دمياط، حتى إذا أعوزتنا القوة الكافية لاحتلال هذا الميناء، فإنه لا ندحة عن وضع مركب حربي هناك لمنع دخولهم، ومع أن أمير البحر «توماس لويس» يريد من كل بد مساعدتنا فليس في مقدوره أن يفعل ذلك، إذ لا توجد لديه سفن مخصصة أصلا لهذه الخدمة، وإني إذ كنت قد عاودت الكلام في هذه المسألة، فليس غرضي من ذلك سوى بيان كيف أن الفكرة التي تكونت عن الحالة في هذه البلاد كانت خاطئة لدرجة بعيدة، وكيف أن مصاعبنا قد تزايدت كثيرا وتضاعفت منذ أن نزلت من السفن إلى البر قواتنا الصغيرة نسبيا والعاجزة.
وبناء على هذه الاعتبارات جميعها، أعود فأكرر رجائي بكل قوة ممكنة في ضرورة إرسال تعليمات محددة صريحة إلي فيما يجب أن يكون عليه مسلكي في المستقبل، وكذلك إصدار الأوامر فورا بإرسال النجدات التي تجدون أنها تكفي للقيام بهذه المهمة الشاقة المنتظرة إذا كان قرار وزراء جلالة الملك هو التصميم على الاحتفاظ بالإسكندرية، ثم اختتم «فريزر» رسالته بقوله: إنه وإن كان يتوقع نجاح العمليات الحالية ضد رشيد، فإنه ينبغي أن يكون مفهوما بوضوح أنه في حالة مصادفة صعوبات طارئة قد تؤدي إلى فشل ثان، فإنه لا يجد مناصا عندئذ من إخلاء الإسكندرية في المدة التي يجعل ما لدينا من أغذية مجففة أو مملحة إلى جانب الظروف الأخرى في استطاعتنا فعل ذلك.
وقد بعث «فريزر» بصورة من كتابه هذا طي رسالة له إلى الجنرال «فوكس» تحمل نفس التاريخ، يرجوه فيها تأييد مطلبه، وإنفاذ نجدة إليه مما لديه من قوات في صقلية، فكتب ما معناه أن «فوكس» بفضل اتصالاته مع حكومة لندن أكثر دراية منه بالأهمية التي تعلقها هذه على التمسك بالإسكندرية والاحتفاظ بها، ولكن «فريزر» يرى من واجبه نحو نفسه ونحو الوطن أن يبين أنه بسبب ما يجده من صعوبات متعددة يصادفها الآن هذا العدد الصغير من الجند الذين معه، وبسبب ما يتوقعه من حدوث نقص كبير في قواته نتيجة لانتشار الأمراض المخيفة التي تسود في هذه البلاد أكثر من غيرها، لم يعد في وسعه إلا أن يخشى إذا لم تأته فورا نجدات قوية من اضطراره إلى إخلاء البلاد كلية كإجراء لا سبيل إلى اختيار غيره.
وكان بعد أن ذهبت الحملة الثانية ضد رشيد، وشرعت في حصارها أن كتب «مسيت» هو الآخر إلى «وندهام» في 12 أبريل، يسرد قصة الحملة الأولى وفشلها، ويوضح الأسباب التي دعت إلى إرسال الحملة الثانية، ويتحمل مسئولية الاقتراح على «فريزر» بإرسال هاتين الحملتين، ويعزو إخفاق حملة «ووكوب» إلى أسباب لم يكن هو مسئولا عنها، ويبغي من ذكرها، ومن إلقاء مسئولية هذا الفشل على عاتقي «ووكوب» الذي اندفع في عملياته العسكرية دون حكمة وتبصر، ثم «فريزر» نفسه الذي أضاع وقتا ثمينا قبل إصدار أمره بتحرك جيش «ووكوب»، بيان أنه ليس هناك ما يدعو إلى الخوف من فشل هذا الهجوم الجديد على رشيد، وأن الاستيلاء عليها لا غنى عنه للاحتفاظ بالإسكندرية، فقال: إنه بعد أن ألح علي «فريزر» في وجوب امتلاك رشيد والرحمانية لتموين الإسكندرية، وفشلت هذه المحاولة صار يرى لزاما عليه أن يوضح لوندهام أسباب هذا الفشل، فقد اقترح على «فريزر» يوم 20 مارس عقب تسليم الإسكندرية مباشرة أن يرسل فورا جزءا من الجيش للاستيلاء على رشيد، وأكد له أن حاميتها لا تزيد على مائتين وخمسين رجلا، ولكن «فريزر» أجاب بأن التعليمات التي لديه تمنعه من فصل أي جزء من قواته، ولكنه وعد إذا كتب له «مسيت» خطابا قويا في هذه المسألة، فسوف يوليها عنايته بعد دخوله إلى الإسكندرية، فكتب «مسيت» الخطاب المطلوب في 23 مارس، ووافق «فريزر» على ضرورة احتلال رشيد، ثم إن «مسيت» لم يلبث أن جاءه خبر يوم 26 مارس بأن كاشف دمنهور عندما بلغه وصول الإنجليز إلى الإسكندرية أخلى دمنهور، وذهب مع ثلاثمائة من الجنود إلى رشيد، فصار عدد حامية هذه الأخيرة 550، وفضلا عن ذلك فقد أبلغه من نقل إليه هذا الخبر بأنه من المتوقع أن يصلها في أية لحظة جنود آخرون عددهم 1500، وقد أبلغ «مسيت» ذلك بدوره إلى «فريزر» كما راح يرجو «ووكوب» أن يوضح للأخير جسامة الخطر المترتب على إرجاء إنفاذ الحملة، ولكن هذه لم تتحرك إلا يوم 29 مارس، ومع أنه كان من المنتظر بعد كل هذا التأجيل أن يكون قد اتخذ كل إجراء لضمان نجاحها، فقد أعطى الجنود من المؤن ما يكفي ليومين فحسب، ولم يعمل أية ترتيبات لتزويد الحملة بالمؤن في حالة ظهور المقاومة من جانب رشيد وعدم سقوطها فورا، زد على ذلك أن أربعة مدافع فقط قد أرسلت مع الحملة، لكل منها ثلاثون طلقة.
ولكن هذه التجهيزات على ضآلتها لو أنها وضعت تحت تصرف رجل أكثر مهارة من الجنرال «ووكوب» لكفت في رأي «مسيت» لإخضاع رشيد؛ ذلك أن «ووكوب» بدلا من تأسيس موقع له فوق المرتفعات المطلة على رشيد، والتي أخلاها العدو بعد تبادل النار فترة قصيرة من الزمن، قام بهجوم في طوابير لاقتحام المدينة ودخلها، فأتاح الفرصة للأرنئود حتى يصبوا نيرانهم على رجاله دون أن يتعرضوا هم أنفسهم لأي خطر، فذهب «ووكوب» ضحية تهوره وحماقته، وجرح «ميد» وذبح أكثر من أربعمائة جندي دون أن يشاهدوا العدو، ومع ذلك، فقد كان من المستطاع أخذ رشيد؛ لأنه تبين الآن أن قسما من حاميتها كان قبل ذلك قد غادر المدينة في السفن عبر النيل، ولكن الارتباك الذي حدث والرعب الذي استولى على الجميع من جند وضباط كانا عظيمين لدرجة أن أحدا لم يعد يفكر إلا في الانسحاب القهقرى بأقصى سرعة، وقد حاول «تابرنا» - وقد عرفنا أن هذا صحب الحملة كرئيس لأدلائها - أن يبين للضابط الذي تولى القيادة بعد مقتل «ووكوب» أن العدو بالرغم من المزايا التي صارت له لا يجرؤ بتاتا على مواجهة جيش أوروبي في ميدان قتال، ولكنه لم ينجح في إقناعه بالصمود، وانسحب الجيش بسرعة إلى القوارب، وسقط جملة من الجنود بسبب عجزهم - لضعفهم أو جراحهم - عن اللحاق بزملائهم في يد فرسان العدو الذين أجهزوا عليهم.
ثم اختتم «مسيت» رسالته بقوله: وهكذا كان مصير حملته سوف يبدو أثرها في كل عمليات الجيش البريطاني المستقبلة في مصر، فقد أكسبت الأرنئود ثقة في أنفسهم لم تكن لهم على وجه التحقيق قبلها، وجاءت إلى رشيد نجدات قوية، وصرنا لا نستطيع الحصول على مؤن من القرى التي على النيل، وقل نفوذنا في البلاد بدرجة كبيرة.
تلك إذن كانت الدوافع والأسباب التي شاء المسئولون عن عمليات الجيش البريطاني الذي كانت مهمته احتلال الإسكندرية والاحتفاظ بها فحسب ، أن يبرروا بها معاودة الهجوم على رشيد، وتفسير العوامل التي أدت إلى فشل محاولتهم الأولى، ويؤخذ مما ذكره «فريزر» و«مسيت» عدا تشبث هذين بفكرة الاستيلاء على رشيد وقلعة جوليان والرحمانية لتموين الإسكندرية أولا: أن «مسيت» لم يكتف بالإلحاح في ضرورة احتلال هذه المواقع، وسوف نرى فيما بعد أنه نفسه قد تخلى عن هذه الفكرة بعد فشل هذه المحاولة الثانية وهزيمة الإنجليز في الحماد، نقول: إنه لم يكتف بالإلحاح في ذلك، بل اتخذ من نزول النجدات العثمانية في دمياط وتدفقها - كما قال - على مصر ذريعة لتوسيع نطاق العمليات العسكرية حتى تشمل دمياط كذلك، الأمر الذي لا يتسنى فعله إلا إذا خضع جزء الدلتا الشمالي على الأقل لسيطرة الجيش البريطاني، وقد كان السبب في وصول هذه القوات العثمانية إلى دمياط أن الباب العالي بمجرد أن علم بنزول الإنجليز في الإسكندرية أرسل الططر إلى باشوات الشام يطلب منهم إنفاذ النجدات إلى مصر، وحضرت القوات التي تحدث عنها «مسيت» و«فريزر»، ثم حضر بعد ذلك من لدنه موسى باشا السلحدار عن طريق دمياط كذلك - لإبلاغ هذا الخبر إلى محمد - ولكن حضور هذه القوات كان يجب أن يكون في حد ذاته كافيا لإقناع «مسيت» ولإقناع «فريزر» الذي انساق وراء الأول وتأثر بآرائه في كل ما اتخذ من تدابير أثناء هذه الحملة المشئومة، بأنه من الحكمة افتراض أن انضمام هذه النجدات المنتظر إلى قوات الباشا، سوف يرجح كفة هذا الأخير على كفة الجنرال «فريزر» الذي كان يشكو من نقص قواته وحاجته إلى المؤن والذخائر، فيحدو هذا الافتراض بالميجور «مسيت» إلى نبذ فكرة الاستيلاء على دمياط، بل والإقلاع كذلك عن محاولة الاستيلاء على رشيد وقلعة جوليان والرحمانية، ولكن «مسيت» وقد وجد الجيش البريطاني يحضر أخيرا إلى الإسكندرية بعد أن ظل يلح في طلبه أكثر من عامين، وخصوصا بعد المناداة بولاية محمد علي، ووجد أن هذا الجيش قد احتل الإسكندرية، صار مسيطرا على تفكيره وجوب اتساع نطاق العمليات العسكرية رويدا رويدا؛ لتحقيق غرضين أحدهما متمم للآخر: أولهما : حمل البكوات المماليك على الحضور من الصعيد لنجدة البريطانيين، وثانيهما: تأسيس الحكومة المملوكية، مما سوف ينشأ عنه وبطريق هذه الحكومة ذاتها، إما استمالة حكومته إلى احتلال هذه البلاد، أو على الأقل بسط نفوذها عليها دون منازع.
وأما ما يؤخذ ثانيا مما ذكره «مسيت» و«فريزر» في رسائلهما، فهو أن الأخير كان يشعر بجسامة المسئولية إذا قدر لهذه الحملة الثانية الفشل، وأن الشك كان يساوره في قرارة نفسه في أن نجاحها محقق ومقطوع به، بينما خيل إلى «مسيت» أن النجاح مضمون ولا شيء يقف في طريقه، واشترك الاثنان في الاعتقاد بضرورة أن يأتي البكوات المماليك لمعاونة الجيش البريطاني: «فريزر» وسائر الضباط لحاجتهم القصوى إلى فرسان المماليك، وما يتوقعون حدوثه من مناوشات أو معارك بين البكوات وقوات محمد علي أثناء زحف البكوات من الصعيد إلى الدلتا، سوف تمنع الباشا من إرسال النجدات إلى رشيد أو غيرها من المواقع، و«مسيت» لأن حضور البكوات يمكنه من تنفيذ برنامجه بإتاحة الفرصة للدخول في عمليات عسكرية على نطاق أوسع تهدف إلى الاستيلاء على القاهرة ذاتها، وطرد محمد علي والأرنئود منها ومن البلاد بأسرها.
وأما ما يؤخذ ثالثا مما جاء في هذه الرسائل، فهو رسوخ الاعتقاد لدى «فريزر» و«مسيت» وخاصة هذا الأخير، بأن أهل البلاد - سواء في رشيد أو في القاهرة أو في غيرهما - يريدون نجاح الإنجليز، ويرحبون بالاحتلال البريطاني، وقد بني هذا الاعتقاد الفاسد على حوادث قليلة متفرقة ما كان يصح الاعتماد عليها في تكوينه، كما كان مبعثه ذلك النظام العاجز الذي أنشأه «مسيت» للمخابرات فزوده وكلاؤه بمعلومات، إما أنها كانت ناقصة أو خاطئة، إما أنها جاءته متأخرة بحيث تعذر عليه هو و«فريزر» الانتفاع منها، ولا شك في أن وجود أفراد من طراز الشيخ المسيري وأمين أغا في الإسكندرية، والشيخ حسن كريت في رشيد جعل «مسيت» و«فريزر» يعتقدان صحة زعمهما.
وأما الحوادث التي بنيا عليها حكمهما، فقد أوجز أكثرها «فينشنتزو تابرنا» في البحث الذي أجري فيما بعد عن الظروف والملابسات التي أحاطت بحملة «فريزر» وسببت فشلها، وذلك عندما سئل عما إذا كان قد سمع من أولئك الذين زاروه وقت أسره بالقلعة أن الجنود الذين كانوا بالقاهرة استعدوا لمبارحة البلاد بمجرد أن علموا بوصول الإنجليز إلى الإسكندرية؟ فقال: عندما زحفت الحملة الأولى على رشيد، اشترى الجند الأرنئود الخيول والبغال والحمير بضعف أثمانها لنقل عتادهم إلى الشام، وارتفع سعر الدبلون البندقي من عشرة قروش وربع القرش إلى أربعة عشر قرشا، وليس هناك أدنى شك في أنه لو سقطت رشيد وقتئذ ما كان الجيش البريطاني قد لقي أية مقاومة من جانب الأرنئود، وكان قد قام قبل ذلك أهل الصعيد؛ أي سكانه، بحركات عدائية ضد الأتراك، وفي قرى الوجه البحري رفض الأهلون إمداد الأرنئود بالمؤن التي طلبوها، وقد عرض شيخ دسوق المدعو إسماعيل عبد اللطيف خدماته على الجنرال «ستيوارت» وقت حصار رشيد أثناء الحملة الثانية ثم إنه رفض بعد ذلك إمداد الباشا بالمؤن عند نزول هذا مع قسم من جيشه صوب الإسكندرية وسوف يأتي ذكر ذلك في موضعه مما ترتب عليه جميعه أن هوجمت قريته، واستطاع الدفاع عن نفسه ثلاثة أيام متتالية، ولكنه عندما وجد أن من المستحيل عليه الاستمرار في المقاومة طويلا، لم يلبث أن انسحب تاركا المكان في سواد الليل، فدخل الأرنئود القرية دسوق في صبيحة اليوم التالي وقتلوا الرجال والنساء وباعوا البنات والصبيان.
ولما كان الأرنئود قد رفضوا السير ضد الجيش المحاصر لرشيد إلا إذا حصلوا على الأقل على مرتباتهم المتأخرة، فقد أرسل الباشا أربعمائة من جنده لجمع الإتاوات من إقليم الشرقية، ولكن الأهالي هرعوا إلى سلاحهم وأجهزوا على الأرنئود وفتكوا بهم، وقد بعث الباشا بقوة كبيرة عندما رفع الإنجليز الحصار عن رشيد للانتقام من أهل الشرقية، واضطر هؤلاء التعساء - لعجزهم عن المقاومة - إلى الهجرة إلى الشام .
وقد ذكر يوسف عزيز في إجاباته، كذلك مسألة عصيان بعض القرى وامتناع أهلها عن دفع الضرائب، فقال: إنه بلغه امتناع قرية بالقرب من رشيد بعد وصول حملة «فريزر» إلى الإسكندرية عن تلبية أوامر حكومة الباشا ودفع الضرائب إلا إذا جاءها أمر بذلك من القائد الإنجليزي بالإسكندرية، وحمل أهلها السلاح لمقاومة الحاكم عندما أراد هذا إرغامهم على الدفع، وقد غادرها أهلها بعد هزيمة الإنجليز الأولى في رشيد، وذهبوا للعيش مع العربان في الصحراء، وقد فعلت مثل هذا قرية أخرى في الشرقية، فقاوم أهلها ثم حصل لهم ما حصل لأهل القرية الأولى.
وأما الشيخ إسماعيل عبد اللطيف شيخ قرية دسوق فقد كتب في 16 أبريل إلى الجنرال ستيوارت قائد القوات المحاصرة لرشيد، يقول إنه إنما بعث إليه بكتابه هذا؛ حتى يبلغه ما يكنه من عواطف المحبة الصادقة للإنجليز، وما يشعر به من كراهية عميقة، وحنق عظيم على الأتراك والأرنئود الذين ساموا الأهلين الخسف، وأرهقوهم بمظالمهم إرهاقا شديدا، ثم استمر يقول: «ومن اللحظة التي صار فيها الأمر والنهي لهؤلاء الأتراك، وصارت في يدهم أزمة الحكم (ويقصد الشيخ عبد اللطيف استلام هؤلاء للحكم بعد خروج الفرنسيين) جعلني طغيانهم عدوا لهم؛ ولذلك فقد كان فرحي عظيما عندما بلغني أن الجيش الإنجليزي قد نزل إلى البلاد، لعلمي بأنهم يحكمون حكما طيبا، ويشفقون على الأهلين التعساء، ولقد أعلنت نفسي الآن عدوا للأتراك والأرنئود، ورفضت أن أزودهم بالمؤن والإمدادات التي طلبوها مني، وفي عزمي إذا مر الجند الأتراك بالقرب من قريتي أن أدفعهم عنها وأطردهم بالقوة، ويحزنني جدا أن تظل رشيد ممتنعة عليكم كل هذه المدة الطويلة؛ لأن سكان الدلتا يعانون كل سوء، ويلحق بهم كل أذى على أيدي الأتراك، وأبتهل إلى المولى تعالى أن يسقط رشيد في قبضتكم سريعا جدا، حتى أتحرر من الظلم والاستبداد الواقعين علي، وتلك هي رغبات الأهلين جميعهم، ولدي ألف من الرجال المسلحين، فإذا شئت جئتك، وانضممت إليك، وأنت تعرف الآن أن لك صديقا في شخصي، وأني مستعد لتنفيذ أية أوامر قد ترى إصدارها إلي.»
ولكنه لما لم يكن لدى «ستيوارت» تعليمات تخوله قبول مساعدة من النوع الذي اقترحه الشيخ عليه، فقد رفض القائد الإنجليزي الانتفاع من هذا العرض، لا سيما وأن الشيخ عبد اللطيف كان مصمما على مقاومة حكومة الباشا فعلا كما أثبتت الحوادث بعد ذلك.
على أن الذي استرعى نظر «فريزر» و«مسيت» و«ستيوارت» ما ذكرته هذه الرسالة عن رغبات الأهلين جميعهم في زوال حكم الأتراك والأرنئود، وترحيب الأهلين بقدوم الإنجليز، فعززت رسالة الشيخ عبد اللطيف الاعتقاد الراسخ في أذهان المسئولين الإنجليز بأن توسيع نطاق العمليات العسكرية سوف يلقى ترحيبا من المصريين، ويصادف هوى من أنفسهم، فيكون هذا الترحيب من عوامل نجاحها.
تلك إذن كانت الاعتبارات التي أدخلها الإنجليز - لا سيما «مسيت» و«فريزر» - في حسابهم عندما قرروا معاودة الكرة ضد رشيد، وقد دلت الحوادث على أن هذه كانت اعتبارات، إما مستندة على الوهم، وإما مبنية على معلومات غير صحيحة، ومستقاة من مصادر لا يوثق بها؛ بسبب عجز نظام المخابرات الذي أنشأه «مسيت» على نحو ما سبقت الإشارة إليه، وتقوم - في كل الأحوال - على حوادث وأمثلة قليلة ومبعثرة، لا يمكن اتخاذها أساسا لإصدار حكم صحيح، والمسئول الأول عن هذه الأخطاء المحددة - وفي هذا الظرف بالذات - كان «مسيت» نفسه، وقد ظهر خطأ التقدير من حيث توقع الاستيلاء على رشيد والمواقع الأخرى دون مقاومة تذكر، وترحيب الأهلين بالإنجليز ورضاؤهم عن اتساع نطاق عملياتهم العسكرية، أو مساعدة العربان لهم، أو مجيء البكوات وفرسانهم لنجدة الجيش البريطاني عند إنفاذ الحملة إلى رشيد، كما ظهر فشل نظام المخابرات الذي أوجده «مسيت» أثناء عمليات هذه الحملة، ولقد كانت هذه الأخطاء من أهم أسباب إخفاقها، كما كان من أسباب ذلك أيضا ضعف قيادتها، وتلك أمور سوف تتضح جميعها عند ذكر تفاصيل هذا الهجوم الثاني على رشيد. (10) هزيمة الإنجليز في الحماد (21 أبريل 1807)
حصار رشيد
تألفت الحملة المرسلة ضد رشيد من ألفين وخمسمائة مقاتل، مأخوذين من مختلف الفرق والآلايات، يقود وحداتها المختلفة الكابتن «ديلانسي»
Delancey
والميجور «أوكيف»
O’Keefe
والكابتن «رديل»
Riddle
والكولونيل «ماكليود »
Mac Leod
والليوتانت كولونيل بارون «دي سونينجبرج»
Sonnengberg ، وكان من بين قوات الحملة عدد من الجنود البحارة تحت قيادة الكابتن «هالويل»، وسلمت قيادة الحملة إلى البريجادير جنرال «وليام ستيوارت»
William Stewart
ويليه في القيادة الكولونيل «أسوالد»
Oswald ، ثم زود الجيش بعدد من المدافع، وتألف هذا الجيش من فرقة أو سرية من المدفعية الملكية، وسرية من الآلاي العشرين من جنود الفرسان الخفيفة
Light Dragoons ، ثم سرية من البحارة، وطابور من المشاة الخفيفة، والطابور الأول من الآلاي الخامس والثلاثين، ثم الآلاي الثامن والسبعين، والآلاي الألماني المسمى آلاي رول
Roll ، وعدد الجميع حوالي 2500 رجل، وأبدى «ستيوارت» رغبته في مصاحبة الحملة، والإشراف بنفسه على عملياتها، وكان «تابرنا» كبير أدلائها كما حدث في المرة الأولى، فقد رجاه «فريزر» القيام بهذه المهمة، منذ بدء عمليات الحملة السابقة ضد رشيد، وعاون الشيخ مسعود وهو أعرابي «تابرنا» في إرشاد الحملة في سيرها، ثم صحب الحملة الميجور «مسيت» نفسه، وأما الجنرال «فريزر» فقد انتقل للإشراف على العمليات إلى السفينة الحربية «كانوب»
Canopus
في خليج أبي قير، وهي سفينة الأميرال السير «توماس لويس» الذي تسلم القيادة الحربية في هذه المياه بعد رحيل «داكويرث»، وكانت الخطة الموضوعة تضييق الحصار على رشيد وضربها بالمدافع والقنابل ضربا شديدا، يرغمها على التسليم، وذلك بدلا من محاولة اقتحامها عنوة، على نحو ما حدث سابقا، وقد قامت هذه الخطة على أساس أن الحذر خير من الحماقة، لا سيما وقد تكبد جيش «ووكوب» خسائر كبيرة، لا يريد قائد الحملة الأعلى الجنرال «فريزر» تكرارها الآن، وعلاوة على ذلك، فقد خيل إلى «فريزر» أنه إذا قصر نشاط الحملة على فرض الحصار العنيف على رشيد، يكون قد تفادى إقحام جنده في عمليات عسكرية تتجاوز نطاق التعليمات التي لديه، والتي نصت على عدم التوسع في النشاط الحربي، والمحافظة على الإسكندرية فحسب، ثم إنه كان يعول على قرب وصول المماليك ونجداتهم الكبيرة - وخصوصا فرسانهم - وانضمامهم إلى جيش «ستيوارت» المحاصر لرشيد، فلا تجد هذه مناصا عندئذ من التسليم بسبب التفوق العددي الذي سوف يكون للجيش المحاصر لها، فيستولي «ستيوارت» عليها دون تكبد خسائر جديدة، كما اعتقد أن مجرد البدء في عمليات الحصار، وضرب رشيد بالمدفعية، كفيل هذه المرة بجعلها تسلم لجنده تسليما، وكان «مسيت» هو المسئول عن رسوخ هذا الاعتقاد في ذهنه.
وقد بدأ سير الحملة من مرتفعات الإسكندرية الشرقية في 3 أبريل، قاصدة إلى أبي قير، وكان قد سبق إرسال المهمات وسائر لوازم الحملة بحرا من الإسكندرية إلى المحطة أو القيروان سراي المنشأة عند منفذ بحيرة إدكو إلى خليج أبي قير منذ عمليات الحملة الأولى، والتي تمكن فريق من الجنود البحارة بقيادة الكابتن «نيكولز»
Nicolls
من الاحتفاظ بها بعد تقهقر الجيش السابق بقيادة الكولونيل بروس، ولما كان الطريق من الإسكندرية إلى أبي قير صحراويا وطبقة الرمال به كثيفة، فقد لقي الجند مشقة في سيرهم، ثم زاد من بطء السير جمعهم العتاد خلف كل قسم من الجيش بدلا من توزيع هذا العتاد خلف الطوابير المختلفة، حتى يشرف كل منها على نقل العتاد الخاص به، وصح العزم على جعل قسم من الجيش يمر من قطع المعدية الذي يصل بين هذه البحيرة وخليج أبي قير في مساء اليوم نفسه، ولكنه حدث أن ضل فريق من القوات الطريق، وتأخر العبور حتى صبيحة اليوم التالي (4 أبريل)، وفي هذا اليوم بدأت عملية إرسال الجند، ونقل المهمات إلى قيروان سراي، وكانت عملية شاقة متعبة لقلة عدد السفن، وتعذر نقل الجند لذلك دفعة واحدة إلى المحطة؛ ولأن سحب الخيول والجمال وجعلها تعوم عبر القطعين (قطع المعدية وقطع إدكو) لم يكن سهلا لينا، فالأول يبلغ اتساعه حوالي الميل، والثاني كان أكثر عمقا وضيقا، ولو أن به أمواج شاطئية فاستغرق النقل من الصباح إلى المساء واستحال تحرك الجيش، حتى إذا كان مساء اليوم نفسه، تقرر أن يبدأ في الصباح التالي استئناف الزحف، على أن يسبق «ماكليود» بقسم من القوات إلى المرتفعات المشرفة على قرية إدكو إذا أمكن هذا وإلا اتخذ موقفا له وسط الطريق بين هذه القرية وبين المحطة.
وفي 4 أبريل وصل إلى قيروان سراي أكثر المدفعية والمهمات المنقولة إليها بحرا من الإسكندرية، وصارت المهمة التالية نقل هذه إلى مكان العمليات المقبلة، ولكنه لم يكن هناك من وسائل النقل ما يكفي لحمل هذه المهمات ذات الأهمية العظيمة بالسرعة المطلوبة، فقد قل وقتذاك وجود الجمال بالإسكندرية، ولو أنه كان في القدرة العثور على العدد اللازم منها للحملة لو أنه قد بذلت جهود جدية لتحصيل هذه الغاية، فصار الاعتماد الآن على نقل المدفعية والعتاد بواسطة البحيرة من قيروان سراي إلى المعسكر المزمع إنشاؤه عند رشيد، وقد ترك أكثر هذا العتاد تحت رحمة المواصلات الرديئة بهذا الطريق؛ حيث إن ماء بحيرة إدكو كان في نقصان مستمر في هذا الفصل، ولا تستطيع السفن الملاحة في البحيرة إلا إذا كانت أحمالها خفيفة، ثم إنه لم يسبق اختبار الملاحة في بحيرة إدكو، وقد ظل الاعتماد على هذا الطريق من المساوئ التي لازمت عمليات هذه الحملة الثانية ضد رشيد، فقد أنشئ مخزن عند طرف البحيرة الشرقي، تأتي إليه المؤن والذخائر وسائر المهمات من قيروان سراي عبر بحيرة إدكو، ثم تنقل هذه من المخزن إلى المعسكر على مسافة سبعة أميال من طرف البحيرة عبر الصحراء، واستلزم لتأمين المواصلات بين قيروان سراي والمخزن ثم من الأخير إلى المعسكر إنشاء حراسة من قوات صار عدد رجالها يتزايد يوميا مما أضعف العمليات العسكرية ضد رشيد، وكان من عوامل الهزيمة، أضف إلى هذا أنه كان على الجند في سيرهم من قيروان سراي إلى قرية إدكو أن يقطعوا حوالي ستة أميال في طريق صحراوي كثيف الرمال يعوق السير كثيرا، خصوصا إذا أخذ هؤلاء معهم بعض قطع المدفعية.
والواقع أنه كان هناك من يؤثر نقل الجند بحرا من نقطة العجمي إلى مصب فرع رشيد، لتفادي كل هذه المصاعب وما ينجم عنها من عطل وتأخير، ويستند أصحاب هذا الرأي في إيثاره على طريق أبي قير - إدكو على أن استخدامه يستلزم حتما ومن أول الأمر الاستيلاء على قلعة جوليان عند مصب النهر، ولهذه الخطوة مزايا عديدة، إذ يستطيع بفضل ذلك أسطول من المراكب الصغيرة الدخول إلى النهر بأمان، ويتسنى عندئذ تهديد الشاطئ الأيمن، وكان للعدو به بعض البطاريات الصغيرة، فيمكن إسكات هذه بسهولة، ولا يجد الجيش ضرورة لإرسال بعض فصائله إلى الشاطئ المقابل لإسكاتها بعد ذلك، فيستطيع حينئذ تركيز كل قواته بصورة تمكنه من مجابهة العدو بقوة متكافئة، ولكن الجنرال «ستيوارت» رأى خلاف ذلك، واختار طريق أبي قير - إدكو لاعتقاده أن الحملة في وسعها التزود بالمياه إذا سارت في هذا الطريق، وأن المواصلات سوف تكون أقل تعرضا للخطر في هذا الطريق عنها في الطريق الساحلي بحرا من العجمي إلى رشيد، علاوة على كثرة الأمواج الشاطئية عند مصب النيل في فرع رشيد، وقد أيد هذا الرأي كذلك رجال البحرية.
وأما «ماكليود» فقد اتخذ مكانه خلف قرية إدكو التي وصل إليها صباح يوم 5 أبريل الباكر، ولما كانت التعليمات التي لدى «ستيوارت» هي عدم محاولة اقتحام رشيد عنوة، بل تضييق الحصار عليها وضربها بالمدافع لإخضاعها، فقد وجب إحضار المدفعية فورا إلى الخطوط الأمامية لمباشرة الضرب دون إبطاء، فشغل الجند بنقل المدفعية، يشد هؤلاء المدافع الخفيفة بأيديهم، ويعاونهم الجند البحارة، وكان عملا شاقا مرهقا لسيرهم في أرض صحراوية رملية - كما ذكرنا - بينما جرت الخيول المدافع الثقيلة، ونقلت الجمال الذخائر وما إليها، ثم نقل مدفع كبير من نوع «المورتار» مع كمية من القنابل بطريق البحيرة، واضطرت الحملة إلى ترك كثير من المهمات والأدوات الضرورية للحصار خلفها، وقد استغرقت هذه العملية كل صباح يوم 5 أبريل، بينما تحرك الجيش في الوقت نفسه إلى قرية إدكو للانضمام إلى «ماكليود»، وبقي «نيكولز» عند قيروان سراي لحماية هذه المحطة.
ولما كان قد بلغ الإنجليز أن العدو قريب من هذه الجهات ويؤلف الفرسان القسم الرئيسي من قوته، ثم كانت الأرض التي ساروا عليها من قيروان سراي إلى إدكو غير ملائمة للاشتباك مع العدو الأرنئود وفرسانه في معارك جدية، فقد لزم تنظيم السير في تشكيلات تمكن الزاحفين من مقاومة أي هجوم قد يقع عليهم، ثم حماية مدفعيتهم وعتادهم، وكان اليوم شديد الحرارة، ولقي الجند عنتا كبيرا فساروا في بطء شديد، حتى إنهم لم يقطعوا أكثر من ميل واحد في الساعة الواحدة، وزاد من متاعبهم خصوصا الجنود البحارة أن المياه التي توقعوا وجودها بكميات وفيرة في قيروان سراي كانت قليلة ومن نوع غير طيب، ولكنهم لم يلبثوا عند وصولهم إلى إدكو أن وجدوا بها ماء كثيرا طيبا ونخيلا، ثم إنهم لاحظوا كذلك أن القوارب قد وصلت إلى نقطة أبعد من قرية أبعد من قرية إدكو في طريقها إلى طرف البحيرة من ناحية رشيد، ثم إن هذه القوارب لم تلبث أن وصلت بسلام إلى الشاطئ، ولو أن أكثر قطع المدفعية قد نقلت من القوارب قبل وصول هذه إلى الشاطئ لقلة عمق المياه في البحيرة، وحملت إلى البر.
وكان «ماكليود» عند وصول الجيش إلى قرية إدكو قد أبلغ أن جماعة من فرسان العدو قد شوهدوا بالقرب من هذا المكان، ولكنهم سرعان ما ارتدوا عندما تهيأ «ماكليود» وجنده للدخول معهم في معركة، ثم إنه لما كان قد نما إلى «ستيوارت» وسائر رجال الحملة أن العدو الأرنئود موجود بقواته في قرية الحماد فقد رئي من الحكمة احتلالها لتأمين مؤخرة الجيش ولمراقبة الملاحة في النهر ولحماية خطوط المواصلات مع المحطة أو المخزن الذي أقيم عند طرف البحيرة من ناحية رشيد، فقد فصل بين طرف بحيرة إدكو في هذا المكان وبين رشيد برزخ يبلغ اتساعه حوالي الميلين ونصف الميل، تضيق مسافته أو تتسع حسب اقتراب ثنية النيل من شاطئ البحيرة، ثم انحناءات بقايا قناة عميقة تقع قرية الحماد وراءها، وتمتد من طرف البحيرة إلى النيل في مكان يقع خلف ثنية النيل جنوبي أبو منضور، ويرتفع شاطئا هذه القناة على حافتيها، ويمتدان من النهر نحو ثلثي المسافة عبر البرزخ، ويسيطر شاطئاها على السهلين أمام وخلف القناة، فكان لذلك أن وجب احتلال الحماد، فعهد بهذه المهمة إلى «ماكليود» الذي زحف على الحماد في 6 أبريل واحتلها دون مقاومة بعد مناوشات خفيفة مع فرسان العدو على مسافة قريبة من القرية، وقد ظهر أن هناك طريقين معروفين من قرية إدكو إلى رشيد أحدهما عبر الصحراء رأسا إليها، والآخر على طول شاطئ البحيرة إلى النقطة التي يبدأ منها ذلك البرزخ الذي سبق وصفه والذي صنعته هذه البحيرة مع النيل، ثم ينثني الطريق إلى اليسار مستديرا خلف مرتفعات عليها أبراج للوصول إلى شاطئ النهر، وكان هذا الأخير هو الطريق المفضل؛ لأن الأرض أكثر صلابة، ولأن الجيش في وسعه إجلاء العدو عن المرتفعات بسهولة، وقد سار فيه الجيش، وفي المساء احتل «ستيوارت» المرتفعات التي أشرنا إليها، وتقع هذه بين الحماد وأبي منضور، وفي صبيحة 7 أبريل بعث بقوات تحت قيادة الميجور «فوجلسانج»
Vogelsang
إلى الحماد ليحل محل «ماكليود» بها، وعندئذ زحف هذا الأخير على مرتفعات أبي منضور واحتلها دون مقاومة وانسحب العدو إلى داخل أسوار رشيد، ووصل جيش «ستيوارت» عقب ذلك إلى التلال الرملية حول رشيد وبدأ حصار المكان في التو والساعة.
ولكن «ستيوارت» سرعان ما اتضح له بسبب اتساع مدينة رشيد أنه لن يستطيع بالقوات التي لديه ضرب الحصار على أكثر من نصف المدينة، وقام العدو بخروج قوي بعد ظهر اليوم نفسه، أثبت للقائد الإنجليزي أن توزيع قواته في خط متسع يعرضها لخطر محقق، وعلى ذلك فقد جمع الإنجليز قواتهم في خط يمتد من النيل إلى باب الإسكندرية الموصل إلى وسط رشيد ثم ينحرف من هذه المنطقة في اتجاه السهل إلى اليسار، حيث اتخذ جنود الفرسان مواقفهم، وبدأ ضرب المدفعية على المدينة بعد ظهر هذا اليوم (7 أبريل)، وجاوب الأرنئود بإطلاق وابل من الرصاص من الطيقان والثغرات الكثيرة في الأسوار، ثم استؤنف الضرب على رشيد صباح اليوم التالي، وخرجت كوكبة من فرسان العدو ومشاته تريد مناوشة الإنجليز، وكلف «ماكدونالد» و«ديلانسي» بالاشتباك معها، بينما حاول «أسوالد» وضع بعض السريات خلف العدو لقطع خط الرجعة عليه، ولكن الأرنئود الذين راقبوا عمليات الإنجليز من منائر الجوامع والمباني العالية في المدينة، فطنوا إلى مقصد هؤلاء، فشددوا الضرب عليهم، واستطاع فرسانهم الارتداد إلى داخل المدينة دون أن يتمكن الإنجليز من مطاردتهم، وأمام الضرب المتصل من الأسوار وعلى مسافة قريبة، لم يعد هناك مناص من تقهقر الإنجليز، وتكبد هؤلاء خسائر، وكان أثناء ما جرى من عمليات أخرى بعد ظهر اليوم نفسه أن أصيب «ستيوارت» بجرح في ذراعه.
ثم إنه كان قد تقرر بمجرد استئناف الضرب في هذا اليوم (8 أبريل) أن يدعى حاكم رشيد علي بك السنانكلي إلى تسليم المدينة، وأن تبذل الجهود في الوقت نفسه لإغراء الأرنئود بالتسليم السريع لقاء شروط طيبة يحصلون عليها إذا هم فعلوا ذلك وجلبوا عليهم رضاء الإنجليز ثم إقناعهم بأن هذا التسليم في صالحهم كثيرا، حيث من المتوقع أن يصل المماليك قريبا جدا، ويتعذر بعد وصول هؤلاء أن تؤخذ المصالح الفردية بعين الاعتبار، وجرى البحث عن رسول يتطوع لحمل الرسالة المزمع إرسالها؛ لأنه كان يخشى من أن يتعرض هذا الرسول للأذى على أيدي الأرنئود الذين لم يثق الإنجليز في احترامهم لراية الهدنة أو أنهم لا يقتلون حاملها، فتقدم شيخ أبو منضور وهو شيخ مسن للقيام بهذه المهمة؛ وعلى ذلك، فقد بعث به «ستيوارت» بالاتفاق مع «هالويل» وتطبيقا لتعليمات الجنرال «فريزر» - كما كتب «ستيوارت» بعد ذلك - إلى حاكم رشيد يدعوه إلى التسليم، كما حمل الشيخ نداء إلى سكان المدينة، وأوقف ضرب النار من الجانبين، ولكن الشيخ عاد بجواب علي بك السنانكلي الذي قال: إنه كالجنرال «ستيوارت» يتلقى أوامره من رؤسائه؛ ولذلك فهو يقترح هدنة ووقف القتال حتى يحصل من رئيسه على جواب، ويطلب ردا من الإنجليز على مقترحه هذا، ولكن «ستيوارت» رفض الهدنة؛ لأنه لم يكن من الحكمة - كما قال - إجابة علي بك إلى طلبه.
وكانت مسألة احتلال الحماد والاحتفاظ بها موضع اهتمام كبير من جانب القواد الإنجليز الذين اعتبروا الحماد موقعا عظيم الأهمية للاعتبارات التي سبق ذكرها، وإن كانت الحوادث قد دلت على أن هذا الموقع لا يفي بالغرض المقصود من احتلاله، فضلا عن أن هذه الحوادث قد دلت كذلك على أن عمليات حصار رشيد القائمة على ضربها بالمدافع، ومحاولة التضييق عليها فحسب، لا يمكن أن تسفر عن نتيجة، وكان السبب الذي دعا «ستيوارت» أن يصمم على أخذ الحماد والتمسك بها أن أدلاء الحملة - «تابرنا» والشيخ مسعود خصوصا - ثم «ماكليود» نفسه اعتقدوا أنه يسهل الاحتفاظ بها والدفاع عنها ضد قوات العدو التي قيل في هذا الوقت إنها سوف تكون من الفرسان غير النظاميين فقط، زد على ذلك أنه لما صار ضروريا أن تأتي الإمدادات إلى الجيش بطريق بحيرة إدكو بسبب الترتيبات التي سبق ذكرها، فقد رأى «ستيوارت» أنه لا ندحة له عن احتلال الحماد حتى ولو كان موقعها أقل ملاءمة مما هو عليه فعلا؛ لأنه إذا لم يفعل هذا صار لزاما عليه فصل بعض القوات دائما من الجيش الرئيسي أمام رشيد لحراسة الإمدادات من الذخائر وما إليها عند إحضارها من البحيرة، وهذا غير ما يتعرض له الجند من إرهاق مستمر بسبب مناوشات العدو لهم في مؤخرتهم وعلى جناحهم إذا لم يكن لهم موقع لحمايتهم من هذه النواحي.
ولكن اختيار الحماد بالذات لتكون هذا الموقع الذي يحمي الجيش، ويؤمن خطوط مواصلاته مع بحيرة إدكو لم يكن اختيارا موفقا؛ لأن الحماد كانت تقوم في بقعة من قاع جاف لبقايا تلك القناة التي تؤلف بينها وبين طرف بحيرة إدكو إلى اليسار وثنية النيل إلى اليمين ذلك البرزخ الذي سبق الكلام عنه، ثم إن القناة تجري تقريبا في زاوية قائمة من النيل صوب بحيرة إدكو، وضفتاها متساويتا الارتفاع، ثم إنهما لما كانا يمتدان من النهر نحو ثلثي المسافة عبر البرزخ فقد وقف امتداد الضفتين على مسافة نصف ميل تقريبا من البحيرة، وصارت هناك ثغرة لذلك على طرف القناة الأيسر، يزيد في اتساعها انحسار المياه في هذا الفصل تدريجيا عند طرف البحيرة بصورة تركت معها شاطئا أرضه صلدة، وتصلح لعمليات الفرنسان الذين يستطيعون لذلك الاستدارة حول موقع الحماد، كيفما شاءوا، زد على ذلك أن الحماد تقع في الوسط تقريبا بين شاطئ النيل والبحيرة وأمامها شاطئ القناة، ويفصل بينها وبين هذين الشاطئين ممر متسع، وتوجد ممرات أخرى عديدة يستطيع الفرسان استخدامها، ثم إنه بمجرد أن يصل العدو إلى شاطئ النيل الأيسر، يصبح على قدم المساواة عند هجومه على الحماد مع المدافعين عنها، فكل قسم من القرية معرض لضرب المدافع، ومن الممكن الالتفاف حولها بسهولة، ويفصل بين الحماد ورشيد وبعض المرتفعات عند أبي منضور ثم بين هذه وبين رشيد وهي مرتفعات لا تعطي أية سيطرة على مدينة رشيد ذاتها خلافا للفكرة التي سادت في أذهان قواد الحملة، بناء على المعلومات التي كانت قد وصلتهم؛ لأنه حتى يمكن إحراز هذه السيطرة كان من الضروري احتلال التلال أو المرتفعات القريبة جدا من المدينة، وحتى هذه تفوقها في العلو جوامع رشيد ومبانيها العالية، ويتعرض الجيش المرابط على المرتفعات لنيران المدافعين عن المدينة، أضف إلى هذا أن هذه المرتفعات تنحدر إلى سهل منبسط إلى يمين رشيد، ويمتد بمحاذاة النيل، وهو سهل مزروع برتقالا، وقد احتله الإنجليز، ولكنه كان موقعا مكشوفا فتعرضوا لنيران العدو، حتى إنهم اضطروا إلى الانكماش، وعندما فتش الجنرال «ستيوارت» هذه المواقع لم يرتح للترتيبات التي أجريت، فحدث تغيير في توزيع الوحدات المختلفة للتضييق على رشيد، ولكن الخط استمر مكشوفا، ولم يمكن - لاتساع المدينة - ضرب الحصار حولها بأسرها، وبقيت ثغرات يخرج العدو منها للهجوم على الإنجليز ومناوشتهم، ثم الارتداد بسرعة إلى داخل الأسوار، وكان من الواضح أن سبب عجز الإنجليز في تشديد الحصار القوي على رشيد وتطويقها هو عدم كفاية القوات التي لديهم لهذه العملية، ثم إنه لم يكن في مقدورهم محاولة الهجوم على المدينة واقتحامها اقتحاما بسبب ما لدى «ستيوارت» من تعليمات تمنعه من ذلك، وتحتم عليه الاقتصار على ضربها بالمدافع وإرغامها بهذه الوسيلة فقط على التسليم.
وكان لتحقيق هذا الغرض أن قضى «ستيوارت» يوم 9 أبريل خصوصا في إقامة البطريات بصورة تمكن من تركيز أكثر الضرب على قسم المدينة رشيد الواقع إلى اليسار لملاءمة الأرض لهذه العملية، وكانت قد أرسلت قوة لجلب مدفع «المورتار» إلى الخطوط يوم 8 أبريل للمعاونة في هذا الضرب، وهو المدفع الذي نقل عبر بحيرة إدكو، ثم أنشئت تحصينات من قطع شجر النخل وسعفه تغطيها الرمال؛ للوقاية من هجوم مفاجئ قد يقوم به فرسان العدو، فأقيم متراسان، ولكن الرياح صارت تزيل الرمال؛ مما اقتضى مراقبة متصلة وعناية مستمرة للمحافظة عليهما.
وفي 10 أبريل استمر الضرب، ولكن دون أن يحدث هذا الضرب أي أثر جدي على رشيد، فتقرر إنشاء بطارية من ستة مدافع على مسافة قريبة من وسط المدينة، وكان في هذا اليوم كذلك أن غادر «مسيت» المعسكر، متعللا بسوء صحته، فكان ذهابه موضع تعليقات من بعض رجال الحملة الذين ساءهم ألا يقيم في المعسكر ضباط من طراز «مسيت»، لديهم أفضل الوسائل للحصول على معلومات، ينتفع بها الجيش، وقد لاحظ هؤلاء أن سوء الصحة قد منع «فريزر» من الاشتراك فعليا في هذه الحملة، فبقي على ظهر السفينة «كانوب» - سفينة الأميرال لويس - على مسافة بعيدة جدا في خليج أبي قير من ميدان العمليات، ويتراسل مع الجنرال «ستيوارت»، وقد ترتب على ذهاب «مسيت» أن صارت كل المخابرات تجري بين الجيش والقيادة العليا في يد الجنرال «فريزر» عن طريق الإسكندرية، فكان الشوربجي سيدي قاسم غرياني و«مسيت» يبعثان بما يصلهما من أخبار إلى الأسطول، وسفينة القيادة في أبي قير، ثم يقوم الأسطول بدوره بإرسالها إلى المعسكر أو جيش «ستيوارت»، وقد كان نصيب بعض هذه الأخبار الإهمال التام، فلم تصل إلى المعسكر، ومن بين هذه خبر هام أبلغه الشوربجي إلى الأسطول، فحواه أن محمد علي يجمع قواته ويستعد لنجدة رشيد، وأنه قد جهز فعلا عددا من المدافع الثقيلة وزوارق مدفعية وسفنا لنقل جنده في النيل إلى رشيد، ومع خطورة هذا النبأ الذي دلت الحوادث على أنه كان صحيحا، فقد أهمل المسئولون إبلاغه إلى «ستيوارت» وأغفلوه؛ بسبب إشاعات كاذبة أذيعت عمدا، مفادها أن البكوات المماليك قد ألحقوا بالباشا هزيمة كبيرة، وقد صدق المسئولون هذه الشائعات؛ بسبب ما كان إبراهيم بك وشاهين بك الألفي قد بعثا به من كتب الأول إلى «فريزر» والثاني إلى «مسيت» بتاريخ أول أبريل يعلنان نبأ انتصار البكوات على محمد علي، ومع أن مقارنة بسيطة بين تاريخ تحرير كتابي إبراهيم وشاهين، وتاريخ حادث الانتصار الذي ذكراه كانت كافية لبيان أنه قد مضى من الوقت على هذا الانتصار ما يجعل من المحتمل على الأقل أن يكون الباشا قد قام فعلا بهذه التجهيزات التي بعث بأخبارها الشوربجي، فإن أحدا لم يول هذه المسألة أية عناية، بل ساد الاعتقاد من ناحية أخرى بأن البكوات سوف يحضرون قريبا للانضمام إلى الإنجليز، وهذا بالرغم من أن إبراهيم وشاهين لم يذكرا شيئا عن الذهاب إلى الإسكندرية، أو التقدم في الدلتا، بل كان كل ما اشتمل عليه كتاباهما مجرد إبداء النية في المجيء إلى الجيزة.
وفي 10 أبريل حاول الأرنئود استدراج الإنجليز إلى الأسوار حتى يصلوهم نارا حامية، فخرجت منهم قوة لهذا الغرض، ولكنهم ما لبثوا أن أرغموا على الارتداد دون أن يظفروا بمأربهم، ثم استمر الضرب على المدينة في اليوم التالي، وجاءت الأخبار من الحماد في الوقت نفسه بأن العدو قد اشتبك مع قوات «فوجلسانج» وأن هذا تبادل معه إطلاق النار بأثر طيب، وأما فيما يتعلق بسير عمليات هذا اليوم (11 أبريل) في رشيد، فقد تسلل فرسان العدو من المدينة وفاجئوا الإنجليز، ووقعت معركة جرح أثناءها علي بك السنانكلي، ولم يتمكن الإنجليز من تعقب الأرنئود في تقهقرهم إلى أسوار المدينة، كما فاجأ جماعة من الأرنئود مسيرة الإنجليز، فاضطر «ديلانسي» إلى الارتداد، ثم إن اشتباكا حدث كذلك مع ميمنة الإنجليز، وانسحب الأرنئود بعد هذه الالتحامات بأمان إلى داخل المدينة التي خشي الإنجليز دائما من المغامرات والاقتراب من أسوارها، وكان ظاهرا أنه طالما امتنع الأرنئود عن الخروج من المدينة إلى مسافة كافية للاشتباك معهم بعيدا عن أسوار المدينة، فلا أمل لدى الإنجليز المحاصرين لهم في الانتصار عليهم، وإخضاع رشيد، وفي 12 أبريل أعيد ترتيب خطوط الإنجليز وتولى قيادة العمليات بأسرها في هذه الخطوط الكولونيل «أسوالد»، وأرسلت بعض النجدة إلى «فوجلسانج» في الحماد، وقد شكا هذا الأخير من وجود ثغرات ضعف كثيرة في موقعه، وأما الأرنئود فقد أقاموا بطرية من أربعة مدافع على الشاطئ الأيمن للنيل، أزعجت إزعاجا كبيرا قوات الإنجليز الذين اتخذوا مراكزهم في حقل البرتقال، ومع أن المدفعية بأسرها قد اشتركت في ضرب المدينة والعدو، فإن أثرها كان ضئيلا للأسباب التي سبق ذكرها، وأهمها تعذر تطويق المدينة لاتساعها، ولأن أكثر جهات رشيد ازدحاما بالسكان كان في قسم المدينة المنحدر إلى ناحية النهر، ولا يؤثر فيه سوى الضرب بالقنابل، زد على ذلك أن الحامية من الأرنئود كانت لا تأبه لهذا الضرب، بل وتستخف به، فضلا عن أن النجدات من المتطوعين الذين خرجوا من دمنهور والجهات المجاورة لمناوشة الإنجليز صارت تصل إلى المدينة، كما بدأت طلائع القوات التي أرسلها محمد علي من القاهرة، تصل إليها كذلك، وجاءت رشيد المؤن كل يوم بالرغم من الحصار المفروض عليها، وقد وجدت كل هذه النجدات طريقها إلى المدينة من ناحية الشاطئ الأيمن للنيل.
وكان بسبب هذه الصعوبات المتزايدة إذن أن قرر الإنجليز فتح باب المفاوضة، بعد أن كانوا قد أغلقوه قبل ذلك بأيام قليلة، ولم يشئوا الاستفادة من تلك الهدنة التي عرضها عليهم السنانكلي، ريثما يتصل برؤسائه في القاهرة، فتقرر إعداد رسالة إلى حاكم رشيد، تذكر الأنباء التي بلغت الإنجليز عن انتصار المماليك على جند الباشا، ثم قرب مجيء البكوات سريعا إلى المعسكر البريطاني، وتشير إلى أن من صالح علي بك السنانكلي التسليم فورا قبل وصول المماليك، وقبل فوات الفرصة؛ حيث إنه من المتعذر عند حضور البكوات منحه شروطا سخية، ثم أضاف «تابرنا» الذي يعرف علي بك معرفة شخصية بعض العبارات التي نصحه فيها بالتسليم، وتطوع أحد التراجمة بحمل هذه الرسالة، ولكنه قوبل بإطلاق النار عليه، فاضطر الإنجليز إلى استخدام أحد العربان في هذه المهمة بعد إغرائه بمبلغ كبير من المال، واستطاع هذا اقتحام خط النار، ولكنه لم يعد، وساد الاعتقاد في المعسكر بأنه قد لقي حتفه، وتظاهر الرؤساء بالامتعاض مما حدث، وأنكروا أن ما وقع كان بعلمهم وموافقتهم.
ولما كان قد لوحظ أن العدو الأرنئود قد شرع يتهيأ لتدبير هجوم على الحماد، فقد أرسل «ستيوارت» مدفعا آخر إلى هذا الموقع مع ثلاثمائة جندي، وكان أهم ما وقع من حوادث بين 12، 16 أبريل، أن العرب الذين تبين لهم مبلغ ما يعانيه الإنجليز من مشاق في هذا الحصار المضروب على رشيد صاروا يأتونهم بأخبار من النوع الذي يرتاح الإنجليز له، فذاعت الأنباء الكاذبة عن زحف المماليك بجد وسرعة صوب الشمال، وأكد أحد العربان أنهم قد بلغوا فعلا علقام، ونشطت مدفعية الأرنئود على يمين خطوط الإنجليز، لدرجة أنها ألحقت أضرارا كبيرة بالمعسكر أمام رشيد وأحدثت إصابات عديدة بين الجنود، بينما ظل أثر مدفعية الإنجليز على رشيد ضئيلا، وفي 14 أبريل لوحظت جماعات كثيرة تنضم إلى معسكر الأرنئود في ناحية الحماد على شاطئ النيل الأيمن من بينهم فرسان في أعداد كبيرة.
وفي 15 أبريل زار الجنرال «فريزر» وهيئة أركان حربه معسكر الإنجليز للمرة الأولى، وكان معه الأميرال «توماس لويس»، ولم تسفر هذه الزيارة عن نتيجة؛ لأنه مع اتضاح الحاجة إلى اشتراك قوات كافية من الجيش والبحرية في العمليات الجارية لإحراز السيطرة على شاطئ النهر قبل كل شيء حتى تؤدي الجهود المبذولة في الحصار إلى النتيجة المنشودة، فقد أصر «فريزر» على أنه من المستحيل إعطاء رجل واحد؛ لأن قوات الجيش العاملة تكاد تكون جميعها الآن أمام رشيد، وأن القوة الموجودة بالإسكندرية إلى جانب قلتها فهي مؤلفة من عناصر لا يمكن الاعتماد عليها، ثم إنه أشار على «ستيوارت» بتركيز الضرب بالمدافع على رشيد، متناسيا أن هذا التركيز واقع فعلا، وأوضح له «ستيوارت» أن هذا التركيز قد استنفد في بعض الأحايين قدرا من الذخيرة، لم تكف وسائل النقل الموجودة لجلب غيرها في الوقت المناسب، مما نجم عنه توقف الضرب بعض الوقت، وأعرب له عن رأيه في أن هذا الهجوم سوف يفشل في آخر الأمر، وغادر «فريزر» و«توماس لويس» الخطوط وهما غير راضيين عن الجهود التي بذلت، وحيث إن الأمل كان منعقدا على قرب حضور المماليك للاشتراك في العمليات القائمة، فقد بذلت همة عظيمة في جلب الذخائر والمؤن وسائر الإمدادات من القاعدة أو المخزن المقام على بحيرة إدكو، وكانت المسافة بينه وبين المعسكر سبعة أميال، قطعها الجنود في مشقة عظيمة؛ بسبب الرمال الكثيفة التي تغطي هذا الطريق.
وفي 15 أبريل وضع الأرنئود مدفعين على الشاطئ الأيمن للنيل، أزعجا إزعاجا كبيرا ميمنة الإنجليز، فتولى الميجور «ماكدونالد» في اليوم التالي إسكاتهما بعد أن عبر النهر ومعه 50 جنديا من ناحية جامع أبي منضور ، واستخدم المدفعين في ضرب رشيد، ولكنه اضطر إلى التقهقر أمام النجدات التي جاء بها الأرنئود إلى هذا الموقع، وعبر النهر ثانية في ارتداده إلى المعسكر تحت وابل من نيران العدو.
وفي 16 أبريل حصلت مناوشات مستمرة بين الأرنئود والإنجليز، وحرص الأولون دائما على عدم الابتعاد من أسوار المدينة، وتفادي الالتحام مع الإنجليز في معركة في السهل، وبلغ «ستيوارت» من «فريزر» أن المماليك لا يزالون يقتربون من خطوط الإنجليز، وقد وجد «ستيوارت» ما يؤيد هذا النبأ، مما ذكره له جواسيسه الذين أرسلهم لتقصي حركات المماليك، فقال بعضهم إن هؤلاء في طرانة وقال البعض الآخر: إنهم في علقام، وكان بناء على هذه المعلومات الخاطئة والمضللة أن اعتقد «ستيوارت» بضرورة المثابرة على نظام هجومه الراهن، ومع أنه كان قد بلغه أن قوات العدو بداخل رشيد لا تزيد على ثلاثمائة فارس، وثمانمائة من الأرنئود وحوالي الألف من سكان رشيد المسلحين، فقد اعتبر أن محاولة القيام بالهجوم العنيف لاقتحام المدينة إجراء غير حكيم؛ بسبب امتداد خطوطه وطبيعة تشكليها الشاذة، وكتب إلى «فريزر» في 18 أبريل: إن نجاح قواته يتوقف على مجيء المماليك الذين يتسنى بالاشتراك معهم قذف قوات على الشاطئ المقابل للنيل فورا، الأمر الذي يستحيل فعله الآن؛ لأن العدو قوي بسبب ما لديه من فرسان، بينما لا يوجد فرسان ما لدى «ستيوارت»، والفرسان هم السلاح الملائم للعمليات العسكرية في أرض الدلتا، ثم راح «ستيوارت» في رسالته هذه يؤكد أهمية موقع الحماد حيث إنه من المنتظر اقتراب أصدقائنا المماليك من خطوط الإنجليز، وأما عدد إصابات الإنجليز حتى هذا التاريخ كما ذكرها «ستيوارت» فقد كانت ستة قتلى، وسبعين جرحى، من بينهم «ستيوارت» نفسه.
وفي 16 أبريل فر اثنان من آلاي رول من موقع الحماد، فتعهد أحد مشايخ العرب - الشيخ محمود وكان قد اتصل بأمير البحر «نلسن» في الماضي - بإحضارهما، وأحضرهما فعلا بعض رجال قبيلته إلى «ديبي»، وجرت محاكمتهما بعد ذلك، وفي 17 أبريل وقع في قبضة الإنجليز بالقرب من الحماد خمسة وعشرون من الفلاحين أو العرب والترك، انفصلوا من الجيش الذي أرسله محمد علي من القاهرة بقيادة حسن باشا و«طبوز أوغلي»، وقد أسرهم الإنجليز في الطريق بين إدكو وبين خطوطهم، واعتقد فريق أن غرضهم مجرد النهب والسلب؛ لأنهم كانوا قد قتلوا رئيسهم، واعتقد فريق آخر أنهم كانوا يحاولون قطع المواصلات لمنع وصول الإمدادات من القاعدة أو المخزن على طرف بحيرة إدكو إلى مراكز الإنجليز عند رشيد أو الحماد.
ثم بعث «ستيوارت» في 17 أبريل بالكولونيل «أسوالد» لفحص موقع الحماد ووضع تقرير عن الحالة به، فوجد هذا الأخير أن «فوجلسانج» قد تترس على اليسار في مركز مأمون، وبذل قصارى جهده للاستفادة بقدر طاقته من موقع سيئ، بينما اتخذ أحد ضباطه الميجور «موهر»
Mohr
مكانه وسط الخط، ووجد «أسوالد» أن شاطئي القناة التي سبق وصفها يتساويان في الارتفاع، بحيث إذا احتل العدو أحدهما تعذر تسليط النار عليه من مرتفع أعلى، كما وجد مكشوفا المدفع الذي يعتمد عليه «موهر» في الدفاع عن وسط القرية، فضلا عن أن يمين الخط كان مكشوفا كذلك، ثم إنه كان هناك ثغرات كثيرة من ناحية شاطئ بحيرة إدكو، يستطيع العدو المرور منها، والاستدارة خلف القرية، وكان الرجاء الوحيد في إمكان الدفاع عن موقع الحماد من هذه الناحية معقودا على تعذر مرور فرسان العدو أثناء الليل بسبب وجود الشقوق الكثيرة في أرض هذه الجهة، بينما تمكن رؤية العدو أثناء النهار عند زحفه من مسافة بعيدة بحيث يتسنى للجنود التأهب لملاقاته بوقت كاف يمكنها من مغادرة هذا الخط الطويل والغادر وتركيز المدفعية وجمعها في بقعة معينة يصلون بها العدو من هذه البقعة نارا حامية، وتوقع الإنجليز عندئذ الانتصار على العدو بسهولة؛ لاعتقادهم أنهم سوف يواجهون جنودا غير نظاميين فحسب، وأبلغ «أسوالد» في تقريره أنه من المستطاع الاحتفاظ بخط الحماد ضد هجمات مبعثرة، وغير منسقة تقوم ، بها حفنة من البدو والعرب، ولكنه لا يمكن الاحتفاظ به إذا وقع عليه هجوم من جانب قوات من الفرسان المشاة تعمل متحدة ضده، وقد أثبتت الحوادث صحة ما ذهب إليه «أسوالد» ولكن شيئا لم يحدث لا لتعزيز خط الحماد ولا لسحب القوات التي به، وضمها إلى قسم الجيش الرئيسي المحاصر لرشيد، وكان مبعث ذلك قلة ما لدى «ستيوارت» من جند يمكن فصل قسم منهم لنجدة «فوجلسانج»، ولاعتقاد الإنجليز أن قوات غير نظامية فحسب هي التي سوف يجلبها العدو لمهاجمة الحماد، ولرسوخ الاعتقاد من ناحية أخرى بأن المماليك مع فرسانهم سوف ينضمون قريبا إليهم فيعززون بحضورهم موقعي الحماد ورشيد على السواء؛ وعلى ذلك فقد انقضى يوم 18 أبريل دون إجراء أي تغيير، ولو أن حامية رشيد ظلت النجدات من الأرنئود تأتيها يوميا، وتحتفل الحامية عند وصولهم بإطلاق الرصاص.
موقف المماليك
وكان في يوم 18 أبريل أن بدأ الإنجليز يشكون في صحة الأخبار التي بلغتهم عن تقدم المماليك في زحفهم، وقرب انضمامهم إليهم، وقلت أحاديث العربان وغيرهم ممن كانوا يأتون بسلعهم من مؤن وغيرها لبيعها في معسكر رشيد على المماليك، وصاروا لا يؤكدون الآن قرب وصولهم، على خلاف ما جروا عليه في أحاديثهم قبل ذلك، بل إن عدد هؤلاء العربان لم يلبث أن قل بدرجة ملموسة، وصار لا يزدحم السوق بهم كما كان الحال في الماضي، وكان عندئذ أن بعث «ستيوارت» إلى «فريزر» بتلك الرسالة التي يعترف فيها بأن النجاح متوقف على حضور المماليك، فإنه لما كان قد نبذ فكرة القيام بهجوم لاقتحام رشيد عنوة كإجراء غير حكيم، ولا يزال يصدق أن المماليك في طريقهم إليه، وأنهم سوف ينضمون إلى قواته قريبا، بينما صارت تأتي النجدات تباعا لحامية رشيد، فقد جعل كل اعتماده في إمكان تطويق رشيد وإخضاعها على وصول البكوات المماليك.
على أن البكوات منذ أن بعثوا بكتبهم المؤرخة في أول أبريل يذكرون للميجور «مسيت» وللجنرال «فريزر» أنهم نازلون إلى الجيزة، قد لزموا الصمت، حتى إن «فريزر» اضطر إلى الكتابة إلى إبراهيم بك في 11 أبريل كي يزيل ما خلفته هزيمة حملته الأولى ضد رشيد من أثر في نفوسهم، وحتى تقوى ميولهم الودية نحو الإنجليز، فبعث إليه من سفينة القيادة «كانوب» في خليج أبي قير برسالة جاء فيها أنه قد سره تسلم كتاب إبراهيم بك الذي أكد فيه الأخير محبته للإنجليز، واستعداده للتفاهم معهم، ثم استطرد «فريزر» يقول: «إن غرض بريطانيا العظمى من إرسال أسطول إلى هذه الجهات، ليس الاستيلاء على مصر، وإنما لبسط الهدوء والاستقرار بها، ولمساعدة أصدقائها، ولما كان جلالة ملك بريطانيا يخشى من أن يعطي الباب العالي هذه البلاد للفرنسيين فقد أمر «فريزر» بالمجيء إليها حالا مع جند وجيش»، وينتظر «فريزر» وصول قوات أخرى من صقلية ومالطة، وبمجرد أن يضع الإنجليز أيديهم على النيل يشرعون في إسداء المعاونة المطلوبة إلى إبراهيم، ثم إن «فريزر» طلب إلى إبراهيم أن يبعث بخمسة أو ستة من الصناجق البكوات إلى جهات البحيرة والمنوفية وفوة حتى يمنعوا المرور على الأرنئود الذين هم برشيد الآن، والذين يخشى «فريزر» أن يسيروا في الليل إلى القاهرة، وقد استند «فريزر» في رجائه هذا على عدم وجود الوقت لديه لشراء الخيول اللازمة لجنوده الفرسان، فيستطيع فرسان المماليك إذن القيام بهذه المهمة، وقد اختتم «فريزر» رسالته هذه بأمرين: أولهما: التأكيد مرة أخرى بأنه لم يحضر للاستيلاء على مصر، ولكن لمساعدة أصدقاء إنجلترة، وثانيهما: إظهار أمله الوطيد في أن كل هذه الجهود التي يبذلها الإنجليز سوف تكلل بالنجاح.
ولم يجب البكوات على رسالة «فريزر» هذه إلا بعد عشرة أيام، وعندما فعلوا ذلك كان الانقسام لا يزال سائدا في صفوفهم - آفتهم القديمة والمزمنة - وكان من الواضح أنهم متأثرون علاوة على ذلك بهزيمة الإنجليز السابقة في رشيد، وأنهم لن يحركوا ساكنا، إلا إذا تأكد لديهم أن «فريزر» قد استولى فعلا على رشيد، وهزم جيش محمد علي، وكان العذر الذي انتحلوه لعدم حركتهم هو خوفهم من انتقام الباشا من أسراتهم الموجودة بالقاهرة، إذا ظهر من جانبهم أنهم يريدون الاشتراك مع الإنجليز في الحرب ضده، وقبل أن يكون هؤلاء الأخيرون قد نجحوا في الزحف على القاهرة حتى صاروا على أبوابها، الأمر القمين وحده بمنع محمد علي من إلحاق الأذى بأسرات البكوات بها، وحقيقة الأمر أنه كان هناك اختلاف جوهري بين وجهتي نظر البكوات والإنجليز في مسألة التعاون العسكري المنشود؛ وذلك لأن الأولين بنوا كل خططهم على نيل مؤازرة الإنجليز العسكرية لهم أولا، بعد أن يكون هؤلاء قد تحملوا عبء الحرب في أشد أدوارها صرامة، وتكللت عملياتهم العسكرية بالنجاح فعلا، فلا يكون على البكوات عندئذ سوى جني ثمار هذا الانتصار، ودون بذل أية تضحيات من جانبهم، وكان من أهم بواعث تمسكهم بوجهة النظر هذه عجزهم عن توحيد صفوفهم للقيام بأي عمل حاسم بالاتحاد فيما بينهم للأسباب التي سبقت الإشارة إليها كثيرا، وأما الإنجليز فقد كانوا يعتمدون منذ قدوم حملتهم إلى هذه البلاد - كما رأينا - على نجدة البكوات لهم، وإمدادهم بفرسانهم على وجه الخصوص لسد هذا النقص في قواتهم، ويبنون خططهم على اشتراك المماليك في عملياتهم العسكرية اشتراكا جديا، وتوقف نجاح عملياتهم هذه على حضور المماليك من الصعيد، وانضمامهم إلى صفوفهم، ولا جدال في أن عدم مجيء المماليك لنجدتهم كان من أهم العوامل الحاسمة في هزيمة حملتهم، ويتضح مدى الاختلاف الواقع بين وجهتي نظر الإنجليز والبكوات في هذه المسألة من الجواب الذي بعث به إبراهيم بك على طلب «فريزر» الخاص بأولئك الخمسة أو الستة من الصناجق الذين أراد حضورهم مع أتباعهم، كما يتضح الأثر الذي أحدثه انقسام البكوات في تعطيل حركتهم فيما كتبه شاهين الألفي إلى «مسيت» من بني سويف.
أما إبراهيم بك فقد كتب إلى «فريزر» في 21 أبريل، بأنه قد تسلم رسالة هذا الأخير الذي يقول فيها إنه جاء إلى هذه البلاد لإنقاذها من الفرنسيين، وإعادة السلام والهدوء إليها، ويريد منه (أي من إبراهيم) إرسال خمسة أو ستة بكوات مع أتباعهم إلى البحيرة والمنوفية لمنع الجند الذين في رشيد من التقهقر إلى القاهرة.
ثم شرع إبراهيم يوضح الأسباب التي تمنعه من إجابة هذا الطلب، فقال: «إن صنيع الإنجليز معنا ليفرض علينا حتما أن نفعل كل ما في طاقتنا وقوتنا لإرضائهم، ولن ينسى معروفهم ما دام هناك مماليك أحياء، ونحن مهما فعلنا لن نوفي حق الإنجليز علينا، ولكننا نرجو منك العفو والصفح، إذا كنا لا نستجيب في الوقت الحاضر لملتمسك منا، فأنتم تعرفون كل ما وقع بنا خلال السنوات العشر الماضية منذ مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد، وتعرفون أننا نعيش في الصحراء، وبعيدين لمسافات طويلة عن بيوتنا وأسراتنا بالقاهرة، ولقد كان بفضل وساطة الإنجليز أن نلنا مرتين صفح السلطان العثماني عنا، وقد ألغي هذا العفو في كل مرة بسبب المال والهدايا التي أعطاها أعداؤنا لوزراء الباب العالي، ولم تتح لنا الفرصة بتاتا لشراء هذا العفو ثانية، فلم يعد هناك مناص من العيش في الصحراء والبقاء بها بعيدين عن زوجاتنا وأسراتنا، ولقد كان من أجل تأمين هؤلاء على سلامتهم أن رضينا نحن بهذه التضحية؛ ولذلك فلو أننا بعثنا ببعض بكواتنا للانضمام إليك، وأنت الآن على هذه المسافة البعيدة بعدا عظيما منا، لبلغ خبر ذلك القاهرة سريعا، وأنت ولا شك أدرى بخلق جند العدو المجلوبين من كل أمة، وهم من اللصوص والنهابين الذين لا يرعون إلا ولا ذمة، ولا يعرفون القانون، والذين سوف ينتهزون هذه الفرصة للقبض على زوجاتنا واغتصابهن، ثم إن مديرية الشرقية إقليم واسع الأرجاء، والسبل واسعة لتقهقر العدو منها (من رشيد)، ونحن خائفون على سلامة أسراتنا التي قبلنا بسببها ما نحن فيه من حرمان كثير منذ غزو الفرنسيين للبلاد، والتي سوف تتعرض لإهانات أعدائنا، وعندما تستولي أنت على رشيد، سوف نأتي - إذا وافقت على ذلك - إلى الشرق من القاهرة، بينما تزحف أنت على شاطئ النيل الغربي للانضمام إلينا، وترسل إلينا عند وصولك إلى الجيزة ما يفيد ذلك، فنحضر نحن لمقابلتك في يوم يصير تحديده عند إمبابة، وهناك تتحد قواتنا معكم ضد العدو، وبهذه الطريقة لا يستطيع العدو إلحاق الأذى بعائلاتنا.
ونسأل المولى تعالى بفضل مساعدتكم أن ننال النصر على أعدائنا، ورجائي لك أن تقبل الأسباب التي أبديتها والتي جعلتنا لا نجيب ما طلبته منا، فابعث لنا بما يعرفنا عن المكان الذي سوف نقابلكم فيه، وحسبنا أن يتقرر الموعد أو اليوم الذي يجب علينا أن نكون فيه في النواحي القريبة من القاهرة، حتى لا يجد العدو متسعا من الوقت لإلحاق الأذى بأسراتنا، ولا يجب أن تظن أننا إنما نريد - لا سمح الله - انتحال الأعذار انتحالا، فسوف نحضر طاعة منا لأوامرك، ولن نفعل شيئا قد يسبب غضبك علينا، ولو اقتضى الأمر تضحيتنا بحياتنا، وإذا كنا حتى هذا الوقت لم نرسل إليكم بعضا من أقوامنا فمرد ذلك إلى الأسباب التي ذكرناها لكم، لقد سبق لكم أن شهدتم القاهرة من بضع سنوات مضت، ولكن اليوم ليس بها ثلث سكانها الذين كانوا قبلا بها.» ثم عاد إبراهيم يكرر القول في وصف الجنود العثمانيين الذين راح يؤكد أنهم لا يخشون الله والناس، ولا يقيمون مثقال ذرة لحياة البشر، ولكن الله تعالى سوف يعاقبهم، وطلب إبراهيم في ختام رسالته أن يرد عليه «فريزر» دون إبطاء.
وأما شاهين بك الألفي فقد بعث إلى «مسيت» برسالتين من بني سويف إحداهما في 22 أبريل، والأخرى في 23 أبريل، يأسف في الأولى على ذهابه إلى أسيوط، ومغادرته الدلتا بعد وفاة الألفي الكبير - في الظروف التي سبق ذكرها - لأن الحملة الإنجليزية ما لبثت أن حضرت بعد ذهابه، فكان ذلك على نحو ما قال يقينا من سوء حظه العظيم، ومع ذلك فإنه ما إن علم بمجيء الإنجليز حتى قرر النزول من الصعيد والانضمام إليهم، ثم استطرد يقول: «ولكنه لأساه العظيم وحزنه وقهره قد أرغم إرغاما على تأجيل تنفيذ رغبته حتى يقنع سائر البكوات بالنزول معه، وقد لجأ إلى مختلف الحجج والدعاوى لإقناعهم بذلك، ولكن من غير طائل، وهو لا يدري السبب الذي منعهم من اتباعه أو ماذا يدور في أذهانهم، فقد رفضوا رأيه، وتعب من عنادهم، وصارت رغبته الملحة اللحاق بأصدقائه الذين سبقوه من بضعة أيام مضت في السير صوب الدلتا، فترك البكوات ووصل الآن إلى جوار بني سويف، ومن المنتظر أن يكون في حدود الجيزة بعد أربعة أو خمسة أيام.» وقال شاهين: «إن إبراهيم بك، وسائر البكوات قد كتبوا إلى «مسيت» وهو لا يعلم أغراضهم أو نواياهم، ولكنه يعلم بناء على ما وقف عليه من أخبارهم أنهم قد قرروا عدم النزول من الصعيد حتى يبلغهم وصول جيش الإنجليز إلى الجيزة، وأن الجيش صار يضيق الحصار فعلا على القاهرة، ثم راح شاهين يؤكد صداقته للأمة الإنجليزية ويطلب حمايتها، ويرجو من «مسيت» السهر على مصالحه، وقد صاغ هذا في عبارات تنم عن الاستخذاء الذي كان مبعثه - ولا شك - إدراك شاهين أنه في حالة عجزه الراهنة يتعذر عليه إسداء أية معونة إلى أصدقائه الإنجليز، ولأنه كان هو الآخر كسائر البكوات لا يرى من الحكمة التقدم في زحفه إلى أبعد من الجيزة والقاهرة لا سيما بعد هزيمة الإنجليز الأولى، ولما كان قد قر رأيه على ترك عبء العمليات العسكرية يقع بأكمله على عاتق الإنجليز وحدهم، ودون أن يبذل أية تضحية من جانبه، وقد يكون النجاح حليفهم، وهو احتمال لا ينبغي عليه أن يغفله من حسابه، فقد خيل إليه أن الاكتفاء بترديد عبارات الصداقة قمين وحده بتأمين مصالحه، فقال: وأما فيما يتعلق بشخصي، فواجبك - مخاطبا «مسيت» - أن تعتقد، ولك أن تؤكد هذا لكل من يهمهم الأمر، بأني أعتبر الأمة الإنجليزية الصديق الوحيد لي، وهي حاميتي الوحيدة كذلك، ولن أعترف بسواها صديقا وحاميا لي، وهنا يحاول شاهين أن يزيل كذلك من ذهن «مسيت» الأثر الذي أحدثته علاقات شاهين ومفاوضاته مع «روشتي» ومندوبه «روفائيل» لطلب وساطة روسيا لدى الباب العالي في صالحه وحمايتها له.»
ثم استمر شاهين يقول: «ولا شك في أن الصداقة الوثيقة التي نشأت بينك (أي بين «مسيت») وبين سلفي محمد الألفي قد أعطتك الفرصة لا محالة للتعرف على آرائه وفكره، وشعوري هو نفس شعور محمد الألفي، ولن يتغير هذا الشعور أبدا؛ ولذلك فإني أعهد إليك بالإشراف على كل مصالحي بحكمتك، مقتنعا بأن صداقتك الوثيقة وغير المتغيرة سوف تجعلك لا تضن بأي جهد يتطلبه منك، وبقدر كل ما هو في استطاعتك وقوتك العمل لصالحي، وسوف أكون سعيدا لإبلاغك عواطفي هذه بنفسي عندما أحظى بلقائك.»
ثم إن شاهين لم يلبث أن كتب مرة أخرى إلى «مسيت» في 23 أبريل ومن بني سويف أيضا ردا على رسالتي «مسيت» - في 11 أبريل - إليه، وقد وصلته هاتان الرسالتان في ذات اليوم (23 أبريل)، إحداهما عن طريق إسماعيل أبي صخر، والأخرى أحضرها موسى أغا، وذكر شاهين أنه تسلم كذلك خطاب «مسيت» إلى شاهين بك المرادي البرديسي وخطاب «فريزر» إلى إبراهيم بك وقد بعث بهاتين الرسالتين إلى شاهين المرادي وإبراهيم مع علي كاشف ومحمد كخيا. ثم أخذ يسرد ما وقع من حوادث فقال: «وقبل وصول خطاباتكم هذه كنا قد قررنا النزول من الصعيد إلى الوجه البحري وحضرنا لهذا الغرض من أسيوط إلى المنيا التي وجدنا الأرنئود قد أخلوها، فأمضينا بها أربعة أيام، قررنا بعدها استئناف النزول صوب الدلتا، وأبلغت البكوات الآخرين أني سوف أسبقهم في السير، وفعلت ذلك، وكان في طريقي أن قابلت حاملي رسائلك السالفة الذكر، والتي بادرت بإرسالها مع علي كاشف ومحمد كخيا مصحوبة بخطاب مني ألح فيه على البكوات في ضرورة المجيء فورا، أو على الأقل أن يوفدوا بعض بكواتهم كما طلبتم، ثم إني طلبت من علي كاشف ومحمد كخيا أن يبذلا قصارى جهدهما؛ لإقناع البكوات بالنزول صوب الدلتا فورا، وقد استأنفت سيري بعد ذلك حتى وصلت إلى بني سويف.
وقد عاد علي كاشف ومحمد كخيا من المنيا برسالة من والدنا إبراهيم بك إلى الجنرال «فريزر» وأخرى إليك، أبعث بهما إليك عن طريق إسماعيل أبي صخر، ثم إن علي كاشف ومحمد كخيا قد أحضرا صورة من كتاب والدنا إبراهيم بك إلى الجنرال «فريزر»، كما ذكرا لي مخاوف البكوات من ناحية ما قد يقع من اعتداءات على أسراتهم في القاهرة، وأنه لما كانت رشيد لم تؤخذ، بعد فالجنود الإنجليز لا يزالون على مسافة بعيدة جدا من القاهرة، ويخشى لذلك إذا نزل البكوات صوب الإسكندرية أن يؤذي محمد علي عائلاتهم، والبكوات متأكدون من أنه إذا أخذ الإنجليز رشيد فهم سوف يزحفون على القاهرة، وسوف يذهب البكوات عندما يبلغهم خبر ذلك لمقابلتهم عند إمبابة في يوم يسبق الاتفاق عليه، وهم يرجون «فريزر» أن يخبرهم بهذا اليوم، ثم إنهم لا يجدون صعوبة في تنفيذ رغبة القائد الإنجليزي إذا أراد حضورهم على كل حال، ويرجون إرسال جواب على رسالتهم هذه حالا، ذلك إذن فحوى خطاباتهم واعتذاراتهم التي لها يقينا ما يعززها؛ لأن محمد علي قد هدد بالانتقام من عائلاتهم.»
ومع أن شاهين كان ينوي الاستمرار في السير شمالا، فقد كان الواضح من كتابه أنه هو الآخر لا يبغي التقدم إلى أبعد من الجيزة أو القاهرة، كما دل التماسه المعاذير لامتناع البكوات عن إجابة رغبات «فريزر» و«مسيت» أنه هو نفسه كان يذهب إلى نفس ما ذهبوا إليه، ثم إنه كان من الواضح كذلك أن حركة البكوات إطلاقا كانت متوقفة - قبل أي شيء آخر - على انتصار الإنجليز وأخذهم رشيد.
فقال شاهين: «وأما فيما يتعلق بشخصي، فإني أريد أن تكون أنت بدلا مني وأن تنوب عني في العمل لصالحي، وأرجوك أن تبلغ الجنرال «فريزر» أني الآن في بني سويف، وأنه حين يصلك هذا الكتاب أكون قد وصلت مع كل أتباعي إلى دهشور، فابعث إلي بأوامر الجنرال، حتى إذا كان علي أن استمر في السير بعد دهشور، فإني مستعد لفعل ذلك، وسوف يكون طبيعيا إذا بلغني سقوط رشيد أن أستلخص من ذلك أن الجنود الإنجليز صاروا قريبين، وسوف أسرع حينئذ للانضمام إليهم، وأما إذا كانت رشيد لم تؤخذ بعد فاكتب إلي بما يجب علي فعله لأني من دون البكوات جميعهم سوف أكون أقربهم إليك لوجودي وقتئذ بدهشور، ولأن هذه لا تبعد سوى ست ساعات عن إمبابة، وإبراهيم بك وسائر البكوات كذلك حاضرون؛ لأن علي كاشف ومحمد كخيا قد أكدا لي أنهم تركوا المنيا، وفي طريقهم صوب الدلتا لتلقي أوامر الجنرال «فريزر».» وقد اختتم شاهين كتابه بإسداء نصيحة ثمينة إلى «مسيت» وقواد الحملة، فقال: «وأرجو أن تبلغني سريعا خبر تسليم رشيد؛ لأنه كلما تأجل سقوطها أتيحت للعدو فرصة أكبر لتحصين وتقوية نفسه.»
ذلك إذا كان موقف البكوات الذين قال «ستيوارت» في 18 أبريل إن نجاح عملياته العسكرية ضد رشيد وفي الحماد متوقف على حضورهم لنجدته، والذين ظل هو و «فريزر» و«مسيت» وسائر ضباط الحملة يتوقعون قرب حضورهم لمعاونتهم بسبب المعلومات الخاطئة والمضللة التي صار يزودهم بها جواسيسهم، وقد وصلت رسائل البكوات إلى الإنجليز يوم 28 أبريل، ولكن الإنجليز عندما تسلموا هذه الرسائل كانت قد حلت بهم الهزيمة في واقعة الحماد، قبل ذلك بأيام قليلة، وهي الهزيمة التي قضت على كل أمل في إمكان حدوث أي تعاون عسكري بعد ذلك من جانب المماليك معهم، ولقد فشل نظام المخابرات الذي أوجده «مسيت» في إبلاغ قيادة الإنجليز أية تفصيلات دقيقة أو وافية عن الإجراءات التي اتخذها محمد علي في القاهرة لإرسال جيش حسن باشا والكتخدا بك «طبوز أوغلي» لملاقاة الإنجليز منذ عودته من الصعيد إلى القاهرة، أو عن مراحل تقدم الأرنئود في زحفهم صوب رشيد.
بل بلغ من اغترار الإنجليز بالأقوال الكاذبة، والشائعات الخاطئة التي نقلت إليهم، وأذيعت في معسكراتهم أنهم لما يأبهوا للخبر الوحيد الصحيح الذي جاءهم عن طريق الشوربجي، وفي الوقت المناسب بشأن استعدادات الباشا، وجمع كل قواته لإرسالها إلى رشيد لنجدتها، ثم إنهم ظلوا يعتقدون أن مواقعهم سواء في الحماد أو في رشيد لن يهاجمها سوى جنود غير نظاميين من السهل دحرهم وردهم على أعقابهم، والسبب في رسوخ هذا الاعتقاد في أذهانهم، إنما مرده إلى نفس الخلل السائد في نظام مخابراتهم، وكان من رأي بعض الإنجليز الذين اشتركوا في هذه العمليات العسكرية أنه لو كانت قيادتهم قد أدخلت في حسابها من مبدأ الأمر تعرض حملتهم لهجوم قوات نظامية عليها، أو أن للباشا في القاهرة جيشا يستطيع الالتحام مع جندهم في معارك جدية، لما جرؤت على إرسالها حملتيها الأولى والثانية ضد رشيد، ولنبذ العسكريون أية فكرة تدعو إلى امتلاك رشيد والاحتفاظ بها بكل احتقار كإجراء لا تقره فنون الحرب والقتال للظروف العديدة التي لابست إرسال هاتين الحملتين، والتي سبق الحديث عنها في موضعها.
ولقد سبق أن أوضحنا أن الجنرال «ستيوارت» لو علم في الوقت المناسب بحقيقة التجهيزات التي قام بها الباشا، ووقف على حركة العدو لسحب قواته ليس فقط من موقع الحماد، بل ومن رشيد كذلك، وآثر التقهقر إلى الإسكندرية إلى الالتحام في معركة لم يكن هو نفسه مؤمنا بكسبها، وأنبأت حوادث حصار رشيد ذاتها بسبب ضعف خطوط الإنجليز وصمود حاميتها بأنها سوف تكون لا محالة خاسرة، ولم يتبين الإنجليز خطورة مركزهم على وجهها الصحيح إلا عندما شاهدوا بأعينهم النجدات تأتي يوميا إلى رشيد، وقوات الأرنئود تتجمع على شاطئ النيل بالقرب من الحماد، ثم لم يحضر المماليك لنجدتهم.
وقد نقد فيما بعد كل من «ستيوارت» و«هالويل» نظام المخابرات السيئ هذا نقدا لاذعا، عندما قال الأول ضمن رسالة له إلى «فريزر» في 25 أبريل يفصل فيها عمليات المعركة وأسباب الهزيمة إن ما فعلوه خطأ من انتظار حضور المماليك لنجدتهم، ثم خديعة وتضليل مخبريهم لهم عموما قد أخذت تبدو آثارهما، حيث توقف النصر والنجاح على مدى صداقة العربي أو المصري لنا، وتلك ملاحظة يؤكد صدقها ما وقع من حوادث، فإنه بدلا من أن نجد أنفسنا وسط أصدقاء وحلفاء - كما أعطينا من الأسباب ما يجعلنا نتوقع ذلك - صارت كل قرية ترسل إلينا معلومات لا غرض منها سوى خديعتنا، بينما بقي حلفاؤنا المماليك بالصعيد ينتظرون - على ما يبدو - تحقق نجاح جيشنا، وأما «هالويل» فقد كتب إلى السير «توماس لويس» في 29 أبريل: «لقد كان من حقنا أن ننتظر بعض المساعدة من الميجور «مسيت» والسيد «بريجز»، اللذين كان ينبغي بفضل إقامتهما الطويلة في البلاد والمركز الذي لهما بها أن يكون لديهما الوسائل التي تمكنهما من الحصول على أوثق المعلومات وأصحها، ولكني أقول - بكل أسف - إنه نادرا ما كان يأتينا منهما أية أخبار بتاتا، وأن تلك الأخبار القليلة التي أبلغانا إياها لم تفد إلا في تضليلنا.»
وأما الخبر الصحيح والوحيد الذي ظفر به «مسيت» نفسه من نظام مخابراته الفاسد، بين يومي 10، 20 أبريل فقد أعلن إليه أن جيشا كبيرا من الأرنئود قد مر أمام بلدة فوة يوم 18 أبريل، قسم منه تحمله القوارب والقسم الآخر يسير برا في طريقه إلى رشيد، ولكن هذا الخبر جاء متأخرا، ومع هذا فقد كان من الميسور إنقاذ الجيش من هزيمة محققة، لو أنه أرسل في التو والساعة إلى الجنرال «ستيوارت»، ولكن «مسيت» الذي غادر المعسكر منذ 10 أبريل كان مقيما بالإسكندرية، ووجب نقل هذه المعلومات إلى الجنرال «فريزر» أولا، وهذا الأخير - كما ذكرنا - يتخذ من السفينة «كانوب» في خليج أبي قير مقرا لقيادته العليا، ثم وجب بعدئذ نقل الخبر إلى الجنرال «فريزر» أمام رشيد؛ وعلى ذلك فإن هذه المعلومات الهامة التي بلغت «مسيت» يوم 20 أبريل لم تصل «فريزر» إلا مساء اليوم نفسه، ثم لم تصل «ستيوارت» إلا يوم 21 أبريل؛ أي يوم المعركة، عندما صار لا نفع لهذه المعلومات ولا جدوى منها.
معركة الحماد
فقد بدأت منذ 19 أبريل خصوصا تتجمع النذر مؤذنة بقرب وقوع المعركة التي سوف تفصل لا محالة في مصير حملتهم، وترغمهم على الارتداد مقهورين إلى الإسكندرية.
ذلك أن جيش حسن باشا وجيش «طبوز أوغلي» اللذين افترقا عند منوف ليسير الأول على شاطئ النهر الأيسر، والثاني على شاطئه الأيمن صوب رشيد، قد وصلا الآن إلى جهة رشيد، وعبر جيش حسن باشا النهر عند «أدفينا» واتخذ موقعه بها، بينما وقف جيش «طبوز أوغلي» في برنبال على الشاطئ الأيمن للنيل، على مسافة قريبة من مرتفع الحماد، ولكنه يبعد نحو الفرسخين عن المدينة التي يفصلها عنه ثنية النهر (فرع رشيد) في هذه الجهة، وفي 19 أبريل زحف جيش حسن باشا من ديبي شمالي «أدفينا» صوب الحماد وهاجم يسار موقع الميجور «فوجلسانج»، واستطاع الإنجليز صد هذا الهجوم، وبينما كانت تجري هذه العمليات عند الحماد، لاحظ الإنجليز عند رشيد أن سوق معسكرهم قد أقفر تماما من البدو، كما بلغهم احتلال الأرنئود لقرية أدفينا، وتوقعوا أن يكون غرض العدو من احتلالها، إما لبداية العمليات الجدية على يمين خطوط الإنجليز في رشيد، وإما لاحتلال موقع يستطيع منه قطع المواصلات بين الإنجليز والمنطقة الداخلية التي كانت تأتيهم منها المؤن والإمدادات، وكان إقفار سوقهم في هذا اليوم النتيجة المباشرة لهذه العمليات؛ وعلى ذلك، فقد بادر «ستيوارت» بإبلاغ هذه المعلومات إلى «فريزر» الذي كان من رأيه أنه لا أمل في النجاح إذا نزل العدو إلى الميدان في قوات كافية، ويتحتم في هذه الحالة الاستعداد للانسحاب بأقل خسارة ممكنة، ورفض «فريزر» جلب مدافع أخرى إلى خط النار، إلا إذا توافرت الوسائل اللازمة لنقلها، ووجد العداد الكافي من الرجال لخدمتها في حالة الاضطرار إلى الانسحاب أمام العدو، وأعلن «ستيوارت» في الوقت نفسه عزمه على تعزيز مركز الحماد، واستطلاع مراكز العدو في «أدفينا» لمعرفة ما إذا كان ممكنا طرده منها دون مجازفة؟ على أن الأرنئود قاموا في صباح هذا اليوم نفسه (19 أبريل) بخروج في قوات فاقت كثيرا تلك التي خرجت مع علي بك السنانكلي يوم 11 أبريل وجرح هذا الأخير أثناء هذه العملية، فوقع التحام شديد اشترك فيه «ديلانسي» و«أسولد» و«ريديل»
Riddel ، ثم حضر «ستيوارت» وتولى القيادة بنفسه، وأمر بمطاردة العدو الذي بدأ يتقهقر، ولكن الإنجليز لم يستطيعوا ملاحقة الأرنئود أو هزيمتهم؛ لأن مراكزهم كانت مكشوفة ومعرضة للنيران، وقد اعترف أحد رجال الآلاي الثامن والسبعين فيما بعد بأن بنادق الأرنئود كانت يفوق مرماها مرمى البنادق الإنجليزية، فلم يكن هناك مناص إذن من ارتداد الإنجليز أنفسهم، وأشار بهذا أيضا الكابتن «هالويل» فصدرت الأوامر بذلك، وما إن بدأ التقهقر حتى عاود الأرنئود الكرة، وخرج من رشيد أولئك الذين كانوا قد انسحبوا إليها، واشتد إطلاق الرصاص من الأسوار على الإنجليز، ولكن الأرنئود الذين حرصوا دائما على عدم الابتعاد عن أسوارهم، ما لبثوا أن أوقفوا مطاردتهم للإنجليز، وعادوا أدراجهم يهنئون أنفسهم على هذا النصر الذي أحرزوه.
وقد كفى ما وقع في هذا اليوم سواء في رشيد أو في الحماد لإقناع كل إنسان بأن الأرنئود قد قرروا قطعا اتخاذ خطة الهجوم، وكان في رأي بعض رجال الحملة أنه كان يجب عندئذ وبمجرد أن اتضحت نية العدو تقرير الانسحاب فورا إلى القاعدة أو المخزن الذي أقاموه على طرف بحيرة إدكو، فقد جاء في تقرير وضعه أحد هؤلاء أنه سوف يكون مبعثا للأسى والأسف دائما عند اتضاح أن الهجوم هو الخطة التي قررها العدو يوم 19 أبريل عدم وقف كل العمليات الجارية ضد رشيد وعدم إنزال مدفعيتنا الثقيلة إلى السفن في بحيرة إدكو، وعدم جمع فرق الجنود من المواقع والمراكز الأمامية والانسحاب فورا إلى القاعدة التي لنا على طرف بحيرة إدكو، لقد كان القمر ساطعا في هذه الليالي، والأتراك يغطون في النوم كعادتهم، ومن المتيسر لذلك إجراء كل الترتيبات اللازمة لنقل المدفعية والمخازن والعتاد أثناء الليل، وأن يجمع الجيش يوم 20 أبريل للتقهقر عسكريا بصورة مشرفة أمام القوة التي في وسع محمد علي إنزالها ضدنا في الميدان، وتلك كانت فكرة الجنرال «ستيوارت»، ولكن هذا القائد من غير أن تكون لديه أوامر محددة ومن غير أن يزوده قلم المخابرات بالمعلومات اللازمة لتنفيذ هذه الحركة، حتما صار لا يستطيع تحمل مسئولية عمل قد يستدل منه بصورة ما على أنه فاقد الثقة في نفسه أو في جنوده، فهو لدرجة معينة إنما يعمل مرءوسا لغيره، بينما قد ترك له في الوقت نفسه أن يقرر وحده إما المجازفة بسلامة جنده والالتحام مع العدو، وإما التخلي عن مشروع الحملة ضد رشيد وهو مشروع قيل وقتئذ إن سلامة مركزنا وأمنه في مصر، إنما يتوقف على تنفيذه، وقد ساء «ستيوارت» أن يجد نفسه في هذا الوضع المحرج، وآثر تأجيل الانسحاب إلى اللحظة التي يصير فيها الانسحاب إجراء تلزمه الضرورة، ويمكن فقط تنفيذه بتحمل خسائر فادحة.
وفي مساء 19 أبريل إذن بعث «ستيوارت» بالكابتن «تارلتون»
Tarleton
مع بعض القوات إلى الحماد، على أن يدفع العدو عن هذا الموقع إلى ما وراء النهر، إما أثناء الليل أو في الساعات المبكرة من صبيحة اليوم التالي، وصدر أمر في الوقت إلى «فوجلسانج» بإضافة سرية من قواته إلى جنود «تارلتون» وافترض «ستيوارت» أن الأرنئود لا يحتلون «أدفينا» بكل قواتهم، وأن لديهم فرسانا على هذا الجانب من النهر؛ ولذلك فقد ترك جند «تارلتون» عتادهم وراءهم عندما ساروا في صباح 20 أبريل زاحفين في السهل، ولكن «تارلتون» ما لبث أن قرر الانسحاب عندما لاحظ وجود قوات كبيرة من فرسان العدو، فلم يشأ المجازفة بالاشتباك معهم، وكان عندئذ أن ارتكب خطأ كبيرا بتقسيم قواته إلى قسمين، واحد منهما يسير معه صوب مراكز الإنجليز إلى يسارها، والثاني للدخول في قرية الحماد ذاتها، ففاجأ فرسان العدو هذا القسم وأحاطوا به وقتلوا ثلثي الجنود - وكان هؤلاء الفرسان من جيش حسن باشا - وبلغ نبأ هذه الهزيمة «ستيوارت» قبل ظهر هذا اليوم بساعة واحدة، فقرر فورا إرسال نجدة إلى الحماد على رأسها «ماكليود» و«ديلانسي»، ثم أرسل بعد الظهر سريتين أخريين، وصلت جميعها سالمة إلى الحماد، وقد ترتب على فصل هذه السريات من الجيش الرئيسي أمام رشيد أن لحق الضعف بخط الإنجليز عند رشيد، ثم إن العدو شهد حركاتهم، وعرف عدد قواتهم رجلا رجلا، وكان في استطاعته تحريك قواته هو حسبما أراد، وصارت حال الخط لذلك دقيقة بدرجة خطيرة، وكان معنى تضييق الخط ترك بعض تحصينات الميدان أو المتاريس والمواقع التي مأنتها وإغراء العدو على الإحاطة بالإنجليز وتطويقهم، وتدخل حسن الحظ وقتئذ لإنقاذ الإنجليز عندما أغفل الأرنئود فعل ذلك.
وأما «ماكليود» فقد أبلغ من الحماد أن الموقع لا بأس به، ويمكن صد أي هجوم يقع عليه، وأن الهزيمة التي حدثت في الصباح كان سببها عدم الحيطة وعدم النظام في السير، ولم يرتح «ستيوارت» لتقرير «ماكليود» وقرر أن يقوم هو شخصيا بتفتيش الموقع، ثم إنه ما بدأ يسير نحو الحماد حتى كاد يحيط به فرسان العدو ويأسرونه، ولكنه استطاع الوصول بسلام، وقام بتفتيش الموقع في المساء ووجد به مواطن ضعف كثيرة، واتفق مع «ماكليود» على أن يثابر هذا الأخير في الدفاع عن الحماد أطول مدة ممكنة، ولكن عليه إذا وجد نفسه مهددا بهجوم قوي من جانب فرسان العدو، أو أن هؤلاء سوف يستديرون خلفه، أن يجمع كل قواته ويتقهقر بها إلى البحيرة (بحيرة إدكو) التي تؤمن في واقع الأمر أحد جناحيه، وأما إذا تعذر عليه الدفاع أو التقهقر إلى البحيرة فعليه حينئذ أن ينسحب بقواته إلى مرتفعات رشيد، حيث ينضم هناك إلى الجيش الرئيسي، وقرر «ستيوارت» في الوقت نفسه إذا لم يحضر المماليك يوم 21 أبريل وعلم محققا أنهم لن يحضروا، أن يأمر بتقهقر الجيش بأسره في الليلة التالية؛ أي ليل 21 أبريل، وعاد «ستيوارت» إلى معسكره أمام رشيد في الساعة الثانية من صباح يوم 21 أبريل، وتقرر بالاتفاق مع «هالويل» أن تجرى في هذا النهار كل الترتيبات اللازمة لتقهقر الجيش في المساء، مع اتخاذ جانب الحيطة حتى لا يشعر الجيش بهذا العزم على التقهقر، وأبلغت التعليمات في هذا الشأن سرا إلى «هالويل» و«أسوالد» وغيرهما، ولكن هذه الترتيبات جميعها جاءت متأخرة.
فقد قويت روح الأرنئود المعنوية بسبب النصر الذي أدركه فرسان جيش حسن باشا صباح يوم 20 أبريل، وبعث حسن باشا بالأسرى الإنجليز ورءوس قتلاهم المقطوعة إلى معسكر «طبوز أوغلي» على الشاطئ الآخر في برنبال، وكان «طبوز أوغلي» قبل ذلك متحيرا فيما يجب عليه فعله: هل ينضم إلى قوات حسن باشا عند الحماد؟ أم يدخل رشيد ذاتها؟ فلم يلبث وصول الأسرى والرءوس المقطوعة أن جعله يقرر الانضمام إلى حسن باشا، فعبر جنوده النهر أثناء الليل (ليل 20-21 أبريل) ونزلوا على مسافة فرسخ واحد فوق خطوط الإنجليز استعدادا للهجوم على الحماد عند طلوع النهار، ومع أن الإنجليز كان لهم مركز للاستكشاف في برج أبي منضور فقد عجزوا - بسبب انتشار شبورة كثيفة صباح يوم 21 أبريل - عن مشاهدة حركات العدو، حتى إذا تقدم النهار، وانقشعت هذه، شاهدوا في أعلى النهر عددا كبيرا من القوارب مع سفينتين مسلحتين بمدافع ثقيلة، ونقل الخبر في التو والساعة إلى «ستيوارت»، ولكنه أرجأ اتخاذ أي قرار فيما يجب عمله حتى يصله تقرير «ماكليود» الذي ما لبث أن جاءه بعد قليل وفيه يقول: «إن فرسان العدو لم تشاهد في هذا اليوم، ولكن لدهشتي العظيمة أرى حوالي الستين أو السبعين من القنجات أو القوارب يؤيدها إبريق عظيم الحجم تسير في النيل في اتجاهنا، ولا أدري ماذا أقول في ذلك، بلا شك يبدو أن هذه نجدات آتية للعدو، ونجدات كبيرة جدا، وأعتقد أن هناك قوارب مدفعية بين هذه القنجات، وواجبي أن أتهيأ للتقهقر على مركزك، فابعث إلي بأقصى سرعة ممكنة بما تراه»، هذه الرسالة وصلت «ستيوارت» حوالي السابعة من صباح 21 أبريل، فأجاب «ستيوارت» فورا على رسالة «ماكليود»، ولكن الجندي حامل هذا الجواب لم ينجح في الوصول إلى الحماد، ومع أن «ستيوارت» بعث كذلك بنجدات إليها برئاسة الكابتن «أكورت»
A’Court
فقد حال فرسان العدو بينه وبين الوصول إلى الحماد واضطر إلى النكوص على عقبيه، فلم يبق هناك من وسيلة سوى ذهاب «ستيوارت» نفسه بقواته جميعا لنجدة «ماكليود» فأمر برفع الحصار عن رشيد فورا، وبدأ الزحف صوب الحماد، وشاهد الأرنئود هذا التقهقر فخرجوا من المدينة بقوات عديدة، وشنوا هجوما عاما على كل المواقع، وحصل التحام بالسونكي، ولكن الإنجليز استطاعوا الوصول إلى السهل، واستمر فرسان العدو يطاردونهم في تقهقرهم، وكان غرض الجيش المتقهقر الانسحاب إلى بحيرة إدكو، حيث كان يرجو أن يلقى هناك عند القاعدة أو المخزن في طرف البحيرة جيش «ماكليود» المنسحب من الحماد.
وقد وصف أحد رجال جيش «ستيوارت» هذا التقهقر من رشيد إلى إدكو ثم ما جرى من حوادث، فقال: «وعندما اقتربنا من البحيرة، جاء إلى العدو الذي استمر يلاحق الإنجليز فرسان ومشاة من ناحية الحماد، بينهم قادة من طراز ممتاز، وقد طوقنا العدو عندئذ وأحاط بنا تماما وفي قوات عظيمة، ولكن الميسرة التي بلغت شاطئ البحيرة نصبت مدافعها وأنشأت دفاعا كافيا، والجيش الذي كان قد بدأ يتقهقر في صورة مستطيل اتخذ الآن شكلا ذا ثلاثة جوانب ... وقد وضعنا مدفعا كبيرا على شاطئ البحيرة الذي سببه تبخر المياه في هذه الناحية، فترك أرضا واسعة وصلدة، وأوقف هذا المدفع فرسان العدو على مسافة بعيدة منا، ولكن مشاة العدو أزعجونا إزعاجا كبيرا بإطلاقهم الرصاص من كثبان الرمال على المربع مباشرة، وفي هذا المكان افترق الطريق، فإلى اليمين منا يقود الطريق إلى الحماد، وإلى يسارنا يسير الطريق إلى إدكو، وفي هذا المكان كذلك كنا نتوقع أن نجد «ماكليود» ولكننا لم نلق أحدا، وقد أمر «ستيوارت» الجيش بالوقوف، ثم أشار إلى هذه الطرق المختلفة: أحدهما يفضي إلى إدكو ومن المحتمل إلى النجاة، والآخر إلى الحماد وهو الطريق الذي يقضي الواجب والشرف اتباعه، وقال إنه يعرف أن رجاله إنما يؤثرون هذا الطريق الأخير، والسير فيه؛ حتى يقفوا على ما حدث لزملائهم، ويعرفوا مصيرهم، وهم الذين من المحتمل أن يكون العدو قد أحاط بهم وطوقهم، ولا تتعادل قوتهم مع قوات هذا العدو ونيرانه، ويعتمدون على نجدة زملائهم لهم، ثم إنه أظهر تصميمه على مهاجمة العدو فورا، والسير في اتجاه الحماد إلى أن يتمكن من الوصول إلى مكان تتاح له الفرصة منه لمشاهدة هذا الموقع والجهات المجاورة له، وفي هذه اللحظة استمر العدو يمطرنا بوابل من الرصاص، وقد قمنا بهجوم عنيف على العدو أرغمه على الارتداد والهرب، ولا شك في أن مطاردة العدو المتقهقر وقتئذ كانت تلحق به خسائر كبيرة، ولكن «ستيوارت» كان مشغولا بمسألة الحماد، ولا يمكن أن يعوض انتصار وقتي ما يتبع ذلك من إضعاف جيش لا يزال أمامه واجب شاق لإنجازه، ثم تقهقر صعب لإتمامه، فتقدم الجيش صوب الحماد، ولم يبق أحد من العدو حتى لمراقبة حركته، بل شوهد العدو بدلا من ذلك يكاد يطير على كثبان الرمال من فرط السرعة التي هرب بها ربما خوفا من استدراجه بعيدا عن مراكزه المحصنة للالتحام في معركة لا يملك فيها المزايا التي تضمن له الانتصار، وكان حوالي الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم 21 أبريل أن غير الجيش وجهته، وبعد مسيرة ساعة ونصف ساعة في اتجاه النيل، وصلنا إلى أرض تمكننا من مشاهدة شاطئ القناة عند الحماد والسهل الذي وراءها، ولكن شيئا ما لم يشاهد هناك سوى بعض فرسان العدو ينسحبون في راحة وبطء على الجانب الآخر من الموقع، ثم بعض خيام العدو مقامة على الشاطئ نفسه، وبعد الفحص الدقيق بالنظارات لم تلحظ أية آثار لميدان معركة، ومهما يكن مصير زملائنا، فالمقطوع به أنهم لم يكونوا هناك في خطوط الحماد، وقد سبب ذلك مخاوف عظيمة، ولم يعد هناك مناص من أن يعود «ستيوارت» أدراجه وأن يذهب الجيش إلى قرية إدكو، حيث يتوفر بها الماء والراحة، وفي السابعة مساء اليوم نفسه (21 أبريل) وصل الجيش إلى النقطة أو القاعدة أو المخزن التي كانت حتى الآن المكان الذي تجري مواصلاتنا منه مع الأسطول بواسطة القوارب، وقد وجدنا هنا الضابط البحري صاحب القيادة بها، يجهل كل ما حصل لنا، ثم إننا لم نجد «ماكليود»، ووقف الجند للراحة، ووزع عليهم الخبز والنبيذ، وأنزل الجرحى والعتاد إلى القوارب في البحيرة، واحتفظ الجيش بثلاثة مدافع فقط، واستمرت هذه العملية حتى العاشرة مساء وعندئذ بدأ السير.
وفي الواحدة من صبيحة 22 أبريل، وصلنا إلى قرية إدكو، وهنا كان الهدوء شاملا، وفي وسعنا الوقوف للراحة بها، ولكن الخوف من الطريق ويمتد أميالا ثلاثة، أوله يسير بحذاء البحيرة، حيث يكثر النخل والعشب الكثيف الملائم لهجوم الفرسان والمشاة، ثم يسير بعدها في صحراء رملية، حيث لا يخشى كثيرا من هذا الهجوم، فوجب استئناف السير فورا، ولم يمكن أخذ شيء من قرية إدكو سوى الماء، إذ تركها أهلها؛ لأن هؤلاء كانوا يعرفون جيد المعرفة أنهم سوف يتعرضون لانتقام مطاردينا الشديد إذا بقوا بها، وبعد أن اجتاز الجيش منطقة النخيل، وخرج إلى الطريق الصحراوي الرملي أظهر العدو نفسه في قوات كبيرة، وتبادل الجيش إطلاق النار معه، وأخيرا وصل المتقهقرون إلى قيروان سراي في الثالثة من بعد ظهر يوم 22 أبريل، وقد وصل باقي العتاد من إدكو بعد ذلك بقليل بفضل القوارب التي أرسلها «هالويل» لإحضاره.»
وقد استطرد صاحب التقرير إذا ذكر مسألة الأخبار التي جاءت «ستيوارت» متأخرة، وبعد فوات الفرصة عن مرور قوات الأرنئود من فوة يوم 18 أبريل لنجدة رشيد - وقد ذكرنا هذه المسألة في موضعها - فقال: «ولا يجب أن نغفل ذكر أنه كان في هذا اليوم أن شوهد قارب في البحيرة، يحمل رسالة من سفينة الأميرال «توماس لويس» إلى الجنرال «ستيوارت» في طيها رسالة من الميجور «مسيت» يقول فيها هذا الأخير إن معلومات أكيدة قد بلغته من فوة بأن جندا كثيرين قد مروا من هذا المكان يوم 18 أبريل، بعضهم في السفن، والبعض الآخر بطريق البر، قاصدين إلى رشيد ، وحيث إن فوة تبعد أربعين ميلا تقريبا من رشيد، فيكون العدو قد أتاح لنا الفرصة للحذر منه ومن حركاته في الوقت المناسب، غير أن حكم القضاء والقدر المحزن اقتضى أن تمر هذه المعلومات في طريق دائري أفقدها قيمتها، ولم يمكن الانتفاع بها، فقد كان الواجب أولا أن تأتي هذه المعلومات إلى الميجور «مسيت» في الإسكندرية، ثم إن هذا عليه بعد هضمها أن يبعث بها إلى الجنرال «فريزر» في خليج أي قير، ومن هناك عندما يسمح الجو والريح تنقل إلى الجيش الذي توقف مصيره على نوع المعلومات التي تأتيه؛ ولذلك فلو أن «مسيت» بقي في مركزه وقد تقدم كيف أنه غادر المعسكر يوم 11 أبريل أو ترك تعليمات بضرورة أن تأتي الأخبار والمعلومات أولا إلى «تابرنا» أو الشيخ محمود - وقد بقي هذان في المعسكر - كي يعلم بها «ستيوارت» فورا، فلو أن هذا حدث لكان من الممكن أن ينسحب في الوقت المناسب الجنود الذين بموقع الحماد، ولاستطاع الجيش عند اتحاده ثانية الرجوع أو الانسحاب إلى قيروان سراي رغم أنف كل الجيوش التي يتأمر عليها محمد علي.
وقد ترك الجنرال «ستيوارت» الذي يجهل لغة البلاد، وليس بجواره في المعسكر سوى «تابرنا» والشيخ محمود، وهما مع مهارتهما وذكائهما كانا مرءوسين لغيرهما فحسب، وهذا بينما بقي الكبار جميعهم في مراكز بعيدة، لا نفع ولا جدوى من بقائهم بها، ولا قدرة لهم على اتخاذ ما يجب من ضروب الحيطة والحذر لمنع الشر الذي كان من الطبيعي توقع حدوثه، ولقد دلت زيادة معرفتنا بمصر بعد ذلك، مع مبلغ السهولة التي يمكن بها الحصول على المعلومات والأخبار في هذه البلاد على أنه يكاد يكون أمرا لا يصدق أن يتم تجهيز مثل هذه القوات العظيمة في القاهرة، وأن تصل أمام مراكزنا دون أن يعرف شيء عنها، لقد قضى الأتراك ثلاثة أيام في سيرهم إلى فوة، ويجوز لنا افتراض أن حركاتهم كذلك كانت جميعها بطيئة، ومع ذلك، فإنه في بلاد يتجول في أنحائها العربي الذي لم تخضعه حكومتها، ومقابل قدر من المال في وسعك أن تجعله يذهب إلى أي مكان، ويفعل أي شيء تريده، خفيت حركات هؤلاء الأرنئود ومراحل تقدمهم على أولئك الذين يفصل اقترابهم منهم في مصيرهم، وبدأ انتقال جيش «ستيوارت» من قيروان سراي إلى أبي قير يوم 23 أبريل، وتمت هذه العملية في اليوم التالي، وعندئذ سار الجيش إلى الإسكندرية، فبلغ مرتفعاتها الشرقية - المكان الذي بدأ منه الزحف على رشيد - في اليوم نفسه أي في 24 أبريل 1807، وكان «ستيوارت» قبل ذلك قد أرسل اثنين من البدو ليأتياه بالخبر المحقق عن مصير «ماكليود» وجنده في الحماد.
أما «ماكليود» فقد كان الواجب عليه وفق الخطة الموضوعة مع «ستيوارت» في مساء 20 أبريل، أن يبادر بالانسحاب من موقعه، إما إلى مرتفعات رشيد وإما إلى طرف البحيرة، إذا تبين له أن الموقف لا يزال على خطورته صباح يوم 21 أبريل، ولكن «ماكليود» الذي بلغه في نفس مساء 20 أبريل أن قوارب العدو محتشدة في النيل، لم يأبه لهذه الأخبار وتصرف تصرفا غير حكيم، بعدم الانسحاب فورا، وتجنب الاشتباك مع عدو متفوق عليه، ولا يسفر الالتحام معه في معركة إلا عن هزيمة محققة، حتى إذا شهد «ماكليود» بنفسه في صباح يوم 21 أبريل، أن حوالي المائة من قنجات الأرنئود مع مركبين كبيرين مسلحين بالمدافع محتشدة في النهر على مسافة نصف ميل من موقعه، وتبين له فوات الفرصة في الانسحاب والتقهقر بقدر من الاطمئنان إلى نجاح هذه العملية، بادر باتخاذ الترتيبات الأخيرة للدفاع عن موقعه بصورة تمكنه من التقهقر دون خسائر فادحة، ولكن «ماكليود» ارتكب عدة أخطاء عند إجراء هذه الترتيبات الأخيرة، لم تلبث أن مكنت العدو من هزيمته هزيمة منكرة.
حقيقة كثرت الثغرات في خطوطه في كل مكان، وكان موقعه ضعيفا ولا يسمح بالصمود في الدفاع عنه طويلا، ولكنه - على الأقل - كان يعطي فسحة من الوقت لتدبير عملية التقهقر في نظام إذا عرف القائد كيف يضع خطة محكمة للدفاع عنه، فقد وقعت الحماد خلف القناة، ثم كان من شأن ضيق شوارعها ودنو مساكنها الشديد من بعضها بعضا، أن يجعل منها إذا احتلت احتلالا قويا نقطة دفاع طبيعية، ومركزا للمقاومة، يستعصي على العدو إخضاعه بسهولة، فتتاح الفرصة عندئذ لجمع الفصائل - وكان عددها ثلاثا - المكلفة بحراسة الموقع من ناحية البرزخ الذي سبق الحديث عنه، ثم جعلها تنسحب إما إلى جهة أبي منضور، وإما إلى البحيرة (بحيرة إدكو)، فيكفي قيام حوالي المائة بالدفاع عن الحماد إلى النهاية؛ لإنقاذ سائر زملائهم، ولكن «ماكليود» سلك طريقا آخر في ترتيباته، فكلف الميجور «فوجلسانج» بمغادرة المركز الذي كان به على اليسار، والذهاب بجنده لاحتلال مرتفع يقع على مسافة ثلاثة أرباع الميل تقريبا خلف وسط الخط، ثم أمر الكابتن «تارلتون» الارتداد من موقعه في اليمين إلى الموقع الذي كان به الميجور «موهر»
Mohr
في الوسط، وذلك بالمرور خلف ضفتي أو شاطئي القناة، ثم ذهب «ماكليود» بنفسه إلى موقع «موهر»، وأمره بسحب الجنود الستين الذين كانوا يحتلون قرية الحماد ذاتها، وهكذا دلت هذه الخطوات السريعة والمرتجلة على أن «ماكليود» إنما أراد من ذلك وضع جيشه بأكمله خلف البرزخ، حول الموقع الذي كلف «فوجلسانج» بالوقوف فيه، وذلك لجعل الجيش المجتمع في هذه النقطة ينسحب بعد ذلك للانضمام إلى جيش «ستيوارت» عند رشيد، ولكن العدو الذي لم يلق أية مقاومة لم يترك لماكليود الوقت الكافي لتنفيذ خطته.
فإنه بمجرد أن لاحظ فرسان الأتراك أن الإنجليز قد أخلوا أماكنهم الواقعة إلى يسار مركزهم، قاموا في التو والساعة بهجوم عنيف عليه، وتمكنوا بفضل استدارتهم خلف ضفتي القناة من عزل قوات «فوجلسانج» عن قوات «موهر»، ولما كان «تارلتون» قد غادر مركزه كذلك للارتداد إلى موقع «موهر»، فقد استدار حوالي خمسمائة من فرسان العدو خلف ميمنة خطوط الإنجليز، وشنوا هجوما قويا على السريات أو الفصائل الثلاث بتلك الجهة، وذلك بينما استولى المشاة الأتراك والأرنئود على قرية الحماد ذاتها دون قتال ، ثم زحفوا صوب ضفتي القناة دون أن يلقوا أية مقاومة، وكان «ماكليود» بعد مغادرته «موهر» قد ذهب إلى «تارلتون» فقابله مع جنده والأخير في طريقه إلى موقع «موهر»، حسب التعليمات التي أعطيت له منسحبا إلى الوسط ، ولما كان فرسان العدو على وشك أن يطوقوا «ماكليود» و«تارلتون»، فقد أوقف الأول سير الجند، وشكل منهم مثلثا تستند قاعدته على القناة، وبعث في الوقت نفسه بالكابتن «ديلانسي» إلى «موهر» يأمره بإخلاء الممر أو معبر القناة الذي كان يحتله هذا الأخير أمام قرية الحماد، والذي كان الأرنئود قد بدءوا يطوقونه، وقد نفذ هذا الأمر فورا، ولكن في سرعة أشاعت الاضطراب والفوضى في الصفوف، واحتل الأرنئود ضفتي القناة وتمكنوا من هذا المرتفع من إصلاء الإنجليز نارا حامية، كما أطلقت النار عليهم من القرية بشدة، وأمر «ماكليود» باحتلال المرتفعات ضفتي القناة ولكن دون طائل؛ لأن فرسان العدو ضيقت تضييقا شديدا على جنده، وتزايدت الفوضى في صفوف الإنجليز تبعا لتزايد هذا التضييق عليهم، وحصدتهم نار الأرنئود حصدا، وأصابت «ماكليود» رصاصة أردته قتيلا، واستمر القتال مدة ساعة تعالت في أثنائها صيحات الرعب والفزع، مختلطة بأنين الجرحى وحشرجة القتلى، وسقط في الميدان «تارلتون» وغيره من كبار الضباط، وتسلم الكابتن «ماكاي»
Mackay
القيادة، وكان هذا قد أصيب بجرحين قبل ذلك، ووجد «ماكاي» من العبث محاولة الاحتفاظ بالمرتفعات، فأمر بالانسحاب منها إلى سهل على مسافة قريبة إلى الوراء، فلم يبلغ هذا السهل سوى خمسين فحسب، أكثرهم مثخنون بالجراح.
ثم قرر «ماكاي» الاتصال بقوات «فوجلسانج» الذي كان مركزه كذلك ميئوسا منه، فلم يستطع سوى خمسة فقط الوصول إليه، وقتل الباقون وأسروا وأصيب «ماكاي» بجرحه الثالث، وأنقذ بصعوبة، ثم وقف القتال فترة حتى ينتهي الأرنئود من قطع رءوس القتلى، وأخذ ما وجدوه من أسلاب وغنائم، وعندما استؤنف القتال تحول الأرنئود إلى مهاجمة «فوجلسانج» الذي وقف بقواته في شكل مربع، وقد صح عزم جنده على المقاومة إلى آخر قطرة من دمائهم، ولكن هؤلاء كانوا يحتلون تلا من كثبان الرمال يحيط به زغل، استطاع منه العدو زحزحة الجنود الإنجليز من هذا التل واحتله مشاة الأرنئود بدلا منهم، وتعرض الإنجليز لهجوم فرسان العدو إذا حاولوا ترك مراكزهم، فاضطروا إلى الصمود بمربعهم؛ لتلقي نيران العدو، حتى إذا انقضت ساعة ونصف الساعة والقتال دائر على أشده، كان العدو وقد فرغ من نصب أحد المدافع التي استولى عليها، فبدأ الضرب بهذا المدفع على الإنجليز، وقد كفت طلقتان منه لإزعاج مربع الإنجليز إزعاجا كبيرا، وكان معنى التقهقر في هذه الظروف التعرض لكارثة محققة، كما كان معنى الصمود والبقاء استمرار تحمل الجيش لخسائر فادحة من جراء تعرضه لضرب العدو المتصل عليه، وقد ظهر في هذا الموقف الدقيق ما كان لبنادق الأرنئود من مزية التفوق في المرمى على بنادق الإنجليز، ثم حدث في اللحظة التي أحاط فيها فرسان العدو بالجيش من كل جانب أن صدر الأمر بوقف النار، وشهد الجنود بعد ذلك «فوجلسانج» يخرج من الصفوف يلوح بمنديل - علامة التسليم ويضم إلى صدره المبعوث الذي أرسله العدو للمفاوضة، فكانت دهشة الجنود كبيرة، وصمم فريق منهم على القتال إلى النهاية، واستمروا يطلقون رصاصهم على العدو ولكن دون طائل، بل إن الأرنئود بمشاتهم وفرسانهم ما لبثوا أن اخترقوا المربع من كل جهة، فطغت جموعهم على هؤلاء، وقبضوا على فريق منهم، وحاولوا إرغام الباقين على إلقاء سلاحهم، ولكن هؤلاء الأخيرين رفضوا؛ لأنهم ما كانوا يتوقعون أن يرحمهم الأرنئود، ومع ذلك، وعلى حد قول أحد أسراهم في هذه المعركة الشاويش «ووترز»
Waters
من الآلاي الثامن والسبعين: سرعان ما وجد هؤلاء أنفسهم مخدوعين في هذه المسألة؛ لأنهم بعد أن عوملوا بقسوة في أول الأمر، وسلبهم العدو حتى عراهم من ملابسهم، فإنه ما إن فرغ الأرنئود من أخذ أسلابهم، وتم نقل جميع الأسرى إلى مسافة كافية في المؤخرة، إلى مكان عرف الأرنئود أنهم سوف يكونون فيه آمنين على أنفسهم، حتى تغير مسلكهم، وعاملوا في رفق ولين وكرم غير عادي كل أولئك الأسرى الذين لم يظهروا العناد، ولما كان «ووترز» قد سجل هذه الحقيقة في رسالة بعث بها من القاهرة في 9 مايو إلى أحد زملائه - على ما يبدو - بالإسكندرية، فقد استمر يقول: «ولنا أن نسدي الشكر للمولى تعالى ونحمده على نعمائه، لقدرته جل جلاله على إدخال الرحمة والشفقة في قلوب أعتى القساة؛ حيث إننا لا نزال نلقى نفس المعاملة من العدو من ذلك الوقت إلى هذه اللحظة، بما يتفق وما جرت به العادة من معاملة أسرى الحرب، بل وفي بعض الحالات أفضل بكثير من ذلك.»
وهكذا انتهت معركة الحماد الفاصلة بعد قتال بدأ في السابعة من صبيحة يوم 21 أبريل، واستمر ثلاث ساعات بتمامها، وكانت خسارة الإنجليز فادحة، فلم ينج من الموت من رجال «تارلتون» وعددهم 247 رجلا سوى خمسين فحسب، لم يكن منهم من غير جراح سوى سبعة عشر جنديا، وأما خسائر الإنجليز الإجمالية في هذه المحاولة الثانية ضد رشيد فكانت 38 ضابطا، منهم 22 أسرى في قلعة القاهرة، بينهم «تابرنا» و«ديلانسي» و«فوجلسانج» وبلغ عدد الجرحى منهم أربعة، ومن بين هؤلاء «ماكاي» «وموهر» ثم 7 في معسكر الأرنئود منهم خمسة جرحى أحدهم «سوننبرج»، ثم تسعة قتلى من بينهم «ماكليود» وتارلتون، وأما أسرى الجنود في قلعة القاهرة فقد بلغوا 466 من بينهم 26 جاويشا، ويؤلف قسما من هؤلاء الأسرى ستون وقعوا في قبضة الأرنئود أثناء المحاولة الأولى ضد رشيد، واثنان من ضباط البحرية، وثمانية من البحارة الجنود، وفيما عدا ذلك فقد بقي 49 في أسر الأفراد العاديين الذين اعتبروهم رقيقا، وتصرفوا فيهم من بيع وشراء كعبيد.
وأما الأسرى الإنجليز فقد أرسل فريق منهم في السفن إلى القاهرة، وكان أكثرهم جرحى، ولما لم يوجد أطباء أو جراحون للعناية بأمرهم، فقد وصل هؤلاء إلى بولاق بعد رحلة استغرقت ستة أيام في حالة محزنة، وقد أشرف بعضهم على الموت، ومات فعلا فريق منهم، وأما سائر الأسرى فقد ساروا برا إلى القاهرة، وعانوا مشقات عظيمة أثناء هذا السير، وقد انتابتهم الحمى، وأنهك قواهم التعب والمرض، وقد وصف الشيخ الجبرتي دخولهم إلى القاهرة، فذكر في حوادث يوم 24 أبريل حضور الأسرى وعدتهم تسعة عشر شخصا، وعدة رءوس، فجروا بهم من وسط الشارع الأعظم، وأما الرءوس فمروا بها من طريق باب الشعرية، وعدتها نيف وثلاثون رأسا وموضوعة على نبابيت، رشقوها بوسط بركة الأزبكية مع الرءوس الأولى التي وصلت بعد الهجوم الأول على رشيد، صفين على يمين السالك من باب الهواء إلى وسط البركة وشماله، وفي يوم 26 أبريل وصل أيضا تسعة أشخاص أسرى من الإنجليز وفيهم فسيال (أي ضابط)، وفي 27 أبريل وصل أيضا نيف وستون، وفيهم رأس واحد مقطوع، فمروا بها على طريق باب النصر من وسط المدينة، وهرع الناس للتفرج عليهم، وبعد الظهر أيضا مروا بثلاثة وعشرين أسيرا وثمانية رءوس، وبعد العصر بثلاثة وعشرين رأسا وأربعة وأربعين أسيرا من ناحية باب الشعرية، وطلعوا بالجميع إلى القلعة، وفي يوم 30 أبريل وصل إلى ساحل بولاق مراكب وفيها أسرى وقتلى وجرحى، فطلعوا بهم إلى البر وساروا بهم على طريق باب النصر، وشقوا بهم من وسط المدينة إلى الأزبكية، فرشقوا الرءوس بالأزبكية مع الرءوس الأول وهم نحو المائة واثنين وأربعين، والأحياء والمجاريح نحو المائتين وعشرين، فطلعوا بهم إلى القلعة عند إخوانهم، فكان مجموع الأسرى أربعمائة أسير وستة وستين أسيرا، والرءوس ثلاثمائة ونيف وأربعين، وفي الأسرى نحو العشرين من فسيالاتهم. (11) مسئولية «فريزر» و«مسيت»
وكان طبيعيا بعد هذه الكارثة التي نزلت بالإنجليز أن يسعى المسئولون منهم عن وقوعها للتخلص من تبعتها، وقد كان «فريزر» أول من فعل ذلك، وراح يلقي هذه التبعة على «مسيت» الذي ألح من مبدأ الأمر في ضرورة الاستيلاء على رشيد، وصار يؤكد لقائد الحملة أن المماليك حاضرون لنجدته، وأن الأهلين سوف يرحبون بجنده في كل مكان، كمحررين ومنقذين لهم مما هم فيه من عسف وظلم، ولم يتوان «مسيت» من جهته عن دفع هذه التهم عنه وتبرير مسلكه، مظهرا في الوقت نفسه الأسباب التي أدت - في نظره - إلى هزيمة الجيش، وهي أسباب مبعثها عجز القيادة العامة الذي ظهر عند تجهيز الحملة الموجهة ضد رشيد، وأثناء العمليات العسكرية ذاتها، ويلقي ما دار من نقاش بين الرجلين فيما تبادلاه من رسائل وقتئذ، أو ما بعثا به من تقارير إلى حكومتهما في لندن ضوءا كبيرا على حقيقة الأسباب التي أفضت إلى وقوع كارثة الحماد في 21 أبريل 1807.
فقد كتب «فريزر» إلى «مسيت» مساء يوم المعركة نفسه، ومن مقر قيادته على ظهر السفينة الحربية «كانوب» في خليج أبي قير يقول: «لقد وصلني أمس مساء خطابك الأول المؤرخ في 20 أبريل إلى اللفتنانت كولونيل «أيري»
Airey
يحمل أخبارا عن زحف جند الأرنئود من القاهرة - والإشارة هنا إلى المعلومات التي بلغت «مسيت» عن مرور جند الباشا ببلدة فوة يوم 18 أبريل في طريقهم إلى رشيد - وقد بعثت به فورا إلى الجنرال «ستيوارت»، وكذلك رسالتك الثانية بتاريخ أمس، وكتابك إليه قد وصلاه هذا المساء، ولقد قرأتهما بإمعان، وفيما يتعلق بالعربان البدو فليس لدي ما أفعله سوى إبداء أسفي على أني لم أوضع في وضع يمكنني من اتخاذ قدر أكبر من الحيطة والحذر في علائقي معهم؛ لأني لو فعلت لامتنع وقوع ما حدث لأولئك الضباط والجند المنكودين الذين وقعوا في أيديهم، ولم يدر بخلدي بتاتا حتى سمعت بهذا الحادث، أنه قد تقع مثل هذه الفعلة، أو أنه من الممكن وقوع هذا الحادث بتاتا في المكان الذي وقع فيه، وأنتهز هذه الفرصة لأذكر لك أني أشعر عموما، والجيش الذي تحت قيادتي بأننا في هذه اللحظة نجد أنفسنا في ورطة كريهة، فقد انسقت إلى الاعتقاد بأن أهل البلاد جميعهم - باستثناء الأتراك والأرنئود - أصدقاء للإنجليز، وسوف يعاونوننا في تحريرهم من نير الاستبداد الذي فرضه عليهم ظالموهم، ولكنه بدلا من ذلك لم يتقدم رجل واحد منهم لمعاونتنا.
وما كان يغريني على الانحراف عن الطريق الذي رسمته أصلا التعليمات الصادرة بدرجة السير إلى رشيد سوى ما قدمته أنت من اعتبارات بقوة، ثم إنه يقينا ما كانت هذه الاعتبارات التي ذكرتها أنت لتحدث الأثر المنشود لو أنها لم تكن مصحوبة كما حدث بتأكيدات قاطعة بأن رشيد سوف تسلم تسليما عند ظهور الجيش البريطاني أمامها، لقد كنت أنت مخدوعا كما كنت أنا بدوري مخدوعا في ذلك؛ لأنه وإن كان من المحتمل أن يكون تهور الجنود بدرجة أكثر مما ينبغي قد أفضى إلى الفشل فعلا، فإنه من جهة أخرى، لم يقم أقل دليل على أن الحامية في رشيد كانت تنوي تسليم المكان دون أن تستنفد قبلا كل قواها في الدفاع عنها ، وتضطر إلى التسليم اضطرارا - والإشارة هنا إلى الحوادث المتصلة بفشل الهجوم الأول على رشيد - وكان بعد هذا إذن، ونظرا لقلة القوات التي لدي إن صح عزمي لدرجة كبيرة على عدم المجازفة بأرواح جنودي في مجازفة ثانية، ولم يصرفني عن عزمي سوى ما قدمته لي شفويا، وبصورة رسمية من اعتبارات، بالإضافة إلى ما قدمه باسم أهل الإسكندرية الشوربجي، أو رئيس القضاة بها، الأمر الذي أغراني بالقيام مرة أخرى بالهجوم على رشيد؛ حيث إنك قد ذكرت ثانية أن المجاعة أمر محقق، إذا بقي الجيش في البلاد الإسكندرية من غير امتلاك رشيد ... إلخ ... وحيث إنك ذكرت - علاوة على ذلك - أنك واثق كل الثقة أن ظهورنا ثانية أمام رشيد بقوات تبعث على الاحترام، وإطلاق القنابل والرصاص على المدينة كفيلان بتسليمها إلينا فورا، فكان بناء على هذا الاستحثاث، وهذه اللجاجة أن قمت بهذه المحاولة الثانية، ولكنه على ما يبدو، وكما يتضح حتى الآن، وبالرغم من كل الجهود التي بذلناها دون نجاح أفضل، والحقيقة أن الواجب كان يحتم علي بسبب ما نتكبده يوميا من خسائر في رجالنا دون طائل، أن أرغب قبل الآن بمدة أن أسحب جندي من رشيد لولا أن جعلتني رسائل المماليك - وقد جاءتني هذه عن طريقك - أتوقع تعاونا سريعا وفعالا من جانبهم معنا، ولكن حتى في هذا لم ألق للآن سوى خيبة الأمل، ولما كان احتمال نزولهم من الصعيد ضئيلا، والتقارير تترى عن مجيء النجدات من القاهرة للانضمام إلى العدو، فإني أخشى ألا يكون هناك معدى - بحكم الضرورة غير المرضية - عن إصدار الأمر للجنود بالارتداد إلى الإسكندرية، معرضهم بذلك هم وأهل الإسكندرية لتحمل كل ذلك البلاء الذي ذكرته أنت، وأوضحته رسميا، وأما فيما يتعلق بالحصول على الغلال من مشايخ العربان، فإني أخشى تعذر الاعتماد على هؤلاء في ذلك بتاتا، وإذا حدث اتخاذ هذا الإجراء سالف الذكر، ويبدو أن هناك كل احتمال لاتخاذه، فإني لا أرى هناك أي أمل: لا في قدرتهم على إمدادنا، ولا حتى في رغبتهم في ذلك.
وصفوة القول أني لا أجد أمامي سوى طريق واحد لاتباعه، إذا أرغمت على الانسحاب من أمام رشيد، هو ترك هذه البلاد ومبارحتها فورا، وذلك ليس لإنقاذ أنفسنا فحسب، بل ولإنقاذ أهل الإسكندرية التعساء كذلك من الموت جوعا، وإني إذ أذكر هذا لك في ثقة تامة إنما أبغي أن أعدك لتوقع ما قد يكون عليه الحال فعلا.»
وواضح من هذا الكتاب أن «فريزر» في مساء يوم المعركة لم يكن يدري شيئا عنها، ويقينا لا يدري شيئا عن نتيجتها، وإن كان قد توقع بسبب الأخبار التي بلغته عن مرور النجدات الآتية من القاهرة ببلدة فوة في طريقها إلى رشيد، أن اشتباكا قد يقع بينها وبين قوات الجنرال «ستيوارت» وأن هذا الأخير قد يضطر إلى رفع الحصار عن رشيد والانسحاب إلى الإسكندرية، وتلك هزيمة لا سبيل إلى منعها، ومعناها استحالة امتلاك رشيد وقلعة جوليان والرحمانية؛ أي الأماكن التي أصر «مسيت» على ضرورة احتلالها لتأمين الجيش البريطاني بالإسكندرية والإسكندريين أنفسهم من خطر المجاعة، ويترتب على هذه الهزيمة - في نظر «فريزر» - ضرورة الجلاء فورا عن الإسكندرية.
ولا جدال في أن شعور «فريزر» بخطورة الموقف - وهو شعور جاء متأخرا - قد جعله يستعرض مع نفسه الأسباب التي أقنعته بخرق التعليمات التي لديه بالدرجة التي وافق فيها على القيام بمحاولتين ضد رشيد فشلت أولاهما، وصار من المتوقع يقينا فشل ثانيتهما، ولم يفت عليه أنه لا مناص من تحديد البواعث التي جعلت خرق تعليمات حكومته ممكنا، وتعيين الأسباب التي أفضت إلى هذه الهزيمة، وقد شرحت رسالته إلى «مسيت» هذه البواعث والأسباب، وقد بسطها «فريزر» بصورة حملت «مسيت» نفسه مسئولية الفشل لأمور أربعة معينة، أولها: لجاجة «مسيت» في وجوب احتلال رشيد لتجنيب الإسكندرية خطر المجاعة، وثانيها: زعمه بأن رشيد سوف تفتح أبوابها مرحبة بالغزاة البريطانيين بمجرد ظهور هؤلاء أمام أسوارها، وثالثها: قوله بأن المصريين - عموما - يكنون صداقة عظيمة للبريطانيين ويعتبرونهم محررين ومنقذين لهم من طغيان الأرنئود واستبدادهم بهم، وأنهم لذلك سوف يرحبون بهم، ويسدون لهم كل معاونة، ورابعها: تأكيده بأن المماليك سوف يأتون لا محالة لنجدة الإنجليز، وتلك ولا شك كانت عوامل حاسمة في فشل عمليات الإنجليز ضد رشيد، لا سيما عدم نزول المماليك من الصعيد، ولا تقل في خطورتها عن العوامل الأخرى التي سببت الهزيمة، وأهمها عجز نظام المخابرات الذي أنشأه «مسيت» نفسه، والطريقة التي اتبعت في إرسال الأنباء والمعلومات إلى معسكر الجنرال «ستيوارت»، ثم ما ظهر من أخطاء عسكرية فنية، سواء عند اختيار مواقع الجيش في الحماد وأمام رشيد وقواعد تموينه ومخازن إمداداته على بحيرة إدكو، أو أثناء عمليات حصار رشيد ومعركة الحماد.
وقد فطن «مسيت» إلى الغرض الذي استهدفه «فريزر» من رسالته هذه إليه، وأدرك هو الآخر خطورة المسئولية، ثم خطورة موقفه إذا وقعت عليه هو تبعة الهزيمة، ثم راعه - إلى جانب هذا - ألا يرى «فريزر» مخرجا من مأزقه سوى ترك البلاد والجلاء عن الإسكندرية كلية؛ أي تحطيم ذلك المشروع الذي سيطر على ذهن «مسيت»، وملك عليه قلبه ولبه، والذي أراد به - على نحو ما ذكرنا مرارا - احتلال البريطانيين لمصر، وتأسيس حكومة مملوكية خاضعة لحمايتهم، بعد طرد محمد علي والأرنئود منها؛ وعلى ذلك فقد راح «مسيت» في الأيام التالية ينفي عن نفسه مسئولية الهزيمة، ويبسط الأسباب التي أفضت - في نظره - إلى فشل العمليات العسكرية ضد رشيد، ويحاول بكل ما وسعه من جهد وحيلة إقناع «فريزر»، وإقناع الحكومة الإنجليزية خصوصا بضرورة البقاء في البلاد، أو على الأقل الاحتفاظ بالإسكندرية، وتلقي دعاوى «مسيت» وحججه ضوءا كثيرا على أسباب الفشل الذي مني به الإنجليز في محاولتهم الثانية ضد رشيد.
فإنه ما إن وصل «مسيت» يوم 22 أبريل بالإسكندرية خطاب «فريزر» حتى بادر بالرد عليه في التو والساعة في دفاع طويل استهله بدهشته الكبيرة من أنه قد جعل مسئولا عن فشل الجيش البريطاني في هذه البلاد، ثم استطرد يقول: «لقد أوصيت فعلا بمهاجمة رشيد، واحتلال الرحمانية؛ لأنه بدون رشيد والرحمانية تظل الإسكندرية محرومة من بعض ضرورات الحياة، ولكنه لم يخطر لي بتاتا الاجتراء على اقتراح الطريقة التي ينبغي أن يحصل بها هذا الهجوم، وسوف يدهش العالم أجمع عند سماعه أن جيشا أوروبيا قد عجز عن أخذ بلدة مثل رشيد، لقد أوصيت بالهجوم عليها أولا يوم 20 من الشهر السابق (مارس)، عندما كانت تتألف حاميتها من 250 رجلا فحسب، ثم إني عدت فأوصيت بذلك مرة أخرى كتابة يوم 23 مارس عندما كان لا يزيد عدد حاميتها على 550 رجلا، ولكن هذه التوصية لم يعمل بها إلا يوم 29 مارس، ثم إنه عند العمل بها، لم يزود الجند إلا بمؤن تكفيهم لمدة يومين فقط، ولا يحدوني إلى ذكر ذلك شيء، غير ما نما إلي من أن أولئك الذين أصدروا الأمر بالقهقرى من رشيد يوم 31 مارس يحتجون لتسويغ مسلكهم بأن الجند لم يكونوا بالمؤن الكافية لعيشهم، ولقد أوصيت فعلا مرة أخرى بمهاجمة رشيد على أمل استرداد سمعة الجيش البريطاني، ونفوذنا في البلاد، وهو نفوذ كان قد تأثر بدرجة كبيرة من جراء ما لحق بنا من محاولتنا الفاشلة ضد مكان مثل رشيد، ولكنه مع أن غرض هذه الحملة الثانية كان ضرب هذه المدينة بالمدافع وهدمها، فإن وسائل ما لم تهيأ لنقل الذخائر من إدكو إلى رشيد، حتى إنه لكان قد امتنع على البريجادير جنرال «ستيوارت» ولم يكن في مقدوره تنفيذ أوامركم من مبدأ الأمر لو أنه لم ير من الحكمة أن يأخذ على عاتقه ترك عتاد المعسكر خلفه، وأن يستخدم ما لدى إدارة مهمات الجيش من جمال لنقل الذخائر.
لقد قلت، ولا أتردد في تكرار القول بأن سكان مصر أصدقاء للإنجليز، وأنهم يتوقعون التحرر من نير الأتراك والأرنئود، ولكنني لم أعط سببا واحدا لأي إنسان يخوله أن يستخلص من ذلك أن هؤلاء سوف يسلحون أنفسهم وينضمون إلى الجيش البريطاني، وأما أنهم يكنون عواطف طيبة لنا فينهض دليلا عليه مبادرة الإسكندريين بعرض تسليم مدينتهم بمجرد أن صار في وسعهم العمل وفق رغباتهم، وثمة دليل آخر هو ما يأتي به أهل الجهات المجاورة يوميا من مؤن وإمدادات إلى الإسكندرية وإلى الجند أمام رشيد.
وميل العربان البدو للنهب والسلب أمر معروف جيدا من قديم الزمن، حتى إني لأعجب من أن تكون هناك ضرورة لإعطاء أية معلومات خاصة عن هذا الموضوع سلفا أو أن يطلب من أحد إعطاؤها، ومع ذلك، فلو أن إدارات هذا الجيش المختلفة كانت قد ضمت إليها بعض الضباط الذين خدموا في الحملة الأولى ضد مصر - ويقصد «مسيت» الحملة التي أرسلت لطرد الفرنسيين من مصر عام 1801 - لأفاد الجيش - كما هو في وسعي أن أقوله بحرية تامة - من مثل هذه التعيينات منافع عظيمة، ولتسنى اجتناب حادثات من طراز ما وقع في الجهة المقابلة لقيروان سراي، ومن الواجب أن يظل موضع الأسف دائما أن تخلو هيئة قيادة هذا الجيش حتى من فرد واحد له أي إلمام بالحالة العسكرية أو السياسية في مصر.
ولقد ذكرت في خطابي بتاريخ 20 الجاري إلى الكولونيل «أيري»
Airey
أنه ليس لدي ما أعلل به تأخر المماليك سوى افتراض سماعهم بتقهقرنا من رشيد، أو أنهم آثروا الانتظار حتى يتعرفوا إلى نوايا القائد البريطاني الأعلى، قبل أن يتركوا أملاكهم في الصعيد، وحيث إن من صالحهم - كما هو واضح - الاتحاد معنا، فإني لا أزال أميل للاعتقاد بأنهم سوف ينفذون في آخر الأمر تلك العروض التي تضمنتها خطاباتهم الأخيرة لكم ولي، ولو أنه جاءني قبلا ما يفيد بأن العزم منعقد على إرسال حملة إلى هذه البلاد، لكنت قد بذلت قصارى جهدي لإقناع البكوات، ولدي من الأسباب ما يجعلني لا أتوقع خيبة الرجاء عندئذ بالنزول من الصعيد إلى الوجه البحري، حيث كان من الممكن أن يتم تهيؤهم به للتعاون مع الجنود الذين تحت قيادتكم، ولكنه حتى مجيء المركب «ويزارد» إلى الإسكندرية في 13 مارس لم أكن أعلم بصورة محققة - ولو أني كنت أرجو - أن الحكومة الإنجليزية تريد احتلال الإسكندرية، ومن غير التأكد من هذا لم يكن في وسعي أن آخذ على عاتقي دعوة المماليك لمغادرة الصعيد.»
تلك إذن كانت الدعاوى التي استند عليها «مسيت» في الدفاع عن نفسه، على أن الأمر الذي روعه حقا، كان ما اتضح له من رسالة «فريزر»، من تفكير هذا الأخير في الجلاء عن الإسكندرية، مما يتعارض - كما قدمنا - مع مشروعات «مسيت»، الأمر الذي جعل هذا الأخير في القسم الباقي من رسالته إلى «فريزر»، يحاول جهده لاقتلاع هذه الفكرة من ذهنه بتقديم الأدلة والدعاوى التي هدف من سوقها إثناء «فريزر» عن عزمه، فقال: «وحيث إن الجنرال «ستيوارت» قد أرغم على رفع الحصار عن رشيد، فإني أستخلص من قراءة الفقرة الأخيرة التي جاءت في خطابكم، أنكم تنوون إخلاء مصر كلية، ولا شك في أنكم قد أخذتم بعين الاعتبار عند الوصول إلى هذا القرار النتائج المترتبة على اتخاذ مثل هذه الخطوة، وعبء المسئولية الثقيل المتصل بها، وقدرتم ذلك كله حق قدره، ولا يمكن بحال أن يغيب عنكم مبلغ الاهتمام النشيط الذي لبريطانيا العظمى بهذه البلاد، والقلق الذي يستبد بحكومة جلالة الملك، وخشيتها من سقوط هذا الموقع الذي هو بمثابة المفتاح لممتلكاتنا في الهند الشرقية في أيدي الفرنسيين، وأنتم أقدر مني على معرفة ما قد يكلفه من رجال استرجاع المركز الذي لنا الآن، ولا شك أيضا في أن حامية قوية من الأرنئود سوف تحتل الإسكندرية بمجرد أن يغادرها الجنود البريطانيون، وأن تحصينات هذه المدينة سوف يجري فورا ترميمها، وربما قام بذلك مهندسون فرنسيون.
وأما فيما يتعلق بالبأساء التي سوف يتعرض لها سكان هذه المدينة بسبب الحاجة إلى المؤن، فإن هؤلاء سوف يعتبرونها من ضروب الحرمان الطفيف، إذا قيست هذه بما سوف يلقونه من عدوان فظيع عليهم من جانب عصابات مسلحة استفزها الغضب الشديد من منع الإسكندريين لهم من دخول مدينتهم في نفس اليوم الذي شوهد فيه من هذا الميناء الأسطول البريطاني، علاوة على أن تركهم يقعون فريسة للظلم العاتي وصمة عار تلطخ الخلق البريطاني إلى الأبد.
واسمح لي يا سيدي - أن أذكر لك أن الفرنسيين تحملوا وهم بهذه المدينة حصارا استطال خمسة شهور - (ويشير «مسيت» هنا إلى الحصار الذي ضرب على «منو» بها عام 1801) وذلك في ظروف أسوأ بكثير من تلك التي يجد فيها الآن الجيش البريطاني نفسه؛ لأن الفرنسيين لم تكن لهم السيطرة في البحر، ولو لم يكن الرفض نصيب المذكرات التي قدمها السيد «بريجز» وقدمتها أن كذلك بتاريخ 27 مارس إليكم وإلى السير «جون داكويرث» لكانت عدة سفن في طريقها الآن إلى هذا الميناء تحمل أصنافا منوعة من المؤن، حقيقة لا توجد غلال بالإسكندرية ولكن هناك كميات وافرة من الأرز، ومن الممكن عند تشجيع العرب بالوسائل المناسبة إغراء هؤلاء بإحضار قدر معين من القمح والشعير إلى سوق الإسكندرية، ومن الممكن كذلك أن تأتي سفن اليونان بالوقود والنبيذ والزيوت من جزر بحر الأرخبيل وساحل القرمان بالأناضول بالكميات الكافية لسد حاجة الجيش والبحرية وسكان الإسكندرية، وذلك حتى تصلك النجدات التي تمكنك من استئناف القتال مرة أخرى.»
ولقد خشي «مسيت» بسبب هزيمتي رشيد والحماد وما أبداه «فريزر» من رغبة في الجلاء عن هذه البلاد أن تتأثر الحكومة الإنجليزية بحجج ودعاوى العسكريين، فتأمر بإخلاء الإسكندرية وبانسحاب الجيش إلى قواعده في صقلية؛ لاستخدامه في مسائل أخرى، ثم إنه خشي كذلك أن تلقى محاولات «فريزر» تحميله مسئولية فشل الهجوم المتكرر على رشيد صدى في دوائر حكومته، فعمد منذ 26 أبريل إلى إرسال صورة لها من رسالة «فريزر» له في 21 أبريل، ثم جوابه عليها في اليوم التالي، وكتب إلى الوزير «وندهام» يدفع عن نفسه تهمة التقصير أو التضليل، لا سيما فيما يتعلق بموضوعي المماليك ورغبتهم في التعاون مع الحملة، وصداقة أهل البلاد وموقفهم من الإنجليز، كما راح - في واقع الأمر - يحذر حكومته من مغبة الجلاء عن البلاد الآن؛ حيث إنه افترض حتما أن هذه الحكومة لن تجد مناصا من العودة إلى احتلال الإسكندرية بعد ذلك لدفع خطر الغزو الفرنسي عن مصر؛ ولتأسيس النفوذ البريطاني بها.
وقد استهل «مسيت» خطابه إلى «وندهام» في 26 أبريل بقوله: إنه قد سبق له أن أبلغ الوزير في تقريره إليه بتاريخ 12 أبريل وقد سبقت الإشارة إلى هذا التقرير ما وقع للحملة الأولى على رشيد، ثم استطرد يقول: «وقد وقع لسوء الحظ كل ما تنبأت به من نتائج قدرت ترتبها وقتئذ على فشل عملياتنا ضد رشيد، فقد التحقت جملة قبائل من العرب بخدمة الباشا ، بينما اعترفت بصراحة قبائل أخرى أنها لا تستطيع الاشتراك معنا بصورة إيجابية، إلا إذا أحرزنا تفوقا ملحوظا على العدو، ولم يعد الأرنئود الذين انتشوا بحمى النصر يتخذون موقف الدفاع، وهم الذين كثيرا ما انهزموا في خزي على يد حفنة من المماليك، وأما البكوات الذين كانوا قد عرضوا كما ترون من الترجمة المرفقة طيه لرسائلهم بتاريخ أول أبريل إلى الميجور جنرال «فريزر» وإلي، أن يضعوا فورا قسما من جنودهم تحت قيادة «فريزر» قد وقفوا فجأة عند المنيا، ولم تصلنا أية أخبار منهم حتى الآن.»
وإذا كان التهور سبب فشل الحملة الأولى ضد رشيد، فإن مرد عدم النجاح في الهجوم الثاني، إنما هو إلى الحيطة والحذر بدرجة أكبر مما ينبغي، ولا يريد «فريزر»، بل ولا الجيش بأسره أن يصدق أن أهل مصر ذوو ميول ودية نحو الإنجليز، والسبب الوحيد في عدم تصديقهم لهذه الحقيقة هو أن أحدا من المصريين لم يقم بتأييد قضيتنا بقوة السلاح، غير أنه قد فات عليهم أنه لو كان في استطاعة المصريين أن يقوموا بهذا الجهد، لما كانوا رضوا كل هذه المدة الطويلة باحتمال ما ينزله بهم من صنوف الاستبداد بضعة آلاف من الأرنئود.
ولما كان الجنرال «فريزر» متأثرا بفكرة أن المصريين ليسوا أصدقاءنا، فقد صار شديد الرغبة في إبقاء حامية قوية بالإسكندرية، الأمر الذي جعل متعذرا عليه إرسال العدد الكافي من الجنود لحصار رشيد محاصرة تامة، أو اتخاذ موقع في الدلتا يستطيع منه وقف النجدات والإمدادات التي تدفقت يوما بعد يوم على رشيد، ولقد تبين بعد استمرار الضرب الشديد عليها بالرصاص والقنابل أنه طالما بقيت لحاميتها حرية الاتصال بالدلتا ذهب ضربنا لها إليه أولا من ضرورة الاستيلاء على رشيد والرحمانية لتأمين حاجة الجيش والإسكندريين إلى المؤن والأغذية، وبين ما يذهب إليه الآن من إمكان بقاء الجيش في احتلال الإسكندرية دون تعرضه أو تعرض الإسكندريين أنفسهم لخطر المجاعة، واتخذ من هذه المسألة ذاتها وسيلة للتخلص من مسئولية الرأي الذي أشار به على «فريزر»، من حيث ضرورة امتلاك قلعة جوليان ورشيد والرحمانية، وهو الرأي الذي كان - كما شهدنا - مبعث الكوارث التي نزلت بالحملة، والذي أراد «فريزر» أن يعزو إليه السبب في خروجه على نص وروح التعليمات المعطاة له، فكتب «مسيت» إلى «وندهام» في 29 أبريل، يعلق على رسالتي إبراهيم وشاهين سالفتي الذكر بقوله: ومنها تلاحظون أن إبراهيم بك وجماعته لا يميلون إلى الاتحاد معنا، إلا إذا أحرزنا تفوقا عسكريا في الميدان وبدأنا مهاجمة القاهرة، ومن الواضح، ولو أن البكوات لا يذكرون ذلك في عبارات صريحة، أن هزيمتنا الأولى في رشيد والتي بلغتهم أخبارها وهم بالمنيا، هي التي جعلتهم يقفون بها حيث إنهم لا يريدون ترك الصعيد حتى يتأكدوا من أنه في استطاعتنا جعلهم يملكون البلاد بأسرها.
وقد شجع الجنرال «فريزر» كما شجعت شاهين بك الألفي على المضي في سيره من الصعيد، وهو على ما جاء في رسالته الخاصة إلي، يظهر بمظهر من ورث عن الألفي سيده المتوفى كل أطماعه، ويكفل لنا وجوده بالبحيرة السيطرة على هذا الإقليم، ويمكننا من الحصول على إمدادات وفيرة من المؤن، وقد يمكننا كذلك من إنشاء مستودعات للقمح والشعير، ولكن من واجبي أن أعترف لك أني صرت أخشى أن يمنعه تقهقرنا الثاني من حصار رشيد من تنفيذ وعوده لنا، ومن المحتمل أن يستخلص من حجز أنفسنا داخل أسوار الإسكندرية أننا سوف نكون عاجزين عن إسداء أية معونة له، إذا هوجم بقوات متفوقة عليه، وتحت تأثير هذه الفكرة سوف يكون طبيعيا إذا ارتد منسحبا إلى حيث يوجد زملاؤه.
ولما كنت قد ذكرت في رسالتي بتاريخ 23 مارس إلى الجنرال «فريزر» أن أهل الإسكندرية سوف يحرمون من الأغذية والمؤن إذا لم نمتلك رشيد والرحمانية، ثم عدت فذكرت في رسالتي إليه بتاريخ 22 أبريل أن هناك سدى وتعذر علينا إخضاعها، ولما كانت قد جاءت الأخبار عن أن جيشا للعدو في طريقة إلى نجدتها، فقد رئي من الأنسب سحب الجنود المحاصرين لرشيد، غير أن الأوامر الصادرة بذلك لم تفهم - على ما يبدو - على وجهها الصحيح؛ لأن قسما قويا من الجيش تحت قيادة «ماكليود» قد انعزل عن بقيته، ولا يزال من غير المقطوع به ما إذا كان هؤلاء قد سلموا كأسرى حرب أو أنهم لقوا حتفهم على يد العدو؟ ويؤسفني جدا أن أذكر أن الكابتن «تابرنا» سكرتير البعثة، وهو الذي خدم مع الجيش منذ نزوله في هذه البلاد وبناء على رجاء «ستيوارت» له، من ضمن المفقودين، وهكذا فإنه لما كنا قد أخفقنا في كل عمل قمنا به، وصرنا مطوقين أو محصورين بالإسكندرية، فسوف نلقى صعوبات عظيمة في الحصول على المؤن والإمدادات، ولكنه إذا كان على الجيش أن يخضع لكل صنوف الحرمان، ففي رأيي أن هذا أفضل بكثير من ترك مركز هام كالإسكندرية.
ولقد أعطيت هدايا لكثيرين من رؤساء العرب لإغرائهم بجلب المؤن إلى الإسكندرية، ورجائي أن ينال هذا العمل موافقتكم؛ حيث إن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن الجيش من الاحتفاظ بالمكان الذي دخل في حوزته في مصر.
ولا ينبغي أن أخفي عنكم أنه حتى يتسنى لنا استرجاع نفوذنا في هذه البلاد فسوف يتحتم علينا إرغام الأرنئود على إخلائها، وبعد المزايا التي صارت لهؤلاء على جنودنا، وحيث إن قائد القوات البحرية لا يجد في مقدوره فرض الحصار على دمياط، فسوف يكون ضروريا الاستعانة بقوات مسلحة عظيمة لبلوغ هذه الغاية ...
ثم إن «مسيت» بمجرد أن جاءته وجاءت «فريزر» في 28 أبريل رسالتا شاهين الألفي وإبراهيم بك، بعث بترجمة هاتين الرسالتين إلى «وندهام»، كما كتب إليه من جديد يفسر مسلك البكوات الذين عزا توقفهم في المنيا، وعدم مجيئهم لنجدة «فريزر» إلى انهزام الحملة الأولى في رشيد، ولما كان في رده على «فريزر» في 22 أبريل قد حاول إقناعه بأنه لا سبب يدعو للخوف من حدوث مجاعة بالإسكندرية، وذلك لاقتلاع فكرة إخلائها من ذهنه، فقد شعر بأن الواجب يقتضيه تفسير بواعث هذا التناقض الظاهر بين ما ذهب كميات كبيرة من الأرز بالإسكندرية، وأن العرب البدو إذا شجعوا بوسائل مناسبة فقد يمكن إغراؤهم لإحضار كميات من القمح والشعير تسد حاجة البحرية والجيش والسكان، فهناك تناقض ظاهر بين هذين القولين ، أرى لزاما علي أن أوضحه، فمعظم الأرز الموجود الآن بهذه المدينة كان قد أودع في بطون سفن مختلفة من المنتظر إبحارها مباشرة، وذلك بعد دخول الجيش إلى الإسكندرية، ولكن لم تلبث أن صدرت الأوامر بإنزال الأرز من السفن بعد فشل الهجوم الأول على رشيد، وذلك هو سبب توفر هذه المادة أو الأرز الموجود الآن، وحيث إن القمح صار نادر الوجود جدا، ولا يمكن العثور عليه إلا بعد دفع الثمن مقدما، فقد صار لا معدى عن أن يعيش معظم السكان على الأرز والشعير، وقد أعلن هؤلاء إلى الجنرال «فريزر» بطريق الشيخ محمد المسيري أنهم سوف يقنعون بالاعتماد في غذائهم على الأرز والزيت مدة شهر أو شهرين من الزمان، الأمر الذي يفضلونه كثيرا على تسليمهم إلى أيدي الأرنئود، ومع ذلك، فمن المحقق قطعا أنه لا يمكن بحال أن تكون حكومة جلالة الملك قد أرادت عندما أرسلت جيشا إلى مصر أن يكون الحرمان من الخبز واللحم نصيب الإسكندريين طوال مدة احتلالنا لهذه المدينة؛ ولهذا فقد وجدت لزاما علي أن أوصي بامتلاك رشيد والرحمانية؛ من أجل الحصول على المؤن وجلبها إلى الإسكندرية.
على أن هذه الحجج والدعاوى التي ساقها «مسيت» للدفاع عن نفسه وزحزحة عبء المسئولية في الفشل الذي لازم عمليات الجيش ضد رشيد عن كاهله، ثم محاولته لإغراء قائد الحملة أو حكومته بالبقاء في احتلال الإسكندرية، لم تفد شيئا لا في إقناع «فريزر» بأن «مسيت» لم يكن مسئولا عن المركز الدقيق الذي وجد الجيش فيه نفسه الآن بعد نقص قواته وشبه محاصر في الإسكندرية، أو بنزوله عن فكرة إخلاء الإسكندرية إلا إذا أرسلت إليه حكومته بالنجدات الوفيرة من الرجال والمال والمؤن، ولا في إقناع الحكومة الإنجليزية بالتخلي عن أهدافها الأساسية الأولى عند إرسالها حملة «فريزر» إلى الإسكندرية ، وذلك فيما يتعلق بموقف الحكومة الإنجليزية؛ لأن بواعث هذه الحملة كانت - كما قدمنا وكما سيأتي ذكره - مرتبطة بتطورات الموقف العسكري والسياسي في أوروبا، ولأنه فيما يتعلق بأسباب فشل العمليات العسكرية ضد رشيد، استمر «فريزر» ينحي باللائحة على «مسيت» الذي زوده بمعلومات مضللة عن حركة المماليك، كان مبعثها عجز نظام المخابرات الذي أوجده «مسيت»، ثم إن «فريزر» لم يلبث أن وجد مأخذا آخر على مسلك «مسيت» في جعله البكوات يعتقدون أن غرض الحملة الأول إنما هو إرجاعهم إلى الحكم، وأن واجب الإنجليز أن يفعلوا ذلك بتدابيرهم الخاصة، ودون حاجة إلى معونة المماليك، أو انتظار لها، ويتضح ذلك كله من تبرم «فريزر» بالحالة التي صار عليها جيشه بعد هزيمة 21 أبريل خصوصا، وتبرمه بمسيت الذي يبدو بسبب لحاجته في تبرئة نفسه من المسئولية من جهة، وإظهاره لمزايا البقاء في احتلال الإسكندرية من جهة أخرى؛ لاستئناف العمليات العسكرية في أول فرصة ملائمة لاحتلال البلاد؛ حتى يتسنى طرد الأرنئود منها والقضاء على نفوذ الوكلاء الفرنسيين، ومنع فرنسا من غزو مصر، وتهديد ممتلكات الإنجليز في الهند من جديد، أنه لم يفلح إلا في جعل «فريزر» يزداد يقينا بضرورة إخلاء الإسكندرية، إذا لم تعمد حكومته إلى اتخاذ إجراءات سريعة لمعالجة الموقف، ويزداد تشبثا بتحميل «مسيت» مسئولية الهزائم التي حلت بجيشه، ينهض دليلا على ذلك قول «فريزر» في رسالة له إلى «وندهام» من الإسكندرية في أول مايو لقد أظهر المماليك قطعا مصادقتهم لنا، وجعلونا نعتقد في وقت من الأوقات أنهم سوف يبعثون بقسم من قواتهم إلى هذا الجزء من البلاد للتعاون معنا، ولكنه يبدو أن الأكثر في رأيهم أن نساعدهم نحن على امتلاك القاهرة، بدلا من أن يعاونوا هم على الاحتفاظ بالإسكندرية، ولهم من الأسباب يقينا ما يجعلهم يتوقعون ذلك بسبب كتاب بعث به إليهم الميجور «مسيت» قبل وصولنا إلى هذا المكان الإسكندرية، يبدو أنه كان مفرغا في عبارات تعوزها الحيطة والحذر، حيث أكد لهم على هذا الكتاب أنه لا مناص من إرجاعهم إلى الحكم في هذه البلاد .
ولقد تحقق الآن بصورة قاطعة أنهم لم ينزلوا من الصعيد إلى مكان يقرب من الدلتا، ولا حتى إلى القاهرة، وذلك في الوقت الذي كثيرا ما كانت تجعلنا التقارير الكاذبة نعتقد أنهم على مسافة قصيرة جدا من جندنا في رشيد، ومنذ عودة الجيش إلى هذا المكان وجدت به أي الإسكندرية كميات كبيرة من الأرز؛ ولذلك فقد يتسنى - لنا ما دام العدو لا يفرض علينا حصارا صارما - الحصول على بعض المؤن وما يلزمنا من الماء من الجهات المجاورة بالقدر الذي يكفي الحامية والسكان، ومع ذلك، وبالرغم من رغبتي في العمل بما يوجبه نص التعليمات الصادرة إلي بشأن التمسك بهذا الموقع، أعتقد من واجبي أن أذكر لكم دون مواربة، وبعد أن فكرت في الأمر تفكيرا عميقا، وقدرت كل دقائقه حق قدرها، أني مقتنع تماما بأنه من المتعذر الاحتفاظ بهذا المكان الإسكندرية كموقع بريطاني في بلد يملكه العدو، بل يجب أن يكون امتلاكه والاحتفاظ به بناء على معاهدة مبرمة لهذا الغرض مع الباب العالي، أو إرسال قوات بدرجة من الضخامة، تمكننا من أن نصبح - بمعاونة جماعة أو أخرى هنا - سادة هذه البلاد، كما أني مقتنع تماما ولو أنه من المحتمل الاحتفاظ بهذا الموقع بعض الوقت إذا أتتنا فورا النجدات من الرجال، وزودنا بالمال والمؤن، فإن الإسكندرية يجب إخلاؤها في النهاية.»
وقد حدث أن استطاع أحد العربان، وكان يعمل ترجمانا مع القوات الإنجليزية في الحماد، الهرب والوصول إلى الإسكندرية مساء 30 أبريل، فروى تفاصيل حادث يوم 21 أبريل، وكيف فوجئ «ماكليود» في صبيحة ذلك اليوم بمشاهدة أربعة آلاف من مشاة وفرسان العدو تحملهم السفن في النيل، وكيف تغلب هؤلاء على ميسرة خطوط الإنجليز عند الحماد أولا، ثم أحاطوا بالمراكز التي في الوسط وفي الميمنة، وتغلبوا عليها كذلك، كما ذكر هذا الأعرابي أن «فوجلسانج» مع سائر أسرى الإنجليز في طريقهم إلى القاهرة، وأن «ماكليود» نفسه من بين الجرحى من هؤلاء الأسرى، ولم يدر الأعرابي أن «ماكليود» قد قتل أثناء المعركة، وقد نقل «فريزر» إلى الجنرال «فوكس» في أول مايو هذه التفاصيل التي جاءته والتي يؤخذ منها - وذلك ما حدث فعلا - أن «ماكليود» لم يكن يتوقع أن يهاجمه الأرنئود، وبكل هذه القوات الكبيرة في صبيحة اليوم الذي وقعت فيه المعركة، ولما كان «مسيت» مسئولا عن تقصي أخبار العدو؛ لإبلاغ ما يقف عليه منها إلى قيادة الحملة، فقد وجد لزاما عليه، ولدفع تهمة التقصير والإهمال عن نفسه أن يفسر لحكومته سبب هذه المفاجأة التي فوجئ بها «ماكليود»، فكتب إلى الوزير «وندهام» يوم أول مايو أنه يبدو من الأخبار التي جاء بها الأعرابي أن العدو قد فاجأ وسط الموقع الذي يحتله جيش «ماكليود»، وأن «ماكليود» الذي بدأ يتقهقر من اليمين، لم يلبث أن وجد نفسه - بغتة وعلى غير انتظار - محاطا بفرسان الأتراك، فقاتل الإنجليز ساعة من الزمان ثم سلموا للعدو، ثم أنشأ يقول: وأما أن يفاجأ جنودنا هذه المفاجأة، فهو أمر يتعذر نوعا تعليله؛ لأن كان قد نما إلينا منذ يوم 10 أبريل وأبلغنا بأن الباشا يسير بنفسه على رأس قوة من ألفين من الفرسان وألف من المشاة لنجدة رشيد، ولقد كتب إلي الكابتن «تابرنا» الذي عمل رئيسا لأدلاء الجيش، يوم 19 أبريل أي قبل الواقعة بيومين يقول ما نصه: لقد اتضح كذب كل ما بلغنا عن محمد علي أثناء هذه الأيام القليلة الماضية، ولكنه الآن يبلغنا أن كتخداه يسير صوب رشيد بقوات عظيمة، وليس هناك أي شك في أن المدخل إلى رشيد مفتوح تماما للعدو، وطالما أن جيشنا لا يتخذ من الإجراءات ما يكفل تأمين الجانب الآخر من النيل، فلن يكون في وسعنا أن نفعل شيئا، ويكفي تأمين الجانب الآخر من النيل، فلن يكون في وسعنا أن نفعل شيئا، ويكفي خمسمائة جندي زيادة على القوات التي لدينا لتأمين هذا الجزء من الدلتا، ولكن أين هم؟ هذا وبمجرد أن بلغ الباشا أن شاهين بك الألفي قد وصل إلى بني سويف يبغي الاستمرار في سيره صوب الدلتا، استدعى محمد علي فجأة الجنود الذين كانوا يعملون في رفع الحصار عن رشيد، وينهض اتخاذه مثل هذا الإجراء دليلا لا يمكن دحضه على أنه لو كان المماليك لم يوقفوا سيرهم عند المنيا على أثر سماعهم بفشلنا الأول أمام رشيد، لكان محمد علي قد اضطر لجمع كل قواته تركيزها بجوار القاهرة، ولما كان في وسعه أن يعطل عملياتنا في الوجه البحري.»
تلك إذن كانت الحجج والدعاوى التي حاول بها «مسيت» أن يبرر مسلكه، وأن يفسر أسباب الهزيمة في رشيد والحماد، وأن يتحرر من مسئولية هذا الفشل الذي منيت به القوات الإنجليزية، وهو الفشل الذي حاول «فريزر» أن يحمله تبعته، ولا جدال في أن الرجلين مشتركان في المسئولية: مسيت؛ لأنه كان - كما يقول «بنبري»
Bunbury
مدير مهمات الجيش البريطاني في صقلية وقتئذ، ومؤرخ الحرب الكبيرة مع فرنسا - قد صار كلفا بمشروع فخم عظيم، ويحاول إغراء مواطنيه بغزو مصر وفتحها، مما ترتب عليه أن تأثرت نصائحه لقائد الحملة بهذه الرغبة، فكان أكبر خطأ ارتكبه الإصرار على أنه لا سبيل إلى احتفاظ الجيش البريطاني بالإسكندرية من غير الاستيلاء على رشيد والرحمانية، بل والاستيلاء على دمياط كذلك، ثم تأكيده القاطع لقائد الحملة والمسئولين بأن البكوات المماليك - لا محالة - حاضرون لمعاونة الجيش البريطاني، وفضلا عن ذلك، فقد ظهر فساد نظام المخابرات الذي أوجده، وهو نظام نجح في تضليل «مسيت» نفسه؛ أي في تضليل مبتدعه من حيث جعله يتوهم أن أهل البلاد بأسرهم أصدقاء للإنجليز، ومن حيث إشاعة الأنباء الكاذبة سواء عن حركات البكوات المماليك أو عن حركات محمد علي، وأما «فريزر» فلأنه رضي بتجاوز نص وروح التعليمات المعطاة له قبل التحقق بصورة قاطعة من ضرورة الإقدام على هذا التجاوز، وهو المسئول الأول عن نجاح أو إخفاق حملته، برغم ما جاء في تعليماته من التوصية بالاستماع إلى نصائح «مسيت»، ثم إنه عجز عن اختيار الخطة العسكرية الناجعة لبلوغ مقصده، سواء عند تدبير أمر الحملة الأولى أو الحملة الثانية ضد رشيد، وظل بمنأى عن العمليات العسكرية، بعيدا عن الميدان في ظروف حرمته من مراقبة العمليات عن كثب، وإصدار ما قد يتطلبه الموقف من تعليمات وأوامر عاجلة في الوقت المناسب.
ولقد كان ممكنا حتى في اللحظة الأخيرة أن ينسحب الجيش من مواقعه أمام رشيد وفي الحماد دون تكبد خسائر كبيرة، لو أن «مسيت» بقي مع «ستيوارت» فأبلغه في الوقت المناسب المعلومات التي جاءت يوم 20 أبريل عن مرور قوات حسن باشا و«طبوز أوغلي» ببلدة فوة قبل ذلك بيومين، ولو أن «فريزر» لم يتخذ مقر قيادته على ظهر السفينة الحربية «كانوب» في خليج أبي قير فخضعت خطوط مواصلاته لنقل التعليمات والأخبار وما إليها إلى «ستيوارت» لرحمة الريح وهياج البحر، ثم إنه لا يمكن كذلك تبرئة القواد البحريين: السير «جون داكويرث» والسير «توماس لويس» والكابتن «هالويل» من تبعة هذه الهزيمة؛ لموافقتهم على العمليات العسكرية ضد رشيد ورضاهم بالاعتماد على بحيرة إدكو كطريق للمواصلات لنقل الإمدادات والذخائر والمدفعية، ورفضهم اتخاذ طريق العجمي رشيد البحري لهذه الغاية، بدعوى وجود الأمواج الشاطئية عند مصب النيل، الأمر الذي ترتب عليه عدا ما صادفه الجيشان المهاجمان لرشيد من مشقات وصعوبات أثرت على سير العمليات العسكرية ذاتها للأسباب التي سبق توضيحها في موضعها بتنظيم خطة الحرب بصورة حصرت نشاط البريطانيين في ميدان تعذر فيه عليهم بسبب طبيعة أرضه وجغرافيته اتخاذ مواقع منيعة تكفل لهم حرية التصرف والمناورة النشيطة والمجدية، سواء لاستمرار عملياتهم أو لتقهقرهم، لا سيما وأنه لم يكن في وسع قيادتهم إمداد الجيش المقاتل بأية نجدات من الإسكندرية، عندما كان الغرض الأساسي عند تأليف الحملة امتلاك الإسكندرية فحسب والاحتفاظ بها، زد على ذلك أن نبذ طريق العجمي رشيد البحري قد منع الإنجليز من الاستيلاء على قلعة جوليان والمراكز التي كانت للأرنئود على شاطئ النهر المقابل كخطوة مبدئية لا غنى عنها لإحكام الحصار على رشيد، ولمنع وصول نجدات العدو إليها، وبخاصة عندما كان هدف المحاولة الثانية ضدها إخضاعها بتسديد الضرب الشديد إليها، وعدم اقتحامها اقتحاما كما حدث في محاولة «ووكوب» الأولى.
وعلى كل حال، وسواء كان «مسيت» أو «فريزر» أو القواد البحريون أو كل أولئك جميعا مسئولين عن إخفاق الحملة ضد رشيد، فقد صار موضع اهتمام «فريزر» بعد عودة جيشه المنهزم إلى الإسكندرية، هو التفكير الآن في خير الوسائل التي يمكن بفضلها على الأقل تنفيذ التعليمات الصادرة إليه بشأن البقاء في احتلال الإسكندرية.
الفصل الرابع
تخطي العاصفة: جلاء الإنجليز عن
الإسكندرية
تمهيد
لم يكن أحد من الذين راقبوا مجيء حملة «فريزر» واستيلاءها بسهولة على الإسكندرية، يتوقع هزيمة هذه الحملة، أو على الأقل بمثل السرعة التي حدثت بها، لما كان معروفا عن قوة وحسن استعداد البريطانيين الذين انتصروا على جيش الشرق وأجلوه عن مصر، والذين كان لهم من السيطرة البحرية في البحر الأبيض ما يجعل أمرا محققا في نظر كثيرين أنهم سوف يأتون بقوة كبيرة إلى هذه البلاد، لتعزيز مراكزهم في المواقع التي يحتلونها بها، أو لتوسيع نطاق عملياتهم العسكرية بالصورة التي تمكنهم من تحقيق أغراضهم، إذا كانت هذه الاستيلاء على البلاد بأسرها، وليس الاكتفاء باحتلال الإسكندرية فحسب.
ولم يساور محمد علي أي شك في أن الإنجليز إنما كانوا يقصدون من غزوهم امتلاك البلاد على نحو ما فعل الفرنسيون الذين غزوها قبل ذلك، ينهض في نظره دليلا على ذلك اتساع نطاق عملياتهم العسكرية ومحاولاتهم المتكررة ضد رشيد، ويزيد من رسوخ هذه الفكرة في ذهنه مسعى القواد والوكلاء الإنجليز لدى البكوات المماليك لإغرائهم بالنزول من الصعيد والاتحاد معهم في الحرب ضده، ولا نتيجة لهذا الاتحاد إذا تحقق إلا طرده من الولاية، والقضاء على باشويته، أضف إلى هذا تأكيدات الوكلاء الفرنسيين له بأن الإنجليز إنما أرسلوا حملتهم إلى مصر لهذه الغاية ذاتها.
ولم يكن محمد علي يتوقع كذلك أن ينهزم الإنجليز هذه الهزيمة الساحقة في المعارك التي خاضوا غمارها ضد شراذم جنده الأرنئود أو ضد جماعات الأهلين المسلحة الذين هبوا من دمنهور أو من غيرها من البلدان والقرى المجاورة لنجدة رشيد.
ولذلك، فقد أحدث الانتصار على الإنجليز في معركتي رشيد (31 مارس)، والحماد (21 أبريل) تبدلا كبيرا في الموقف فيما يخص محمد علي من حيث إن هذا الانتصار قد أنهى مرحلة دقيقة من مراحل النضال مع العدو، خرج الباشا منها مظفرا منصورا لا في الميدان العسكري فحسب، بل وفي الميدان السياسي الداخلي كذلك، عندما نجحت مساعيه، مع الاستعانة بنشاط الوكلاء الفرنسيين في وقف حركة البكوات وإلزامهم بالحيدة، وأقبل القاهريون بكل همة ونشاط تحت توجيه وإرشاد زعمائهم على تحصين مدينتهم، وحصل الباشا بفضل تآزر هؤلاء الزعماء الشعبيين معه على حاجته من المال اللازم لتدبير شئون الدفاع ودفع مرتبات الجند، وإنجاز الاستعدادات لخروج جيش كبير لقتال الإنجليز وتشديد الحصار عليهم في الإسكندرية لطردهم منها.
ثم إنه كان لهذين الانتصارين في رشيد والحماد أثر حاسم آخر في موقف البكوات المماليك، خصوم محمد علي الداخليين، فصاروا الآن أكثر استجابة لرغبات وسطاء الباشا معهم، ولم يكن منتظرا أن ينبذ هؤلاء حيادهم، طالما حصر الإنجليز نشاطهم لسبب أو لآخر داخل أسوار الإسكندرية، وتعذر عليهم إحراز أي نصر على جند محمد علي، ونجح الباشا في إعداد جيش كبير لقتالهم، وإرغامهم على البقاء - على الأقل - بالإسكندرية، إن لم يستطع إجلاءهم عنها.
على أن محمد علي وإن كان قد استطاع تخطي العاصفة، وهي في عنفوان هياجها، فإن هذه العاصفة لم تكن قد سكنت بعد، بل ولا يزال خطر اشتدادها من جديد ماثلا ما دام الإنجليز باقين بالإسكندرية، ثم لم تلبث أن توفرت لديه الأدلة في الشهور القليلة التالية على أنهم يبغون البقاء بالإسكندرية، وأنه لا مناص من الالتحام معهم في معارك أخرى، والانتصار عليهم لطردهم منها، على أن الباشا وإن كان قد صح عزمه على قتالهم، فقد آثر من ناحية أخرى - إذا كان هذا ممكنا - محاولة تحرير الإسكندرية من احتلالهم بطريق المفاوضة، بدلا من الاشتباك معهم في معارك جديدة، قد لا يكون النصر فيها من نصيبه هو، فتتجدد كل تلك المتاعب التي ما استطاع تذليلها إلا بكل نصب ومشقة؛ ولذلك فقد صارت المفاوضة من الطرائق التي اعتمد عليها الباشا إلى جانب تهيؤه العسكري لبلوغ غايته، وكانت المفاوضة هي الطريق الذي تسنى به إنهاء النضال الدائر بينه وبين الإنجليز.
ولقد حققت عوامل عدة نجاح هذه الوسيلة السلمية لإجلاء الإنجليز عن الإسكندرية أهمها - كما أشرنا مرارا - أن الإنجليز لم يستهدفوا من مجيء حملتهم إلى الإسكندرية امتلاك البلاد بأسرها، بل قصدوا من استيلائهم عليها الوصول إلى غرضين رئيسيين هما الحيلولة دون نزول حملة فرنسية في هذه البلاد، وتخويف الباب العالي وحمله على قبول الصلح معهم ومع حلفائهم الروس، وانتزاعه من أحضان النفوذ الفرنسي، وارتبط لذلك مصير حملتهم بتقلبات الموقف في أوروبا، وكان من أثر هذه التقلبات - كما سيأتي ذكره - أن قر رأيهم على استدعاء حملة «فريزر» من مصر، وتسليم الإسكندرية سلما إلى محمد علي، فكان من المتيسر عندئذ أن ينجح طريق المفاوضة في إنهاء عملياتهم العسكرية في مصر، وبجلاء الإنجليز عن الإسكندرية يكون محمد علي قد تخطى هذه العاصفة الهوجاء بسلام ليتفرغ في السنوات القليلة التالية لدعم أركان باشويته.
على أنه عقب هزيمتي رشيد والحماد، لم يكن قد صح عزم الإنجليز نهائيا على إخلاء الإسكندرية، بل حرص «فريزر» على اتخاذ كل إجراء يكفل له القدرة على الاستمرار في احتلالها، وساعده على ذلك أن الاطمئنان أخذ يحل تدريجيا محل الفزع الذي استبد بالإنجليز بعد هزائمهم في مارس وأبريل، ووصلت النجدات من صقلية لتعزيز حامية الإسكندرية، وراح القائد الإنجليزي يبذل قصارى جهده لتنفيذ التعليمات الأساسية التي لديه وهي التي هدفت إلى التمسك بالإسكندرية. (1) الموقف بعد الحماد
الإنجليز في الإسكندرية
فقد كتب الجنرال السير «جون مور» فيما بعد في 13 يوليو 1807 إلى وزير الحربية البريطانية والمستعمرات اللورد «كاسلريه»
Castlereagh - وقد خلف «وندهام» في هذا المنصب منذ 25 مارس من السنة نفسها - يصف الحالة التي سادت الإسكندرية عقب هاتين الهزيمتين في رشيد (31 مارس) والحماد (21 أبريل) بأنها تدل على اليأس والقنوط والفزع، فقد وجد «فريزر» نفسه مرغما على البقاء محصورا بالإسكندرية يمنع عليه الأرنئود المنتصرون كل اتصال بداخل البلاد، فلا يستطيع جلب أية مؤن إلى الإسكندرية، وصار مهددا بحدوث المجاعة، ولم يكن موقفه مأمونا بعد هزيمة الحماد خصوصا حيث أفقدته هذه الواقعة خمس قواته دفعة واحدة، ولأن بدو الصحراء - ومن رأيهم الانحياز إلى جانب المنتصر دائما - لم يلبثوا أن انفضوا من حوله، أضف إلى هذا أنه لم يبد - كما رأينا - من جانب البكوات المماليك بتاتا ما يدل على أنهم ينوون الاتحاد مع الإنجليز طالما أن هؤلاء لم يحرزوا تفوقا عسكريا على العدو ولم يبدءوا الهجوم على القاهرة، ولما كانت تحصينات الإسكندرية في حالة سيئة، ويبلغ محيط أسوارها ثلاثة أميال، مما يتطلب جهودا مضنية للدفاع عنها، وليس لديه الآن سوى ثلاثة آلاف رجل فحسب، فقد انعدم كل رجاء في إمكان الاحتفاظ بها إذا حاول العدو مهاجمتها ولو هجوما ضعيفا، وراح «فريزر» في قنوطه وفزعه هذين يرسم للمسئولين صورة محزنة قاتمة عن الحال السيئة التي صار إليها جيشه، فكتب إلى الجنرال «فوكس» في 24 أبريل يبلغه وقد استبد به الألم والحزن نبأ فشل المحاولة الثانية ضد رشيد، ويقول إن من واجبه الآن أن يعرض عليه حقيقة الموقف الذي يرجو أن يكون موضع تفكيره الجدي، وهو أنه بسبب هذا الفشل إلى جانب الفشل الذي سبقه قد صارت تتزايد حروجة وخطورة موقفنا يوما بعد يوم، ومرد ذلك إلى النقص العظيم الذي حدث في قواتنا، ثم إلى ما يكاد يكون مقطوعا به تماما من وقف كل الإمدادات والمؤن اللازمة لجنودنا ولأهل الإسكندرية على يد العدو الذي نزل بأعداد كبيرة من القاهرة إلى هذه الجهات، بينما لا يوجد لدى الجند سوى قديد يكفيهم مدة شهرين فقط، وليس لديه من النقود - وهي الوسيلة الوحيدة للحصول على الإمدادات الضئيلة الآن ما يكفي لسد نفقات الجيش خلال الشهر الآتي، ولا يستطيع الحصول على مال: لا بإعطاء تحاويل على المصارف ولا بالاستدانة ولا بأية وسيلة أخرى؛ ولذلك فهو يرى من الضروري المبادرة بإمداده فورا بالرجال والمؤن والمال، ولو أنه يشك حتى عند وصول هذه النجدات إليه أن في استطاعته بسبب ما عليه أن يواجهه من صعوبات أخرى منوعة الاحتفاظ بالإسكندرية، ومع ذلك فإنه يرى من واجبه من ناحية أخرى أن يؤكد للجنرال «فوكس» أنه بدون هذه الإمدادات التي يطلبها فورا سوف يكون الاحتفاظ بالإسكندرية أمرا يستحيل فعله استحالة تامة، بل إن ما لديه من أغذية القديد سوف يكفي فقط لتموين الجند أثناء رحلتهم إلى «مسينا» في صقلية إذا وجب إخلاء الإسكندرية.
وقد أيد السير «توماس لويس» الجنرال «فريزر» فيما ذهب إليه، فكتب هو الآخر في اليوم نفسه إلى السير «جون داكويرث»، يقدر ما تكبده الإنجليز من خسائر في محاولتهم الثانية ضد رشيد بعدد من الرجال يتراوح بين 1200، 1400، ويصف الوضع بأنه يبعث على الحزن والرثاء حيث لا يتجاوز عدد القوات من جميع الأصناف الثلاثة آلاف بينهم على الأقل نحو الثمانمائة أو التسعمائة من الجنود الأجانب، وهذا مع كثرة عدد العدو وعدم وجود أصدقاء أو حلفاء للإنجليز بهذه البلاد، ثم استطرد يقول إنه قد تقرر بعد تبادل الرأي مع الجنرال «فريزر» تركيز كل القوات البريطانية في مدينة الإسكندرية ومينائها وذلك حتى يبلغنا منكم ومن الجنرال «فوكس» ما صح عليه عزمكما، ونحن نتطلع باهتمام زائد إلى النجدات من الرجال والمؤن والنقود التي نطلبها، ثم إن المؤن التي لدى الجيش لا تكفيه إلا لمدة لا تزيد على ثمانية أسابيع، وأما حال البحرية ففي وسعك أنت الحكم عليها بنفسك، ولا تأتي أية إمدادات إلى الإسكندرية التي صارت منفصلة تماما عن البلاد الداخلية، والموجود من المؤن لسكانها قليل، وحيث إن قوات العدو ضدنا كبيرة، وقوة مقاومتنا ضئيلة فقد يحدث أن نجد أنفسنا مرغمين على مغادرة الإسكندرية قبل أن يصلنا ردكم على هذا الكتاب.
على أن هذا الشعور باليأس والفزع لم تلبث أن خفت حدته رويدا رويدا بمجرد أن بدأ يزول أثر الصدمة الأولى، وشرع «فريزر» عندما شرع يفيق من هول الهزيمة، يقلب وجوه الرأي من جديد في الموقف، وساعده على استرداد هدوئه أن الأرنئود لم يحاولوا مهاجمة الإسكندرية مباشرة عقب انتصارهم في واقعة الحماد، وتبين لفريزر أنه صار لديه فسحة من الوقت لتدبير الدفاع عن الإسكندرية على الأقل حتى تأتيه تعليمات حكومته، ولو أنه ظل يشك كثيرا في استطاعته الاحتفاظ بالإسكندرية مدة طويلة، إذا لم تصله سريعا الإمدادات التي طلبها، فقد اكتشف أن بالإسكندرية كميات وفيرة من الأرز - وقد أشرنا إلى سبب توفرها وقتئذ - يمكن الاستعاضة بها عن القمح في تموين الجيش والإسكندريين، زد على هذا أن الإنجليز كانوا أصحاب السيطرة في البحر، وفي مقدورهم جلب مواد الوقود والأنبذة والزيوت من جزر بحر الأرخبيل وساحل القرمان، وفي وسعهم كذلك إغراء البدو على جلب القمح والشعير إلى سوق الإسكندرية على نحو ما ذكره جميعه «مسيت» نفسه لفريزر منذ 22 أبريل، ومع أن التحصينات ضعيفة، فإن طبيعة موقع الإسكندرية يجعل الدفاع عنها ميسرا، حيث يكفي كسر السد أو القطع بين بحيرتي المعدية ومريوط لإغراق هذه الأخيرة من جديد بصورة يتعذر معها على فرسان العدو ومشاته الخوض فيها، وقد كتب «فريزر» إلى «وندهام» في أول مايو أنه وجد ضروريا منذ عودة الجيش إلى الإسكندرية قطع السد بين بحيرتي المعدية ومريوط من أجل تعزيز مركز الإنجليز بالإسكندرية حيث اتضح أنه في إمكان المشاة والفرسان الأعداء الخوض في كل أجزاء مريوط، ولو يؤثر قطع هذا السد على إمدادنا بالمياه؛ لأن الألفي بك كان قد قطع قناة الإسكندرية بالقرب من دمنهور قبل ذلك بوقت غير بعيد.
ثم إن السفينتين الحربيتين «كانوب» و«تيجر» دخلتا إلى ميناء الإسكندرية وألقتا بمراسيهما بها متهيئتين لتعزيز بطاريات الإسكندرية بمدافعهما، وصارت سفينة أخرى هي «ستاندارد»
Standard
تتجول في ناحية العجمي أو مرابط بينما وقفت السفينة «أبولو»
Apollo
في خليج أبي قير لمراقبة حركات أسطول العدو في هذه الناحية وشل نشاطه، وأعد الكابتن «هالويل» أسطولا من زوارق المدفعية للخدمة بالقرب من الشاطئ وعند مدخل بحيرتي المعدية ومريوط وفي هاتين البحيرتين ذاتهما كما حصن القطع بينهما، وأمكن تهيئة القلاع للدفاع وجعل الخط الغربي من تحصينات المدينة في حال طيبة، وقد دلت كفاية هذه الإجراءات الدفاعية لتأدية الغرض منها في مناسبتين: إحداهما عندما نقل الأرنئود قوات كبيرة في القنجات وسائر أنواع القوارب إلى قاعدة قيروان سراي يوم 10 مايو.
وكانت دوريات فرسان الأتراك قد وصلت في تجوالها إلى مسافة لا تزيد على ربع ميل فحسب من قطع القناة قناة الإسكندرية بين بحيرتي المعدية ومريوط، وكان غرض الأرنئود من نقل هذه القوات الكبيرة إلى قيروان سري الوصول إلى شبه جزيرة أبي قير، ولكن السفن الثلاث «ستاندار» و«أبولو» و«بيتارن»
Bittern
ثم زوارق المدفعية سرعان ما أصلتهم نارا حامية اضطرتهم إلى النكوص على أعقابهم، ثم تكررت المحاولة يوم 16 مايو، ودون جدوى أيضا، بل إن الكابتن هارفي
Harvey
في السفينة «ستاندارد» استطاع الدخول في بحيرة إدكو بعد ذلك بيومين، ووصل إلى قرية إدكو وحطم للعدو أكثر من ثلاثين قنجة وقارب، ورجا «فريزر» أن يكفي هذا الدرس لردع العدو ومنعه في المستقبل عن القيام بمثل هذه المحاولات التي قام بها في يومي 10، 16 مايو، وفضلا عن ذلك، فقد بدأت تأتي المؤن إلى الإسكندرية، ونسب «مسيت» الفضل في ذلك إلى نفسه فقال في رسالة له إلى «كاسلريه» في 18 مايو: إنه أهدى العربان البدو من الهدايا ما أغراهم لا بإمداد الإسكندرية بالمؤن فحسب، بل وبالتجمع كذلك في إقليم البحيرة بصورة جعلت الأتراك حتى هذه اللحظة لا يظنون من المناسب القيام بمجهود نشط لوقف الإمدادات الآتية لنا، بل لقد بذلت كل همة لتموين الإسكندرية حتى صار لا يضيرنا بتاتا كل ما يبذله العدو من جهد لقطع مواصلاتنا مع داخل البلاد؛ حيث إنه صار لدينا من المؤن الآن ما يكفي لستة شهور، كما استجاب الجنرال «فوكس» لنداء «فريزر»، فبعث إليه بالنجدات من صقلية، فوصلت الفرقاطة «هايند»
Hind
يوم 24 مايو تحمل مبلغ اثنين وثلاثين ألفا من الجنيهات، ورسائل من الجنرال «فوكس» تعد بإرسال الإمدادات من الرجال والمؤن فورا، وفي اليوم التالي وصلت بعض المؤن، ثم لم يلبث أن وصل الميجور جنرال «شربروك»
Sherbrooks
مع الآلايين الواحد والعشرين والثاني والستين من 1425 رجلا من مختلف الرتب يوم 29 مايو، وذلك إلى جانب 50500 جنيها إنجليزيا حملتها إحدى السفن الحربية إلى الجنرال «فريزر» بالإسكندرية، وفي 30 مايو كتب «فريزر» إلى «وندهام» أنه لا يزال يبذل قصارى جهده لتعزيز الدفاع عن الإسكندرية ويسعده أن يقول: إن الجنود الآن في صحة جيدة جدا، ولو أن الخوف كبير من انتشار الرمد والدوسنطاريا بين الجنود لاضطرارهم إلى البقاء في المعسكرات معرضين لحرارة الصيف القاسية، وقال إنه يسعى لتدبير وسائل لوقايتهم ومتفقة مع ضرورات الدفاع في الوقت نفسه، وقد عالج «فريزر» في هذه الرسالة مسألة توفير المياه الصالحة للشرب، حيث وقف إمداد الإسكندرية بالماء من النيل مدة فصلين أو ثلاثة فصول منذ أن قطع الألفي بك القناة عند دمنهور، وانخفض الماء كثيرا الآن في الآبار التي تزودها القناة بالماء، وكان من الإجراءات التي اتخذها «فريزر» لضمان استتباب الهدوء في الإسكندرية ومنع الوكلاء الفرنسيين على وجه الخصوص من محاولة تحريض الأهالي ضد الإنجليز وإثارة الاضطرابات داخل المدينة أن طلب من الأسر الفرنسية بها الذهاب إلى مالطة في بحر ثلاثة أيام، وكان من بين الذين أرسلوا إلى مالطة «جاسباري»
Gaspary
الترجمان الثاني للقنصلية الفرنسية بالإسكندرية؛ لأنه لم يستطع اللحاق بدروفتي كما فعل زميله الآخر «فونتون»
Fonton
عند خروج «دروفتي» منها في الظروف التي عرفناها.
وعني «فريزر» بأمر الأسرى الإنجليز في قلعة القاهرة، فذكر الشيخ الجبرتي أنه وصل مكتوب من كبير الإنجليز الذي بالإسكندرية مضمونه طلب أسماء الأسرى من الإنجليز والوصية بهم وإكرامهم كما هم يفعلون بالأسرى من العسكر، فإنهم لما دخلوا إلى الإسكندرية أكرموا من كان بها منهم، وأذنوا لهم بالسفر بمتاعهم وأحوالهم إلى حيث شاءوا، وكذلك من أخذوه أسيرا في حرابة رشيد، وأنه قد كتب لكبير الإنجليز جوابا على رسالته، فقد كتب الميجور «فوجلسانج» إلى «فريزر» من قلعة القاهرة في أول مايو، يذكر بإيجاز حادث أسره وزملائه في معركة الحماد، ويقول إنه لا يستطيع أن يوفي الأتراك ما يستحقونه من الثناء على الطريقة التي عاملوه بها هو وزملاءه كأسرى حرب، والفضل في ذلك إنما يرجع إلى الأوامر التي أصدرها الباشا للعناية أعظم العناية بالجرحى، كما أثنى على القنصل الفرنسي «دروفتي» لجهوده التي يبذلها لتوفير سبل الراحة للأسرى وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه، وسجل «فوجلسانج» في رسالته هذه أسماء الأسرى من الضباط سواء من كان منهم بالقلعة أو أسيرا في أيدي الأفراد العاديين، كما سجل أسماء الضباط القتلى، وعدد الأسرى عموما من مختلف الرتب، وقد حمل رسالة «فوجلسانج» إلى الإسكندرية الضابط «ماثيسون»
Matheson
فبلغها يوم 6 مايو، وكان الباشا قد أطلق سراحه، وأرسله بدلا عن ابن أخي عمر بك، وقيل إنه ابن أخي صالح قوش، ولكنه لما كان «فريزر» قد رأى من الضروري - كما قال - إبعاد هذا الأرنئودي من الإسكندرية وسافر مع من سافر إلى الروم بمتاعهم وأموالهم قبل الواقعة، وقد استطرد الشيخ الجبرتي يقول: «وحيث لم يكن المطلوب موجودا لم ير الإنجليز وجها لإبقاء الإنجليزي المذكور فردوه.»
وكان ذلك الحادث أحد العوامل التي ساعدت على خلق جو من التفاهم مهد للمفاوضة بين الباشا والإنجليز في ظروف سيأتي ذكرها.
على أن الذي يعنينا الآن من مسألة «ماثيسون» أن الخبر الوحيد الذي أتى به هذا الضابط إلى الإسكندرية - على نحو ما قال «فريزر» في رسالته إلى «وندهام» في 6 مايو أن المماليك قد عقدوا محققا صلحا مع باشا مصر، الأمر الذي من شأنه - كما استطرد «فريزر» يقول - أن يزيد حتما من حروجة موقفنا بالإسكندرية، وسواء كان هذا الخبر الذي أتى به «ماثيسون» صحيحا أم خاطئا، وقد عرفنا أن محمد علي قد عقد صلحا معهم قبل عودته من الصعيد إلى القاهرة في الشهر السابق، وإن ظل البكوات ينتحلون شتى الأعذار عن نزولهم إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي مع الباشا، نقول وسواء صحت الأخبار التي نقلها «ماثيسون» إلى «فريزر» أو كانت خاطئة، فالواقع الذي لمسه «فريزر» ولا سبيل إلى نقضه أن أحدا من البكوات لم يحضر لنجدته، حتى إن «مسيت» لم يلبث أن راح يستأنف مساعيه لدى شاهين بك الألفي وسائر البكوات يستحثهم على النزول من الصعيد، فكتب إلى شاهين الألفي منذ 19 أبريل، كما بعث بالكتب إلى إبراهيم بك وشاهين بك المرادي، وتسلم هذه الرسائل شاهين الألفي وهو بناحية ميمون - وهي في الشمال الغربي لأشمنت من أعمال بني سويف، ومرت أيام قبل أن يجيب شاهين بشيء، حتى إذا كان يوم 23 مايو بعث إلى «مسيت» برسالة جاء فيها أنه تسلم رسائله إليه وإلى والدنا أمير اللواء إبراهيم بك شيخ البلد ، وشاهين بك المرادي وهما اللذان لا يزالان بجهة المنيا، ثم أخذ يقول: «ولقد بعثت أرجو مرارا من سائر البكوات إما أن ينزلوا من الصعيد حسب اتفاقنا، وإما أن يبعث والدنا إبراهيم بك ببعض بكواته لمصاحبتي، ولكنهم لم يجيبوا على رجواتي هذه إلا بوعود مبهمة وغامضة المعنى، ولقد أرسلت إليهم اثنين من بكواتي وكاشفا يحملون رسائلك ورسالة مني كذلك، وقد كلفت هؤلاء المبعوثين بأن يكرروا عليهم ما أطلبه منهم فعمدوا عند وصولهم إلى الاستعانة بكل حجة ممكنة لإقناع البكوات الآخرين الذين بدلا من الإصغاء إلى ما قالوه، احتجزوهم لديهم مدة تسعة عشر يوما يؤكدون لهم كل مرة أنهم سوف يتحركون بمعسكرهم إلى الوجه البحري بعد يومين أو ثلاثة، ولكن بكواتي عندما تبين لهم أن البكوات من بيت مراد يعارضون دائما ما يريد إبراهيم بك شيخ البلد اتخاذه من استعدادات للسير، لم يلبثوا أن غادروا معسكرهم ورجعوا إلي يحملون رسالة من والدنا إبراهيم بك، يؤيد ما أبلغني إياه رسلي أنفسهم ويضيف إلى ذلك أن البكوات بأسرهم سوف يتبعونني في بحر يومين أو ثلاثة، وإني الآن لمقتنع تماما بأن وعودهم لي وعود جوفاء وأنهم لا يعنون ما يقولون، ويجب أن يعزى مبعث الصعوبات التي يثيرونها إلى مكائد محمد علي الذي استخدم أناسا لخديعة البكوات وإظهار الأوضاع لهم على غير حقيقتها، ومعسكري اليوم كائن عند ميمون وفي عزمي الاستمرار في السير صوبكم، ولكن الطريق يسده عربان البدو الذين في خدمة محمد علي، وإن رغبتي لشديدة في الوصول والانضمام إليكم؛ لأن القرى حيث يقوم معسكري مخربة تماما والأغذية نادرة، ولكني أخشى من وقوع حادث؛ لأن الجيش مرهق بما لديه من عتاد ثقيل وجمال كثيرة، لقد بعث إلي محمد علي عندما سمع بنزولي من الصعيد بأشخاص عدة يحملون مقترحاته للصلح معي، ولكني تجنبت الجواب عليها في صراحة.
وهكذا فإنه لما كان البكوات الآخرون لا يزالون بالصعيد، بينما أجد أمامي الباشا وعربانه، فمن المستحيل علي المضي في السير والوصول إليك إلا بابتداع تدبير ماكر، فلو أن جنودكم كانوا قريبين مني لكان في وسعي أن أجد وسيلة للانضمام إليكم؛ حيث إنه لا يتعذر وقتئذ استمالة العرب لترك الجانب الآخر والانحياز إلى جانبنا، فهم حينما يروننا أقوياء بدرجة كافية سوف لا يترددون في الإتيان إلينا .» ثم اختتم شاهين الألفي رسالته برجاء «مسيت» أن يبعث إليه برد يقف منه على عواطفه ونواياه، وأن يذكر له إذا خرج جيش الإنجليز وسار إلى القاهرة متى وأين في وسعه أن يقابله؟ والعدو حذر متنبه، ولكنني - كما استمر شاهين يقول - سوف أحاول جادا صرفه عن العمل النشيط أو الدخول في عمليات عسكرية حتى يصلني جواب منك، ولقد بعثت بعلي كاشف إلى محمد علي بدعوى المفاوضة معه حتى يتقصى الأخبار ويستطلع حقيقة الموقف.
وكان واضحا من هذا الكتاب وكما فهم «فريزر» نفسه أن البكوات ليسوا غير متحمسين فحسب للتعاون مع الإنجليز، بل ولا يبدون أي ميل ذلك، وأما «مسيت» فقد راح يرتب على هذه الحقيقة - التي هي أحد العوامل الهامة التي جعلت «فريزر» مصرا على رأيه في وجوب إخلاء الإسكندرية في النهاية وبالرغم من النجدات التي وصلته حديثا - عدة قضايا لإقناع حكومته من ناحية بأن وجودهم لا يؤثر في الواقع شيئا على موقف الحملة الراهن، بل وأنه من الخير طالما يستطيع الإنجليز لسبب من الأسباب مؤازرتهم عسكريا على بلوغ أغراضهم وإعادتهم إلى الحكم، ألا يحضر هؤلاء إلى الإسكندرية، ثم للإيحاء من ناحية أخرى إلى حكومته بصورة مستترة ومن خلال السطور بأنه من المصلحة أن تعاونهم حكومته على بلوغ مقصدهم، فإنه ما إن وصلته رسالة شاهين الألفي في 28 مايو حتى بادر بإرسال ترجمة هذه الرسالة إلى «كاسلريه» وزير الخارجية في اليوم التالي، وقال: «إن لها بعض الأهمية حيث تبسط ما يحدث من مكائد في المعسكر المملوكي، وتبين أن أحدا منهم لا يريد الانضمام إلينا في الوقت الحاضر، سواء كان مبعث ذلك عدم القدرة والعجز أو مجرد عدم الرغبة»، ثم شرع يقول: «وإنه لمن حسن الحظ أن يكون المماليك بعيدين هكذا عن الإسكندرية؛ حيث إن الجنرال «فريزر » ليس مخولا إسداء معاونة فعالة لأية جماعة أو حزب من الأحزاب، فلو أنهم كانوا بجوارنا لاستهلكوا أكبر قسم من الإمدادات والمؤن التي يأتي بها العرب إلى هذه المدينة، ولأمكنهم أن يكتشفوا سريعا أننا لا نميل للأخذ بآرائهم والعمل على تحقيق أغراضهم، ولقد أعطينا القدرة بسبب ما عليه الموقف الآن لا على الشكوى فحسب مما يبدو من عدم الهمة من جانبهم في خدمة قضيتهم، بل وكذلك على الامتناع عن مساعدتهم حتى تصلنا في هذا الشأن أوامر محددة من حكومة جلالة الملك.»
ولم يطرأ أي تغيير على موقف المماليك في الأيام التالية، حقيقة كتب إبراهيم بك إلى الجنرال «فريزر» بعد ذلك، كما بعث شاهين الألفي باثنين من بكواته إليه هما أحمد الألفي وأمين بك الألفي عدا رسوله مصطفى كاشف، ولكن لا كتاب إبراهيم ولا أقوال مبعوثي شاهين قد أتت بشيء جديد، فقد راح إبراهيم في رسالته إلى «فريزر» من بني سويف بتاريخ 12 يونيو يبسط الأعذار التي تمنعه من الذهاب إلى الإسكندرية للتعاون مع الإنجليز قبل أن يبدو من هؤلاء ما يدل بصورة قاطعة أنهم على وشك مهاجمة القاهرة ذاتها، فقال: إنه إنما يخط برسالته هذه إلى «فريزر» حتى يخبره أنه قد وصل إلى بني سويف مع جميع بكواته على مسافة ست عشرة ساعة من القاهرة، وأنهم ينوون البقاء بها (أي في بني سويف) حتى يكون جيش «فريزر» في طريقه فعلا إلى القاهرة لمهاجمتها، حتى إذا صار هذا على مسافة يومين أو ثلاثة منها، استأنف البكوات سيرهم لمقابلته أو انتظروا وصوله عند الجيزة، ثم طفق إبراهيم يؤكد له أن السبب الوحيد في تأخرهم السابق لم يكن سوى خوفهم على سلامة زوجاتهم وأسرهم التي هي تحت رحمة عصابات من قطاع الطرق لا يرحمون، وزوجاتهم وأسرهم هي كل ما يعنون به؛ لأنهم لا يملكون في القاهرة شيئا ذا قيمة، وقد أنهى إبراهيم رسالته بإظهار شكره وممنونيته لأصدقائه الإنجليز على ما أسداه هؤلاء للبكوات من خدمات نافعة، ويسأل المولى تعالى أن يمكنه من الاتحاد بقواته مع قواتهم، ويطلب من «فريزر» أن يحدد موعد زحف جيشه على القاهرة في الأيام العشرة الأخيرة من فصل الخماسين وعند فيضان النيل أو بعد هذا الوقت، وأن يبين له ما إذا كان الأوفق أن يقابله البكوات عند الجيزة أو بعد هذا المكان في ناحية الدلتا؛ لأنه - كما استمر يقول - عندما تتحد جيوشنا معا سوف يشغل الجند الذين بالقاهرة بشئونهم كثيرا حتى إنهم لن يجدوا وقتا للتفكير في إزعاج عائلاتنا وإلحاق الأذى بها.
وأما مبعوثا شاهين الألفي فقد بلغا الإسكندرية يوم 2 يونيو يحملان رسائل من رئيسهما، وينقلان إلى «فريزر» رغبة شاهين في الانضمام مع جماعته إلى البريطانيين، ثم استعداده لعرض خدماته على هؤلاء إذا كان الإنجليز ينوون الزحف من الإسكندرية والتقدم في داخل البلاد لامتلاكها، وقد أجاب «فريزر» على هذه العروض - كما ذكر للوزير «وندهام» في 16 يونيو - بإجابات عامة يشكر شاهين على هذه العروض ويذكر - تبعا للتعليمات التي لديه - رغبته في منح حمايته لكل تلك الأحزاب التي يبدو أنها تبغي صداقة الإنجليز، ولكنه رفض القيام بأي حركة أو زحف حتى تصله من حكومته أوامر بذلك، ثم إن «فريزر» لم يلبث أن علق على هذا الحادث بقوله: «ويظهر في وضوح وجلاء بفضل ما جمعته من معلومات من هؤلاء الناس (ويقصد «فريزر» مبعوثي شاهين الألفي) أن هناك نوعا من الانقسام بين البكوات الآن، وشاهين بك هو وحده في الوقت الحاضر الذي صح عزمه - كما يبدو - على توثيق صلاته مع الإنجليز، والأمور الآن في القاهرة والصعيد على حالة كبيرة من القلقلة حتى إني أشتبه في أن المماليك الآخرين إنما يريدون الوقوف وعدم التورط في شيء متأهبين للاستفادة مما قد يجد من ظروف؛ لأن هؤلاء الناس يبدو أنهم يريدون أن يقولوا: إن صلحا ما لم يعقد بينهم وبين الباشا محمد علي، وأنهم إنما يبغون كسب الوقت بخديعته.»
ذلك إذن كان رأي «فريزر» في عروض شاهين الألفي وفي موقف البكوات عموما، وهو رأي كان بفضل اقتناع «فريزر» به من البواعث التي جعلت هذا الأخير، ولأسباب أخرى سوف يأتي ذكرها في موضعها، يدخل في مفاوضات من أجل الصلح مع محمد علي، على أن «مسيت» الذي كان في قرارة نفسه يود تعطيل هذه المفاوضات، ويبذل قصارى جهده وبشتى الوسائل لإقناع حكومته والجنرال «فريزر» بالعدول عنها ، لم يلبث أن وجد في حادث مجيء مبعوثي شاهين إلى الإسكندرية بعروض هذا الأخير المبنية على أساس افتراضه أن الإنجليز يريدون احتلال أو امتلاك مصر بأسرها فرصة مواتية للإشارة مرة أخرى إلى المسألة التي أثارها بطريق غير مباشر في خطابه السابق إلى «كاسلريه»، فضلا عن اتخاذه هذا الحادث وسيلة للدفاع عن مسلكه في مسألة المماليك عموما، وهو الذي أكد فيما مضى أنهم لا محالة حاضرون للتعاون مع الحملة عسكريا، فكتب إلى «كاسلريه» في 17 يونيو: إن شاهين بك الألفي قد أوفد اثنين من صغار بكواته إلى «فريزر» ليقول إنه مخلص تمام الإخلاص للإنجليز، وأنه سوف ينضم بكل أتباعه إلى الجيش البريطاني بمجرد ظهور هذا الجيش في جهة رشيد أو دمنهور، ولما كنت أعرف مقدار النفوذ العظيم الذي لا يزال المماليك يتمتعون به في البلاد، وأدرك تماما مبلغ ما يستبد بالأهلين من رغبة في رؤية وقوع الاتصال بين جيشنا وقوات أولئك البكوات، فقد أوصيت القائد العام «فريزر» بأن يرحب بمبعوثي شاهين بك ترحيبا ممتازا، وقد سر «فريزر» أن يوافقني على هذا ...
ولما كان نشاط «فريزر» بمقتضى ما لديه من تعليمات مقصورا على احتلال الإسكندرية، فلم يكن في وسعه أن يفصل جزءا من الجيش الذي تحت قيادته للتعاون مع شاهين بك، ووجب إخطار هذا الأخير بذلك، وإنما بطريقة لا تجرده تماما من كل رجاء في الحصول على معاونة الحكومة البريطانية له في النهاية؛ لأنه لا يوجد أدنى شك في أن هذا الأمل وحده يمنع المماليك من الصلح مع محمد علي؛ ولذلك فقد عرضت على «فريزر» أن من المناسب أن يذكر له أنه عند إنزاله جنده في أرض مصر، كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بأن المماليك سوف يضمون صفوفهم إليه، وأنه كان قد صح عزمه لذلك على أن يساعدهم بكل ما لديه من قوة، ولكن آماله لم تلبث أن خابت من هذه الناحية، وأنه قد رفع كل ما حصل من وقائع إلى مقام جلالة الملك الذي يتوقع أن يصله منه سريعا تعليمات أخرى ، وأنه لما كان ملما بميول الحكومة البريطانية نحو المماليك، فهو واثق من أن هذه التعليمات سوف تكون في صالح البكوات ومحققة لرغائبهم، ولكنه في الوقت الراهن غير مفوض بالعمل، ولو أنه يوصي شاهين بقوة أن يظل متحدا معنا حيث إنه من الواضح أن من صالحه هو نفسه عدم فصل قضيته عن قضيتنا، وسوف ترون (مخاطبا «كاسلريه») أنه كان من المستحيل على «فريزر» أن يقول أكثر من ذلك إذا شاء عدم توريط نفسه بالتزامات معينة، كما لم يكن في وسعه أن يذكر أقل من هذا إذا شاء الإبقاء على عواطف شاهين بك الودية نحونا.
ولكنه يبدو مما ذكره «فريزر» نفسه في كتابه إلى «كاسلريه» الذي سلفت الإشارة إليه أن القائد العام لم يأخذ بنصيحة «مسيت» بحذافيرها، وأنه اكتفى كما قال بالإجابة على عروض شاهين في عبارات عامة هي التي ذكرها في كتابه هذا، وتعليل ذلك أنه إلى جانب ما حملته هذه النصيحة التي أسداها إليه «مسيت» من التغرير بالمماليك وشاهين بك وخديعتهم، كانت تنطوي كذلك على توريط القائد العام، وتوريط الحكومة الإنجليزية ذاتها بفتح الباب من جديد لنشاط يشبه ما حدث أيام أن ارتبط الجنرال «هتشنسون» بالتزاماته المعروفة حيالهم منذ سبع سنوات مضت؛ ولذلك فإنه بينما كان «مسيت» لا يزال يفكر بذهنية الرجل الذي خضع لمؤثرات ظروف معينة اختلفت كل الاختلاف على الظروف القائمة الآن، كان «فريزر» من جهته دائب التفكير والمسعى للوصول إلى اتفاق مع محمد علي يحول دون استمرار العمليات العسكرية، ويتيح له فرصة البقاء بالإسكندرية حتى يحين الوقت الذي يتمكن فيه من الانسحاب والجلاء عنها، وقد ذكر «هالويل»، عروض شاهين ومقترحاته والأسباب التي تحول دون قبولها، فقال في إحدى رسائله في 18 يونيو إلى نائب أمير البحر «ثورنبروه»
Thornbrough : «لقد صار لاثنين من البكوات جملة أيام هنا بالإسكندرية وقد أتيا برسالة إلى «فريزر» من شاهين بك تتضمن عبارات الصداقة والولاء للإنجليز، وهم (أي شاهين بك وأتباعه) شديدو الرغبة في مساعدتنا لهم من أجل جعلهم يمتلكون القاهرة ودمنهور، ولكنه لما كانت التعليمات التي لدى «فريزر» لا تبيح له تجاوز احتلال الإسكندرية، فليس في قدرته مساعدتهم، وحتى لو كان يميل إلى فعل ذلك، فإن قواتنا هنا لا تكفي لمحاولة فتوح أخرى في هذه البلاد، ولو أنها تكفي من ناحية أخرى للدفاع عن الإسكندرية.»
على أنه وإن كان في استطاعة الإنجليز الدفاع عن الإسكندرية - كما ذكر «هالويل» - فقد كان من الواضح أنه من المتعذر عليهم أن يستمروا في الدفاع عنها مدة طويلة، بل لقد تضافرت أسباب عدة على إقناع «فريزر» بأنه لن يكون في استطاعته البقاء طويلا في احتلال الإسكندرية، منها: تخاذل المماليك وعدم نجدتهم له، ومنها عدم كفاية النجدات التي أرسلها إليه الجنرال «فوكس» من صقلية للاحتفاظ بالإسكندرية طويلا، ومنها التدابير التي اتخذها محمد علي لحشد قواته، وما ظهر من عزمه عند تهيؤ الفرصة على الزحف بجيشه صوب الإسكندرية، فقد كتب إلى «فوكس» في 18 مايو: «إن العدو لا يزال في قوات عظيمة في جهة رشيد، وهناك من يقول إن عدد هذه ثمانية آلاف من الأرنئود والأتراك عدا شراذم حثالة القوم من كل الأصناف، ولديه مئات القوارب واثنا عشر زورق مدفعية متجمعة هناك، ويذيع أن عزمه قد صح على مهاجمتنا فورا من ناحية رشيد، ومن جهة صحراء مرابط العجمي، وأنه كان يأتي كذلك من طريق القناة، لو أننا لم نفتح القطع بين المعدية ومريوط، ومع أنني لا أرغب في أن أجد نفسي مطوقا في هذا المكان (الإسكندرية) ومحصورا به لضعف حاميتنا الحالية، ولاتساع نطاق التحصينات، والتي لا يمكن ترميمها وإصلاحها، فإني لا أكاد أظن أنهم (أي الأرنئود والأتراك) سوف يحاولون مهاجمتنا - وبخاصة وقد تأخروا في مهاجمتنا كل هذا الوقت الطويل، إذا أخذوا بعين الاعتبار كل تلك الصعوبات التي عليهم أن يصادفوها، إذا شاءوا اجتياز سفننا الحربية وزوارق مدفعيتنا عند أبي قير، وفي حضورهم عبر الصحراء من الجهة الغربية بطريق مرابط، وأما إذا فعلوا فسوف نبذل كل جهد لإصلائهم نارا حامية بإصلاح تحصيناتنا الأمامية - بقدر ما يسمح به الوقت وما لدينا من وسائل لفعل ذلك - وبتجهيز زوارق المدفعية التي لنا، وقد وجدت نفسي ملزما بشراء عشرة من هذه للدفاع عن مدخل بحيرة أبي قير، وعن بحيرة أبي قير نفسها والقطع الذي بين المعدية ومريوط وبحيرة مريوط وغير ذلك ...»
ثم عاد «فريزر» فكتب إلى الجنرال «فوكس» في اليوم نفسه: «لقد ذكرت بصورة خاصة عند تقديم طلبي بشأن النجدات التي أريدها حاجتي العظيمة إلى رجال المدفعية للدفاع عن التحصينات هنا وهي على نطاق واسع جدا، وأشعر لزاما علي لذلك أن أستحثكم الآن على إرسال عدد آخر من رجال المدفعية دون إبطاء لضرورة ذلك ضرورة قصوى؛ حيث إن ما لدينا منهم الآن لا يكفي للقيام بالخدمة الضرورية والمطلوبة منهم، إذا أخذنا بعين الاعتبار واجب وضع فرق من الجند عند قلعة أبي قير، وقطع القناة عدا ما تتطلبه الخدمات الأخرى المتزايدة والمطلوب من الجيش القيام بها، وفي 19 مايو كتب إلى «وندهام» يذكر له الجهود العظيمة التي بذلها منذ عودة الجيش من رشيد في تحصين الإسكندرية، حيث يجعل من الممكن بقدر الطاقة الاحتفاظ والتمسك بها، والتي يرجو إذا ظل العدو بعيدا عنها بعض الوقت كذلك، أن يجعلها مأمونة ضد هجوم يقع عليها لاقتحامها عنوة»، وقد نقل «فريزر» في هذه الرسالة خبر المحاولتين اللتين قام بهما جيش محمد علي ضد الإسكندرية يومي 10، 16 مايو وفشلهما، ثم استطرد يقول: «ومع ذلك أجد لزاما علي أن أرجوكم أن تأذنوا لي بتكرار القول بأنه علينا أن نناضل ضد عدو قوي، وكبير العدد، وقد يستمر تزايد قواته يوميا، بينما تصادفنا صعوبات كثيرة وعظيمة؛ ولذلك فلا زلت ألح في ضرورة إرسال نجدات من الجنود إلينا لا من المشاة فحسب، بل وكذلك من الفرسان ورجال المدفعية، حيث يتطلب اتساع التحصينات التي قد نجد من واجبنا الدفاع عنها، وطبيعة البلاد التي قد يصبح ضروريا القيام بعملياتنا العسكرية بها الاستزادة من صنفي الجنود الأخيرين؛ لأن الحاجة إلى هؤلاء ضرورية مثل ضرورة الحاجة إلى المشاة»، وكان «فريزر» على حق في تخوفه من تزايد قوات العدو يوميا؛ ذلك أن «مسيت» كان قد أبلغه منذ 8 مايو أن سفنا أربع قد أتت من الشام وقبرص خلال شهر أبريل وأنزلت اثنتان منها في ميناء دمياط جندا عثمانيين، وأن الجند محتشدون في قبرص على أهبة المجيء إلى مصر، ومن الممكن نزولهم في دمياط، كذلك إذا لم يفرض الإنجليز حصارا قويا على هذا الميناء، بينما لا يني محمد علي يجلب النجدات بكل وسيلة من مختلف الجهات، ولا مندوحة عن وضع مركب حربي عند دمياط لوقف تدفق الجنود عليها، ولا يقلل من أهمية هذه الخطوة، ولا يجب أن يمنع من اتخاذها القول بأنه في استطاعة الباشا جلب هذه النجدات بطريق الشام والصالحية إذا حوصرت كل الموانئ الشامية والمصرية؛ لأن هذا الطريق شاق وعسير لقلة الماء به؛ ولتعرض العسكر فيه لاعتداءات العرب عليهم.
وفي 21 مايو بعث «فريزر» إلى وزير الحربية «وندهام» بصورة من تقرير عن حالة التحصينات بالإسكندرية وضعه أحد الضباط «برجوين»
Burgoyne
من سلاح المهندسين في 8 مايو، وبعث «فريزر» بصورة منه كذلك إلى الجنرال «فوكس»، وهو تقرير على جانب عظيم من الخطورة، وكان من رأي صاحبه تعذر الدفاع عن الإسكندرية في الظروف الراهنة إذا خطر للعدو استخدام القوة التي فهم برجوين أنها لديه ضدها، وذلك لعدة أسباب ذكرها في الترتيب الآتي: أولا: امتداد التحصينات: حيث يزيد على ثلاثة أميال ونصف ميل، أقصر موقع يمكن احتلاله في وقت واحد، باستثناء السور الفرنسي حول المدينة الحديثة، وثانيا: حالة التداعي التي عليها التحصينات الآن؛ حيث إنها كانت أصلا تحصينات وقتية تركت من غير ترميم مدة ست سنوات، وليس لها الآن على وجه الخصوص متاريس لحماية الجند ووقايتهم، أو أرصفة لوضع المدافع عليها، الأمر الذي يتطلب إنجازه وقتا طويلا؛ بسبب قلة الرجال والأدوات وصعوبة العثور على الصناع العرب، وقلة الانتفاع بهم حتى إذا عثر عليهم، وثالثا : استحالة الوثوق في السكان العرب الذين هم وقد قاتلوا ذات مرة ضدنا صار من المحتمل كثيرا أن يفعلوا ذلك ثانية، مما يقتضي حتما ترك عدد كبير نسبيا من جنود الحامية بالمدينة إذا وجد من الحكمة الخروج منها لمقابلة العدو في الميدان، الأمر الذي يبدو لي أنه الوسيلة الوحيدة التي قد يحتمل إنقاذ المكان (الإسكندرية) بفضلها، ورابعا: أسلوب الحرب الخاص الذي يتبعه العدو، وهو أسلوب أكثر ملاءمة لجعله قادرا على المهاجمة أو الدفاع عن مكان متسع ودون تحصينات للدفاع المنظم وعلى نحو ما جرى به العرف، كالإسكندرية، ولا يستطيع جند أوروبيون مجاراتهم في ذلك، وخامسا: وهو سبب جوهري، قلة عدد رجال الحامية الذين لا يزيدون على ثلاثة آلاف جندي عامل، وهو عدد لا أرى أنه يكفي لمنع العدو من شق طريق له إلى المدينة في وقت مبكر جدا، ومن الواجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن الفرنسيين عندما هوجموا في الحرب الماضية (1801) وكان لديهم بالإسكندرية أكثر من ثمانية آلاف جندي، وتحصيناتها في حال طيبة جدا، صاروا مع ذلك يشكون من عدم كفاية هذا العدد لحراسة ما قد يتطلبه واجب الدفاع عن مثل هذه المواقع ذات الامتداد الواسع إذا هوجموا من كل جانب.
وحدث في 17 مايو أن توفي السير «توماس لويس» فتولى القيادة البحرية في مكانه الكابتن «هالويل» وبادر هذا بتوضيح خطورة الموقف لرؤسائه (21 مايو)، فأكد وجود الحاجة الملحة إلى نجدات قوية من جهة، وضرورة وضع عدد من السفن الحربية الصغيرة عند دمياط لمنع نزول الجند العثمانيين بها، وكذلك في خليج أبي قير لمنع خروج العدو منها لمهاجمة الإسكندرية، والحيلولة دون تكرر حادثي 10، 16 مايو من جهة أخرى، كما أنه أوضح لهم مقدار ما لدى العدو من قوات عظيمة، وما صار يتوقعه من حضور قوات أخرى كبيرة لنجدتهم، الأمر الذي يزيد من خطورته انصراف أصدقاء الإنجليز السابقين من الأهلين عن مساعدتهم، فقال عند الكلام عن حادث 16 مايو، ومحاولة الأرنئود بطريق بحيرة إدكو اقتحام القطع بين المعدية وخليج أبي قير لمهاجمة أبي قير ذاتها: «ولما كان حتى هذا الوقت لم يتخذ شيخ إدكو أية إجراءات عدوانية ضدنا، لم يبد من جانبنا ما يعطل حركة قوارب هذه القرية ونشاطها في البحيرة، ولكنه لما كان قد رضي في هذا الحادث (حادث 16) مايو بأن تعتبر البحيرة قوات كبيرة للعدو وأن تستخدم قنجاته في عبورها، ودون أن ينذرنا بتاتا باقترابهم، على خلاف ما كان يعدنا به دائما، ولما كان قد بلغنا كذلك أنه قد أرجع إلى رشيد ضابطا إنجليزيا من الآلاي الخامس والثلاثين كان قد فر منها، ووصل إلى قرية إدكو، فقد اعتبر مسلكه لذلك كله إن لم يكن معاديا لنا بطريق مباشرة فهو قطعا يدل على ميوله الودية نحو العدو، وبناء عليه - ولما كان أمير البحر مريضا (ويقصد «توماس لويس» الذي ما لبث كما تقدم أن توفى بعد ذلك)، فقد أمرت كل قواربنا المسلحة بالدخول إلى بحيرة إدكو وتحطيم كل القنجات الموجودة بها؛ لمنع العدو من نيل أية مساعدة مرة أخرى من هذه الناحية.» ثم إن «هالويل» بعد أن ذكر فتح القطع بين بحيرتي المعدية ومريوط وامتلاء هذه الأخيرة بالماء سريعا، حتى صار للإنجليز اثنا عشر زورقا للمدفعية في هاتين البحيرتين يمكن الاعتماد عليها لدرجة كبيرة في منع العدو من محاولة الهجوم على الإسكندرية من هذه الناحية الغربية، شرع يقول: «وللعدو قوات على درجة عظيمة من القوة، وتقول التقارير أن لديه حوالي التسعة آلاف عند رشيد والحماد، بينما تتألف قواتنا هنا من 3400 من مختلف الرتب بما في ذلك 200 عند أبي قير و100 عند القطع، ولما كانت خطوط الدفاع عن الإسكندرية ممتدة امتدادا واسعا فإنه لا مندوحة عن إمداد الجيش بنجدات لتأميننا في موقفنا الراهن، ولإدخال الثقة في نفوس سكان الإسكندرية الذين يستبد بهم القلق والخوف؛ بسبب ضآلة القوات التي لدينا».
ويذكر «هالويل» أن باشا مصر قد أوفد الميجور «فوجلسانج» من آلاي «رول» وكبير الضباط في موقع الحماد وقت وقوع الواقعة إلى القسطنطينية بناء على التماس القنصل الفرنسي «دروفتي»، ومن المحتمل أن يكون الأخير قد زود «فوجلسانج» برسالة إلى «سباستياني» - السفير الفرنسي في القسطنطينية - يوضح له فيها مبلغ «ضعف جيشنا في مصر، ويلح في ضرورة إرسال النجدات فورا إليها، وإذا فضل هؤلاء (أي الأتراك) عدم المجازفة بإرسال جندهم بحرا وتجنيبهم خطر التعرض للأسطول الإنجليزي، فمن المحتمل أن يسيروا الجند عبر سوريا إلى مصر، وأما إذا تزايدت قوات العدو هنا بدرجة كبيرة وقبل أن تصلنا نحن أية نجدات، فسوف يصبح موقفنا شديد الخطورة، والقائد الجنرال «فريزر» مشغول جدا بأمر إصلاح التحصينات لحاجة هذه الكبيرة إلى الترميم، كما أني مشغول أنا الآخر بالعمل على زيادة قوتنا البحرية من ناحية توفير العدد اللازم من قوارب المدفعية للعمل ضد قنجات العدو إذا خرج من النيل، وحاول إنزال جنده إلى البر ليلا، فلدينا الآن ثلاثة عشر زورق مدفعية مجهزة، وأقوم كذلك بتجهيز قاربين للمدفعية التي من نوع المورتار ...» ثم اختتم «هالويل» رسالته هذه إلى نائب أمير البحر «ثورنبروه» بقوله: «واسمح لي أن أذكر لك ضرورة وجود سفن حربية صغيرة هنا للتجول أمام دمياط؛ كي نمنع نزول جند العدو بها، ثم للتجول في خليج أبي قير للحيلولة دون خروج العدو وتسلله من رشيد ولمنعه من اتخاذ موقع له على هذا الجانب من بحيرة إدكو وحشد قواته به، وتقف الآن السفينتان «ستاندارد» و«أبولو» في خليج أبي قير، ولعدم وجود سفن حربية صغيرة أبقيت النقالة «كوميت»
Comet
إلى جانبهما، وتقلع هذه في بعض الأحيان لتسير قريبا من الشاطئ.»
وبذل «هالويل» و«فريزر» قصارى جهدهما وبقدر ما تسنى لهما لمراقبة قبرص ثم السواحل الشامية خصوصا؛ لمنع وصول نجدات العثمانيين منها إلى مصر، ولما كان يعتقدان أن سليمان باشا والي صيدا وعكا من باشوات الدولة العثمانية الذين لا يكنون ولاء قويا لهذه الدولة، ولا يريدان لهذا السبب الاشتباك معه في أعمال عدوانية، فقد آثرا تحذيره حتى لا يتعرض للسفن الآتية إلى الإسكندرية أو الذاهبة منها - وهي السفن التي توقف على وصولها بسلام إلى هذه الميناء وصول النجدات والمؤن التي تمكن الإنجليز من البقاء بها - فكتبا إليه في 10 يونيو يذكران الغرض من زيارة الإنجليز للإسكندرية، وهو إحباط مكائد الوكلاء الفرنسيين الذين من صالحهم أن يورطوا كل الأمم في دخول الحرب؛ حتى يفوزوا هم بمأربهم في هذه البلاد الذي لا يقل عن احتلال مصر وإنزال الظلم بأهلها، ثم استطردا يقولان: «ومن دواعي الأسى حقا أن يكون الباب العالي قد عمي عن رؤية مصالحه الذاتية لدرجة مكنت الوزير الفرنسي بالقسطنطينية بفضل مكائده من جعله يسرع دون تدبر بالدخول في حرب مع بريطانيا العظمى، الأمر الذي ما كان يجدر بالباب العالي أن يفعله، لو أنه تذكر المنافع التي صارت له من تحالفه السابق مع الإنجليز، ذلك التحالف الذي استطاع بفضله إخراج الفرنسيين من مصر واسترجاعها منهم، ولكنه لما كان غرض الفرنسيين بتحالفهم مع الباب العالي أن يسهلوا لأنفسهم مهمة امتلاك مصر، فقد بادرنا بالمجيء إلى هذه البلاد بجيش يمنع سقوطها مرة أخرى في أيدي الفرنسيين، وهو أمر لو حدث لتعذر بتاتا تخليصها من قبضتهم ثانية، فلم يكن مجيئنا إذن لفتح البلاد أو إنزال الكوارث بأهلها، وإنما نبغي أن نعيش في صداقة تامة مع كل أولئك الذين يميلون لعقد أواصر الصداقة معنا، لقد كان سلفك الجزار باشا صديقا وحليفا لنا، ولا بد أنكم عارفون دائما بإخلاص وسلامة نية الأمة الإنجليزية وكرمها وسخائها، ولما كنا قد ذكرنا الغرض من استيلائنا على الإسكندرية، فأملنا وطيد في أنكم سوف تمتنعون عن أي عمل عدواني ضد سفننا الداخلة إلى هذا الميناء، أو إزعاج وإرهاق تجارة عكا والمدن المختلفة الواقعة على ساحل الشام إذا اضطررتمونا إلى مناصبتكم العداء، ففي يدكم أنتم إذن تقرير المسلك الواجب علينا اتباعه.» ورجا «فريزر» و«هالويل» من الحاج سليمان باشا أن يجيب على رسالتهما هذه إليه بكل سرعة، ولكن هذه الجهود ذهبت سدى عندما أجاب باشا عكا وصيدا في 20 يونيو أنه يدين بالولاء للباب العالي، ويستحيل عليه أن ينقض أوامره، لا سيما وقد أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته ورسوله وأولي الأمر من المسلمين؛ ولذلك يستحيل عليه أن يسمح لأي فرد من رعاياه في وقت الحرب هذا بالذهاب إلى الإسكندرية، ولقد كان ذلك هو الحال دائما تحت مثل هذه الظروف القائمة، واضطر «هالويل» كما ذكر «لثورنبروه» في 23 يوليو وهو يبعث إليه بصورة من رسالته و«فريزر» إلى سليمان باشا، ورد هذا عليهما إلى إنفاذ السفينة الحربية «ستاندارد» للجولة في مياه قبرص وأمام سواحل فلسطين وسوريا.
على أنه بالرغم من كل هذه الصعوبات التي صادفها الإنجليز أثناء احتلالهم للإسكندرية، فقد أخذ موقفهم بها يتحسن رويدا رويدا، بسبب الإمدادات التي جاءتهم من الرجال والمال، وإقبال البدو الذين انحازوا جميعا إلى الإنجليز، كما قال «هالويل» على تزويد هؤلاء بكميات جد وفيرة من القمح ولحوم البقر والخضراوات، ولم يبذل محمد علي أي جهد لمنع وصول هذه الأغذية إليهم، سواء كان مبعث ذلك الرغبة في عدم تجويع الإسكندرية وحاميتها من الإنجليز في وقت كان يريد فيه حملهم على الجلاء عنها بطريق المفاوضة بدلا من الالتحام معهم، أم كان مبعثه عدم قدرته على فعل ذلك، ثم صارت تدخل السفن يوميا إلى ميناء الإسكندرية من جزر الأرخبيل محملة بمختلف أنواع المؤن والإمدادات من زيوت وأخشاب وغير ذلك مما يحتاج إليه أهل الإسكندرية، واكتظ السوق بالأنبذة وسائر المشروبات الروحية، لدرجة أن عددا من السفن اضطر إلى مغادرة الميناء دون تفريغ حمولتها.
ولقد كان من جراء المفاوضة التي لم يلبث أن مهد لها الباشا منذ حادث إرسال الضابط «ماثيسون» في أول مايو، وبعد محاولتي 10، 16 مايو الفاشلتين ضد الإسكندرية أن امتنع إزعاج الإنجليز بها، واستطاع هؤلاء إحكام نظام دفاعهم، حتى أن «هالويل» لم يلبث أن أكد لثورنبروه في رسالته الآنفة إليه في 23 يوليو «أن لا شيء أقل من دخول جيش أجنبي كبير في الميدان ضدنا يمكن أن يثير ولو بدرجة ضئيلة مخاوفنا، وحتى في هذه الحالة فليس هناك ما يدعونا إلى اليأس، اللهم إلا إذا أصيبت جنودنا بمرض خطير، وهكذا بدأ يتقوى مركز الإنجليز بالإسكندرية وعادت الثقة إلى نفوسهم، ولو أنهم شرطوا قدرتهم على الصمود - على نحو ما ذكر «هالويل» - كذلك بعدم تحميلهم عبء عمليات عسكرية جديدة في داخل البلاد لعجز قواتهم عن القيام بها، وعلى شريطة ألا يطول مقامهم بالإسكندرية وهم على وضعهم الراهن بها.
وكان في هذه الأثناء أن عاد مندوبا شاهين الألفي يحملان إليه جواب «فريزر» على رسالته - وهو الجواب الذي سبقت الإشارة إليه - وقد أثنى أحمد بك الألفي أحد مندوبي شاهين ثناء طيبا على الحفاوة التي قابله بها «فريزر»، مما أثلج صدور زملائه الذين يطلبون لفريزر الصحة والسعادة، وكان إبراهيم بك وزملاؤه عندما علموا بذهاب مندوبي شاهين لمقابلة «فريزر»، قد بعثوا بأحد الأمراء ليقف من شاهين على حقيقة المهمة التي أوفد فيها مبعوثيه إلى الإسكندرية، وانتهز شاهين - وقتئذ - الفرصة لتأنيبهم على جمودهم وعدم حركتهم؛ لأن مفاوضات كانت تدور عندئذ بين إبراهيم وجماعته وبين محمد علي - سوف يأتي ذكرها - لحمل هؤلاء على التزام خطة الحياد في النضال القائم بين محمد علي والإنجليز، ونعى شاهين عليهم عدم اكتراثهم بالقضية العامة وصالح المماليك، واستمرارهم على التراسل مع محمد علي، فلما وصل أحمد بك الألفي بعث إبراهيم يطلبه إليه ليستوضحه الأمر، فذهب إليه وأبلغه نصيحة الجنرال «فريزر» وهي ضرورة أن يبقى البكوات والمماليك متحدين مع بعضهم بعضا، فلا يكونون إلا جسدا واحدا وروحا واحدة، وأن «فريزر» إنما يبغي أن يراهم وقد عاد إليهم الحكم ثانية في القاهرة.
وعقد بكوات إبراهيم عدة اجتماعات وكان إبراهيم قد وصل بمعسكره - كما تقدم - إلى بني سويف لبحث الموقف، وكان من رأي إبراهيم الذي ما كان يثق في وعود محمد علي أبدا، ولا يركن إليه، أن صالح بكواته يقتضيهم التحرك والنزول من الصعيد، ولكن بكواته أثاروا اعتراضات معينة على هذا الرأي، وصفها شاهين بك فيما بعد بأنها كانت تافهة وعابثة، وكان بعد عودة أحمد بك الألفي إلى معسكر شاهين في ميمون أن تبودلت الرسائل بين شاهين وإبراهيم، واتفق الفريقان على عقد مؤتمر لتقرير الخطة التي يجب اتباعها، وعقد هذا المؤتمر فعلا عقب ذلك، وحضره شاهين، وقرر المجتمعون أن ينزل البكوات وأتباعهم من الفريقين، بكل قواتهما متحدة لمحاربة محمد علي الذي لتأثره بنصائح أعداء البكوات ولأنه يغبط نفسه على أن الإنجليز لا يساهمون مساهمة فعالة في تأييد قضية المماليك، قد صار يحاول بواسطة رسله ووكلائه بذر بذور الانقسام والتفرقة بينهم، وكان بناء على هذا القرار أن نقل إبراهيم بك معسكره إلى الرقة بينما انتقل شاهين إلى قرية على مسيرة ثلاث ساعات من الجيزة، وكتب إبراهيم بك إلى «فريزر» في 11 يوليو، كما كتب إليه أحمد بك الألفي وشاهين بك في 14 يوليو، يبلغونه قرارهم، وأنهم واقفون بمراكزهم الجديدة حتى يتلقوا أوامره، وقال إبراهيم: إن رسوله إلى «فريزر» أمين بك سوف يشرح له طبيعة الأماكن التي هم معسكرون بها الآن، وأن موعد فيضان النيل يقترب بسرعة عظيمة جدا، حتى إنه لا يمضي وقت طويل حتى يصبح من المتعذر على فرسان المماليك العمل، كما في وسع صديق إبراهيم بك الميجور «مسيت» أن يشرح ذلك له، كما أكد أحمد الألفي ضرورة أن تصل أوامر «فريزر» إلى البكوات في موعد قريب؛ لأنه بعد شهر من هذا التاريخ يصير فتح خليج القاهرة؛ أي حصول الفيضان، وأما شاهين بك فإنه بعد أن نقل إلى «فريزر» أنباء ما حدث بعد عودة أحمد الألفي من الإسكندرية، راح يتحدث عن صداقته هو وجماعته للإنجليز، تلك الصداقة والمحبة التي زرع جذورهما في قلبه وقلوب زملائه والدهم العزيز محمد الألفي الذي علمهم كذلك أن يضعوا ثقتهم في الإنجليز، وجعلهم يتوقعون تلقي المساعدة منهم، وأكد دليلا على هذه الصداقة أنه هو وإخوانه جميعهم يعتبرون أنفسهم تحت حماية الإنجليز مباشرة، ويدعون الله أن يمتع «فريزر» بالسعادة، وأن يتيح لهم فرصة العودة سريعا إلى الحكم في القاهرة بمؤازرة الإنجليز.»
على أنه كان من الواضح بالرغم من تقرير البكوات الاتحاد ومحاربة محمد علي، وتأكيد شاهين الألفي صداقته للإنجليز حماته أن هؤلاء جميعا لم يتخلوا عن فكرتهم الأولى، وهي عدم الالتحام مع محمد علي في أية معارك طالما بقي الإنجليز بالإسكندرية، ولم يزحفوا صوب القاهرة، ولم يشتبكوا في قتال مع محمد علي والأرنئود يشغلهم عن مطاردة أسرات البكوات في القاهرة وإيذاء حريمهم، ولم يكن في وسع «فريزر» بحال من الأحوال للأسباب العديدة التي ذكرناها، الدخول في أية عمليات عسكرية خارج الإسكندرية، ولم تزده رسائل البكوات الأخيرة إلا اقتناعا بعبث الاعتماد على تلقي أية مساعدة منهم، ولم يبد وقتئذ أن «فريزر» كان لا يزال يدخل في حسابه توقع أن يهب هؤلاء لمعاونته، فقد كانت المفاوضات بينه وبين محمد علي قد بدأت تسير في طريقها متعثرة أولا، لا تتجاوز محاولة جس النبض من جانب الفريقين، ثم لم تلبث أن سارت مسرعة في الشهر التالي عندما قررت الحكومة الإنجليزية ذاتها سحب حملة «فريزر» من مصر لأسباب متصلة بتطورات الموقف السياسي - العسكري في الميدان الأوروبي، مما جرد مسألة تعاون المماليك عسكريا مع الإنجليز من كل أهمية، وفضلا عن ذلك فقد بادر «بتروتشي» من القاهرة يحذر «مسيت» والإنجليز بالإسكندرية منذ 6 يوليو من هؤلاء البكوات الذين قال عنهم: «إن من واجب الحكومة الإنجليزية أن تراقب مسلكهم؛ لأن هؤلاء وإن كانوا يصرحون علنا بأنهم ليسوا على علاقات طيبة مع الباشا، بل على العكس من ذلك يدينون بالولاء للإنجليز، فإن أقوالهم هذه موضع اشتباه، فمن المحتمل أن يكون هناك بعض التفاهم سرا بينهم وبين محمد علي، ولو أن كلا الفريقين لا يثق أحدهما في الآخر، ويتجهز الأخير (أي محمد علي) لمهاجمة البكوات حيث قد نقل جنده عبر النيل إلى إمبابة، بينما حذا البكوات حذوه وهم يحتفظون بقرية «زنيه»
Zenia
مما يدل على استحالة أن يكون الفريقان مخلصين في نواياهما، ولا يزال الوكيل الفرنسي «مانجان» مقيما في معسكر البكوات، ويبعث إليه «دروفتي» بالرسل يوميا، والمفاوضات جارية دون انقطاع، ويؤكدون أن الفريقين ليسا على علاقات ودية، وأنهما سوف يصطدمان في آخر الأمر، ولكنه لا يوجد ما يدل على أنهما في حالة حرب ضد بعضهما البعض، أو أن هناك سوء تفاهم بينهما، ومن شأن هذا التحذير الذي أبعث به إليك أن يجعلك محتاطا ومتحذرا في علاقتك مع البكوات ولقد أبدى لي أحد الأفراد في خدمة هؤلاء الأخيرين، أنه في حالة نشوب معركة بين الجند الإنجليز وجند الباشا فسوف يتمكن البكوات من الانقضاض على الجانب الذي يبدو حينئذ أنه أضعف من الآخر، وأنه لا غرض للبكوات إلا خديعة الإنجليز والباشا على السواء وبنفس الطريقة التي يخدعهم بها هذا الأخير .»
ولقد كان جمود البكوات، واستنادهم على هذه الأساليب الملتوية التي برهنت على عبثها الحوادث السابقة، ومن أيام مسعى الألفي في القسطنطينية لاسترجاع الحكم في مصر، من أهم العوامل الحاسمة لا في فشل عمليات حملة «فريزر» العسكرية فحسب، بل وفي تفويت فرصة استرجاع الحكم على أنفسهم في هذه المرة كسابقتها، وغني عن البيان أن الإنجليز وقد كان قد تحدد غرضهم من المجيء إلى الإسكندرية على الصورة التي أوضحناها مرارا، والتي تمنعهم من توسيع نطاق عملياتهم العسكرية، لم يكن في وسعهم الارتباط مع المماليك ارتباطا يعيد إلى الأذهان ما حدث أيام «هتشنسون» في حملتهم السابقة، واستئناف سياسة دلت الحوادث على خطئها، ولا تدخل المثابرة عليها في نطاق برنامجهم العسكري والسياسي في الظروف الراهنة، وقد بسط هذه الحقيقة «هالويل» في رسالته إلى «ثورنبروه» في 23 يوليو - وقد سبقت الإشارة إليها - فقال تعليقا على تحذير «بتروتشي»: «لقد بعثت إليكم في رسالتي الأخيرة صورة من بعض ما جاء بكتاب «بتروتشي» قنصل النمسا العام في رشيد، يحذرنا من مكايد المماليك ومؤامراتهم، وهم الذين يرى ما يدعوه إلى التشكك في إخلاصهم وولائهم للإنجليز، ولقد بعثت إليكم أيضا طي تلك الرسالة بصورة من الخطابات الثلاثة الأخيرة التي أرسلها المماليك إلى الجنرال «فريزر» - من إبراهيم بك في 11 يوليو وأحمد بك الألفي وشاهين بك الألفي في 14 يوليو - وهم لا يزالون ينتظرون منا أن نملكهم الحكم في هذه البلاد، الأمر الذي وعدهم به الميجور «مسيت» دون أي تفويض من حكومة جلالة الملك، ولقد كان الحذر العظيم رائدنا منذ قدومنا؛ حتى نتجنب الارتباط بأية ارتباطات أو بذل أية وعود للماليك أو غيرهم، قد يترتب على عدم تنفيذها توريط حكومتنا وخلق الصعوبات لها في المستقبل ...»
وكان «بتروتشي» محقا في تحذيره للإنجليز من ناحية المماليك؛ لأن مفاوضات كانت تجرى فعلا وقتئذ بينهم وبين محمد علي، فقد استفاد الباشا من نجاح مساعيه الأولى معهم أثناء وجوده بالصعيد، وهو نجاح وإن كان محدودا فقد ترتب عليه اتخاذ البكوات موقف الحياد وعدم نزولهم من الصعيد للانضمام إلى الإنجليز قبل كارثتهم في الحماد، ولما كانت قد تضافرت عوامل أخرى، أعمق أثرا في جعل البكوات لا يستجيبون لنداءات الإنجليز، فقد انحصر اهتمام الباشا في أن يستمر جمودهم، فكان شغله الشاغل في الأيام التالية لواقعة الحماد خصوصا شل حركة هؤلاء بكل وسيلة؛ ولذلك فقد ظلت مسألة البكوات من أخطر الصعوبات التي صادفها محمد علي، والتي كانت من بين الأسباب الهامة التي أقنعته في آخر الأمر بضرورة التعجيل في الاتفاق مع الإنجليز لإخراجهم سلما إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، أفضل من قتالهم في حرب قد تستطيل بسبب ما يصلهم من نجدات، وقد يستفحل شرها بسبب انضمام المماليك إليهم.
الباشا في القاهرة
وقد وصل إلى القاهرة خبر هزيمة الإنجليز في الحماد بعد الواقعة بيومين، فحضر في 23 أبريل شخصان من السعاة وأخبرا بالنصر على الإنجليز وهزيمتهم، وفسر هذان الحادث بأنه اجتمع الجم الكثير من أهالي بلاد البحيرة وغيرها وأهالي رشيد، ومن معهم من المتطوعة والعساكر وأهل دمنهور، وصادف وصول كتخدا بك وإسماعيل كاشف الطوبجي إلى تلك الناحية، فكان بين الفريقين مقتلة كبيرة، أسفرت عن قتل كثير من الإنجليز وقطع عدة رءوس فخلع الباشا على الساعيين جوختين، ثم لم يلبث أن تحقق الخبر عندما وصل أيضا في أثر ذلك شخصان من الأتراك وصفا ما حدث بأن الإنجليز انجلوا عن متاريس رشيد وأبي منضور والحماد، ولم يزل المقاتلون من أهل القرى خلفهم إلى أن توسطوا البرية وغنموا جبخانتهم وأسلحتهم ومدافعهم ومهراسين عظيمين، وذكرا أنه وصل خلفهم أسرى ورءوس قتلى كثيرة في عدة مراكب، واعتقد الشيخ الجبرتي أنهما بالغا في الأخبار لاستبعاد أن تنزل بجنود الإنجليز مثل هذه الكارثة، ولكن القاهريين لم يلبثوا أن شاهدوا في الأيام الأربعة التالية الأسرى يمرون في شوارع المدينة إلى معتقلهم بالقلعة، كما شاهدوا رءوس القتلى، ومنذ أن وصل خبر هذه الهزيمة في 23 أبريل أمر الباشا بإطلاق المدافع الكثيرة من القلعة والأزبكية وبولاق والجيزة احتفالا بالنصر، ولم يسع الشيخ الجبرتي عندما تحقق لديه أنه لم تكن هناك مبالغة في وصف ما حدث للإنجليز إلا أن يعلق على هزيمة الحماد بقوله: «وهذه الواقعة حصلت على غير قياس، وصادف بناؤها على غير أساس؛ لأنه لم يخطر في الظن حصول هذا الواقع، ولأن الرعايا والعسكر لهم قدرة على حروب الإنجليز (أي إنه لم يخطر في الظن أن لهؤلاء قدرة على ذلك)، وخصوصا شهرتهم بإتقان الحروب، وهم الذين حاربوا الفرنساوية وأخرجوهم من مصر»، وعزا الشيخ هزيمتهم إلى فساد رأيهم ورأي الأمراء المصرية، «فأما فساد رأي الإنجليز فلتعديهم الإسكندرية مع قلتهم وسماعهم بموت الألفي وتغريرهم بأنفسهم، وأما الأمراء المصريون فلا يخفى فساد رأيهم بحال، وثمة سبب آخر ذكره الشيخ، هو أن هزيمة الإنجليز الأولى في رشيد أعادت الثقة إلى نفوس الجند والأهلين، وجعلتهم يستخفون بهم ويستهينون بأمرهم، فقد تراجعت نفوس العساكر بعد انتصارهم في رشيد وطمعوا عند ذلك في الإنجليز، وتجاسروا عليهم، وكذلك أهل البلاد قويت هممهم وتأهبوا للبروز والمحاربة، واشتروا الأسلحة، ونادوا على بعضهم بعضا بالجهاد، وكثر المتطوعون، ونصبوا لهم بيارق وأعلاما وزنورا، فلما وصلوا إلى متاريس الإنجليز دهموهم من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم، وصدقوا في الحملة عليهم، وألقوا أنفسهم في النيران، ولم يبالوا برميهم، وهجموا عليهم، واختلطوا بهم، وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم، فألقوا سلاحهم، وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك، وقبضوا عليهم، وذبحوا الكثير منهم، وحضروا بالأسرى والرءوس على الصور المذكورة، وفر الباقون إلى من بقي بالإسكندرية.»
وكان من أثر ذيوع هذه الأنباء في القاهرة، أن عادت الثقة إلى نفوس القاهريين كذلك، والأهم من ذلك إلى نفوس المشايخ الذين عظم التفافهم الآن حول محمد علي وتأييدهم له، واتخذوا من واقعة الحماد وهزيمة الإنجليز بها سببا لاستنهاض الهمم وإشعال حماس القاهريين، وبث الدعوة للجهاد، فشمر هؤلاء عن ساعد الجد لإنجاز التحصينات بكل سرعة، وأقبلوا على حفر الخنادق، وإقامة الأسوار بهمة عظيمة، وصار الباشا يخرج بنفسه وبصحبته «دروفتي» جملة مرات في النهار الواحد؛ لتفقد هذه الأعمال والإشراف على سيرها، وعلاوة على ذلك، فقد كان من أثر هزيمة الإنجليز أن صار الأرنئود والعثمانلي العصاة الذين كانوا قد انضموا قبلا إلى البكوات، ينفضون من حولهم، ويحضرون الآن يوميا - كما كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في آخر أبريل - ويعرضون خدماتهم على الباشا.
وقد خيل إلى الباشا في أول الأمر أن الإنجليز بعد هزيمتهم سوف يجلون عن الإسكندرية، ولكنه سرعان ما تبين له عزمهم على البقاء والتحصن بها، عندما وقف على التدابير التي اتخذها هؤلاء لتعزيز الدفاع عن الإسكندرية، ولا سيما قطع سد المعدية، وقد حدث بعد واقعة الحماد بأيام قليلة أن أرسل حسن باشا و«طبوز أوغلي» من رشيد أحد الضباط يحمل رسالة إلى الجنرال «فريزر» بالإسكندرية ضمناها احتجاجا على هجوم ما كان يجب أن يحدث؛ بسبب الصداقة القائمة بين الأمتين من قديم الزمن، وملاحظات على ما تبذله إنجلترة من جهود لا طائل تحتها للاستيلاء على مصر، وطالبا بإخلاء الإسكندرية التي سوف يحاصرها - كما ذكرا - جنود الباشا عاجلا، فكان جواب «فريزر» على ذلك إنما هو ينفذ تعليمات حكومته إليه، ويؤلمه أن تسوء العلاقات بين الأمتين الإنجليزية والعثمانية، ولاحظ رسولهما أن القطع الذي قطعه الإنجليز بين المعدية ومريوط متسع جدا، لدرجة أن جعل تدفق المياه إلى البحيرة الأخيرة من الصعوبة بمكان الانتفاع من الجسر المتحرك الذي أقامه الإنجليز عبر القطع، ثم تأكد لدى الباشا عزم الإنجليز على عدم إخلاء الإسكندرية، وجدية التدابير التي اتخذوها للدفاع عنها، عندما عاد إلى القاهرة في 23 مايو عابدين بك أخو حسن باشا، وحضر في أثره أحمد أغا لاظ وغيره يبلغون الباشا فشل محاولتهم المعروفة يوم 16 مايو خصوصا التي أرادوا بها مهاجمة أبي قير، واستطاعوا الوصول إلى قرب معدية البحيرة؛ أي قطع المعدية، ولكن لم يلبث أن خرجت عليهم طائفة من الإنجليز من البر والبحر، وضربوا عليهم مدافع ونيرانا كثيرة، فولوا راجعين وحضروا إلى القاهرة.
وعندئذ لم يعد هناك مناص من خروج الباشا نفسه والزحف على الإسكندرية لاستخلاصها من أيدي الإنجليز، ولكن صعوبات عدة حالت دون خروج محمد علي فورا لمناجزة هؤلاء، كان أهمها حاجته الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند، وتجهيز الحملة المنتظرة، وسداد نفقات الأهلين الذين تولوا أعمال الحفر والبناء وما إلى ذلك من الأعمال اللازمة لإنجاز تحصينات القاهرة ذاتها قبل خروجه، وهي أعمال ما كان يكفي جنده بالقاهرة وحدهم لإنجازها، ثم إنه ما كان يستطيع مغادرة القاهرة قبل الوصول إلى اتفاق مع ياسين بك الأرنئودي الذي استمر في ثورته وتمرده، وتجمع حوله حشد من الجند الأرنئود والعثمانلي المتمردين، ومن العربان والمماليك، على حدود إقليمي بني سويف والجيزة، وقد بدأ الباشا يتراسل معه من أجل إقناعه بالصلح والمسالمة، زد على ذلك أنه لم يكن مطمئنا إلى موقف البكوات المماليك؛ وذلك لأنه حسب الاتفاق المبدئي الذي تم بينهم وبين محمد علي في أسيوط كان من المنتظر أن ينزل هؤلاء من الصعيد إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي، ولكن تباطؤ البكوات في النزول اضطره إلى إرجاء زحفه على الإسكندرية حتى يطمئن إلى وقوفهم موقف الحياد عند استئناف القتال بين جيشه وبين الإنجليز، ولم يغب عن ذهن محمد علي أن البكوات إذا انضموا إلى هؤلاء الأخيرين جعلوا قطعا كفتهم هي الراجحة على كفته، أضف إلى هذا كله أن تأمين أهل رشيد والحماد على أنفسهم وأموالهم، ووقف اعتداءات جنده عليهم، كانت المسألة التي واجهته مباشرة بعد حوادث المعارك الأخيرة بتلك الجهات؛ وعلى ذلك، فقد حرص محمد علي على معالجة كل هذه المسائل قبل زحفه على الإسكندرية، ثم إنه توقف على مدى نجاحه أو إخفاقه في معالجتها تقريره الاشتباك مع الإنجليز، أو تفضيل الاتفاق معهم على جلائهم عن الإسكندرية سلما ودون قتال.
فقد حدث بعد هزيمة الإنجليز في الحماد وتقهقرهم إلى الإسكندرية أن اعتبر جند الباشا قرية الحماد والجهات المجاورة لها دار حرب بنزول الإنجليز عليها وتملكها، فنزلوا عليها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها، فتدخل بعض وجهاء الناحية أو الظاهرين لمنعهم ولكن دون جدوى، فبعث هؤلاء الظاهرون إلى القاهرة يستفتون علماءها فيما إذا كانت بلادهم قد صارت دار حرب، يصح للأرنئود استباحة أهلها ونهب أموالها؟ وكتبوا في ذلك سؤالا، وكتب عليه المفتون بالمنع وعدم الجواز، ثم أحاط الجند ورؤساؤهم برشيد ذاتها، وضربوا على أهلها الضرائب، وطلبوا منها الأموال والكلف الشاقة، وأخذوا ما وجدوا بها من الأرز للعليق، فضج الأهلون بالشكوى وتوسط حسن كريت لدى حسن باشا وكتخدا بك «طبوز أوغلي» لوقف هذه الاعتداءات، وتكلم معهما، وشنع عليهما، مهددا بخروج جميع أهل رشيد إلى جهة أخرى، وترك المدينة يفعلون بها ما يشاءون، وتدخل حسن باشا و«طبوز أوغلي» لمنع هذه الاعتداءات، وأخذا يتلطفان مع السيد حسن كريت، ولكن هذا الأخير بادر بالكتابة إلى الباشا والسيد عمر مكرم بالقاهرة، واهتم محمد علي بالأمر، وبعث بفرمان إلى الجند بالكف والمنع لتأمين الأهلين على حياتهم وأموالهم.
وعالج الباشا أزمته المالية - ولقد كانت هذه على نحو ما عرفنا أزمة مزمنة - بنفس الطرق التي درج على اتباعها منذ ولي الحكم في عام 1805، يحصل الغرامات من الذين اضطروا إلى المصالحة على أنفسهم، ويطلب القروض والسلف الإجبارية، ويقاسم الملتزمين إيراداتهم إلى غير ذلك من الوسائل التي مكنته وقتيا من سد حاجته إلى المال، من أمثلة ذلك أنه ألزم أيوب فودة أحد كبار القليوبية دفع غرامة ثلاثمائة كيس، بعد أن قوي الاتهام ضده بأنه كان يحمي أحد قطاع الطرق ويدعى زغلول، وقد كان هذا الأخير ينهب المسافرين في النيل، وعظمت شكوى الأهلين منه، ولم تفلح محاولتهم في توسيط أيوب فودة كبير الناحية لوقف اعتداءاته، واضطر الباشا في أوائل مايو إلى إنفاذ قوة للقبض عليه وقتله، ولكنه هرب، فصادر جند الباشا موجودات أيوب فودة وبهائمه وماله من المواشي والودائع بالبلاد، وحضر الأخير إلى القاهرة يوسط السيد عمر مكرم لدى الباشا حتى يصفح عنه، وصالح على نفسه بالمبلغ الذي سلف ذكره.
على أن أكبر الموارد التي استعان بها الباشا على التخفيف من حدة أزمته المالية كانت تلك التي جاءته عن طريق الفرض التي فرضت على البلاد والقرى في العام السابق، فقد كملت الآن في منتصف يونيو 1807 دفاتر الفرضة والمظالم التي ابتدعت في العام الماضي على القراريط وإقطاعات الأراضي، وكذلك أخذ نصف فائظ الملتزمين، وذلك خلاف ما فرض على البنادر من الأكياس الكثيرة المقادير، ثم حدث في أواخر يوليو ما وصفه الشيخ الجبرتي بأنه حادثة لم يسبق مثلها، وهي المطالبة بمال الأطيان المسموح الذي لمشايخ البلاد، وكان هؤلاء معفين من دفع الضريبة عن جزء من الأرض الداخلة في حصة التزامهم؛ أي التي اعتبروا مسئولين عن تأدية المال عنها إلى الحكومة نظير هذا الالتزام، وضيافة عمال الحكومة ومن إليهم، وقد عرف ذلك باسم مسموح المشايخ، وكان المفروض أن يعفى الفلاحون في هذا الجزء المعفى من الضريبة من دفع الضرائب كذلك، ولكن المشايخ الملتزمين درجوا بالرغم من هذا على جمع الضرائب وسائر الفرض والإتاوات الحكومية من الفلاحين في الأرض المعفاة منها حسب هذا النظام، فطلب الباشا الآن هذا المال المسموح، وحرروا به دفترا وشرعوا في تحصيله.
وفي يوليو طلب الباشا من التجار نحو الألفي كيس على سبيل السلفة، فوزعت على الأعيان وتجار البن وأهل وكالة الصابون ووكالة التفاح ووكالة القرب وخلافها، ووصف الشيخ الجبرتي هذه الطريقة التي حصلت بها هذه السلفة فقال: «وأجلسوا العساكر على الحواصل والوكائل يمنعون من يخرج من حاصله أو مخزنه شيئا إلا بقصد الدفع من أصل المطلوب منهم، ثم أردفوا ذلك بمطلوبات من أفراد الناس المساتير، فيكون الإنسان جالسا في بيته، فما يشعر إلا والمعينون واصلون إليه، وبيدهم بصلة الطلب إما خمسة أكياس أو عشرة أو أقل أو أكثر، فإما أن يدفعها وإلا قبضوا عليه وسحبوه إلى السجن، فيحبس ويعاقب حتى يتمم المطلوب منه»، واستطرد الشيخ يقول: «وهذا الشيء خلاف الفرض المتوالية على البلاد والقرى في خصوص هذه الحادثة، وكذلك على البنادر، مقادير لها صورة وما يتبعها من حق طرف المعينين المباشرين، وتوالى مرور العساكر آناء الليل وأطراف النهار بطلب الكلف واللوازم، وقد طلب مثل ذلك من غالب بلاد السواحل .»
وثقلت وطأة هذه الفرض والمغارم على الأهلين، فقال الشيخ الجبرتي: «إن قرى قد خربت، وافتقر أهلها وجلوا عنها، فكان يجتمع أهل عدة من القرى في قرية واحدة بعيدة عنهم ثم يلحقها وبال المعينين والمباشرين والعساكر فتخرب كذلك ، وأما غالب بلاد السواحل، فإنها خربت وهرب أهلها»، وكان من بين فرض المغارم التي قررت وقتئذ على البلاد ما عرف باسم بشارة الفرضة، كتبوا بها أوراقا يتولاها بعض من يكون متطلعا لمنصب أو منفعة، ثم يرتب له خدما وأعوانا ثم يسافر إلى الإقليم المعين له، وذلك قبل منصب الأصل وفي مقدمته يبعث أعوانه إلى البلاد يبشرونهم بذلك، ثم يقبضون ما رسم لهم في الورقة من حق الطريق بحسب ما أدى إليه اجتهاده قليلا أو كثيرا، وقد قدر الشيخ حسب ما سمع من بعض من له خبرة بذلك قيمة المغارم التي قررت على القرى بسبعين ألف كيس وذلك خلاف المصادرات الخارجية.
وسواء أكان هذا التقدير مبالغا فيه أم لم يكن، وسواء بالغ الشيخ في وصف ما حل بالقرى وغالب بلاد السواحل من تخريب أم اقتصد في وصفه - ومن المعروف أن الشيخ لم يكن راضيا عن حكومة محمد علي - فالثابت أنه لم يكن هناك معدى عن اللجوء إلى هذه الطرق غير العادية لجلب المال الذي أقفرت منه خزانة الباشا لكل تلك الأسباب التي سبق بسطها عند ذكر الصعوبات التي صادفتها حكومته من بدء تأسيسها في عام 1805، ثم أوجدت الأزمة المالية التي تزايد استحكامها على مرور الأيام بدلا من انفراجها؛ وذلك بسبب ما جد من حوادث وأزمات سياسية كثيرة وعصيبة، كان آخرها مبعثه مجيء حملة «فريزر»، فكان حرمان الباشا من مال الصعيد وغلاله لخضوع هذا الإقليم لسيطرة البكوات المماليك، وكساد التجارة بسبب استيلاء الإنجليز على الإسكندرية أهم موانئ القطر، وعدم تأمين السبل في الوجه البحري عموما بسبب الفوضى الناجمة عن وجود حالة الحرب، وهي حرب لم يكن أحد يعرف ما سوف تنتهي إليه، ثم تعطل الزراعة نتيجة لما لحق بالفلاحين وأهل القرى من إيذاء على أيدي الجنود الذين كثر مرورهم ببلادهم أثناء العمليات الحربية الأخيرة خصوصا، ومطلوبات هؤلاء منهم - نقول كان ذلك كله إلى جانب حاجة محمد علي الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند وإنجاز تحصينات القاهرة وتجهيز جيشه للزحف على الإسكندرية مبعث هذه الأساليب الشديدة التي اتخذت لجمع المال.
وقد ذكر «دروفتي» شيئا من هذه الصعوبات التي صادفت الباشا وقتئذ والأسباب التي جعلته يعمد إلى فرض الفرض والمغارم، فقال في رسالة له إلى «سباستياني» من القاهرة في 29 يوليو: إن الجند يطالبون بمرتباتهم التي صارت مستحقة لهم عن تسعة شهور، وغدت رشيد مسرحا لبعض حركات التمرد والعصيان، وموارد محمد علي مثقلة ولا تكفي لسداد نفقاته؛ لأنه ترك مديريات الصعيد للماليك وذلك منذ انسحابه من أسيوط وإخلاء جنده للمراكز التي كانت لهم بالصعيد في الظروف التي عرفناها أثناء شهر أبريل 1807، ولأنه لا إيراد أو دخل للحكومة من التجارة حتى اضطره ذلك كله إلى فرض إتاوات غير عادية، منها طلب سلفة من الأوروبيين، ولم يحتج القنصل الفرنسي على هذه السلفة التي كانت إجبارية في واقع الأمر ومن طراز السلفة التي طلبها الباشا من التجار القاهريين وغيرهم، بل على العكس من ذلك صار يبذل قصارى جهده لإقناع مواطنيه والمحميين الفرنسيين بتقديم كل ما يمكن تقديمه من مال لمحمد علي، فبلغ ما أقرضه هؤلاء له عشرة آلاف قرش تركي عدا أربعين قنطارا من الحديد ومثلها من الرصاص بضمان الميري.
وأتيحت الفرصة لحصول الباشا على قدر كبير من المال عندما أقرضه نائب القنصل البريطاني في رشيد «بتروتشي» - وهو قنصل السويد العام في الوقت نفسه - أربعين ألف قرش، وتفصيل ذلك، أن الباشا بعد إخفاق عمليات الإنجليز ضد رشيد، لم يلبث أن بعث في طلب كل من «روشتي» قنصل روسيا العام والنمسا، و«بطروشي» أو «بتروتشي» من رشيد إلى القاهرة حتى يتمكن من مراقبة نشاطهما بنفسه، وكان هذان قد بقيا برشيد وخشي من دسائسهما وتحريض الجند والأهلين على الفتنة، لا سيما وقد كان لروشتي علاقات لم تغب معرفتها على محمد علي كما بلغه الشيء الكثير عن نشاط «بتروتشي»، قال «مسيت» إن القنصل الفرنسي هو المسئول عن هذه المعلومات التي بلغت محمد علي عنه، كما عزا إليه التحريض على إساءة معاملته حتى إن الأتراك في رشيد صاروا يعاملونه أخيرا معاملة غير كريمة، وهو الذي قام منذ أربع سنوات بوظائف الوكيل البريطاني برشيد، فعرضوا عليه إتاوات كثيرة ووضعت الأختام على ممتلكاته، ثم قبض عليه وأرسل إلى القاهرة حيث سجن بها، على أنه مما يجدر ذكره أن مصادرة أملاك «بتروتشي» كانت بناء على ذلك الأمر الذي أصدره الباب العالي بضبط تعلقات الإنجليز، وقد قرئ مرسوم الباب العالي هذا ببيت القاضي يوم 23 أبريل على نحو ما تقدم ذكره، وأما الباشا فقد ألقى بالبطروشي في السجن فعلا بمجرد وصوله إلى القاهرة، والتمس هذا مرارا عديدة مقابلة محمد علي حتى يدفع عن نفسه التهم التي ألصقها به أعداؤه، فكان بعد لأي وعناء أن أذن له الباشا بمقابلته، وكتب «مسيت» إلى «كاسلريه» في 17 يونيو، يصف ما حدث فقال: إن «بتروتشي» نجح في إقناع الباشا بزيف الأنباء التي حملتها التقارير التي قدمت عنه إلى الباشا والأقوال التي أذيعت عنه زورا وبهتانا.
ولما كان «بتروتشي» قد اكتشف حاجة محمد علي الشديدة إلى المال، وأنها تسبب له القلق والانزعاج فقد عرض فورا أن يقرض الباشا أربعين ألف قرش نظير أن تعاد إليه أملاكه، وأن يطلق سراحه من الحبس، الأمر الذي من حقه أن يصر على تنفيذه حيث إنه القنصل العام لجلالة ملك السويد في مصر، فقبل الباشا عرضه وأطلق سراحه، ولم يرتح «دروفتي» لما حدث؛ لأنه اعتبر إخراج «بتروتشي» من الحبس من ناحية، ثم ترك «روشتي» يمرح في القاهرة من ناحية أخرى يهدد حكومة الباشا في ظروفها الحرجة وقتئذ؛ لأن «روشتي» بوصفه المزدوج: قنصلا للنمسا ولروسيا، و«بتروتشي» بوصفه المزدوج كذلك: قنصلا للسويد ونائب قنصل لإنجلترة، وروسيا وإنجلترة في حرب مع الباب العالي، وهما لذلك يعملان ضد صالح تركيا وحكومة محمد علي في مصر قد جعل الباشا بالرغم من ذلك يسلك كل طريق لمداراتهما وتدليلهما بالصورة المنتظرة في مثل هذا الوضع السياسي الذي لهما ولكنهما يستغلان كرم الباشا، ويستخدمان الموارد المالية التي لا يمكن أن يحرم منها قناصل إنجلترة وروسيا ودون أن يلحقا بتصرفهما أية إهانة بالنمسا والسويد، ويستعينان بعطف الرأي العام عليهما، ووده نحوهما لتأييد مشروعات أعداء الباب العالي، وذلك باستمرارها سرا في القيام بوظائفهما كولاء للإنجليز والروس، كتب ذلك «دروفتي» في 14 يونيو، ثم لم يلبث أن بعث إلى «سباستياني» في 29 يوليو بما يؤكد مخاوفه هذه فقال: «إن هناك مؤامرة تدبر ضد محمد علي يشرف على توجيهها ثلاثة من القناصل هم: «روشتي»، و«بتروتشي» وقنصل إسبانيا العام «كامبو آي سولر»
Campo-y-Soler ، والأولان أشد هؤلاء الثلاثة عداوة، و«بتروتشي» مالطي ووكيل بريطاني يستخدم كل ما لديه من موارد لتأييد مشروعات أعدائنا.»
ومع أن «بتروتشي» قد أقرض الباشا مبلغا آخر من المال (20000 قرش)، واستطاع أن يستفيد من إقراضه إياه هذه المبالغ لكسب نفوذ كبير في علاقاته مع محمد علي، حتى إنه انتحل ضرورة تنظيم شئونه التجارية عذرا لإرسال أحد رجاله إلى الإسكندرية وهو يوناني يدعى «قسطنطين كاريري»
Constantine Carriri
لتزويد «مسيت» بطائفة من المعلومات الصحيحة عن عدة مسائل هامة، فقد بادر بالكتابة إلى القائم بأعمال السويد بالقسطنطينية يشكو من سوء المعاملة التي لقيها، والإجحاف الذي نزل به وهو برشيد، مع أنه - كما راح يدعي - قد ترك وظائفه كنائب قنصل لإنجلترة بها قبل نشوب العداء بين تركيا وإنجلترة، ومع ذلك فقد صادرت الحكومة المصرية ممتلكاته وأحضرته إلى القاهرة، وعينت رجلا لحراسة منزله في رشيد، وشكا «بتروتشي» من إرغامه على إقراض الباشا مبلغي الأربعين ألف والعشرين ألف قرش سالفي الذكر، وطالب برد هذه المبالغ إليه وتأمينه على حياته وأمواله وهو المستأمن الذي من حقه كممثل لدولة صديقة للباب العالي (السويد) أن يتمتع بالرعاية التي لهؤلاء المستأمنين في ممتلكات الباب العالي، وقد رفع القائم بالأعمال هذه الشكوى إلى الباب العالي، وصدر أمر هذا الأخير إلى محمد علي في أكتوبر من العام نفسه إذا كانت هذه الشكوى صحيحة بدفع هذه المبالغ وإعادة ممتلكات «بتروتشي» إليه؛ حيث إن المحبة الصادقة تسود بين الحكومتين: العثمانية والسويدية، على أن هذه الشكوى لم يترتب عليها شيء وقتئذ لاستمرار حاجة محمد علي إلى المال.
بل إن هذه الحاجة إلى المال لم تلبث أن جعلت الباشا في أوائل أغسطس يطلب دراهم من طائفة القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ، فكان المقدار المطلوب من طائفة القبانية مائة وخمسين كيسا، ولم يقو هؤلاء على دفعه، كما عجزت الطوائف الأخرى عن دفع المطلوب منها، فأغلقوا حوانيتهم والتجئوا إلى الجامع الأزهر، ووسطوا السيد عمر مكرم لدى الباشا، وأفلحت هذه الوساطة فرفعوا عنهم غرامتهم وكتبوا إليهم أمانا بذلك.
ومهما يكن من قسوة الوسائل التي لم يجد الباشا مناصا من الالتجاء إليها للحصول على المال، فقد توفر لديه بسببها قدر منه استعان به على دفع قسم من مرتبات الجند، حتى كتب الشيخ الجبرتي في يونيو ويوليو أنه قد كثر في هذه الأيام خروج العساكر والدلاتية وهم يعدون إلى البر الغربي، وفضلا عن ذلك فقد شرع الباشا في أوائل يوليو في تعمير القلاع التي كانت أنشأتها الفرنساوية خارج بولاق، وعمل متاريس بناحية ميت عقبة وغيرها، ووزع على الجيارة جيرا كثيرا، وأصلح سور القاهرة، ورمم في الأماكن المكشوفة ثم أقيمت المتاريس وحفرت الخنادق من عند قلعة «كامان»
Camin
أو قنطرة الليمون التي أنشأها الفرنسيون أيام احتلالهم إلى بولاق، وأنشئ حصنان صغيران بالمتاريس التي حفرت حولهما الخنادق العميقة ونصبت فيهما مدافع من نوع مدافع الحصار، وذلك في الأماكن الأكثر ضعفا في هذا الخط، وحتى يسيطر الباشا على الملاحة في النيل وضع بطاريات في الجزيرة الواقعة بين بولاق وإمبابة والتي يسميها الفرنسيون بجزيرة «لزاريط»
Lazarit ؛ لوجود مباني المعزل الصحي بها، وأمامها جزيرة بولاق أو القرطية يفصلها عنها قناة صغيرة تجف وقت انخفاض النيل، ثم حتى يمنع الملاحة في النيل ويحول دون وقوع هجوم سريع على القاهرة من ناحية النهر أغرق الباشا عددا من المراكب المثقلة بالرمال في قاع النهر تجاه إمبابة، وربطت بصواريها أوتاد أقامت في عرض النهر حاجزا قويا، ومكنت كذلك من وضع بطارية من المدافع على النهر نفسه، ثم أقيمت للغرض نفسه سلسلة من التحصينات على الشاطئ الأيمن للنيل حتى بلدة فوة لإعاقة الملاحة، وسيقت كل المراكب إلى القاهرة حتى لا يستولي عليها العدو فيتخذ منها نقالات لجنده وعتاده أو يجعل منها زوارق مدفعية صغيرة، ووسق الباشا عدة مراكب وأرسلها إلى ناحية رشيد؛ ليعمروا هناك سورا على البلد وأبراجا، وجمعوا البنائين والفعلة والنجارين وأنزلوهم في المراكب قهرا، وكان على الباشا فضلا عن ذلك أن يسد نفقات جند الدلاتية الذين أتوا من ناحية الشام ووصلوا القاهرة في 21 يوليو، وكانوا حوالي الخمسمائة، ثم إنه كان عليه كذلك أن يدفع مبلغا من المال لمصالحة ياسين بك الأرنئودي.
وكان تمرد ياسين من المسائل التي شغلت محمد علي منذ أن شق هذا عصا الطاعة قبل ذلك بعامين في الظروف التي مرت بنا، ثم انحاز إلى سليمان بك المرادي بعد أن لحقت به الهزيمة في الفيوم على يد الألفي، واتخذ من ذلك الحين الفيوم وأقاليم مصر الوسطى مسرحا لنشاطه، وعاث في هذه البلاد هو وشراذمه فسادا كثيرا، وكان ياسين - كما عرفنا - صاحب أطماع كبيرة ويحقد على محمد علي وصوله إلى الحكم، والولاية ويريد انتزاع ذلك منه، وتفاقم شره عندما انضم إليه سليمان أغا صالح وكيل دار السعادة سابقا الذي أتى مع القبطان باشا وقت أزمة النقل إلى سالونيك، وصار يسعى بين الألفي وسائر البكوات لحملهم على إجابة مطالب الباب العالي، ودفع الثمن الذي حدده لعودتهم إلى الحكم، فانضم إلى ياسين بك بعد هربه من الإسكندرية ووفاة الألفي، ودارت مفاوضات كثيرة للصلح بين محمد علي من جانب وبين كل من ياسين وسليمان أغا من جانب آخر، ووافق ياسين على شريطة أن يعطيه الباشا أربعمائة كيس، وطلب الباشا من جهته أن يذهب ياسين لمحاربة الإنجليز، ووافق سليمان أغا على الحضور بشرط أن يجري عليه الباشا مرتبه بالضربخانة وقدر ذلك ألف درهم في كل يوم، فأجابه محمد علي إلى ذلك، وبناء عليه، عبر ياسين النيل إلى ناحية شرق أطفيح، وفرض على أهل تلك الجهات أموالا جسيمة، واجتمع هؤلاء بصول والبرنبل بمتاعهم وأموالهم ومواشيهم، فنزل عليهم، وطلب منهم الأموال فقبضوا عليه، فأوقد فيهم النيران وحرق جرونهم ونهبهم في أبريل 1807، ثم تابع سيره حتى وصل في 26 أبريل إلى ناحية طرة، وحضر والده إلى القاهرة ودخل كثير من أتباعه إليها وهم لابسون زي المماليك المصرية، وفي 5 مايو دخل ياسين بك وسليمان أغا إلى القاهرة، وقابلا الباشا وخلع عليهما خلعتين سمور، وأغدق على ياسين النعم والعطايا، ودفع إليه ما كان وعده به من الأكياس وقدم له تقادم وإنعامات، وقلد أباه كشوفية الشرقية.
ولما كان الواجب على ياسين بمقتضى الاتفاق السابق بينه وبين محمد علي الخروج إلى الإسكندرية لمحاربة الإنجليز، فقد راح يطلب مطالب كثيرة له ولأتباعه، وأخذ لهم الكساوي والسراويلات، وأخذ جميع ما كان عند جبجي باشا من الأقمشة والخيام والجبخانة والاحتياجات من القرب وروايا الماء ولوازم العسكر في سفر البر والإفازة والمحاصرة إلى غير ذلك، وخرج ياسين بعرضيه إلى ناحية الخلاء ببولاق، ولكن ياسين كان قد بيت النية على الغدر بمحمد علي، واتخذ من دعوى التهيؤ للسفر إلى الإسكندرية ومحاربة الإنجليز ستارا يخفي وراءه نشاطه، فصار يحرض الجند من الأرنئود والدلاتية وغيرهم على الانضمام إلى معسكره، وانضم إليه فعلا كثير من هؤلاء، وصار كل من ذهب إليه يكتبه في جملة عسكره، وعاونه في هذا النشاط أنصار الإنجليز الأقوياء في القاهرة، وهم الذين سماهم «دروفتي» في رسالته إلى «سباستياني» بتاريخ 14 يونيو - وقد سبقت الإشارة إليها - فذكر من بينهم «روشتي» و«البطروشي».
وهكذا - على نحو ما كتب الشيخ الجبرتي - لم يلبث أن اجتمع على ياسين كل عاص وأذعر مخالف وعاق، وما إن تم له ما أراد حتى صرح بالخلاف، وتطلبت نفسه للرياسة، وكلما أرسل إليه الباشا يرده وينهاه عن فعله يعرض عن ذلك، وداخله الغرور، وانتشرت أوباشه يعيثون في النواحي، وبث أكابر جنده في القرى والبلدان، وعينهم لجمع الأموال والمغارم الخارجة عن المعقول، ومن خالفهم نهبوا قريته وأحرقوها وأخذوا أهلها أسرى، فكان تمردا جديدا يخشى خطره لا سيما وأن ياسين بك صار يسعى لتأليف حزب قوي مناوئ للباشا، فبذل الباشا قصارى جهده لجعل الجند ورؤسائهم ينفضون من حوله، وأخذ في التدبير عليه، ونجح في استمالة العسكر المنضمين إليه، وحلل عرى رباطاته، فلما تم له ما أراد أمر في 27 مايو الجند الأرنئود بالاجتماع والخروج إلى ناحية بولاق، فخرجوا بأجمعهم إلى نواحي السبتية والخندق وأحالوا بين ياسين وبين بولاق مصر (أي القاهرة).
ثم خرج الباشا بنفسه في 30 مايو وحصن أبواب المدينة بالعساكر، وأيقن الناس بوقوع الحرب بين الفريقين، وأرسل الباشا إلى ياسين بك يقول له إن تستمر وتطرد عنك هذه اللموم وتكون من كبار العسكر، وإلا تذهب إلى بلادك، وإلا فأنا واصل إليك ومحاربك، فخاف ياسين، وكفى هذا التهديد لأن تنحل عزائم جيوشه، وتفرق الكثير منهم، وتحرك ياسين بمن بقي معه في ثلاثة طوابير، ولما كان الوقت ليلا ولا يعرف جنده الجهة التي يقصدها، فقد اشتبهت عليهم الطرق في ظلام الليل، فسار هو بفريق منهم إلى ناحية الجبل عن طريق حلق الجرة، وسارت جماعة أخرى إلى ناحية بركة الحاج بينما ذهب الطابور الثالث على طريق القليوبية وفيهم أبوه، فأتاح تشتت قواته على هذه الصورة الفرصة لمحمد علي لمطاردة الجماعة الذاهبة إلى بركة الحاج، ولكن هؤلاء ما إن علموا بانفرادهم عن أميرهم حتى رجعوا متفرقين في النواحي، ولم يزل ياسين سائرا حتى نزل بمن معه في التبين واستقر بها، ولجأ أبوه إلى الشواربي شيخ قليوب، فأخذ له هذا أمانا وأحضره إلى الباشا يوم 31 مايو، فأكرمه وألبسه فروة، وأمره أن يلحق بابنه، وفي أول يونيو جهز الباشا حملة ضم إليها «شديد» شيخ الحويطات للحوق بياسين بك ومحاربته، وأما ياسين فإنه لم يلبث أن ارتحل بوطاقه بمجرد أن علم باقتراب هذه الحملة منه، فذهب إلى ناحية صول والبرنبل بعد أن عاث فسادا كبيرا في جهة التبين ينهب قرى الناحية بأسرها، مثل التبين وحلوان وطرا والمعصرة والبساتين، وفعل رجاله بأهلها أفاعيلهم الشنيعة من السلب والنهب وأخذ النساء ونهب الأجران والغلال والأتبان والمواشي وأخذ الكلف الشاقة، ومن عجز عن شيء من مطلوباتهم أحرقوه بالنار، وفي 4 يونيو عادت الحملة إلى القاهرة، وأنبأت بارتحال ياسين من تلك الناحية - كما أسلفنا - إلى صول والبرنبل، وكتب «سانت مارسيل » إلى «سباستياني» من القاهرة في أول يوليو تعليقا على حادث ياسين: «إن هذا الأخير وهو من الرؤساء الأرنئود قد هدد بالانضمام مع ألف وخمسمائة رجل إلى المماليك، واصطلح معه الباشا، وقبل ياسين بك الصلح للوصول إلى أغراضه، فحضر وعسكر في بولاق، ثم صار وهو بها يتآمر ليجذب إليه قسما من جند الباشا، وانضم إليه بعض الرؤساء الأرنئود، ولكن محمد علي لم يلبث أن أنهى هذه الحركة، بأن حشد جنده للسير ضد ياسين بك الذي هرب في طريق الصعيد.»
ولم يكن في مقدور محمد علي وقتئذ بسبب تمرد ياسين بك أن يغادر القاهرة أو أن يبدأ زحفه المنتظر على الإسكندرية، وأما السبب الآخر الذي عطل هذا الزحف فكان عدم اطمئنان محمد علي إلى موقف المماليك الذين ظلوا يماطلون في تنفيذ الاتفاق الذي تم بينه وبينهم بأسيوط، والذي وجب على البكوات بمقتضاه أن ينزلوا من الصعيد لإبرام الصلح النهائي مع الباشا، وقد اهتم محمد علي بضرورة أن يقبل هؤلاء الصلح معه قبل أن يدخل في أية عمليات عسكرية جديدة ضد الإنجليز، وأن يطمئن - على الأقل - إلى أنهم سوف يقفون موقف الحياد عند استئنافها، مثلما فعلوا أثناء المعارك السابقة، وكان الصلح مع البكوات أو إلزامهم بالحياد وجعلهم يقفون موقف النظارة والمتفرجين فحسب فلا يشتركون في النضال القائم من المشاكل العويصة التي تطلبت كل حكمة ومهارة وصبر وأناة من محمد علي لحلها، فقد كان ولا شك عدم انضمام المماليك إلى الإنجليز من أهم الأسباب - كما رأينا - التي جعلت هزيمتهم في الحماد محققة، ولا معدى لذلك عن إقناعهم بالحياد على الأقل إذا شاء الباشا النجاح في عملياته المقبلة، إذا اضطر إلى استئناف القتال ضد الإنجليز، ثم كان من بواعث قلقه ومخاوفه من ناحيتهم تباطؤهم في النزول من الصعيد من جهة، ثم سياستهم الملتوية التي جعلتهم يمنونه ويمنون أعداءه الإنجليز في آن واحد برغبتهم الصادقة في الاتفاق معه ثم بعزمهم الصحيح على الاتحاد مع الآخرين من جهة أخرى، ومع أن حسين بك الزنطاوي صديق الفرنسيين القديم قد كتب إلى «دروفتي» يؤكد له عزم البكوات على التزام خطة الحياد، فقد كان تعليق القنصل الفرنسي على ذلك - كما ذكر «سباستياني» في 7 مايو - أن البكوات برغم ما يقولونه فإنهم حسبما يعتقد «دروفتي» دائما إنما يبغون تدبير أمرهم بصورة تكفل لهم الحصول على بعض الحقوق إذا كسب الإنجليز ظفرا على الأتراك، فالمماليك لا يفكرون في المستقبل، ويعيشون ليومهم دون تدبر حالهم في غدهم، والرجل الوحيد الذي كان ذا آراء سياسية هو عثمان البرديسي وقد توفي هذا.
وكان البكوات وقتئذ قد وصلوا في تقدمهم صوب القاهرة إلى ما تحت بني سويف بأربعة فراسخ، عندما وصلهم خبر رفع الحصار عن رشيد، فأوقفوا تقدمهم على نحو ما مر بنا، واتخذ بيت البرديسي وبيت إبراهيم بك مراكزهما على طول الشاطئ الأيسر للنيل عند قمن العروس، وبيت الألفي برئاسة شاهين بك عند زاوية المصلوب على نفس الشاطئ، ولا يزالون منقسمين على أنفسهم بسبب الخلافات والأحقاد الشخصية والكراهية الشديدة والمنافسة التي فرقت جميعها بين بيتي الألفي والبرديسي، ولم يفد ما مر بالبكوات من تجارب مريرة طوال السنوات الست الماضية منذ عام 1801 في محوها، بل إن وجود المنافسة ذات الغور البعيد بين بيتي الألفي والبرديسي كانت من أهم الأسباب التي جعلت بكوات إبراهيم ومماليكه على وجه الخصوص يمتنعون عن الاتحاد مع الألفي أولا، ثم مع الإنجليز أصدقائه بعد ذلك حتى فوتوا على أنفسهم فرصة استرجاع الحكم إطلاقا، وعندما صار «مسيت» يستحثهم على النزول أملت عليهم سياستهم الملتوية التذرع بحجة الخوف مما قد يلحق بعائلاتهم في القاهرة من أذى على أيدي الأرنئود، إذا هم فعلوا ذلك للاستمرار على جمودهم، وخيل إليهم أنهم إذا تريثوا حتى ينقضي النزاع بين محمد علي والإنجليز صار في وسعهم بانحيازهم إلى المنتصر أن يظفروا منه بتحقيق مآربهم، وفاتهم أن الباشا إذا انتصر لن يسمح لهم بحال مشاركتهم له في الحكم واقتسام السلطة معهم، وأن عودتهم إلى الحكم مرتهنة بشيء واحد فحسب، هو ظفر الإنجليز وانتصارهم، وإخراج محمد علي من الحكم وطرد الأرنئود، ولقد استطاع محمد علي أن يفيد من عمى بصيرتهم الذي منعهم من إنهاء خلافاتهم، والإغضاء عن منافساتهم وتناسي أحقادهم ولو وقتيا من ناحية، والذي جعلهم يتبعون هذه السياسة الملتوية القائمة على مداهنة الفريقين المتناضلين، محمد علي والإنجليز من ناحية أخرى، فعرف الباشا كيف يتدبر أمره معهم في أزمته، والوصول إلى غرضه بإلزامهم الوقوف موقف الحياد فترة أخرى من الزمن.
واتبع الباشا في مفاوضاته الجديدة مع البكوات نفس الأساليب التي اتبعها معهم في أسيوط من حيث استخدام المفاوضين الذين عرف مبلغ تأثيرهم عليهم، وبذل الوعود الطيبة لهم ومداراتهم، ثم الاستعاضة بالوكلاء الفرنسيين مع بكوات بيت البرديسي خصوصا، ومنع تزويدهم بشيء مما قد يحتاجون إليه، إلا إذا جاء ذلك عن طريقه هو وبواسطته، وتأمينهم على سلامة أسرهم وهم الذين استبد لهم الخوف على سلامتها، وذلك كي يبرهن لهم على صدق رغبته في مصالحتهم، ويقنعهم بالنزول إلى الجيزة حسب اتفاقهم الأول معه.
وقد تقدم كيف بعث مشايخ الأزهر في أبريل بمراسلة ختم عليها كثير منهم وغيرهم كذلك يستعجلونهم في الحضور واعتذر هؤلاء وقتئذ عن تأخرهم بأنهم لم يتكاملوا وأكثرهم متفرقون بالنواحي، وقد حدث بعد ذلك أن حضر من عندهم مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، وهو الذي كان محمد علي استعان بفصاحته أثناء مفاوضات المشايخ مع البكوات في ملوي على إقناعهم بقبول الصلح، فحضر الآن في 7 مايو يقول: إن البكوات محتاجون إلى مراكب لحمل الغلال الميرية والذخيرة، فهيأ الباشا عدة مراكب وأرسلها إليهم، ولما كان الباشا لم يستوثق بعد من رغبة البكوات في المصالحة بالرغم من تكرر استحثاثهم على الحضور، وخشي إن هم تقووا أن ينكثوا بعهدهم معه، فقد شدد في منع المتسببين والباعة الذين يذهبون بالمتاجر والأمتعة التي يبيعونها عليهم، ثم صدر التنبيه على القلقات الذين يسمونهم الضوابط المتقيدين بأبواب المدينة مثل باب النصر وباب الفتوح والبرقية وباب الحديد بمنع النساء من الخروج خوفا من خروج نساء البكوات والمماليك القبالي وذهابهن إلى أزواجهن، كما منع أتباع هؤلاء البكوات من الخروج إليهم بالأمتعة وتعرض المتلبسون منهم لعقوبات صارمة، وكان من عادتهم إخفاء ما يريدون الذهاب به إلى أسيادهم في القبور حتى يرسلوها إليهم في الغفلات وكثر اتهام التربية وحفاري القبور بمعاونة الأتباع في ذلك، حتى إن الوالي أي رئيس الشرطة ذهب إلى جهة القرافة وقبض على أشخاص من التربية المتهمين بهذا وضربهم وهجم على دورهم، فلما لم يجد بها شيئا اجتمع عليه خدام الأضرحة وأهل القرافة وشنعوا عليه، وكادوا يقتلونه فهرب منهم، وشكاه هؤلاء إلى السيد عمر مكرم والمشايخ، وقد لحظ الشيخ الجبرتي في هذه الإجراءات تناقضا عجب منه، وعجز عن التوفيق بين إظهار المصالحة والمسالمة من جانب الباشا الذي بعث بالمراكب إلى البكوات حسب طلبهم، وبين هذه الرقابة الصارمة التي فرضها على أتباعهم ومنعه للمتسببين والباعة من التعامل معهم، ومع ذلك، فإن مسلكه كان خلوا من أي تناقض إذا عرفنا مقدار اهتمام البكوات بسلامة زوجاتهم وأسرهم وأن بقاء أفراد عائلاتهم رهينة أو بالأحرى وديعة في يد الباشا قمين بأن يسهل مفاوضات الصلح معهم، ثم إنه لم يكن من صالح محمد علي أن يتصل بهم القاهريون من الباعة والمتسببين ومن إليهم والبكوات لا يزالون متباطئين في الصلح معه، ولا يستطيع علاوة على ذلك أن يمكنهم من تزويد أنفسهم بكل ما يحتاجون إليه من عتاد أو مؤن أو أسلحة، يقابل ذلك أن محمد علي اتباعا لخطة المداراة التي سلكها معهم، لم يمتنع من إجابة مطالبهم إذا تقدم هؤلاء بها إليه هو نفسه وحدث تزويدهم بما يحتاجونه على يده.
وأما البكوات فقد ظلوا على نفاقهم، فإنه بينما كان شاهين الألفي وإبراهيم بك يتراسلان مع «مسيت» و«فريزر» ويستعجلان الإنجليز للهجوم على القاهرة، فقد ظل هذان وأتباعهما يؤكدان لمحمد علي بقائهما على عهدهما معه وقرب حضورهما إلى الجيزة، فبعث شاهين الألفي بمندوب من قبله إلى القاهرة في 23 مايو هو علي كاشف الكبير الألفي يحمل تحيات شاهين إلى محمد علي، ويعتذر عن تأخر البكوات، ويؤكد له أنهم على صلحهم واتفاقهم الأول وحضورهم إلى ناحية الجيزة، وعند مبارحة علي كاشف القاهرة في اليوم التالي، أوفد الباشا معه سليمان أغا وكيل دار السعادة سابقا، وفي 6 يونيو عاد هذا الأخير وأخبر بقرب قدوم البكوات وأن شاهين بك قد وصل إلى زاوية المصلوب، وإبراهيم بك بجهة قمن العروس وأنهم يستدعون إليهم مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي كوسطاء بينهم وبين الباشا، وكان معنى طلب البكوات لهذين الأخيرين أنهم لا يزالون على مراوغتهم، ومع ذلك، فقد أجابهم محمد علي إلى رغبتهم، وأوفد إليهم في 8 يونيو مصطفى أغا وعلي كاشف الصابونجي، كما أوفد معهما مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، ولم تسفر هذه المحاولة عن شيء؛ لأنه سرعان ما جاء الخبر في 24 يونيو بأن إبراهيم بك وصل إلى بني سويف، وأن شاهين بك ذهب إلى الفيوم لاختلاف وقع بينهما، وأن أمين بك وأحمد بك الألفيين ذهبا إلى ناحية الإسكندرية للإنجليز، وكان لهذا الخبر الأخير عن ذهاب أحمد بك وأمين بك إلى الإسكندرية - وهو صحيح كما عرفنا حيث بلغها هذان يوم 12 يونيو أسوأ الأثر على محمد علي.
وكان الباشا منذ أن ظهر تباطؤ البكوات، ولم تثمر جهوده في استحثاثهم على الحضور إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي معه، قد طلب من «دروفتي» أن يتوسط لدى هؤلاء رسميا وبوصفه القنصل الفرنسي في هذه البلاد، حتى يحول دون اتحادهم مع الإنجليز ويقنعهم - على الأقل - بالتزام خطة الحياد إذا تعذر عليه استمالتهم إلى عقد الصلح معه؛ وذلك لأن الباشا الذي كان يعرف حق المعرفة ما هنالك من عداء متأصل بين بيت الألفي وبيت البرديسي يمنع من اتفاق كلمة هاتين الجماعتين واتحادهما، ويعرف مبلغ تأثر بيت البرديسي بالصداقة الفرنسية خصوصا، أراد تقوية الخلاف والانقسام بين هذين البيتين؛ حتى يشل حركة البكوات عموما بتوسيط «دروفتي» لديهم إلى جانب مضيه هو في سياسة المداراة والملاحظة التي يسلكها معهم، ومنذ 21 مايو كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» أن الباشا يريده أن يتدخل رسميا للوساطة بينه وبين البكوات، واستطرد يقول: والبكوات، لا سيما من بيت البرديسي يعلقون أهمية كبيرة على هذه الوساطة، ولكن «دروفتي» لم يستطع - على حد قوله - أن يأخذ على عاتقه مسئولية هذه الخطوة والعمل، قبل أن تصله من حكومته تعليمات محددة، تلك التعليمات التي ينتظرها بفارغ الصبر.
وحق ل «دروفتي» أن ينتظر بفارغ الصبر وصول هذه التعليمات إليه، عندما اتفقت خطته مع خطة الباشا في وجوب إلزام البكوات بالوقوف موقف الحياد ومنع انضمامهم إلى الإنجليز بكل وسيلة، واعتقد «دروفتي» كما اعتقد الباشا أن تدخله بوصفه ممثلا لفرنسا الدولة التي يعقد البكوات من بيت البرديسي آمالا كبيرة على صداقتها من شأنه أن يجعل هؤلاء الأخيرين يرفضون الاتحاد مع بيت الألفي والتعاون مع الإنجليز، ثم إنه كان يرى ضرورة التدخل ودون إبطاء لانعدام أية ثقة لديه في عدم تآزر البكوات من بيت الألفي مع الإنجليز بالرغم من تأكيداتهم، فقد سبق أن وضح بواعث عدم تصديقه لوعودهم باتخاذ موقف الحياد، وذلك في رسالته إلى السفير الفرنسي بالقسطنطينية في 7 مايو، وهي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها، ثم عاد يوضح هذه البواعث في رسالته الأخيرة إليه في 29 مايو، فقد أبلغ «سباستياني» أن حسين بك الزنطاوي بعث إليه بكتاب مع هجان سريع وصله يوم 27 مايو، وضمنه بعض ما جاء في خطاب من القائد الإنجليزي إلى أحد زملاء الزنطاوي، يقول فيه: «لقد كتبت إليك مرارا حتى تأتي وتنضم إلينا، وقد أنفذت جندا إلى رشيد معتقدا أنك سوف تقوم بالدفاع عن مصالحكم؛ أي مصالح البكوات المماليك، ولكنك ارتكبت معي خطأ كبيرا بالتزامك السكون وعدم الحركة حتى إني اضطررت إلى سحب جنودي إلى الإسكندرية، فإذا كنت لا تقدم على الدفاع عن نفسك في بحر عشرة أيام فسوف أعرف وقتئذ موقفي منك»، ولم تحمل رسالة القائد الإنجليزي هذه تاريخا، ولكنه يبدو أنها سطرت بعد واقعة الحماد، ثم استمر «دروفتي» يقول: وقد ذكر حسين بك الزنطاوي في رسالته أن هذا الكتاب قرئ في الديوان، وقد قرر جميع الصناجق الموجودين بالمنيا؛ أي أولئك الذين ينتمون إلى بيتي البرديسي وإبراهيم بك عدم الإصغاء إلى مقترحات الإنجليز، بل على العكس من ذلك قرروا النزول إلى الجيزة لعقد الصلح مع الباشا، ولكن «دروفتي» لم يلبث أن علق على هذه الرغبة الأخيرة بقوله: إن هذه الأقوال لا يوثق فيها كثيرا، وفي رأيه أن عثمان بك حسن وبعض البكوات من بيت البرديسي فحسب هم الذين لا يرتكبون حماقة الانضمام إلى الإنجليز إذا وصلت هؤلاء نجدات قوية.
وأزعج «دروفتي» ما أبداه الإنجليز من همة ونشاط في تحصين الإسكندرية، وما بلغه عن جود فرقاطة إنجليزية أمام دمياط لمحاصرتها، ووصول النجدات إليهم من حوالي ثلاثة آلاف رجل، ودعوات الإنجليز المتكررة للبكوات حتى يحضروا من الصعيد للانضمام إليهم، ثم صارت تزعجه كذلك الدعاية التي نشرها هؤلاء في أوساط المماليك عن هزيمة جيوش بونابرت في أوروبا، ومن ذلك أنهم بعثوا إليهم ببعض الصحف الأوروبية التي نشرت أخبار معركة «إيلاو» في بروسيا الشرقية في 8 فبراير سنة 1807، وهي المعركة التي صمد فيها الروس أمام جيش نابليون وقاوموه مقاومة عنيفة، ثم قرروا التقهقر في اليوم الثالث، ولم يجد الإمبراطور من الحكمة مطاردتهم وقنع بإخضاع القلاع البروسية، فكان من أثر دعاية الإنجليز أن نقل جماعة من المماليك من بيت الألفي وعلى رأسهم شاهين بك معسكرهم من حدود الفيوم والاقتراب من البحيرة، وأوفد شاهين وقتئذ أحمد بك وأمين بك الألفيين إلى الإسكندرية مع عدد قليل من أتباعهما، وبذل «دروفتي» قصارى جهده لإبطال أثر هذه الدعاية الضارة، فعمد بمجرد أن وصله من عكا منشور أعده «سباستياني» يذيع فيه انتصار الفرنسيين في معركة إيلاو إلى إذاعته بكل وسيلة في القاهرة، كما بعث به إلى البكوات في الصعيد مع ملاحظاته على ذلك، وكتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في 14 يونيو: «أنه لو اعتقد الصناجق أن مصير هذه البلاد مرتبط بما يحدث في أوروبا - وذلك ما ينبغي عليهم أن يعتقدوه - لوجب عليهم أن يمعنوا الفكر طويلا قبل أن يلقوا بأنفسهم في أحضان الحماية الإنجليزية.» وكان في هذه المرة أيضا أن كتب «دروفتي» إلى السفير: أن محمد علي يريد إذا ألحت الظروف، أن أتدخل لدى البكوات، ولكنه لما لم يكن لدى «دروفتي» أية تعليمات بشأن ذلك فقد ألح في طلبها؛ لأنه ليست لديه إلا مجرد آراء أو فكر عامة يسترشد بها في تبرير مسلكه وسط هذا البحر الخضم من الحوادث.
ولما كان محمد علي قد ظل يلح على «دروفتي» في ضرورة توسطه لدى البكوات، ويريد منه الذهاب بنفسه لضمان نجاح مهمته، وخشي «دروفتي» إذا هو تباطأ في القيام بهذا المسعى؛ انتظارا لتعليمات حكومته أن تفلت الفرصة لمنع البكوات من الذهاب إلى الإنجليز، لا سيما بعد وصول مندوبي شاهين الألفي إلى الإسكندرية، فقد قرر الاستجابة إلى رغبة محمد علي وانتدب لهذه المهمة «مانجان» بالاتفاق مع الباشا، وأنبأ «سباستياني» في 24 يونيو بهذه الخطوة التي راح يبرر اتخاذه لها دون انتظار لتعليمات حكومته، بأنه سبق له أن أبلغ السفير في رسالته إليه بتاريخ 14 يونيو بأن اثنين من البكوات من بيت الألفي قد ذهبا إلى الإسكندرية، وقد خلف هذا الحادث أثرا سيئا في القاهرة؛ ولذلك فإنه حتى يحول دون أن يحذو غيرهما من البكوات حذوهما، الأمر الذي يبذل قصارى جهده لمنع حدوثه، أوفد «مانجان» إلى الصعيد بالاتفاق مع الباشا، وقد أطنب «دروفتي» في وصف ذكائه ونشاطه، ثم ذكر أنه قد زوده بالتعليمات اللازمة لتحقيق الغرض من مهمته، وذلك - كما استمر يقول - دون توريط ممثلي الحكومة الفرنسية في هذه البلاد بشيء مع البكوات، وأسهب الوكيل الفرنسي الآخر سانت مارسيل في ذكر الأسباب التي بررت اتخاذ هذه الخطوة، فقال في رسالته إلى «سباستياني» من القاهرة في أول يوليو: «إن الإنجليز بعد هزيمتهم في الحماد، كانت قد نقصت قواتهم إلى ثلاثة آلاف رجل فحسب، وانسحبوا إلى الإسكندرية، ثم كانوا على وشك مغادرتها والإبحار منها، لو أن العدو لم يعطهم الوقت الذي مكن من رد أنفاسهم إليهم، ولم يلبث الحظ أن خدمهم فوصلتهم نجدات من الرجال والمال، وهم يحتلون الآن القطع الذي يفصل البحر عن مريوط، وغرضهم من كسر السد عزل الإسكندرية للدفاع عنها، وسوف يفيدهم فيضان النيل عند حدوثه؛ لأنهم سوف يعبرون الحاجز القطع عندئذ ويهاجمون رشيد برا وعن طريق النهر فقط، ولقد وصل ثلاثة من بكوات بيت الألفي أحمد بك وأمين بك ومصطفى كاشف إلى الإسكندرية للاتفاق على اجتماع القوتين: المماليك والإنجليز معا، وكي يسحبوا من بيت «برجز»
Briggs
وشركائه مبلغ السبعين ألف بندقي الذي كان أودعه الألفي لديهم.
ومن ناحية أخرى فالجميع يترقبون باهتمام نهاية المفاوضات بين محمد علي والبكوات المماليك ونتائجها، وقد ذهب هؤلاء أخيرا إلى بني سويف للإسراع في عقد الصلح مع الباشا، وأوفد «دروفتي» إلى إبراهيم بك وسائر البكوات «مانجان» حتى يحملهم على إبرام الصلح المرغوب فيه كثيرا؛ لأن قطع العلاقات أو إذا استطالت العداوة بين الفريقين في هذه الظروف يترتب عليهما آثار سيئة حيث يخشى عندئذ من انضمام المماليك عموما إلى الإنجليز.» وبسط «دروفتي» مهمة «مانجان» للسفير في نفس اليوم الذي كتب له في رسالته السالفة 24 يونيو، فقال: إنه قد اضطر اضطرارا إلى إرساله إلى البكوات بالصعيد بسبب الظروف التي عرفناها، ولأن محمد علي صار يلح في لجاجة على «دروفتي» كي يذهب هو إليهم بشخصه مما جعل ذلك كله ضروريا إرسال «مانجان» إليهم، ثم استطرد يقول: «ولكني لم أخول «مانجان» أية سلطات أو أعطه أي ألقاب أو أجعل له ما قد يشعر منه بأنه في بعثة أو مكلف بمهمة رسمية، وقد طلب إليه أن يسدي النصح إلى المماليك حتى يجعلهم بعيدين عن الإنجليز أو يجعلهم - على الأقل - مترددين في موقفهم حتى يحين موعد الفيضان التالي، حتى تصبح عندئذ معاونتهم للعدو (الإنجليز) لا فائدة حقيقية لها ولا جدوى منها»، ثم أخذ «دروفتي» يبرر هذا التدخل في شئون الأحزاب المتنازعة دون انتظار لتعليمات حكومته التي بعث يطلبها منذ 14 يونيو فقال: وعلى كل الأحوال، فإن «مانجان» قد صار إرساله إلى مماليك بيت البرديسي الذين - كما يبدو لي - يهمنا ويهم الإمبراطور نابليون مصيرهم؛ لأنهم يسيرون دائما في الطريق التي رسمها مراد بك، وقد رفضوا باستمرار الاشتراك مع الألفي عدو الفرنسيين في تدابيره.
وأما «مانجان» فقد غادر القاهرة في طريقه إلى الصعيد ولما تمض أيام قلائل على إرسال «دروفتي» كتابه سالف الذكر إلى «سباستياني» في 14 يونيو ، فمر بالبرنبل حيث وجد بها وقتئذ معسكر ياسين بك، وكان شاهين بك المرادي وإبراهيم بك يعسكران على مسافة أبعد قليلا منها على الشاطئ المقابل، بينما أقام شاهين بك الألفي معسكره عند قرية زاوية المصلوب، وقد وجدهم «مانجان» منقسمين على أنفسهم، تصطدم مصالحهم وتختلف آراؤهم وغاياتهم ولا يجمع بينهم سوى الغضب من محمد علي، والنقمة عليه والكراهية له، ولو أنهم جميعا يخافونه ويخشون بأسه، ولا يعتقدون أنهم في مأمن من مكائده ضدهم، ولقد أثار سخطهم ودهشتهم في الوقت نفسه أن ينتصر جيشه على الإنجليز، فقال محمد بك المنفوخ - وهو من المرادية وصاحب نفوذ كبير على إخوانه: «إنه من المتعذر على أي امرئ أن يعقل كيف أجاز أوروبيون لأنفسهم أن ينهزموا على يد الأتراك»، وأكثر البكوات من عقد الاجتماعات لتدبر موقفهم، ولكن دون طائل، فكانوا ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس، ولاحظ «مانجان» أن الهوة التي فصلت بيت بيتي البرديسي والألفي من قديم لا تزال سحيقة، بسبب المنافسة والغيرة المتأصلتين بينهما، حتى تعذر اتفاق كلمة البكوات على شيء، فكل واحد منهم قد قر رأيه على قرار مخالف لقرار زميله، حتى صار كل معسكر من معسكراتهم منفصلا عن الآخر، وقل اتصال الرؤساء بعضهم ببعض، ويضرب «مانجان» مثلا على الانقسام السائد بين البكوات فيما حدث لشاهين بك الألفي الذي جمع زملاءه ذات مرة في خيمته وتحدث إليهم في ضرورة الزحف والنزول إلى دمنهور ونجح في إقناعهم بذلك، ولكنه سرعان ما نقض البكوات قرارهم في اليوم التالي، وصمموا على الوقوف وعدم الحركة انتظارا لما قد تجيء به الحوادث، وقد خلص «مانجان» من أحاديثه معهم إلى أن البكوات ما عادوا ينظرون إلى الجيش البريطاني بعين الجد والاعتبار السابقة، حيث كشفت عن ضعفه هزيمته الأخيرة في رشيد والحماد.
وهكذا تضافرت عوامل ثلاثة لشل حركة البكوات: منافساتهم وأحقادهم الشخصية، التي جعلتهم لا يثقون في بعضهم بعضا ومنعت اتفاقهم على رأي واحد، وغضبهم على الباشا وكراهيتهم له مما جعلهم لا يثقون في وعوده لهم ولا يريدون الصلح معه، ثم نظرتهم غير الطيبة للجيش البريطاني، وتقريرهم لذلك عدم الحركة ومغادرة أماكنهم حتى يقيم الجنرال «فريزر» الدليل على أن في وسعه الانتصار على جيوش محمد علي ومهاجمة القاهرة معقل هذا الأخير. وتلك جميعها عوامل من شأنها القضاء على كل خوف منهم، لا سيما وأن البكوات عدا هذه الخلافات الناشبة بينهم والمؤذنة بأفول نجمهم، كانوا أنفسهم يمرون وقتئذ في دور من الانحلال السريع، كان مظهره هذه الانقسامات ذاتها، كما نهض دليلا عليه انصرافهم وهم في محنتهم هذه عن العمل الجدي الذي يتطلبه تطلعهم إلى الحكم والسلطة إلى الانغماس في الشهوات، فقد استرعى نظر «مانجان» ما شاهده من انتشار الفوضى الضاربة أطنابها في معسكرات المماليك حيث كانت هذه تعج بالعلمات والمغنيات والغوازي اللواتي كن يلاحقن معسكراتهم ويتبعنها إلى كل مكان تنتقل هذه المعسكرات إليه.
وفي الوقت الذي أدار فيه «مانجان» مفاوضاته مع البكوات بالصعيد، كان محمد علي من جانبه لا يزال وهو بالقاهرة يسلك طريق المداراة والملاينة معهم حتى يذلل ما قد يقوم من صعوبات أثناء هذه المفاوضة، ويصطنع الكثير من الحكمة والأناة وطول البال في علاقاته معهم؛ كي يستميلهم إلى قبول الصلح معه، أو التزام الحياد على الأقل - كما ذكرنا - فقد وصلت في 14 يونيو مكاتبة من إبراهيم بك ومن الرسل مصطفى أغا وعلي كاشف الصابونجي ومصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر مضمونها الإخبار بقدوم البكوات، ثم أرسل إبراهيم بك يستدعي إليه ابنه الصغير وولد ابنته المسمى نور الدين، ويطلب لوازم وأمتعة، فرضي الباشا بتصديق الخبر عن قرب حضورهم إلى الجيزة، وبادر بإجابة إبراهيم بك إلى طلبه، وفي 20 يونيو سافر أولاد إبراهيم بك والمطلوبات التي أرسل يطلبها وصحبتهم فراشون وباعة متسببون وغير ذلك، ثم لم يلبث أن بعث إبراهيم بك بكتاب تسلمه الباشا بعد يومين يؤكد فيه من جديد بقاء البكوات على عهدهم ويعد بوصولهم إلى الجيزة قريبا لإبرام الصلح معه.
ولكنه حدث وقتئذ أن وصل إلى القاهرة كذلك تقرير «مانجان» الأول عن مهمته لدى البكوات بتاريخ 21 يونيو، وقد تحدث فيه صاحبه عن مقابلته لهم عند زاوية المصلوب فقال: إن هؤلاء قد أظهروا له تقديرهم للخطوة التي خطاها «دروفتي» نحوهم، وأكدوا أنهم لن يعملوا مع الإنجليز، بل إن شاهين بك الألفي صار يدعي أنه لم يبعث بمندوبيه أحمد بك وأمين بك إلى الإسكندرية إلا لاسترجاع مبلغ ستين ألف تالير أو ريال إسباني كان سيده المتوفى أي الألفي الكبير قد أودعها لدى بيت برجز وشركائه، وهم من تجار الإنجليز بالإسكندرية، ومع ذلك، فالبكوات دائما لا يثقون في محمد علي، ولا يريدون النزول إلى الجيزة خوفا من الكيد لهم وأن يكون الغرض من استقدامهم إليها إيقاعهم في شرك الفخاخ التي ينصبها لهم الباشا؛ ولذلك فهم يعتذرون عن نزولهم بحجة أنهم ينتظرون مجيء بعض البكوات الذين لا يزالون فوق المنيا، وكان في ضوء هذا التقرير إذن أن نصح «دروفتي» محمد علي عندما استشاره هذا في قيمة تصريحات البكوات عن رغبتهم في الصلح معه، وعزمهم على الحضور قريبا إلى الجيزة، بأنه من الخير كل الخير له ومن صالحه ألا يجعل البكوات يقتربون كثيرا من القاهرة، فبعث إليهم الباشا بأحد مندوبيه شريف أغا، يحمل إليهم إنذارا، يطلب فيه منهم بقاءهم حيث هم، وأن يوفدوا إلى الجيزة مندوبين مفوضين عنهم فحسب للمفاوضة في شروط الصلح بدلا من حضورهم بأنفسهم.
ولما كان البكوات قد آثروا بسبب انقساماتهم الجمود عن الحركة وتلبية نداءات «مسيت» و«فريزر» لهم، وعجزوا للسبب نفسه عن الاتفاق فيما بينهم على القيام بأي جهد مشترك للزحف على القاهرة وقتال محمد علي، وكان «مانجان» لا يزال بمعسكرهم يحاول منعهم من التعاون مع الإنجليز واستمالتهم إلى الاتفاق مع محمد علي، ويستخدم لتعزيز مساعيه لديهم حسين بك الزنطاوي خصوصا، فقد آثر البكوات عندما وصلهم إنذار محمد علي الاستمرار على سياسة المماطلة والمراوغة مع الباشا انتظارا - كما قر عليه رأيهم - لما قد تسفر عنه الحوادث، فأبدوا رغبتهم في أن يوفد الباشا وسطاء بينه وبينهم الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ محمد الأمير والسيد النقيب عمر مكرم؛ لإجراء الصلح على أيديهم كما قالوا، وقد حمل رسالتهم هذه غالب أغا إلى القاهرة، وأجابهم الباشا إلى رغبتهم، ولكنه بدلا من أن يذهب هؤلاء الثلاثة إليهم، استبدل بهم ثلاثة من الفقهاء وهم: الشيخ سليمان الفيومي والشيخ إبراهيم السجيني والسيد محمد الدواخلي، وقد غادر هؤلاء القاهرة يوم 2 يوليو إلى زاوية المصلوب، يحملون مراسلة إلى الأمراء القبليين بالصلح، ومزودين بسلطات كاملة لعقد الصلح معهم.
ولكن مساعي هؤلاء الفقهاء الثلاثة لدى البكوات لم تسفر عن نتيجة، فقد تمسك البكوات بشروط كثيرة تعذر معها الوصول إلى أي اتفاق بينهم وبين محمد علي، ولكنه وإن كان البكوات قد نكثوا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم أثناء مفاوضتهم السابقة في أبريل مع محمد علي بأسيوط، ولم يعقدوا الصلح معه، فقد استطاع «مانجان» من ناحيته أن يظفر منهم بوعد قاطع بالوقوف موقف الحياد وعدم التعاون كلية مع الإنجليز، وكان هذا كل ما أراده محمد علي والغرض المباشر الذي هدف إليه من توسيط «دروفتي» لديهم إذا تعذر الصلح نهائيا معهم، وقد عاد «مانجان» من مهمته إلى القاهرة في 17 يوليو، وفي اليوم التالي كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» ينبئه بما وصل إليه «مانجان» من نتائج بعد مفاوضته معهم، فقال: إن مساعي جميع الوفود التي أرسلها الباشا إلى البكوات أثناء وجود «مانجان» بمعسكرهم لم تأت بأية ثمرة؛ لأن البكوات تغالوا كثيرا في مطالبهم، ولأن رجاءهم قد انعقد في واقع الأمر على امتلاك القاهرة ذاتها، ولن يرضيهم سوى احتلالها، ولقد أظهر شاهين بك المرادي ومحمد بك المنفوخ وعبد الرحمن بك من بيت البرديسي، أنهم لا يأبهون كثيرا للاتفاق مع محمد علي، وأنهم إذا كانوا لا ينضمون إلى الإنجليز فمبعث هذا وحده أنهم لا يودون إغضاب الحكومة الفرنسية التي يريدون حمايتها لهم، ثم استطرد «دروفتي» يقول: «وقد كلفوا «مانجان» أن يؤكد لي تأكيداتهم التي أعطوني إياها كتابة، وفحواها أنهم لن يتحركوا أقل حركة قد يفيد منها الإنجليز في عملياتهم أو مشروعاتهم ضد مصر، ولو أنهم ينتظرون في الوقت نفسه أن تتدخل فرنسا لمؤازرتهم عند تقرير مصيرهم»، ولقد كان - حسبما جاء في تقرير «مانجان» - لمساعي حسين بك الزنطاوي الذي عرفه رؤساء جيش الشرق في مصر سفيرا لمراد بك، أكبر الأثر في جمع كلمة المماليك الصناجق على رفض المحالفة التي يلح في عقدها الإنجليز معهم، ثم إن محمد بك المنفوخ وعبد الرحمن بك قد بذلا قصارى جهدهما كذلك، ونجحا في حمل إبراهيم بك ورجاله على الانحياز إلى جانبهما، في موقفهما الذي اتخذاه من حيث تقرير الحياد التام، بل ويريد جميعهم الاجتماع في بني سويف انتظارا لحدوث الفيضان حتى يذهبوا منها إلى مظاعنهم المعتادة، ثم عاد «دروفتي» فكتب إلى «سباستياني» في 29 يوليو أن ضابطا بريطانيا قد ذهب في مهمة إلى معسكر شاهين بك الألفي بعد عودة «مانجان» من الصعيد ببضعة أيام يستحثه على النزول إلى الوجه البحري ولكن دون جدوى، بل إن هذا الضابط عندما يئس من شاهين الألفي ذهب إلى سائر البكوات في بني سويف يحثهم على الانضمام إلى الحزب الإنجليزي ولكن من غير طائل أيضا.
وهكذا تخلى البكوات عن النضال من أجل الفوز بالسيطرة والحكم، وهم الذين كان في وسعهم أن ينزلوا إلى ميدان القتال حوالي الألفين وخمسمائة من الفرسان المدربين والمجهزين بأكمل العدد، عدا آلاف البدو الذين درجوا على الانضمام إليهم، فكان قرارهم اتخاذ موقف الحياد التام، وذهابهم إلى بني سويف ليتوغلوا منها في الصعيد عند حدوث الفيضان، نصرا سياسيا لمحمد علي الذي وسط بنجاح الوكلاء الفرنسيين لديهم، فأتاح له هذا النصر الفرصة لإنجاز استعداداته لمناجزة الإنجليز.
فكان بعد أن تحقق لديه أن البكوات لن يغادروا أماكنهم في الصعيد أن قوي عزم الباشا على السفر لناحية الإسكندرية، وأمر بإحضار اللوازم والخيام، وما يحتاج إليه الحال من روايا الماء والقرب وباقي الأدوات، وفي 7 أغسطس ركب الباشا إلى بولاق وعدى إلى ناحية بر إمبابة، ونصبوا وطاقه هناك ، وخرجت طوائف العسكر إلى ناحية بولاق وساحل البحر، وطفقوا يأخذون ما يجدونه من البغال والحمير والجمال، ثم طلبوا أيضا في اليوم التالي خيول الطواحين لجر المدافع والعربات، وانتقوا منها أصلحها، واستمرت تعدية الجند إلى إمبابة أياما، وقد بلغ جيشه ثلاثة آلاف من المشاة وألفا من الفرسان، ولكنه قبل أن يبدأ زحفه على دمنهور في طريقه لقتال الإنجليز بالإسكندرية، لم يلبث أن وصل إلى إمبابة مساء يوم 10 أغسطس الميجر «ريفارولا»
Rivarola
موفدا من قبل الجنرال «فريزر» للمفاوضة من أجل عقد الصلح مع محمد علي والجلاء عن الإسكندرية. (2) مفاوضات الصلح
المرحلة الاستطلاعية أو جس النبض
فقد تضافرت عوامل عدة على إنهاء الاحتلال البريطاني للإسكندرية دون حاجة لاستئناف العمليات العسكرية بين حملة «فريزر» وجيش محمد علي، وتتلخص هذه أولا في أن الإنجليز بسبب تطور الموقف السياسي والعسكري الأوروبي صاروا يريدون سحب قواتهم من الإسكندرية للانتفاع بها في ميادين أخرى، وثانيا في أن الباشا نفسه كان يؤثر الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز لجلائهم عن الإسكندرية سلما على الاشتباك معهم في معارك أخرى دامية، قد يكون النصر فيها حليفه، وقد تكون حربا سجالا يطول أمدها، ويتجدد بسببها ظهور تلك الصعوبات التي جعلته يرجئ زحفه على الإسكندرية حتى هذا الوقت، والتي فوتت عليه الاستفادة من الهزيمة السابقة التي لحقت بالإنجليز في واقعة الحماد، وذلك عدا ما قد يستجد من صعوبات أخرى قد تطوح جميعها بباشويته.
وليس من شك في أن تقرير الإنجليز سحب حملتهم من الإسكندرية كان من العوامل الحاسمة في إبرام الصلح بينهم وبين محمد علي، غير أن تعليمات الحكومة الإنجليزية نهائيا في ذلك لم تبلغ «فريزر» إلا بعد أن كانت المفاوضات بين الفريقين قد قطعت مرحلتها الأولى الاستطلاعية؛ وجس كل من الفريقين نبض الآخر من حيث التعرف على الأغراض التي يتوخاها من الدخول في المفاوضة، والشروط التي قد يرتضيها أساسا للاتفاق إذا تقرر المضي في المفاوضة جديا لإنهاء النزاع القائم سلما، ولقد كان محمد علي هو صاحب المبادأة في المرحلة الأولى الاستطلاعية.
فقد تقدم كيف أنه كان يتوقع جلاء الإنجليز عن الإسكندرية بعد هزيمتهم في الحماد، ولكنه ما إن تأكد لديه عزمهم على البقاء بها ووقف على التدابير التي اتخذوها لتحصين مواقعهم بها، حتى راح يبذل قصارى جهده لإنجاز تحصين القاهرة، وجلب النجدات من الدلاتية وغيرهم، وإنهاء تمرد ياسين بك، وتسوية مشاكله مع البكوات المماليك، واستغرقت هذه المحاولات - ولقد كانت شاقة ومضنية - زمنا طويلا، وصادف الباشا صعوبات عديدة شديدة، مبعثها حاجته إلى المال لسد النفقات التي تتطلبها أعمال التحصينات وترضية ياسين الأرنئودي، وقبل كل شيء دفع مرتبات الجند حتى يتسنى له تطويعهم وتنظيم صفوفهم، وتجهيزهم بما يحتاجون إليه من أسلحة ومؤن وعتاد قبل إنفاذهم لمحاربة الإنجليز، واستئناف العمليات العسكرية ضدهم، وهو قتال لو انهزم فيه جيشه لتقوضت عروش باشويته، ثم إن ياسين لم يلبث أن شق عصا الطاعة، وأعلن من جديد تمرده، وراح يسعى للانضمام إلى بكوات الصعيد، وعجز الباشا عن استمالة هؤلاء الأخيرين إلى الوفاء بعهدهم وإبرام الصلح معه، وكان بعد لأي وعناد وبعد أن وسط لديهم الوكلاء الفرنسيين أن وعد هؤلاء بالتزام موقف الحياد في النزاع الدائر بينه وبين الإنجليز، ثم إنه إذا كان البكوات قد ذهبوا إلى بني سويف، وجعلهم الفيضان يربضون بالصعيد، فهم سوف ينزلون منه إذا استطالت الحرب وانتصر الإنجليز، ولقد أتته النجدات من الشام وغيرها فعلا للاستعانة بها على محاربة الإنجليز، ولكن الباشا كان عليما بأساليب الدلاتية المجانين وما فطروا عليه من حب الشغب وإلحاق الأذى بالناس، ولا تزال البلاد تشكو من جورهم وعسفهم واعتداءاتهم، ثم إنه لا يمكن بحال الركون إليهم والاعتماد عليهم؛ لنزوعهم إلى التمرد والعصيان، وكذلك حال الأرنئود، فهم يسلبون الأهلين، وينهبون كل مكان مروا به أو قصدوا إليه، ويحقد بعض رؤسائهم - كما حقد ياسين بك - على محمد علي وصوله إلى الحكم والولاية، وبينهم من يعتقد أنه لا يقل جدارة عنه بهذا المنصب، وهو إذا كان قد استطاع اليوم تدبير المال لدفع قسم من مرتباتهم، لا هذه كلها؛ لأن هؤلاء ظلت لهم دائما مرتبات منكسرة، فقد يعجز غدا بسبب أزمته المالية الخانقة عن دفع هذا البعض من مرتباتهم إليهم، ولا أمل في انفراج هذه الأزمة إذا استمرت الحرب، وطالما بقيت الاضطرابات والقلاقل التي عطلت الزراعة وكسدت بسببها التجارة، واستمر ممتنعا عليه تحصيل المال والغلال من الصعيد لامتلاك البكوات المماليك له.
على أن استطالة أمد الحرب مع الإنجليز - كان عدا ما ذكرنا - ينطوي على خطر جسيم آخر، يهدد بالزوال باشوية محمد علي، ويأتيه من جانب الباب العالي نفسه، حقيقة جمعت محنة الحرب بين الفريقين، وأوجبت عليهما التضافر حتى يتسنى اجتيازها بسلام، ولكن أزمة النقل إلى سالونيك كانت لا تزال آثارها عالقة بذهن الباشا، وقد يعمد الباب العالي بالرغم من مشاغل حربه مع الروس والإنجليز إلى انتهاز فرصة المشاكل والمصاعب التي سوف توجدها استطالة أمد الحرب في مصر لمحاولة تدبير انقلاب آخر، قد لا ينجو من شره في هذه المرة محمد علي، وإذا كان الباب العالي قد سبق له أن اختار أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية القاهرة في الظروف التي عرفناها 1804 للقضاء على الفوضى السائدة بالبلاد وقتئذ، وإعادة سلطان الباب العالي عليها، فليس من المستبعد أن يعمد الباب العالي بعد أن تكون الحرب قد أنهكت قوى محمد علي إلى اختيار سليمان باشا والي عكا وصيدا لطرد محمد علي من الولاية، وكان سليمان باشا رجل مكر ودهاء، لا يؤمن جانبه، وصاحب أطماع عريضة، يدس للباشوات المجاورين له ليضم ولاياتهم إلى ولايته، ويعتمد عليه الباب العالي في مؤامرته ضد الباشوات لإضعافهم، وتقع باشويته هو على حدود باشوية القاهرة من جهة الشمال الشرقي؛ أي في الطريق الذي تسلكه الجيوش التي تجيء من ناحية الشام إلى هذه البلاد، إما لنجدة صاحب الحكم فيها، وإما لكسر شوكته أو طرده منها كلية؛ ولذلك فقد دأب محمد علي على التحرز من سليمان باشا، ولم تصف العلاقات بينهما.
ولقد شعر محمد علي بحاجته إلى النجدات من الجند من الدلاتية وغيرهم يعزز بهم جيشه، واستقدم فعلا عددا منهم حضروا من الشام، وقبرص إلى مصر عن طريق دمياط، الأمر الذي جعل «مسيت» - كما شهدنا - يلح في ضرورة أن تراقب إحدى سفن الأسطول ميناء دمياط لمنع نزول الجند الذين استقدمهم الباشا بها، وأكد أحد وكلاء الإنجليز «قسطنطين كاريري» عندما استجوبه «مسيت» في الإسكندرية في 17 يونيو بعد ذهابه إليها من القاهرة في الظروف التي مرت بنا، أن ستمائة من الجند قد وصلوا إلى القاهرة بطريق دمياط من الشام وقبرص، وأن عددا كبيرا غير هؤلاء محتشدون في قبرص، وأن الباشا ما فتئ يلح على حاكم هذه الجزيرة في إرسال جماعة أخرى منهم، ولا تحول صعوبة ما دون وصولهم إلى مصر؛ لأن الإنجليز لا يضعون إحدى سفنهم الحربية أمام دمياط للحيلولة دون نزولهم بها، وقد تكفل محمد علي بنفقات هذه النجدات التي استقدمها، والتي صار يطلبها هو بنفسه مباشرة ومن غير وساطة الباب العالي، وكان غرضه من ذلك عند التحاق هؤلاء الجند بخدمته أن يكونوا خاضعين له وحده، وألا يكونوا عامل إفساد وفتنة، ولم يشأ الباشا أن يطلب من الباب العالي نفسه أية نجدات عسكرية تأتيه من ولايات الدولة القريبة أو المتاخمة لولايته، تكون حينئذ تابعة لغيره من الباشوات وتحت نفوذهم، بل أن أخشى ما يخشاه كان أن يعهد الباب العالي إلى هؤلاء الباشوات، وإلى سليمان باشا على وجه الخصوص أن يبعثوا بجندهم لمعاونته على طرد الإنجليز من مصر، أو أن يحضروا بأنفسهم لتحقيق هذه الغاية؛ ولذلك فقد كان انتصار الحماد فرصة مواتية لإقناع الباب العالي بأن خطر الإنجليز ليس بتلك الجسامة التي تهدد بضياع هذا الإقليم من الدولة، وبأن هؤلاء ليسوا في تلك القوة التي يصعب على الباشا وحده التغلب عليها بما لديه من موارد ودون حاجة إلى الاستنجاد بالدولة، فأعد بيانا أو عرضا بهزيمة الإنجليز من إنشاء أحد الكتاب المشهود لهم بالبلاغة والفصاحة، السيد إسماعيل الخشاب البليغ النجيب والنبيه الأديب، كاتب سلسلة التاريخ أو محاضر جلسات الديوان على عهد الجنرال «منو»، وقال الشيخ الجبرتي: إنهم بالغوا في هذا العرض أو البيان، وفي 5 مايو سافر المتسفر بآذان قتلى الإنجليز، وقد وضعوها في صندوق، وسافر بها على طريق الشام وصحبته شخصان من أسرى فسيالات الإنجليز لتنهض بشائر النصر هذه دليلا على صدق كل ما جاء في العرض الذي دبجه يراع الخشاب، وكان «فوجلسانج» أحد هذين الضابطين اللذين أرسلهما الباشا إلى القسطنطينية.
ولكنه لم تمض أيام قلائل على سفر المتسفر، حتى وصل القاهرة في 13 مايو ططري من القسطنطينية وعلى يده مرسوم، فعمل الباشا ديوانا لقراءته، ومضمونه أن العرضى الهمايوني قد خرج من إسلامبول لقتال الروس، وذهب إلى ناحية أدرنه، وأن بشائر النصر حاصلة، والأهم من ذلك أنه بلغ الدولة، ورود نحو الأربع عشرة قطعة من المراكب إلى ثغر الإسكندرية، وأن الكائنين بالثغر تراخوا في حربهم حتى طلعوا إلى الثغر، فمن اللازم الاهتمام وخروج العساكر لحروبهم، ودفعهم وطردهم عن الثغر، وقد أرسلنا البيورلديات إلى سليمان باشا والي صيدا وإلى يوسف باشا والي الشام بتوجيههما العساكر إلى مصر للمساعدة، وإن لزم الحال لحضور المذكورين لتمام المساعدة على دفع العدو، ولا شك في أن قراءة هذا المرسوم بحضرة الجمع على نحو ما فعل محمد علي من شأنه أن يشيع الثقة في النفوس، ويدخل الطمأنينة إلى قلوب الأهلين، حينما يعلمون أن الدولة تهتم بأمرهم، وتسعى بالرغم من مسئولياتها وحروبها في إرسال النجدات إليهم لطرد العدو من بلادهم، ولو أنه كان هناك من الأهلين - كالشيخ الجبرتي - من انعدمت ثقتهم في قدرة الدولة على دفع خطر الغزو الأجنبي عنهم، أو أن الباب العالي يعني حقا ما يقوله في هذه المرسومات، وأنه سوف يرسل جندا لقتال الإنجليز، فلم يكن محل القصد في نظرهم، وعلى حد ما جاء في قول الشيخ الجبرتي نفسه من ورود هذه البيورلديات والفرامانات والأغوات والقبجيات سوى جر المنفعة لهم بما يأخذونه من خدمهم وحق طريقهم من الدراهم والتقادم والهدايا، يأخذها هؤلاء الرسل لأنفسهم ولرجال الديوان العثماني، على أن الباشا كان يدرك مدى الخطر الذي ينطوي عليه هذا الاهتمام الظاهر من جانب الباب العالي لنجدته وعزمه على إرسال يوسف باشا جنج وسليمان باشا خصوصا بجيوشهما إلى مصر إذا لزم الحال لحضور المذكورين؛ فلم يكن المرسوم الذي قرئ في الديوان في نظره مجرد عبارات منمقة ومسطرة لا تعدو إظهار النوايا الطيبة من جانب الباب العالي، أو أنها كانت وعودا مطمئنة فحسب، كما توهم الشيخ الجبرتي، بل كان أخوف ما يخافه أن يقرن الباب العالي القول بالعمل فيفسد عليه أمره.
وتزايدت مخاوف الباشا عندما وصل القاهرة في 22 يونيو سلحدار موسى باشا قائمقام الصدر الأعظم، «وعلى يده مرسوم بالعربي وآخر بالتركي مضمونهما جواب رسالة، أرسلت إلى سليمان باشا بعكا بخبر حادثة الإنجليز، وملخصها أنه ورد علينا جواب من سليمان باشا يخبر فيه بوصول طائفة الإنجليز إلى ثغر الإسكندرية ودخولهم إليها بمخامرة أهلها ثم زحفهم إلى رشيد، وقد حاربهم أهل البلاد والعساكر، وقتلوا الكثير منهم، وأسروا منهم كذلك، وتؤكد على محمد باشا (محمد علي) والعلماء وأكابر مصر بالاستعداد والمحافظة وتحصين الثغور مثل السويس والقصير ومحاربة الكفار وإخراجهم وإبعادهم عن الثغر، وقد وجهنا لكل من سليمان باشا وجنج يوسف باشا بتوجيه ما تريدون من العساكر للمساعدة»، على أنه سرعان ما وصلت الأخبار بعد ذلك بثمانية أيام فقط (30 يونيو) من ناحية الشام بأنه وقع بإسلامبول فتنة بين الينكجرية أو اليكجرية وهم الانكشارية والنظام الجديد، وكانت الغلبة للينكجرية، وأن هؤلاء قد عزلوا السلطان سليم وولوا السلطان مصطفى الرابع، وأن هذا قد خطب له ببلاد الشام، وكان القائمقام موسى باشا وشيخ الإسلام عطاء الله أفندي قد حرضا الانكشارية المتذمرين من النظام الجديد على الفتنة التي أسفرت عن عزل سليم الثالث في 29 مايو وتولية ابن عمه مصطفى الرابع، وقد تحقق هذا الخبر على يد ططري، وصل القاهرة في 2 يوليو وخطب الخطباء للسلطان مصطفى على منابر مصر وبلاد مصر وبولاق، وذلك يوم 3 يوليو، وجب على الباشا أن يبذل قصارى جهده لإجلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وحملهم على مغادرة البلاد قبل أن تستقر الأحوال بالسلطنة، ويتجدد عزم الباب العالي في العهد الجديد على إنفاذ سليمان باشا ويوسف جنج بجيوشهما لنجدة مصر وإجلاء الإنجليز عنها.
فكان لكل هذه الأسباب إذن أن آثر محمد علي المفاوضة مع الإنجليز، لعله يستطيع الاتفاق معهم سلما على إخلاء الإسكندرية ومبارحة القطر دون حاجة إلى استئناف القتال معهم بصورة قد يستطيل معها أمد الحرب التي كان لديه من الأسباب ما يجعله يخشى عواقبها.
ولقد تضافرت عدة عوامل من ناحية أخرى، جعلت محمد علي يتوقع نجاح مساعيه من أجل الاتفاق مع الإنجليز على مبارحتهم للإسكندرية سلما، إذا هو بدأ المفاوضة معهم لتحقيق هذه الغاية، فضلا عن أن حسن المعاملة التي لقيها أسراهم في القلعة قد خلقت جوا طيبا ساعد على إشاعة حسن التفاهم بين الفريقين، فقد عرفنا كيف أن «فوجلسانج» قد كتب من قلعة القاهرة إلى الجنرال «فريزر» منذ أول مايو يطنب في وصفه ما يلقاه الجرحى من عناية بفضل اهتمام الباشا بأمرهم، وهو الذي أتاح للقنصل الفرنسي «دروفتي» الفرصة لزيارتهم والإشراف على معالجتهم وإمداد الأسرى بكل ما يحتاجونه لتخفيف وطأة الأسر عليهم، كما حرص الباشا من جانبه على تزويدهم بالفرش والأمتعة اللازمة، حتى إن «فريزر» لم يجد مناصا من شكر «دروفتي» على ما أظهره من مروءة وشهامة، وحبا زوجه السيدة «دروفتي» بكل رعاية وكانت هذه قد بقيت بالإسكندرية ولم تلحق بزوجها عند خروجه منها إلى القاهرة، وكتب «فريزر» إلى «دروفتي» في 7 مايو يشكره باسم حكومته على عنايته بالأسرى الإنجليز، ويعد بدفع أية نفقات يكون هذا الأخير قد تحملها بسبب هذه العناية، ويبدي استعداده لإرسال أي مواطن فرنسي يرغب «دروفتي» في حضوره إلى القاهرة، ولما كانت السيدة «دروفتي» قد طلبت الآن الانضمام إلى زوجها فقد أذن لها «فريزر» بالبقاء في الإسكندرية أو الذهاب إلى أي مكان تشاء، وأبلغ «دروفتي» أنه ينتظر ما يأمر به في هذا الشأن أو في أي شأن آخر يهتم به.
وفي هذا الجو الطيب إذن استطاع الأسرى الإنجليز أن يؤكدوا للباشا أن جيشهم لم يأت إلى مصر لفتحها، وإنما حضر لمنع الفرنسيين من غزوها، وتأكد لدى محمد علي حسن نوايا الإنجليز، وأنهم لم يستهدفوا من إرسال حملتهم إلى الإسكندرية إخراجه من الولاية، بما أبداه هؤلاء من استعداد طيب لإجابة رغبة الباشا في مسألة استبدال ابن أخي عمر بك أو ابن أخي صالح قوش بأحد الأسرى الإنجليز في القاهرة، وقد تقدم كيف أن «فريزر» قد رد «ماثيسون» لتعذر إجراء المبادلة بسبب رحيل الأرنئودي طرف المبادلة الآخر ضمن من أبعدهم «فريزر» إلى بلاد الروم قبل واقعة الحماد، فكان لعودة «ماثيسون» إلى القاهرة في 23 مايو أفضل الأثر لدى محمد علي الذي خلى سبيله ولم يحبسه مع الأسرى، بل أطلق له الإذن أيضا في الرجوع إلى الإسكندرية، أو إلى بلاده متى أحب واختار، ولقد روج وكلاء الإنجليز وأصدقاؤهم بالقاهرة ما صار يذيعه ويكتب فيه على حد قول «دروفتي» القواد الإنجليز أنفسهم، من حيث انتفاء أي غرض لهم في فتح مصر وامتلاكها، وراح الأسرى بدورهم يؤكدون للباشا أن بوسعه الاتفاق مع الجنرال «فريزر»، ثم دأب بعض الأفراد الملتفين حوله والذين نعتهم «دروفتي» في رسالته إلى «سباستياني» في 27 مايو بقلة الذكاء - لأنه كان يسوءه وأمته في حرب مع الإنجليز أن يتم الصلح بين هؤلاء الأخيرين وبين محمد علي - على الإيحاء إليه بأن من صالحه عقد السلام معهم، فكان لذلك كله أن اعتقد الباشا أن في وسعه الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز يسلم له هؤلاء بمقتضاه ثغر الإسكندرية.
وعلى ذلك، فقد قرر إرسال أحد تراجمته الموثوق بهم إلى الإسكندرية مصحوبا بأحد الأسرى من ضباط الإنجليز لجس النبض، وحتى يعرض على «فريزر» مقترحات معينة أثبتها دروفتي في رسالته - سالفة الذكر - على نحو ما بلغته من محمد علي نفسه - هي تسليم الإسكندرية لقاء تعويض عنها في صورة إرجاع كل الأسرى الإنجليز، ورعاية الباشا رعاية ممتازة للمصالح التجارية البريطانية في مصر، والتعهد بمنع أي جيش أوروبي من الدخول إلى مملكته (كذا)، يأتي لغزو مصر، أو يطلب المرور منها إلى الهند، وكان من الواضح أن صياغة هذه المقترحات بالصورة التي أطلع عليها الباشا «دروفتي» لم يكن الغرض منها سوى تجريد هذا الأخير من أي حق للاعتراض على المفاوضة، وهو الحليف الذي أسدى خدمة جليلة لمحمد علي في علاقاته مع البكوات المماليك خصوصا، عدا الخدمات الأخرى، من حيث مشاركته في تحصين القاهرة، وإسداء النصح للباشا في غير ذلك من المسائل المتصلة بالدفاع عن باشويته؛ وذلك لأن التعهد بمنع أي جيش أوروبي يأتي إلى مصر لغزوها، أو لطلب المرور منها إلى الهند، أو التعهد برعاية المصالح التجارية الإنجليزية، نظير جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وتسليمها لمحمد علي ينطوي في جوهره على ضمان للإنجليز وللفرنسيين معا - والأولون يعلنون أنهم لا غاية لهم في امتلاكها، والأخيرون يؤكدون أنهم لا يريدون غزوها - بأن هذه البلاد سوف تقف موقف الحياد التام في النضال القائم بين الفريقين، فلا يستطيع أحدهما أن يأتي بجيوشه إليها، ويحيلها إلى موقع يناوئ منه مصالح الفريق الآخر وعملياته العسكرية، كما ينطبق ذلك أيضا على عدم السماح للفريقين باتخاذ هذه البلاد طريقا لإرسال جيوشهما منه إلى الهند، ثم إن التعهد برعاية المصالح التجارية الإنجليزية لا يفيد تعطيل المصالح التجارية الفرنسية في مصر، لا سيما وأن فرنسا هي الدولة التي ثبتت صداقتها لمحمد علي بفضل مؤازرة «دروفتي» له في محنته.
وزيادة على ذلك فقد راح محمد علي يفسر لهذا الأخير غرضه من محاولة الاتفاق مع الإنجليز بما عرف أنه سوف يجعل من المتعذر على «دروفتي» معارضته في اتخاذ هذه الخطوة، فكتب الأخير في نفس رسالته التي بعث بها إلى «سباستياني» في 27 مايو أن الباشا قد أطلعه على هذا المشروع، وأكد له أنه ما هو إلا وسيلة لطرد الإنجليز من مصر، حتى إذا تم ما أراد تسنى له أن يعاملهم المعاملة التي يريدها، ولم ير «دروفتي» بدا من قبول هذا التفسير الذي كان - كما سوف يتضح بعد قليل - أبعد ما يكون عن ذهن محمد علي وتفكيره، وقد علل «دروفتي» قبوله لهذا التفسير من جهة، وعدم الاعتراض على مساعي الباشا من أجل الاتفاق مع الإنجليز من جهة أخرى بقوله: إنه وجد من المصلحة عدم معارضة هذه المساعي، حتى لا يثير في ذهن الباشا شكوكا من ناحية نوايا دولته فرنسا .
وعلى ذلك، فقد اختار محمد علي الكابتن «ديلانسي»، حتى يذهب بصحبة ترجمانه إلى الإسكندرية، وغادر هذان القاهرة في 13 مايو، ووصلا إلى الإسكندرية بعد ثلاثة أيام (16 مايو)، وقدم الترجمان مقترحات الباشا التي اختلفت في جوهرها اختلافا كليا عن تلك التي ذكرها لدروفتي، وتستبين حقيقة هذه المقترحات مما ذكره «فريزر» و«مسيت» عنها إلى رؤسائهما، فكتب الأول إلى الجنرال «فوكس» من الإسكندرية في 18 مايو، أنه وصل من القاهرة والي الإسكندرية منذ يومين الكابتن «ديلانسي» من آلاي الفرنسان «الدراجون»
Light Dragoons
العشرين - وأحد أسرانا سيئ الحظ - يصحبه ترجمان موثوق به من قبل محمد علي باشا، يرفع علم الهدنة، والغرض الظاهر من إنفاذه معالجة بعض الشئون المتعلقة بالأسرى - الذين ما زالوا يلقون كل معاملة طيبة - ولكن الغرض الحقيقي من مجيئه على ما أعتقد، إنما هو لجس النبض، حتى يقف مني على الشروط التي أراها لعقد الصلح.
وقد أبلغني الترجمان رسالة من محمد علي يقول فيها إنه فهم أننا ما جئنا لهذه البلاد بنية فتحها، وإنما للاستيلاء على الإسكندرية فحسب، حتى نمنع الفرنسيين من أن يسبقونا في الاستيلاء عليها، وحتى نعمل لمناصرة وتأييد تلك الأحزاب أو الجماعات التي قد تكون رغبتها أكثر من غيرها في إنشاء صلات ودية مستديمة مع بريطانيا العظمى، وأننا قد أبدينا رغبتنا في أن تسود علاقاتنا مع المماليك على هذا الأساس، ثم إنه (أي محمد علي) يرغب أن يبلغني أنه يريد أن يكون وضعه معنا على نفس هذا الأساس بدلا من المماليك وفي مكانهم، فهو أقوى بكثير من هؤلاء، وفي وسعه أن يساعدنا بصورة أكثر أثرا وفعلا في منع الفرنسيين والأتراك من دخول هذه البلاد - والفرنسيون والأتراك هم أعداؤه كما هم أعداؤنا - ثم إنه تقدم في نفس الوقت بمطلب غير معقول وغير مفهوم للدرجة القصوى هو أن نسلم إليه الإسكندرية، وأنه يمنع على كل أعدائنا لقاء ذلك الدخول إلى هذه البلاد، ولكنه يريد أن يقف إذا لم نشأ أن نفعل ذلك (أي تسليم الإسكندرية) على الجميل، أو حسن الصنيع الذي قد نرغب أو يكون في وسعنا إسداؤه إليه، وهو الذي قد بلغ من القوة حدا - كما يقول - يمكنه من أخذ الإسكندرية منا عنوة إذا شاء ذلك، وقد استطرد «فريزر» يقول: «ولقد كان جوابي على ذلك كله أنه مما يسعدنا أن نعيش معه في ود وصداقة؛ حيث إنه في رأيي لما يعود علينا كلينا من نفع بفضل ذلك أن تسود بيننا العلاقات الودية، وأن نتحد فيما بيننا لطرد أعدائنا المشتركين إذا حاولوا مهاجمتنا، وأن هنالك برهانا ساطعا على صدق العواطف الطيبة التي يظهرها الباشا نحونا في وسعه أن يقدمه هو إطلاق سراح أسرانا فورا، وأنه يسعدني أن أعوضه تعويضا معقولا نظير ذلك؛ لأني أعلم أنه في حاجة ملحة ومؤلمة إلى المال، ولكنه لا يقبل مالا يدفع له كفدية لهؤلاء الأسرى، ولو أنه من المفروض قبوله له تحت اسم آخر، وأم فيما يتعلق بالتخلي عن الإسكندرية، فإن هذه مسألة ليست موضع بحث، وأنه إذا نحيت مسألة التخلي عنها جانبا، في وسعه إذا تمعن في الأمر قليلا أن يرى أنه من الأفضل كثيرا لصالحه هو نفسه، إذا استمر امتلاكنا لها بسبب المؤازرة التي يمكننا بفضل ذلك إعطاؤها له برا وبحرا إذا وقع غزو على البلاد، بدلا من امتلاكه هو نفسه لها، على أنه سوف يسرني أن أسمع منه نوع الجميل أو حسن الصنيع الذي ينتظره منا، ثم إني أعدت تأكيداتي السابقة من حيث رغبتنا في أن تسود بيننا علاقات الود والصداقة، ولقد ذكر لي الترجمان ردا على جوابي هذا أن هذه التأكيدات عن رغبتنا في إنشاء العلاقات الودية معه هي كل ما ينتظره الباشا في هذا الاجتماع الأول، وأننا سوف نسمع منه مرة ثانية.
وكان تعليق «فريزر» على هذه المفاوضة أنها سوف تكسبه وقتا آخر لإنجاز استعداداته للتحصن بالإسكندرية والدفاع عنها، وأنه قد يكون الغرض من مقترحات الباشا خديعة الإنجليز، حتى يقللوا من نشاطهم، ويخف حذرهم منه، كما أنها قد أثارت بعض الشكوك لدى أتباع الباشا الذين رأوا في هذه المفاوضة تدبيرا سريا تحاك خيوطه بين «فريزر» ومحمد علي، وأما «ديلانسي» والترجمان فقد غادرا الإسكندرية يوم 18 مايو في طريقهما إلى القاهرة، واختتم «فريزر» رسالته بقوله: إن الترجمان قد وعد بأنه سوف يعود ثانية إلى الإسكندرية سريعا، ورأى «فريزر» من المناسب أن يهديه هدية طيبة.»
وفي اليوم التالي (19 مايو) عاد «فريزر»، فكتب إلى الوزير «وندهام»، يذكر له ضمن مسائل أخرى خبر هذه المفاوضة، فقال: إن «ديلانسي» وترجمان الباشا قد وصلا إلى الإسكندرية من بضعة أيام قليلة مضت، وإن الأخير قد جاءه بكتاب تحية من محمد علي، وقائمة بأسماء الأسرى في القاهرة، ثم استمر يقول: ولقد كان إحضار هذه القائمة السبب الظاهر لمجيئه، ولكن غرضه الحقيقي - على ما يبدو - هو محاولة معرفة نوايانا بشأن هذه البلاد، ويبدو أنه أراد أن يجعل معروفا لدينا ما يرغب فيه سيده من حيث إنشاء العلاقات الودية معنا، ولقد أجبته باحترام، وإنما في عبارات عامة أنه يسعدني أن تقوم علاقتي معه على أساس ودي، وأنه حينما يوضح عواطفه نحونا بصورة أكثر تحديدا، أقوم من ناحيتي وبطيب خاطر بتوضيح كل ما قد يرغب في معرفته بشأن ذلك، وكان من رأي «فريزر» أنه سوف يسمع قريبا من الباشا مرة أخرى.
وأما «مسيت» الذي خشي أن تنجح مساعي محمد علي في استمالة الإنجليز إلى الصلح والمحالفة معه، ثم إخلاء هؤلاء للإسكندرية وجلائهم عن البلاد نتيجة للصداقة الجديدة التي يسعى الباشا لعقد أواصرها معهم، فقد راح يفسر للورد «كاسلريه» في رسالته إليه بتاريخ 18 مايو البواعث التي دعت في نظره إلى مسعى محمد علي لكسب صداقة الإنجليز، وهي بواعث - إذا صح تفسير «مسيت» - لها بالصورة التي تعمد في رسالته إبرازها من شأنها، كما اعتقد «مسيت» أن تصرف حكومته عن التفكير في استبدال صداقة محمد علي بصداقة حلفائها القدامى البكوات المماليك، ولما كان يخشى من تأثر ما قد تتخذه حكومته من قرار فاصل في شأن حملة «فريزر» نفسها، بما صادفته هذه الحملة من هزائم على أيدي الأرنئود، فقد عزا الفشل الذي حدث إلى أخطاء عسكرية فنية في قدرة المسئولين عن عمليات الحملة تلافيها، ولا يجب في واقع الأمر أن تكون مبعث تشاؤم وتوقع تكرار الهزيمة، لا سيما وأن هناك من الوسائل ما يكفل الاحتفاظ بالإسكندرية، ودفع أي هجوم يقع عليها، وبخاصة بعد إرسال النجدات إليها، وتزويد أهلها وحاميتها بالمؤن والأغذية، واستند «مسيت» في رأيه الذي ذهب إليه من حيث ضرورة الاستمرار على مصادقة البكوات والمماليك، على أن هؤلاء لم يعقدوا صلحا مع محمد علي، وأنهم لا يزالون بالرغم من انقطاع رسائلهم إليه مدة من الزمن على عهدهم معه، وكان في رسالته هذه أن نقل «مسيت» إلى «وندهام» خبر المفاوضة التي جرت بين ترجمان الباشا وبين الجنرال «فريزر».
وعلى ذلك، فقد استهل «مسيت» خطابه هذا إلى «وندهام» بقوله إنه يتشرف بإبلاغه أن باشا مصر قد أرسل ترجمانه الخاص إلى هذا المكان مزودا بتعليمات تقتضيه أن يكتشف نوايا الحكومة البريطانية الحقيقية بالنسبة لهذه البلاد؛ إذ يبدو أن محمد علي باشا قد اطلع على رسالة من الجنرال «فريزر» إلى البكوات، أكد فيها قائد الحملة الأعلى لهؤلاء أنه بعيد كل البعد عن التفكير في فتح مصر، حيث تطلب منه تعليمات حكومة جلالة الملك احتلال الإسكندرية فحسب؛ كي يحول دون سقوطها في قبضة الفرنسيين، وأن يؤازر ويضفي حمايته على تلك الأحزاب أو الجماعات التي قد ترغب في إنشاء صلات ودية مستديمة مع بريطانيا العظمى، وكان بسبب هذا أن عمد باشا مصر - وهو الذي يهدف من أمد بعيد إلى الاستقلال على نحو ما ذكرت ذلك مرارا في تقاريري إلى وزراء جلالة الملك - إلى إصدار تعليماته إلى ترجمانه بأن يبذل قصارى جهده ليحمل الجنرال «فريزر» على عقد تلك المحالفة التي عرضها هذا على المماليك معه هو نفسه، ولما كان الجنرال يرى من الحكمة كسب الوقت، فقد أعلن للترجمان أنه إذا كان سيده محمد علي يطلق سراح الأسرى الإنجليز، ويتعهد بعدم وقف أو منع الإمدادات التي تأتيه من الأغذية وما إليها، ويسمح في الوقت نفسه بفتح المواصلات وإبقائها حرة للتبادل التجاري بين الإسكندرية ورشيد والقاهرة، فإنه؛ أي «فريزر» من ناحيته سوف لا يتدخل في أمر حكومة البلاد الداخلية فحسب، بل وسوف يسدي إلى الباشا أية خدمة في مقدوره إسداؤها إليه نظير أن يقوم الباشا من جانبه بإطلاق سراح الأسرى، وأما نوع هذه الخدمة، فلو أنه لم يذكر صراحة، فالمفهوم أنه مبلغ من المال الذي يفتقر إليه الباشا بدرجة بلغت ذروتها القصوى.
وليس من شك في أن عقد معاهدة صداقة مع محمد علي قد تأتي ببعض الفائدة الوقتية، مع ذلك إتاحة الفرصة لنا لتحصين هذا المكان (الإسكندرية) بصورة تدفع عنه العدو مهما عظمت جهوده، وعامل الوقت يتكفل من ناحية بإضعاف ثقة الأرنئود في أنفسهم، وهي الثقة التي سببتها أخطاؤنا نحن، وبتقوية روح جنودنا المعنوية من ناحية أخرى، وهم الذين أضعفت النكبات الأخيرة عزائمهم، ولكن لا ترجى فائدة ينتفع بها بصورة ثابتة من محالفة تعقد مع طراز من الرجال المرتزقة والذين لا يوثق فيهم، كهؤلاء الأرنئود، وسوف ينتهز عندئذ المماليك الذين يصبحون في هذه الحالة أعداء لنا كل فرصة لتحريضهم على الثورة والعصيان، أو على الأقل على الهرب من الصفوف، ثم إن الوكلاء الفرنسيين سوف يقبلون بكل غيرة وهمة على مساعدة المماليك في ذلك، ومع أنه ليس هناك ما يجعلنا نخشى على سلامة الإسكندرية، فقد تضطرب مواصلاتنا مع سائر جهات البلاد اضطرابا عظيما، فصلا عن أن الأهلين سوف يفزعهم ويرعبهم قيام محالفة من شأنها تقوية أولئك الذين استبدوا بهم وأرهقوهم بمظالمهم.
لقد سمح للكابتن «ديلانسي» من آلاي الفرسان الدراجون العشرين، وأحد الضباط الذين أسروا في واقعة الحماد بأن يصحب ترجمان الباشا، وقد وقفت منه على بضع حقائق أرى من واجبي أن أبلغكم إياها.
فالجند الذين هاجموا قسم الجيش الذي كان بالحماد تحت قيادة الكولونيل «ماكليود» لم يزد عددهم على الألفين، وعندما تعجبت من أن ثمانمائة جندي بريطاني يبيحون لمثل هذه القوة أن تلحق الهزيمة بهم، أجاب الكابتن «ديلانسي» بأن الضباط والجنود جميعا كان قد بلغ توقعهم الفشل درجة لا مفر معها من حدوث مثل هذه الكارثة لو أن عدد العدو كان ألفا فقط، ولكنه مما تجب ملاحظته أن جنودنا كانوا مقسمين إلى ثلاث أو أربع فصائل صغيرة، الأمر الذي جنى منه العدو فوائد عظيمة. وعدا ذلك فإنه يستبين من تقرير الكابتن «ديلانسي» أن عملية التقهقر من الحماد لم تنفذ بحكمة.
وإنها لحقيقة مؤسية ومحزنة أن الفشل الذي أصاب جنودنا في هجومهم الأول على رشيد ومشاهدة عصابات الأرنئود المتوحشة، تقطع رءوس الجرحى، قد أحدثا أثرا عميقا في النفوس، حتى إن اليأس والقنوط شملا الجيش بأسره، فبولغ في تقدير قوة العدو وبسالته، وصرنا نسلم دون خجل أو حياء بأننا عاجزون عن الدفاع عن الإسكندرية، وذهب كثير من الضباط الممتازين لأيام قليلة خلت إلى أن الجلاء السريع هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها إنقاذ الجيش من التحطيم والفناء، ولقد شرفني الجنرال «فريزر» باستشارتي في مناسبة وحكمة اتخاذ مثل هذا الإجراء، فأبديت معارضتي له بأقصى شدة ممكنة، الأمر الذي أرجو أن تنال موافقة جلالة الملك، وقوات باشا مصر لا تزيد على سبعة آلاف رجل يحتفظ بألفين منها في القاهرة، وفي وسعنا بمساعدة الأسطول أن نحول دائما دون اقتراب العدو منا من ناحية جانب المدينة الشرقي، وسوف يكفي - في رأيي - لردعه ومنعه من مهاجمتنا من ناحية الجانب الغربي، معرفته (أي العدو) لكل تلك الصعوبات التي سوف يصادفها عند عبوره الصحراء بمدافعه الثقيلة وذخائره ومؤنه، وحتى إذا سلمنا بأن في قدرته تذليل كل هذه العقبات، فماذا يمكن أن يخشاه جيش بريطاني من حوالي الأربعة آلاف مقاتل من جند من الأتراك يبلغون الخمسة آلاف؟
ومما يدعو للأسف كثيرا أن تكون نسبة الأجانب في الجيش كبيرة، لا سيما وأن آلايا من الآلايات التي تضم إليها أجانب يتألف برمته من مجنديهم، وإذا حدث أن تعرضت هذه المدينة (الإسكندرية) لهجوم العدو عليها، فإن الجنرال «فريزر» الذي لا يزال يرقب السكان بعين ساهرة ولا يطمئن إليهم، ولا يثق في الجنود الأجانب الذين هم تحت قيادته، لا يريد المخاطرة بالخروج من المدينة لقتال العدو، ولو أن الاشتباك في معركة مع العدو خير فرصة لاسترجاع تفوق جيشنا على جيش العدو؛ حيث أنه لا مجال لأي شك في أننا سوف ننتصر عليه انتصارا تاما، نتمكن بفضله من استعادة النفوذ الذي فقدناه.
ولقد أغريت بطريق الهدايا العربان البدو ليس على إمداد المدينة بالمؤن فحسب، بل وإظهار أنفسهم كذلك في حشود كبيرة في إقليم البحيرة المجاور لنا بدرجة جعلت الأتراك حتى هذه اللحظة لا يعتبرون من الحكمة القيام بجهد نشيط لوقف ومصادرة الإمدادات التي تأتينا، ولقد ترتب على المثابرة في تزويد هذه المدينة بكل ما تحتاج إليه من ضرورات الحياة أن صارت كل مجهودات العدو لقطع مواصلاتنا مع داخل البلاد لا جدوى منها، ولا يمكن أن ينجم عنها أي انزعاج لنا؛ حيث إنه صار لدينا من المؤن الآن ما يكفينا لمدة ستة شهور.
ولم أسمع من البكوات منذ بعض الوقت، ولكنني أعرف أن إبراهيم بك وجماعته لا يزالون بالقرب من المنيا، وأن شاهين بك الألفي في مكان غير بعيد من بني سويف، ويدعي الباشا وأنصاره أن معاهدة صلح وسلام قد أبرمت بين الباشا والمماليك، ولكنه يبدو أن لا أساس إطلاقا لهذا الزعم، فلو أن معاهدة قد عقدت فعلا بين الفريقين، لكان خبرها قد أذيع وعرفه الناس قاطبة، ولأقيمت المهرجانات احتفالا بهذه المناسبة، ولأجيز الاتصال والتعامل بحرية بين القاهرة والصعيد، وذلك كله ما أعرف يقينا أنه لم يحدث.
وقد بعث «مسيت» طي رسالته هذه إلى «كاسلريه» بصورة من كتابيه السابقين إلى «فريزر» بتاريخ 8 مايو، وإلى «أيري» بتاريخ 11 مايو، وفي الأول يذكر حضور النجدات إلى محمد علي من الشام وقبرص ونزولها بدمياط، ويطلب وضع سفينة مسلحة عند هذا الميناء الأخير لمنع نزول هذه النجدات بها، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الكتاب، وفي الثاني ينقد «مسيت» تصرف القيادة في نقل بعض المؤن كالتمر والشعير والعتاد من مختلف الأنواع إلى السفن في ميناء الإسكندرية، ثم جواب أحد كبار الضباط على مستفسر من الإسكندريين عن سبب هذا بضرورة اتخاذ هذا الإجراء استعدادا للطوارئ، مما سبب ذعر الأهلين، وكان بيت القصيد من إرسال صورة هذا الكتاب إلى «كاسلريه» ما سطره «مسيت» في ختام كتابه هذا، وهو أن تقرير أن الجيش على وشك الإبحار من الإسكندرية، سوف يشجع - دون شك - أعداءنا، ويوهن من عزائم أصدقائنا، إذا تبقى لنا أصدقاء فعلا؛ ولذلك يجب - في رأيي - فعل شيء لإزالة أية فكرة عن أن في عزمنا إخلاء الإسكندرية.
تلك إذن كانت محاولة «مسيت» لإحباط مفاوضات محمد علي، ولإقناع حكومته بضرورة عدم إخلاء الإسكندرية، والمضي في سياستها التقليدية من حيث مناصرة البكوات المماليك، وعدم استبدال المحالفة مع محمد علي بالمحالفة معهم.
على أن الذي يسترعي النظر من كل هذه التفصيلات التي جاءت في رسائل «فريزر» و«مسيت» إلى كل من الجنرال «فوكس» والوزيرين «وندهام» و«كاسلريه» بشأن مفاوضات جس النبض الأخيرة بين «فريزر» وترجمان الباشا - الذي صحبه «ديلانسي»، ولو أن هذا الأخير اقتصرت مهمته - كما يبدو - على الإفاضة في وصف حسن المعاملة التي يلقاها الأسرى الإنجليز على يد محمد علي والإشادة بما يظهره الباشا من عواطف طيبة نحو الإنجليز، ورغبة صادقة في الاتفاق معهم إلى جانب التصديق على صحة القائمة التي أرسلها محمد علي بأسماء الأسرى الإنجليز في القاهرة، نقول: إن الذي يسترعي النظر من هذه التفصيلات رغبة محمد علي في عقد محالفة مع الإنجليز ضد أعدائه وأعدائهم المشتركين إلى جانب جلاء الإنجليز عن الإسكندرية ودخول هذه في حوزته، ويكشف هذان المطلبان على مدى ما بلغه تطور تفكير محمد علي من الناحية السياسية في هذه المرحلة، ووضع الأسس التي استند عليها برنامج نشاطه السياسي وقتئذ، من حيث العمل لضمان استقراره في الحكم والولاية وإزالة أخطر العقبات التي تعترض هذا الاستقرار، والتي كان مبعثها عدم الاطمئنان إلى موقف الباب العالي منه ومناصبة البكوات المماليك العداء له، ولقد كان عزم الباب العالي على إرسال سليمان باشا خصوصا ويوسف جنج لنجدته آخر دليل في نظر محمد علي على أن الباب العالي بالرغم من الكوارث التي نزلت بالدولة في الداخل والخارج معا: فتنة الانكشارية وعزل السلاطين وتوليتهم، وثورة الوهابيين في بلاد العرب، واضطراب الأحوال في سائر ولايات الدولة، واشتباك السلطنة في حربها مع الروس والإنجليز، ونزول الأخيرين في الإسكندرية واستيلاؤهم عليها، لا ينفك يحيك الدسائس له، ولا يتردد في أول فرصة مناسبة عن نقله أو عزله أو الغدر به.
وأما البكوات المماليك فقد اتضح مبلغ عنادهم، ورسوخ كراهيتهم له في قلوبهم منذ أن فشلت كل مساعيه للصلح والاتفاق معهم، حتى إنهم لم يرضوا بالوقوف موقف الحياد في النضال بينه وبين الإنجليز إلا استجابة لنداءات «دروفتي» في ظاهر الأمر على الأقل، حيث كان انقسامهم بسبب تحاسدهم وتنافسهم على الرياسة وتشاحنهم، مبعث تخاذلهم والعلة الحقيقية في عدم انضمامهم إلى الإنجليز، والتعاون معهم في عملياتهم العسكرية، وكان من أسباب عنادهم وإصرارهم على طرد محمد علي والأرنئود من القاهرة، ومن البلاد بأسرها حتى تدين لهم السلطة في هذه الولاية على غرار ما كان لهم فعلا قبل أن ينتزع الفرنسيون منهم هذه السلطة إبان احتلالهم للبلاد، استناد فريق منهم على مؤازرة الفرنسيين أنفسهم، واستناد فريق آخر على مؤازرة الإنجليز.
ولقد جمعت المصلحة المشتركة بين الممثل الفرنسي في مصر وبين محمد علي، فاطمأن الأخير من ناحية فرنسا، وعرف كيف يفيد من ظروف الصراع الدائر بين إنجلترة وفرنسا لاستخدام «دروفتي» في تضليل البكوات وشل حركتهم، ولكن جماعة البكوات من بيت الألفي أصدقاء الإنجليز وحلفائهم، كانوا مصدر متاعب أشق وأقسى بسبب خصومة الألفي الكبير وخصومة «مسيت» له، ثم استفحل الخطر منهم، حينما احتل الإنجليز الإسكندرية، وطفق «مسيت» و«فريزر» يتراسلان مع جماعة المماليك التي عرفت حتى هذا الوقت بميولها الفرنسية، ولم يكن هناك معدى إذن عن تجريد البكوات من هذه القوة التي يعتمدون عليها - قوة الصداقة والمحالفة مع الإنجليز - إذا شاء الباشا الاستقرار في حكومته وولايته، ولقد كانت مسألة المماليك من المسائل التي احتلت مكان الصدارة في تفكير محمد علي - كما أوضحنا مرارا - زد على ذلك أن الانهزامات الأخيرة التي لحقت بالإنجليز لم تخدع الباشا لدرجة الاستهانة بأمر هؤلاء، فهو قد عرف عنهم أنهم هم الذين ساهموا بأكثر نصيب في إخراج الفرنسيين من مصر، وفي وسعهم إذا جد الجد أن يبعثوا بنجدات قوية إلى الإسكندرية، ولن يحول حائل دون وصول هذه النجدات؛ لأن لهم السيطرة في البحر الأبيض، وفي استطاعتهم أن يضربوا حصارا على مصر لا يقل صرامة عن حصارهم لها أيام حملة بونابرت، ثم إن نابليون العظيم صاحب الانتصارات الباهرة في القارة الأوروبية قد عجز عن هزيمتهم، وتعذر عليه غزوهم في عقر دارهم، وفشل في انتزاع السيطرة البحرية منهم، والإنجليز فوق هذا أعداء الباب العالي اليوم، وإذا كان نابليون قد عجز عن دحرهم، فكيف يتسنى للباب العالي أن يهزمهم، وإن محالفة يعقدها الباشا معهم قمينة بدفع أي اعتداء قد يقع عليه، إما مباشرة أو بطريق غير مباشرة من جانب الباب العالي، غير أن استقرار الحكم يستلزم حتما بسط سلطانه على باشويته بأسرها، ولا محيص لذلك عن دخول الإسكندرية أهم ثغور القطر في حوزته، ولا بد لذلك من إجلاء الإنجليز عنها، ولما كان هؤلاء قد أكدوا مرارا وتكرارا أنهم لم يجيئوا إلى هذه البلاد لغزوها واحتلالها، وإنما غرضهم من الاستيلاء على الإسكندرية هو منع نزول الفرنسيين بها لعدم تهديد سيطرتهم في البحر الأبيض، أو تعطيل مصالحهم التجارية في الليفانت أو إحياء خطر النزول على ممتلكاتهم في الهند من جديد، ففي وسع الباشا أن يتعهد لهم بمنع نزول الفرنسيين في هذه البلاد، أو مرورهم منها إلى الهند، وفي وسعه كذلك أن يتعهد لهم بحماية مصالحهم التجارية في مصر بل وتعزيزها، ثم إنه إذا كان «دروفتي» قد أقبل على مؤازرة الباشا بكل ما وسعه من جهد وحيلة، فقد ندر أن بعثت إليه حكومته بتعليماتها، واتخذ الوكلاء الإنجليز من ذلك سببا لإذاعة أن «دروفتي» لا يلقى تأييدا من حكومته لسياسته، وعلاوة على ذلك فقد أذاع هؤلاء الوكلاء دائما أن الفرنسيين يريدون احتلال مصر، ثم أكد أسرى الإنجليز في القلعة أن لا غرض لحملتهم سوى منع الغزو الفرنسي وهذا الاحتلال، وراح «فريزر» بدوره يؤكد ذلك في كل مناسبة وفي كل اتصالاته مع البكوات المماليك خصوصا؛ ولذلك فإن من الخير أن تنص محالفته مع الإنجليز ضمن أهدافها على رد الفرنسيين عن هذه البلاد، بل ويقتضيه الحذر أن يطلب هو ذلك.
وثمة حقيقة أخرى، وهي أن هذه الأخطار ذاتها، سواء كان مبعثها غزو الإنجليز للإسكندرية أو الخوف من غزو آخر قد يأتي البلاد من جانب فرنسا، أو عناد البكوات المماليك وإصرارهم على طرده من الحكم والولاية، أو عدم الاطمئنان إلى نوايا الباب العالي نحوه، والخوف من تدابيره ودسائسه لانتزاع باشوية القاهرة منه، قد جعلت الباشا يمعن الفكر في خير الوسائل التي تدفع عنه الأذى، وتكفل له الاستقرار في حكومته، وكان خيرها في نظره أن يظفر لباشويته بوضع مشابه لباشويات وجاقات الغرب الثلاث؛ طرابلس وتونس والجزائر في علاقاتها مع الباب العالي (أي تأسيس الحكم الوراثي في مصر)، وهو وضع لا يمكن الظفر به إلا إذا أوجد له حلفاء أقوياء، يناصرونه في مسعاه لدى صاحب السلطان الشرعي عليه، أو يبادرون بالاعتراف به، فلا يجد الباب العالي مناصا من التسليم بالأمر الواقع، ومع أن محمد علي لم يكشف عن نواياه هذه في مرحلة المفاوضات الأولى، وهي مرحلة لجس النبض فحسب، فقد كان هذا المشروع - دون شك أو ريب - مختمرا في ذهنه، ولم يلبث أن كشف عنه في مراحل المفاوضات التالية، ثم إنه طفق يسعى جديا لدى الباب العالي لتحقيقه بعد ذلك.
فلا موضع للدهشة أو الغرابة إذن لكل هذه الاعتبارات التي ذكرناها إذا عرض الباشا على الإنجليز الآن صلحا، يستبدل بمحالفتهم مع المماليك المحالفة معه هو، ويقوم على اعتبار الأتراك والفرنسيين أعداء مشتركين له ولهم، يحقق للإنجليز المزايا التي ذكرها ترجمانه للجنرال «فريزر»، ويحقق للباشا - كثمرة عاجلة لهذه المحالفة استيلاءه على الإسكندرية، وهي التي ظلت حتى هذا الحين خاضعة لإشراف القسطنطينية رأسا، ويأتيه بالثمرات الأخرى التي انتظرها منه، ولم يظهر محمد علي في مفاوضته هذه بمظهر المتهافت على مصلحة الإنجليز، أو الرجل الضعيف الذي يخشى أذاهم وشرهم، فهو ما فتئ يكمل استعداداته دبلوماسيا بشل حركة حلفائهم المماليك وعسكريا بجمع الجند واستقدام النجدات وحشد الجيوش، ويعلن إليهم أن بوسعه إذا شاء ومتى شاء أن يأخذ الإسكندرية منهم عنوة، وللإنجليز أن يختاروا بين استئناف القتال أو إبرام الصلح معه، وأما إذا كانوا لا يؤثرون التحالف معه على محالفتهم مع المماليك، ولا يريدون تسليم الإسكندرية، ولا يبغون أن ينشئوا معه علاقات محبة وصداقة، فما الذي يفيده محمد علي من ترك الإسكندرية في أيدهم، وأي خدمة تلك أو جميل وصنيع في وسعهم أن يقدموهما له، يمكن أن تعوض عليه خسارة الإسكندرية، وبقاء هذه في قبضة جيوش أجنبية لدولة هي في حرب مع الباب العالي ومعه، لا ينفك ممثلوها ووكلاؤها عن تحريض البكوات المماليك وهم خصومه الألداء على قتاله لإخراجه من باشويته.
غير أن هذا الأسلوب الذي اتبعه الباشا في إشعار «فريزر» بنواياه كان من الدقة بحيث فات «فريزر» إدراك غايات محمد علي وأهدافه، فعد مقترحاته - كما رأينا - غير معقولة وغير مفهومة، وراح يوضح لترجمان الباشا المزايا التي تعود عليه من بقاء الإسكندرية في حوزة الإنجليز أنفسهم واستمرار هؤلاء في احتلالها، وخيل إليه أن مقصد الباشا من سؤاله عن الجميل أو حسن الصنيع الذي في وسع الإنجليز أن يقدموه له، أنه يبغي تعويضا ماليا عن الأسرى الإنجليز الذين يطلق سراحهم، ولم يدرك غرض الباشا من مقترحاته هذه سوى «مسيت» الذي جعلته خصومته لمحمد علي وتشككه لذلك في كل ما يصدر عنه حاد الذهن في هذه الناحية خصوصا، ومتيقظا لسبر غور الرجل الذي بذل - دون جدوى - كل ما وسعه من جهد وحيلة لطرده من الولاية؛ ولذلك فقد انبرى «مسيت» يحطم مشروع المحالفة المقترحة، وهو لا يزال في مهده، وساق كل ما اهتدى إليه فكره من حجج ودعاوى لإقناع وزير خارجيته بعبث التحالف مع محمد علي، وتضحية المماليك أصدقاء الإنجليز القدماء.
ومهما يكن من أمر، فقد عاد ترجمان الباشا إلى القاهرة وبصحبته الكابتن «ديلانسي»، فبلغاها في 21 مايو، ومع أن «فريزر» رفض في جوابه إخلاء الإسكندرية، فقد تحدث - كما عرفنا - عن رغبته في إنشاء علاقات الود والصداقة مع محمد علي، وطلب من الأخير دليلا على حسن نواياه، وما يكنه من عواطف طيبة نحو الإنجليز أن يبادر بإطلاق سراح أسراهم - لا بد أن يتوقع محمد علي نظير ذلك الحصول على مبلغ معقول من المال - ولم يغلق القائد الإنجليزي باب المفاوضة معه، بل سأله أن يوضح أغراضه ونواياه ويحدد مطالبه، فحققت هذه المفاوضة الغرض المباشر منها، وهو جس نبض الإنجليز، وعرف الباشا أن الإنجليز لن يتخلوا عن الإسكندرية إلا إذا أرغموا على ذلك إرغاما، وأن الأمل في إمكان الاتفاق والتفاهم معهم لا يزال باقيا، ومن الممكن كسب صداقة الإنجليز - على الأقل - إذا تعذر عقد محالفة صريحة معهم متى اتضح لهم أن لا مفر من ضياع الإسكندرية من قبضتهم، وأن أصدقاءهم المماليك لن يحضروا لنجدتهم، وأن سلطان الباشا في القاهرة يستند على حكومة قوية الدعائم.
وقد بادر «دروفتي» بالكتابة إلى «سباستياني» في 27 مايو، يبلغه ما استطاع الوقوف عليه من نتائج هذه المفاوضة، فقال: إن «فريزر» قد وجد من المناسب الدخول في المفاوضة مع محمد علي، واقترح أن تأتيه تعليمات حكومته بصدد المقترحات التي قدمها إليها ترجمان الباشا - وهي المقترحات التي أبلغ محمد علي نفسه فحواها إلى «دروفتي» ولم يشر فيها الباشا من قريب أو بعيد إلى المحالفة التي عرضها على «فريزر» - أن تقف الأعمال العدوانية بين الفريقين، وأن تطلق حرية المعاملات التجارية بين الإسكندرية وبين القاهرة وغيرها من مدن القطر، ثم أكد القائد الإنجليزي عدم استطاعته التخلي عن الإسكندرية، وذكر سانت مارسيل بعد أيام قلائل أول يوليو أن الإنجليز يريدون تأسيس محطات تجارية بين الإسكندرية والقاهرة، ولكن الباشا يعرف النتائج التي تترتب على إنشاء هذا الخط من المواصلات الذي من شأنه أن يمهد لحدوث أنواع من الإغراءات والمناورات ذات العواقب السيئة.
ولم يصل «فريزر» في الأيام التالية أي جواب من محمد علي بالرغم من تأكيد ترجمان الباشا له عند مبارحته الإسكندرية أنه سوف يسمع قريبا جدا من سيده، فقال «فريزر» في كتابيه إلى «وندهام» وإلى «فوكس» أنه لم يبلغه أي خبر من محمد علي في القاهرة منذ رسائله الأخيرة إليهما، وفي 16 يونيو بعث إلى «وندهام» يقول إنه منذ رسالته بتاريخ 30 مايو لم يبلغه شيء من محمد علي سواء فيما يتعلق بمسألة الأسرى، أو بالمقترحات التي عرضها علينا بطريق ترجمانه عن رغبته في إنشاء الصلات الودية معنا، وقد تقدم كيف أن «فريزر» عزا هذا السكوت من جانب محمد علي إلى انشغال هذا الأخير بمسألة ياسين بك الأرنئودي الذي قال عنه «فريزر»: إنه تارة ينحاز إلى المماليك، وتارة أخرى إلى محمد علي، وقد ذكر «فريزر» في رسالته هذه أن قتالا قد نشب من مدة قريبة بين جند الباشا وبين جند ياسين، انتصر فيه هؤلاء الأخيرون، والحقيقة أن الباشا الذي أدرك عدم جدوى استئناف المفاوضة قبل أن يقوى مركزه بالدرجة التي تقنع الإنجليز بأنه من الخير لهم الاتفاق والصلح معه، وكان قد صرف كل جهده في الشهور القليلة التالية لإنجاز استعداداته العسكرية، وإخماد حركة العصيان التي قام بها ياسين بك، ومحاولة حمل البكوات المماليك على التزام خطة الحياد على الأقل عند استئناف العمليات العسكرية ضد الإنجليز، وهكذا ركدت المفاوضات فترة من الزمن.
على أنه إذا كان محمد علي قد انشغل في المدة التالية بمفاوضاته مع المماليك وتجهيز جيشه، وإذا كان «فريزر» قد انشغل من ناحيته بإنجاز تحصين الإسكندرية، وتقوية خطوط دفاعه عنها، وتزويدها بالمؤن والأغذية، واستقبال النجدات التي أتته مع «شربروك» في 29 مايو، فقد كان «مسيت» من ناحيته دائب النشاط لتحقيق ما أخذ على عاتقه أن يفعله، وهو إبطال حصول أي اتفاق أو محالفة مع محمد علي، فراح يكتب إلى «كاسلريه» في 29 مايو، وإلى «جورج كاننج»
Canning
في 13 يونيو - وزير الخارجية في وزارة «بورتلاند»
- ثم إلى «كاسلريه» مرة أخرى في 17 يونيو، ومرة ثالثة في 23 يوليو، يدعو إما صراحة وإما بطريق الإيحاء أو التلميح والإشارة إلى أمور ثلاثة؛ عدم الاتفاق مع محمد علي، بل العمل بدلا من ذلك على طرده من الحكم والولاية وإبعاده هو والأرنئود من هذه البلاد، ثم استمرار المحالفة مع البكوات المماليك والركون إلى أنهم سوف يؤازرون الإنجليز في عملياتهم العسكرية في النهاية، وأخيرا عدم التخلي عن الإسكندرية والتمسك بها مهما كانت الظروف والأحوال؛ أي إن «مسيت» حاول أن يفرض على حكومته ذلك البرنامج الذي سعى هو من قديم إلى تحقيقه، والذي كان أحد عواقبه كل ما حل بحملة «فريزر» من هزائم، وتستبين الحجج التي استند عليها «مسيت» في تعزيز وجهة نظره بمراجعة رسائله إلى «كاسلريه» و«كاننج» في هذه الفترة.
أما رسالته الأولى إلى «كاسلريه» بتاريخ 29 مايو، فكانت مناسبتها ورود رسالة إلى «مسيت» من شاهين بك الألفي، تصف ما يحدث من مكائد ومؤامرات في المعسكر المملوكي، وتوضح الأسباب التي تمنع البكوات من الانضمام إلى الإنجليز في الوقت الحاضر إما عن عجز - كما قال - وإما عن عدم رغبتهم في ذلك، وقد سبق ذكر ما تضمنته هذه الرسالة، وما جاء بخطاب شاهين الألفي إلى «مسيت»، وأما رسالته إلى «جورج كاننج» بتاريخ 13 يونيو، فكانت مناسبتها ما بلغه من السير «ألكسندر بول» حاكم مالطة عن إرسال حكومة روسيا أحد وزرائها للمفاوضة في الصلح مع الباب العالي، وأنه من المتوقع لذلك أن توفد الحكومة الإنجليزية أحد سفرائها إلى القسطنطينية للتعاون مع الوزير الروسي في هذه المفاوضة، فرأى «مسيت» من واجبه أن يعرض على «كاننج» بعض ملاحظاته عن الموقف السياسي في مصر.
وقد استهل «مسيت» هذا العرض بقوله: «إن محمد علي - باشا مصر الحالي - مدين لدرجة كبيرة في المركز الذي يشغله الآن لمكائد ومؤامرات وكلاء فرنسا وتشجيعهم ونصحهم له، ورضي لبضعة شهور بعد استلامه أزمة الحكم في هذه البلاد بأن يرضخ تماما لإرشاداتهم، ولقد نجحت بعد ذلك في أن أثير في ذهنه الشك من ناحية إخلاص نوايا أصدقائه هؤلاء المزعومين، ولم يعد لدي من الأسباب بعد هذا ما يجعلني أشكو من أنه يبدي تحيزا للأمة الفرنسية، ولكنني أخشى أن يجعله التحالف القائم الآن بين فرنسا والباب العالي، وعلى وجه الخصوص ذلك النفوذ الذي صار لكبير الوكلاء الفرنسيين «دروفتي» عليه منذ نزول الجنود البريطانيين الأخير في هذه البلاد، أقوى ارتباطا من أي وقت مضى بمصلحة العدو (فرنسا)، حقيقة لقد رغب من أمد طويل أن يصبح مستقلا عن الباب العالي، وربما يتسنى إغراؤه بفصم كل علاقاته وارتباطاته مع فرنسا، لو أننا رضينا بمؤازرته مؤازرة قوية على بلوغ غرضه وتحقيق أطماعه، ولكنه من غير المحتمل - على ما يبدو - حين عودة السلام بين بريطانيا العظمى والباب العالي أن يعمد وزراء جلالة الملك (الحكومة الإنجليزية) إلى اتباع تدبير سياسي من هذا الطراز فيما يتعلق بمصر، فلقد دلت تجارب سنوات عدة على أنه طالما بقي الجيش العثماني في مصر يتألف أكبر قسم منه من الأرنئود، فمن المتعذر بتاتا أن تحظى هذه البلاد بعهد من النظام والهدوء والسكينة، بل على العكس من ذلك، فإن ما تتصف به العصابات من الجند المرتزقة من غدر وخيانة، من شأنه أن يرمي بالبلاد في أحضان ثورات متتابعة يمتنع بسببها عن الحكومة القائمة التمتع بأي استقرار وقوة يلزمانها لمقاومة الأعداء الذين قد يغزون هذه البلاد مقاومة نشيطة فعالة.
وبسبب هذه الظروف إذن، ولأنه لا يساورني أي شك في أن حكومة جلالة الملك سوى ترى من الحكمة وأصالة الرأي الاحتفاظ بالإسكندرية على الأقل، حتى يتم عقد السلام العام، يبدو لي ضروريا أن تعمل الحكومة البريطانية على إرغام محمد علي والأرنئود سويا على إخلاء هذه البلاد، وأن تعمل على إعادة تأسيس الحكومة المملوكية بها، فبهذه الوسيلة وحدها يمكن إنهاء الحروب الأهلية التي جرت الخراب على هذا القطر الذي عرف في الماضي بخصوبة أرضه، فتنتعش التجارة والزراعة مرة أخرى، وتضمن الفوائد التي سوف يجنيها الأهلون من هذا الانتعاش استعلاء نفوذنا، ولا أشك في أن البكوات لقاء إرجاع حقوقهم وامتيازاتهم القديمة إليهم، سوف يقبلون مختارين الدخول في اتفاق معنا من أجل الدفاع عن البلاد إذا وقع هجوم عليها.
ومنذ أن صارت للأرنئود السيطرة في القاهرة، لم يظفر الباب العالي بشيء من إيرادات مصر، ولقد أعلن الباب العالي من وقت مضى بعد هذا الحادث أن الأرنئود عصاة متمردون، ومرد امتلاكهم دون منازع لهذه البلاد التي اغتصبوها، إنما هو إلى وهن الباب العالي وعجزه؛ ولذلك فلا يسع الباب العالي إلا أن يشكر لجلالة الملك فضله لاستخدامه جنده في استرجاع مقاطعة كهذه، وردها إليه بعد أن كان قد فقدها.
ومن واجبي أن أعترف - عدا ما ذكرت من أسباب سياسية - بأن الأمل في أن يسترد الجيش البريطاني تلك السمعة اللامعة التي فقدها، هو السبب القوي الذي يدفعني إلى المناداة بضرورة طرد الأرنئود، فهل من الحق أن يسمح لهؤلاء المتبربرين أن يستمتعوا بنصر لم يحرزوه بفضل بسالة أظهروها، وإنما جاءهم بسبب ظروف طارئة، وهل من العدل أن نتركهم دون عقاب على قسوتهم مع جرحانا في الهجوم الأول على رشيد، وهل من الحكمة أن ندع العالم بأسره يعتقد تفوق الجنود الأتراك على الجنود البريطانيين؟!
ومع ذلك، فمن واجبي كذلك ألا أخفي عنك أن تحقيق هذا الغرض يتطلب الآن قوات أعظم بكثير مما كان يكفي لبلوغه قبل ذلك بستة شهور، فمن المنتظر قطعا أن يبدي الأرنئود الذين أكسبهم انتصارهم الأخير علينا ثقة كبيرة في أنفسهم بعض المقاومة، ومن المحتمل أن يرفض المماليك الانضمام إلينا، حتى نحرز تفوقا في ميدان القتال، ولقد تم تحصين القاهرة، والباشا يبذل همته لتزويد القلعة المسيطرة على هذه المدينة بالمؤن والذخائر يوميا.
ولما كان من المقطوع به أن أحد أحزاب المماليك - وهو حزب البرديسي - مناصر للمصالح الفرنسية، فإني أوصي في حالة إرجاع الحكم إلى البكوات بحرمان هذا الحزب من المساهمة في هذه الحكومة، فإذا لم يسمح لرؤساء هذا الحزب بالدخول إلى القاهرة، واستمر إرغامهم على العيش في الصحراء، فهنالك ما يدعو قطعا إلى توقع انفضاض أتباعهم من حولهم، ومن شأن ذلك أن يجعلهم عاجزين عن تعكير صفو السلام العام.»
وفي رسالته الثانية إلى «كاسلريه» بتاريخ 17 يونيو، تحدث «مسيت» عن مهمة مندوبي شاهين الألفي، أحمد بك وأمين بك في الإسكندرية، كما بسط مسألة «بتروتشي» الذي استطاع بفضل النفوذ الذي كسبه لدى الباشا في القاهرة، أن يبعث باليوناني «قسطنطين كاريري» إلى الإسكندرية عن طريق رشيد، حتى يدلي بمعلومات صحيحة عن عدد من النقاط التي يهم «مسيت» معرفتها، وقد سبق أن تكلمنا عن هذه الرسالة، ولما كان «مسيت» قد سجل أجوبة هذا اليوناني على أسئلته، فقد بعث طي رسالته إلى «كاسلريه» بمحضر استجواب «كاريري »، وجاء في أقوال هذا الأخير: أولا: أن السيد «بتروتشي» قد طلب منه أن يبلغ «مسيت» بأن الباشا يميل كثيرا للوصول إلى اتفاق مع القائد العام البريطاني «فريزر» بشأن إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، ولكنه يخشى مما قد يقدمه الوكيل الفرنسي ضده من أقوال واحتجاجات إلى الباب العالي، فقد مضى أكثر من ثلاثة شهور دون أن يصل شيء إلى الباشا من القسطنطينية، وصار لذلك في وسع الوكيل الفرنسي أن يخدعه بالطريقة التي تحلو له في كل ما يتعلق بعمليات الجيوش الروسية والفرنسية العسكرية، حتى إنه حدث قبل مغادرتي للقاهرة بوقت قصير أن أعلن الوكيل الفرنسي رسميا أن بونابرت قد استولى على بطرسبرج، ولكنه لما كان السيد «بتروتشي» قد أكد للباشا أنه بدلا من الاستيلاء على بطرسبرج قد انهزم الفرنسيون على يد الروس في أكثر من موقعة، فقد رجاه الباشا أن يزوده بكل ما يمكنه العثور عليه من معلومات عن هذا الموضوع؛ ولذلك يرجو السيد «بتروتشي» أن تبعث إليه بتفاصيل المعارك، وثانيا: أن التذمر سائد في صفوف جند الباشا الذين طالبوا حديثا بمرتباتهم في صياح وضجة غير عاديين، وأن الباشا الذي لا يجد من المال ما يجيب به مطالبهم، قد عظمت همومه وصار قلقا مشغول البال كثيرا، وحظى السيد «بتروتشي» بثقته الكبيرة بإقراضه أربعين ألف قرش تركي، وأن عدد جنوده أقل من الثمانية آلاف، وثالثا: وأن الأتراك قد أقاموا سورا حول رشيد، وحصنوا مرتفعات أبي منضور، ووضعوا بطاريات مدفعية على ضفتي النيل عند مصب النهر، وأن عدد الجنود برشيد والجهات المجاورة لها حوالي أربعة آلاف، بعد أن نقص عددهم الذي كان من وقت قريب حوالي الخمسة آلاف، بسبب ذهاب كثيرين منهم إلى القاهرة للمطالبة بمرتباتهم، وأن الجنود الذين برشيد لا ينتوون الزحف على الإسكندرية، بل إن التحصينات التي أقاموها والتي ما برحوا يقيمونها لتنهض دليلا على أنهم أنفسهم يخشون من وقوع هجوم عليهم.
ورابعا: أن في رأي «كاريري» الذي كان برشيد عند الهجوم الأول عليها أن الإنجليز وقتئذ كانوا قد أخذوا المدينة فعلا ، وأولم «بتروتشي» وليمة غذاء للضباط الإنجليز، واندفع الأرنئود بعجلة نحو الشاطئ، فعبروا النهر في قوارب أو على ألواح أو قطع من الخشب، وجلس الجنود الإنجليز في هدوء في جماعات، كل ثمانية أو عشرة منهم معا، ثم في الحوانيت والقهاوي، عندما صدر الأمر بالتقهقر، وأن بطاريات المدفعية الإنجليزية لم تلحق إلا أذى بسيطا بالمدينة أثناء الهجوم الثاني عليها؛ لأن القنابل كانت صغيرة الحجم، ولم يطلق منها سوى عدد قليل طوال كل يوم من أيام الحصار، ووقع كثير منها في النيل، وأن الإنجليز لو أنهم اتخذوا موقعا في الدلتا تجاه رشيد لسقطت هذه في أيديهم؛ لأنه عندما ذهبت فرقة من الجند إلى الجانب الآخر من النهر لتحطيم بطارية من مدفعين، كان الأتراك قد أقاموها هناك، اعتقد الأتراك الذين خيل إليهم أن الإنجليز قد جاءوا لأخذ هذا الموقع والاحتفاظ به، أن الهزيمة قد حلت بهم بسبب ما توقعوه من قطع خط الرجعة عليهم، وخامسا: أن ستمائة من الجند الأتراك قد حضروا من الشام وقبرص، ونزلوا بدمياط في طريقهم إلى القاهرة، ومن المنتظر أن يصل غيرهم وعن طريق دمياط كذلك، حيث يحتشد الجند الأتراك في قبرص، ويستحث الباشا حاكمها على إرسال قسم منهم إليه بكل سرعة، ولن يجد هؤلاء صعوبة في الوصول إلى القاهرة، طالما أنه لا تقف سفينة حربية إنجليزية بالقرب من دمياط لمنع نزولهم بها، وسادسا: أن الباشا لم ينشئ تحصينات جديدة بالقاهرة، وإنما أصلح تحصيناتها القديمة، وأعاد حفر الخندق الذي كان قد أنشأه الفرنسيون وقت احتلالهم، ثم إنه زود القلعة بالذخائر والأسلحة وما إليها، وأخيرا: أن القاهريين عموما لا يعتقدون بأن صلحا قد أبرم بين الباشا وبين إبراهيم بك وجماعته، وأن الباشا وأتباعه وأنصار الفرنسيين هم الذين يروجون هذه الشائعة التي لا أساس لها .
وواضح أن كل غرض «مسيت» من هذا الاستجواب ثم إرساله إلى «كاسلريه» إقناع الأخير بمبلغ ما لدى الوكلاء الفرنسيين من نفوذ على محمد علي، وهو نفوذ إذا كان يخشاه الباشا للأسباب التي ذكرها «مسيت» بدرجة تمنعه من معالجة مسألة الأسرى الإنجليز مع الجنرال «فريزر»، فمن باب أولى أن يكون من أثره انتفاء أي أمل في رعاية المصالح البريطانية الأخرى الهامة، طالما بقي هذا النفوذ الضار في البلاد، وطالما بقي في الحكم الرجل الذي وقع تحت تأثيرهم، وإذا وجد البريطانيون أن من مصالحهم البقاء بالإسكندرية، أو توسيع نطاق عملياتهم العسكرية بصورة تكفل لهم احتلال البلاد بأسرها، وإخضاعها لنفوذهم - على نحو ما كان يريد «مسيت» نفسه - فليس هناك ما يخشونه؛ لأن جنود الباشا لا يبلغ عددهم الثمانية آلاف، يسود بينهم التذمر، ويتعذر على الباشا إرضاؤهم لحاجته الملحة إلى المال، وتحصينات القاهرة ضعيفة، ومن السهل وقف ما يأتيه من نجدات، إذا ضرب الحصار على دمياط من ناحية البحر، ومن السهل كذلك الاستيلاء على رشيد إذا أحكم العسكريون تدابيرهم، فلم تتكرر الأخطاء التي وقعت في الهجومين الأول والثاني عليها، واحتل البريطانيون الجانب الآخر من النهر، ومن المنتظر أن يلقى الإنجليز كل معاونة من البكوات المماليك في هذه المرة؛ لأن هؤلاء لا يزالون يرفضون الصلح والاتفاق مع محمد علي.
واستهل «مسيت» رسالته الثالثة إلى «كاسلريه» بتاريخ 23 يوليو، بالحديث عن جهوده فقال إنه كان مشغولا بفصل بعض قبائل العرب من خدمة الباشا، وببذر بذور الشقاق والخلاف بين تلك التي استعصى عليه إغراؤها بفصم كل علاقة لها به، ولقد ترتب على مجهوداتي هذه أن أحدا من الجنود الأتراك صار لا يجرؤ الآن على إظهار نفسه على الضفة اليسرى لفرع النيل الغربي في هذا الجانب من ناحية القاهرة، وأصبح البدو مسيطرين كل السيطرة على هذا الجزء من البلاد، حتى إنهم بعد أن كانوا يهربون البن وسائر أنواع السلع من العاصمة (القاهرة)، صاروا يحضرونها الآن إلى سوق الإسكندرية دون أن يخشوا من أية مصادرة، حقيقة تدر عليهم هذه التجارة ربحا وفيرا لدرجة إغرائهم بعدم المبالاة بأية أخطار قد يتعرضون لها بسبب هذه المجازفة، ولكنهم ليسوا مدفوعين في هذا العمل خاصة بحافز الأرباح المالية فحسب، الأمر الذي أجد من واجبي أن أسترعي انتباهكم إليه، وأهل مصر والباشا والوكلاء الفرنسيون أنفسهم مقتنعون جميعهم، بأننا سوف نستأنف القتال بمجرد أن تصلنا النجدات الكافية، ولقد وجدت لزاما علي أن أعمل على تعزيز هذا الرأي الذي يكفل وحده استمالة العرب إلى إمدادنا، ويمنع الباشا من محاولة قطع مواصلاتنا مع داخل البلاد، فلو أن الأولين اكتشفوا أن نوايانا نحو مصر لا تتعدى احتلال الإسكندرية، ولو أنهم لم يفترضوا أن هذه البلاد سوف تقع في أيدينا عاجلا أو آجلا ليتقرر مصيرها حسبما يراه جلالة الملك البريطاني لجعلهم الخوف من عاقبة غضب الباشا عليهم في المستقبل ينفون بأغلظ الأيمان وجود أية علاقة لهم بنا، لا يجنون منها نفعا، ولا يخشون شيئا من نبذها، وأما أن الباشا قد صار متيقنا من أننا نعتزم القيام بهجوم ثالث على رشيد، فينهض دليلا على تلك البطاريات التي أقيمت بناء على أمره حولها، وذلك الجيش القوي الذي احتفظ به في الجهات المجاورة لرشيد، والذي يتسنى له استخدامه في وقف الإمدادات ومنعها عنا بالإسكندرية، إذا أمن على ترك رشيد دون وجود جيش لحمايتها، فإذا منع عنا إمداداتنا حرم أهل الإسكندرية من وسائل العيش، واضطرت الحامية إلى الاعتماد على الأغذية المملحة فحسب، وهكذا ترون - يا صاحب السيادة - أن هذين الهجومين اللذين وقعا على رشيد وباءا بالفشل وصاحبتهما الكوارث قد عادا - في واقع الأمر - علينا بنفع عظيم، ولا يجب أن أخفي عنكم أن المماليك، وهم الذين قد رفضوا حتى هذه اللحظة كل عروض الباشا من أجل الصلح معهم، وقاوموا كل مكائد ومؤامرات وكلاء وأنصار فرنسا، من المحتمل جدا أنهم سوف يسلكون طريقا مغايرا، لو أنهم ما صاروا يتوقعون منا أن نعاونهم على امتلاك القاهرة، ولا يمكن الاستمرار طويلا على الخداع والغش الذي هو من صالحنا أن يظل كل مخلوق في مصر، ومن أي نوع كان متأثرا به، وإذا لم يكن لدى حكومة جلالة الملك البريطاني من الأسباب ما يدعوها إلى توقع عقد الصلح قريبا بين بريطانيا العظمى والباب العالي، فرجائي أن تتخذ الحكومة الإجراء الذي ترشدها الحكمة إليه كعمل ضروري ليس لتمكين الجيش من الاحتفاظ بموقفه الراهن من غير أن ينجم عن ذلك إرهاق لأهل الإسكندرية فحسب، بل وتأييد ذلك النفوذ الذي ظفر به في الماضي جيش جلالة الملك، والذي وضعت نصب عيني دائما أثناء السنوات الأربع الأخيرة المحافظة عليه تاما وغير منقوص، وكان في ختام هذه الرسالة أن أعلن «مسيت» خبر وفاة الكابتن «ديلانسي» - أحد الأسرى الإنجليز في قلعة القاهرة.
وفي هذه الرسالة عاود «مسيت» الحديث عن هزيمتي رشيد والحماد، فهون من أمرهما ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وحاول أن يقيم الحجة على أنه بدلا من أن تكون هذه الهزائم من الأسباب التي قد تستند عليها الحكومة الإنجليزية في تقرير الجلاء عن الإسكندرية، يجب أن تكون بفضل النفع العظيم الذي زعم أنه قد ترتب عليها، من دواعي البقاء بالإسكندرية، ثم توسيع نطاق العمليات العسكرية لتمكين المماليك من امتلاك القاهرة، وضرب «مسيت» على نغمة السمعة البريطانية، ووجوب التمسك بها وصولها لإغراء الوزير على الأخذ بمقترحاته، وتعزيز الجيش البريطاني في الإسكندرية، وعدم التخلي عن هذه الأخيرة ما دامت الحرب قائمة بين إنجلترة والباب العالي.
ولكن هذه الجهود جميعها ذهبت سدى، ولم يكن ضياعها إلا لسبب واحد، هو أن الحكومة الإنجليزية قد قررت اتخاذ الإجراء الذي أرشدتها الحكمة إليه، فأصدرت تعليماتها إلى الجنرال «فريزر» بإخلاء الإسكندرية والعودة بجيشه إلى قواعده في صقلية.
الإنجليز يقررون الجلاء
فقد تولى «كاسلريه» وزارة الحرب منذ أواخر مارس سنة 1807 في وزارة الدوق بورتلاند، وكان من رأيه أن وجود جيش الجنرال «فريزر» منعزلا بالإسكندرية، وفي حالة الضعف التي هو عليها لا يفيد سوى فائدة ضئيلة في المجهود الحربي في البحر الأبيض، ومن الواجب أن يشترك هذا الجيش بدور إيجابي في العمليات التي تقتضيها استراتيجية المحافظة على المواقع العسكرية البريطانية في البحر الأبيض، وأهمها صقلية، ومناوأة جيش نابليون الرابض في شبه الجزيرة الإيطالية، والذي ما فتئ يعمل على بسط سلطان فرنسا بها، ثم إخراج تركيا من المحالفة مع هذه الدولة الأخيرة وإقناعها بترضية روسيا، والوقوف موقف الحياد إذا تعذر حملها على الانضمام إلى إنجلترة ورسيا، وقد تأيدت هذه الفكرة لدى «كاسلريه» عندما وصل إلى لندن عن طريق فينا في أبريل سنة 1807، خبر فشل أسطول «داكويرث» أمام القسطنطينية.
وتتضح رغبة «كاسلريه» في إسناد دور إيجابي ونشيط إلى جيش «فريزر» في العمليات المتصلة بالنضال في البحر الأبيض وإيطاليا، عندما صار لزاما عليه معالجة الموقف بعد فشل «داكويرث»، فطلب إلى الجنرال «فوكس» في 25 أبريل أن يجهز قوة للعمل في الدردنيل إذا كان من الممكن القيام بعملية عسكرية هناك من أجل تخويف الباب العالي، وتعطيل إجراءاته العسكرية، على أن تؤلف هذه القوة من الجند الذين يمكن سحبهم من صقلية ومن الإسكندرية، وقد علل «كاسلريه» هذه الخطوة بقوله: إنه يخشى وقد انسحب السير «جون داكويرث» بأسطوله من أمام القسطنطينية دون أن يفعل شيئا حاسما ضد العاصمة، أن ينجح الأتراك في جمع جيش لحمايتها، وتعزيز تحصينات الدفاع عنها من جهة البحر، وذلك قبل أن يتمكن الإنجليز من جمع قوة عسكرية كبيرة في تلك الجهة، وإنه من المرغوب فيه أن يتسنى للإنجليز الوقوف على مدى استعدادات الأتراك في هذه المسألة، وأن يبذل كل مجهود تمليه الحكمة إما باستخدام القوة العسكرية، وإما باللجوء إلى وسائل أخرى لإرغام الباب العالي على أن ينفض عنه نفوذ فرنسا، ويستأنف علاقته مع بريطانيا العظمى وروسيا، ولتحقيق غرض هام كهذا، ونظرا لضعف الجيش الفرنسي في حالته الراهنة في القارة الإيطالية كذا، من واجبي أن أتوقع أنه في وسعك ودون تعريض صقلية لخطر مبعثه الغفلة وقلة التروي لعدم توقع هجوم عليها من ناحية الفرنسيين في إيطاليا تجهيز قوة تضيف إليها جندا من الذين يمكن الاستغناء عنهم من الإسكندرية للعمل في ميدان آخر، تتبين ملاءمة العمل فيه، ومن المحتمل أيضا بعد إضافة هذه القوة إلى الجيش الذي يمكن الحصول عليه من القوات الروسية التي تعمل في جزيرة «كورفو»، والغرض من ذكر هذا كله أن تدخل هذه الاعتبارات في حسابك فحسب؛ حيث إن الحكومة الإنجليزية لم تصلها حتى هذه اللحظة معلومات كافية، تمكنها من إرسال توجيهاتها بشأن القيام بأية عملية عسكرية معينة ...
على أن «كاسلريه» لم يلبث أن نزل عن مشروع تخويف القسطنطينية باستخدام القوة العسكرية ضدها مباشرة، عندما علم بعد أيام قليلة بأمر استعدادات الدفاع التي تمت في القسطنطينية وفي الدردنيل بإرشاد الضباط والمهندسين الفرنسيين، مما يجعل متعذرا نجاح أي عملية عسكرية، يقصد بها تخويف الإسكندرية، إلا إذا أفرد الإنجليز جيشا وأسطولا كبيرين لتحقيق هذه الغاية، فاضطر «كاسلريه» إذن إلى التخلي عن هذا المشروع، وبعث بتعليماته الجديدة هذه إلى «فوكس» في 8 مايو، فقال: إنه قد وصلته منذ تعليماته الأخيرة إليه (25 أبريل) تقارير من «أربثنوت» في «داكويرث» تحوي تفاصيل الفشل الذي حدث أمام القسطنطينية، ومن الواضح أن تحصينات الدردنيل والعاصمة العثمانية قد صارت تقويتها ... بدرجة تجعل نتيجة ما قد يقوم من عمليات عسكرية ضد العاصمة أمرا ميئوسا منه إلا إذا قام بها جيش كبير جدا، بل وأكبر بكثير مما قد تسمح بجمعه - بالإضافة إلى مساعدة الجيوش الروس في «كورفو» - وسائلك بالصورة التي تتلاءم مع تأمين صقلية؛ ولذلك لم يعد في وسع الحكومة الإنجليزية تعليل النفس بنجاح أية عمليات عسكرية، يستطاع بفضلها الآن تخويف العاصمة التركية، وهي لذلك تقرر حصار الموانئ العثمانية الرئيسية وتعطيل التجارة العثمانية تعطيلا تاما، وقد آثرت الاعتماد على هذه الوسيلة بدلا من اتخاذ إجراءات عدوانية، تشترك فيها القوات البرية والبحرية الإنجليزية ضد الباب العالي، وذلك لجعل الحكومة العثمانية أكثر ميلا للتعقل والحكمة؛ ولذلك - كما استمر «كاسلريه» يقول - فقد صدرت الأوامر لقوات وحدات الأساطيل الإنجليزية في البحر الأبيض لضرب نطاق الحصار بالاتحاد مع الأسطول الروسي الموجود بالبحر الأبيض الآن على الدردنيل وميناء أزمير ومصبات النيل وعلى أي ميناء رئيسي آخر، يمكن انتقال الإمدادات منه إلى العاصمة العثمانية، كما دعا الأسطول الروسي في البحر الأسود لمراقبة البسفور والموانئ العثمانية في هذا البحر، وأوضح «كاسلريه» الغرض من هذه التعليمات الجديدة، فقال: إنه ليس تجريد «فوكس» من حرية التصرف المخول له في تعليماته السابقة إليه بأن يتخذ من الإجراءات العسكرية ما يراه ضروريا، حسبما يتطلب الموقف دون انتظار لتعليمات حكومته، وإنما الغرض من إرسالها إليه هو تعريفه فقط أن الحكومة الإنجليزية بفضل المعلومات التي وقفت عليها أكثر ميلا للاعتماد على إجراءات لإزعاج العدو من محاولة مهاجمته، ولا تريد أن يفهم من إيثارها للإجراء الأول أنها تبغي منعه من تنسيق عملياته أو اتحاده مع القواد البحريين لاستخدام القوات التي تحت قيادته بالطريقة التي يراها محققة لأغراض حكومته على أحسن وجه ... وعلاوة على ذلك فالحكومة الإنجليزية مستعدة لإمداده بالقوة العسكرية اللازمة، إذا رأى بالاتفاق مع قائد القوات البحرية إنشاء مركز بحري في إحدى جزر الأرخبيل لتزويد الأسطول بما يحتاج إليه من نجدات وغيرها، وذلك لحماية هذا المركز.
على أنه إلى جانب حصار الموانئ العثمانية الهامة وتعطيل التجارة العثمانية لإرهاق وإزعاج الباب العالي، لجأت الحكومة الإنجليزية إلى وسيلة أخرى لإقناع هذا الأخير بالصلح مع إنجلترة وروسيا وذلك بالمفاوضة معه، ومنذ بداية مايو 1807 تقرر نهائيا إرسال السير «آرثر باجيت»
Arthur Paget
إلى الليفانت، ولم تختلف مهمته عن مهمة «أربثنوت» من قبل، وأصدر «جورج كاننج» وزير الخارجية تعليماته إلى «باجيت» في 16 مايو، وقد جاء في هذه أن مهمته دائما هي العمل من أجل تسوية الخلافات التي نشأت بين روسيا والباب العالي، وجعل الأخير يشعر بأهمية الظروف التي من شأنها إقناعه بأن من صالحه تجديد ارتباطاته السابقة مع روسيا وإنجلترة، ونبذ ذلك النفوذ المتفوق الذي لفرنسا عليه، وفي 18 مايو أصدر «كاننج» تعليمات أخرى إلى «باجيت»، نص فيها على ضرورة اشتراط إرجاع أملاك البريطانيين التي صادرتها الدولة العثمانية أو تعويضهم عنها عند عقد الصلح، وأنه لا يمكن بحال من غير ذلك موافقة الحكومة البريطانية على إخلاء الإسكندرية، أو أي إقليم آخر من أقاليم الدولة فتحته جيوشها، وعلاوة على ذلك، فقد طلب اشتراط عدم إطلاق سراح الأسرى العثمانيين إلا إذا أخلت الحكومة العثمانية سلفا سبيل المعتقلين من رعايا بريطانيا، أو الذين وقعوا في الأسر نتيجة للحرب بينها وبين تركيا، ثم عاد «كاننج»، فحدد بصورة أكثر وضوحا الغرض من مهمة «باجيت»، فقال في 26 مايو: إن السلام هو الغرض الأول ، وإن السلام مع إرضاء روسيا تماما هو الغرض الثاني، ثم صدرت تعليمات من وزارة البحرية إلى «كولنجوود» في 2 يونيو حتى يترك لأحد قواده حصار قادش بينما يذهب هو بنفسه إلى الدردنيل لتأييد «باجيت» في مفاوضته ولإرضاء أمير البحر الروسي.
وكان لتأييد «باجيت» في هذه المفاوضة أن اعتبر «كاسلريه» الإجراءات التي أشار إليها في تعليماته إلى «فوكس» (أي حصار الموانئ وتعطيل التجارة العثمانية) ضرورية من حيث ضغطها على يد الباب العالي لجعل الطريق أكثر تمهيدا لنجاح المهمة المكلف بها «باجيت»، ثم إنه كان في ضوء هذه الترتيبات الجديدة أن وجد «كاسلريه» لزاما عليه أن يبعث بتعليمات أكثر تفصيلا بصدد الدور الذي صار من الواجب على «فريزر» وجيشه بالإسكندرية قصر نفسه عليه في الموقف الراهن، يحدو «كاسلريه» والحكومة الإنجليزية إلى هذا ذلك التغيير الذي طرأ على استراتيجية الحرب في البحر الأبيض، كما تراها وزارة بورتلاند، والذي ترتب عليه إعادة النظر في وضع حملة «فريزر» برمته على أساس أن بقاء هذه الحملة في الإسكندرية يحول دون استخدام قسم من الجيش البريطاني في عمليات وميادين أخرى أكثر أهمية متصلة بالحرب ضد نابليون، والتي كان من عوامل النجاح فيها في نظر البريطانيين احتفاظهم بصقلية لضمان سيطرتهم البحرية في البحر الأبيض ولمناوأة الفرنسيين في إيطاليا، ولأنه حتى تستطيع حملة «فريزر» الاحتفاظ بالإسكندرية، لا مفر من إرسال نجدات قوية لها يضعف إرسالها جيش الجنرال «فوكس» في صقلية، وأخيرا لأن الغرض من إرسال هذه الحملة لم يكن سوى احتلال الإسكندرية فحسب، وليس احتلال البلاد بأسرها، ولما كان «فوكس» قد بعث في 6-8 أبريل، ينقل إلى «وندهام» خبر الاستيلاء على الإسكندرية مصحوبا بتقارير «فريزر» عن هذا الحادث، وهي تقارير طلب فيها صاحبها إمداده بنجدات كثيرة، حتى يتمكن من احتلال رشيد والرحمانية، ولما كان «فوكس» نفسه وهو ينقل هذا الخبر إلى «وندهام» قد ذكر أنه سوف يبذل قصارى جهده لإجابة «فريزر» إلى مطلبه، بإرسال نجدات إليه من صقلية، الأمر الذي لا يجب أن يفوت الوزير أنه سوف يضعف الجيش الذي تحت قيادته مباشرة، إذا اضطر إلى إرسال نجدات أخرى منه إلى «فريزر»، أو طلب من هذا الجيش القيام بأي عمل آخر، عدا الدفاع عن صقلية فحسب، فقد اضطر «كاسلريه» إلى الكتابة بإسهاب في 17 مايو؛ لبيان خطة الحكومة، وتحديد المسلك الواجب على «فريزر» اتباعه، ولتعليمات «كاسلريه» الجديدة هذه أهمية بالغة، من حيث إنها حددت موقف الحكومة الإنجليزية نهائيا ليس من احتلال الإسكندرية فحسب، بل وكذلك من تقرير مصير هذه البلاد برمتها في نظر السياسة الإنجليزية، حينما صارت الحكومة الإنجليزية مستعدة من الآن فصاعدا للتخلي عن فتوحها في مصر، نظير حمل الباب العالي على العودة إلى موقف الحياد الذي وقفه سابقا في النضال بين إنجلترة وفرنسا، وفضلا عن ذلك، فإنه لا تلبث أن تزداد أهمية هذا التحديد الذي مرده في واقع الأمر لم يكن أصلا إلا إلى ارتباط حملة «فريزر» ذاتها، وعندما نشأ التفكير في إرسالها لاحتلال الإسكندرية بتقلبات الموقف السياسي والعسكري في أوروبا، وعلى وجه الخصوص في إيطاليا والبحر الأبيض، إذا عرفنا أن «كاسلريه» عندما أرسل تعليماته إلى «فوكس» في 17 مايو 1807 كان هو وزملاؤه في الوزارة لا يزالون يعتقدون أن جيش «فريزر» منتصر في مصر؛ لأن أخبار هزائمه لم تبلغ العاصمة البريطانية إلا خلال الأسبوعين الأولين من شهر يونيو، فقد ذكرت هذه التعليمات وللمرة الأولى أن من الواجب التهيؤ للرحيل، والانسحاب من الإسكندرية، والامتناع عن إقامة العراقيل التي قد تعطل هذا الانسحاب عند تقريره.
وثمة ملاحظة أخرى مترتبة على هذا التحول الذي حدث في الاستراتيجية الجديدة على عهد وزارة «بورتلاند» هي عدم التورط بحال من الأحوال مع البكوات المماليك بصورة تعيد إلى الأذهان ما حدث أيام الجنرال «هتشنسون» وارتباطات هذا الأخير معهم (1800-1801) التي جعلت السياسة الإنجليزية تسير حتى هذا الوقت في الطريق التي عرفناها، فأرادت الحكومة الإنجليزية إطلاق يدها الآن، وإزالة أي عراقيل من هذا القبيل، قد تمنعها من تنفيذ الإخلاء والجلاء عن الإسكندرية عندما يتقرر ذلك نهائيا، بالسرعة التي تريدها من أجل تحقيق أغراض وغايات أعظم أهمية في نظرها من التردي في مثل هذه البؤرة، فكان هذا تحولا جديدا في سياسة إنجلترة في مصر في هذه الفترة، تخلى الإنجليز بسببه عمليا عن البكوات، حتى إنه حينما جاء موعد الاتفاق الأخير على إخلاء الإسكندرية وتسليمها إلى محمد علي، لم يذكر المندوبون الإنجليز شيئا عن ضرورة رعاية مصالح هؤلاء أو حتى تأمينهم على سلامتهم.
وأما «كاسلريه» فقد كتب إلى «فوكس» في رسالته هذه إليه بتاريخ 17 مايو، أنه قد وصلته رسالة «فوكس» المؤرخة في 6-8 أبريل، ومعها تقارير «فريزر» عن الاستيلاء على الإسكندرية في 20 مارس، ولكنه يبدو له مما جاء في هذه الرسائل أن «فريزر» قد شعر فور وصوله إلى مصر أنه مرغم حتى يؤمن غذاء أهل الإسكندرية والجند الذين تحت قيادته بها، على إرسال قوة لاحتلال رشيد والرحمانية، وأنه اعتبر ضروريا في هذه الظروف أن يذكر في عبارات قوية أهمية حصوله على نجدات تمكنه من الاحتفاظ بالمواقع التي يعتبرها جوهرية لاحتلال البلاد النافذ، وللدفاع عن الإسكندرية في حالة هجوم عدو قوي عليها، وكذلك يبدو من رسالة الميجور «مسيت» بتاريخ 22 مارس إلى الزعماء المماليك أنه قد حدث إبلاغهم بالرغبة التي يشعر بها قائد القوات البريطانية في مساعدة الأحزاب في هذه البلاد التي قد تكون راغبة في إنشاء صلات ودية دائمة مع بريطانيا، مع بيان المصلحة التي لهم في ربط أنفسهم ببريطانيا العظمى كالوسيلة الوحيدة التي يمكن بها إطلاقا تحقيق غاياتهم، ثم دعوتهم لإرسال شخص موثوق به إلى الإسكندرية ليدلوا إلى «فريزر» برغباتهم وما يريدونه، وهنا يشير «كاسلريه» إلى رسالة «مسيت» إلى البكوات إبراهيم وعثمان حسن وسائر زملائهما والكشاف كذلك، وقد سبق ذكر هذه الرسالة.
ثم استطرد «كاسلريه» يقول: على أنه يخشى مما ذكر أعلاه أن احتلال الإسكندرية الذي كان الغرض أصلا من صدور القرار به ليس للتمهيد إلى احتلال أوسع لمصر، وإنما لمجرد وضع حامية بريطانية في أحد المراكز البحرية الرئيسية للاحتراس بصورة أكثر جدا ونفاذا، ضد تمكين الفرنسيين من وضع أقدامهم في هذه البلاد، يخشى أن هذا الغرض لا سيما إذا جعلنا أنفسنا نتدخل تدخلا أكثر مما ينبغي في شئون البلاد السياسية المحلية، سوف ينجم عنه إذا تحول عن هدفه الأصلي إرهاق مواردنا العسكرية بمطالب أكثر من تلك التي كنا نتوقعها عندما تقرر في أول الأمر إرسال هذه الحملة (حملة «فريزر»)، ولا أجد ما يدعوني إلى أن أذكر لكم مبلغ ما تأثرت به فعلا من جراء فصل هذا القسم من الجيش وإرساله إلى مصر، وتعطلت بسببه قدرتنا على القيام بأية عمليات جدية ضد العدو في البحر الأبيض، بل أن من شأن تجاوز أغراضنا المحددة باحتلال الإسكندرية وتأمينها إلى العمل من أجل احتلال مصر، أن تتحطم تماما الآن كل قدرة لنا على الانتفاع من أي فرصة قد تسنح للعمل في إيطاليا، وربما كان ضروريا إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الغرض المحدود من إرسال حملة «فريزر»، وبخاصة عند هبوطنا الأول إلى البر وحتى تستقر الأمور، احتلال بعض المراكز ذات الأهمية الجوهرية والمتصلة بالهدف الأساسي، ثم إنه قد يكون لازما طوال مدة إقامتنا بالبلاد، إنشاء صلات مع أولئك الذين لهم السلطة والنفوذ، واسترضاؤهم لتأييد مصالحنا بوسائل من ذلك الطراز الذي لا يقيدنا بارتباطات تتعارض مع المبادئ التي يجب أن تشكل في آخر الأمر مسألة بقائنا في هذه البلاد، ولكنه من الأهمية بمكان عند اتخاذ مثل هذه الخطوات أن يدخل الضابط المتولي القيادة في حسابه الاعتبارات العامة التي قد يتشكل بفضلها مسلك حكومة جلالة الملك البريطاني بعدئذ، وأن يتجنب بكل ما وسعه من جهد اتخاذ طائفة من الإجراءات التي قد تورطه هو وحكومته في مصاعب وارتباكات في آخر الأمر، ثم بين «كاسلريه» القواعد التي يجب على مثل هذا الضابط (والمقصود هنا «فريزر») الاسترشاد بها، فقال: أولا: حتما لا يجب أن يبني مسلكه على انتظار نجدات لا يمكن - تبعا لما تتطلبه أغراض أخرى، ولا تقل أهمية عن هذه - إعطاؤها إياه دون حدوث أقصى إزعاج وإرباك ممكن، وسبب أكثر من هذا لإمكان الاحتراس من ذلك، إذا اتسم التصرف بطابع الحكمة، هو انتفاء ما يدعو إلى الخوف من وقوع هجوم من جانب فرنسا بحرا، في حين أن أية قوات معادية في وسع الأتراك أن يجمعوها في داخل البلاد، لا يمكن أن تكون كبيرة، ويتعذر على جيش بريطاني من ستة آلاف رجل يعاونه أسطول متفوق التغلب عليها، وثانيا: ومن الأهمية بمكان أن يدخل هذا الضابط في حسابه أن حكومة جلالة الملك غير متهيئة لامتلاك مصر امتلاكا دائما على أساس معاهدة عند عقد الصلح؛ ولذلك فحيث إن العمل من أجل تحقيق أغراض عسكرية ذات أهمية أعظم في جهات أخرى أو أن نتيجة المباحثات المعلقة الآن مع الباب العالي قد يفضيان حتى والحرب لا تزال دائرة إلى تقدير الحكومة الإنجليزية سحب جيشها من الإسكندرية، صار لزاما على «فريزر»، وبكل ما وسعه من جهد، اجتناب أية إجراءات قد تجعل هذه الخطوة عند اتخاذها متعارضة مع شرف وأمانة أولئك الذين في خدمته (أي وزرائه).
ولذلك، فإني أبلغكم أوامر جلالته لمطالبة الميجور جنرال «فريزر» بأن يقصر نشاطه بكل دقة ممكنة على احتلال الإسكندرية العسكري، بما في ذلك احتلال أية مراكز متصلة بها يجد احتلالها ضروريا ولا معدى عنه فورا لتأمين سلامة الحامية وتوفير الغذاء لها، وأنه في حالة ما إذا ألح عليه المماليك أو غيرهم من الأحزاب الصديقة من أجل استخدام قواته لطرد الأتراك من القاهرة، أو مواقع أخرى بعيدة، عليه أن يرفض في عبارات تنم عن أعظم صداقة ممكنة مقترحاتهم مبينا لهم في الوقت نفسه أن واجبه المباشر إنما هو البقاء في الساحل لحماية البلاد من الفرنسيين، وأن الأوامر التي لديه تمنعه حتى تصله النجدات من إرسال أي قسم من قواته في خدمات عسكرية بعيدة في داخل البلاد، ويجب عليه كذلك أن يكون متحذرا من رهن كلمة حكومته فيما يتعلق بأي نظام للحكم، يتقرر في آخر الأمر تأسيسه في هذه البلاد، بل يقصر تأكيدات صداقته على إظهار ما تشعر به الحكومة الإنجليزية من واجب استخدام مساعيها الطيبة وبقدر ما تسمح به الظروف، في صالح أولئك الذين أسدوا خدمات لجيوشها وقت الحرب.
ثم عاد «كاسلريه»، فلخص هذه التعليمات في ختام رسالته؛ لتوضيح الغرض منها بدقة ومن غير لبس أو إبهام فقال: «إن المبادئ العامة التي تقوم عليها إنما هي تجنب أي مسلك قد يفضي إلى زيادة المطالبة بإرسال الجند، وتجنب أي إجراء قد يعطل تنفيذ رغبة الحكومة الإنجليزية في سحب جيشها من مصر في أي وقت تشاء، سواء جاء هذا كتنازل منها للباب العالي، أو من أجل تأدية خدمات عسكرية أخرى أكثر ضرورة.»
وواضح أن النقطة البارزة في هذه الرسالة هي إبلاغ «فريزر» بأن هناك احتمالا لصدور الأمر إليه في أي وقت بالانسحاب من الإسكندرية، وأن الحكومة الإنجليزية لا تستهدف ولا تريد بحال الاحتفاظ بالإسكندرية حتى تقرير الصلح النهائي ولا امتلاك مصر، وقد وصلت إلى قرارها هذا بالرغم من الأخبار التي بلغتها عن انتصار حملة «فريزر» واستيلائها بخسارة طفيفة جدا على الإسكندرية، على أنه لم يمض شهر واحد من صدور تعليمات «كاسلريه» هذه التي ذكرناها، حتى كان قد جد ما جعل الحكومة الإنجليزية تبادر بإرسال أوامرها بصورة حاسمة بإخلاء الإسكندرية فورا والانسحاب من هذه البلاد.
فقد بعث «فريزر» في 6، 24 أبريل إلى «فوكس»، يبلغه نبأ هزيمتي رشيد والحماد، ويطلب النجدات من مال ورجال بكل سرعة، وأرسل «فوكس» بدوره هذه الأخبار إلى حكومته مع تقارير «فريزر»، ومع صورة من رسالة «فوكس» نفسه إلى هذا الأخير في 13 مايو، ردا على كتابي «فريزر» في 6، 24 أبريل، وقد علق على أخبار هذه الهزائم بقوله: إن أوامر الحكومة الإنجليزية كانت إذا وقعت الحرب مع تركيا أن يصير الاستيلاء على الإسكندرية، واعتبر خمسة آلاف جندي عددا كافيا لتحقيق هذا، ولا أعتقد أن الحكومة كانت تفكر في استخدام هذه القوة في أكثر من ذلك، ومن المحتمل أن الحكومة كانت تعرف أن فتح مصر إذا أزمعت عليه يتطلب قوة أكبر من تلك الموجودة في البحر الأبيض الآن، وليس من المقطوع به إذا أحيطت علما بما وقع أن ترى الحكومة من المناسب الاستمرار في امتلاك الإسكندرية بالرغم من كل الصعوبات التي صارت هذه معرضة لها بسبب حرمانها من أسباب الاتصال بسائر القطر (مصر)، وسوف يجري تبليغ الحكومة بكل ما ذكرته في تقاريرك، وما يمكن الوقوف عليه من معلومات أخرى، وفي الوقت نفسه لا أجد من حقي أن أقرر الإخلاء، بل يجب الاحتفاظ والتمسك بالإسكندرية إلا إذا أرغمنا إرغاما على التخلي عنها، بسبب عدم وجود المؤن، والحاجة إلى الماء، أو الالتحام مع قوة عسكرية متفوقة على قواتنا، وسوف تمكنك وسائل النقل بطريق البحر وحماية الأسطول، وهما شيئان لن تجد نفسك محروما منهما من إخراج الجند والانسحاب في كل وقت، إذا تبين أن ذلك قد صار ضروريا. ووعد «فوكس» بإرسال النجدات إلى «فريزر» بالقدر الذي يعوض عليه خسارته، كما وعد بإرسال المؤن والمال، وتوقع أن يلقى التجار ما يشجعهم نظير ما يجنونه من ربح مالي - على إمداد الإسكندرية بحاجتها من الأغذية وغيرها، وكان من رأيه عند تحصين المداخل إلى الإسكندرية، والسيطرة على الملاحة في بحيرة إدكو، أنه سوف يتعذر على العدو مهاجمة المدينة، ونصحه باستمالة العرب إليه؛ حيث إن بذل المال لهم وحسن معاملتهم يفضيان إلى تزويده (أي «فريزر») ببعض الإمدادات عن طريق الصحراء، ثم إنه نصحه بالمضي في مراسلة المماليك، حتى إذا نشط هؤلاء في الجهات المجاورة للقاهرة، شغلوا الأتراك، وصرفوهم عن محاولة الهجوم على الإسكندرية، واختتم رسالته إليه بقوله: «إن ترك مصر والتخلي عنها في الوقت الحاضر، يلحق أذى بليغا بصالح بريطانيا ويهدمه تماما، ويؤكد تفوق واستعلاء فرنسا، وتتطلب رعاية مصالح الوطن والمحافظة على شرفنا العسكري بعد هذه النكبات الأخيرة التمسك بالإسكندرية الآن، وحتى تجد الحكومة الإنجليزية الوقت لاتخاذ قرار في هذه المسألة بعد بحثها.»
ولم يغير «فوكس» موقفه هذا، عندما تسلم تقارير «فريزر» التالية بتاريخ أول و6 مايو، وكذلك صورة رسالة هذا الأخير إلى «وندهام» في أول مايو، وقد تضمنت كل هذه آراء «فريزر» عن ضرورة إخلاء الإسكندرية في النهاية - على نحو ما عرفنا - فأجاب «فوكس» من «سيراكوز» في 30 مايو أنه لما كان قد صدر أمر الحكومة باحتلال الإسكندرية، فهو لا يستطيع أن يأخذ على عاتقه أن يصدر إليه أية تعليمات أخرى سوى وجوب الاحتفاظ بالإسكندرية، والدفاع عنها أطول مدة ممكنة دون المجازفة بتحطيم جيشه، وأنه يعتقد بفضل النجدات التي بعث بها إليه من مال ورجال أن في وسع «فريزر» فعل ذلك، ولكنه إذا اتضح له أن القوة المعدة ضده كبيرة لدرجة يصبح معها بقاؤه بالإسكندرية أمرا غير عملي، فلدى «فريزر» من الوسائل ما يمكنه من الانسحاب بسلام منها. وفي رسالة أخرى من «فوكس» في نفس التاريخ (30 مايو) إلى أحد العسكريين البريطانيين، قال إنه بالرغم مما جاء في تقارير «فريزر» عن هزائم الجيش، وعن حاجته الملحة إلى النجدات المختلفة، وجسامة الصعوبات التي تواجهه في الإسكندرية، واعتقاده أي «فريزر» بضرورة إخلاء الإسكندرية عاجلا أو آجلا، فهو لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الموافقة على إخلاء الإسكندرية إذا كان هناك احتمال للاحتفاظ بها، حتى يقف على رأي وقرار حكومته بشأن ذلك، ولو أنه يتفق في الرأي مع «فريزر»، على أنه من المتعذر من غير إرسال قوات كبيرة، يؤلف الفرسان قسما لا يستهان به منها إلى هذه البلاد لاحتلالها بصورة دائمة، حيث قد اتضح أن الميجور «مسيت» كان مخطئا لدرجة بعيدة في معلوماته عن الحالة السائدة في البلاد.
على أن «فوكس» عندما بعث بتقارير «فريزر» سالفة الذكر وبصورة من جوابه عليها (رسالة «فوكس» إلى «فريزر» في 13 مايو)، لم يلبث أن أوضح لحكومته أنه لا يتسنى لها الاحتفاظ بالإسكندرية بعد الهزائم الأخيرة إلا إذا أنفذت إلى «فريزر» جيشا كبيرا لا معدى عن أن يسبب أخذه من قواته هو في صقلية ضعف جيشه بها، فقال: إنه يسوءه أن يبعث إلى الوزير «وندهام» بأخبار الهزيمة التي حلت بجيش «فريزر»، وأنه يرجو أن يستطيع هذا الأخير البقاء بالإسكندرية، والدفاع عنها بفضل النجدات التي سوف يرسلها إليه، حتى يتضح ما يصح عزم الحكومة عليه بصدد البقاء بالإسكندرية أو إخلائها، ثم شرع يقول: وإنه لمن شأن حكومة جلالة الملك أن تقرر ما إذا كانت ترى من الحكمة سحب القوات الحالية من مصر، فإن الاحتفاظ بالإسكندرية في وجه الصعوبات التي يبدو أنها قائمة الآن، أو إرسال جيش إلى هذه البلاد يمكننا من الاستمرار في امتلاكها بصورة تبعث على الاحترام، وعلى درجة من القوة تكفي لاحتلال كل المواقع الضرورية لتأمين سلامتنا، فضلا عن حماية وتعضيد المماليك وغيرهم ممن يرغبون في تأييد المصالح البريطانية في مصر، يبدو لي أنه لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان لدينا جيش من خمسة عشر ألف رجل من بينهم ألف من الفرسان، وأفهم أنه سوف يتضح لكم أن لا شيء يضر بقوات جلالة الملك مثل احتمال هزيمة جيشه على يد العدو وإرغامه على إخلاء البلاد أو وقوعها في قبضة العدو، ولكنني لا أكاد أرى ضرورة، تلجئني إلى بيان مقدار الضعف الكبير الذي سوف يلحقه بالجيش هنا (في صقلية) إلى جانب ما حدث من إرسال الأورطة التي أرسلت إلى جزيرة مالطة لإخماد تمرد آلاي «فروهبرج»
Forhberg
بها على نحو ما ذكرت في رسالتي بتاريخ 4 مايو، إرسال هذه النجدات إلى الإسكندرية، وفي 13 يونيو كتب «فوكس» إلى «كاسلريه» من «مسينا»، بعد أن أرسل إليه نسخا من رسائل «فريزر» عن مفاوضات ترجمان محمد علي معه، وتحسن الموقف خلال شهر مايو بالإسكندرية، أنه يصعب عليه وهو على هذه المسافة البعيدة منه أن يصدر إليه تعليمات بشأن مسلكه مع محمد علي والبكوات المماليك، ولكنه سوف يوصيه على كل حال بأن يظل على علاقات طيبة مع الفريقين دون التورط مع أحدهما بشكل يسبب امتعاض الفريق الآخر منه، وأن يكون متحذرا جدا من ناحية محمد علي، وقد أرفق «فوكس» مع رسالته هذه تقرير الكابتن برجوين الذي سبقت الإشارة إليه عن تعذر الدفاع عن الإسكندرية في الظروف الراهنة، كما أوفد الكابتن «ثاكري»
Thackary
وهو من الضباط الملمين تماما بآراء كبير المهندسين الميجور برايس
Bryce
عن حالة تحصينات الدفاع بالإسكندرية، وقد سبق لهذا الأخير أن خدم في مصر أثناء الحرب الأخيرة (1801)، واكتسب خبرة كبيرة.
ومع أن «فوكس» بادر في 23 يونيو بإرسال ما وصله من تقارير من «فريزر» عن تحسن الموقف في الإسكندرية، وقال تعقيبا على ما جاء بهذه التقارير : إنه يستدل من اللهجة التي كتبت بها أن الجيش الذي تحت قيادة «فريزر» في الإسكندرية، قد صار الآن موقفه مأمونا تماما، كما صار مزودا بالمؤن تزويدا طيبا، إلا أن تقارير «فريزر» السابقة عن هزيمتي رشيد والحماد، وتوضيحات «فوكس» عن ضرورة إرسال جيش من خمسة عشر ألف مقاتل إلى الإسكندرية إذا شاءت الحكومة الاحتفاظ بها، مع بيان ما ينجم عن فصل هذه القوة من جيشه بصقلية من إضعاف لهذا الجيش نفسه، قد حتم على الحكومة الإنجليزية الاختيار نهائيا بين الاحتفاظ بالإسكندرية، ويتطلب ذلك إرسال هذا الجيش الكبير إليها، وهذا ما لم يكن في مقدورها، أو الاحتفاظ بصقلية لضرورات الموقفين العسكري والسياسي في أوروبا، والإفراج عن القوة المحجوزة بالإسكندرية لاستخدامها في ميادين أخرى أعظم أهمية بالنسبة لاستراتيجية الحرب العامة، فلم تجد الحكومة الإنجليزية مناصا من تقرير خطتها النهائية، وعندئذ آثرت التخلي عن الإسكندرية على ضياع صقلية من يدها، ومن المحتمل كذلك إذا ضعف جيش «فوكس» بهذه الأخيرة ضياع الإسكندرية وصقلية معا وفي وقت واحد؛ ولذلك فإنه بمجرد أن وقفت هذه الحكومة على أخبار هزيمتي رشيد والحماد وحاجة «فريزر» إلى النجدات القوية، وعرفت آراء «فوكس» في هذا الموضوع منذ أن وصلتها تقاريره الأولى خلال النصف الأول من شهر يونيو أصدرت أوامرها فورا بسحب الجند البريطانيين من الإسكندرية إن لم يكن قد بدأ انسحابهم منها فعلا بسبب الهزائم الأخيرة والصعوبات التي صار يواجهها «فريزر»، فبعث «كاسلريه» بهذه الأوامر القاطعة إلى «فوكس» في 14 يونيو 1807 في كتاب طويل، لا يدع مجالا للشك في أن مصير حملة «فريزر» كان مرتبطا ومن مبدأ الأمر، على نحو ما ذكرنا مرارا، كان مرتهنا بتطورات الموقف في أوروبا من الناحيتين العسكرية والسياسية.
فجاء في كتاب «كاسلريه» ما نصه: «لقد وصلنا تقريركم (مخاطبا «فوكس ») من «مسينا» بتاريخ 14 مايو مع الرسائل المرفقة به، وقد عرضت هذه على الملك، وقد تلقى جلالته باهتمام بالغ ما سرده «فريزر» عن الهجومين الفاشلين اللذين قاما بهما الجند البريطانيون بخسارة كبيرة ضد رشيد، على نحو ما جاء ذكره مفصلا في كتاب الميجور جنرال «فريزر» إلى الوزير «وندهام» بتاريخ 6 أبريل، ولكم بتاريخ 24 من الشهر نفسه، ويوافق جلالته على الإجراءات التي اتخذتموها من حيث إرسال النجدات والإمدادات التي وجدتم أنها قد تكون كافية لإعطاء «فريزر» الفرصة للاستمرار في امتلاك الإسكندرية، حتى تتضح رغبات جلالته بشأن ذلك؛ ولذلك أبلغكم الآن أوامر جلالته فيما يتعلق بتوجيه مسلككم، إذا لم يكن قد تم فعلا إخلاء مصر قبل وصول هذه إليكم.
يبدو مما وضح من حوادث للآن، أنه لا يمكن فصل احتلال الإسكندرية عن امتلاك رشيد والرحمانية وربما دمياط كذلك، وأنه حتى بامتلاك هذه الأماكن الأخيرة، ليس هناك ما يدعو لتوقع الاحتفاظ بالإسكندرية في أمان، ما دمنا في حرب مع الباب العالي من غير اتساع نطاق العمليات العسكرية بصورة تشمل احتلال مصر بأسرها، وإخضاع القوات الأرنئودية والعثمانية الموجودة بالبلاد الآن، وتقولون إن النجدات التي بعثتم بها إلى «فريزر» إنما هي بالقدر الذي قد يمكن من الاحتفاظ بالإسكندرية حتى تستبين رغبات جلالة الملك، ولكنه حتى يتسنى احتلال جميع المواقع الضرورية لتأمين موقفنا في هذه البلاد، لا مناص في رأيكم من استخدام جيش لا يقل عن 15000 مقاتل من بينهم 1000 فارس؛ لتحقيق هذه الغاية في الظروف الراهنة، ولكنه بالرجوع إلى القوات التي لدينا الآن في البحر الأبيض يتضح - إلا إذا كان جلالته متهيئا لإرسال قوة، يتألف أكثرها من الجند الموجودين بأرض الوطن - أنه لا معدى عن الاختيار بين إخلاء مصر أو التخلي عن صقلية، ومن المستحيل الاحتفاظ بمصر وصقلية معا وفي وقت واحد، بل ومن المحتمل فقد الاثنين كليهما إلى جانب فقد الجيش نفسه كذلك إذا حاولنا برعونة النضال ضد الصعوبات التي تكتنف تحقيق الغرض الأول (أي الاحتفاظ بمصر)، وحيث إن هذا هو الوضع الحقيقي للمسألة، فلا شك في أنكم قد استخلصتم من تعليماتي الأخيرة إليكم أنه لا مجال للتردد في اختيار الطريق الذي يجب تقريره، لقد كان الغرض الرئيسي من تلك التعليمات هو جعل امتلاك الإسكندرية - من وجهة النظر السياسية - تابعا لأمن صقلية وسلامتها، وللغرض الأكبر أهميته من حيث القدرة على القيام بعمل عدواني ضد العدو في إيطاليا. ومهما كان مبلغ إدراك الملك حينذاك لما سوف يترتب عليه فصل قوة كبيرة كهذه، وإرسالها إلى مصر كوسيلة لحمل الباب العالي على قبول تسوية معنا، من أثر سيئ على قدرة جيشكم على القتال والقيام بعمليات عسكرية نشيطة، فإنه لم يكن راغبا وقتذاك في جعل الإسكندرية تفلت من أيدينا، وإنما بشريطة أن يستطيع الجنود الذين بها الاحتفاظ بهذا الموقع، ولقد كانت رغبة جلالته في الوقت نفسه من جهة أخرى ألا يستحيل تحقيق هذا الغرض إلى عامل يستنفد تدريجا قوات جيش جلالته في صقلية.
ولا يبعد بحال من الأحوال أن يكون الميجور جنرال «فريزر» قد وجد نفسه على نحو ما يؤخذ من تقريره، مرغما على سحب جنده من مصر قبل أن تتمكن النجدات المرسلة من الوصول إليه، ومن المحتمل - من ناحية أخرى - أنه لا يزال بالإسكندرية، وأن تلقاه بها النجدات المرسلة إليه من صقلية، وإنكم بسبب صعوبات موقفه المستمرة - ولا سيما بعد أن يكون قد وصلكم كتابي المؤرخ في 21 مايو - تكونون قد قررتم استدعاء جيش الميجور جنرال «فريزر» دون انتظار لتعليمات أخرى من لندن، فإذا لم يكن هذا ما وقع فعلا، فإني أبلغكم إرادة جلالة الملك، وهي أن تتخذوا فورا الإجراءات اللازمة لسحب الجنود البريطانيين من مصر، والتنبيه عليهم بالعودة إلى قواعدهم السابقة في صقلية.»
ثم إن «كاسلريه» طلب في ختام رسالته هذه إلى «فوكس» أن يبلغ هذه الأوامر التي تلقاها إلى السير «آرثر باجيت» بسفينة سريعة، إذا كان هذا قد غادر صقلية في طريقه لتأدية المهمة المكلف بها (أي المفاوضة مع الباب العالي) وأن يبلغه كذلك أن حكومته قد خصصت لحين صدور أوامر أخرى أسطولا صغيرا للتجول قريبا من الساحل المصري لمنع وصول أية إمدادات من مصر إلى القسطنطينية، وفي 16 يونيو أصدرت البحرية البريطانية تعليماتها إلى أمير البحر اللورد «كولنجوود» بوضع قوة بحرية بالقرب من الساحل المصري لتحقيق هذا الغرض الأخير، وخيرته في عدم فعل ذلك إذا اتضح له أن حصار الدردنيل وميناء أزمير يكفي دون حاجة لوضع قوة عند مصبات النيل تكفي لمنع خروج الإمدادات من مصر إلى القسطنطينية، إلا إذا وجد من الحكمة توقيا لما قد يحدث استمرار هذه القوة البحرية بالقرب من الساحل المصري، على اعتبار أن ذلك من الإجراءات العامة التي يجب اتخاذها من قبيل الحيطة والحذر من إرسال الفرنسيين جيشا إلى مصر.
وأما هذه التعليمات القاطعة بضرورة سحب الجنود والجلاء فورا عن الإسكندرية، فقد وصلت «فوكس» بمسينا في 10 يوليو، ووجب عليه أن يبلغها بدوره إلى «فريزر» دون إبطاء، ولكنه حدث أن السير «آرثر باجيت» الذي غادر إنجلترة في طريقه لتنفيذ مهمته في 3 يوليو، كان قد وصل هو أيضا إلى «مسينا» في 10 يوليو بعد أن قابل «كولنجوود» في قادش، وتحدث إليه في أغراض مهمته، ووصل الاثنان إلى أن الهزائم التي لحقت بجيش «فريزر» في مصر، من شأنها أن تصعب مفاوضاته مع الباب العالي.
وعلى ذلك فإنه ما إن وقف على أوامر حكومته الأخيرة بصدد الجلاء عن الإسكندرية، حتى راح يحاول إرجاء إرسال هذه التعليمات إلى «فريزر» فترة من الوقت، حتى لا تتأثر مفاوضته تأثرا سيئا بسبب هذا الإجراء، واستمال إلى تأييده في هذا الرأي كلا من السير «جون مور»
Moore
الذي خلف «فوكس» في القيادة بصقلية وقتئذ، والأميرال كولنجوود. ويؤخذ من رسائل «باجيت» إلى «كولنجوود» في 10 يوليو، ثم إلى «كاننج» وزير الخارجية في 12 يوليو، ثم من الجنرال «مور» إلى «كاسلريه» وزير الحربية في 13 يوليو، ومن «كولنجوود» إلى «مور» في 19 يوليو، إن الأسباب التي استند إليها «باجيت» ووافق عليها الأخيران: تتلخص أولا: في أن الأوامر التي صدرت إلى «فوكس» في 14 يونيو، إنما صدرت - حسب اعتقاده - تحت تأثير فكرة خاطئة هي تعذر الاحتفاظ بالإسكندرية، ثم عدم إفراغ صقلية من الجنود المتوقع استخدامهم في عمليات عسكرية ضد العدو في إيطاليا، فناقش هاتين المسألتين في كتابه إلى «كاننج» بإسهاب، مفندا صحة الزعم الأول بدعوى أن الأخبار التي وصلت أخيرا من «فريزر» إلى الجنرالين «فوكس» ومور تؤكد أنه صار في وسع «فريزر» الاحتفاظ بالإسكندرية، بالرغم من الصعوبات التي من المتوقع أن يصادفها هذا من جانب العدو، وذلك بفضل ما صارت تذخر به الإسكندرية من إمدادات من مختلف الأنواع، فضلا عن أن تعليمات «كاسلريه» إلى «فوكس» في 8 مايو، وتعد الحكومة بمقتضاها بإمداده بقوات أخرى إذا رأى من الملائم إنشاء مركز بحري بالاتفاق مع «كولنجوود» في إحدى جزر الأرخبيل، كإجراء يتطلبه حصار الدردنيل وميناء أزمير، من شأنها أن تعزز ما ذهب إليه «باجيت» من حيث إمكان الاحتفاظ بالإسكندرية؛ لأنه قد طلب إلى «فريزر» وقتئذ - كما قال «باجيت» - أن يفصل قسما من جيشه لاحتلال إحدى الجزر اليونانية إذا سأله «كولنجوود» أن يفعل ذلك، وأما فيما يتعلق بالمسألة الثانية، فإن الموقف في صقلية لا يمكن للأسف أن يبعث على الأمل في إمكان بدء أية عمليات عسكرية ضد العدو في مملكة نابولي في المدة المنتظر أن يجري في أثنائها سحب جنود «فريزر» من الإسكندرية ووصولهم إلى صقلية، حتى ولو فرض أن تأجل انسحابهم زيادة على المدة التي يتوقع «باجيت» إبقاءهم بها، وثانيا: فإن انسحاب «فريزر» بجيشه من الإسكندرية سوف يفقده السلاح الوحيد الذي يستطيع الانتفاع به في الضغط على الباب العالي أثناء مفاوضته معه، وثالثا: فإنه حتى يتسنى له تنفيذ تعليمات «كاننج» إليه في 18 مايو الخاصة بممتلكات البريطانيين المصادرة وأسراهم ومعتقليهم في تركيا، لا يجب حرمان «باجيت» من ميزة استمرار الإنجليز في احتلال الإسكندرية أثناء مفاوضته؛ لأن إرجاع الإسكندرية للدولة إذا فشل في مفاوضته من أجل السلام مع تركيا، سوف يكون حينئذ الثمن الذي به يمكن تحقيق إعادة أملاك البريطانيين إليهم، أو دفع تعويض لهم عنها، وإطلاق سراح أسراهم، لا سيما وأن الحصار المطلوب فرضه على الموانئ العثمانية، اللهم إلا إذا استثنينا الإسكندرية وحدها، لم يكن قد بدئ بعد، ورابعا: أنه لا خطر على جيش «فريزر» بالإسكندرية إذا تأجل الإخلاء؛ لأن الجيش - كما قال «كولنجوود» - منذ عودته من رشيد والحماد إلى الإسكندرية قد تحسن موقفه باستمرار، حتى صرنا الآن القوة الوحيدة ذات الاحترام في مصر، فالباشا يخشاه، والبكوات المماليك يطلبون رضانا والعربان يظهرون نحونا قطعا كل إخلاص ومحبة، والنكوص على أعقابنا الآن يطوح بالمفاوضات ويقضي عليها.
وعلى ذلك، فقد وجد الجنرال «مور» لزاما عليه أن يبلغ «فريزر» أوامر حكومته بشأن الإخلاء مشفوعة بما قر عليه رأيه هو و«باجيت» نفسه فور وصوله إلى جزيرة «تينيدوس» وبدء المفاوضة بالاشتراك مع المندوبين الروس مع مندوبي الباب العالي، فكتب إليه من «مسينا» في 11 يوليو، يطلعه على فحوى تعليمات «كاسلريه» في 14 يونيو، والأسباب التي حدت بالسير «آرثر» إلى طلب تأجيل الإخلاء فترة من الزمن، ثم استطرد يقول: «وسوف تلاحظون وجوب الاحتفاظ بسرية هذه الأوامر عن الانسحاب من الإسكندرية، حتى تبلغكم تعليمات السير «آرثر باجيت»؛ لأنه لو علم العزم على إخلاء الإسكندرية قبل أوانه لبطل الغرض من تأجيل الإخلاء كلية؛ ولذلك فمن الواجب قبل كل شيء أن تظل ترتيباتك سرية، ولا تعدو تلك التي لا تثير أية شكوك من ناحية نوايانا الأخيرة، وتساعدك في الوقت نفسه على تنفيذ الإخلاء عند تقريره دون أي إبطاء»، ثم وجه إليه تعليماته بصدد الإجراءات اللازم اتباعها لنقل المهمات والعتاد البريطانية، على أن ينتظر تعليمات «باجيت» فيما يتعلق بتلك الخاصة بالحكومة العثمانية، أو التي حصل عليها عند استيلائه على الإسكندرية، ثم قال: «وإذا نجح «باجيت» في مفاوضته وعقد الصلح، فظني أن الإسكندرية سوف تسلم إلى الأتراك في حالتها الراهنة، أو التي كانت عليها عند استيلاء البريطانيين عليها، وأما إذا فشلت المفاوضات، فقد يكون في وسعك أن تصل إلى اتفاق مع الباشا محمد علي أو مع الأرنئود؛ لتسليم الأسرى الذين بأيديهم وكذلك المدافع وما إليها وما يكونون قد استولوا عليه، ولكنه يجب عليك مهما كانت الظروف أن تأتي بما قد تكون نصبته من مدافع بريطانية أو استخدمته من أدوات في أعمال التحصينات بالإسكندرية، وإذا ترك الأمر لتصرفك، ولا يكون هذا إلا في حالة واحدة؛ أي عند إخفاق المفاوضات التي يضطلع بها «باجيت»، فمن واجبك أن تبذل قصارى جهدك للوصول إلى أفضل مساومة نظير إطلاق سراح الأسرى وغير ذلك، وهذه الأوامر لا تحول بحال ما دون تنفيذ التعليمات التي أرسلها الجنرال «فوكس» لك بشأن فصل قوة ضعيفة من جيشك للاستيلاء على إحدى جزر الأرخبيل إذا وجد أمير البحر «كولنجوود» ذلك مناسبا، ولك أن تفعل هذا إما فورا وإما وقت الإخلاء حسبما تمليه ضرورات الموقف»، واختتم «مور» رسالته هذه بقوله: إن أوامر مشابهة من أجل إخلاء الإسكندرية سوف يبعث بها «كولنجوود» إلى الكابتن «هالويل» وإن على «فريزر» أن يطلعه على كل الأحوال على هذه المسألة سرا.
وأما السير «آرثر باجيت» فقد وصل إلى «تينيدوس» في 28 يوليو، ولقي بها «بوزو دي بورجو»
زميله الروسي في المفاوضة المنتظرة، وكان هذا موجودا بها منذ 24 مايو، كما وجد أسطولا روسيا بقيادة «سنيافين»
Seniavin
يرسو عند هذه الجزيرة، وآخر بقيادة «جريج»
Greig
بالقرب من جزيرة «لابان»
Lapins ، ولحق به «كولنجوود» ببعض قطع الأسطول، وبدأ مفاوضته، ولكن سرعان ما اعترضت مفاوضته هذه صعوبات عدة حكمت عليها بالفشل، أهمها أن المندوب الروسي لم يظفر من الديوان العثماني بطائل، ثم لم تلبث أن جاءت الأنباء في 23 أغسطس بأن نابليون قد عقد مع القيصر إسكندر الأول صلح «تلست»
Tilst
منذ 7 يوليو، ووصلت الأوامر إلى «سنيافين» بوقف القتال ضد تركيا، فقصد أسطوله - وكان قد انضم إلى أسطول «كولنجوود» بناء على رغبة الأخير بالقرب من جزيرة «إيمبرو»
Imbro
منذ 13 أغسطس - إلى «تينيدوس» إشارة إلى انفصال مصالح روسيا من الآن فصاعدا عن مصالح بريطانيا، فبقي «باجيت» في مفاوضاته مع الأتراك منفردا، أضف إلى هذا أنه على الرغم من الثورة التي حدثت في القسطنطينية، وأطاحت بعرش سليم الثالث - وهي الثورة التي سبقت الإشارة إليها - لم يطرأ تغيير على موقف الأتراك الذين ظلوا خاضعين كذلك في العهد الجديد لنفوذ فرنسا، وتمتع «سباستياني» السفير الفرنسي بنفوذ كبير في القسطنطينية، وعمد الأتراك إلى المراوغة والمماطلة في مفاوضتهم مع «باجيت»، مستندين دائما في ذلك إلى أنه لم يقع رسميا إعلان للحرب بين تركيا وإنجلترة، فلا داعي إذن للدخول في مفاوضة أو تعيين مندوبين لها من أجل البحث في استرجاع علاقات المودة والصداقة بينهم وبين الإنجليز، وأنه يكفي إخلاء الإسكندرية وانسحاب السفن الحربية الإنجليزية من السواحل العثمانية لعودة المياه إلى مجاريها، وتنفيذ المعاهدات القديمة بين الفريقين، وفضلا عن ذلك فقد نفد صبر «كولنجوود» من مماطلة الأتراك وتسويفهم، وبخاصة عندما جاءت الأخبار من صقلية تنذر بأن الثورة على وشك الوقوع بها، وأن تغييرات هامة سوف تجري في البرتغال وإيطاليا لصالح الإمبراطور نابليون، وأن جيشا فرنسيا كبيرا يزحف صوب إيطاليا الجنوبية لطرد الإنجليز من صقلية، وأن جزيرتي «كورفو» و«كتارو»
Cattaro
قد حصل التنازل عنهما لفرنسا، وهكذا صارت صقلية مهددة بالسقوط في يد العدو، وهي التي حرص الإنجليز على التمسك بها، فكان لذلك كله أن أنذر «كولنجوود» الأتراك، ومن غير أن يستشير «باجيت» في ذلك في 4 سبتمبر بضرورة وصولهم إلى قرار حاسم في بحر أسبوع واحد، فيما إذا كانوا يريدون حقا المفاوضة الجدية من أجل عقد الصلح مع الإنجليز وتجديد صداقتهم معهم.
ومع أن «باجيت» كان قد ساءه اتخاذ «كولنجوود» لهذه الخطوة دون استشارته، فقد نفد صبره هو الآخر مع الأتراك، وتبين له عبث الاستمرار على المفاوضة معهم، وكان «باجيت» وقت أن كان لا يزال الأمل يداعبه في إمكان نجاح مفاوضته معهم، قد بعث إلى «فريزر» من «إيمبرو» برسالتين في 30 أغسطس، يطلب منه فيهما رسميا إنجاز استعداداته للتهيؤ لمغادرة الإسكندرية، وإخلائها عند أول سانحة، ولكنه ما لبث الآن أن صح عزمه على إرسال أوامره القاطعة في 16 سبتمبر إلى «فريزر»، يطلب منه الجلاء والانسحاب من الإسكندرية فورا، وكان مبعث هذا الأخير أن «سنيافين» كان قد غادر بأسطوله «تينيدوس» إلى «كورفو» منذ 6 سبتمبر، وذاعت الأخبار بأنه قد صار التنازل عن بعض سفنه إلى فرنسا، كما أن أخبارا قد جاءت «مور» في صقلية في 15 سبتمبر، تفيد بأن الحالة بها قد تحرجت لدرجة تدعو لتجمع القوات الإنجليزية بها بكل سرعة، ولم يتردد «كولنجوود» لحظة بسبب هذه الأخبار عن الإبحار إليها في 16 سبتمبر؛ وعلى ذلك، فقد كلف «باجيت» الضابط «مورييه»
Morier
بالذهاب إلى الإسكندرية، يحمل أمره القاطع بالإخلاء إلى «فريزر»، ويحمل عدا ذلك رسالتين إلى باشا مصر محمد علي؛ إحداهما منه في 16 سبتمبر، والأخرى من القبطان باشا السيد علي بك الجزائري - ولم تكن المفاوضات قد توقفت بعد مع الباب العالي - يطلب «باجيت» والقبطان فيهما منه إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكان هذا هو كل ما أسفرت عنه مفاوضات «باجيت» الذي لم يلبث أن قطعها نهائيا في أكتوبر، وانتهت بذلك مهمته بالفشل.
وأما «مورييه» فقد بلغ الإسكندرية في 22 سبتمبر، ليعلم أن «فريزر» قد تفاوض مع محمد علي، واستطاع الحصول على شروط مرضية جدا نظير الجلاء عن الإسكندرية، كما وجد أن إبحار الجنود البريطانيين قد بدأ فعلا يوم وصوله إليها.
المرحلة الأخيرة
فقد تقدم كيف اعتبر «فريزر» غير معقولة وغير مفهومة، تلك المقترحات التي قدمها ترجمان محمد علي إليه في مايو 1807، من أجل الصلح على أساس جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وتسليمها إلى محمد علي لقاء أن يطلق الباشا سراح أسراهم، وأن يعقد محالفة ضد أعدائهم وأعدائه على السواء من فرنسيين وعثمانيين، وأسفر جس النبض في هذه المرحلة عن تيقن محمد علي أن الإنجليز لن يتنازلوا مختارين عن الإسكندرية، ولو أنهم يظهرون في الوقت نفسه ميلا لاستئناف علاقات المودة والصداقة معه، ولم يغلقوا باب التفاهم والاتفاق على الأقل فيما يتعلق بمسألة إطلاق سراح أسراهم، ثم كيف أن محمد علي قد شغل بعد ذلك بإنجاز استعداداته من الناحيتين السياسية والعسكرية تهيؤا للزحف على الإسكندرية، فتوقفت المفاوضات بينه وبين «فريزر»، واستمرت معطلة مدة، حتى إذا فرغ الباشا من تجهيزاته، وانتقل إلى إمبابة يوم 8 أغسطس، حضر «ريفارولا» من جانب الجنرال «فريزر» لاستئناف المفاوضة معه.
وأما السبب الذي جعل «فريزر» يقرر المبادأة من جانبه في فتح باب المفاوضة هذه المرة مع محمد علي، فهو أن «فوكس» بعث إليه بالتعليمات التي أصدرها «كاسلريه» إلى هذا الأخير في 17 مايو، فوصلت هذه إلى «فريزر» في يوليو، وقد أجاب عليها هذا في 24 يوليو، وكان أهم ما استرعى نظره منها احتوت عليه من تعليمات - كما قال - تبين احتمال حدوث الجلاء عن البلاد وإخلاء الإسكندرية ، وتوصيه بضرورة عدم الارتباط بأية وعود غير حكيمة تسيء إلى شرف حكومته، وتكون سببا في توريطها في نشاط قد يعوق سحب جيشها من البلاد عندما يصح عزمها على إصدار قرارها النهائي بالخروج من هذه البلاد.
وقد كان هذا التحذير الأخير كافيا لأن يحمل «فريزر» على إرسال صورة طي رسالته السالفة الذكر إلى «فوكس» في 24 يوليو من منشوره الأصلي الذي أذاعه عند هبوطه إلى الشاطئ المصري واستيلائه على الإسكندرية؛ لبيان الغرض من مجيء حملته إلى هذه الديار، ثم إرسال آخر ما وصله من كتب الرؤساء المماليك، كما أن الإشارة إلى احتمال إخلاء الإسكندرية وإلى أنه ليس في عزم حكومته امتلاك مصر، قد جعلته يبغي من ناحية أخرى جس نبض محمد علي، في خير الشروط التي يستطيع الظفر بها منه لقاء الجلاء عن الإسكندرية عندما يصدر إليه الأمر بإخلائها، وكما اتخذ محمد علي من مسألة تبادل الأسرى ذريعة لجس نبض «فريزر» وبدء المفاوضة معه، فقد اتخذ هذا الأخير مسألة إطلاق سراح الأسرى الإنجليز ذريعة لاستئناف المفاوضة مع الباشا والوقوف على حقيقة نواياه نحو الإنجليز عموما، فعمد إلى إرسال «ريفارولا» إليه، والأخير من أصل كورسيكي، التحق بالخدمة في آلاي صقلية.
وقد وصل «ريفارولا» إلى معسكر الباشا في إمبابة - كما عرفنا - يوم 10 أغسطس، ولما كان محمد علي بالرغم من استعداداته لا يزال يؤثر - للأسباب التي بسطناها - الاتفاق مع الإنجليز على قتالهم، فقد رحب بهذه الفرصة المواتية لاستئناف المفاوضة معهم لعله يظفر باتفاق يمكنه من الاستيلاء على الإسكندرية سلما، ويكسب بفضله صداقة الإنجليز والتحالف معهم، فأطلق أحد عشر مدفعا تحية لقدوم هذا المفاوض الجديد، وأكرمه بإنزاله هو وصحبه في خيمة بمخيمه بإمبابة، واستعد للمفاوضة معه دون إبطاء، ولكنه سرعان ما وقع لهؤلاء حادث عاقهم عن مقابلة الباشا فورا، ذكره الشيخ الجبرتي في حوادث 5 جمادي الثانية 1222 الموافق 10 أغسطس 1807، فقال: «وفي خامسه حضر قابجي من طرف الإنجليز وصحبته أشخاص، فأنزلهم الباشا في خيمة بمخيمه بإمبابة فرقدوا بها ليأخذوا لهم راحة، وناموا، فلما استيقظوا فلم يجدوا ثيابهم، وسطا عليهم السراق فشلحوهم، فأوصلوا إلى حارة الفرنساوية، فأتوا لهم بثياب وقفوات لبسوها.»
وقد اهتم «دروفتي» بهذه المفاوضات التي جرت في إمبابة، وحاول أن يقف على حقيقتها من الباشا الذي لم يشأ إطلاعه على تفاصيلها، لنفس الأسباب التي ذكرناها عند الكلام عن مهمة ترجمان محمد علي والكابتن «ديلانسي» في الإسكندرية، ولكن «دروفتي» الذي خشي من عواقب هذه المفاوضة وما سوف ينجم عنها من أذى يلحق بالمصالح الفرنسية إذا عقد الصلح بين الباشا والإنجليز، واستطاع هؤلاء استمالة محمد علي إلى تعزيز نفوذهم في مصر، لم يلبث أن أخذ يسعى بوسائله الخاصة لمعرفة ما دار بين الفريقين في إمبابة، ثم بعث بالمعلومات التي وقف عليها إلى السفير الفرنسي في القسطنطينية في رسالتين بتاريخ 16، 19 أغسطس.
وعلل «دروفتي» في رسالته الأولى السبب الذي حدا - في نظره - بالجنرال «فريزر» إلى إيفاد مندوبه إلى محمد علي، بأنه عدم تشدد الباشا في منع المؤن والمتاجر من الدخول إلى الإسكندرية؛ حيث أعطى «بتروتشي»، بوصفه قنصل السويد، تسهيلات عدة مكنته من إرسال مركبين إليها، وسقتا بالبضائع لحسابه، فشجع هذا القائد الإنجليزي على استئناف المفاوضة مع محمد علي، ثم ذكر «دروفتي» ما حدث فقال: إن الجنرال «فريزر» قد بعث مع مندوبه أي «ريفارولا» بكتاب يطلب فيه إطلاق سراح الأسرى الإنجليز في نظير التعهد بأن هؤلاء لن يحملوا سلاحا بعد ذلك ضد تركيا طوال مدة هذه الحرب بين هذه الأخيرة وبين إنجلترة، وعلاوة على ذلك فقد أفهم محمد علي أن بوسعه المباحثة مع هذا الضابط في شروط الصلح التي تناسبه، وعرف «دروفتي» جواب الباشا على هذه المقترحات، وفحواه أن محمد علي قد اشترط كأساس للدخول في أية مفاوضة مع الإنجليز إخلاء هؤلاء للإسكندرية وجلاءهم عنها.
ولما كان «ريفارولا» قد أحضر معه قدحا للقهوة مرصعا بالماس هدية من «فريزر» إلى محمد علي، فقد أهدى هذا الأخير القائد الإنجليزي أربعة خيول مطهمة، ولم يشأ الباشا غلق باب المفاوضة، كما أنه أراد من جهة أخرى إشعار «ريفارولا» بأنه مصر على انتزاع الإسكندرية عنوة من أيدي الإنجليز إذا رفض هؤلاء تسليمها إليه طوعا، فقال: إن هؤلاء سوف يتلقون منه جوابا أخيرا على مقترحاتهم لدى وصوله إلى دمنهور، وفي 17 أغسطس غادر «ريفارولا» إمبابة عائدا إلى الإسكندرية.
واستطاع «دروفتي» أن يحصل على معلومات أوفى عن هذه المفاوضة لم يلبث أن بعث بها إلى «سباستياني» في 19 أغسطس، وكان في رسالته هذه أن شكا «دروفتي» من تحذر الباشا وحيطته في أحاديثه معه، وامتناعه من إخبار «دروفتي» بحقيقة الرد الذي أجاب به على مقترحات الجنرال «فريزر» حتى إن «دروفتي» صار يسعى بوسائله الخاصة - كما قدمنا - لمعرفته، وقد تكللت جهود «دروفتي» بالنجاح لدرجة أنه استطاع ليس الوقوف على تفصيلات هامة لما جرى في إمبابة فحسب، بل وكشف البواعث - كذلك - التي جعلت الباشا راغبا في الاتفاق مع الإنجليز ومحالفتهم، ولبيانات «دروفتي» هذه التي بعث بها إلى «سباستياني» أهمية أخرى كبيرة؛ أولا: من حيث إنها تكشف كذلك عن تقصير حكومته في تزويده بالتعليمات التي كان يلح في المطالبة بها، الأمر الذي اتخذ منه خصومه السياسيون في هذه البلاد سبيلا لتجريحه والطعن عليه لدى محمد علي، ثم إن هذه البيانات ثانيا: توضح الطريقة التي عالج بها القنصل الفرنسي ما قد يترتب على الاتفاق، إذا تم بين محمد علي و«فريزر» من نتائج متصلة بوضع الباشا السياسي في علاقاته مع الباب العالي من ناحية، ومع الدول الأجنبية من ناحية أخرى.
فقد بدأ «دروفتي» بياناته هذه بقوله: إن جوابه على مقترحات القائد الإنجليزي كان مفرغا في عبارات فحواها أنه لم يفقد الأمل بتاتا في إمكان الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز على الرغم من غزوهم لأرضه، وأنه يوافق على تسليم أسراهم إليه بشريطة أن يجلوا عن الإسكندرية، وأنه بمجرد التفاهم على هذا الاتفاق المبدئي، يشرع في المفاوضة معهم للوصول إلى اتفاق تجني منه السياسة الإنجليزية ومصالح الأمة الإنجليزية التجارية في مصر فوائد عظيمة، ثم استطرد «دروفتي» يقول إنه علم أن الباشا في مقابلته الأخيرة مع «ريفارولا» قد قدم له دليلا على رغبته في عودة السلام هو أنه ترك دائما المؤن تأتي إلى الإسكندرية بواسطة طرق كان في وسعه إغلاقها، ثم إنه صرح له بأنه ينبغي أن تسود العلاقات الطيبة بينه وبين جميع الدول الأوروبية ما دامت هذه لا تقترب من مملكته؛ أي لا تريد به شرا، ثم إنه جعل «ريفارولا» يدرك أنه (أي الباشا) يدخل في مشروعاته استدعاء جيش فرنسي لنجدته إذا وجد أنه يعجز عن الاستيلاء على الإسكندرية بالقوات التي لديه فقط.
وأما «ريفارولا» فقد ذكر «دروفتي» أنه جعل الباشا يأمل في إمكان الوصول إلى اتفاق مع «فريزر»، وأكد له أنه سوف يعود لمقابلته بمجرد أن يقترب من الإسكندرية.
وعلق «دروفتي» نفسه على هذه المعلومات التي ظفر بها بقوله: «وهكذا يتضح أن تسليم الأسرى لم يكن في واقع الأمر إلا حجة تذرع بها «ريفارولا» للقيام بمهمته التي غرضها الحقيقي جس نبض الباشا لمعرفة نواياه الصحيحة، وما إذا كان لا يزال مصمما على التمسك بتلك الأغراض التي ذكرها ترجمانه أثناء مباحثاته مع القائد الإنجليزي في شهر مايو.
ولا شك أن الباشا قد لقي تأييدا في هذه المفاوضة من جانب القنصلين: الإنجليزي والروسي، «روشتي» و«بتروتشي»، ولما كان هذان قد نجحا في استمالة كل أفراد حاشية محمد علي، وخصوصا الترجمان الذي اشترياه بالمال، فلا يبعث على الدهشة أنهما نجحا كذلك في جعل الباشا يقبل المشورة التي أظهرت الوصول إلى اتفاق وتسوية مع الإنجليز كخير وسيلة لتحقيق ذلك الاستقلال الذي يصبو إليه، وأما فيما يتعلق بهذا الموضوع الأخير، أجد من واجبي أن أذكر لكم أن هذا الباشا لم يتردد بتاتا في إفهامي، أنه إذا استطاع طرد الإنجليز من مصر، فسوف يأمل حينئذ نظير دفع خراج سنوي إلى الباب العالي في الحصول من هذا الأخير على قدر من التحرر من سلطانه مشابه لذلك الذي تمتع به أوجاقات الغرب.»
وكان من رأي «دروفتي» أن نجاح المفاوضات بين محمد علي والجنرال «فريزر» ليس بالأمر العسير؛ لأسباب عدة، منها: أن القائد الإنجليزي يذكر دائما في اتصالاته مع محمد علي أن حكومته قد أرسلته إلى مصر لغرض واحد فقط، هو منع الفرنسيين من النزول بها، ثم إن الوزير الإنجليزي الجديد (والمقصود هنا «كاسلريه») وهو الذي يقال عنه إنه قد رفع عقيرته بعدم الموافقة على هذه الحملة - يشعر بأن إرسال جند إلى مصر من شأنه تزويد أكثر من دولة بالأسباب التي سوف تتذرع بها لطرد الإنجليز منها، ويفيد محمد علي من هذه الظروف كثيرا، حتى إنه كثيرا ما هدد القائد الإنجليزي بأنه سوف يطلب من الإمبراطور نابليون نجدة، يستعين بها لإخراج الإنجليز من الإسكندرية، أضف إلى هذا كله الصعوبات التي تصادفها الحكومة الإنجليزية في نقل قوات كبيرة إلى مصر، حتى ولو كان ذلك لتعزيز حامية الإسكندرية فحسب، بصورة تبعث على الاحترام، وهي قوات تنقص يوميا بسبب قسوة المناخ، ولا سبيل لسد هذا النقص من جراء ما يقع من حوادث ذات شأن عظيم في أوروبا، تتطلب قبل كل شيء آخر عناية الإنجليز التامة بها، ومن المتوقع أن تجعل معركة «إيلاو»
Eylau - في 8 فبراير 1807 - وما ترتب عليها من نتائج إنجلترة الغادرة تشعر بأنه قد حان الوقت الذي صار لزاما عليهم فيه ألا يقصروا فتوحاتهم على ما يتناسب مع ما لديهم من قوات برية، وهذه الأسباب - في رأي «دروفتي» - هي التي جعلت الوزارة الإنجليزية تجد مفيدا لها إنشاء الصلات الطيبة مع محمد علي، وهي صلات توفي الغرض منها، هذه اللحظة بذاتها، إن لم يكن بصورة أفضل وأكمل من تلك التي أرادتها الوزارة الإنجليزية القديمة مع البكوات المماليك.
وتكلم «دروفتي» عن أهمية الاتفاق المنتظر بين محمد علي و«فريزر» فقال: «وواقع الأمر سوف ينطوي على إخلاء الإسكندرية بناء على اتفاق هو من نوع معاهدة (مبرمة بين محمد علي والإنجليز) على الاعتراف بذلك الاستقلال الذي يبغيه الباشا، وسوف يضمن عند الحاجة تزويده بالنجدات اللازمة لقتال العدو المشترك، وببعض المنح المالية لسد مطالب جيشه، ومن ناحية أخرى فإن هذا الاتفاق سوف يزود الإنجليز بالوسائل التي تمكنهم من تموين مالطة وأساطيلهم في البحر الأبيض، فضلا عن تأمين حرية العلاقات التجارية بين مصر وإنجلترة وحماية التجارة الإنجليزية في هذه البلاد، وتسهيل المواصلات مع الهند وغير ذلك، وإنه ليبدو لي أن مثل هذه المعاهدة عند إبرامها سوف تحقق الأغراض التي توخاها الإنجليز من إرسال حملتهم على مصر أي حملة «فريزر»، إن لم يفق أثرها من هذه الناحية على ما كان يتوقعه هؤلاء من إرسال هذه الحملة.»
واعتقد «دروفتي» أن الباشا سوف يقبل يقينا الاتفاق مع الإنجليز بسبب ميوله التي لاحظها نحو الاستقلال، فقال: «ويبدو أن كل ما ذكرته من طموح محمد علي ومشاريعه الاستقلالية من شأنه أن يؤيدني فيما ذهبت إليه من حيث عدم استبعاد قبول الباشا للمقترحات التي عرضها عليه الإنجليز طبقا للخطة التي رسمت لكم خطوطها إجمالا»، ومع ذلك، ومهما كانت الأحوال والظروف فقد أخذ «دروفتي» على عاتقه - كما ذكر في رسالته هذه - أن يبذل قصارى جهده لعرقلة مساعي الإنجليز أعداء فرنسا، وإبطال مشروعاتهم، ثم كان عندئذ أن راح «دروفتي» يشكو من الوضع الذي أوجدته به حكومته من جراء عدم إرسالها تعليماتها إليه، فقال: «ومن الوسائل التي يعتمد عليها «روشتي» و«بتروتشي» وأمثالهما في النيل من سمعته والحط من شأنه لدى محمد علي، قولهما أن «دروفتي» لم يصله أي خطاب من وزيره بينما تصل الرسائل باستمرار إلى «روشتي» من حكومته، بل وكثيرا ما يأتي بها إليه ططري خاص، الأمر الذي ينهض دليلا - كما يقولون - على أن «دروفتي» وكيل لا يكاد يكون لآرائه أي وزن لدى حكومته، ولا يستحق لذلك أن يكون أهلا لوضع أي ثقة فيه.»
تلك إذن كانت المعلومات التي جمعها «دروفتي» عن مفاوضات إمبابة، وتعليقاته عليها، ولعل أبرز ما ذكره «دروفتي» في رسالته هذه بالنسبة للدوافع التي تجعل محمد علي في نظره راغبا في الاتفاق مع الإنجليز، ميول الباشا الاستقلالية التي فسرها القنصل الفرنسي بمسعى محمد علي من أجل الحصول على وضع مشابه لذلك الذي تتمتع به وجاقات الغرب، في علاقاتها مع الباب العالي، والمعروف عن هذه أنها كانت تخضع خضوعا اسميا للسلطان العثماني، ولا يتدخل هذا في شئون الحكم بها، على نحو ما سيأتي ذكره مفصلا في موضعه.
ومن الواضح أن الباشا، وهو الذي لم يركن كثيرا إلى إمكان الظفر بهذا الوضع الذي يريده من الباب العالي بسهولة، كان يجد في مؤازرة الإنجليز له خير ضمان لبلوغ هذه الغاية، طالما قد رضي بالتعاون معهم ضد فرنسا لمنعها من غزو مصر، فاعتبر الأتراك - حلفاءها وقتئذ وأعداء الإنجليز - أعداءه كذلك، ويترتب على محالفته نفسه مع الإنجليز أن يبادر هؤلاء بإبطال أية محاولة قد يقوم بها الباب العالي لإخراجه من الحكم في مصر، وثمة مزية هامة أخرى لم يفت إدراكها «دروفتي» أيضا هي أن حصول الاتفاق مباشرة بين محمد علي وبين الإنجليز، وسواء قبل الأخيرون المحالفة معه أو رفضوها، من شأنه ما دام قد حدث عن غير طريق الباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليه، وصاحب هذه البلاد قانونا، أن يمهد للاعتراف بذلك الوضع الممتاز الذي أراده محمد علي لباشويته في مصر على غرار باشويات أو نيابات وجاقات الغرب، وكان عقد المعاهدات من السلطات التي مارستها هذه الأخيرة في ممارسة شئونها وفي علاقاتها مع الدول الأجنبية.
وقد سهل على «دروفتي» جمع هذه المعلومات التي ذكرها في رسالتيه هاتين، زيارته للباشا في معسكره بإمبابة مع المشايخ والعلماء وأعيان القاهرة، و«روشتي» يوم 11 أغسطس لتحية محمد علي الذي أقام احتفالا وعمل شنكا مساء يوم 20 أغسطس، ثم أصدر أمره بالرحيل صوب دمنهور في صبيحة اليوم التالي، وبدأ جيشه بالزحف إليها وفي طريقه إلى الإسكندرية قريب الزوال يوم 21 أغسطس.
وحدث عند وصول الباشا إلى الرحمانية أن بعث يطلب الشيخ إسماعيل عبد اللطيف شيخ دسوق وصاحب الرسالة المعروفة إلى الجنرال «ستيوارت» في 16 أبريل أثناء حصار الإنجليز لرشيد في هجومهم الثاني عليها، فأرسل إليه طائفة من العسكر، فلما أتوا إليه امتنع، وقال: ما يريد الباشا مني؟ أخبروني وأنا أدفعه إن كان غرامة أو كلفة، فقالوا: لا ندري، وإنما أمرنا بإحضارك، فشاغلهم بالطعام والقهوة، ووزع بهائمه وحريمه والذي يخاف عليه، وفي الوقت وصلت مراكب وبها عساكر وطلعوا إلى البر، فركب شيخ البلد خيوله وخيالته واستعد لحربهم، وحاربهم وأبلى معهم، وقتل منهم عدة كبيرة، ثم ولى هاربا، فدخل العسكر إلى البلد ونهبوها، وأخذوا ما وجدوه في دور أهلها، وكان انتقام الأرنئود شديدا من خيانة الشيخ وعصيانه، فعبروا مقام السيد الدسوقي، وذبحوا من وجدوه من المجاورين، وفيهم من طلبة العلم العواجز.
ومنذ 2 سبتمبر كتب «دروفتي» من القاهرة إلى «سباستياني» أن الإنجليز بالإسكندرية يستعدون لإخلائها، وأن محمد علي قد اتخذ مقره العام بدمنهور، وأنه استطاع قبل هذا التاريخ القيام بعمليات استطلاعية حتى القطع أو الحد الذي بين بحيرتي المعدية ومريوط، ولو أن الإنجليز قد قابلوه بإطلاق المدافع عليه من زوارق مدفعيتهم الواقفة في هاتين البحيرتين.
على أن الباشا عندما دخل إلى دمنهور وجد في انتظاره بها رسولا موفدا من قبل الجنرال «فريزر» يسأله جواز مرور لضابط من رتبة عالية يذهب إلى دمنهور للمفاوضة مع سموه في أمور على غاية من الأهمية، وبعبارة أخرى للاتفاق على شروط الجلاء عن الإسكندرية. (3) اتفاق الجلاء عن الإسكندرية
فقد تسلم «فريزر» في 30 أغسطس التعليمات التي بعث بها إليه السير «جون مور» من «مسينا» في 11 يوليو، وفيها يخبره - كما علمنا - بضرورة الاستعداد منذ الآن لإخلاء الإسكندرية حتى يتسنى تنفيذ ذلك فورا بمجرد سماعه من السير «آرثر باجيت»، ويرجو إذا فشلت مفاوضات «باجيت» مع الأتراك أن يتمكن «فريزر» من الوصول إلى اتفاق مرض مع محمد علي والأرنئود على أساس تسليم الإسكندرية إلى هؤلاء في نظير تسليم الأسرى الإنجليز، وما يكونون قد استولوا عليه من مدافع ومهمات أثناء حربهم مع جيش «فريزر».
فكان بناء على هذه التعليمات أن شرع «فريزر» ينقل العتاد الثقيل وسائر المهمات التي لا تدعو الحاجة إليها إلى السفن سرا ودون أن يثير أية شكوك - كما قال - في أذهان السكان من ناحية أغراض الإنجليز ونواياهم، ولو أنه اضطر في الوقت نفسه إلى إبقاء بعض المهمات الضرورية لاستخدامها في عمليات الميدان والدفاع عن الإسكندرية؛ لأن الباشا كان قد أحضر إلى دمنهور وقتئذ قسما كبيرا من قواته التي بالقاهرة لتحقيق الغرض الذي أعلن عنه، وهو غرض لا يدل على حكمة كبيرة، من حيث تجريدنا من الإسكندرية.
ثم إن «فريزر» لم يلبث أن تسلم يوم 3 سبتمبر رسالتي «باجيت» المحررتين من جزيرة «إيمبرو» في 30 أغسطس، يطلب هذا فيهما منه التهيؤ للانسحاب من الإسكندرية فور وصول الأمر إليه بذلك، وقد ذكر له «باجيت» الأسباب التي دعته إلى إصدار تعليماته هذه إلى «فريزر» وهي - كما ذكرنا - توقعه الوصول قريبا إلى إبرام معاهدة مع الباب العالي سوف تكون نتيجتها المباشرة إخلاء مصر، على أن «باجيت» لم يلبث أن ذكر في إحدى رسالتيه هاتين أنه يعتقد عموما أن الواجب يقتضي «فريزر» عدم إضاعة وقت طويل على الأقل في بدء عملية إنزال الجند إلى السفن استعدادا للرحيل، ثم أضاف أنه لا مانع من أن يستعين «فريزر» بالمعلومات التي ذكرها له بشأن مفاوضاته مع الباب العالي، وتأكيد القبطان باشا له بأن الأسرى الإنجليز سوف يطلق سراحهم فورا، في تدبير الوسيلة التي يراها هو أكثر ملاءمة وأجدى نفعا في تنفيذ الوعد الذي أعطاه القبطان باشا لصالح الأسرى البريطانيين.
ولما كان «ريفارولا» قد عاد من مفاوضته مع محمد علي في إمبابة يحمل للقائد الإنجليزي تصميم الباشا على ضرورة جلاء الإنجليز عن الإسكندرية قبل أي اتفاق يعقد بينه وبينهم سواء بشأن أسراهم أو بشأن غير ذلك من الأمور، فقد صح عزم «فريزر» بوصفه قائد القوات البرية و«هالويل» بوصفه القائد البحري بالإسكندرية على الاستجابة لرغبة محمد علي، والموافقة على إخلاء الإسكندرية لقاء تسليم الأسرى البريطانيين من جهة، وإصدار عفو شامل من جانب محمد علي عن أهل الإسكندرية، وكل أولئك الذين عاونوا الإنجليز من أهل البلاد أثناء حملتهم.
وكان مبعث هذا الشرط الأخير أن الإسكندريين سرعان ما أفزعهم تقرير الإنجليز الانسحاب من الإسكندرية، وصاروا يخشون انتقام الباشا منهم، إذا سلمت إليه مدينتهم بعد مناصرتهم لأعدائه، واستبد بهم الفزع على وجه الخصوص من توقع ما سوف يلقونه على أيدي الأرنئود عند دخولهم إلى مدينتهم من اعتداء على أرواحهم وأموالهم، وتعريض مدينتهم لكل ضروب السلب والنهب التي اشتهر عن الأرنئود اقترافها في كل مكان يحلون به، لا سيما وأنهم كانوا قد منعوهم من الدخول إلى الإسكندرية للدفاع عنها، ومكنوا بدلا من ذلك للإنجليز احتلالها، وصاروا الآن لا يرون خلاصهم إلا في بقاء هؤلاء بمدينتهم أو تسليمها إلى حامية عثمانية، لا يتوقعون أن تعصف بهم.
وتصدى للدفاع عن الإسكندريين وعن قضيتهم كل من «هالويل»، و«فريزر» و«مسيت»، وعقدوا آمالا كبيرة على أن «باجيت» في مفاوضاته مع الباب العالي سوف يتسنى له اشتراط تأمين هؤلاء على سلامة أرواحهم وأموالهم وإنقاذهم من انتقام الأرنئود منهم، فكتب «هالويل» إلى «كولنجوود» في 20 أغسطس أنه قد أدهشه عند عودته إلى الإسكندرية أمس بعد تغيبه عنها ثلاثة أيام في أبي قير أن يجد حالة من الاضطراب والفزع تسود المدينة على أثر رواج إشاعة بأن الجنود البريطانيين سوف يخلون مصر، ولا يمكن وصف الرعب الذي استولى على أهل الإسكندرية، كما استبد بهم لدرجة اليأس الخوف من التخلي عنهم؛ ليقعوا فريسة لغضب الأرنئود الجنوني، ويبدو أن سبب ذيوع هذا النبأ عن رحيلنا هو ما اتبع في إنزال المهمات والعتاد من كل الأصناف إلى السفن في سرعة غير حكيمة ودون إخباري، كما كانت علائف الفرسان من بين الأشياء التي نقلت إليها، فضباط الجيش يتحدثون في ثقة عن انتظار الرحيل فورا، وكان من نتيجة الإجراءات السالفة الذكر على يد المسئولين في الحملة أن باع الضباط خيولهم وحميرهم، وابتاعوا المواشي تهيؤا لنقلها على ظهر سفن النقل وأخذها معهم، ولما كان السكان قد شاهدوا هذه الاستعدادات فقد هاجت خواطرهم بالضرورة وسيطر عليهم الفزع؛ ولذلك فقد وجدت من جانبي أن أبعث إليكم فورا بالسفينة الحربية «أبولو» لأبلغكم مخاوف أهل الإسكندرية ورغائبهم.
فهؤلاء إنما ترغبهم في حالة إبرام الصلح بين إنجلترة وتركيا فكرة التخلي عنهم دون اشتراط شيء في صالحهم، ويرتعدون خوفا من مغادرتنا لهذه البلاد قبل أن تأتي حامية من القسطنطينية لتسلم المدينة وقلاعها؛ حتى تحميهم من غضب الأرنئود وتهورهم، وهم (أي الأرنئود) الذين لا يمكن بحال تهدئة غضبهم هذا على أهل الإسكندرية بسبب ما أظهروه من ولاء ومحبة لنا؛ ولذلك فرجائي ألا أكون قد تجاوزت حدود واجبي إذا أبديت لكم ما أعقده من آمال كبار وباهتمام زائد على إمكان الوصول إلى ترتيب في حالة عقد الصلح مع تركيا، يتسنى بمقتضاه للجنود البريطانيين عدم مغادرة الإسكندرية حتى تصل إليها حامية عثمانية من القسطنطينية لتحل محلهم، وهذا كل ما يرجوه أهل الإسكندرية التعساء، ولا جدال في أنه يحق لهم بفضل ما أظهرناه نحن من ضروب الصداقة، وأكدناه بتصريحاتنا لهم أن يتوقعوا منا العناية بأمرهم. وأيد «كولنجوود» كل ما طلبه «هالويل».
وأما «فريزر» فقد كتب في اليوم نفسه إلى السير «آرثر باجيت» أن «هالويل» قد أبلغه هذه اللحظة بعزمه على إرسال إحدى سفنه فورا إلى «كولنجوود» لإحاطته علما بمقدار الفزع الذي ساد بين الإسكندريين نتيجة لذيوع الخبر عن عزم البريطانيين على إخلاء البلاد والجلاء عن الإسكندرية، ثم راح يؤيد رجاء «هالويل» في ضرورة إرسال حامية عثمانية إلى الإسكندرية عند عقد الصلح مع الباب العالي، حتى تتسلم المكان من البريطانيين، وتحول بذلك دون تعرض الإسكندريين لغضب الأرنئود وانتقامهم منهم.
وأما «مسيت» فقد أبدى نشاطا كبيرا في هذه الأزمة، وراح يجمع إمضاءات أكبر عدد ممكن من أعيان ووجوه الإسكندرية على مذكرة من سكان الإسكندرية إلى السير «آرثر باجيت»، يطلبون فيها نفس المطالب التي ذكرها «فريزر» و«هالويل» في كتابيهما إلى «باجيت» و«كولنجوود»، ثم شفع «مسيت» هذه المذكرة بكتاب منه إلى «باجيت» بتاريخ 22 أغسطس، يشرح فيه له مقدار الرعب الذي استولى على أهل هذه المدينة من جراء توقعهم إخلاء الجيش البريطاني لها، ثم راح يذكر لباجيت بعض الحوادث التي قد يجهلها هذا تنويرا له في هذه المسألة، منتهزا هذه الفرصة في الوقت نفسه للحملة على محمد علي، فقال إنه كان بفضل ما لدى حاكمها أمين أغا من آراء حرة أن حفظت الإسكندرية من الكوارث التي ترتبت على سقوط مصر في قبضة الأرنئود الذين استولوا على حكومتها ضد رغبات الباب العالي، ولقد حاول محمد علي في السنوات الماضية الاستيلاء على الإسكندرية، ولقي في ذلك معاونة كبيرة من الوكلاء الفرنسيين، حيث يستحيل عليه بدون الإسكندرية تحقيق مشروعاته التي يبغي منها جعل نفسه مستقلا عن الباب العالي، ولم يمنعه من بلوغ مأربه، ويحد من أطماعه سوى نوايا أمين أغا الطيبة، وكتابات الأهلين إلى الباب العالي، حتى إذا أعلنت روسيا الحرب على تركيا اعتقد محمد علي أن الفرصة قد سنحت لإدخال حامية من الأرنئود إلى الإسكندرية، ولكن الإسكندريين قاوموا ذلك، فإنهم ما إن علموا أنه قد صار إرسال جماعة من الأرنئود إلى رشيد مأمورين بالذهاب إلى الإسكندرية، حتى هب الإسكندريون يتسلحون دون إبطاء، وأظهروا عزمهم على الدفاع عنها إلى النهاية، وكان في هذا اليوم نفسه أن ألقت القافلة الإنجليزية بمراسيها بالقرب من الميناء الغربية، وهبط الجنود إلى البر في الليل التالي دون مقاومة، ثم سلمت الإسكندرية إلى ألف ومائة رجل من غير مدفعية، وقد ترتب على ذلك كله أن صار الإسكندريون مكروهين من محمد علي ورجال بطانته، ولا شك في أنهم سوف يتعرضون لكل صنوف القسوة والوحشية إذا استولى الباشا ورجاله على مدينتهم، ثم إن «مسيت» لم يفته تحريك مخاوف «باجيت» - وشأنه في هذا شأن سائر مواطنيه - من استعلاء النفوذ الفرنسي في هذه البلاد، وغزو الفرنسيين لها، فقال في ختام رسالته إنه يدهشه إخلاء الإسكندرية والحرب لا تزال دائرة مع فرنسا، فضلا عن أن وجود الأرنئود وحكومة محمد علي في مصر سوف يفضي إلى تفوق النفوذ الفرنسي بدرجة عالية جدا، يصبح معه من الخطر حتى سكنى البريطانيين في مصر.
وحمل مذكرة الإسكندريين ورسالة «مسيت» هذه إلى السير «آرثر باجيت» أمين بك الألفي، أحد رسل شاهين الألفي إلى «فريزر» في الإسكندرية أثناء شهري يونيو ويوليو، وكان البكوات قد أوفدوه لمقابلة السفير الإنجليزي، يطلب وساطته لدى الباب العالي في صالحهم، فوصل إلى «تينيدوس» في أول أكتوبر، وقابل «باجيت»، وسلمه المذكرة وكتاب «مسيت» له.
وأما رسالة «فريزر» إلى «باجيت» ورسالة «هالويل» إلى «كولنجوود»، فقد حملتهما السفينة أبولو إلى جزيرة «إيمبرو »؛ حيث كان لا يزال بها «باجيت»، فتسلمها هذا مساء يوم أول سبتمبر، ولقيت أقوال «فريزر» و«هالويل» قبولا لديه، وقرر بعد تبادل الرأي مع «كولنجوود» إلغاء الأمر الذي كان قد أصدره يوم 30 أغسطس بشأن المبادرة بالإخلاء فورا، وهو الأمر الذي وصل إلى «فريزر» بالإسكندرية يوم 3 سبتمبر - كما عرفنا - ولكن «باجيت» لم يلبث أن أضاف إلى ذلك قوله إنه لما كان يدرك تماما ما هنالك من ضرورة قصوى لتعزيز الجيش الموجود بصقلية ونجدته بكل القوات الممكنة، فإنه يطلب إليه أن يبعث إلى صقلية بأكبر قسم من جيشه، ويؤكد له في الوقت نفسه أن «كولنجوود» سوف لا يسأله إرسال أية قوات مما لديه إلى جزر الأرخبيل، وعلاوة على ذلك، فقد ترك لفريزر حرية التصرف في اختيار أجدى الوسائل التي يمكن بها استمالة محمد علي إلى إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، ووعد في ختام رسالته بالاهتمام بأمر الإسكندريين، واستخدام كل نفوذه في صالحهم، إذا جرت المفاوضات بينه وبين الحكومة العثمانية بصورة أكثر انتظاما مما حدث حتى هذا الحين.
على أن إلغاء أمر الإخلاء الذي كان مبعثه الاهتمام بالإسكندريين وإنقاذهم من غضب الأرنئود، لم يبطل استعدادات «فريزر» للجلاء عن الإسكندرية، أو يثنيه عن عزمه في المضي في مفاوضته مع محمد علي؛ وذلك لأن إلغاء أمر الإخلاء وصل «فريزر» يوم 6 سبتمبر، وكان هذا فور وصول تعليمات «باجيت» الأولى إليه قبل ذلك بثلاثة أيام، قد أوفد رسولا إلى محمد علي بدمنهور يطلب - كما عرفنا - جواز مرور لضابط يذهب إلى معسكر الباشا لإبرام الصلح معه، ثم إنه كان قد وضع بالاشتراك مع «هالويل» منذ 5 سبتمبر مسودة الاتفاق المزمع عقده، وعين الميجور «ريفارولا» لحمل هذه المسودة إلى دمنهور والمفاوضة مع الباشا بصدد الشروط التي تضمنتها، بل أن «ريفارولا» كان قد بدأ رحلته فعلا إلى دمنهور عندما تسلم «فريزر» تعليمات «باجيت» الأخيرة بشأن إلغاء الأمر السابق بالإخلاء؛ ولذلك فقد جاءت هذه التعليمات متأخرة وبعد فوات الوقت - على حد قول «فريزر» - وصار لا يسعه الآن النكوص على عقبيه، بعد أن قطع شوطا كبيرا في مفاوضته مع الباشا، ومهما قويت رغبته في تناول المسائل التي ذكرتها تعليمات «باجيت» الأخيرة ومعالجتها بكل عناية.
ولكنه لما كان «فريزر» و«هالويل» نفساهما قد اهتما بمسألة الإسكندريين، وحرصا على إنقاذهم من انتقام الأرنئود منهم، فقد ضمنا الشروط التي عزما على عرضها على محمد علي في المسودة التي حملها «ريفارولا» إليه شرطا يكفل حماية الإسكندريين وتأمينهم على أرواحهم وأملاكهم عند جلاء الإنجليز عن مدينتهم واحتلال الأرنئود لها.
وأما الشروط التي اقترحها «فريزر» و«هالويل» على الباشا، فقد كانت أربعة، صيغت في العبارات الآتية:
يتعهد الميجور جنرال «فريزر»، والكابتن «هالويل»، قائد قوات جلالة الملك البريطاني البرية والبحرية، بإخلاء مدينة وموانئ الإسكندرية وفق الشروط التالية:
أولا:
يطلق فورا سراح جميع أسرى الحرب البريطانيين في مصر، بما في ذلك كل أولئك الذين قد يكونون رقيقا في أيدي الأفراد، ويرسلون بطريق النيل حتى بوغاز رشيد؛ حيث يجري إنزالهم هناك في سفينة تنقلهم من هذه البلاد.
ثانيا:
يصدر عفو عام عن سكان الإسكندرية وغيرهم من أهل البلاد، دون نظر إلى الماضي فيما يتعلق بمسلكهم السابق في أي شيء منه، ويؤمنون على أرواحهم وأموالهم؛ حيث إن الضرورة وحدها هي التي اضطرتهم إلى اتخاذ الطريق الذي سلكوه.
ثالثا:
وإذا قامت صعوبات أو وجدت شكوك تستلزم تفسيرا لتذليلها وإزالتها، أو إذا قبل سمو والي مصر هذه المعاهدة بحذافيرها، فسوف يبعث الميجور جنرال «فريزر» في كلا الحالين بالميجور جنرال «شربروك» التالي له في القيادة، أو أي ضابط آخر مساو له (أي لفريزر) في الرتبة لمقابلة الباشا في أي مكان يعينه سموه بين القطع (بين بحيرتي المعدية ومريوط) ودمنهور، مزودا بالسلطات التي تمكنه من إعطاء التفسيرات اللازمة لإزالة ما قد ينشأ من صعوبات، وإبرام المعاهدة أخيرا.
رابعا:
يعلن الطرفان وقف القتال فور الموافقة على هذه الشروط، ويسمح لأحد ضباط الباشا من ذوي الرتب العالية بالمجيء هو وأتباعه إلى الإسكندرية لإتمام الترتيبات الضرورية.
وقد حمل «ريفارولا» هذه المقترحات إلى دمنهور، ومع أن الباشا قد قبلها فورا من حيث الأساس الذي قامت عليه، وهو جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وتسليمهم إياها له لقاء إطلاق سراح الأسرى، فقد أثيرت بعض المسائل المتعلقة بتفاصيل الاتفاق النهائي، وطلب الباشا قدوم «شربروك» للبحث في تسويتها، فأوفده «فريزر» إليه وبصحبته الكابتن «فيلوز»
Fellowes
وظل معهما «ريفارولا»، وبحث ثلاثتهم مع محمد علي هذه المسائل لإيجاد حل لها.
فقد طلب إلى محمد علي أن يقدم ضمانا على قيامه بتنفيذ شروط المعاهدة المزمعة فيما يتعلق بتسليم الأسرى الإنجليز نظير الجلاء عن الإسكندرية، ثم إنه لما كان قد بيع عدد من هؤلاء كرقيق، فقد لزم الاتفاق على ترتيب بشأن فك سراحهم عند العثور عليهم، وترحيلهم إلى أقرب المراكز الإنجليزية في البحر الأبيض، أضف إلى هذا أنه كانت هناك مسألة أمين بك الألفي تتطلب حلا لها، فقد ذهب إلى «تينيدوس» - كما ذكرنا - لمقابلة «باجيت»، وعني الإنجليز بتدبير أمر عودته إلى مصر وعدم تعرضه للأذى عند رجوعه إليها، ولكن هذه جميعها لم تكن مسائل يصعب الاتفاق عليها، وفي 14 سبتمبر 1807، وقع محمد علي باشا والميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» على اتفاق الجلاء عن الإسكندرية.
وتألف هذا الاتفاق من خمس مواد جاء فيها أنه لما كان الميجور جنرال «فريزر» قائد القوات البرية لصاحب الجلالة ملك بريطانيا، والكابتن «هالويل» قائد أسطول جلالته المرابط تجاه الساحل المصري، قد فوضا تفويضا تاما الميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» من ضباط البحرية الملكية لعقد وتوقيع معاهدة لإخلاء الإسكندرية، فقد اتفق صاحب السمو جليل الشأن محمد علي باشا والي مصر، والميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» - سالفا الذكر - على المواد الآتية:
أولا:
يوقف القتال فورا من الجانبين.
ويقوم القواد البريطانيون بإخلاء الإسكندرية، على أن يتم إخلاؤها في مدى عشرة أيام من التوقيع على هذه المعاهدة، مع ترك جميع القلاع والمتاريس والمدافع والمهمات وما إلى ذلك بالحالة التي هي عليها الآن، على أن يسلم صاحب السمو محمد علي باشا إلى القواد البريطانيين مصطفى بك صهر الباشا، وإسحاق بك عم الباشا، وسليمان أفندي مهردار الباشا أو حامل الأختام لينقلوا إلى سفينة حربية بريطانية ، يبقون بها كرهائن إلى أن يتم تنفيذ هذه المعاهدة.
ثانيا:
يطلق فورا سراح جميع أسرى الحرب البريطانيين في مصر، بما في ذلك أولئك الذين قد يكونون رقيقا في أيدي الأفراد، ويرسلون بطريق النيل إلى بوغاز رشيد؛ حيث ينزلون إلى سفينة بريطانية، (وهذه المادة مطابقة تماما للمادة الأولى ومقترحات «فريزر» و«هالويل» السابقة).
ثالثا:
يصدر عفو عام عن سكان الإسكندرية وغيرهم من أهل البلاد، دون نظر إلى الماضي فيما يتعلق بمسلكهم السابق في أي شيء منه، ويؤمنون على أرواحهم وأموالهم؛ حيث إن الظروف وحدها هي التي اضطرتهم إلى اتخاذ الطريق الذي سلكوه، (وهذه المادة مطابقة للمادة الثانية من المقترحات).
رابعا:
لما كان أمين بك الألفي قد أبحر من الإسكندرية أثناء احتلال القوات البريطانية لها، فإن صاحب السمو محمد علي باشا يعد إذا عاد أمين بك الألفي إلى هذا الميناء بأنه لا يناله سوء، بل ويؤذن له بالذهاب في أمان مع أتباعه - على ألا يزيد عدد هؤلاء على الاثني عشر شخصا - وأمواله إلى أي مكان يبغي الذهاب إليه.
خامسا:
ومع أن صاحب السمو قد قطع على نفسه عهدا مطالب بتنفيذه من حيث تسليم كل أسرى الحرب البريطانيين، وكذلك أولئك الذين صاروا رقيقا في هذه البلاد فورا، ولكن نظرا لأن كثيرين من هؤلاء الأخيرين مبعثرون، ومن المحتمل أن بعضهم موجود في أماكن بعيدة بعدا عظيما، فقد تقرر بقاء وكيل بريطاني بالإسكندرية بعد إخلائها؛ ليتسلمهم كلما صار العثور عليهم وإحضارهم؛ ولهذا الوكيل أن ينال من صاحب السمو كل حماية ومساعدة في الحصول على الأسرى الرقيق، ويسمح له بأن يرسل كل من يوجد منهم إلى أية سفينة حربية بريطانية في هذا الميناء، أو يرسلهم بأية وسيلة أخرى من وسائل النقل، قد تتيسر له إما إلى صقلية وإما إلى مالطة.
أبرمت هذه المعاهدة في معسكر صاحب السمو جليل الشأن محمد علي باشا - والي مصر - بالقرب من دمنهور في اليوم الرابع عشر من شهر سبتمبر عام 1807، الموافق 11 رجب سنة 1222 هجرية، إمضاءات: محمد علي باشا، «شربروك»، «فيلوز».
وبذلك انتهت المفاوضات الطويلة، والتي استمرت متقطعة أربعة أشهر بتمامها، بدأها محمد علي بجس نبض الإنجليز في مايو، وختمها «فريزر» انتهت بإبرام اتفاق الجلاء عن الإسكندرية، أن كتب يثني على الباشا ثناء مستطابا لما أظهره أثناء هذه المفاوضات من روح تتسم بالعدل والسماحة، حتى إنه كي يطمئن الإنجليز على أن أذى لن يلحق بالإسكندريين أو غيرهم من الأهلين الذين صادقوهم أثناء الاحتلال، لم يدع فرصة تمر دون أن يعلن تعهده القاطع، وكما أثبته في المعاهدة المبرمة، بالصفح والعفو عن هؤلاء دون نظر إلى سلوكهم الماضي. (4) موقف «دروفتي»
على أن النشاط الذي بدا في معسكر الباشا بدمنهور في الأيام القليلة التي سبقت عقد المعاهدة، لم يلبث أن استرعى نظر «دروفتي»، ومنذ أن نما إليه أن «ريفارولا» - كما قال - قد صدق وعده وعاد إلى دمنهور، ومقيم بمعسكر الباشا، وساور «دروفتي» القلق عندما جاء إلى القاهرة يوم 11 سبتمبر أحد ضباط محمد علي ليأخذ إلى دمنهور ضابطين من الأسرى الإنجليز الموجودين بالقلعة، ويحملان رتبة الكابتن، كما وصلت «بتروتشي» دعوة من الباشا حتى يصحب هذين الضابطين إلى دمنهور، ثم إنه وصل أمر الباشا إلى كتخدا بك «طبوز أوغلي» بالتهيؤ لإرسال كل الأسرى حتى أولئك الذين كانوا أرقاء في أيدي الأفراد العاديين، فبعث «دروفتي» بترجمانه إلى كتخدا بك يستفسر منه عما حدث، فكان جواب هذا الأخير أن محمد علي قد عقد الصلح مع الإنجليز، وأن هؤلاء سوف يخلون في أيام قليلة الإسكندرية، والسفن المهيأة لنقل الأسرى من القاهرة إلى رشيد، واقفة على قدم الاستعداد للنزول بهم في النيل إليها.
ويبدو أن الباشا كان معتقدا بأن المفاوضات التي بدأها «ريفارولا» بتسليمه مقترحات «فريزر» و«هالويل» في دمنهور سوف تنتهي بالاتفاق بينه وبين الإنجليز، وأنه شرع - حتى قبل إبرام المعاهدة - يتهيأ لإرسال الأسرى؛ كسبا للوقت ولتحقيق الجلاء عن الإسكندرية بكل سرعة، فقد ذكر الشيخ الجبرتي في حوادث 4 رجب 1222، الموافق 7 سبتمبر 1807، أنه في هذا اليوم قد وردت مكاتبات من الباشا بوقوع الصلح بينه وبين الإنجليز، واتفقوا على خروجهم من الإسكندرية وخلوها ونزولهم منها، وأرسل يطلب الأسرى من الإنجليز؛ وعلى ذلك فقد أصدر أمره قبل توقيع المعاهدة إلى كتخدا بك للاستعداد لنقل الأسرى بطريق النيل إلى رشيد.
فكان عندئذ أن اعتقد «دروفتي» أن الحكومة الإنجليزية قد قبلت مقترحات محمد علي، التي عرضها ترجمانه على «فريزر» بالإسكندرية في شهر مايو؛ أي الجلاء عن هذه الأخيرة في نظير إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكان من رأي «دروفتي» أن الحكومة الإنجليزية سوف تجد نفسها مرغمة في آخر الأمر بسبب ما يجري في أوروبا على قبول هذه المقترحات التي رفضها «فريزر» وقتذاك؛ وعلى ذلك، فقد اعتقد «دروفتي» بعد أن وصله جواب الكتخدا بك على استفساره، بأن الحكومة الإنجليزية قد أصدرت أوامرها بإخلاء الإسكندرية فعلا، وصار يهمه الآن أن يقف على حقيقة هذه المسألة وتفاصيل ما جرى بين الباشا والمندوبين الإنجليز، ثم رعاية المصالح الفرنسية بالإسكندرية ذاتها والسهر على أمن الفرنسيين والإيطاليين بها في الأيام الأولى من دخول الأتراك إليها، فبادر بإرسال «مانجان» يوم 14 سبتمبر إلى معسكر الباشا في دمنهور؛ للوقوف على حقيقة الموضوع، كما كلفه بالذهاب إلى الإسكندرية في حالة دخول الأتراك إليها للقيام بالمهمة التي سبق ذكرها.
ووصل «مانجان» إلى دمنهور يوم 15 سبتمبر؛ أي في اليوم التالي لعقد المعاهدة، ولم يكن المندوبون الإنجليز قد غادروا المعسكر بعد، فقصد «مانجان» إلى خيمة ترجمان الباشا الذي قابله في حيرة وارتباك ظاهرين، وعاد يبلغه أن الباشا يرجو تأجيل المقابلة معه حتى الغد؛ لأنه يخشى أن تثير مقابلته له استياء الإنجليز الذين في وسعهم وضع ما يشاءون من عراقيل لتأجيل جلائهم وخروجهم من مصر، وفضلا عن ذلك، فإن «شربروك» و«فيلوز» عندما شاهدا «مانجان» في المعسكر، بادرا بالذهاب إلى الباشا، يطلبان منه عدم مقابلته، فراح «مانجان» يذكر لترجمان الباشا أنه إنما حضر لإنهاء مسألة التجار الفرنسيين الذين لهم حقوق بوصفهم دائنين للميري والجمرك، وأنه يبغي بعد ذلك الذهاب إلى الإسكندرية للسهر على مصالح وأحوال مواطنيه بها عند دخول الأتراك إليها.
وكتب «مانجان» في تقريره إلى «دروفتي» عن مهمته بتاريخ 17 سبتمبر، أنه قابل محمد علي يوم 16 سبتمبر، بعد مغادرة المندوبين الإنجليز للمعسكر، وقد بدا وعلامات الارتياح ظاهرة على وجهه، وأخذ يتحدث إليه عن الدعاوى التي احتج بها لرفض مقابلة «مانجان» في اليوم السابق، فقال محمد علي إنه لا يستطيع في الظرف الراهن العمل ضد مصالحه، ولكنه في اللحظة التي يجلو منها الإنجليز عن الإسكندرية سوف يعاملهم دائما كأعداء لحكومته، ثم استطرد «مانجان» يقول: ويتحذر الباشا من الاصطدام مع أعدائنا في شيء مهما ضؤل، فهو حريص على مداراتهم بدرجة أنه رجاني أن أبقى حتى وقت رحيلهم في مكان لا يجعلني قريبا منه؛ لأن الجنرال الإنجليزي - وهو أحد المندوبين - عندما شاهد وصولي إلى المعسكر غضب غضبا شديدا - كما قال الباشا - وأراد رفض المعاهدة؛ ولذلك فإن الباشا يخشى أن تجد صعوبات بسببي تحول دون تنفيذ المعاهدة.
وعلى ذلك، فقد نقل «مانجان» خيمته، وكانت قريبة من خيمتي ترجمان الباشا و«بتروتشي»، ونصبها في معسكر «محو بك» الذي رحب به، ثم لم يلبث محمد علي أن أطلعه على المعاهدة التي بادر «مانجان» بإرسال نصوصها إلى «دروفتي».
وتختلف نصوص المعاهدة التي أطلع الباشا عليها «مانجان» في بعض التفصيلات عن النصوص التي تضمنتها المعاهدة التي أبرمت فعلا، فقد جاءت مادتها الأولى مبتورة وخالية من مسألة الرهائن لضمان تنفيذ المعاهدة، ثم نصت المادة الثانية عند ذكر تسليم الأسرى الإنجليز على استثناء أولئك الذين يريدون منهم البقاء في هذه البلاد، كما اختلفت المادة الثالثة في منطوقها ومدلولها عما جاء في نظيرتها في المعاهدة المبرمة فعلا، حيث نصت هذه على عدم إزعاج سكان الإسكندرية جميعهم، والأوروبيين المقيمين بها، مهما تنوعت الأعذار؛ لإلحاق الأذى بهم وإزعاجهم، ثم زادت المادة الرابعة المتعلقة بأمين بك الألفي على ما جاء بشأنه، تحديد المكان الذي ذهب إليه وهو «تينيدوس»، وبدلا من السماح له بالذهاب إلى أي مكان يريده عند عودته، ذكرت هذه المادة صراحة إجازة ذهابه إلى معسكره أي إلى إخوانه بالصعيد، وأخيرا جاء نص المادة الخامسة مغايرا تماما للنص الذي تضمنته المعاهدة المبرمة، فقد ذكرت هذه: «وإذا ظهرت بعض الصعوبات الصغيرة في فترة من الزمن قدرها عشرة أيام (أي من تاريخ عقد المعاهدة)، يجرى تسوية هذه بالطرق الودية، كما أن صاحب السمو لا يرفض كذلك إجابة ما قد يقدم إليه من مطالب مبعثها الود والصداقة.»
ومع أن بعض المواد التي جاءت بهذه المعاهدة التي أطلع محمد علي عليها «مانجان»، كانت متعلقة بمسائل حصل التفاهم عليها فعلا بين الفريقين؛ كاستثناء تسليم أسرى الحرب الذين يريدون بمحض اختيارهم البقاء في البلاد، أو يعتنقون الدين الإسلامي - وهذا ما لم تذكره هذه المعاهدة، أو تلك التي أبرمت فعلا - فالواضح أن الباشا لم يطلع «مانجان» على المعاهدة الحقيقية، ويفسر هذا ما ذكره «مانجان» نفسه عن رغبة الباشا في مداراة الإنجليز، ولخوفه إذا ترامى إلى هؤلاء أن صداقة الباشا لأعدائهم قد بلغت حدا جعله يطلعهم على تفاصيل اتفاقهم معه أن يعمد هؤلاء حينئذ إلى إثارة صعوبات تفضي إلى تعطيل الجلاء عن الإسكندرية، بينما يحرص هو من ناحية كل الحرص على جعلهم يعجلون بجلائهم عنها، ولما لم يكن خافيا عليه الغرض من مجيء «مانجان» إلى دمنهور، ورفض الباشا مقابلته إلا بعد ذهاب المندوبين الإنجليز، فقد أراد إزالة ما يكون قد ساوره من شكوك حول نواياه نحو فرنسا في الوقت الذي كان لا يريد الباشا فيه خسران صداقة هذه الدولة على حساب صداقة جديدة مع دولة لم يظهر وقتئذ أي دليل على أنها راغبة في الاستجابة إلى عروضه الأكثر أهمية؛ أي عقد محالفة معه ضد أعدائه وأعدائها من فرنسيين وأتراك، وهو ما جاء ضمن المقترحات التي حملها ترجمان الباشا في شهر مايو إلى «فريزر»، واعتبرها هذا وقتذاك غير معقولة وغير مفهومة.
على أنه لما كانت المعاهدة التي أطلع الباشا «مانجان» عليها قد خلت من أية نصوص متعلقة برعاية المصالح التجارية البريطانية والتعهد بمنع أي جيش أوروبي من الدخول إلى مملكته، يأتي لغزو مصر، أو يطلب المرور منها إلى الهند على نحو ما عرفه «دروفتي» عن بعض مقترحات الباشا عند بداية المفاوضات في شهر مايو، ووقف عليه وقتذاك من محمد علي نفسه، فقد ساورت «مانجان» الشكوك في أن المعاهدة التي أطلعه عليها الباشا الآن تشمل كل النتائج التي أسفرت عنها المفاوضة، وكتب في تقريره أنه من المحتمل وجود بعض مواد سرية ملحقة بهذه المعاهدة.
وكان عند عودة محمد علي إلى القاهرة بعد جلاء الإنجليز عن الإسكندرية وزيارة الباشا لها في ظروف سوف يأتي ذكرها أن تجدد الحديث بين «دروفتي» وبين محمد علي عن هذه المعاهدة، في مقابلة طويلة نقل خبرها «دروفتي» إلى «سباستياني» في 10 أكتوبر فقال: إن الباشا بعد عودته إلى القاهرة بيومين قابله، وبدأ هو (أي محمد علي) الحديث معه ببيان الضرورة القصوى التي حملته على إبعاد «مانجان» من معسكره العام بالقرب من دمنهور، ثم كذلك الظروف الملحة التي دعته إلى طلب سلفة من ثلاثين كيسا من التجار الإيطاليين بالإسكندرية، وقد حرص الباشا عند ذكر هذه المسألة الأخيرة على استرضاء «دروفتي» بإظهار ما وطد العزم عليه من رعاية المصالح الفرنسية، فاستطرد يقول إنه قد أصدر أمره إلى الدفتردار لدفع هذا المبلغ كله إليهم بكل سرعة بينما ينتظر الآخرون من رعايا الدول الأخرى حتى تدفع لهم مبالغهم من حساب جمارك الإسكندرية.
ويقول «دروفتي» إنه انتهز هذه الفرصة للاحتجاج بلهجة قوية على ما قد صار يبدو من عدم مراعاة وقلة مبالاة في المدة الأخيرة نحو وكلاء الحكومة الفرنسية على عكس ما صار يحدث مع وكلاء الدول المعادية أو المحايدة ويقصد القنصل الفرنسي هنا «بتروتشي» و«روشتي» على وجه الخصوص، ولكن الباشا علل ما حدث بأن الظروف وحدها هي التي اقتضت ذلك، وقال إنه يرغب مخلصا في أن تستمر علاقاته بي تسودها المحبة والانسجام كما كانت من قديم، وفضلا عن ذلك فقد حرص الباشا على إخبار «دروفتي » بأن القواد الإنجليز أرادوا إقناعه بأن جيشا فرنسيا سوف يحضر قريبا إلى مصر، ولم يدع الباشا فرصة ل «دروفتي» حتى يرد على هذا الكلام، بل استمر في حديثه إلى أن قال إنه بمثل الأتباع والجيش اللذين له لا يناسبه بتاتا أن يقبل استبدال أي حكومة أخرى، أو أي مكان آخر في تركيا بباشوية القاهرة، وقد علق «دروفتي» على هذه العبارة بأنه كان الأحرى به أن يقول إنه لن يشعر أنه آمن على نفسه وحكمه في أي مكان آخر أكثر مما يشعر به وهو في مصر.
ويكشف حديث الباشا هذا مع «دروفتي» في القاهرة، كما يكشف حديثه السابق مع «مانجان» في دمنهور عن حقيقة الأغراض التي كان يهدف إليها الباشا من اتفاقه مع الإنجليز، وهي أغراض سبق أن أوضحناها عند الكلام عن مرحلة جس النبض الأولى في المفاوضات التي جرت بينه وبينهم، وتتلخص في رغبة محمد علي أن يستطيع بتسوية خلافاته مع الإنجليز على أساس جلاء هؤلاء عن الإسكندرية ودخول هذه في حوزته، فيحرم الباب العالي من قاعدة هامة، يتسنى له حبك مؤامراته فيها ضد حكومته، أو يرسل إليها أساطيله بقيادة القبطان باشا، تحمل واليا جديدا يحل محله في حكم البلاد، وأمرا بإبعاده من مصر، ونقله إلى باشوية أخرى، نقول: إن محمد علي أراد بتسوية خلافاته مع الإنجليز التمهيد لعقد محالفة معهم، تؤمنه على باشويته في مصر ضد الأتراك أنفسهم قبل أي شيء آخر، ثم ضد أي غزو قد يأتيه من جانب الدول الأجنبية، ومنها فرنسا ذاتها، أضف إلى هذا كله أنه طالما بقي الإنجليز أصدقاء للمماليك، فقد انتفى كل اطمئنان لدى الباشا من ناحية الإنجليز والمماليك على السواء، وظل قائما في نظره خطر تجديد الأولين محاولتهم لغزو البلاد، واستمرار مناصرتهم للبكوات في مسعاهم من أجل استرجاع سلطانهم المفقود في حكمها.
ويزيد اتضاح هذه الحقائق عند الوقوف على ما يصح تسميته بالجانب السري من المفاوضات التي جرت بين محمد علي و«فريزر». (5) الجانب السري من المفاوضات
فقد تقدم كيف بدأ محمد علي محاولاته لإقناع الإنجليز بعقد محالفة معه، وقت أن بعث بترجمانه مع «ديلانسي» في شهر مايو إلى الإسكندرية لمقابلة «فريزر»، وكيف أخفقت هذه المحاولة الأولى، ولكن استئناف المفاوضات لم يلبث أن أحيا أمل الباشا في إمكان بلوغ غايته ، فانتهز فرصة وجود «شربروك» و«فيلوز» بمعسكره لإبرام المعاهدة، وراح يتحدث إليهما من جديد في أمر هذه المحالفة، ولما كانت عروضه السابقة من حيث رعاية المصالح التجارية البريطانية وتمكين النفوذ البريطاني في مصر، ومنع الفرنسيين من النزول في هذه البلاد، والدفاع عنها ضد أي اعتداء قد يقع عليها من جانبهم، لم تكف جميعها لإقناع الإنجليز بالمزايا التي سوف تكون لهم من التحالف معه، فقد عرض عليهم الآن نفس ما ظل أحد أحزاب المماليك برئاسة شاهين بك الألفي يؤكده للميجور «مسيت» وللجنرال «فريزر»، وهو وضع نفسه تحت حماية بريطانيا، ثم إنه لم يلبث أن لوح للإنجليز بمزية أخرى ونفع عاجل، يرجو به استمالتهم إلى عقد هذه المحالفة معه، فوعد بتموين سفنهم سرا طوال مدة الحرب، إذا اقتربت هذه من الإسكندرية تطلب تزويدها بالمياه العذبة من النيل أثناء تجوالها في البحر الأبيض، وطلب الباشا في نظير هذا كله أن يستخدم الإنجليز ما لديهم من قوات بحرية للدفاع عن الإسكندرية إذا حاول الأتراك أو الفرنسيون، أو حاولت جيوش أية دولة أخرى مهاجمة الإسكندرية بحرا.
وقد دلت رغبته في أن يعاونه الإنجليز على دفع أي هجوم قد يقع عليه من ناحية الأتراك، وهي نفس الرغبة التي أبداها بواسطة ترجمانه في شهر مايو، على أن الباشا قد صح عزمه قطعا على الظفر بذلك الاستقلال الذي أشار إليه «مسيت» في تقاريره مرات كثيرة، وبالوضع الذي ذكره «دروفتي» في تقاريره هو الآخر إلى «سباستياني»، أي الاستقلال على نمط ما هو قائم فعلا في وجاقات الغرب، وذلك بأن يستقل في شئون الحكم الداخلية، ويثبت في ولايته، ولا تربطه بالباب العالي سوى تبعية السيادة الرسمية التي لا يرمز لوجودها سوى دفع الخراج السنوي فحسب، والأهم من هذا كله أن يصبح الحكم في مصر وراثة في أسرته.
فمن المعروف أن وجاقات الغرب تتألف من طرابلس الغرب وتونس والجزائر، سميت بالوجاقات نسبة إلى الأوجاق أو الوجاق، وهو الطائفة من الجند، والمقصود هنا هو وجاق اليكجرية أو الانكشارية، وجاق السلطان، وهم الذين كانت قد صارت لهم الغلبة بعد فتح العثمانيين في القرن السادس عشر لهذه البلاد التي أهلها من البربر، فاستأثر الانكشارية بالسلطة الفعلية في وجاقات الغرب، فصاروا يولون ويعزلون «الدايات» في الجزائر حسب أهوائهم، ويستبد «الدايات» بالحكم، ولا يربط أحدهم بمقر السلطنة العثمانية سوى ما يبعث به «الداي» من الهدايا إلى القسطنطينية علامة على خضوعه للسدة السلطانية، ودفع الخراج، وتدهور نفوذ الدولة حتى انعدم كلية في تونس وطرابلس الغرب، فحكمت في تونس الأسرة أو الدولة الحسينية نسبة لمؤسسها المولى حسين بن علي منذ 1701، وكان الحكم وراثيا في هذه الأسرة، ويعاصر هذه الحوادث في مصر من حكامها الباي حمودة باشا (1782-1814)، وحكمت في طرابلس الغرب الأسرة القره مانلية، نسبة إلى مؤسسها أحمد بك القرمانلي منذ 1711، وكان الحكم وراثيا في هذه الأسرة كذلك، وكان الحاكم وقتئذ يوسف باشا القره مانلي (1795-1835)، وكان كل هؤلاء الدايات في الجزائر والبايات في تونس والباشوات في طرابلس الغرب مستقلين في شئونهم الداخلية عن سلطان الدولة العثمانية، بل ويستقلون عنها كذلك لدرجة بعيدة في علاقاتهم الخارجية مع الدول الأجنبية، ولا يربطهم بالسلطان العثماني سوى التبعية الاسمية.
وذلك إذن هو الوضع أو الاستقلال الذي طمح إليه محمد علي، وأراد التهيؤ لبلوغه بكسب صداقة الإنجليز، واستمالتهم إلى التحالف معه، وكانت رغبته في الظفر به من الباب العالي طوعا أو كرها مبعث تلك المفاوضة السرية التي أجراها مع الإنجليز إلى جانب مفاوضته العلنية معهم، والتي انتهت بعقد اتفاق الجلاء عن الإسكندرية.
وقد كشف عن هذا الجانب السري من المفاوضات الجنرال «فريزر» في رسالة له بعث بها إلى الجنرال «مور» من «مسينا» في 16 أكتوبر، جاء فيها ما نصه: «أرجو أن تسمحوا لي بأن أبسط لكم ليكون موضع نظركم فحوى محادثة جرت بين باشا مصر والميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» أثناء قيامهما بمهمتهما لدى سموه، ولدي ما يجعلني أعتقد، من هذه المحادثة ومن اتصالات خاصة كثيرة أخرى كانت لي معه، بأنه جاد وصادق فيما يقترحه.
لقد أبدى محمد علي باشا والي مصر، رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية، ووعدنا بإبلاغ مقترحاته إلى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية؛ كي يقوم هؤلاء بإبلاغها إلى الحكومة الإنجليزية للنظر فيها.
ويتعهد محمد علي من جانبه بمنع الفرنسيين والأتراك، أو أي جيش تابع لدولة أخرى من الدخول إلى الإسكندرية لغزوها من طريق البحر، ويعد بالاحتفاظ بالإسكندرية وامتلاكها كصديق وحليف لبريطانيا العظمى، ولكنه لا مناص له من انتظار أن تعاونه إنجلترة بقواتها البحرية إذا وقع هجوم عليه من جهة البحر؛ لأنه لا يملك سفنا حربية.
ويوافق محمد علي باشا في الوقت نفسه على تزويد كل السفن البريطانية التي تقف على بعد من الإسكندرية بما قد تحتاج إليه من ماء النيل عند إعطائها إشارة - يصير الاتفاق عليها - تدل على ذلك، فينقل الماء عندئذ إلى السفن التي تطلبه في قنجات، يحضرها الباشا لهذا الغرض، ولما كان من المرغوب فيه أن يجري نقل الماء إلى السفن في ظلام الليل، فلا ينتظر حدوث ذلك في غير الأوقات التي تكون فيها حالة الجو طيبة.
ويجب أن يكون مفهوما أنه بمجرد أن يتم إخلاء الجنود البريطانيين للإسكندرية، يبدأ بأسرع وقت ممكن إنزال أسرى الحرب إلى السفن وإبحارهم، وأنه عندما يتأكد لدى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية أن جميع أسرى الحرب، ثم من أمكن العثور عليه من أسرى الحرب الذين بيعوا كرقيق، قد أنزلوا إلى السفن، يقوم هؤلاء الرؤساء بإرجاع الأشخاص الذين سلمهم الباشا إليهم كرهائن في أمن وسلام، وإذا حدث أن أحدا من أسرى الحرب، أو الذين بيعوا كرقيق قد اعتنق الإسلام، ثم أراد البقاء في البلاد، فله أن يفعل ذلك، ولكنه يجب أن يستجوب مثل هؤلاء فيما يتعلق بإسلامهم ورغبتهم في البقاء شخص يعينه الرؤساء في قيادة القوات البريطانية - وبحضور أحد ضباط الباشا - فإذا أعلن عندئذ أنه إنما أراد ذلك بمحض اختياره، فلن يطلب البريطانيون استرجاع مثل هذا الرجل.
وتسلم الإسكندرية إلى كتخدا بك عندما تكون آخر طائفة من الجند البريطانيين قد صارت على وشك الإبحار من الإسكندرية، ويسمح لعدد كاف من جند الباشا بالمرور من القطع بين المعدية ومريوط؛ لتمكينه من توطيد سلطته والمحافظة على الأمن والسلام في الإسكندرية.
ويقوم الرؤساء في قيادة القوات البريطانية بإسداء كل مساعدة؛ لتمكين هؤلاء الجنود من عبور القطع بجلب السفن إلى هذا المكان، وإذا اتضح أن هناك صعوبة في الحصول على عدد كاف منها، يسمح للسفن التي تأتي بأسرى الحرب إلى بوغاز رشيد بالذهاب إلى القطع للقيام بهذه المهمة.»
وواضح من كل هذه المسائل التي ذكرها «فريزر» أن الباشا قد عني بشيئين: عقد محالفة دفاعية مع الإنجليز، وتعجيل جلاء هؤلاء عن الإسكندرية حتى يتسنى له دخولها بكل سرعة والاطمئنان إلى امتلاكها نهائيا.
وإذا كان الإنجليز لم يشاءوا عقد محالفة دفاعية مع محمد علي ضد الأتراك والفرنسيين أعدائهم وأعدائه على السواء، وأن يكونوا بمعنى آخر الأداة التي يستطيع بها محمد علي في هذه المرحلة المبكرة من حياته السياسية الطويلة، أن ينتزع من الباب العالي الاستقلال الذي يصبو إليه، وأن يتمتع بالوضع الذي أراده مشابها لذلك الذي كان لوجاقات الغرب، فقد حقق الغرض الآخر والمباشر الذي هدف إليه، وهو امتلاك الإسكندرية، فوضع بذلك الأساس الأول لتوطيد سلطانه في ولايته، ثم التفرغ بعد ذلك لإدراك استقلاله سواء تم له هذا الاستقلال في نطاق الدولة العثمانية أو بالانفصال عنها كلية.
وأما الخطوة التالية لإبرام اتفاق دمنهور، فكانت التهيؤ لدخول الإسكندرية. (6) الإسكندرية في حوزة محمد علي
فقد جرى تسليم الأسرى بكل سرعة يوم 12 سبتمبر، وبدأ إخلاء الجنود البريطانيين للإسكندرية، ونزولهم إلى السفن في اليوم التالي، ثم بدأ خروج هذه من الميناء القديمة يوم 14 سبتمبر، وما وافى يوم 19 سبتمبر حتى كان قد تم إخلاء الإسكندرية.
وكان الباشا لرغبته في امتلاكها دون إبطاء قد عين كتخدا بك «طبوز أوغلي» حاكما لها، وقضى هذا جملة أيام ببركة غطاس مع طليعة جيش الباشا المعد لاحتلال المدينة، ثم احتل القطع يوم 17 سبتمبر، وفي اليوم نفسه دخل إلى الإسكندرية مع خمسين من رجاله ليجد بعض الإنجليز لا يزالون يحتلون القلاع والمراكز الرئيسية.
وأرسل «طبوز أوغلي» خبر احتلاله الإسكندرية إلى الباشا، فغادر هذا دمنهور فورا على رأس ألفين من جنده، وواصل السير الليل كله حتى وصل إلى بحيرة المعدية، ووجد عند القطع الكابتن «هالويل»، ينتظر في قارب وصول الباشا لزيارته تحية له، وعسكر الباشا في هذا المكان، وفي صبيحة اليوم التالي (20 سبتمبر سنة 1807) دخل الباشا الإسكندرية على دوي المدافع التي أطلقت من طبياتها تحية له، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تطأ قدما محمد علي فيها أرض الإسكندرية، وبادر القناصل والأعيان وكبار التجار والمشايخ والعلماء ورؤساء الجند بتقديم التحية، ثم نزل الباشا يزور المدينة وتحصيناتها وأبوابها وقلاعها ومخازنها.
وكان أول ما استرعى انتباه الباشا أن الخزانة بالإسكندرية خالية من المال، فأمر بفحص حسابات الجمارك وسجلات احتكارات الصودا وأصناف السوائل، وتبين من هذا الفحص أن الأموال المحصلة منها والتي كان يجب أن تمتلئ بها خزانة الحكومة بالإسكندرية، قد بددت، فلم يكن هناك معدى حينئذ عن تدبير قدر من المال لسد مطالب الإدارة الجديدة على وجه السرعة، ولدفع مرتبات الأرنئود قبل أي شيء آخر؛ وعلى ذلك، فقد أخذ من التجار الأوروبيين بالثغر سلفة قدرها عشرون ألف ريال إسباني أو سبعة ومائة ألف فرنك، تقوم جمارك الإسكندرية بسدادها لأصحابها من إيراداتها، وكانت هذه هي السلفة التي تحدث الباشا في موضوعها مع «دروفتي» عند عودته إلى القاهرة على نحو ما سبق ذكره.
وكان أثناء تغيب الباشا عن القاهرة أن وصل إلى دمياط قابجي يسمى نجيب أفندي، يحمل هدايا من السلطان العثماني إلى محمد علي وكبار رجال حكومته مكافأة للباشا على بلائه الطيب وانتصاره على الإنجليز، فبلغ بولاق يوم 14 سبتمبر، وعندما علم بوجوده بناحية البحيرة ذهب إليه لمقابلته، ويقول الشيخ الجبرتي: إن هذا الرسول قابل الباشا بدمنهور، ولكن غيره من المعاصرين يذكرون أن الباشا كان بالإسكندرية عندما تسلم هو ورجاله هدايا السلطان إليهم، وهي لخصوص الباشا قفطان وسيف، وشلنج وخلع لكبار العسكر حسن باشا، وطاهر باشا، وعابدين بك، وعمر بك الأرنئودي، وصالح قرش قوج، وأما الجنود الذين أبدوا بسالة أثناء النضال مع الإنجليز، فقد كوفئوا بنياشين فضية علقوها على عمائمهم.
ثم حدث أثناء وجود الباشا بالإسكندرية كذلك أن وصل إلى دمياط أحد ضباط الباب العالي، يصحبه إبراهيم بك بن محمد علي الذي كان القبطان صالح باشا قد أخذه رهينة إلى القسطنطينية في أكتوبر سنة 1806؛ حتى يدفع محمد علي مبلغ الأربعة آلاف كيس التي وعد بدفعها إلى الباب العالي؛ نظير تثبيته في الولاية عند انتهاء أزمة النقل إلى سالونيك، فدلت إعادة إبراهيم على رضاء السلطان عن الباشا وتقديره لجهوده، وبلغ إبراهيم القاهرة بصحبة هذا القابجي باشا يوم 26 سبتمبر.
ولم تخل إقامة الباشا في الإسكندرية من المتاعب، فقد تمرد الأرنئود في الأيام الأولى من شهر أكتوبر؛ بسبب رداءة المياه المجلوبة من الصهاريج، وقلة الأغذية والمؤن بالمدينة، ورفعوا عقيرتهم مطالبين بالمرتبات المتأخرة لهم، ووقعت الاضطرابات، ولكن الباشا لم يلبث أن أعاد النظام إلى نصابه بفضل ما دفعه للجند من السلفة التي أخذها من التجار الأوروبيين، ثم سرعان ما وصلته أنباء أخرى مزعجة عن فعال الجند الذين بالقاهرة؛ لأنه ما إن ارتفع خطر الغزو الأجنبي وزال الخوف من نفوسهم، حتى استأنفوا فعالهم الذميمة، وقد تزايدت الآن جرأتهم ووقاحتهم، فعم البلاء في القاهرة وسادت الفوضى بها، فأفحش العساكر في التعدي على الناس، وغصب البيوت من أصحابها، ولم يستثنوا من ذلك أعيان الناس والمقيمين بالبلدة من الأمراء والأجناد المصريين وأتباعهم المماليك ونحوهم، وآذوا مشايخ العلم، ولم يفد هؤلاء احتجاجهم بأنهم مسلمون، وأن النصارى واليهود يكرمون قسسهم ورهبانهم، حيث أجابهم الجند أنتم لستم بمسلمين؛ لأنكم كنتم تتمنون تملك النصارى لبلادكم وتقولون أنهم خير منا، ونحن مسلمون ومجاهدون طردنا النصارى وأخرجناهم من البلاد، فنحن أحق بالدور منكم، وصاروا يفرضون الغرامات على الوجهاء والأعيان نظير ترك دورهم لهم، فما إن بلغت هذه الأخبار محمد علي حتى قرر العودة إلى القاهرة.
فغادر الباشا الإسكندرية بطريق البر إلى رشيد، حيث أمضى بها ساعات قليلة أصدر في أثنائها الأوامر والتعليمات اللازمة لإنشاء سور يحيط بها، ثم نزل في النيل قاصدا إلى القاهرة، وحدث عند زفتيه أن انقلبت السفينة الصغيرة التي كان بها الباشا، وبصحبته حسن باشا طاهر، وسليمان أغا صالح وكيل دار السعادة سابقا، وصاحب الدور المعروف أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم تمرد ياسين بك الأرنئودي، فأشرف ثلاثتهم على الغرق، وتعلق بعضهم بحرف السفينة، ومع أن الباشا كان يحسن السباحة، فقد لازم رفيقيه محاولا إنقاذهما حتى لحقت بهم سفينة أخرى، فطلب من نوتيتها الاهتمام بحسن باشا وسليمان أغا، وأما هو فقد سبح إلى الشاطئ، واستأنف الجماعة سيرهم فوصلوا إلى ساحل بولاق يوم 5 أكتوبر.
وأما الإنجليز، فقد تم إخلاؤهم للإسكندرية - كما قدمنا - يوم 19 سبتمبر، وما إن تسلموا أسراهم حتى أبحرت بهم الناقلات إلى «مسينا» في 22 سبتمبر، وتم إبحار سائر جيش الحملة من خليج أبي قير في 25 منه، وقد ترك «فريزر» بالإسكندرية «بتروتشي» مندوبا بريطانيا؛ للإشراف على جميع أسرى الحرب الذين بيعوا للأفراد كرقيق، وترحيلهم من البلاد، ثم ملاحظة المصالح البريطانية في الوقت نفسه، وقد جرد الآن «بتروتشي» - وهو مالطي - من عمله كنائب قنصل لبريطانيا في رشيد، وبقي له عمله كقنصل للسويد فحسب، وعين «فريزر» مساعدا له في مهمته أحد التجار الإنجليز، ويدعى «هود»
Hood ، وكان قد اضطر إلى مغادرة القسطنطينية مع السفير الإنجليزي السابق بها «أربثنوت»، واعتقد «فريزر» أنه بفضل ما له من معرفة بعادات وتقاليد البلاد لإتقانه اللغة التركية، سوف يكون ذا نفع عظيم في مركزه الجديد هذا، وقد سمى «فريزر» كذلك مالطيا يدعى «أني»
Anny
وكيلا بريطانيا بالإسكندرية.
وقد ترتب على جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، أن غادر هذه كثير من أولئك الذين اعتقدوا - كما قال «فريزر» وهو يبعث برسالته إلى «كاسلريه»، من على ظهر الباخرة تيجر في 26 سبتمبر في طريقه إلى صقلية - أنهم صاروا موضع كراهية عظيمة؛ بسبب صداقتهم ومعاونتهم للإنجليز، وقد لجأ بعض هؤلاء إلى البريطانيين حتى يحملوهم على ظهر سفنهم معهم، بينما هاجر عديدون من سكان الإسكندرية، مسلمين ومسيحيين على السواء، ومن بين هؤلاء الأخيرين أسر لبنانية كثيرة ذهبت إلى الشام، كما قصد بعض المهاجرين إلى وجاقات الغرب، ونزح قسم كبير من فقراء الإسكندرية إلى الصحراء؛ ليعيشوا مع البدو في خيامهم، وقد حذا حذو هؤلاء المهاجرين كثيرون من أهل رشيد كذلك.
ومن بين الذين هاجروا من الإسكندرية الشيخ محمد المسيري، وقد نزل كتخدا بك طبوز أوغلي بداره عند دخوله الإسكندرية، ثم الشوربجي أو رئيس قضاة الإسكندرية سيدي قاسم غرياني، وأما الشيخ إبراهيم باشا - زوج كريمة الشيخ محمد المسيري، وأحد الموقعين على اتفاق تسليم الإسكندرية إلى الإنجليز في 20 مارس - فقد آثر أن يقبل قدمي محمد علي؛ يطلب الصفح منه على الهجرة من الإسكندرية، فعفا عنه الباشا وأمنه على حياته، وخلع عليه فروة ثمينة.
ثم كان من بين أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة الإسكندرية أعضاء البعثة البريطانية - بطبيعة الحال - الكابتن «تابرنا» السكرتير العام، ويوسف عزيز الترجمان الأول، و«أرنست مسيت» رئيس البعثة، وقد غادر هؤلاء الإسكندرية بعد إخلائها في 19 سبتمبر، وأبحروا مع الجيش إلى صقلية فبلغوها يوم 16 أكتوبر، وكان «فريزر» نفسه قد سبقهم إليها منذ 11 أكتوبر.
ووجد «مسيت» متسعا من الوقت وهو بصقلية؛ ليؤيد قضايا أولئك الذين صادقوا الإنجليز، واعتبرهم حلفاء لهم، وكانوا في رأيه في حاجة إلى المساعدة، ولا يجب على البريطانيين أن يتخلوا عنهم وعن قضيتهم بعد انسحابهم من هذه البلاد، فانبرى الآن لمساعدة قاسم غرياني، وأمين بك الألفي، وتأييد قضية المماليك عموما بقدر طاقته، وسلك في هذه المسألة الأخيرة نفس طريق الإيحاء والتمويه التي سلكها في السابق كلما أراد أن يزيل من ذهن رؤسائه عبث الاعتماد على البكوات؛ بسبب الخلافات السائدة بينهم وقصورهم عن إدراك ما فيه صالحهم، فبعث وهو بمسينا برسالة مطولة إلى «كاسلريه» في 21 أكتوبر، تحدث فيها عن استحقاق سيدي قاسم غرياني لكل مساعدة، وهو الذي اضطر بسبب صداقته للإنجليز إلى الهجرة من الإسكندرية، وترك أمواله وأملاكه التي صادرتها حكومة الباشا.
وكان مما ذكره «مسيت» لتأييد مساعيه في صالح هذا الشيخ، أن الحكومة البريطانية كانت قد منحت سيدي قاسم غرياني عشرة شلنات معاشا يوميا؛ مكافأة له على الخدمات التي أداها أثناء الحملة البريطانية الأولى على مصر (1801)، وأجد من العبث محاولة إيفائه كل حقه من المديح والثناء؛ بسبب الجهود المتصلة التي بذلها إبان وجود الجنود البريطانيين بقيادة الميجور جنرال «فريزر» بالإسكندرية، ولكني أستطيع أن آخذ على عاتقي باطمئنان القول بأن الفضل إنما ينسب إليه، وإلى ما أبداه من همة في حصول الجيش على المؤن والأغذية التي حصل عليها أخيرا بكثرة وفيرة، ولقد وعد الليفتنانت جنرال السير «جون مور» سيد قاسم غرياني بمضاعفة المعاش المعطى له، وذلك ابتداء من يوم 25 سبتمبر، ولا أشك في أنكم سوف تؤيدون وعد السير جون، والحقيقة أن عشرين شلنا يوميا لا تكاد تكفي لإعالة رجل في مثل مكانته مع أسرته، وأرجو أن ترى الحكومة البريطانية أنه مما يتفق مع كرامتها أن تعوض هذا الشيخ تعويضا مناسبا عن الأضرار التي لحقت به نتيجة لما أظهره من ولاء نحو المصالح البريطانية.
وتحدث «مسيت» في رسالته هذه كذلك عن المماليك، فاستهل حديثه عنهم بملاحظة من المستغرب صدورها عنه، حيث قال: «إنه يمكن الآن اعتبار أن المماليك كحزب أو جماعة سياسية، قد عفت آثارهم أو كادت، فقد وقع الخلاف بينهم قبل إخلاء الإسكندرية بوقت قصير حول توزيع القرى، وتحاربوا وسقط أثناء القتال تسعة منهم، أحدهم خليفة عثمان بك البرديسي.» ولكن هذا الاستغراب لا يلبث أن يزول عندما نجد «مسيت» يحاول إسناد هذا الفشل الذي أصابهم إلى جلاء الإنجليز عن البلاد، فقد استمر يقول: وليس هناك أي شك في أن إبراهيم بك سوف يبذل الآن قصارى جهده لعقد السلام مع الباشا، حيث قد انعدم لديه كل أمل في انتظار أية مساعدة من الحكومة البريطانية.
أما عن أمين بك الألفي، فإنه ما إن ذاع الخبر في النصف الأخير من شهر أغسطس بأن الإنجليز يعتزمون إخلاء الإسكندرية، حتى لقي كل تشجيع من «مسيت» للذهاب إلى «تينيدوس»؛ لمقابلة السير «آرثر باجيت» يسأله التوسط لدى الباب العالي في صالح البكوات أثناء مفاوضة «باجيت» مع العثمانيين، وحتى يبسط له وضع المماليك ونواياهم ورغائبهم، وقد سبق كذلك أن ذكرنا أن «مسيت» حمل أمين الألفي مذكرة والتماس الإسكندريين إلى «باجيت » مشفوعة برسالته إليه بتاريخ 22 أغسطس، فوصل أمين إلى «تينيدوس» في أول أكتوبر، وقابل «باجيت» وسلمه رسائل «مسيت»، واعتقد «باجيت» أن محمد علي يؤيد المصالح الفرنسية، وصح عزمه إذا أتيحت له الفرصة ودخل القسطنطينية، أن يبذل قصارى جهده لحمل الديوان العثماني على نقل أو إخراج محمد علي من باشوية مصر، وقد تحدث إليه أمين الألفي كذلك عن مهمته، ولكن «باجيت» لم يستطع فعل شيء له؛ لفوات الوقت، وقد راح يذكر في كتاب له إلى وزير الخارجية «جورج كاننج» في 4 أكتوبر وقائع بعثة أمين هذه، ويؤخذ مما ذكره عنها أن أمين الألفي عندما وقف على فشل «باجيت» في مفاوضته مع الباب العالي، تزايد شعوره بحرج موقفه، وصار لا يجرؤ على الذهاب إلى القسطنطينية أو العودة إلى الإسكندرية؛ لأنه من المحتمل أن تكون هذه قد انتقلت الآن إلى يد محمد علي، والعلاقات بين الباشا والبكوات سيئة، ثم إن أمين بك لم يشأ المكث في «تينيدوس»؛ خوفا من أن يلحق الأذى بمصلحته إذا عرف الباب العالي أنه موجود بها؛ وعلى ذلك، فقد طلب أمين أن يسمح له بالذهاب إلى مالطة، وأجابه «باجيت» إلى رغبته، وفي 2 أكتوبر أبحر أمين إلى مالطة فوصلها في نوفمبر.
وراح أمين - وهو بمالطة - يؤكد لحاكمها السير «ألكسندر بول» صداقة البكوات للإنجليز وولاءهم لهم، واعتماد المماليك على مساعدة هؤلاء لهم، وتذكيرهم الإنجليز بالوعود التي بذلوها للبكوات، ثم طلب من بول مساعدته على الذهاب إلى طرابلس الغرب؛ لسؤال حاكمها يوسف باشا القره مانلي معاونته على العودة بطريق الصحراء إلى مصر، وكان بعد انقضاء ثلاثين يوما تقريبا من وجوده بمالطة، أن كتب أمين الألفي إلى «مسيت» بتاريخ 2 ديسمبر سنة 1807، يقص عليه ما حدث له منذ مغادرته للإسكندرية إلى مجيئه إلى مالطة، ويرجوه إبلاغ كل هذه التفاصيل إلى حكومته، ثم عاد يؤكد صداقة البكوات لبريطانيا، فقال: «ولا شك في أنكم قد عرفتم أثناء وجودكم بالإسكندرية، كم من مرة عرض علينا فيها محمد علي مقترحات مختلفة لقبول الصلح معه، ولكننا لاعتمادنا على مساعدة الإنجليز لنا قد رفضنا الشروط التي عرضها علينا أكثر من عشرين مرة، ولا جدال في أن وقوفكم على هذه الحقائق سوف يمكنكم من تأييد ما ذكرته، وسوف يجعلكم قادرين على أن تؤكدوا للحكومة البريطانية صداقتنا لها.» ثم رجاه في ختام رسالته أن يبعث برده إلى «برجز» في مالطة؛ لأن أمين الألفي - كما قال - على وشك السفر إلى طرابلس، حيث يتوقع أن يسمع من «مسيت» وهو بها.
ولكن «مسيت» الذي يلوح أنه أدرك الآن عجزه تماما عن فعل شيء جدي في صالح البكوات، لم يلبث أن أجاب على رسالة أمين من «مسينا» في 8 يناير سنة 1808 يبدي له أسفه؛ لأن السفير الإنجليزي في القسطنطينية لا يقدر على تسوية الخلافات القائمة بين بريطانيا العظمى والباب العالي، وأن يفعل شيئا في صالح المماليك، ولا جدال في أن فشل السفير في هذا الأمر الأخير إنما مرده إلى الظروف الراهنة، ووعد «مسيت» بإبلاغ ما جاء في رسالة أمين؛ استجابة لرغبته إلى حكومته التي لا شك في أنها سوف تنتهز أول فرصة مناسبة لتعمل على ما فيه فائدة البكوات، وتمنى لأمين عودة آمنة إلى مصر، ورجاه في ختام رسالته أن يذكره إلى أصدقائه المماليك.
وبعد أسبوع بعث «مسيت» من «مسينا» في 16 يناير سنة 1808 بترجمة رسالة أمين الألفي إلى «كاسلريه»، وصورة من رده عليه، وكان أمين عندئذ في طريقه إلى طرابلس.
وبذلك أسدل الستار على نشاط «مسيت» من هذه الناحية، ولم يعد «مسيت» إلى مصر إلا في أواسط سنة 1811، فبقي حتى عام 1815 يمثل مصالح دولته، ولكنه كان وقتئذ مريضا مقعدا يحمل على كرسي متحرك، على أنه حين عودة «مسيت» إلى مصر ثانية، كان غريمه الأكبر محمد علي قد قضى على المماليك منذ مارس 1811 في مذبحة القلعة المعروفة، واستطاع في السنوات التالية لجلاء الإنجليز عن الإسكندرية أن يوطد دعائم باشويته، ومع هذا، فما كان يتسنى للباشا فعل ذلك، أو حتى البقاء في باشويته لو أن الفشل لم يلحق بحملة «فريزر»، وبقي الإنجليز في الإسكندرية. (7) أسباب فشل حملة «فريزر»
ولقد كان «مسيت » مسئولا لحد كبير عن فشل هذه الحملة؛ للأسباب العديدة التي ذكرناها في سياق الكلام عن هزيمتي الإنجليز في رشيد والحماد، وعن علاقات هؤلاء بالبكوات المماليك، ولأنه كان أكبر داعية لمشروع احتلال البريطانيين للإسكندرية، بل ولاحتلال البلاد بأسرها، ولم يفد تسلم محمد علي لأزمة الحكم في مصر شيئا في تغيير نظرته إلى الأمور، فظل مصمما على رأيه وتزايد نشاطه في الترويج لاحتلال الإسكندرية وسائر بلاد القطر، على اعتبار أن طرد محمد علي والأرنئود من الحكم واسترجاع المماليك لسلطانهم ونفوذهم القديمين، قد صار الآن لا غنى عنه لصون المصالح البريطانية في مصر ودعمها، ولقد شاهدنا كيف كان «مسيت» إلى جانب هذا كله مسئولا عن جعل «فريزر» يزج بقواته المعينة لاحتلال الإسكندرية فحسب في مغامرات عسكرية عادت بالوبال على الحملة، وذلك عندما راح «مسيت» يصر على أن احتلال رشيد والرحمانية ضروري لتموين الإسكندرية، ولتمكين البريطانيين من الاحتفاظ بها.
على أن الأخطاء العديدة التي ارتكبها «مسيت»، والتي سببت فشل الحملة وكانت من العوامل الهامة - وإن لم تكن بطريق مباشرة - في جعل الحكومة الإنجليزية تقرر الجلاء عن الإسكندرية في الظروف التي شرحناها جميعها، لا يجب أن تطغى على حقيقة أخرى هي أن «مسيت» لم يكن وحده الذي اعتقد بأنه من المتعذر الاحتفاظ بالإسكندرية من غير الاستيلاء على رشيد والرحمانية، فقد كانت هذه الفكرة ذاتها فكرة قديمة أخذ بها العسكريون من أيام حملة البريطانيين الأولى على مصر، فرددها «هتشنسون» الذي كتب وقتذاك إلى «الجين» في 25 يناير سنة 1801، أنه لا يمكن الاحتفاظ بالإسكندرية إلا إذا عدت مأمونة كل وسائل الاتصال بينها وبين الجهات الزراعية التي بجوارها، وذلك عن طريق السيطرة على مصبات النيل، ثم رددها «دراموند» من بعده، فظل هذا يؤكد منذ عام 1803 بأن امتلاك رشيد ضروري لتموين الجيش الذي يعهد إليه باحتلال الإسكندرية، ثم إن «مسيت» نفسه كان قد كتب إلى «وندهام» منذ 14 أغسطس 1806، أن الإسكندرية تعتمد في غذائها وتموينها على رشيد، فهذا جميعه ينهض دليلا على وجود نوع من إجماع الرأي في هذه الناحية، ولقد كان هذا الرأي الذي أخذ به «مسيت» ضمن من أخذوا به مبعث الخطأ الأساسي الذي قرر مصير هذه الحملة من الناحية العسكرية خصوصا.
فلا جدال في أن التفكير الذي اقترن بإخراج حملة «فريزر» إلى حيز الوجود، كان تفكيرا خاطئا من أساسه، سواء من ناحية التناقض الذي ظهر بين تحديد الغرض الذي تعين لهذه الحملة تحقيقه، وبين وضع هذا الغرض نفسه موضع التنفيذ، وعلى نحو ما اعتقد «مسيت» على وجه الخصوص أنه الطريقة المثلى، بل والتي يتسنى بها وحدها تحقيقه، ولقد كان «مسيت» الرجل الذي نصت التعليمات المعطاة إلى «فريزر» على وجوب استشارته والعمل بنصائحه، بوصفه خبيرا ذا دراية بالشئون المحلية؛ وعلى ذلك فإنه بينما لم يدر في خلد حكومة جرنفيل عندما أصدرت تعليماتها بشأن هذه الحملة في نوفمبر 1806، أن احتلال الإسكندرية ومناصرة الأحزاب الموالية لإنجلترة في مصر (أي المماليك)، أن تحقيق هذين الغرضين سوف يقتضي توسيع نطاق العمليات العسكرية لاحتلال رشيد أو الرحمانية، أو غيرهما من المواقع في داخل البلاد، كان «مسيت» الذي وجب على قائد الحملة الإنصات لما يبديه من آراء لها قيمتها - يفسر أغراض حكومته على غير الوجه الذي قصدته هذه منها، ولا يدور في خلده هو الآخر أنه قد غاب عن حكومته أن احتلال الإسكندرية يتطلب الاستيلاء على رشيد والرحمانية، على نحو ما نادى به العسكريون، وكذلك السياسيون من سنوات عدة سابقة.
وعلى ذلك، فإنه بينما تألفت الحملة من قوات محدودة، تكفي في نظر الحكومة لتنفيذ التعليمات التي أصدرتها، ولم يكن في مقدورها - علاوة على ذلك - إعداد قوات أكبر من تلك التي بعثت بها لاحتلال الإسكندرية؛ وذلك لحاجتها الملحة إلى وجود جيش قوي بصقلية، فقد وجدت حملة «فريزر» بعد الاستيلاء على الإسكندرية أنها إنما تواجه في واقع الأمر واجب القيام بعمليات عسكرية أوسع نطاقا مما كانت تفترضه الحكومة التي سيرتها على هذه البلاد، فكان هذا التناقض بين وجهتي النظر من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل الحملة.
أضف إلى هذا أن الفكرة التي قام عليها إرسال هذه الحملة إلى مصر، من حيث منع الفرنسيين من النزول إلى مصر والحيلولة دون غزوهم لها، لم تكن في حد ذاتها فكرة صائبة، ولم يكن مبعثها سوى ذلك الفزع التقليدي الذي استبد بالعسكريين والسياسيين البريطانيين على السواء من ناحية الفرنسيين ورغبتهم في امتلاك هذه البلاد مرة ثانية، فمع أن نابليون كان مشغولا بحروبه ومشاريع فتوحاته الواسعة في القارة الأوروبية، وكان لدى الإنجليز من القوات البحرية والقواعد الاستراتيجية الهامة في البحر الأبيض، لا سيما في صقلية ومالطة، ما يحول دون سبق الفرنسيين في احتلال مصر إذا تهيئوا لفعل ذلك، فقد آثرت الحكومة الإنجليزية احتجاز قسم من جيشها في الإسكندرية على استخدام هذه القوات في ميادين أخرى أكثر اتصالا من الناحية العسكرية بمطالب الحرب الدائرة.
ثم إن مهاجمة الأتراك في أملاكهم البعيدة عن مقر السلطنة، كان وسيلة خاطئة لتخويفهم، وردعهم عن الانحياز إلى جانب أعداء إنجلترة وحليفتها روسيا، أو حملهم على الوقوف موقف الحياد في الحرب بين هاتين الدولتين وبين فرنسا، فلم يكن منتظرا أن يستقدم الأتراك لنجدتهم قوات من مصر، وهذه يغزو الأعداء أرضها، ولا كان من المنتظر أن يبعث الأتراك بنجدات إليها ينتزعونها من جيوشهم المشتبكة في قتال مرير مع الروس، فلا يتسنى للبريطانيين في الحالة الأولى إحراز أي تفوق عددي على الأقل على جيش محمد علي في مصر، ولا يجب أن يتوقع الروس حدوث نقص في قوات الأتراك الواقفة لقتالهم، وقد زاد من خطل هذا الرأي أن العامل الحاسم في تشكيل سياسة الأتراك إنما كان مرتبطا بمدى ما يلحق بأي الفريقين: إنجلترة وروسيا من جانب، وفرنسا من جانب آخر من هزائم، أو يحرزه من انتصار، وقد شاهدنا كيف أن «سباستياني» ظل صاحب النفوذ الأول في القسطنطينية، ولم يفزع الأتراك غزو الإنجليز واستيلاؤهم على الإسكندرية، وكانت الإجراءات التي اتخذوها من حيث الاهتمام بالدفاع عن مصر، إجراءات عادية لا تتجاوز إصدار الأوامر للباشوات القريبين من مصر لإرسال النجدات إليها، واستحثاث محمد علي وأهل البلاد على الدفاع عنها.
ولقد كان مما يصح اتخاذه مبررا لإرسال حملة «فريزر»، أن يكون الغرض منها التمهيد لاستيلاء البريطانيين على مصر، والاحتفاظ بها لأنفسهم في النهاية، ولكن الخطة التي أملت على الحكومة الإنجليزية فكرة إرسال هذه الحملة، كانت في صميمها جزءا ثانويا من مشروع أوسع نطاقا، أرادت به في زعمها التأثير على مجرى الحوادث في الميدان الأوروبي، فكان من المفروغ منه ومنذ البداية، أن يرتهن تقرير مصير هذه الحملة بما قد يجد من تطورات في الموقف الأوروبي من الناحيتين العسكرية والسياسية؛ ولذلك كان خطأ كبير أن تفصل الحكومة الإنجليزية قوة من خمسة آلاف جندي في أواخر عام 1806 من جيش صقلية، للقيام بدور الحامية التي لا تعدو مهمتها في حساب الحكومة الإنجليزية مجرد حراسة هذه البلاد من غزو محتمل.
فكان من رأي السير «جون مور» وهو يكتب في يومياته بتاريخ 5 فبراير سنة 1807 عن الاستراتيجية التي كانت مبعث إرسال هذه الحملة، أنها صدرت عن فكرة خاطئة؛ لأن مهاجمة الأتراك في مقاطعاتهم البعيدة ليس الوسيلة التي يمكن بها التأثير عليهم كثيرا، وإذا كانت مصر هي ما نبغي أن تكون نصيبنا إذا وقع تقسيم أملاك الإمبراطورية العثمانية، ففي وسعنا عندئذ أخذ الإسكندرية في أية لحظة نريدها، ولا يستطيع الفرنسيون سبقنا في النزول بها، ولكنه لا يجب علينا الآن وفي هذه اللحظة بذاتها والحرب دائرة أن نحتجز جنودنا في حاميات بعيدة؛ لأن هذا الإجراء بحرماننا من جيش يمكن استخدامه في ميادين أخرى يجردنا من المزايا التي لنا بفضل تفوقنا البحري عند الرغبة في الدخول في عمليات عسكرية هجومية.
ثم كان من نفس هذا الرأي كذلك مدير المهمات في جيش صقلية «بنبري»، فقد اعتبر قرار الحكومة الخاص بإرسال حملة «فريزر» إلى مصر، قرارا خاطئا؛ لأن هذا الإجراء لن يترتب عليه سحب أي جندي عثماني أو فرنسي من الجيوش المستخدمة في الحرب ضد روسيا.
وإذا كانت الاستراتيجية التي انبنى عليها إرسال حملة «فريزر» إلى مصر استراتيجية خاطئة، فقد كانت الاستعدادات التي أجريت لإرسال هذه الحملة محل نقد كثيرين، فإن أحدا من الجنود أو الضباط الذين جاءوا إلى مصر، لم يكن يعرف شيئا عن هذه البلاد، بالرغم من وجود عديدين بالجيش البريطاني ممن زاروا مصر وعرفوها أثناء الاحتلال البريطاني الأول في عام 1801، وقد ترتب على هذا النقص، أن اعتمد القواد البريطانيون كل الاعتماد في معلوماتهم عن طبيعة البلاد، وعادات أهلها وتقاليدهم وميولهم، وعن المماليك وأحزابهم واختلافاتهم وأغراضهم، على «مسيت» الذي قام عندئذ بدور المستشار السياسي للحملة، مع ما نجم عن ذلك من نتائج سبق ذكرها.
ولقد تضافرت أخطاء فنية عسكرية عديدة على إلحاق الفشل بعمليات الحملة سواء في هجومها الأول ضد رشيد، أو أثناء حصارها بعد ذلك في واقعة الحماد المعروفة، وقد تحدثنا عن هذه الأخطاء في سياق الكلام عن هذه المعارك، ولعل أهم هذه الأخطاء أن «فريزر» لم يبعث في هذه الحملات بأكثر القوات التي لديه، فاحتجز بالإسكندرية عددا من الجند يفيض على حاجة الدفاع عنها، في حين كان الواجب يقتضيه إرسال أعظم قوة ممكنة لإدراك نصر حاسم، يتوقف على الظفر به قبل كل شيء مجيء البكوات من الصعيد للتعاون معه.
وقد كتب السير «جون مور» تعليقا على فشل الهجوم الأول على رشيد: «لقد كان بودي لو أن «فريزر» بدلا من إرسال 1400 رجل بقيادة «ووكوب» إلى رشيد والرحمانية، قد ترك بضعة مئين فحسب لحراسة الإسكندرية وأبي قير والقطع (بين المعدية ومريوط)، وسار هو بنفسه على رأس القسم الأعظم من جيشه إلى رشيد والرحمانية، فإنه لو فعل ذلك لوجد نفسه حينئذ في بلاد غزيرة الخصب، يستطيع أن يأخذ منها كل ما تحتاج إليه الإسكندرية من مؤن وأغذية وكيفما شاء، ووجود جيشه بهذه الجهات يكسبه من هذه الناحية ذاتها مزايا كبيرة، فهو نفسه سوف يكون عندئذ بالمكان الذي هو مصدر المؤن والأغذية، ويجنبه هذا أيضا كل المشاق المتصلة بتدبير وسائل النقل ومشكلاته، وتلك مزية لا يستهان بها إذ من الممكن حينئذ تدبير وسائل النقل هذه إلى الإسكندرية دون مخاطرة، والقهقرى أو الانسحاب إلى الإسكندرية أمر مأمون دائما.»
ويؤكد الناقدون صواب ما ذهب إليه «مور»؛ لأن العمليات العسكرية التي حدثت بقيادة «ووكوب»، وهي عمليات كان - كما شاهدنا - خطأ الإشراف عليها ظاهرا، لم تلبث أن انتهت بالكارثة المعروفة، فقد انهزم الإنجليز شر هزيمة في رشيد (31 مارس)، واسترجع الأرنئود رشيد بعد فقدها، ودل ما حدث على أن الإجراءات والترتيبات التي اتخذتها القيادة العليا عند تقرير الهجوم عليها، ثم تلك التي اتخذها «ووكوب» نفسه، لم تكن كافية لتأمين الاحتفاظ بالمدينة بعد الاستيلاء عليها.
ولقد سبق أن أوضحنا كيف أن هذه الهزيمة الأولى كانت عاملا حاسما في تقرير موقف البكوات، فبدلا من أن يهب هؤلاء لنجدة أصدقائهم وحلفائهم، سرعان ما جعلتهم هذه الهزيمة يقررون من الآن فصاعدا التمسك بأهداب الحيطة والحذر، والتزام الحياد الذي مكن محمد علي من إرسال قوة كبيرة لنجدة رشيد، ومهد لهزيمة الإنجليز الساحقة في الحماد.
ولا جدال في أن المماليك بامتناعهم عن النزول من الصعيد - مهما كان مبعث هذا الامتناع - قد تسببوا كذلك في هزيمة «ستيوارت» وضباطه في الحملة الثانية على رشيد، وهي الحملة التي كان لرداءة نظام المخابرات الذي أوجده «مسيت» أثر كبير في هزيمتها أيضا، ففوت المماليك على أنفسهم وإلى الأبد فرصة استرجاع الحكم والسلطان في مصر، كما قرروا مصير حملة «فريزر» ذاتها، فلو أنهم أجمعوا رأيهم على النزول من الصعيد، وانضم فرسانهم إلى جيش «فريزر»، وتكتلت قوى الفريقين، لاستحال على محمد علي مقاومة هذه القوات المتحدة ضده، ولتيسر عندئذ تهديد القاهرة ذاتها، إن لم يكن الاستيلاء عليها، ولصحت أحلام «مسيت» الذي أراد بكل ما وسعه من جهد وحيلة أن يخرج الحملة عن طوقها الأول؛ أي مجرد احتلال الإسكندرية إلى عملية يقصد بها امتلاك البلاد بأسرها، ولا شك لذلك في أنه لو تم هذا الاتحاد - الذي نشده «مسيت» وظل «فريزر» يطلبه - بين البريطانيين والمماليك، لكانت الحملة قد اتخذت قطعا اتجاها آخر، ولتقرر مصيرها على صورة أخرى.
على أن مصير حملة «فريزر» كان مرتهنا كذلك - وكما ذكرنا - بتطور الموقف العسكري والسياسي في أوروبا، وهو ما دعا «كاسلريه» في وزارة «بورتلاند» التي خلفت وزارة جرنفيل، أن يعيد النظر في تلك الاستراتيجية القديمة التي أفضت إلى إرسال داكويرث بأسطوله إلى مياه القسطنطينية، وإرسال «فريزر» بجيشه إلى الإسكندرية، ومع أنه ليس هنالك ما يدعو لتكرار الكلام عن الأسباب التي دعت إلى تغيير الاستراتيجية التي ابتدعتها الحكومة الإنجليزية السابقة، أو إعادة القول في تفاصيل الخطة الجديدة، فثمة حقيقة لا يجوز إغفالها عند ذكر العوامل التي أفضت إلى إخفاق الحملة، تلك أن السياسة التي ارتبطت بها الحكومة الإنجليزية - سواء على عهد وزارة جرنفيل أو وزارة «بورتلاند» - كانت فيما يتعلق بشئون الليفانت - تركيا ومصر على وجه الخصوص - سياسة خاطئة جملة وتفصيلا.
وذلك أنه فيما يتعلق بتركيا، ربطت إنجلترة سياستها ربطا وثيقا بسياسة روسيا، حتى إن فشل أي هاتين السياستين كان معناه بالضرورة فشل الأخرى، ولقد كان نصيب سياسة روسيا الفشل الذريع، حيث حطمت انتصارات نابليون عليها كل سمعة لها في القسطنطينية، فضلا عن أن سمعة الروس في العاصمة العثمانية لم تكن أصلا كبيرة؛ بسبب ادعاءاتهم العريضة على الولايات الدانوبية خصوصا، وأطماعهم الأشعبية في أملاك الدولة، ولما أراد الإنجليز مؤازرتهم بالضغط على الباب العالي ليقبل إنهاء خلافاته معهم، بعثوا بأسطول «داكويرث» إلى المياه العثمانية، وقد تقدم كيف كانت هذه مظاهرة فاشلة، وأضاع «داكويرث» فرصة القيام بعمل جدي، بانسياقه في مفاوضات لا جدوى منها ولا طائل تحتها، وعبثا ما حاولت إنجلترة بعد هذا الفشل الأول إصلاح الموقف، بفرض الحصار على الدردنيل وعلى الموانئ العثمانية، وبدء مفاوضات على يد سفير جديد، هو السير «آرثر باجيت»، فقد كان الأتراك تقووا وقتئذ بدرجة جعلتهم يماطلون ويسوفون، حتى إذا عقد نابليون مع القيصر معاهدة «تلست»، واستقل الروس في خططهم عن الإنجليز، وازداد الخطر على مراكز الإنجليز في البحر الأبيض وفي صقلية خصوصا من جانب الفرنسيين المنتصرين في الميادين الأوروبية، لم يعد هناك مناص من تكتيل قواتهم في صقلية واستدعاء حملة «فريزر» لهذا الغرض، وانتهت مفاوضات «باجيت» مع الأتراك بالفشل.
وأما فيما يتعلق بمصر، فقد أخطأت إنجلترة خطأ جسيما منذ أن بنت سياستها على إمكان التعاون مع المماليك؛ لتأسيس نفوذها ودعمه في هذه البلاد، وذلك بالرغم مما كان هنالك من براهين كثيرة على أن هؤلاء لا يقدرون على الحكم ولا يصلحون له، ولم يفطن الإنجليز إلى أن القوة التي بوسعها مساعدتهم مساعدة فعالة، والتي سوف يكون المستقبل لها هي محمد علي، لا المماليك، ففاتهم مغزى الانقلاب الذي أوصل محمد علي إلى الحكم في مايو 1805، بل أنهم بدلا من مؤازرة هذه القوة الجديدة التي برزت من ميدان الفوضى السياسية الضاربة أطنابها في البلاد، سرعان ما راح وكلاؤهم يكيدون لها، فأساءوا به الظن وشكوا في نواياه، واعتبروه مبيعا لفرنسا، وجعلهم الفزع المتسلط عليهم من الغزو الفرنسي لهذه البلاد، يناوئونه سياسيا بكل ما أوتوا من جهد وحيلة، حتى إذا تأزمت علاقاتهم مع الباب العالي، واتتهم الفرصة لشن الحرب عليه وقتاله، ولم يكن خافيا أن التعليمات التي أعطيت لفريزر بمؤازرة الأحزاب الصديقة لإنجلترة وهم المماليك، كان معناها عند تنفيذها إخراج محمد علي من الحكم والولاية، ولم يكن الغرض من إرسال حملة «فريزر» إبعاد الفرنسيين من مصر والحيلولة دون غزوهم لها، ومع أنهم كانوا لا يريدون قطعا احتلال البلاد بأسرها، بل احتلال الإسكندرية فحسب، فقد اعتمدوا من ناحية أخرى على عودة البكوات إلى الحكم؛ ليبسطوا نفوذهم على البلاد عن طريقهم، ولا سبيل لتحقيق هذه الغاية إلا بطرد الأرنئود وإقصاء محمد علي من الباشوية، ولم يحل دون ذلك سوى غلط استراتيجية الإنجليز أنفسهم في المقام الأول، ثم عدم كفاءة ومهارة قوادهم العسكريين، وأخيرا انعدام كل فهم أو إدراك سياسي لدى المماليك، فبدلا من التعاون المنتظر بين الفريقين، ترك الإنجليز والمماليك أنفسهم ينهزمون فرادى على يد جيش محمد علي الذي خرج من هذا النضال وقد تزايدت قوته، وصار بفضل امتلاكه للإسكندرية سيد البلاد الحقيقي، وسهل عليه بعدئذ القضاء على كل العناصر المناوئة لسلطانه، وهكذا منيت سياسة الإنجليز في مصر بالفشل الذريع، وهو فشل يسترعي النظر، من حيث إنه أفضى بسبب الهزائم التي لحقت بهم من جراء امتناع المماليك - على وجه الخصوص - عن مساعدتهم إلى زيادة إقناع «كاسلريه » بضرورة سحب حملة «فريزر» من مصر، ولأن كل تلك الجهود التي ثابروا عليها دون هوادة منذ احتلالهم الأول لهذه البلاد، قد باءت جميعها بالفشل، وكان جلاؤهم عن الإسكندرية خاتمة المطاف لهذه السياسة.
ولقد كان - بلا جدال - دخول الإسكندرية في حوزة محمد علي، أهم النتائج التي أسفرت عنها حملة «فريزر»، فقد ظلت الإسكندرية حتى هذا الوقت خاضعة رأسا في حكومتها للقسطنطينية، فكانت لذلك بمثابة الحلقة التي تربط بين باشوية مصر وعاصمة الإمبراطورية العثمانية، والمنفذ الذي يبسط منه الباب العالي نفوذه على هذه البلاد كلما تسنى له ذلك، أو البؤرة التي يدبر فيها ضباطه ورجاله مكائدهم ضد الباشوات العثمانيين أو البكوات المماليك، إذا قوى شأن هؤلاء وأولئك لتقويض سلطانهم، فكان معنى انضمام الإسكندرية إلى الولاية ودخولها في نطاق باشوية القاهرة، أنه قد انفصمت الآن تلك الحلقة القديمة التي ربطت بينها وبين القسطنطينية، وأن انعدم ذلك الاتصال المباشر بين مقر السلطنة وبين باشوية محمد علي، وأنه قد تعذر على أعداء الباشا وضباط الباب العالي، أن يجدوا في مصر وكرا يحبكون منه دسائسهم ضد نفوذه وسلطانه، ولقد كان من أثر التجارب السابقة التي مرت بمحمد علي أثناء أزماته المتلاحقة مع الباب العالي منذ أن وصل إلى الحكم والولاية، وهي التجارب ذاتها التي جعلته يرفض أي اتفاق مع الإنجليز إلا على أساس جلائهم عن الإسكندرية، وحملته على أن ينشد لنفسه في مصر وضعا مشابها لوضع حكام وجاقات الغرب، وأن يسعى جهده أثناء مفاوضته مع الإنجليز لعقد محالفة معهم ضد أعدائهم وأعدائه على السواء من فرنسيين وأتراك، نقول: إنه كان من أثر هذه التجارب أن اعتبر محمد علي امتلاك الإسكندرية فتحا حقيقيا، وكان الإنجليز أنفسهم هم الأداة التي مكنته من ذلك، وقد أدرك المعاصرون قيمة هذا الفتح الثمين ، من حيث إيذانه بتوطيد حكم محمد علي ودعم أركان باشويته، فقال الشيخ الجبرتي عند الحديث عن الظروف التي خرجت فيها حملة «فريزر» من مصر - وكان حديثا مقتضبا موجزا لبعد الشيخ عن مقر المفاوضات، ولعدم إذاعة شيء عنها: «إن الباشا بجلاء الإنجليز ودخول الإسكندرية في حوزته، قد استقر واطمأن خاطره، وخلص له الإقليم المصري.»
الباب الثالث: ولاية محمد علي: استقرار الحكم
تمهيد
1 - سياسة محمد علي
2 - الحكومة الموطدة
3 - الحكومة الموطدة
4 - بسط سلطان الولاية
الباب الثالث: ولاية محمد علي: استقرار الحكم
تمهيد
1 - سياسة محمد علي
2 - الحكومة الموطدة
3 - الحكومة الموطدة
4 - بسط سلطان الولاية
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الثالث)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الثالث)
تأليف
محمد فؤاد شكري
الباب الثالث: ولاية محمد علي: استقرار الحكم
(1807-1811)
تمهيد
دعم أركان الدولة
كان للأزمات العديدة التي وقعت بين عامي 1805 و1807 أثر عميق في تطور تفكير محمد علي باشا السياسي، وتعتبر هذه الفترة التي اصطلحنا على تسميتها بدور التجربة والاختبار من أحسم المراحل في حياة هذا العاهل الكبير، لا لأن محمد علي بتذليله الصعوبات التي أحاطت بولايته الناشئة قد أثبت أنه الرجل الذي بوسعه أن يحتفظ بباشويته، ولا لأن اجتيازه لهذه المرحلة بسلام قد نهض دليلا على قدرته أن يبقى وأن يستقر في ولايته، ولكن لسبب آخر كذلك لا يقل في أهميته عن هذين، هو أنه قد تولدت من هذه الأزمات، العناصر التي رسمت برنامجه السياسي في صورته الكاملة والمحددة: وبالنمط الذي صار يسعى جادا لتحقيقه بعد ذلك، والذي كان العمل من أجل استقرار الحكم ودعم أركان الولاية بين عامي 1807 و1811 أول أهدافه، وبمثابة حجر الأساس في بناء الدولة الفتية التي شادها.
فقد كان لكل أزمة من الأزمات التي وقعت في سني التجربة والاختبار هذه، ملابساتها وطابعها الخاص بها، وكان مبعث بعض هذه الأزمات أدواء مزمنة، بينما بدت غيرها عند وقوعها وكأنها أحداث طارئة عابرة، ولكنها اقتضت جميعها تفكيرا في عللها واستقصاء لأسبابها، وتدبرا في طرائق معالجتها وتحرزا من عواقبها ونتائجها ، فبصرت هذه الأزمات الباشا بمسائل كثيرة، تتصل في جوهرها بالمحافظة على كيان الولاية، ودرء الأخطاء التي تهددتها. ولقد كان مبعث طائفة من هذه الأخطار داخليا، ثم كان مبعث بعضها الآخر خارجيا، فمن طراز الأخطار الداخلية تمرد الجند وعصيانهم، ومناصبة البكوات المماليك العداء إياه، ومن طراز تلك الخارجية مسعى الباب العالي لإخراجه من الولاية، واغتنامه كل فرصة سانحة لبلوغ هذه الغاية، ثم تعرض البلاد لغزو أجنبي يأتيها من ناحية إنجلترة - كما حدث فعلا - أو يأتيها من ناحية فرنسا وهي الدولة التي سبق لها احتلال مصر، والتي ما فتئ عاهلها الإمبراطور يمني نفسه باحتلالها مرة أخرى.
وافتقر الباشا في سني التجربة والاختبار إلى المال، ولم تنقطع يوما حاجته إليه في أثنائها، ليدرأ به عن نفسه وباشويته كل هذه الأخطار، ولقد كانت الحاجة إلى المال أزمة مزمنة ومستحكمة، ودلت التجربة على أن توفر المال لديه عامل حاسم في التغلب على الصعوبات التي اكتنفت الحكم، فبالمال يدفع مرتبات الجند الذين يسيرهم لنضال البكوات، أو لدفع الغزو الأجنبي، وبالمال يسترضي الباب العالي ومندوبيه الموفدين إلى مصر، إما للنظر في تقريره في الحكم - كما حدث في عام 1805 - أو لنقله من باشويته - كما وقع في العام التالي - وإما لإبلاغه تثبيته في الولاية، أو نقل أوامر السلطان العثماني إليه ومطالبه منه.
وتبين للباشا في سني التجربة والاختبار أن هناك حقيقة واحدة لا مفر من التسليم بها وتدبر الرأي بشأنها، هي الاختيار بين البقاء في الحكم أو ترك الأمور تفلت من يده، والرضا بترك باشويته. وقد دلت الحوادث بين عامي 1805 و1807 على أنه لم يكن يفكر قط في التخلي عن تلك الباشوية التي ظفر بها بمؤازرة المشايخ ورؤساء القاهريين له، وليس عن طريق الباب العالي، حتى إنه عند حدوث أزمة النقل إلى سالونيك لم يلبث أن صرح بأنه لن يترك حكما ملكه بالسيف إلا إذا أرغم على تركه بالسيف كذلك، ثم بذل قصارى جهده في مكافحة الإنجليز لإجلائهم عن الإسكندرية.
وأسفر تدبر الباشا في موقفه عن اقتناعه بتوفر عاملين لا محيص عنهما إذا شاء البقاء في ولايته، أولهما: النأي بباشويته عن نزوات الباب العالي وغدره، وتأمين حكومته من تدخل الديوان العثماني في شئونها، وسلب ذلك السلاح المسلط على عنقه دائما، سلاح العزل أو النقل الذي يستطيع الباب العالي أن يعمد إلى استخدامه في كل فرصة مواتية، وقد يجد من التطورات، بسبب خصومة أعدائه البكوات المماليك في مصر، أو اجتراء منافسيه عليه في الولايات المتاخمة لولايته، وعلى رأسهم سليمان باشا والي صيدا (والشام حديثا)، أو بسبب قلقلة الموقف السياسي في أوروبا، ما يمكن الباب العالي في هذه الدفعة من إدراك غايته، ورأى محمد علي مخلصا من هذا المأزق في التطلع إلى تقرير وراثة الحكم في أسرته، والاستقلال بباشويته في وضع مشابه لما كان لوجاقات الغرب وقتئذ، وكان أن ظهرت نواياه هذه أثناء سني التجربة والاختبار، ولم يفت الوكلاء الإنجليز والفرنسيين إدراك مراميه، ثم إنه لم يلبث أن حدد هذه المرامي في الصورة التي ذكرناها، ولم يكن غرضه من محاولة عقد محالفة مع بريطانيا - أثناء مفاوضات الجلاء عن الإسكندرية - إلا جذب هؤلاء لتأييد مشروعه هذا.
وأما العامل الثاني فكان الانفراد بالسلطة، وحمل معنى الانفراد بالسلطة الاستئثار بالحكم، فالباشا وحده هو الذي وقع على كاهله عبء النضال ضد القوى الداخلية المناوئة له، يجند الجيوش لمطاردة البكوات، ويوسط لديهم المشايخ أو الوكلاء الفرنسيين، أو منافسيهم الإنجليز - كما فعل عندما أراد توسيط «مسيت» لدى الألفي - وهو الذي داور وراوغ القبطان صالح باشا عند أزمة النقل إلى سالونيك، واستكتب المشايخ العرائض أو أوحى إليهم بكتابتها للدولة، سواء في هذه الأزمة أو في التي سبقتها عند المناداة بولايته، ثم إنه هو الذي كان عليه معالجة تمرد الجند وعصيانهم، وملاحقة الرؤساء العصاة، ومحاولة وقف اعتداءات الجند عموما على الأهلين، فكان ينجح في هذا الأمر الأخير تارة ويفشل تارة أخرى، ثم هو الذي أزعجه إزعاجا شديدا افتقار الخزينة إلى المال، وكان عليه أن يفسر للمشايخ والمتصدرين الأسباب والدواعي التي حملته على فرض الإتاوات والمغارم، أو تحصيل الضرائب في غير أوقاتها، أو عقد السلف والقروض التي انعدم كل أمل في سدادها، وذلك في كل مرة ألزمته حاجته إلى المال أن يفعل ذلك، ولم يكن هؤلاء المشايخ والمتصدرون ممن يتسم أفق تفكيرهم بالدراية أو الإلمام بالأغراض البعيدة التي هدف إليها الباشا من سياسته ، بل إن منهم من رأى في مطالبه المالية المتكررة، أو في نشاطه السياسي عموما، مبعث شر أو أذى لحقا بالبلاد وأرهقا أهلها. ثم إن هؤلاء المشايخ والمتصدرين، بسبب أحقادهم ومنافساتهم وانكبابهم على الدنيا، لم يكونوا أهلا للاستشارة أو المساهمة في تدبير شئون الملك، ثم إن الباشا وحده هو الذي اضطلع بمسئولية النضال مع الإنجليز، والمسعى لإخراجهم من البلاد طوعا أو كرها، وكان عليه أن يتدبر الوسائل التي تمنع تكرر وقوع الغزو من ناحيتي الإنجليز والفرنسيين على السواء، ولقد كانت هذه وأضرابها مسائل تتطلب جمع أسباب السلطة في يد من يقدر على ممارستها بحزم وقوة؛ لوقاية البلاد من الأخطار التي تتهددها والمحافظة على كيانها.
وانطوى الانفراد بالسلطة كذلك على معنى يضارع في أهميته الاستئثار بالحكم إن لم يتفوق عليه، هو بسط سلطان الباشوية على جميع أنحاء القطر الذي نصب عليه واليا، ولقد دلت مناوأة المماليك له - ولا سيما خصومة الألفي - على أن الحكم لن يستقر في يده إلا إذا دان له هؤلاء بالخضوع واعترفوا بسلطانه، فيبطل تآمرهم عليه مع الدول الأجنبية أو مع الباب العالي أو أعدائه، ويطمئن الباشا إلى تسريح الجند المشاغبين أو المتمردين، فلا تغدو البلاد مسرحا لفتنهم وشرورهم، ويتوفر مبلغ جسيم من المال، نتيجة لوقف التجريدات المرسلة ضد المماليك، ولتسريح هؤلاء الجند، ويفرغ الباشا لمعالجة ضروب الإصلاح اللازم لإنهاض البلاد من كبوتها، وإنعاش مواردها، ودعم بناء الدولة التي أراد إنشاءها.
ولم يكن هناك معدى عن الانفراد بالسلطة، ثم بسط سلطانه الكامل على باشويته، وما يستتبع ذلك حتما من استقرار حكومته في القاهرة، إذا أراد الباشا تأمين باشويته بتقرير الحكم الوراثي في أسرته؛ ولذلك فقد ربطت بين هذه الأهداف جميعها روابط وثيقة، ومضى محمد علي في السنوات القليلة التالية (1807-1811) يعمل لتحقيق الولاية الوراثية والانفراد بالسلطة جنبا إلى جنب، وهو وإن كان لم يوفق في الظفر بالولاية الوراثية في هذه الفترة، فقد استطاع من ناحية أخرى تحقيق ذلك البرنامج الذي رسمه لدعم أركان الولاية، والذي أتاح له نجاحه في تنفيذه الفرصة للدخول في كفاح طويل فيما بعد من أجل تقرير الحكم الوراثي في مصر، لأسرته وبلوغ غايته.
الفصل الأول
سياسة محمد علي
تمهيد
تضافرت عدة عوامل في السنوات القليلة التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية على زيادة اقتناع محمد علي بضرورة العمل من أجل دعم أركان ولايته، كان أولها - ولا شك - تصميمه على الاحتفاظ بباشويته في وجه كل ما قد يتهددها من أخطار، سواء أكان مبعث هذه تغير الباب العالي عليه ورغبته في إقصائه عن الولاية، أم منازعة البكوات المماليك لسلطانه، أم تجدد الغزو الأجنبي على البلاد. ولم تكن هذه جميعا أخطارا جديدة، بل هي في جوهرها نفس الأخطار التي هددت بزوال الملك من يده في الأعوام الثلاثة السابقة، والتي استطاع التغلب عليها بعد تجارب قاسية مريرة وضعت باشويته في يد القدر، ومرت من جرائها بهذه الأزمات التي كادت تقضي عليها. (1) البرنامج الداخلي
وعلى ذلك، فقد رفض محمد علي - وقد تخطى العاصفة، وجلا الإنجليز عن البلاد - أن يمر بتجربة أخرى شبيهة بهذه التجربة، فرفض أن يظل هدفا يصوب إليه الباب العالي سهامه كلما تراءى له ذلك، أو لقمة سائغة قد يطمع البكوات المماليك في ازدرادها بسهولة إذا استطاعوا، وهم باقون على مناوأتهم له أن يفيدوا من فرصة غزو أجنبي آخر أو مؤامرة جديدة لعزله أو نقله تحاك خيوطها في القسطنطينية، كما رفض أن يظل مكتوف اليدين أمام جنده الذين تطلع بعض رؤسائهم إلى الولاية ذاتها، وعمدوا إلى تحريك الفتن بين الأجناد أنفسهم لإضعاف حكومته، أو شقوا عصا الطاعة علنا وتزعموا العصيان والفتنة، وأخيرا، فقد رفض محمد علي البقاء تحت رحمة نظام مالي منع عن خزانته قسما لا يستهان به من إيرادات حكومته في وقت عظمت فيه حاجته إلى المال، ولم يكن من المتيسر العثور على المال من غير اللجوء إلى كل طريق، وطرق كل باب، وابتكار كل وسيلة جديدة لسد مطالب الحكم والإدارة العادية من جهة، ولمعالجة الأدواء التي ترتبت على وضع البلاد كإحدى ولايات دولة متخاذلة ومستضعفة يسعى أعداؤها لتمزيق أوصالها، وتعجز هي عن تأسيس الحكم القوي في ولايتها.
ولم يكن هناك معدى عن أن يسلك محمد علي في سبيل الحصول على المال طريقا عده شاذا كثير من المعاصرين - مصريين وأجانب - عندما تعطلت مرافق البلاد بسبب الأزمات السياسية المتلاحقة، وكفاحه المستمر مع المماليك منذ وصوله إلى الحكم، فكسدت التجارة، وبطلت الصناعة - على ضآلتها - وأهملت الزراعة، وذلك في الأقاليم التي دخلت في حوزته من أقاليم باشويته، بينما استأثر البكوات دونه بمديريات الفيوم والصعيد الغنية بحاصلاتها الزراعية، ورفضوا دفع «الميري»، فكان وضعا شاذا تطلب لعلاجه وسائل شاذة، كان من بينها في نظر الأهلين مقاسمة الملتزمين «فائظ الالتزام»، وحرمان المشايخ من مسموحهم، وتحصيل الضريبة على فائض إيرادات الأملاك الموقوفة، وما إلى ذلك مما سوف يأتي ذكره جميعه.
ولما كان المشايخ قد توهموا أن من حقهم في هذه الأحوال الشاذة مطالبة الباشا بتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه عند وصوله إلى الحكم في عام 1805، وأن من حقهم - وهم الذين عاونوه على اجتياز بعض الأزمات الشديدة التي صادفها خلال العامين التاليين - أن يلزموه بطلب النصح والرأي منهم، واعتبر بعض الرؤساء القاهريين كالسيد عمر مكرم، أن الواجب يقتضي الباشا إشراكهم معه في ممارسة شئون الحكم، واعتبر سوادهم - وإن كانوا من غير المتصدرين وناشدي الزعامة كالشيخ عبد الرحمن الجبرتي - أن الظلم والطغيان هما شيمتا الحكم الذي أقامه الباشا، فقد استلزم العمل من أجل دعم أركان الباشوية أن يقضي محمد علي على عناصر هذه المقاومة التي لم يكن هناك بد من استفحال شرها إذا تركت وشأنها، أو مكن الباشا لحاملي لوائها من المعارضين من مقاسمته السلطة والحكم، سواء أكان هؤلاء من الذين يتحينون الفرص للجهر بنقدهم لأساليبه علانية، أم إنهم يؤثرون التذمر في صمت وسكون وإن اشتدت كراهيتهم لحكمه، فلم يكن انفراده بالسلطة إلا إقصاء لطائفة اقتصر دورهم في الأجيال السابقة على الوساطة والشفاعة بين الأهلين وحكامهم، وكان محمد علي وحده، بسبب الأزمات التي صادفها في السنوات القريبة، المسئول عن قيامهم بذلك الدور السياسي الذي استهدف «قلب نظام الحكم» في هذه الولاية، والذي وجب عليه الآن - وقد أراد التفرغ لتحقيق غايته الكبرى - أن يجرد هذه الفئة الدينية من كل سلاح قد يعمدون إلى استخدامه ضده، عامدين أو غير مقدرين لعواقبه، لتقويض عروش ولايته.
على أن العثور على المال، أو تطويع الجند، أو القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية، أو إقصاء المشايخ، كانت جميعها مسائل لم يلق محمد علي عنتا أو إرهاقا كبيرا في معالجتها، بل تضاءلت خطورتها في واقع الأمر إلى جانب نضاله مع البكوات المماليك؛ وذلك لأن ما وقع من حوادث خلال سني 1805 و1807 قد نهض دليلا على أن مبعث الخطر على باشويته من هؤلاء البكوات لم يكن قوتهم أو قدرتهم على مناوأته وقتاله، بقدر ما كان اعتمادهم على معاونة إحدى الدول الأجنبية لهم لتمكينهم من استرجاع نفوذهم وسلطانهم في حكم البلاد، أو احتمال مبادرة الباب العالي بتأييدهم من جديد. وقد شهد محمد علي عمارة القبطان صالح باشا تأتي إلى مياه الإسكندرية لتنصيب الألفي شيخا للبلد ولنقله هو إلى سالونيك، كما أنه شهد الإنجليز يأتون بحملتهم لاحتلال الإسكندرية، وينشط وكلاؤهم وقوادهم في استنهاض همة البكوات وحثهم على النزول من الصعيد والانضمام إليهم بفرسانهم، وكان بعد مشقة وجهد عظيمين أن نجح محمد علي في جعل البكوات يلزمون خطة الحياد في النضال الدائر بينه وبين الإنجليز.
بيد أن هؤلاء البكوات، ما كانوا ليرضوا بالحياد، لو أنه كانت لهم زعامة نابهة ولم تفرقهم الخلافات، ولولا توسط الوكلاء الفرنسيين مع أقوى طوائفهم. وتلك أمور قد تتبدل، لو أن غزوة جديدة وقعت، وحزم البكوات أمرهم، وشاءوا وقتئذ درك ما فاتهم وتصحيح أخطائهم الماضية.
وكما كانت «حملة فريزر» أحد الإجراءات التي اقتضاها الموقف العسكري- السياسي في أوروبا، فقد يجد على هذا الموقف نفسه ما يدعو الإنجليز لإعادة كرتهم على مصر، أو ما يدعو الفرنسيين في هذه المرة إلى سبق غرمائهم في احتلال هذه البلاد، وكلا الاحتمالين ماثل، ما دامت مصائر هذه الولاية مرتبطة بتطور العلاقات بين تركيا وبين المعسكرين المتناضلين «إنجلترة وفرنسا»، ولا تتمتع الباشوية ب «وضع» يأذن لها بالوقوف موقف الحياد إذا رأت تركيا الانحياز إلى أي هذين المعسكرين، وكلا الاحتمالين ينطويان على أخطار محققة، لا من حيث تعريض هذه البلاد للغزو فحسب، وانغماسها لذلك في حرب يجهل المتفائلون والمتشائمون على السواء نتائجها، ولكن كذلك لتوقع قيام الحرب الأهلية في داخل البلاد ذاتها عند انضمام البكوات إلى الأعداء الغزاة. (2) البرنامج الخارجي
ولذلك فإنه بينا بذل محمد علي جهده لتأمين استقرار الحكم في الداخل، ظل يعنى عناية فائقة ليتوقى الخطر الخارجي، ولم يعتور وسيلته لتحقيق هذه الغاية الأخيرة لبس أو إبهام، فهو قد عرف أن مصدر الخطر عليه دولتان، هما إنجلترة وفرنسا، وهو قد عرف أن الركون إلى جانب الباب العالي لا يكفل له السلامة، وقد رسمت له الحوادث الماضية الطريق التي ينبغي عليه أن يسلكها، كما استولد منها عناصر برنامجه السياسي الذي يدور حول أمر واحد؛ تقرير الحكم الوراثي في مصر. فهو إذا فاز بمحالفة الإنجليز أو نجح في كسب صداقتهم، ثم وثق علاقاته بفرنسا، وهما المعنيتان بأمر مصر أكثر من غيرهما من الدول، فحصل بفضل ذلك على «الوضع» الذي يريده لباشويته، سهل عليه حينئذ، وبالوسائل التي يدريها، إقناع الباب العالي بالتسليم مرة أخرى بالأمر الواقع، وأما إذا فشلت جهوده معهما، فلا مفر عندئذ من استرضاء الباب العالي، ومحاولة الظفر منه بالوضع الذي يريده. على أن النجاح في كلا الأمرين توقف قبل أي شيء آخر على مدى استقرار حكم الباشا في ولايته بالدرجة التي تمكنه من إسداء الخدمات التي قد يكون أصدقاؤه في حاجة إليها، ثم الذود عن حياض ولايته إذا بدا لأعدائه إقصاؤه عنها.
ومنذ حملة «فريزر» لم يكن وعرا الطريق الذي صار على الباشا أن يسلكه في علاقاته مع الدولتين المتناضلتين؛ إنجلترة وفرنسا، فقد كان من أهم آثار هذه الحملة، أنه عدا ما جاءه من تعليمات عامة من الباب العالي تدعوه إلى تشديد النكير على الإنجليز وطردهم من البلاد، وتنبئه بأن أوامر قد صدرت لحاكمي الشام وصيدا لنجدته، فقد استقل محمد علي بتدبير مسألة إجلاء العدو عن الولاية، وانفرد وحده بتحمل عبء القتال، ونشأ في مصر ميدان للعمليات العسكرية بمعزل عن ميادين الحروب الأخرى التي اشتبكت فيها الدولة، واختص الباشا بوصفه المسئول الأول عن تأمين سلامة ولايته بإدارة شئون الحرب والسياسة حسبما يراه محققا لبلوغ هذه الغاية الأخيرة، واستهدف في نشاطه غرضا مباشرا ما كان يتفق الظفر به وما تريده الدولة، ونعني بذلك الاستيلاء على الإسكندرية وإدخالها في نطاق باشويته، بعد أن ظل الباب العالي يحرص دائما على بقائها خاضعة في إدارتها له رأسا، ولم يتلق محمد علي أية تعليمات من الديوان العثماني تجيز له عقد صلح منفرد مع أعداء الدولة، ولم يطلع محمد علي هذا الديوان على الشروط التي تفاوض فيها مع مندوبي القائد الإنجليزي، وحرص بطبيعة الحال على أن يظل أمر «المحالفة» التي عرضها على هؤلاء سرا مكتوما.
وقد ترتب على استقلال الباشا بإدارة شئون الحرب والسياسة أثناء هذه الحملة، أن صار هو وحده في اعتبار القواد الإنجليز والوكلاء الفرنسيين، المرجع الذي يرجعون إليه، في المسائل المتعلقة بها، فلم تكن هناك مندوحة للإنجليز عن الاتصال به والمفاوضة معه رأسا، لا بوصفه غريمهم الذي ينازلهم فحسب، بل وأهم من ذلك أيضا؛ لأن مفاوضتهم مع الباب العالي قد فشلت ولم يتسن لهم آنئذ عقد صلح مباشر مع الدولة؛ ولأنهم بسبب هزيمتهم في مصر ولتصميمهم على التمسك بقاعدتهم الهامة في صقلية قد قرروا الجلاء عن الإسكندرية، وارتضوا بتسليم الإسكندرية إلى محمد علي لقاء إطلاق سراح الأسرى الإنجليز. حقيقة كان «السير آرثر باجيت» قبل انقطاع المفاوضة مع القبطان باشا السيد علي الجزائري، قد توصل إلى اتفاق مع هذا الأخير بصدد إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكتب إلى محمد علي في هذا المعنى في 16 سبتمبر 1807، ولكن رسوله «مورييه» الذي حمل رسالته هذه كما حمل رسالة القبطان باشا إلى محمد علي، لم يصل إلى الإسكندرية - كما عرفنا - إلا يوم 22 سبتمبر؛ أي بعد إبرام اتفاق الجلاء عنها، وبعد أن كان قد تم إطلاق سراح الأسرى الإنجليز وتسليمهم .
ولا جدال في أن «محمد علي» في قيامه بالمفاوضة رأسا مع القواد الإنجليز، دون تدخل الباب العالي أو إشرافه على هذه المفاوضة، قد كسب «وضعا» جديدا يضعه عمليا على قدم المساواة مع حكام وجاقات الغرب، ويخوله حق التطلع إما إلى تقرير هذا «الوضع» الجديد من الناحية القانونية أو الشرعية بحمل الباب العالي على استصدار الفرمانات اللازمة لذلك، وإما إلى استدامة تقريره فعلا، بالحصول على موافقة الدول - وأهم هذه في نظره، إنجلترة وفرنسا - على هذا «الوضع»، وزيادة على ذلك فإنه إذا استمر تسليم الدول بهذا الأمر الواقع، وتبع ذلك انتفاء معارضتها له، غنم الباشا مغنما كبيرا يعينه على التفرغ لمعالجة هذه المسألة ذاتها وبالطرق التي يعرفها في القسطنطينية.
وكما صار الإنجليز يرجعون إليه فيما يتصل بإجلاء جيشهم عن هذه البلاد، وارتضوا بإبرام اتفاقية الجلاء معه رأسا، فقد وجد الوكلاء الفرنسيون من جانبهم أيضا، ألا سبيل لتعزيز مصالح فرنسا في مصر إلا بتوثيق علاقاتهم مع الباشا، ولقد شاهدنا كيف أن القاهرة، لا القسطنطينية، كانت ميدان نشاط العملاء الفرنسيين للتنكيل بجيش «فريزر» وضمان إخفاقه، ثم لمنع الاتفاق بين محمد علي والقواد الإنجليز، وقد فشل هؤلاء العملاء في مبتغاهم الأخير، ولكنهم لم يجدوا مناصا من قبول الأمر الواقع ورضوا ب «التفسيرات» التي أدلى بها إليهم محمد علي، والتي كانت فحواها أنه لا يعتزم مصافاة الإنجليز، بل إنه سوف يقلب لهم، عند أول بادرة وبمجرد جلائهم عن البلاد، ظهر المجن. وكان من بواعث رضاهم بتصديق هذا الادعاء أن «محمد علي» كان بيده هو وحده إلحاق الأذى بالمصالح الفرنسية في مصر، إذا شاء، أو صون هذه المصالح، وفضلا عن ذلك، فإنه لم يبد منه منذ وصوله إلى الحكم ما يدل على أنه يريد التخلي عن صداقة فرنسا، بل ثابر - على العكس من ذلك - على إنشاء صلات المودة مع الوكلاء الفرنسيين، ثم توقفت هذه الصلات بينه وبينهم في الأعوام الأخيرة، زد على ذلك أن الإمبراطور «نابليون» قد عقد معاهدة «تلست» مع القيصر الروسي، ولم يعد خافيا على الوكلاء الفرنسيين في مصر أن الإمبراطور لا يزال يمني النفس باحتلال هذه البلاد، ثم إنهم أدخلوا في حسابهم أن تطورات الموقف في أوروبا قد تفضي إلى إرسال حملة فرنسية إلى مصر، مثلما فعل الإنجليز أنفسهم، وإن انبروا ينفون بشدة هذا الاحتمال للباشا، وصار من صالحهم طالما بقي الغزو الفرنسي المتوقع في عداد المشروعات التي لم تتح الفرصة لتنفيذها، أن يثابروا على كسب مودة محمد علي وصداقته؛ صونا لمصالح دولتهم.
وعلى ذلك، فقد استطاع الباشا أثناء نضاله مع جيش «فريزر» أن يحتفظ بصداقة الوكلاء الفرنسيين من جهة، وأن يستبدل صداقة الإنجليز بعداوتهم له من جهة أخرى، وكان بفضل هذا النجاح المزدوج أن عظم تفاؤله في إمكانه أن يقنع هاتين الدولتين؛ إنجلترة وفرنسا، بمعاونته على بلوغ «الوضع» الذي ينشده لباشويته، ولو أن هاتين الدولتين بالرغم من انتفاعهما من صداقة محمد علي، لم تكونا متهيئتين - لأسباب سوف يأتي ذكرها - لقبول أي تغيير يطرأ على العلاقة التي ربطت بين باشوية محمد علي والباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليه. (3) إنجلترة: محالفة، أم صداقة وتجارة؟
ولقد سبق أن أشرنا، أثناء الحديث عن مفاوضات الباشا مع الإنجليز بشأن تسليم الإسكندرية، إلى الأسباب التي جعلته يفضل كسب صداقة هؤلاء على استمرار عداوتهم له، فهم أصحاب أسطول كبير كفل لهم السيطرة في البحر الأبيض، ثم إن نابليون صاحب الانتصارات الباهرة في القارة الأوروبية لم يستطع حتى هذا الحين أن يدعي أنه قد أحرز نصرا عليهم، ثم هم الذين أخرجوا قبلا الفرنسيين من مصر، ويسهر أسطولهم في البحر الأبيض الآن لمنع هؤلاء من تجديد غزوهم لها، ثم اعتقد محمد علي إلى جانب هذا كله أن بوسعهم بفضل قوتهم البحرية، إذا شاءوا، الحيلولة دون وصول عمارة عثمانية أخرى إلى الشواطئ المصرية، ووقف تدخل الباب العالي في شئون هذه الباشوية بصورة تهدد حكومة محمد علي بها.
ولقد سبق أن أوضحنا كيف أن الرغبة في تأمين باشويته ضد نزوات الباب العالي خصوصا كانت مبعث تفكير محمد علي في ضرورة ظفره لولايته بوضع مشابه لوضع الولايات أو الوجاقات المغربية، على أساس إنشاء الحكم الوراثي في أسرته في مصر كخير ضمان للاحتفاظ بالباشوية. كما أوضحنا أن هذه الرغبة كانت مما جعله يطلب محالفة الإنجليز «ضد أعدائهم وأعدائه» من فرنسيين وعثمانيين على السواء، وذلك لقاء رعاية المصالح الإنجليزية التجارية في مصر، وتموين السفن البريطانية التي تأتي إلى الإسكندرية لتمتار منها، وتزويدها على وجه الخصوص بحاجتها من «ماء النيل». ولم يكن يبغي محمد علي مما عرضه على «فريزر» من وضع نفسه تحت حماية الإنجليز، سوى استمالة هؤلاء إلى قبول الدفاع عنه «عسكريا» ضد أي غزو قد يأتيه من جانب الفرنسيين أو العثمانيين، وإقناعهم بعقد المحالفة معه.
ومع أن «فريزر» لم يكن لديه من التعليمات ما يخوله إبرام هذه المحالفة التي يريدها محمد علي، واكتفى بأن وعده بإبلاغ رغبته في قبول «الحماية» البريطانية عليه إلى حكومته في لندن، ثم لم يبد أن هذه كانت تريد وقتئذ الارتباط بتعهدات جديدة من طراز تلك التي ارتبطت بها سابقا مع المماليك، قد تفرض عليها واجبات لا قبل لها بها، معطلة لنشاط قواتها المعدة لمواجهة ما قد يطرأ من تقلبات على الموقف في أوروبا، وليس من صالحها الالتزام بها، فقد أدار محمد علي هذه المفاوضات «السرية» بقدر كبير من المهارة، حتى إن «فريزر» خرج منها وهو مقتنع تماما بأن الباشا جاد في عروضه، وصادق في رغبته كسب مودة الإنجليز والتعاون معهم. وكان ظاهرا أن الباشا في هذه المرحلة الأولى قد قطع شوطا كبيرا في نيل صداقتهم، ولم يكن هناك لذلك ما يدعو إلى يأسه من استمالتهم إلى تأييده في مطلبه من حيث حصوله على الحكم الوراثي في مصر في وضع مشابه - كما قدمنا - لما هو قائم فعلا في وجاقات الغرب، أو توقع وقوفهم على الأقل موقف الحياد وعدم التصدي لمعارضته إذا هو استطاع بوسائل أخرى، وعن غير طريقهم، الوصول إلى غايته.
وحقيقة الأمر، أن هذه الصداقة مع الإنجليز - وهي التي عقد محمد علي على استمرارها آمالا كبيرة - إنما كانت من مبدأ الأمر مرتهنة بتوفر عاملين: أحدهما مثابرة الباشا على الخطة التي رسمها لنفسه في هذه المسألة، والآخر اقتناع الإنجليز أنفسهم بأن من صالحهم، إذا لم يكن في وسعهم عقد محالفة مع الباشا - كانت «دفاعية» حسبما اقترح الباشا في عروضه على «فريزر» - على الأقل أن تسود العلاقات الودية بينهم وبينه، وأن من صالحهم تعزيز هذه العلاقات التي مهد لقيامها إبرام اتفاق الجلاء عن الإسكندرية بشروطه العلنية المعروفة.
وتضافرت عوامل عدة على جعل الإنجليز يحرصون على صداقة محمد علي؛ فقد خرج الباشا من نضاله الأخير معهم - أثناء حملة «فريزر» - عزيز الجانب، ثم إنه بسط سلطانه على الإسكندرية، وهذه من المراكز التجارية الهامة في البحر الأبيض، ومستودع غلات البلاد الزراعية المعدة للتصدير إلى الخارج، وأهم هذه الغلال، التي عظمت حاجة الإنجليز إليها لتموين قواعدهم في البحر الأبيض، ثم إنه كان واضحا أثناء مفاوضتهم معه أنه يريد إدخال الإسكندرية في نطاق ولايته، وأهم من ذلك، أنه مصمم على الاحتفاظ بباشويته، بدرجة جعلته يقترح عليهم محالفته ضد الباب العالي نفسه، وهو صاحب السيادة الشرعية عليه، وضد الفرنسيين، وهم الذين اعتبرهم الإنجليز أصدقاء له، بل واعتقد «مسيت» - كما رأينا - أنه كان «مبيعا» لهم، ويعمل على تأييد مصالحهم في هذه البلاد، وقد أفزع الإنجليز دائما توقعهم أن يجدد هؤلاء غزوهم لها، فكان هذا الفزع مبعث تفكيرهم في تأسيس سلطان المماليك مرة ثانية في مصر، على اعتبار أنهم القوة التي تستطيع الدفاع عنها، ورد الغزو الفرنسي ومقاومته إذا وقع، كما كان هذا الفزع منشأ تقريرهم إرسال حملتهم لاحتلال الإسكندرية. وقد برهنت الحوادث منذ مجيء «فريزر» بجيشه إلى الإسكندرية، إلى وقت خروجه منها، على أن من العبث الاعتماد على البكوات المماليك، كقوة محاربة نشيطة، في صون هذه الولاية العثمانية من أخطار الغزو الأجنبي، وأن في وسع الحكومة التي أقامها الباشا في مصر أن تبذل جهودا صادقة وجدية في سبيل الدفاع عنها، وتحطمت لذلك نهائيا الفكرة التي انبثقت منها كل تلك المشاريع التي نادى بها «هتشنسون» و«ألكسندر بول» وأضرابهما، وصار في وسع الإنجليز أن يعتمدوا على حكومة الباشا في مقاومة الغزو الفرنسي على الأقل؛ حتى يتمكنوا هم من المساهمة بصورة فعالة في هذه المقاومة، وذلك طالما بقي محمد علي صديقا لهم، وطالما بقي صحيح العزم على التمسك بباشويته، ولم يبد لرجالهم الذين تفاوضوا معه، أن الباشا باتفاقه معهم، وفيما عرضه عليهم من عروض «سرية»، إنما كان يبغي مداورتهم فحسب، أو يريد نبذ صداقتهم بمجرد جلائهم عن الإسكندرية.
والحق أن الباشا كان حريصا على أن تسود العلاقات الودية بينه وبين الإنجليز، للأسباب التي عرفناها، ونهض أكثر من دليل واحد في السنوات الأربع التالية على وجود هذا الحرص لديه، وذلك في المسألتين اللتين اهتمت بهما إنجلترة اهتماما مباشرا فيما يتعلق بعلاقاتها مع باشا مصر، وهما تموين مالطة وغيرها من مراكز قواتهم في البحر الأبيض، ثم استعداد حكومة هذه البلاد للوقوف في وجه العدو، ومثابرتها على تحصين الإسكندرية وسائر المواقع بالشاطئ؛ لدفع الغزو الفرنسي إذا حدث، فقد اتفقت مصلحة الباشا في هاتين المسألتين مع المصلحة البريطانية؛ لأن بيع الغلال إلى الإنجليز يعود عليه بأرباح وفيرة، ويملأ خزانته بالمال الذي هو في حاجة ملحة إليه دائما، ولأن تحصين الشواطئ وتقوية المواقع الداخلية أيضا من شأنه تأمين باشويته، ولو أنه كان يبغي من ذلك إلى جانب مقاومة الغزو الفرنسي إذا وقع، أن يكون على قدم الاستعداد لدفع أي اعتداء قد يقع عليه من جانب الباب العالي إذا صح عزم هذا الأخير على إخراجه من مصر، ورفض الباشا التخلي عن ولايته. ثم إنه لم يشأ أن يأخذه الإنجليز أنفسهم على غرة، إذا بدا لهم فجأة أن يعيدوا الكرة لامتلاك الإسكندرية مرة أخرى. وقد وجد محمد علي في الاستجابة لرغبات الإنجليز وبيع غلاله لهم ، عدا الربح المالي الذي يجنيه من هذه التجارة، وسيلة نافعة لاتقاء شرورهم، وصرفهم عن محاولة غزو هذه البلاد، ولإقناعهم على الأقل بمزايا بقاء علاقات الود والصداقة، وتوثيق عراها بينه وبينهم، إذا تبين أنهم لا يشاءون عقد محالفة معه.
وأما الإنجليز، فالبرغم من امتناعهم عن عقد أية محالفة مع الباشا، فقد حرصوا من ناحيتهم على تعزيز علاقات الود والصداقة معه؛ للأسباب التي مر ذكرها؛ ولأنهم توقعوا بفضل هذه العلاقات الودية، أن ينقلوا بسهولة وأمان بريدهم إلى الهند، عبر الطريق البري.
وعلى ذلك، فقد شهدت السنوات القليلة التالية نمو علاقات الصداقة باطراد بين محمد علي والإنجليز، وكان تبادل المنفعة التجارية الأساس الذي قامت عليه، ومع أنه تعذر على الباشا أن يرقى بهذه العلاقات إلى مرتبة المحالفة التي نشدها، واستمالة الإنجليز إلى تأييد مسعاه من أجل الوصول إلى الاستقلال الذي أراده على أساس الحكم الوراثي في مصر، في وضع - كما ذكرنا - مشابه لوضع وجاقات الغرب، فقد جنى محمد علي من هذه الصداقة فوائد مالية وسياسية كثيرة.
ومثلما بدأت صلاته بالإنجليز، في مرحلة المفاوضات الأولى، في شهر مايو سنة 1807، بسبب مسألة الأسرى، فقد كانت هذه المسألة ذاتها مبعث استئناف صلاته بهم بعد اتفاق تسليم الإسكندرية، ذلك أنه كان لا يزال بالبلاد عدد من أسرى الإنجليز الذين صاروا رقيقا في أيدي الأفراد، وقد تقدم كيف ترك «فريزر» مندوبا للإشراف على جمع هؤلاء، هو «بتروتشي» يعاونه «هود»، كما ترك «آني» وكيلا بريطانيا بالإسكندرية، وعني الباشا عناية فائقة بمسألة هؤلاء الأسرى الرقيق، فتعهد بشراء هؤلاء من ماله الخاص من الأفراد الذين كانوا في حوزتهم، وتسليمهم إلى الإنجليز؛ فمهدت مسألة الأسرى لاستئناف العلاقات بين الباشا والإنجليز، وتبودلت الرسائل بين الفريقين، ولم تقتصر المباحثات على إجراءات تسليم الأسرى، بل تناولت غيرها من المسائل التي اهتم بها الإنجليز، والتي توقع الباشا أن يجني من الاتفاق معهم بشأنها فوائد جمة، وتتضح طبيعة هذه العلاقات من مراجعة ما صار يذكره الوكلاء الفرنسيون في تقاريرهم عن هذا النشاط الذي شهدوه، والذي كان لا يتفق في نظرهم مع ما يقتضيه قيام حالة الحرب بين الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على الباشا، وبين إنجلترة، من واجب الحد من هذه العلاقات، والامتناع عن مساعدة أعداء الدولة العثمانية بعدم الاستجابة إلى مطالبهم.
وقد بدأ هذا النشاط الجديد بوصول فرقاطة إنجليزية أمام الإسكندرية في 15 نوفمبر 1807، فاستضاف «بتروتشي» ربانها، وزار الاثنان طبوز أوغلي، حاكم الإسكندرية، واستقبلهما هذا بحفاوة بالغة، وقد أحضر ربان هذه الفرقاطة رسائل باسم الباشا، بادر المسئولون بإرسالها إليه فورا، قال الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية بتاريخ نوفمبر 1807 «إنهم لا يعرفون محتوياتها، ولكنه يقال إنها تتناول مسألة تسليم الأسرى الإنجليز «الذين كانوا قد بقوا في حوزة الأفراد كرقيق»، ثم مسألة تقديم كميات عظيمة من جميع أصناف الحبوب لتموين مالطة». قال هؤلاء الوكلاء: إن هذه المسألة الأخيرة من الموضوعات التي نصت عليها «الشروط السرية» التي حصل الاتفاق عليها مع «فريزر» عند تسليم الإسكندرية. أما «بتروتشي» فقد وصل القاهرة يوم 24 نوفمبر، وصار يعقد اجتماعات سرية مع الباشا لبحث «المهمة التي جاءت من أجلها هذه الفرقاطة، و«التوسط» في المفاوضات الجارية بين محمد علي وشاهين بك الألفي»، عندما كان هذا الأخير يريد الاتفاق مع الباشا في ظروف سوف يأتي ذكرها. وأما الاجتماعات العلنية بين محمد علي و«بتروتشي» فقد دار الحديث فيها دائما حول موضوع الأسرى، وعلق الوكلاء الفرنسيون على ذلك بقولهم: «وهناك كثير من المغفلين الذين يصدقون هذا.» ثم إن هؤلاء الوكلاء الفرنسيين لم يلبثوا أن احتجوا لدى محمد علي، على عدم مناسبة هذه العلاقات التي سوف تترتب عليها متاعب كثيرة له، ولم يشأ محمد علي إغضابهم، فأظهر تحفظا في صلاته مع «بتروتشي» وغيره من العملاء الإنجليز، حتى إن هؤلاء - على حد ما جاء في النشرة الإخبارية السالفة الذكر - بادروا لإنجاح مساعيهم لدى الباشا بإذاعة أن جيشا فرنسيا قد نزل في أبي قير، يبغون من ترويج هذه الشائعة تحريض الجند على التمرد والعصيان، لعلمهم أن هؤلاء يتحينون الفرص دائما لإثارة الفتنة، ويتذرعون بأوهى الأسباب للإخلال بالنظام، وأنهم سوف يعمدون إلى الاعتداء على القنصلية الفرنسية والحي الفرنسي بالقاهرة، ولكن هؤلاء - كما قال الوكلاء الفرنسيون - «ما لبثوا أن برهنوا لأولئك الذين باعوا أنفسهم للإنجليز، على أنهم يفوقونهم أمانة واستقامة، وأنهم يعرفون جيد المعرفة أنه قد انقضى الوقت الذي كان يتيسر فيه قتل وكلاء الحكومة الفرنسية ، والإفلات من العقوبة والقصاص».
ومنذ ديسمبر من العام نفسه، تبودلت الرسائل بين الباشا وبين «السير ألكسندر بول» حاكم مالطة، في موضوع الأسرى، ومن أجل تسهيل إرسال البريد الإنجليزي إلى الهند عبر مصر، فجاءت قرويت إنجليزية لهذا الغرض إلى الإسكندرية في ديسمبر، ثم غادرتها إلى مالطة في 21 منه تحمل رسائل من محمد علي إلى حاكمها، ثم لم تلبث أن حضرت فرقاطة ظلت تتجول أمام الإسكندرية بعض الوقت، قبل أن تلقي مراسيها عند قلعة فاروس، عند مدخل الميناء الجديدة، وقد ادعت هذه أن الغرض من مجيئها - حسبما ذكره الوكلاء الفرنسيون - إنما هو ل «شراء الأسرى الإنجليز».
وفي 18 يناير سنة 1808، وصل الإسكندرية إبريق إنجليزي يرفع علم الهدنة - لأن الباب العالي كان لا يزال في حالة حرب مع الإنجليز - فنزل قائد السفينة إلى البر، وقابل حاكم الإسكندرية طبوز أوغلي، مقابلة وصفها الوكلاء الفرنسيون بأنها كانت «ودية جدا» لم يلبث على أثرها فورا أن غادر «بتروتشي» الإسكندرية إلى القاهرة لمقابلة الباشا، وقد أحضرت كلتا السفينتين (القرويت والإبريق) رسائل معهما، تسلمها «البطروشي» وسار بها إلى القاهرة في كل مرة لتسليمها إلى محمد علي. وفي أواخر أبريل ظهرت قرويت إنجليزية أخرى أمام الإسكندرية، لم تلبث أن ابتعدت عن الثغر بعد مباحثة قصيرة مع طبوز أوغلي، ثم عادت مرة ثانية إلى الثغر في 15 مايو، لتحمل أربعة عشر أسيرا، اشتراهم «البطروشي» في القاهرة من مسترقيهم.
على أن مجيء هذه السفن الإنجليزية إلى الإسكندرية، ومقابلات ربابنتها مع طبوز أوغلي، وذهاب «بتروتشي» إلى القاهرة، كل ذلك لم يلبث أن استرعى انتباه الوكلاء الفرنسيين الذين راحوا يفسرون هذا النشاط ويعلقون عليه شتى التعليقات، فكتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في 20 أكتوبر 1807، أنه يعتقد مما وقف عليه من تقارير «مانجان» أن الاتفاق الذي عقده الباشا مع الإنجليز بشأن تسليم الإسكندرية لا يشتمل على شيء من الوعود سوى تقديم المساعدة من جانب الإنجليز، إذا ما غزا جيش أوروبي مصر، «ويبدو أن الأوامر الصادرة إلى القائد الإنجليزي «فريزر» بشأن إخلاء الإسكندرية كانت تلح عليه في اتخاذ هذه الخطوة، بدرجة أنها خولته أن يعرض على الباشا ما يطلبه من مال حتى ألف كيس، إذا رفض محمد علي تسليم الأسرى دون فدية.»
ثم كتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية في أول فبراير 1808، أنه «وإن كان لا يدري إذا كان القنصل «دروفتي» يعلم الغرض من هذه العلاقات السياسية «القائمة بين محمد علي والإنجليز»، والذي يقولون إن الأساس الذي ترتكز عليه إنما هو شراء الأسرى الذين بقوا في حوزة بعض الأفراد، فإن كثرة هذه العلاقات ثم نشوء علاقات غير عادية كذلك يبدو أنها آخذة في النمو باطراد، لمما ينهض دليلا على وجود تفاهم بين هذه الحكومة في مصر والوزارة الإنجليزية.» ثم شرع «سانت مارسيل» يعلل هذه الظاهرة، فقال: إن الإنجليز يبغون من توثيق العلاقات مع محمد علي الوساطة لديه في الوصول إلى اتفاق بينه وبين المماليك، وآية ذلك أن شاهين بك الألفي - وهو أقرب من يشمله الإنجليز بحمايتهم من بين البكوات - قد اصطلح مع الباشا، وأغدق عليه هذا النعم والعطايا، فأعطاه كشوفية مديرية الفيوم، وبعض القرى في مديرية البحيرة، وأظهر نحوه صداقة كبيرة، وصار يعامله باحترام زائد، ثم إن الإنجليز يهدفون كذلك إلى الاستئثار لأنفسهم وحدهم بحق التجارة مع هذه البلاد، فيصدرون إليها متاجرهم، ويستوردون منها قبل أي شيء آخر الغلال وسائر أصناف الحبوب التي هم في حاجة قصوى إليها؛ لتموين مالطة وغيرها من الأماكن. ولما كان مبعث ثراء الإسكندرية كونها مستودع تجارة الصادر والوارد في مصر، فقد ساءت حالها وتكبدت خسائر فادحة، بسبب تعطيل الملاحة التجارية، نتيجة لسيطرة الأسطول الإنجليزي في البحر الأبيض، بينما يعتبر النشاط التجاري بطريق البحر المورد الأساسي الذي تستمد منه ثراءها، وخاصة لانعدام الوسائل التي يمكن بها إنشاء الصناعة في هذا الثغر، ولأن جدب أرضها يحول دون قيام الزراعة بها.
وثمة سبب آخر، ذكره «سانت مارسيل» لتعليل هذه العلاقات النشيطة بين الإنجليز ومحمد علي، هو رغبة الأولين في العودة إلى احتلال الإسكندرية، أو امتلاكها بموافقة الباشا، فكتب في 10 فبراير 1808: «أنه علم من أخبار موثوق بصحتها، أن الإنجليز عرضوا على محمد علي باشا اثني عشر ألف كيس لقاء موافقته على إعطائهم الإسكندرية، ولكن الباشا الذي أغضبه هذا الاقتراح، لم يلبث أن أجاب بأنه مصمم على الدفاع عنها، ولن يسلمها إلا مرغما بقوة السلاح، وليس لقاء أي مبلغ من المال يعرض عليه.» واعتقد «سانت مارسيل» أن هذا الرفض من جانب محمد علي من شأنه أن يقضي بالفشل على مفاوضات الإنجليز وقتئذ، وسوف يترتب عليه أن يخصص هؤلاء قسما من أسطولهم للجولة في المياه المصرية، يعطل الملاحة، بل ويوقف حتى سير القوارب بين الإسكندرية ورشيد، وذلك في الوقت الذي كان رحيل الأسطول الإنجليزي آنئذ من بحر الأرخبيل قد بدأ يمكن السفن العثمانية من الملاحة بحرية بين سالونيك وخانيا (في كريت)، وأزمير ورودس، وبين الإسكندرية، وساعد جلب مختلف السلع والغلات على إنعاش الحركة التجارية بالإسكندرية بعض الشيء.
وكان مبعث اقتراح الإنجليز على محمد علي إعطاءهم الإسكندرية، خوفهم من غزو الفرنسيين لهذه البلاد، ورغبتهم في احتلال الإسكندرية حتى يستطيعوا منع نزول الفرنسيين بها؛ أي نفس السبب الجوهري الذي دعاهم إلى إرسال حملة «فريزر» للاستيلاء عليها من قبل، فقد كان الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي إلى الإسكندرية في 18 يناير، على نحو ما تبين «سانت مارسيل» هو إبلاغ محمد علي أن الفرنسيين ينوون الحضور قريبا إلى مصر بقوات عظيمة، ونصحه بضرورة وضع حاميات كبيرة في المواقع التي على الشاطئ لمقاومة هؤلاء عند مجيئهم ومنع نزولهم، ومحاولة إقناعه بقبول عدد من الجند البريطانيين في الإسكندرية لمساعدته في الدفاع عنها، ولكن الباشا - كما ذكر «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في 21 فبراير - رفض هذا الاقتراح الأخير، مستندا في ذلك إلى أن لديه من الجند ما يكفي لتعزيز الحاميات بالشاطئ الشمالي، وأنه لا حاجة له إلى أية مساعدة أجنبية لتحقيق هذه الغاية.
وواقع الأمر أن الباشا كان قد بدأ يهتم بتحصين الإسكندرية أثناء إقامته بها بعد جلاء الإنجليز عنها في شهر سبتمبر من العام السابق، ثم إنه لم يلبث أن شرع بعد ذلك في بناء أسوار جديدة حول المدينة، في موضع أسوارها القديمة من أيام العصور الوسطى، وعني الباشا بأن تكون هذه على نمط الأسوار التي أنشأها الجنرال «منو» وقت حصار الإنجليز للإسكندرية (1801)، وكانت التحصينات التي أقامها الفرنسيون في جهة باب رشيد قد صارت متهدمة، ولكن الخنادق التي حفروها كخطوط للدفاع من باب رشيد إلى قناة الإسكندرية من ناحيتها الشرقية كانت لا تزال باقية، وأما القلعتان اللتان أقامهما هؤلاء داخل أسوار الإسكندرية: قلعتا «كريتان»
Crétin
و«كفاريللي»
Cafarelli
فقد كان العطب الذي أصابهما قليلا، وكذلك الطابية المثلثة
Triangulaire
إلى الجنوب الشرقي، والأخرى القريبة من نيكروبوليس
Necropolis
فكانتا تقريبا بالحال التي تركهما عليها الفرنسيون، فاعتمد محمد علي على هذه المنشآت في تجديد تحصين الإسكندرية. وفي أوائل 1811 كان قد تم بناء ثلث الأسوار تقريبا، وتوقع كثيرون أن يفرغ الباشا من إقامة الباقي منها بعد حوالي عامين، واعتزم محمد علي وقتئذ بناء طابية بالقرب من سرايه التي يبنيها في المكان المعروف برأس التين. ثم إن الباشا اهتم بتحصين رشيد عند زيارته لها وهو في طريقه إلى القاهرة، كما شرع يعزز حاميات دمياط ورشيد والبرلس وأبي قير، حتى صارت هذه جميعها تذخر بالجنود الأرنئود، ثم إنه حشد الجند بدمنهور لنقلهم فورا إلى الإسكندرية إذا طرأ طارئ مفاجئ يتطلب ذلك، وهذا علاوة على إرسال حوالي المائتين أو الثلاثمائة جندي من الأرنئود إلى الإسكندرية في فبراير 1808، بينما كان قد تم في هذا الشهر نفسه تقوية حصونها بصورة تمكنها من الدفاع عن المدينة. واستمرت الاستعدادات والترميمات على قدم وساق كما لو كان العدو على وشك الظهور أمامها، كما عني محمد علي بتموينها وتوفير المواد الغذائية لها.
ولم يكن غرض الباشا من هذه الاستعدادات، التهيؤ لصد الغزو الفرنسي فحسب، بل والحيطة والحذر كذلك من جانب الإنجليز أنفسهم، ثم توزيع الجند الأرنئود الذين ظهر تمردهم على سلطانه - في ظروف سوف يأتي ذكرها - في المواقع البعيدة عن القاهرة من جهة، والتي كانت من جهة أخرى مراكز الدفاع الأمامية عن البلاد إذا تعرضت هذه للغزو، ثم إنه كان هناك سبب آخر، أوضحه «سانت مارسيل» في رسالة 21 فبراير التي تقدم ذكرها، هو أن اتخاذ الباشا لهذه الإجراءات الدفاعية ذاتها كان يفيد مأربا آخر له هو «كسب ثقة الباب العالي، الذي وجب على الباشا استرضاؤه، بالرغم من السيطرة التي يتمتع بها؛ حيث يؤكدون أن الديوان العثماني قد أبلغ الباشا في كتبه الأخيرة إليه نبأ المحالفة التي تشكلت من أكثر الدول في أوروبا ضد هذه الأمة لتحقيق أطماعها منها بالغدر بها»؛ ولذلك فإن التهيؤ للدفاع عن البلاد، من شأنه أن يطمئن الباب العالي على خضوع باشا مصر له وحرصه على تلبية رغباته.
ومع أن الإنجليز لم يستطيعوا إغراء محمد علي بإعطائهم الإسكندرية، فإن هذا الفشل لم يعكر صفو العلاقات بينهم وبينه، بل ظل من صالحهم أن تتوطد هذه العلاقات الودية، لسبب آخر هام، هو أخذهم الغلال من الإسكندرية، وجلب بضائعهم إليها لتصريفها في السوق المصرية، فلم يحدث ما توقعه «سانت مارسيل» من نتائج مترتبة على رفض الباشا التنازل عن الإسكندرية للإنجليز، بل ظلت الملاحة حرة، لا بين الإسكندرية ورشيد فحسب، بل وكذلك بين الإسكندرية وطائفة من المواني العثمانية، وذلك بالرغم من وجود بعض قطع الأسطول الإنجليزي لمراقبة الملاحة في حوض البحر الأبيض الشرقي، وتضييق الحصار على السواحل العثمانية، فجلبت السفن إلى الإسكندرية متاجر ومنتجات أساكل الليفانت، ولم تكن السفن الإنجليزية أو العثمانية هي وحدها التي استطاعت الدخول إلى ميناء الإسكندرية أو الخروج بأمان منها، فقد دخلت هذا الميناء في أوائل أكتوبر 1808، أربع سفن من مرسيليا، وواحدة من جنوة، محملة جميعها بالمتاجر والأقمشة، خصوصا من فرنسا.
واعتمد الإنجليز في نقل متاجرهم من مالطة إلى مصر على السفن النمساوية؛ إذ تعذر عليهم وهم لا يزالون في حرب مع الباب العالي أن يستخدموا سفنهم في نقل هذه المتاجر، واستاء الوكلاء الفرنسيون من هذا النشاط، وراحوا يحتجون لدى محمد علي على إجازته التعامل مع العدو، وبذلوا كل ما في وسعهم من جهد وحيلة لمنع دخول البضائع الإنجليزية التي تحملها السفن النمساوية إلى الإسكندرية ولكن دون طائل، حتى إن «دروفتي » راح يشكو من مسلك محمد علي إلى «سباستياني» السفير الفرنسي بالقسطنطينية في 30 مايو، ثم في 24 يوليو، ويذكر له عبث المساعي التي قام بها لإبطال دخول السفن النمساوية المحملة بالمتاجر الإنجليزية من مالطة إلى الإسكندرية، ويندد بموقف محمد علي في هذه المسألة، «وهو الذي - كما قال «دروفتي» - يستمع إلى نصح أولئك الذين يتأثرون بأقوال العدو وما لديه من وسائل (يستخدمها في إغرائهم) أكثر من تأثرهم بمظاهر قوتنا». وأشار «دروفتي» على السفير الفرنسي، بضرورة المسعى لدى الباب العالي، حتى يصدر هذا إلى الباشا «أوامر قاطعة، تحرره من الآراء الخاطئة والكاذبة التي يوحي بها إليه أناس من طراز «بتروتشي» وأضرابه»؛ وهي آراء سوف يبقى متأثرا بها، طالما بقي هؤلاء في مصر، وطالما لم تأته من حكومته هذه الأوامر القاطعة.
على أن الموقف لم يلبث بعد ذلك أن تبدل، عندما عقد الإنجليز الصلح أخيرا مع الباب العالي، ودخلت سفنهم وتحت أعلامهم ميناء الإسكندرية بحرية، وتزايد نشاط علاقاتهم التجارية مع الباشا، وصاروا يستوردون من هذه البلاد كل حاجتهم من الغلال، وكل ما استطاع الباشا أن يبيعه منها إليهم، وكان توثق هذه العلاقات التجارية معهم من العوامل التي حفزت الباشا على مفاتحتهم من جديد في مشروع ذلك «الاستقلال» الذي حدثهم عنه أثناء مفاوضات الجلاء عن الإسكندرية.
فقد بدأت الشكوك تساور العثمانيين من ناحية فرنسا، منذ أن قطعوا مفاوضتهم مع «باجيت» في الظروف التي عرفناها؛ وذلك لأنهم وإن رجحوا تعذر الاتفاق بين نابليون والقيصر إسكندر الأول على خطة موحدة بشأن تقسيم إمبراطوريتهم العثمانية، فقد تبين لهم تعذر الركون كذلك إلى صداقة الإمبراطور الفرنسي، في وقت عجز فيه سفيره في القسطنطينية «سباستياني» عن التأكيد لهم قطعا بحسن نوايا نابليون نحو الدولة العثمانية، وبدا لهم أنهم لن يستطيعوا عقد الصلح مع روسيا إلا لقاء تسليمهم بخروج الأفلاق والبغدان من حوزتهم، ولن تفيد صداقة فرنسا شيئا في منع هذه الكارثة، بل إن تهديد نابليون بالانتقام من علي باشا حاكم يانينا، إذا ظل مناوئا له - وكان هذا قد بسط سلطانه في ألبانيا - لم يلبث أن أعاد إلى ذهن الباب العالي قصة اعتداء الفرنسيين على مصر وغزوهم لها بقيادة نابليون بونابرت في عام 1798. وعلى ذلك فقد فضل العثمانيون الآن المفاوضة رأسا مع الروس، ودون وساطة فرنسا، ثم استئناف المفاوضة مع إنجلترة، ومع أن هذا التبدل في سياسة الأتراك لم ينه الحرب القائمة بينهم وبين الروس، فاستمر العداء حتى عقد الصلح بين تركيا وروسيا في معاهدة بوخارست بعد ذلك بأربعة أعوام تقريبا، في مايو سنة 1812، فقد ساعد هذا التبدل من ناحية أخرى على الوصول إلى نتيجة سريعة مع الإنجليز أنفسهم، ذلك أنه ما كاد مبعوثهم الجديد «السير روبرت أدير»
Adair
يصل إلى تينيدوس في سبتمبر 1808، حتى بدأت المفاوضات بينه وبين الأتراك، وأسفرت هذه عن عقد معاهدة الدردنيل في 5 يناير 1809، ونصت إحدى مواد هذه المعاهدة على تمتع رعايا كل من الدولتين بنفس الامتيازات التي لهؤلاء في ممتلكات كل منهما، ومعنى ذلك استعادة الرعايا البريطانيين نشاطهم السابق في مصر التي هي من أملاك الدولة العثمانية. وفي نفس التاريخ أبرمت تركيا معاهدة تحالف ودفاع مع إنجلترة.
وكان لحادث الصلح بين إنجلترة والباب العالي آثار هامة في مصر، من حيث توقع زيادة نشاط العلاقات التجارية، خصوصا بين الباشا والإنجليز، ثم الخوف من أن تسوء العلاقات بين الباب العالي وفرنسا بدرجة تفضي إلى فصمها، ومن حيث تعمد الباشا الانتفاع من هذا الموقف الجديد بما يضمن له صون مصالحه، وتحقيق مآربه، إذا عرف كيف يسلك الطريق السوي في صلاته مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين جميعا.
فقد كان أول حامل لنبأ هذا الصلح إلى مصر، إبريق إنجليزي من أسطول «كولنجوود»، في البحر الأبيض، وصل الإسكندرية في منتصف مارس 1809، فأذيع الخبر، ونزل ربانه إلى المدينة، وقابل حاكمها طبوز أوغلي ، ولقي ترحيبا كبيرا، وأحضر معه رسائل من حكومته، ولم يغادر هذا الإبريق الإسكندرية، حتى تسلم الربان جواب الباشا على رسائل هذه الحكومة.
وانتهز هذه الفرصة «بتروتشي» وغيره، ممن أغضبتهم سياسة الإمبراطور نابليون في أوروبا، وكانوا لذلك من أنصار الإنجليز، وراحوا يروجون لما كان يصلهم من أنباء ونشرات من مالطة مليئة بالطعن على نابليون والقذف في حقه، وكان المروجون - على وجه الخصوص - لهذه الدعاية السيئة ضد الإمبراطور، إلى جانب «بتروتشي»، كلا من قنصل إسبانيا في مصر «كامبو إيي سولر»، ورئيس الهيئة المشرفة في الإسكندرية على إيواء الذاهبين إلى الحج في الأرض المقدسة حيث عاش السيد المسيح، وهو «الأب أرمننجيلد»
Ermenengilde ، أما الأول فقد أعلن معارضته الصريحة لحكومة يوسف بونابرت الذي نصبه أخوه الإمبراطور ملكا على إسبانيا في يونيو من العام السابق (1808)، وطفق يذيع كل شتائم أو هجاء تتضمنه النشرات الآتية من مالطة ضد الإمبراطور وضد الملك يوسف.
وأما «الأب أرمننجيلد» فأصله من لوقا بإيطاليا، وصفه «سانت مارسيل» بأنه رجل معاند صلب الرأي، شديد التعصب مع كبرياء وعجرفة، ويكره فرنسا كراهة شديدة، ومع أنه كان قد وضع نفسه دائما تحت حماية فرنسا إلا أن خوفه من قطع العلاقات بينها وبين تركيا بعد حادث الصلح الأخير بين تركيا وإنجلترة، جعله - على حد قول «سانت مارسيل» - يستبدل بحماية فرنسا حماية «بتروتشي» له، بوصفه قنصل السويد العام، وذلك بتحريض من هذا الأخير، وغرض «بتروتشي» من ذلك أن يستميل الفرنسيين الموجودين بهذه البلاد إلى الانفضاض من حول القنصل الفرنسي والوكلاء الفرنسيين عموما، والانضواء تحت لواء رئيس هذه الهيئة الدينية بدافع الدين؛ لما لهذا الدافع الديني من تأثير على ذهنية المواطنين الفرنسيين الذين اعتقد «بتروتشي» خضوعهم للخرافات والأوهام الباطلة، فأبطل «الأب أرمننجيلد» الدعاء المعتاد لنابليون في كنيسته، وحمل على الإمبراطور حملة شعواء، كان مبعثها في الحقيقة عداءه له وللفرنسيين عموما أكثر من أي شيء آخر، ثم لم تلبث أن تزايدت هذه العداوة عندما انتهت اعتداءات نابليون على الولايات البابوية بإعلان ضمها إليه في مايو 1809، ووصلت الإسكندرية بعض «الأوراق » التي طبعت في مالطة، وأذيعت في الثغور فور وصولها، واعتبرت هذه - كما قال «سانت مارسيل» في رسالته إلى وزير الخارجية «شامباني»
Champagny
في 19 أبريل 1810 - «كأنها وثائق رسمية، بعث بها عملاء البابا، وهو الذي يحشد كل قوات الكنيسة للنضال ضد الإمبراطور». وقد أذاع «الأب أرمننجيلد» قرار الحرمان الذي أصدره البابا بيوس السابع
ضد نابليون في 11 يونيو 1809، ثم إنه كان من كبار أنصار الإنجليز بالإسكندرية نائب قنصل النمسا «جودارد»
Godard
الذي حيا دخول إبريق حرب إنجليزي إلى الميناء (في 6 أبريل) برفع علم دولته على مبنى قنصليته، محتذيا في ذلك ما فعله القنصل الإسباني العام «كامبو آبي سولر»، وقال «دروفتي» إن مهمة هذا الإبريق - بلا شك - هي حمل تقارير الحكومة إلى الهند، وقد زار ربانه حاكم المدينة الذي رحب به.
على أن الذي أقض مضجع «سانت مارسيل» أكثر من أي شيء آخر، كان مسلك «بتروتشي» مدبر كل هذه الفتن، وحامل لواء الحملة المقذعة ضد نابليون وضد الفرنسيين عموما، وسرد «سانت مارسيل» في إحدى رسائله إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 15 مارس 1809، قصة هذا الرجل بصورة تظهره من كبار المغامرين الذين لا يتورعون عن التضحية بكل مبدأ في سبيل نفعهم الشخصي، فقال: إن «فرنسيسكو بتروتشي» أصله من ليفورنة، تبع الفرنسيين عند مجيء حملتهم إلى مصر، والتحق بالإدارة المالية كمشرف على أبواب الإيراد والصرف في أسيوط، فجنى من هذا المنصب ربحا عظيما، وصار صاحب ثراء عريض، حتى إذا أخلى الفرنسيون البلاد لم يسمحوا له بالذهاب معهم إلى فرنسا، فأقام برشيد، وعينه الإنجليز وكيلا بريطانيا بها، وأظهر «بتروتشي» في هذا المنصب الجديد همة ونشاطا عظيمين، كما تنكر لفرنسا، واشترى من رئيس البعثة الدبلوماسية السويدية بالقسطنطينية وظيفة القنصل العام للسويد في مصر، ثم وفد إلى الإسكندرية بعد جلاء جيش «فريزر» عنها وتولى الإشراف على مصالح بريطانيا في هذه البلاد «تحت ستار القنصلية السويدية».
ونشط الوكلاء الفرنسيون لإزالة الأثر السيئ الذي أحدثته هذه الحملة المقذعة ضد نابليون، وكان أخشى ما يخشونه أن يتأثر الباشا نفسه بها، لا سيما بعد أن عقد الصلح بين تركيا وخصومهم الإنجليز من ناحية؛ ولأنهم توقعوا انفصام العلاقات بين تركيا وفرنسا دولتهم من ناحية أخرى، وكان من المنتظر مصادرة السفن الفرنسية في المواني المصرية إذا أعلنت الحرب بين تركيا وفرنسا؛ ولذلك فقد بادر «دروفتي» بمقابلة الباشا، فاجتمع به اجتماعا طويلا ، وصار يستوضحه نواياه نحو الفرنسيين إذا انقطعت العلاقات بين حكومتهم وبين الباب العالي. ولما كان محمد علي يحرص على استبقاء صداقة الإمبراطور «ولا يريد إغضابه»، ويضن بحرمان الإسكندرية دخول السفن المحملة بالمتاجر الفرنسية إليها، وخروج هذه السفن منها تحمل المنتجات المصرية، وذلك حتى لا يتعطل النشاط التجاري في الثغر، ويخسر الباشا - إذا وقع هذا - موردا من موارد المال الذي هو في مسيس الحاجة إليه دائما، فقد أبى أن يكون فصم العلاقات بين تركيا وفرنسا مبعث أذى يلحق مباشرة بمصالحه، وطفق يهدئ من روع «دروفتي» ويتدبر معه الوسائل التي تكفل استمرار العلاقات التجارية مع فرنسا بصورة لا تظهره بمظهر العاصي لأوامر الباب العالي، فقال له: «لقد شهدت بنفسك نوع المعاملة التي لقيها الوكلاء والرعايا الإنجليز وقت أن استولى جيش حكومتهم بطريق الخيانة على الإسكندرية، وصار يعمل لطردي من هذه البلاد، إني لا أعتقد أن الباب العالي يرتكب حماقة الدخول في حرب مع فرنسا، وأما إذا حدث هذا، فلتنزل اللعنة حينئذ على الرجل الذي يأبى أن يعامل «الفرنسيين» كما عاملهم في الماضي.» وأسفر الحديث الطويل بين «دروفتي» والباشا عن موافقة محمد علي على اتخاذ الوسائل التي تكفل إقلاع السفن الفرنسية الموجودة بالإسكندرية قبل إذاعة الفرمانات التي تعلن نشوب الحرب بين فرنسا وتركيا، بل إن الباشا «إظهارا لما يكنه من احترام وتوقير للإمبراطور، أراد أن يفعل أكثر من ذلك»؛ وذلك - على نحو ما كتب «دروفتي» إلى «شامباني» من القاهرة في 29 أبريل 1809 - بتعهده «بأنه سوف يغمض عينيه عن حقيقة الجوازات التي سوف تحملها السفن الفرنسية الحاضرة إلى المواني المصرية، متسترة تحت أعلام الولايات البربرية أو وجاقات الغرب»، ومتخفية بصورة لا تعرف منها جنسيتها الحقيقية، ولا تسبب تورط الباشا مع الباب العالي وحلفائه الإنجليز. وبالغ الباشا في الاحتياط من عدم إثارة سخط الباب العالي والإنجليز عليه، فأشار بضرورة الكتمان «إذا وافق الإمبراطور على السماح لرعاياه الذين يمارسون التجارة في مصر، بالاستمرار في نشاطهم، وفق الشروط المتقدمة»، وطلب أن تحضر السفن الفرنسية «المتنكرة» إلى ثغر دمياط بدلا من الإسكندرية؛ أي بعيدة عن مراقبة الوكلاء الإنجليز النشيطين.
ومع أن الفرنسيين لم يبدوا حماسا في استخدام ميناء دمياط، فقد أفادوا من الترتيب الذي اقترحه الباشا بشأن سفنهم التي تبغي المجيء إلى الإسكندرية، فحضرت سفنهم إلى هذا الميناء الأخير من مرسيليا «برسم تجار الإسكندرية من اليهود والطليان وغيرهم من الأجانب»، تستبدل بالمتاجر التي جلبتها، النطرون والصمغ والزعفران، والعقاقير وغير ذلك من حاصلات البلاد، كما صارت تأتي إليها السفن من تونس محملة بالطواقي وبالبضائع الأخرى المجلوبة من فرنسا. وقد كتب «سانت مارسيل» في 11 أكتوبر 1810: «إن أكثر المتاجر المصدرة من مرسيليا معنونة باسم تجار أجانب، أو من أهل البلاد هنا، أو مرسلة إلى البيت التجاري الإيطالي، المسمى: «فواهوريا وتيلش»
Fua Horia et Tilche
أغنى المؤسسات التجارية في مصر.»
وكان من المنتظر - كما أسلفنا - نتيجة لعقد الصلح بين تركيا وإنجلترة، أن تنشط العلاقات التجارية بين الباشا والإنجليز، وكان أول آثار هذا النشاط أن وصلت إلى السويس في مايو 1809 ثلاث سفن إنجليزية محملة بمتاجر الهند؛ اثنتان منها حضرتا من البنغال، والثالثة من «سوارت»، فأذن وصول هذه السفن بافتتاح طريق الملاحة المباشرة بين الهند وهذه البلاد، وذلك «بعد أن ظل هذا الخط معطلا عشرين عاما تقريبا» بسبب عدم أمان الطريق البري، «ونهب القوافل الإنجليزية في الطريق من السويس إلى القاهرة»، وذهاب السفن الإنجليزية لذلك إلى جدة بدلا من السويس، وكان استئناف استخدام هذا الطريق البري حدثا على جانب كبير من الأهمية لفت نظر الوكلاء الفرنسيين الذين راحوا يؤكدون لحكومتهم أنه ينهض دليلا على اشتمال اتفاقية الجلاء عن الإسكندرية، التي عقدها الباشا قبل عامين مع الإنجليز، على مواد «سرية»، وأن الغرض من هذه الاتفاقية إنما كان لنقل المتاجر التي تأتي بها السفن الإنجليزية من الهند إلى السويس، عبر الطريق البري من هذه الأخيرة إلى الإسكندرية؛ حيث ينقل الإنجليز منها هذه المتاجر في سفنهم إلى بلادهم.
وكثر مجيء السفن المحملة بالبضائع الإنجليزية إلى الإسكندرية، فرفعت السفن الآتية من مالطة الأعلام الإنجليزية، واستعان الإنجليز بسفن غيرهم لنقل صادراتهم إلى مصر، ثم ما يستوردونه منها، فاستخدموا في ذلك سفنا إسبانية وجنوية ونمساوية، كما استخدموا أخرى تونسية، رفعت جميعا الأعلام البريطانية، حتى تستطيع مزاولة نشاطها بسلام، وكان أكثر اعتماد الإنجليز على السفن النمساوية؛ ولذلك فإنه ما إن عقدت النمسا معاهدة الصلح مع فرنسا في فيينا، في 14 أكتوبر 1809، حتى واجهت إنجلترة صعوبة توفير السفن اللازمة لمواصلة علاقاتها التجارية النشيطة مع الإسكندرية، ولكنها سرعان ما ذللت هذه الصعوبة بمصادرة ما وجد من هذه السفن في مياه مالطة، أو بالاستيلاء عليها بمقتضى عقود بيع صورية، وظلت تفد إلى الإسكندرية سفن نمساوية وجنوية مما انحاز أصحابها إليهم وتخفق عليها الأعلام البريطانية.
وقد نقلت هذه السفن من منتجات مصر، النطرون، وخصوصا الكتان بكميات عظيمة إلى مالطة، والأرز، وجلبت لها الصابون والساعات والمنسوجات القطنية، وكانت أكثر الأقمشة التي جلبتها السفن الإنجليزية من مالطة، منتجات فرنسية، ثم الورق وما إلى ذلك من سلع الاستهلاك المحلي، ثم الأخشاب، وكانت حاجة الباشا إلى الأخشاب شديدة لتجهيز أسطوله المعد لنقل المتاجر المصرية في البحر الأحمر من جهة، ثم لنقل الحملة التي استعد الباشا لإنفاذها إلى الحجاز ضد الوهابيين، تلبية لأوامر الباب العالي، أو للاستعانة بهذا الأسطول في مناوأة الباب العالي نفسه، إذا طرأ بسبب ما يخشاه من انقلاب هذا عليه ما يدعو إلى ذلك.
على أن أهم ما حملته من الإسكندرية هذه السفن الإنجليزية، أو التي تحمل أعلاما بريطانية، كان الغلال، وقد سبقت الإشارة إلى شدة طلب الإنجليز للغلال، لا سيما أثناء سنوات القحط الذي عانته البلدان المطلة على البحر الأبيض، ما عدا مصر التي تعتمد زراعتها على فيضان النيل الذي كان طيبا في هذه الفترة، وتوفرت بسبب ذلك الحاصلات الزراعية، والحبوب خصوصا، وطلب الإنجليز الغلال لتموين أسطولهم الذي انتشرت وحداته بين مالطة وجبل طارق، وذلك عدا تموين الجيوش المشتبكة مع الفرنسيين في حرب إيبريا، فكانت الغلال السلعة الرئيسية التي حملتها سفنهم إلى مالطة، ولم يكن لهذه غير مصر تستورد منها حاجتها من الحبوب، ثم إلى إسبانيا والبرتغال.
وبذل «دروفتي» وسائر الوكلاء الفرنسيين كل ما وسعهم من جهد وحيلة لتعطيل نشاط الإنجليز التجاري، وحمل الباشا - على وجه الخصوص - على الامتناع عن تصدير الغلال إليهم. وكتب «سانت مارسيل» في 30 مارس 1810 «أن الباشا قد رفض دائما التسامح بتصدير الغلال»، وقال «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في 20 يونيو من العام نفسه «إن محمد علي كان يعارض دائما تصدير الغلال» إلى مالطة وغيرها، وقد يكون ما ذكراه صحيحا، ولكن الثابت أن حركة التصدير لم تتوقف، ثم إن نشاطها كان في ازدياد مستمر، ثم إن «سانت مارسيل» نفسه لم يلبث أن صرح بشكوكه في إمكان إقناع الباشا بالامتناع عن بيع الغلال للإنجليز، فقال في رسالته السالفة الذكر: «ولكنه لما كان قد حضر إلى الإسكندرية مركب حربي إنجليزي من طراز الإبريق، ودخلت معه سفينتان أخريان إنجليزيتان، وأحضرت هذه السفن صندوقا مليئا بالمال، فماذا يكون يا ترى موقف محمد علي؟ وهل يستمر رفضه «السماح بتصدير الغلال لهم»؟» ثم كتب «دروفتي» في نفس رسالته التي سبقت الإشارة إليها، بأن الباشا الذي ظل يعارض دائما هذا التصدير «قد صار يسمح به الآن، بسبب ما يحصله من رسوم جمركية على الغلال المصدرة، وهو بحاجة كبيرة إلى المال»؛ لما يتكلفه نضاله مع البكوات المماليك من نفقات طائلة، حتى إن الباب العالي مع حاجته هو الآخر إلى الغلال لم يظفر من محمد علي بما يسد هذه الحاجة؛ لأنه يجني ربحا أوفر من اتجاره مع الإنجليز؛ ولأن «مطالب العاصمة (أي القاهرة) مفضلة على كل ما عداها، ويعلو تحقيق ما فيه صالحها على كل اعتبار آخر» في نظره.
والواقع أن افتقار محمد علي إلى المال كان من الأدواء المزمنة، ولم تخف حدة أزمة المال هذه - كما سيأتي ذكره - في السنوات التي هي موضوع دراستنا، وكان من المتعذر على الباشا لذلك الامتناع عن التعامل مع الإنجليز، لا سيما وقد انتفى بسبب صلحهم مع الباب العالي في يناير 1809 ما يدعوه لوقف هذا التعامل معهم، ثم إنهم علاوة على ذلك، كانوا على استعداد لدفع الثمن الذي يطلبه الباشا لغلاله نقدا وعدا ومهما تغالى في تقديره، وهذا إلى جانب الرسوم الجمركية المرتفعة كذلك، والتي صار يفرضها على الحبوب والأرز والكتان والنطرون وسائر السلع المصدرة إلى مالطة، أو على السلع المجلوبة إلى مصر، وقد تزايد توثق العلاقات بينه وبين الإنجليز منذ أن عاد من مالطة إلى الإسكندرية في ديسمبر 1809، نائب القنصل البريطاني القديم «صمويل بريجز»، الذي كان قد غادرها منذ جلاء جيش «فريزر» عنها، وكان «بريجز» صاحب بيت تجاري كبير بالإسكندرية، قام بإدارته في غيبته هولندي يدعى «سوتش»
Sutch ، فأعاد الآن تأسيسه وكان صاحب ثراء عريض، وبدلا من أن يبطل الباشا بيع الحبوب للإنجليز، لم يلبث أن أعطى «بتروتشي» تصريحا بتصدير الغلال إلى مالطة، ولم تفد شيئا محاولات «دروفتي» في منعه من اتخاذ هذه الخطوة. ثم أغدق «بريجز» الهدايا على الباشا ورجال حاشيته لتعزيز علاقته بهم، وفاز الإنجليز بكسب آخر، عندما أجاز محمد علي دخول سفنهم الحربية إلى ميناء الإسكندرية القديمة، وكان كل ما اشترطه «ألا يوجد بهذا الميناء في وقت واحد أكثر من مركبين حربيين فحسب».
وساء الوكلاء الفرنسيين، أن يظفر الإنجليز بكل هذه المزايا، وراحوا يعزون هذا إلى نشاط أعدائهم، الذي تزايد بعد عودة «بريجز» إلى الإسكندرية، فقال «دروفتي» في كتابه إلى حكومته في 12 مارس 1810: «إنه بعودة بريجز إلى منصبه، قد عادت إلى مصر المؤامرات والدسائس من كل نوع، والتي هي عادة تسير في ركاب الدبلوماسية البريطانية.» وحنق «دروفتي» على وجه الخصوص على ترجمان الباشا، وهو الذي شكا منه «دروفتي» و«مانجان» أيام المفاوضات التي انتهت باتفاق تسليم الإسكندرية إلى محمد علي، كما حنق على طبيب الباشا المسمى «مندريشي»
Mandrici
وأصله من جنوة، وخدم في بلاط باي تونس قبل نزوحه إلى مصر، ويقول عنه «دروفتي» إنه في حماية الإنجليز، ويذيع عن نفسه أنه يعمل وكيلا للولايات المتحدة الأمريكية في مصر، وأما الرجل الذي أثار حنق وغيظ الوكلاء الفرنسيين دائما، فكان «بتروتشي» الذي شكا منه هؤلاء شكوى مرة؛ لأنه بعد أن خدم «جيش الشرق» لم يلبث أن تنكر لفرنسا بعد جلاء حملتها عن مصر، وأعلن عداءه لها، وعظم نشاطه التجاري مع الإنجليز في مالطة، وصار يبعث بالسفن الكبيرة المحملة بالقمح والشعير إلى مالطة، وكان بسبب نشاطه التجاري هذا، وتظاهره بالحرص دائما على إرضاء الباشا، مقربا منه وصاحب حظوة لديه، ومع أن «سانت مارسيل» كان قد ذكر للوزير «شامباني» في مارس 1809، أن الفرنسيين المنسحبين من مصر في عام 1801 هم الذين لم يأذنوا ل «بتروتشي» باللحاق بهم، فقد راح يؤكد الآن لوزير الخارجية الجديد «الدوق دي كادور»
Cadore
أن بتروتشي قد خشي، بسبب اختلاساته - ولا شك - أثناء وظيفته كمحاسب في أسيوط، مناقشته الحساب إذا هو ذهب إلى فرنسا، فآثر البقاء في مصر، يخدم المصالح الإنجليزية، وينفس عن كراهيته لفرنسا بتدبير المؤامرات والدسائس التي تلحق الأذى بمصالحها.
ولقد جعلت الباشا حاجته إلى المال، إلى جانب الأرباح التي يجنيها من اتجاره مع الإنجليز، وتصدير غلاله لهم، ضنينا بإرسال الغلال والحبوب إلى تركيا، بالرغم من أن هذه كغيرها من بلدان البحر الأبيض، كانت تشكو من القحط، وتخشى المجاعة، والسبب في ذلك أنه ما كان يستطيع بيع غلاله للدولة بالثمن المرتفع الذي يبيع به للإنجليز، أو يحصل على الغلال المصدرة إليها نفس الرسوم الجمركية العالية، التي يحصلها من الإنجليز، وقد حدث عند اشتداد القحط، والخوف من انتشار المجاعة في مالطة في عام 1810، أن رفع الباشا الرسوم الجمركية إلى 26 قرشا عثمانيا على الإردب الواحد، ودفع الإنجليز الثمن بطيب خاطر، وخيل إلى الباب العالي أن بوسعه وقف حركة التصدير إلى مالطة، وحمل الباشا على إرسال الغلال إلى القسطنطينية؛ إذ أصدر أوامره لوالي مصر بمنع تصدير القمح إلى أوروبا، وتشدد في مطالبته بذلك، ولكن محمد علي ما كان يأبه لهذه الأوامر المتكررة.
صحيح أنه لبى طلب الباب العالي في أحايين قليلة ونادرة، وأرسل بعض الغلال إلى الدولة، ولكن التصدير إلى مالطة لم يتوقف، بل إن «دروفتي» لم يلبث أن كتب في 17 يوليو 1810، أن تصدير الغلال إلى مالطة قد نشط بدرجة تسترعي الأنظار حقا، ثم لم تلبث أن تأزمت الأمور بين الباشا وبين الباب العالي في شهر فبراير 1811 والشهور التالية، عندما استأنف هذا الأخير إصدار الأوامر المشددة إلى محمد علي بوقف تصدير القمح إلى أوروبا (وآخرها في مايو)، وظل الباشا لا يأبه لها، وإن حاول في الوقت نفسه تهدئة كل من تركيا وفرنسا، بأن صار يعرض على فرنسا أن يبيعها الغلال بأثمان مخفضة، ولو أنه لم يكن واضحا وسيادة الإنجليز مبسوطة على البحر الأبيض، كيف تستطيع فرنسا أن تتسلم الغلال التي تبتاعها، ثم إنه عرض عليها استعداده لتموين جزيرة كرفو التي كانت في حوزته، ولو أن هذه كانت تأخذ من أوروبا حاجتها من الغلال بأثمان تقل كثيرا عن تلك التي طلبها. وأما تركيا، فقد عمد الباشا إلى مراوغتها ومماطلتها، بحجة افتقارها إلى السفن التي تنقل الغلال إلى بلادها، ومع أن تركيا قد أرسلت إلى الإسكندرية في شهر أغسطس 1811 إحدى عشرة سفينة، فإن ثلاثا منها فقط استطاعت أن تأخذ حمولتها من الغلال بعد ستة شهور، ولما طال الانتظار بسائر السفن بقيت منها أربع في الميناء يداعبها الأمل والرجاء، وقفلت الأخرى راجعة بعد أن تملكها اليأس والقنوط.
وأما الإنجليز فقد كان الحال على نقيض ذلك تماما، فقد استمرت سفنهم ترد إلى ميناء الإسكندرية بنظام، وفي أعداد كبيرة، ولم يحدث تأخير في شحن السفن، كما أنه لم يحدث من ناحية الإنجليز تسويف في دفع الثمن، وانحصر نشاط الباشا - على نحو ما ذكر «سانت مارسيل» في كتابه إلى «الدوق دي كادور» في 7 يناير 1811 - في «تجارة الحبوب» والغلال التي يبيعها للإنجليز، ولم يمنع ارتفاع السعر الذي باع به الباشا إقبال هؤلاء على الشراء منه، ولم يكن هناك سبيل للتعامل مع غيره، لاحتكاره تجارة الحبوب وغيرها من منتجات البلاد، بل إن هؤلاء ما لبثوا أن أوفدوا إليه من مالطة في مارس 1811 مندوبين للاتفاق معه على شراء الغلال اللازمة لتموين صقلية كذلك وبالثمن الذي يريده، واستطاع الباشا التصرف في كميات وفيرة من الغلال؛ لأنه كان وقتئذ قد نجح في القضاء على المماليك والاستيلاء على غلات الصعيد في ظروف سوف يأتي ذكرها . وقال «دروفتي» في كتاب إلى حكومته من القاهرة في 8 مايو 1811: «إن الباشا لم يكتف بالمضي في تجارته مع مالطة (وإرسال غلاله إليها)، بل إنه أنشأ مؤسسة بهذه الجزيرة - أو «خانا» - لبيع الغلال، ولتوريد الغلال التي يبغي الباشا إرسالها إلى إسبانيا والبرتغال.» ونشط المشرفون على هذا الخان نشاطا عظيما. وتحدث «سانت مارسيل» في يوليو عن نشاط هؤلاء ومهمتهم، وكان واجبهم إرسال السلع الصالحة للاستهلاك في مصر، لقاء ما يبيعونه من الحبوب. وهكذا - كما قال سانت مارسيل - تستمر دائما تجارة الغلال هنا؛ أي بالإسكندرية مع الإنجليز، وتعج الميناء بالسفن النمساوية والمجرية والتابعة للبندقية تحمل الغلال إلى مالطة أو إسبانيا والبرتغال رافعة الراية الإنجليزية، ويبيع الباشا اليوم الواحد والعشرين مدا بمائة قرش، فجمع محمد علي من هذه التجارة أرباحا وفيرة.
ولم يشك من الأثمان أو الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضها الباشا سوى خصمه القديم «مسيت»، وكان هذا قد عاد إلى منصبه قنصلا بريطانيا في هذه البلاد في أواسط عام 1811، بعد أن رقته حكومته كولونيلا، وقد دخل الإسكندرية في موكب فخم، سار فيه خمسمائة من الجند الأرنئود، وأحاط بمركبته فرسان من الإنجليز المقيمين بالإسكندرية، ثم ربان وضباط قرويت إنجليزية راسية بالميناء، ويتقدم مركبته اثنان من السياس، مما يرمز جميعه إلى ما صار يتمتع به الإنجليز الآن من سمعة ونفوذ، ولو أنه اضطر أن يدفع ألفي قرش لرؤساء هؤلاء الأرنئود الذين طالبوه بثمن حفاوتهم. ومع أن الموقف معه تبدل عما كان عليه منذ السنوات الأربع الماضية، وصار «مسيت» نفسه نهبا للمرض، وأصاب الفالج ذراعيه وساقيه، حتى صار كسيحا مقعدا، فإنه لم يترك خصومته القديمة لمحمد علي، أو ينسيه المرض «واجبه» الذي جعله الآن ينحى باللائحة على الباشا وينقد مسلكه نقدا لاذعا مرا؛ لافتئاته على الحقوق أو الامتيازات التي للبريطانيين في أنحاء الدولة العثمانية وأملاكها، والتي وجب على الباشا احترامها، وعدم فرض الرسوم الجمركية العالية، فاستهل نشاطه الجديد، بالشكوى لحكومته من محمد علي، فقال في كتابه إليها في 4 يوليو 1811: «إنه يؤسفه شديد الأسف أن يجد حاكم أو باشا مصر الحالي (أي محمد علي)، لا يحترم الامتيازات المعطاة للإنجليز، بفضل معاهدات الامتيازات المبرمة بينهم وبين الباب العالي، فقد صمم على الاستئثار لحسابه، أو أنه نفذ ذلك فعلا، بكل أنواع الاحتكارات، ولقد زيدت الرسوم الجمركية القديمة، وفرضت أخرى جديدة على كل سلع تجارة الوارد والصادر، وليس لدى الباشا جواب على احتجاجات الوكلاء الأوروبيين، سوى قوله إن من حقه وضع كل التنظيمات والقواعد الداخلية في نطاق باشويته أو حكومته، ولا جدوى من مخاطبة الباب العالي لعلاج هذه الحالة؛ لأن الباشا، مع اعترافه الاسمي بسلطة السلطان، يرفض الإذعان لكل أوامر يصدرها عظمته، إذا تعارضت مع مصلحته هو الخاصة.»
ولكن تذمر «مسيت» وغضبه، لم يحولا دون استمرار تعامل الإنجليز مع الباشا، وشرائهم للغلال منه، بل قبل هؤلاء في بداية هذا العام نفسه (1811) أن يدفعوا خمسين قرشا عثمانيا ضريبة جمركية على كل إردب من القمح الذي يستوردونه، وهذا بطبيعة الحال علاوة على الثمن الذي يدفعونه في شرائه، ثم إن احتجاج الوكلاء الفرنسيين، وسخط الباب العالي لم يحولا كذلك دون مضي الباشا في بيع غلاله للإنجليز، والتذرع بشتى الوسائل لعدم إرسال القمح إلى القسطنطينية، تارة بدعوى حاجته إلى الغلال ومختلف أنواع الأغذية لتموين جيشه الذي يعده لحملة الحجاز واستخلاص الحرمين الشريفين من الوهابيين، نزولا على إرادة الباب العالي، بل وصار يطلب علاوة على ذلك أن يمده الباب العالي نفسه بالأغذية والمؤن وغير ذلك من الإمدادات التي قال إنه في حاجة إليها؛ ليكمل استعداداته وحتى يتسنى له الخروج إلى الحجاز، وتارة أخرى بدعوى عدم وجود السفن الكافية لديه لشحنها بالغلال وإرسالها إلى القسطنطينية، ناهيك عما يحتاجه هو منها لحملته ضد الوهابيين، وعلاوة على ذلك، لم تعوزه الحجة أمام احتجاجات الوكلاء الفرنسيين، في تبرير تعامله مع أعدائهم الإنجليز.
فقد كتب «دروفتي» من القاهرة في 28 أبريل 1810، أن طبيب الباشا «مندريشي» قد استند في إقناعه الباشا بالمضي في بيع الغلال للإنجليز إلى أن هؤلاء لديهم من القوة والوسائل ما يمكنهم من إرسال جيش إلى مصر لغزوها إذا انقطعت العلاقات بينهم وبين الباب العالي، كما أن في وسعهم من ناحية أخرى مساعدة الباشا ونجدته إذا أرسلت فرنسا حملة لغزو هذه البلاد، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وعلاوة على ذلك، فإنه «يبدو لي من التقريرات التي وصلتني، أن محمد علي قد صار يعتقد أنه إذا أجاب مطالب الإنجليز - من حيث الاستمرار على تصدير الغلال إليهم - فإن هؤلاء سوف يفصمون علاقاتهم مع البكوات المماليك، ولا يعود الباشا حينئذ يخشى شيئا منهم.»
وفي 17 يوليو 1810، كتب «دروفتي» يقول: «إن الباشا بدعوى حاجته إلى مورد جديد من المال، يمكنه من متابعة الحرب ضد المماليك، قد أعطى الإنجليز حديثا الحق في استيراد الحبوب بمطلق الحرية (من هذه البلاد)، في نظير دفع عشرة قروش تركية، رسوما جمركية على الإردب وزن رشيد، وهو يعادل 25 مريا جراما.» ومن المعروف أن «المريا جرام» الواحد يساوي عشرة آلاف جرام.
ولما رفض محمد علي الاستماع لأوامر الباب العالي المشددة، بمنع تصدير القمح إلى أوروبا، كتب «دروفتي» في 11 نوفمبر 1810، أنه احتج لدى الباشا على استمرار البيع للإنجليز، فكان جوابه: «أنه يخشى إثارة عداء هؤلاء ضده، إذا رفض رفضا قاطعا بيع غلاله لهم»، وأنه إذا امتنع عليهم أخذ الغلال بطريق الشراء، لجئوا إلى أخذها عنوة بالقوة، ولكنه سوف يعمد إلى طريقة أخرى من شأنها إزعاج تجارهم إزعاجا شديدا، هي زيادة الرسوم الجمركية على الصادر، وقد رفع هذه فعلا إلى 26 قرشا تركيا على الإردب زنة خمسة وعشرين مريا جراما، ولكن «دروفتي» لم يقتنع بالسبب الذي أبداه الباشا لزيادة الرسوم الجمركية، واعتقد أن مبعثه إنما كان رغبة محمد علي في جمع المال، منتهزا فرصة وجود المجاعة في مالطة وفي جميع جزر البحر الأبيض تقريبا وقتئذ، وأما الدعاوى الأخرى التي سوغ بها تعامله مع الإنجليز، فقد كانت على نحو ما ذكره ل «دروفتي» خوفه من هؤلاء، وضرورة تحصين الإسكندرية، وبناء أسطول من السفن في البحر الأحمر.
وفي 16 يناير 1811 عاد «دروفتي» يقول إن الباشا في حاجة إلى المال الذي يحصل عليه من تصدير الغلال إلى الإنجليز لدفع مرتبات الجند، ولبناء أسطول من السفن في البحر الأحمر، «ودعواه الوحيدة التي يبرر بها مسلكه هذا «مع الإنجليز»، لدى الباب العالي، هي ضرورة إنجاز الاستعدادات اللازمة لخروج حملته ضد الوهابيين». وأما الوكيل الفرنسي الآخر «سانت مارسيل»، فقد كتب من الإسكندرية في 27 مارس 1811، ينبئ حكومته بوصول ضابطين من القومسيرية العامة للجيش البريطاني في صقلية؛ للمفاوضة والاتفاق مع محمد علي على شراء الحبوب، ثم استطرد يقول: «ولما أن احتججت لديه على ذلك، قال «الباشا» إن هذا التعامل «مع الإنجليز» يزوده بالمال الذي يلزمه لتحصين الإسكندرية وزيادة عدد جيشه، وإنجاز تسلحه في البحر الأحمر، والقيام بحملته ضد الوهابيين، ثم إنه يخشى إذا هو رفض «التعامل مع الإنجليز» أن هؤلاء إذا اضطروا إلى مغادرة صقلية وطردوا منها - وهذا أمر متوقع - فسوف ينقضون عندئذ على مصر و«يغزونها»؛ كي يأخذوا منها ما يحتاجونه لتموين أسطولهم ومالطة، وعلاوة على ذلك، فإن الواجب يقتضيه - كما قال - الاحتراس من ناحية الإنجليز، في الوقت الذي لهم فيه جيش بالبرتغال، لا يعلم أحد المكان الذي سوف يقصده، بعد اضطراره إلى مغادرتها، وقد بلغه (أي محمد علي) أن هذا الجيش يبغي الدخول إلى البحر الأبيض، ثم إنه يعتقد أن قطع العلاقات بين إنجلترة وتركيا قد بات أمر متوقعا.» ومن المعروف أن «السير آرثر ولزلي»
Wellesley - دوق ولنجتون - الذي تولى القيادة العامة للقوات البريطانية في البرتغال في عام 1809، كان بعد اشتباكه في معارك عدة مع الفرنسيين في شبه جزيرة إيبريا، قد اضطر إلى الانسحاب إلى الساحل في البرتغال.
وفي 6 مايو 1811، كتب «سانت مارسيل» يقول: «إنه يقطع بأن الباشا يريد عقد محالفة مع الإنجليز، فهناك من صار يبين له بالحجة والدليل أنه ببقائه صديقا لفرنسا، في وسع هذه تثبيته في حكومته.» ولكنه لما كان هو بعيدا بعدا كبيرا من الدولة التي تكتفي ببذل الوعود، والتي قالوا إنها ذات أهمية ثانوية وقتئذ، فمن الخير له أن يصادق الإنجليز الذين في وسعهم بفضل قوتهم البحرية أن يحموا تجارته. ثم استمر «سانت مارسيل» يقول: «ويدرك الباشا جيدا من ناحية أخرى، أن الإنجليز لن يولوه حمايتهم إلا من أجل تحقيق غاياتهم الشيطانية، ولكنه يرى - بعد إمعان النظر - أن الأفضل له، إذا لم يكن هناك معدى عن الوقوع تحت رحمة الباب العالي أو إنجلترة، أن يسلم نفسه إلى هذه الأخيرة، التي سوف تبقي حينئذ على حياته وتترك له أمواله، بينما يجرده الباب العالي من أمواله وينتزع منه حياته.»
ولا جدال في أنه إلى جانب ما كانت تدره عليه التجارة مع الإنجليز من ربح مالي وفير، كانت الدعاوى التي استند إليها الباشا في تبرير مسلكه، منبعثة عن وزن صحيح للأمور، بسبب مماطلة البكوات المماليك في الاتفاق، وحسم خلافاتهم نهائيا معه، وما كان يذيعه الوكلاء الفرنسيون والإنجليز سويا، عن احتمال وقوع الغزو على هذه البلاد؛ إما من ناحية إنجلترة، حسب أقوال الأولين، وإما من ناحية فرنسا كما يؤكد الأخيرون. ثم إنه كان عليه استرضاء الباب العالي بالخروج إلى الحجاز ضد الوهابيين، وعلاوة على ذلك، فقد أفاد من صداقة الإنجليز والتعامل معهم، لا من حيث امتلاء خزانته بالمال فحسب للإنفاق منه في الوجوه التي ذكرها الوكلاء الفرنسيون أنفسهم، بل ومن حيث الاستعانة بنشاط الوكلاء الإنجليز في تنفيذ الخطة التي اتبعها مع البكوات المماليك؛ لاستمالتهم إلى الصلح معه، وخصوصا عند سعيه لكسب ود وصداقة شاهين بك الألفي على نحو ما سيأتي ذكره.
وثمة سبب آخر يدعوه لإمداد الإنجليز بحاجتهم من الغلال، هو اعتقاده أن بوسعه الاعتماد على مؤازرتهم له في بناء ذلك الأسطول التجاري والحربي الذي أراد إنشاءه، في البحر الأحمر، لتعزيز العلاقات التجارية بين موانيه وسائر المواني بهذا البحر، ولنقل جنده المرسلين إلى بلاد العرب، وكان يبغي أن يبيعه الإنجليز بعض سفنهم، أو يجهزوا بعض سفنه هو بالأسلحة التي تجعل منها سفنا حربية، فعهد إلى سليم ثابت أحد رجاله في القسطنطينية بأن يتفاوض مع السفير الإنجليزي بها بصدد شراء السفن اللازمة له من إنجلترة، وكتب إلى كتخداه بالعاصمة العثمانية في 22 يناير 1810، أن محمد آغا اللاظ قد بنى سفينة بالإسكندرية طولها 36 ذراعا، وعهد بقيادتها إلى إسماعيل قبودان البشكطاش (جبل الناره أو جبل طار)، على أن يذهب بها إلى مالطة؛ حيث يبتاع هناك سفينة أخرى، فيقصد المركبان ميناء السويس، بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وأما هذه السفينة التي أنشأها محمد آغا اللاظ فقد عرفت باسم «أفريقية»، وقد أبحرت فعلا من الإسكندرية إلى مالطة في أبريل من العام نفسه.
ولكن الإنجليز لم يلبثوا أن «تعللوا» بتعلات مختلفة لعدم بيع سفنهم لمحمد علي، وما إن وصلت «أفريقية» إلى لندن، حتى تدخل في أمرها رجال شركة الهند الشرقية التجارية الإنجليزية، وكان يعنيهم أن يظلوا محتكرين لتجارة الهند، فحاولوا دون قيام «أفريقية» برحلتها المنتظرة حول رأس الرجاء الصالح إلى السويس، وإن كانت الحكومة الإنجليزية قد تكفلت بتسليحها تسليحا جيدا على نفقتها، وحملت قبطانها إسماعيل جبل طار هدايا عظيمة استرضاء للباشا، فعادت هذه الفرقاطة إلى الإسكندرية في يناير 1812.
على أنه كان هناك إلى جانب ما ذكرنا، سبب يفوق في نظر محمد علي هذه الأسباب جميعها، ويدعوه للمثابرة على كسب ود وصداقة الإنجليز، هو تصميمه على الاستعانة بهم في إخراج مشروع «استقلاله» الذي عرفناه إلى حيز الوجود، ولو أن هؤلاء رفضوا الاستجابة لهذه الرغبة. (4) الإنجليز يرفضون استقلال محمد علي
فقد مهدت العلاقات التجارية التي أنشأها محمد علي مع الإنجليز، لاستئناف مساعيه لعقد محالفة معهم، واستند في مفاتحة وكلائهم برغبته هذه، أولا: إلى أنه لا يثق في نوايا الباب العالي نحوه، ويريد تأمين بقائه في باشويته، ويعنيه لذلك التحالف مع حليف قوي، يدفع عنه أذى الباب العالي. وثانيا: إلى أنه من صالح الإنجليز توثيق صلاتهم به، حتى يرعى مصالحهم التجارية، لا في مصر وحدها فحسب، بل وكذلك في الأصقاع الجديدة التي ينوي فتحها في بلاد العرب، عند خروجه في الحملة التي يكلفه الباب العالي القيام بها ضد الوهابيين، فيفتح مواني البحر الأحمر لتجارتهم. وثالثا: إلى أن تأمين الطريق البري من السويس إلى القاهرة فالإسكندرية يعود على تجارتهم مع الهند بفوائد عظيمة. وأخيرا: إلى أن تحالفهم معه يكفل اطمئنانهم إلى الحصول على كل ما يريدونه من غلال لتموين قواعدهم بالبحر الأبيض.
وقد بدأ مساعيه هذه مع الوكلاء الإنجليز، عقب مغادرة «فريزر» وجيشه البلاد، وأبلغ «آني» رغبات الباشا إلى كل من القائدين «فريزر» و«مور» منذ 1807، ولكنه لم يظفر منهما بجواب حاسم. ولما كان محمد علي قد «اصطفى» هذا المالطي؛ ليسر إليه ب «حقيقة» أغراضه، وظل يكرر له القول إنه يعتزم فعلا الخروج إلى بلاد العرب، لا لمجرد القضاء على الوهابيين، بل ولفتح ميناءي جدة وينبع، والاستيلاء على اليمن ومخا، مينائها كذلك - وقد امتدت اعتداءات الوهابيين إلى اليمن - فقد اهتم «آني» بالأمر، وحرص على أن لا تفوت حكومته الاستعانة بمحمد علي، في تأمين الملاحة البريطانية في البحر الأحمر من جهة، وفتح ميادين جديدة لتجارتهم من جهة أخرى، عدا ما يترتب على التعاون مع قوات الباشا الصديقة في هذه المراكز، من غلق البحر الأحمر في وجه أية دولة معادية وبخاصة فرنسا، إذا حدثتها النفس بمحاولة تهديد المصالح البريطانية في الهند مرة أخرى، على غرار ما حاوله بونابرت أثناء حملته المعروفة على مصر.
فقد لفتت حملة بونابرت هذه أنظار الإنجليز إلى أهمية البحر الأحمر، وقد أصر «لورد فالنتيا» عند انتهاء رحلته في الهند، على العودة منها بطريق البحر الأحمر، وقد ذكرنا كيف دخل القاهرة في فبراير 1806، بعد أن اجتاز الطريق البري بسلام من السويس إليها، وكان غرضه من الرحلة في البحر الأحمر، اكتشاف خير الوسائل التي يمكن بها غلق هذا الطريق في وجه غزو يأتي من الغرب، ثم تنمية تجارة الهند مع مواني البحر الأحمر، وقد تسنى له بذلك زيارة المواني الهامة، وخرج من رحلته هذه بأن احتلال عدن، وعقد محالفة مع الوهابيين والأحباش، أفضل ما يمكن اتخاذه من خطوات لتحقيق هذين الغرضين، فكان من أثر دعوته أن ذهب «هنري صولت»
Salt ، رفيقه في رحلته هذه، في مهمة إلى الحبشة في عام 1809 لتنمية العلاقات التجارية بينها وبين الهند (بومباي). ثم إن حكومة الهند ما لبثت أن أوفدت الكابتن «ردلاند»
Rudland
إلى مخا، يعاونه «جون بلزوني»
Belzoni
لإنشاء نفس العلاقات معها، وكان من أغراض هذه البعوث كذلك منع قراصنة الوهابيين من الاعتداء على سفن شركة الهند التجارية الشرقية.
وعلى ذلك، فقد اعتقد الوكلاء الإنجليز في مصر، لا سيما «آني» و«صمويل بريجز»، أن من صالح دولتهم التحالف مع محمد علي، وهو الذي ما فتئ يعلن عزمه على الخروج إلى الحجاز، ويجد بكل ما لديه من وسائل لبناء أسطول تجاري وحربي في البحر الأحمر، وأما إذا رفضت حكومتهم المحالفة معه، فلا أقل من أن تعقد معه اتفاقا تجاريا، يمكن بفضله نقل المتاجر البريطانية عبر الطريق البري بشروط سخية طيبة.
فكتب «آني» إلى اللورد «هو كسبري» في 28 سبتمبر 1808، «أن محمد علي لعدم ثقته بالباب العالي، يبغي أن يربط نفسه بإنجلترة، ويقترح عقد معاهدة سلام وتحالف معها، وب «شروط» في صالحها.» ثم طفق يقص على الوزير مشروعات الباشا في الحجاز، عند قيامه بحملته إلى هذه البلاد، وفتح جدة وينبع واليمن، ولكن هذا الاقتراح لم يلق آذانا مصغية من حكومة لندن، صحيح أن إنجلترة كانت لا تزال في حرب مع تركيا، وقد يكون هذا العرض من جانب باشا مصر - الذي حرص على إمدادها بالغلال وتفريج أزمة تموين أساطيلها وجيوشها - عرضا مغريا، ولكن الإنجليز كانوا يبذلون آنئذ قصارى جهدهم للصلح مع الباب العالي، ثم إنه كان معروفا لديهم من أيام مفاوضات الجلاء عن الإسكندرية، أن الباشا إنما يبغي المحالفة معهم كي يظفر ب «الوضع» الذي يمكنه من «الاستقلال» عن سلطان الباب العالي، فهم إذا ارتبطوا معه انساقوا إلى نزاع جديد مع تركيا، وفضلا عن ذلك، فإنهم ما قرروا سحب جيشهم من مصر، والتخلي عن المماليك أصدقائهم القدامى، إلا لرغبتهم في التحرر من أي ارتباط يفرض عليهم نشاطا مستمرا في ميدان يبغون الخلاص منه كي يتفرغوا لمنازلة العدو في الميادين الأخرى الأكثر أهمية، فلم يكن من المنتظر حينئذ أن يقبلوا المحالفة مع محمد علي.
بيد أنه وإن كان اقتراح المحالفة قد ذهب أدراج الرياح، فقد كان لمقترحات الباشا الأخرى، والتي تضمنتها رسالة «آني» السالفة الذكر ، وفحواها تنمية التجارة، صدى لدى حكومة الهند، فبعثت هذه ب «جون بلزوني» إلى القاهرة، وعهدت إليه بمهمة «فتح طريق للمواصلات بين الهند وإنجلترة، عبر مصر، ودعم هذا الطريق، بإنشاء تبادل تجاري» يعم نفعه الجميع.
وتحت إشراف القنصل «بريجز» دارت المفاوضات بين الباشا و«بلزوني»، وعلى نقيض ما فعله محمد علي قبل ذلك، أثناء مفاوضته «السرية» مع مندوبي «الجنرال فريزر»، عندما عرض أن يضع نفسه تحت حماية الإنجليز، رفض الباشا الآن «كل شرط يبدو أنه يضعه تحت حماية الإنجليز»، فقد تغير الحال الآن عما كان عليه في عام 1807، بالنسبة لمركز حكومته الداخلي، فقد قطع شوطا كبيرا في تحصين الإسكندرية منذ جلاء الإنجليز عنها، وقضى على العناصر المشاغبة في جيشه، وأقصى المشايخ عن شئون الحكم، ومكنه الانفراد بالسلطة من الاستقلال بتدبير الوسائل التي تكفل له الحصول على المال، وجنى ربحا وفيرا من تجارة الغلال، ومن احتكاره التجارة عموما، عدا ما بدأت تدره عليه احتكاراته الداخلية الأخرى، ونجح في إضعاف البكوات المماليك، وأنفذ الجيوش التي سوف تنتصر عليهم في اللاهون والبهنسا بعد قليل، ومع أنه كان لا يثق بنوايا الباب العالي نحوه، وشاب الكدر علاقاته به؛ لمماطلته في الخروج ضد الوهابيين في الحجاز، ولاتجاره مع الإنجليز، وتصديره الغلال إليهم بالرغم من أوامر الباب العالي المشددة لمنع تصدير الحبوب إطلاقا إلى أوروبا، وعدم إرساله الغلال إلى القسطنطينية إلا بالقدر الضئيل والذي لا يسد حاجة هذه منها، فقد صار تكدير العلاقات بينه وبين صاحب السيادة الشرعية عليه لا يقض مضجعه كثيرا، بعد الانقلابات التي وقعت في الدولة والتي أطاحت بعرش سليم الثالث (29 مايو 1807)، ثم بخليفته مصطفى، وأفضت إلى اعتلاء محمود الثاني عرش السلطنة (28 يوليو 1808) فأنهكت قواها، ثم تزايد ضعفها بسبب ثورات الوهابيين في بلاد العرب، وباشوان أوغلو
في بلغاريا، وريجاز
Rhigas
في اليونان، وعلي باشا في يانينا، وقره جورج (أو جورج الأسود) في بلاد السرب، ناهيك عن استمرار الحرب بين الدولة وروسيا، واحتلال جيوش الأخيرة للولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان)، وكان هذا الضعف الذي أصاب الدولة، إلى جانب عدم اطمئنانه إلى نواياها نحوه، حافزا لمحمد علي على التمسك بمشروع «استقلاله»، ذلك المشروع الذي أراد الاستعانة بمؤازرة الإنجليز له على تنفيذه، ولم يكن - وهذا «الاستقلال» هدفه - ليرضى بأن يفرض هؤلاء حمايتهم عليه، بل كان كل ما يبغيه منهم أن يؤازروه فحسب على تحقيقه.
وأيا ما كان الأمر، فقد كان «بلزوني» وكيل الشركة، مكلفا بعقد اتفاق يكفل تنمية التجارة بين الهند وإنجلترة، ويفتح الطريق البري عبر مصر للمواصلات بينهما، وقد أسفرت المفاوضة بينه وبين محمد علي عن عقد معاهدة تجارية في القاهرة في 28 مايو 1810، حصل الإنجليز بفضلها على مزايا كثيرة لتجارة الهند، كما مهد أحد شروطها لإمكان إدراك تلك المحالفة التي أرادها محمد علي، لو أن الحكومة الإنجليزية صدقت على المعاهدة؛ فقد أعلن الاتفاق اعتماد الامتيازات التي تضمنتها معاهدات الباب العالي أساسا للمعاملات أو التبادل التجاري مع الهند، وتعهد الباشا في حالة وقوع الحرب بين إنجلترة وتركيا، بعدم التعرض بشيء وبأي عذر كان للرعايا البريطانيين ولأموالهم، بل يمدهم بكل معاونة، ويضفي عليهم حمايته، ثم وافق الباشا على إرجاع كل من يغادر السفن الإنجليزية في موانيه، من نوتيتها وغيرهم هربا من الخدمة بها إلى هذه السفن، حتى ولو كان هؤلاء الهاربون قد اعتنقوا الدين الإسلامي، فأجاز أمرا أصر العثمانيون دائما على رفضه، ونصت شروط هذه المعاهدة على السماح للمسافرين باستخدام الطريق البري، دون تحصيل أية ضرائب منهم أو على أمتعتهم، وأما البضائع التي تنقل عبر هذا الطريق من السويس وإليها، فيدفع عن حمولة كل جمل مستخدم في حملها ثلاثة ريالات إسبانية، بينما تدفع عنها رسوم جمركية بواقع 3٪ من قيمتها.
وكتب «صمويل بريجز» إلى «السير آرثر ولزلي» في 30 مايو 1810، ينبئه بعقد هذه المعاهدة التي يرجو تصديق حكومته عليها، ويذكر الأسباب المسوغة في نظره لإبرامها، فقال: «يشرفني أن أذكر لكم، لما كانت حكومة الهند قد بعثت بالكابتن «ردلاند» في مهمة إلى مخا و«جون بلزوني» مساعده من أجل فتح طريق للمواصلات بين الهند وإنجلترة عبر مصر، ودعمه بإنشاء تبادل تجاري ذي نفع عام، فقد بدأت مفاوضات في القاهرة تحت إشرافي، بين السيد «بلزوني» والباشا، وانتهت بنجاح إلى عقد معاهدة مؤقتة، أرجو أن تنال التصديق اللازم، فإن «محمد علي» باشا، ولو أنه لا يزال يدين بولاء اسمي للباب العالي، فقد صار من زمن طويل يتمتع واقعيا باستقلال من درجة ذلك الذي كان للمماليك قبل الغزو الفرنسي.»
ومع أن فريقا من الكتاب تعذر عليهم معرفة ما حدث بهذه المعاهدة، فالثابت أن الحكومة الإنجليزية رفضت التصديق عليها لعدم تسويء علاقاتها مع الباب العالي، وللأسباب التي ذكرناها، ولأن الإنجليز كان يقلقهم نشاط محمد علي في بناء أسطوله التجاري والحربي، بمناسبة الاستعداد لحملة الحجاز، والذي كان يبغي استخدامه في البحر الأحمر.
ولكن الباشا، بالرغم من رفض الحكومة الإنجليزية التصديق على المعاهدة، لم ييئس من الظفر بالمحالفة معها، تلك المحالفة التي رجا منها إقبال الإنجليز على تأييد مشروع استقلاله، ومع أنه كان متحذرا دائما من ناحيتهم، حتى لا يفاجئ هؤلاء البلاد بغزو جديد، كما كان متحذرا كذلك من ناحية الفرنسيين للسبب نفسه، فقد استمرت علاقاته التجارية معهم، بل وتزايدت - كما رأينا - وينهض دليلا على إيثار الباشا لصداقتهم، ما حدث فيما يتعلق ببيع البضائع والسلع التي كان يصادرها الفرنسيون أو الإنجليز عند استيلاء أحد الفرنسيين على سفن الفريق الآخر في عرض البحر، ويأتون بها إلى المواني «العثمانية» أو غيرها، لبيعها، وقد استطاع «دروفتي» أثناء حملة «فريزر» في عام 1807، أن ينال موافقة محمد علي على مصادرة المتاجر الإنجليزية التي تأتي بها السفن إلى المواني المصرية، والإسكندرية خصوصا، متسترة تحت بعض الأعلام غير البريطانية، ولكن الفرنسيين عجزوا في عام 1811 عن بيع البضائع التي غنمتها إحدى سفنهم في البحر وأتت بها إلى الإسكندرية لتصريفها، كما عجزوا عن بيع سفينة إنجليزية غنموها كذلك، وهذا بفضل تدخل الوكلاء الإنجليز لدى الباشا الذي وافق على إرجاء الفصل في المسألة حتى يستطيع هؤلاء الحصول من الباب العالي على أوامر تمنع الفريقين المتقاتلين (إنجلترة وفرنسا) من بيع البضائع أو السفن المصادرة في المواني العثمانية.
وواقع الأمر أن مسلك محمد علي، سواء من حيث توثيق صلاته التجارية بالإنجليز، أو محاباتهم في موضوع الغنائم، قد جعل «سانت مارسيل» يكتب إلى حكومته منذ 13 يوليو 1811 - أي بعد إخفاق مشروع المعاهدة التجارية بعام تقريبا - «أن للباشا علاقات وثيقة مع الإنجليز، سواء بسبب تجارة القمح معهم التي تدر عليه ربحا طائلا، أو لرغبته في تأييدهم ل «مشروع» استقلاله الذي ينشده، أو لأنه يريد أن يصبح أقل تقيدا بأوامر الباب العالي الذي يخشى دائما أساليبه السياسية الماكرة، أو لأنه - أخيرا - يخشى من «اعتداء» دولة «أجنبية» عليه، ويعتزم زيادة جيشه لأربعين ألف مقاتل، يعتقد أنه العدد الذي لا يقهره به أحد.»
وفي 12 يونيو 1812، كتب «مسيت»: «أن محمد علي يبغي الاستقلال من زمن بعيد، فقد زاد عدد جنده بالقدر الذي أجازته له موارده لتحقيق هذه الغاية، وعندما صرح أخيرا بأن لديه من المعلومات - حسبما وقف عليه من التقارير التي وصلته - أن الفرنسيين بفضل نفوذهم لدى الباب العالي، سوف يحملونه قريبا على غلق المواني العثمانية دون تجارة بريطانيا العظمى، سألته كيف يكون مسلكه حينئذ، فأجاب دون أقل تردد، بأنه سوف يتمسك بالعلاقات الودية السائدة الآن فعلا، بين مصر والمؤسسات أو المراكز البريطانية بالبحر الأبيض، وأنه إذا تعذر عليه إقناع الباب العالي بغض طرفه عن مسلكه في هذه المسألة، فإنه سوف يعلن استقلاله، وهو يأمل في هذه الحالة أن تزوده الحكومة الإنجليزية بالوسائل التي تمكنه من المقاومة بصورة فعالة، ضد الأعداء العديدين والأقوياء، الذين سوف يترتب على تصميمه هذا استثارتهم ضده. ولقد وقفت على نوع وقدر المعاونة التي سوف يحتاجها عندئذ، دون تقييد الحكومة الإنجليزية بشيء، أو ربط هذه بأي تعهد من ناحيتها قبله، ولو أني أعتبر قيام هذه الحالة أمرا بعيد الاحتمال جدا ، ولقد كان جوابه أن عدد جيشه يكفي لصون مصر، وأنه سوف يعوزه فقط قدر من المال لمواجهة النفقات غير العادية التي سوف يرغم عليها؛ ولأنه لما كان سيقاتل ضد جيوش أوروبية، فإن ذلك يتطلب مالا ورجالا. ثم إنه صرح برجاء أن يكون لديه قريبا جيش من أربعين ألف مقاتل.»
ذلك كان هدف محمد علي «السياسي» من توثيق علاقاته بالإنجليز؛ معاونته على بلوغ استقلاله، وتلك كانت «الشروط» التي أعلنها ل «مسيت» والتي تضمنت نوع المعاونة التي يطلبها من الإنجليز، ومدى «الارتباط» الذي سوف يكون من نصيب هؤلاء، إذا قبلوا التحالف معه، ولا تتعدى هذه تقديم المال، المال الذي يستطيع هو الإنفاق منه على تحصيناته واستعداداته الدفاعية إلى جانب استقدام الجنود «المرتزقة» من تركيا ذاتها وسائر أنحاء الإمبراطورية للخدمة في جيشه، ولكن هذه العروض والمقترحات ذهبت جميعها سدى.
ولم تمنع الرغبة في محالفة الإنجليز واستمالتهم إلى تأييد مشروع استقلاله، من مفاتحة الفرنسيين غرمائهم أنفسهم في موضوع هذا الاستقلال ذاته، أو السعي لدى الباب العالي للظفر بمأربه بالطرق والوسائل التي قال محمد علي إنه عليم بها وبأثرها لدى الديوان العثماني. ولكنه كما كانت هناك صعوبات حالت دون إصغاء الحكومة الإنجليزية لمقترحاته، فقد اعترضت مساعيه لدى الفرنسيين، ثم لدى الباب العالي، عقبات جمة، فلم يظفر بما يريده. (5) فرنسا: «سر نابليون»
وكان موقف فرنسا من مسألة «استقلال» محمد علي، في هذه السنوات التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، يختلف عن موقف إنجلترة من هذه المسألة، من حيث الدوافع التي جعلت الفرنسيين يرفضون مشروع استقلاله، وهم أصدقاء الباشا، والذين عاونه وكلاء حكومتهم في سنوات التجربة والاختبار العصيبة على اجتياز الأزمات التي صادفته، وكان آخر ما فعلوه في هذا السبيل اتحاد «دروفتي» وسائر العملاء الفرنسيين مع الباشا في كفاحه من أجل طرد الإنجليز من الإسكندرية، وإنقاذ حكومته من الخطر الذي يتهددها.
ولما كان الباشا في كل علاقاته معهم - وبالرغم من اتجاره مع الإنجليز - قد تمسك دائما بصداقته للأمة الفرنسية وأظهر احترامه للإمبراطور نابليون، وحرص على استرضاء الوكلاء الفرنسيين، فقد كان من المتوقع أن تكون فرنسا أكثر ميلا من غيرها لتأييد مشروع استقلاله، ولكن هذا لم يحدث، لا لأن فرنسا كانت تريد إرضاء الباب العالي، أو منع انهيار الإمبراطورية العثمانية، أو أن هناك ما يدعو للتشكك جديا في نوايا محمد علي نفسه نحوها، أو صداقته لها، ولكن لأن الإمبراطور نابليون نفسه كان يبغي تقطيع أوصال الدولة العثمانية على أن يفوز بأدنى نصيب من أملاكها، ومن هذه مصر ذاتها؛ إحياء لذلك المشروع الذي هدف منه إلى تأسيس إمبراطورية شرقية كبيرة على أنقاض الدولة العثمانية من جهة، ثم على أنقاض إمبراطورية الإنجليز في الهند من جهة أخرى، وتنظيم شئون «الشرق» بالصورة التي تكفل دعم «إمبراطورية الغرب» التي حلت - بزعامة نابليون في أوروبا - محل الإمبراطورية الرومانية المقدسة «الجرمانية» القديمة، وعلى ذلك فلم يكن مناسبا لمشاريعه التوسعية هذه، أن تظفر مصر إذا استقلت على يد محمد علي، بحكومة وطيدة قوية، في قدرتها دفع الغزو الفرنسي، وتعطيل مشروع الإمبراطورية الكبير، وهو الذي اصطلح المؤرخون على تسميته ب «سر نابليون».
ومع أن توالي الكوارث على فرنسا، منذ أن قام الإمبراطور بغزوه الفاشل في روسيا (1812)، وأنهكت قواه الحرب في إسبانيا، وتألبت عليه الأمم في أوروبا، جعل متعذرا التوسع في الشرق، فقد خلق وجود هذا «السر» متاعب عديدة للوكلاء الفرنسيين في مصر، في علاقاتهم مع محمد علي في السنوات التي تلت اتفاق الجلاء عن الإسكندرية خصوصا، فقد كان على هؤلاء أن يكافحوا ذلك النفوذ الإنجليزي الذي استمر ينمو نموا مطردا في مصر، في الفترة التي نحن بصدد دراستها، للأسباب التي مرت بنا، ووجب عليهم أن يمنعوا اتجار الباشا مع الإنجليز وتصدير غلاله إليهم في قواعدهم في مالطة وصقلية وشبه جزيرة أيبريا لتموين أساطيلهم وجيوشهم، في وقت كان قد فرض فيه منذ نوفمبر 1806 «النظام القاري» الذي أعلن حصار الجزر البريطانية، ومنع الدول الحليفة له أو الخاضعة لسلطانه من فتح موانيها للاتجار مع بريطانيا، ثم تعين على الوكلاء الفرنسيين كذلك أن يستعينوا بمؤازرة الباشا لهم، لوقف حملات القذف المشينة التي يشنها على الإمبراطور أمثال «بتروتشي»، و«الأب أرمننجليد»، وإزالة الأثر الذي قد تحدثه على الباشا «الشائعات» التي روجها الوكلاء الإنجليز عن اعتزام الإمبراطور غزو مصر، ومجيء جيش فرنسي قريبا، لامتلاك البلاد وإنهاء حكم الباشا، وذلك كله فضلا عن مسعاهم من أجل تمكين مواطنيهم من بيع غنائمهم هم أنفسهم، في هذه المواني من جهة أخرى.
ووجد الوكلاء الفرنسيون أنفسهم، بسبب «سر نابليون» في حيرة عظيمة، عندما تعين عليهم أن يلزموا الحيطة والحذر في علاقاتهم مع الباشا، حتى لا يكشفوا هذا «السر»، وتعذر عليهم أن يدخلوا الطمأنينة إلى نفسه من ناحية الإمبراطور ومشاريعه الخطرة بصورة حاسمة، فلم يسعهم سوى «تكذيب» الشائعات التي يروجها خصومهم، ثم إذاعة إشاعات «مضادة» من جانبهم، يتهمون فيها الإنجليز بالعمل على تجديد غزوهم لهذه البلاد، وانحصرت التعليمات التي وصلتهم من حكومتهم في ضرورة مراقبة نشاط تجارة الإنجليز مع الباشا، وبذل قصارى الجهد لمنع تصدير الغلال لهؤلاء، والعناية بتزويد حكومة الإمبراطور بكل المعلومات الدقيقة عن الأحوال السائدة في البلاد، بينما امتنعت حكومتهم عن الإدلاء إليهم بأي رأي حاسم فيما يتعلق بسير هذه الأحوال ذاتها، وخاصة فيما يتعلق بمشاريع محمد علي، وعروضه عليهم، سوى أنها رفضت بتاتا الموافقة على مشروع استقلاله، وكان مبعث هذا الرفض، هو «سر نابليون» نفسه.
فقد قضى انتصار نابليون في «أوسترليتز» في 2 ديسمبر 1805، على الإمبراطورية الرومانية المقدسة،
الإمبراطور يتجه صوب «الشرق»، يبغي من فتوحاته في هذا الميدان استكمال إمبراطوريته الغربية، وجعلته الحرب مع بروسيا منذ 1806 يشتبك في قتال مع روسيا، كما كان مشتبكا مع إنجلترة، وأظهر هذا النزاع «معضلة الشرق» بحذافيرها في الوضع الذي أريد لها، وقد تقدم كيف أرسل الإمبراطور «سباستياني» سفيرا في القسطنطينية؛ لدفع تركيا إلى الحرب ضد روسيا، وفشلت مهاجمة أسطول «داكويرث» للقسطنطينية، كما أخفق غزو «فريزر» للإسكندرية، في تخويف الباب العالي، وحمله على الصلح مع الروس والإنجليز (1807).
ثم إن انتصار نابليون على جيوش بروسيا وروسيا في «إيلاو»
Eylau
و«فريدلند»
Friedland
في فبراير ويونيو 1807، لم يلبث أن أفضى إلى إبرام اتفاق «تلست» في 7 يوليو من العام نفسه، بين الإمبراطور والقيصر إسكندر الأول، فحدد عقد هذه المعاهدة بداية المرحلة التي صارت مشغولية الإمبراطور الرئيسية خلالها، تنظيم شئون «الشرق» بالصورة التي تكفل استكمال «إمبراطورية الغرب»، وليس صحيحا أن الغرض من اتفاق «تلست» تقسيم أوروبا بين إمبراطوريتين: شرقية يتزعمها القيصر الروسي، تدخل القسطنطينية في نطاقها، وغربية يتزعمها نابليون.
ذلك بأن هذه المعاهدة، وموادها السرية التي وقعت في اليوم نفسه، لم تستهدف بحال من الأحوال تقسيم أوروبا بين العاهلين الروسي والفرنسي، وإنما تنهض دليلا على وجود ذلك الاتجاه التوسعي الذي أراده نابليون لإمبراطوريته الغربية صوب «الشرق». آية ذلك إرجاع بولندة إلى عالم الوجود باسم دوقية وارسو، تحت نفوذ نابليون، كحاجز يحول دون توسع روسيا غربا، ثم طرد الروس من جميع المواقع التي كانت بأيديهم في البحر الأبيض؛ حيث تنازلوا للفرنسيين عن جزر الأيونيان، وأهمها كورفو، ثم «كتارو»
Bocche di Cattaro
على ساحل الأدرياتيك الشرقي، وقد عني نابليون بأن تغادر السفن الروسية البحر الأبيض بأقصى سرعة، إما إلى البحر الأسود أو إلى بحر البلطيق، فلم يعد بهذا البحر سوى فرنسا وإنجلترة.
ثم إن القيصر قبل وساطة نابليون لدى تركيا من أجل عقد الصلح بينه وبين العثمانيين، فإذا رفضت تركيا هذه الوساطة ولم يعقد الصلح خلال ثلاثة شهور، انضمت فرنسا إلى روسيا ضد الباب العالي، وعملت الدولتان على تحرير المقاطعات العثمانية في أوروبا، مع استثناء القسطنطينية، لا سيما وأن نابليون باحتلاله جزر الأيونيان وكتارو، إلى جانب دلماشتا وراجوزا
Ragusa - على ساحل الأدرياتيك الشرقي كذلك - قد تمكن من امتلاك مواقع على الحدود الغربية لإمبراطورية العثمانيين في أوروبا، تعادل أهميتها ما كان لروسيا من مواقع على ضفتي نهر الدانيستر، على حدود هذه الإمبراطورية من ناحية الشمال الشرقي.
ومن ذلك الحين صار الشغل الشاغل لنابليون - كما ذكرنا - تنظيم الشرق لاستكمال إمبراطوريته، وكان من الواضح أن فتح الطريق إلى الهند، الوسيلة التي يتحقق بها هذا التنظيم، فتتدفق جيوش الإمبراطور إلى آسيا، إما عبر فارس وإما عبر مصر ، وكان الإمبراطور قد أوفد إلى طهران الجنرال «جاردان»
Gardane
ووصل هذا إلى طهران منذ أواخر ديسمبر 1807، ولكن صلح الإمبراطور في «تلست» مع أعداء الفرس لم يلبث أن اضطر «جاردان» إلى مغادرة البلاد في فبراير 1809، وعقد هؤلاء مع الإنجليز محالفة، اشترطت طرد جميع الفرنسيين من بلادهم ، وبذل حاكم الهند الجديد «جورج إليوت»
Elliot
أو اللورد «مينتو»
Minto
قصارى جهده لغلق طريق الهند في وجه الفرنسيين.
ولكن هذا الفشل لم يزعج نابليون كثيرا؛ لأنه كان يعتقد أن في وسعه استخدام الطريق الآخر إلى الهند؛ أي عبر مصر، واحتل فتح مصر مكانا عاليا دائما في تفكيره، ولم تكن حملته عليها في عام 1798 حدثا عابرا، أو إحدى مغامرات الشباب، بل ظلت معاودة الكرة عليها من أسس برنامجه السياسي، وإن صرفته مشاغل السياسة والحرب قسرا إلى إرجاء غزوها، حتى إذا توالى نزول الكوارث عليه تبدد كل أمل في إمكان ذلك.
ومما ينهض دليلا على تمسك نابليون ب «سره» وتصميمه على بسط نفوذ إمبراطوريته على «الشرق» وقتئذ بغزو مصر مرة ثانية، أنه في خططه التي عرضها في يناير 1808 على «مترنيخ»
Metternich
السفير النمسوي في باريس؛ لاستمالة النمسا إلى الحرب ضد إنجلترة، اقترح اقتسام أملاك الإمبراطورية العثمانية بين روسيا والنمسا وفرنسا، على أن تكون مصر و«بعض المستعمرات الأخرى» نصيب فرنسا من التقسيم المنتظر، ثم إنه لم يلبث أن بعث إلى القيصر برسالته المشهورة في 2 فبراير 1808، يعده بوصول الجيوش الفرنسية والروسية قريبا إلى ضفاف البسفور، ومن هذه ينفتح طريق الهند أمام هذه الجيوش لغزو آسيا، وقد حفزه الآن على قبول تقسيم الإمبراطورية العثمانية، ما بدا من إصرار إنجلترة على مواصلة الحرب ضده، وكذلك لاسترضاء القيصر الذي أراد هذا التقسيم حتى يطمئن على الأقل إلى امتلاك الولايات الدانوبية: «الأفلاق والبغدان» اللتان تحتلهما جيوشه، وتفاوض «كولينكور»
Caulaincourt
سفير الإمبراطور في بطرسبرك أسابيع طويلة مع الوزير الروسي «رومانزوف»
Romanzoff
في موضوع هذا التقسيم، ولكن دون الانتهاء إلى أية نتيجة لتمسك الروس - ضمن أشياء أخرى - بأن تكون القسطنطينية والدردنيل من نصيبهم، ورفض الإمبراطور التسليم بذلك، وبالرغم من فخامة الاحتفالات التي أقيمت في «إرفورت»
Erfurt
بعد ذلك بمناسبة اجتماع القيصر والإمبراطور بها في سبتمبر 1808، فقد كان اختلاف العاهلين على مصير الشرق ظاهرا، وأما وجه الأهمية في مشاريع التقسيم هذه، فهو طلب نابليون أن تكون مصر والشام دائما نصيب فرنسا من أملاك الإمبراطورية العثمانية .
وعلى ذلك، وبالرغم من أن كل هذه المباحثات لم تسفر عن اتفاق حاسم بين روسيا وفرنسا فيما يتعلق بتقسيم تركيا، فقد ظل نابليون من جانبه محتفظا ب «سره»، ويتهيأ لغزو هذه البلاد عند أول فرصة سانحة، ومتى استطاع إلى ذلك سبيلا، فظلت الاستعدادات ل «الحملة الشرقية» قائمة على قدم وساق في جميع مواني الإمبراطورية، لا سيما في «طولون»؛ كي يخرج منها أسطول لاحتلال صقلية، وفي «تارنتو» لإرسال جيش لاحتلال مصر، وفي «روشفور»
Rochefort
لقيام أسطول يدور حول أفريقية، وفي «برست» لإنزال جيش في إنجلترة أو إرلندة، واتخذ نابليون آنئذ مقره في «تارنتو» للإشراف على الاستعدادات اللازمة لغزو مصر، وقد حدث هذا كله في عام 1808، واحتفظ نابليون لنفسه في كل ما دار من مباحثات حول التقسيم، بسوريا ومصر.
وتدل رسائل نابليون في هذه الفترة (من فبراير إلى مايو 1808) على أن مشروع التقسيم بالصورة التي أرادها كان جديا، فقد بذل قصارى جهده حينئذ لدعم قوته في المواقع التي يحتلها في البحر الأبيض، كرفو وصقلية (وكانت هذه قد غادرتها أكثر قوات الإنجليز ونزل بها جيش «مورا»
Murat
لغزوها في عام 1809)، وإسبانيا، وعلق نابليون أهمية كبيرة على موقعيه في كرفو و«صخرة شيللا»
Scylla ، وهذه في طرف شبه الجزيرة الإيطالية الجنوبي الغربي، ويفصل مضيق مسينا بينها وبين صقلية؛ فهي مفتاح هذه الجزيرة، والاستيلاء على صقلية. كما كتب في فبراير 1808 إلى «ديكريه»
Decrés
وزير البحرية «يغير وجه البحر الأبيض».
ومن ميلان في 2 أبريل 1808 أعد «هاملان»
Hamelin
مذكرة عن مصر لتقديمها إلى الإمبراطور، حملها «بودي»
Boudy
أحد الياوران، وقدم لها وزير الخارجية «شامباني» بمذكرة جاء فيها: «إنه لما كان «هاملان» يتوقع إنفاذ حملة لفتح مصر مرة ثانية، فهو يقدم لجلالة الإمبراطور مذكرات موجزة عن المعلومات التي قام بجمعها عن هذه البلاد، ويرجو استخدامه في هذه الحملة أو في أي مكان آخر. والغرض من مذكرته الانتفاع من كل المزايا التي لمصر كمستعمرة، إذا تسنت العناية بالزراعة والتجارة، وأحكم تدبير نظام الضرائب بها، فالزراعة إذا حسن الإشراف عليها تعطي محصولا وفيرا من السكر والنيلة والقطن والصمغ والسنا والكتان والأرز، وإذا شجعت التجارة نشأت صلات على غاية من الأهمية مع البلدان الداخلية في أفريقية، وأما إذا وضع ترتيب طيب للضرائب كفل جبايتها بانتظام، فإن حصيلتها سوف تكون عظيمة.» ثم استطرد «شامباني» يقول: «ولكن «هاملان» لا يعد من بين الفوائد التي تعود من امتلاك هذه المستعمرة (مصر)، إمكان استخدامها طريقا لعبور تجارة الهند منها؛ لأنه يعتقد أن التجار يؤثرون دائما نقل متاجرهم بطريق الملاحة الطويل، على نقلها بذلك الطريق المجزأ الذي «يعترضه» برزخ السويس.» وقد جاء في ذيل هذه المذكرة أنها تستحق العرض مرة أخرى عند بدء العناية بغزو مصر.
وفي 13 مايو 1808 بعث الإمبراطور من «بايون»
Bayonne
بتعليمات مسهبة إلى «ديكريه» يطلب «إعداد ثلاث بوارج في طولون، تتم تهيئتها في أول سبتمبر 1808، تستطيع حمل تسعة عشر ألفا، إلى جانب تسعمائة من الخيول، وتعد لنقل ذلك كله 86 سفينة مزودة بمياه تكفي لشهرين ونصف شهر، وأغذية لأربعة شهور»، وفضلا عن ذلك فقد طلب الإمبراطور إعداد حملة للذهاب من ميناء «لورينت»
Lorient
إلى جزيرة «إيل ديل فرانس» في المحيط الهندي كي تقوم بعمل عسكري في الهند، بقصد تضليل الإنجليز عن معرفة هدف الإمبراطور الحقيقي، فقد كتب نابليون «أنه قد صح عزمه على إنفاذ هذه الحملة، ويبغي في الوقت نفسه أن يبعث بأسطوله من طولون إلى خليج «تارنتو»؛ كي يحمل عشرين ألف رجل من هذا الموقع إلى مصر.»
ثم عاد نابليون إلى هذا الموضوع نفسه، فتحدث في 26 مايو 1808 عن حملة يعتزم إرسالها إلى الجزائر أو صقلية أو إلى مصر، ثم قال: «وعلى افتراض تقرير الحملة على مصر، أعتقد أنكم - مخاطبا «ديكريه» - حسبما جرى به العمل في البحرية، تزودون الأسطول بأغذية تكفي وجبات (أو تعيينات) كاملة لمدة ستة شهور ، ومن «البسكويت» لشهر سابع.» وقدر نابليون المدة اللازمة لوصول أسطوله إلى أبي قير بثلاثة شهور، فينزل الجند إلى البر، وكذلك كميات «البسكويت» والأنبذة المخصصة للشهر السابع، ويتسنى للأسطول حينئذ أن يجد من المؤن ما يكفيه للذهاب من أبي قير إلى «تارنتو» أو للعودة إلى طولون؛ أي ما يكفي للثلاثة الشهور الأخرى اللازمة لهذه الرحلة.
ولم يكن الخروج بهذه الحملة إلى الشواطئ المصرية أمرا متعذرا؛ لأن أمير البحر «أليمان»
Allemand
كان قد ذهب بحملة إلى جزيرة «ألبا»، بينما كان أمير البحر الآخر «غانتوم»
Ganteaume
قد ذهب بحملة إلى كرفو؛ لتموينها بالأغذية وعتاد الحرب الكثير (فبراير-أبريل 1808)؛ ولذلك لم يكن مستحيلا إرسال حملة إلى مصر، إما من «تارنتو» وإما من «كرفو»، بل إن أمر هذه الحملة سوف يكون أكثر سهولة من أمر تلك التي خرجت من طولون إلى الشواطئ المصرية في مايو 1798، بل حدث فعلا أن وصلت إلى الإسكندرية في 2 مارس 1808 إحدى سفن الحرب الفرنسية من نوع الشباك، تدعى «سربان»
Serpent ، خرجت من جنوة، واستطاعت الإفلات من رقابة الأسطول الإنجليزي، مما نهض دليلا على أن في وسع أسطول طولون المرور بسلام، وبلوغ الشواطئ المصرية.
على أن انشغال الإمبراطور بالحرب الدائرة في إسبانيا، ثم إعلان النمسا الحرب على فرنسا في 6 أبريل 1809، اضطر نابليون إلى إرجاء هذه الحملة، ومع أنه انتصر على النمساويين في معركة «واجرام»
Wagram
المشهورة في 6 يوليو من العام نفسه؛ فقد انشغل بطلاقه من «جوزفين يوهارنيه» والزواج من سليلة الأباطرة «ماري لويز» ابنة إمبراطور النمسا فرنسيس الثاني (11 مارس 1810)، وظهر كأنما سوف يصبح نابليون نفسه وريثا للأباطرة، ومنذ 17 فبراير من العام نفسه كان قد صدر قرار بضم الولايات البابوية إلى الإمبراطورية الفرنسية، وإعلان «رومة» المدينة الثانية للإمبراطورية، وبأن يحمل ولي العهد لقب ملك رومة، «وأن يتوج الأباطرة في كنيسة القديس بطرس برومة بعد تتويجهم في كنيسة نوتردام بباريس»، على أن يحدث ذلك قبل السنة العاشرة من الحكم؛ أي في عام 1813 أو 1814، وفي 20 مارس 1811 ولد «ملك رومة» وريث عرش هذه الإمبراطورية.
ولم يكن هناك معدى عن أن تحتل مصر مكانا ظاهرا في كل مشاريع «الإمبراطورية»؛ لأنه - كما قال المؤرخ «دريو»
Driault : «لا يمكن فهم فكرة الإمبراطورية بدون الشرق، ولا الشرق بدون مصر.» وقد تساءل «دريو» عن السبب الذي حدا بنابليون لتحديد عام 1813، أو عام 1814 للتتويج في رومة، ففسر هذا بقوله: «إن الإمبراطور كان يتوقع الانتصار على روسيا في حملة 1812، فيصبح من هذا الحين سيدا على الشرق كما حدث ل «قيصر» بعد واقعة «فرساليا» وعودته من مصر، وكما حدث ل «أوغسطوس» بعد واقعة «أكتيوم» وعودته من مصر كذلك، وهكذا فإنه بكونه سيدا على الشرق كما هو سيد على الغرب، يكون قد أكمل تشييد صرح الإمبراطورية، ويتسنى له عندئذ أن يتوج في «الكابيتول» بتاج الأباطرة الرومانيين، ولقد صارت رومة تستعد لاستقباله.»
وعلى ذلك، فقد ظل الإمبراطور متمسكا بضرورة إرسال حملة إلى مصر، فأصدر قرارا في 15 يوليو 1810، بإصدار أسطول من الناقلات في البحر الأبيض، وفي 17 سبتمبر من العام نفسه كتب إلى «ديكريه» بشأن هذا الأسطول، فرجاه أن يخبره بما تم في أمره وما يستطيع نقله؛ لأنه يريد أن ينقل إلى مصر خمس فرق من الجنود، تتألف كل منها من ثماني «أورط» أو ستة آلاف رجل، ومجموع ذلك ثلاثون ألف جندي من المشاة، عدا أربعة آلاف من رجال المدفعية وسلاح المهندسين، وستة آلاف من الفرسان، والمجموع الكلي أربعون ألفا، وهذا إلى جانب خمسمائة عربة مدفع، وألفين من الخيول للمدفعية وللفرسان. ثم إنه تحدث بعد ذلك عن أسطول بولوني، وشربورج، واختتم كتابه بقوله: «وتلك هي خطتي للعمليات العسكرية لعام 1812، وإني في انتظار التقرير الذي سوف تقدمه إلى المجلس التالي، وينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن هذه النتيجة هي ما يجب الوصول إليها.»
وعاد نابليون للموضوع نفسه بعد ذلك، فكتب في 8 مارس 1811، أنه إذا اتضح في عام 1812 أن الظروف ملائمة، «ففي عزمي القيام بحملة صقلية، أو حملة مصر في البحر الأبيض، و«أبغي» أن أفعل كل ما هو ضروري لجعل أساطيلي عند مصب «ألاسكو» وفي طولون، تبدو في مظهر يقذف الرعب والهلع في النفوس.» ثم قال: «ومن الواجب أن يكون بطولون كل ما لا غنى عنه لإنفاذ حملة إلى مصر.» وطلب إلى «ديكريه» أن يعد له تقريرا بالنوع الأكثر ملاءمة من سفن الحرب «أولا: لاعتلاء النيل، وثانيا: للدخول في البحيرات بجوار أبي قير».
ذلك كان «سر نابليون».
ولم يكن من المنتظر حينئذ أن يعنى الإمبراطور في شئون مصر بغير ما كان متصلا ب «سره» مباشرة، وذلك في السنوات التي كان لا يزال الأمل يحدوه في أثنائها إلى إرسال حملته على مصر؛ أي إلى الوقت الذي عاد فيه فاشلا من غزوته لروسيا في عام 1812، ثم تألبت عليه الأمم في أوروبا، ولم يكن من المنتظر كذلك أن يوافق الإمبراطور على «استقلال» محمد علي، أو يرضى بأن يوطد هذا دعائم حكومته في مصر، بالدرجة التي تمكنه من مقاومة الغزو الفرنسي الجديد عند حدوثه، وكان كل ما اهتم به جمع المعلومات الصحيحة عن حقيقة الموقف في هذه البلاد، من حيث قيمة الموارد التي لدى محمد علي وتحت تصرفه، وعلاقاته مع البكوات المماليك، مبعث الضعف العام الذي يلازم حكومته، ما دام هؤلاء في عداء مستمر له، ثم نشاط تجارته مع الإنجليز، وبيعه غلاله لهم، وهي التي يمونون بها قواعدهم، فيحطمون رويدا رويدا ذلك «النظام القاري» الذي فرضه نابليون لتضييق الخناق عليهم اقتصاديا تمهيدا لهزيمتهم.
ولذلك، فقد شهدت هذه الفترة (1808-1811) تبدلا في جوهر السياسة الفرنسية نحو مصر. حقيقة ظل الوكلاء الفرنسيون حريصين على التمسك بمظهر صداقتهم لمحمد علي، ولكن هذه كانت صداقة في غير العلاقات الشخصية بين الباشا و«دروفتي» مثلا، لا يمكن أن توصف بأنها كانت خالصة أو منبعثة عن رغبة صحيحة في مؤازرة محمد علي، فلم يكن غرض الوكلاء الفرنسيين من التظاهر بها سوى مقاومة النفوذ الإنجليزي، ومنع تصدير الغلال خصوصا إلى أعدائهم، وحمل الباشا على تصدير غلاله إلى قواعدهم هم، في البحر الأبيض لا سيما إلى كرفو، ثم الحرص على كتمان «سر نابليون»، وتضليل الباشا عن معرفة نوايا الإمبراطور، عندما أوقفه الإنجليز على حقيقة هذه النوايا، وحذروه من مشاريع الفرنسيين، وعزم إمبراطورهم على غزو هذه البلاد، وإخراجه من حكومتها.
ولقي الوكلاء الفرنسيون عنتا كبيرا في «تكييف» مسلكهم، في ضوء التعليمات التي أتتهم من حكومتهم، وعندما مرت الشهور، دون أن يتحقق شيء من مشروع الحملة الفرنسية المنتظرة على مصر، وتحتم عليهم المثابرة على نفي ما أذاعه الوكلاء الإنجليز عنها، وإقناع محمد علي بأن أمتهم لا تزال صديقا له، وأن الإمبراطور لا يريد به شرا، وأن الإنجليز يبيتون النية على غزو بلاده والغدر به.
ولما كان الباشا متحذرا من نوايا الدولتين معا، فرنسا وإنجلترة، ويعول على حسن استعداده وقوته هو وحده؛ للذود عن البلاد إذا حاولت إحداهما غزوها، ويؤثر التجارة مع الإنجليز لما يناله منها من مال يتيح له فرصة إكمال استعداداته العسكرية وتحصين عاصمته وثغوره، وتقوية جيشه، وشهد هو الآخر الشهور والسنوات تمر دون أن يتهدده خطر مباشر من جانب فرنسا، وصار من المتعذر على نابليون، بسبب مشاغله العديدة والخطيرة في أوروبا، أن يقدم على غزو مصر، حتى ولو ظل صحيح العزم على فعل ذلك؛ فقد صار من صالحه أن يستمر على علاقات طيبة مع الفريقين، يبيع غلاله للإنجليز، ويرضى بتصدير غلاله إلى كرفو تارة، ويبذل الوعود الطيبة للفرنسيين دائما، ويمني النفس، نتيجة لتمسكه بصداقة الفرنسيين، أو بالأحرى لاتباعه معهم سياسة لحمتها استرضاؤهم، وسداها تطييب خاطرهم، بأن يقبل هؤلاء على معاونته في تحقيق مشروع استقلاله.
وأما هذه الحقائق جميعها فتتضح من تتبع سير الحوادث في هذه الفترة. (6) نشاط «دروفتي» و«سانت مارسيل»
وقام على تنفيذ سياسة الإمبراطور نحو مصر، ورعاية المصلحة الفرنسية بها، والمواءمة بين «المصلحة» المحلية، وبين صوالح «الإمبراطورية» العليا، «دروفتي» في القاهرة، و«سانت مارسيل» في الإسكندرية، وقد تراسل هذان، إما مع السفارة الفرنسية في القسطنطينية، وإما مع حكومة الإمبراطور في باريس، وكثر رويدا رويدا اتصال هذين بالحكومة في باريس ل «أهمية» المسائل التي عرضت لهما، ولما تلقياه من أوامر تطلب منهما هذا الاتصال المباشر، بسبب ما أبداه الإمبراطور من اهتمام خاص بهذه المسائل، التي كانت ذات صلة وثيقة ب «سره».
وقد أشار وزير الخارجية الفرنسية، بصورة أو بأخرى، إلى هذا «السر»، عندما كانت التعليمات التي صار يبعث بها إليهما - ولا سيما إلى «دروفتي» - تتطلب منهما قبل كل شيء آخر تزويد الحكومة بمعلومات دقيقة عن الموقف في مصر عموما، وعن نشاط العلاقات القائمة بين محمد علي والإنجليز خصوصا.
ويبدو اهتمام حكومة باريس بتطور الحوادث في مصر في أن وزير الخارجية لم يلبث أن بعث من فونتنبلو إلى «دروفتي» في 16 أكتوبر 1807، يشكره على التقارير التي أرسلها إليه، والتي كان آخرها بتاريخ 2 مارس من العام نفسه، تنبئه بما وقع من حوادث بين جند الباشا والمماليك، وتبين له الأثر الذي أحدثته وفاة كبيري زعماء المماليك؛ البرديسي والألفي، ولكنه لما كان لم يصل الوزير أية تقارير أخرى، بعد رسالة «دروفتي» بتاريخ 2 مارس، واعتقد أن السبب في ذلك هو مصادرة الإنجليز لها، وقد ظل هؤلاء أصحاب السيطرة في البحر الأبيض، فقد أشار عليه لضمان وصول تقاريره إلى باريس، أن يتوخى إرسالها بطريق مأمون، ومن صورتين، ثم أوصاه بأن يستمر على تزويده بالمعلومات الوافية، والدقيقة «عن كل الوقائع والحوادث التي يرى «دروفتي» أنها من نوع يوجب اهتمام الحكومة بها».
ثم عاد الوزير «شامباني»، فأبدى دهشته في رسالة بعث بها إلى «دروفتي» من باريس في 17 أبريل 1809، من أن هذا الأخير لم يثابر على الكتابة إليه، على زعم أن في كتابته إلى السفارة الفرنسية في القسطنطينية غناء عن إرسال تقاريره إلى باريس، فطلب إليه المواظبة على الكتابة إليه. ولما كان «دروفتي» قد أبلغه، ضمن الوقائع التي ذكرها في تقاريره للوزير بتاريخ 18 يناير، 8 أبريل، 12 يوليو، 10 أغسطس 1808، أنه قد تهرب من التدخل بين الباشا والبكوات المماليك، في المفاوضات الجارية بين الفريقين من أجل الصلح، ورفض مصاحبة محمد علي في الرحلة التي انتوى القيام بها لزيارة مختلف المواني المصرية، ثم أبلغ الوزير احتجاجاته لدى محمد علي على سماح هذا الأخير للسفن المحملة بالبضائع الإنجليزية بالدخول إلى الإسكندرية، وأنه اضطر عند فشله إلى سؤال القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية «لاتور-موبورج»
Latour-Maubourg
أن يطلب من الباب العالي إصدار فرمانات «مصاغة في قالب يلزم «محمد علي» بالتخلي عن نظام جعله يتحيز لصالح تجارة إنجلترة»، فقد أجاب «شامباني» على كل هذه المسائل بامتداح مسلك «دروفتي».
فقال في موضوع المفاوضات بين محمد علي والمماليك: إن آراء وغايات الفرنسيين تتسم بطابع التقلب وعدم الاستقرار، لدرجة لا تبيح لأي وسيط التدخل بينهما، حتى لا يجد هذا الوسيط نفسه في النهاية «متورطا» مع كل الأطراف. وأما عن رحلة محمد علي لزيارة الثغور، فقد كان من رأي «شامباني» أنه يتعذر عليه الاقتناع بأن ثمة فائدة من مرافقة «دروفتي» للباشا، يجنيها صالح «المأمورية» أو «الخدمة» المكلف بها «دروفتي»، بل يبدو له أن النتيجة الوحيدة المترتبة على مرافقة الباشا في مثل هذه الرحلات، إنما هي زيادة نفقات قنصليته، وراح «شامباني» يشدد عليه، بوجوب الاقتصاد ما أمكن في نفقاته، وفيما يتعلق بما طلبه «دروفتي» من «لاتور موبورج» في القسطنطينية، فقد أوصاه «شامباني»، وأيا كانت النتائج التي سوف تسفر عنها الخطوات التي يتخذها «لاتور موبورج» هناك، بأن يبذل هو كل ما وسعه من جهد في علاقاته مع الباشا؛ «لتأمين تنفيذ الإجراءات المانعة التي أمر باتخاذها جلالة الإمبراطور»، لتطبيق «النظام القاري»، وغلق جميع المواني في وجه التجارة البريطانية.
وقد بعث «شامباني» في نفس اليوم (17 أبريل 1809)، بتعليماته كذلك إلى «سانت مارسيل» ردا على رسائل هذا إليه في 2 نوفمبر 1808، 2، 3 يناير 1809، وكان هذا الأخير قد أبلغه في تقرير 2 نوفمبر وصول أربع سفن من مرسيليا، وأخرى من جنوة، محملة ببعض الأقمشة والبضائع الفرنسية، وأن عددا من هذه السفن قد غادر الإسكندرية يحمل متاجر من مصر، وأن السفن النمسوية تنقل تجارة مالطة إلى الإسكندرية، ثم ذكر للوزير أنه قد امتنع ورود السفن التي ترفع علم بيت المقدس، وتنقل تحت هذا الستار البضائع الإنجليزية في بطونها، وذلك منذ أن أثار الصعوبات والعراقيل في وجهها.
وكانت مسألة هذه السفن التي ترفع راية «بيت المقدس» مثار متاعب عدة للوكلاء الفرنسيين في مصر؛ وذلك لأنه بمقتضى «الامتيازات» التي لفرنسا في ممتلكات الدولة العثمانية، كانت فرنسا «حامية» بيت المقدس ورايته، ويدخل في نطاق اختصاص قناصلهم في المواني العثمانية، الإشراف على السفن التي ترفع هذه الراية، ولكنه حدث أثناء زيادة النشاط التجاري بين الإنجليز ومحمد علي، أن صارت بعض السفن التي تحمل متاجر هؤلاء من مالطة إلى الإسكندرية ترفع علم بيت المقدس؛ حيث لم يكن في مقدورها رفع العلم الإنجليزي بسبب قيام حالة الحرب بين إنجلترة وتركيا. ولما كان «نابليون» قد تشدد في غلق مواني البلاد الواقعة تحت سلطانه أو الموالية له، أو التي اتخذت موقف الحياد في نضاله مع إنجلترة، في وجه التجارة الإنجليزية؛ فقد وجب على الوكلاء الفرنسيين معالجة هذه المسألة بالصورة التي تكفل تطبيق «النظام القاري».
وقد أثير موضوع السفن الرافعة لعلم بيت المقدس، عندما دخلت إلى الإسكندرية في 18 يونيو 1808، السفينة «لاروز»
La Rose
آتية من مالطة ومحملة ببضائع إنجليزية تبغي استبدال الغلال بحمولتها هذه، وكانت ترفع راية بيت المقدس، وكان صاحب هذه البضاعة أحد التجار في مالطة، يدعى «بنسا»
وهو من ليفورنة، ويبعث بهذه المتاجر إلى أخ له مقيم بالإسكندرية، وتحت حماية السويد. واعتقد «سانت مارسيل» أن من حقه - تنفيذا لما لديه من تعليمات بشأن السفن الآتية من مالطة أو من أي جهة أخرى يحتلها الإنجليز - أن يطلب من ربان السفينة مصادرة المتاجر التي على ظهر سفينته؛ حيث إن لفرنسا وحدها «حماية» علم بيت المقدس؛ ولأن البضائع التي تحملها «لاروز» إنجليزية. ولكن ربانها رفض الإذعان لهذا الأمر، بدعوى أن دولا أربعا تحمي راية بيت المقدس في مواني الليفانت، هي: فرنسا وإسبانيا والنمسا وإنجلترة، وليست فرنسا وحدها، وهو لا يخضع لذلك لولاية القنصلية الفرنسية القضائية.
ولجأ «سانت مارسيل» إلى حاكم الإسكندرية، طبوز أوغلي، يطلب منه مصادرة بضائع هذه المركب بجمرك الإسكندرية، ومعاونته على إخضاع ربانها لأوامره قسرا منه، ولكن طبوز أوغلي لم يلبث أن سلم هذه البضائع إلى المرسلة إليهم، وعلل «سانت مارسيل» إخفاقه بأن ربان «لاروز» عندما لم يجد عند قنصلي إسبانيا والنمسا الحماية التي يريدها، صار يعتمد على حماية قنصل السويد «فرنسسكو بتروتشي» الذي هو الوكيل الإنجليزي في الوقت نفسه، وقد استطاع هذا أن يجذب إليه طبوز أوغلي، واضطر «سانت مارسيل» إلى إرسال تفاصيل الموضوع إلى «دروفتي» بالقاهرة، واستصدر هذا جملة أوامر من الباشا بمصادرة هذه البضاعة، ونزع سكان المركب، ولم يمكن تنفيذ أوامر الباشا حتى حضر «شاويش» من قبله إلى الإسكندرية، فاضطر طبوز أوغلي إلى مصادرة البضائع التي بأيدي الذين تسلموها، ثم نزع سكان المركب، وأودعوا مبنى القنصلية الفرنسية. ولما كانت قد أبقيت البضائع بمحلات التجار، حتى يمكن الفصل في هذه المسألة - مسألة السفن التي ترفع علم بيت المقدس - فقد صار «سانت مارسيل» يسعى لنقل البضائع موضع المصادرة إلى مخزن آخر من جهة، وحمل ربان السفينة «لاروز» على الاعتراف بولاية القنصلية الفرنسية القضائية، بدلا من ولاية القنصلية السويدية، وبعث «سانت مارسيل» بكل هذه التفاصيل إلى «لاتور موبورج» القائم بأعمال السفارة الفرنسية في القسطنطينية، كما بعث إليه «دروفتي» من القاهرة في 24 يوليو 1808، بتقرير واف عن نفس المسألة؛ كي يسعى «لاتور موبورج» في الحصول من الباب العالي على فرمانات بتقرير وجهة نظر الوكلاء الفرنسيين بشأن علم بيت المقدس؛ حيث أقرت «الامتيازات» وضع جميع المؤسسات التابعة للهيئات الكاثوليكية ببيت المقدس، وتبعا لذلك السفن التي تمخر البحار رافعة علم بيت المقدس، تحت حماية الإمبراطور الفرنسي مباشرة، وبسط «سانت مارسيل» تاريخ هذا المركب، فقال: «إن صاحب لاروز السابق كان قبطانا من «راجوزا» يدعى «ميشيل مارتينوفيتش»
Martinovtch ، أرغمه الإنجليز عند إخلائهم الإسكندرية على الذهاب مع سفينته إلى مالطة، ثم إنهم ما علموا باتحاد «راجوزا» مع مملكة إيطاليا تحت سلطان نابليون، حتى صادروا السفينة التي بيعت في مالطة، واشتراها بيت «بنسا» وشركائه، وينتمي هؤلاء إلى «ليفورنة»، وقد أرسلوا «لاروز» محملة ببضائع إنجليزية إلى الإسكندرية، وكان من رأي «سانت مارسيل» أن من العدالة أن يسترجع «مارتينوفتش» المالك الأصلي سفينته.»
وعلق «دروفتي» و«سانت مارسيل» أهمية كبيرة على الجهود التي يبذلها «لاتور موبورج» في القسطنطينية حتى يقر الباب العالي وجهة النظر الفرنسية في مسألة السفن التي ترفع علم بيت المقدس لأسباب ذكرها كلاهما، فقال «سانت مارسيل»: إنه إذا أجيز للإنجليز الاستمرار في نقل بضائعهم في سفن يخفق عليها علم بيت المقدس، والاتجار مع باشا مصر دون مقاومة، فإنه لن يقف شيء في طريق نمو تجارتهم وانتعاشها لا في مصر وحدها فحسب، بل في كل بلاد الليفانت أو المشرق؛ لأن رئيس الهيئة الدينية «الكاثوليكية» في بيت المقدس «يتجر» في الجوازات أو «الرخص» التي تبيح للسفن رفع علم بيت المقدس، حتى انتشرت هذه الجوازات في جميع مواني الليفانت، وكان اليونانيون أسبق من أفاد من هذا الترتيب للدخول إلى مالطة، والاتجار مع الإنجليز؛ ولذلك فإنه إذا تسنى للوكلاء الفرنسيين تنفيذ ما لديهم من تعليمات في موضوع السفن الآتية إلى الإسكندرية، تحت العلم الإنجليزي، أو من بلاد يحتلها الإنجليز خارج الجزر البريطانية، أمكن وقف هذا الشر عند منبعه، وسوف يترتب على هذا النجاح نتائج عظيمة؛ لأن هذه السفن تأخذ اليوم من مصر الكتان الذي يطلبه الإنجليز لبحريتهم، «حتى إن عددا من السفن النمسوية الآتية من مالطة، محملة بالبضائع «الإنجليزية»، لم تنقل في عودتها سوى هذا الصنف، الذي يجب علينا وعلى الأتراك حرمان أعدائنا منه.»
وأما «دروفتي» فقد كان من رأيه أنه إذا جاء قرار القسطنطينية في مسألة «لاروز»، وموضوع السفن التي ترفع علم بيت المقدس عموما في غير صالح الفرنسيين، وقد بعث كذلك محمد علي نفسه، يطلب رأي الباب العالي في هذه المسألة، ثم إذا لم يلق «سانت مارسيل» تأييدا للإجراءات التي اتخذها مع السفينة «لاروز»، ولم يعاقب قبطانها العقوبة الرادعة على تمرده وعصيانه، ثم إذا كان القبطان أو التاجر الذي تملص من سلطان الحكومة الفرنسية بوضع نفسه تحت حماية دولة معادية لفرنسا؛ لتنمية التجارة الإنجليزية؛ لا يعامل بموجب القانون الذي صدر في 3 مارس 1781 لتنظيم شئون القنصليات الفرنسية، وما يتعلق بنشاط الرعايا الفرنسيين التجاري وملاحة السفن في أساكل الليفانت، ووجاقات الغرب، وينص هذا القانون ضمن ما ينص عليه، على ترحيل كل فرنسي إلى فرنسا ينبذ سلطة «الملك» ويعمل للتملص منها، بقبول حماية أجنبية ، ثم أخيرا إذا أعطى قنصل السويد أو بالأحرى الوكيل البريطاني - والمقصود هنا «بتروتشي» - حق حماية قبطان هذه السفينة، والتاجر، والسفينة ذاتها، والمتاجر الإنجليزية؛ لانتهى - إذا وقع ما تقدم - كل ما يتمتع به الوكلاء الفرنسيون في مصر من احترام هم جديرون به بفضل ما لهم من خلق عال، ولصارت إقامتهم بهذه البلاد عديمة النفع ولا جدوى منها، بل وغير مشرفة لحكومة فرنسا «أعظم الحكومات قاطبة»، التي يمثلها هؤلاء الوكلاء في مصر.
وقد تفاقمت الأزمة بين «سانت مارسيل» وطبوز أوغلي، عندما أصدر الباب العالي في نوفمبر 1808 في موضوع «لاروز» قرارا يقضي بمصادرة السفينة والبضائع التي حملتها، على اعتبار أن «لاروز» سفينة بريطانية، ويعتبر حاكم الإسكندرية مسئولا أمامه عن تنفيذ هذه المصادرة، وعارض «سانت مارسيل» في تسليم سكان المركب، ووافق طبوز أوغلي على إحالة المسألة على الباشا في القاهرة، ولكنه لم يمض يومان حتى بعث حاكم الإسكندرية بقوة من الجند لأخذ سكان المركب من القنصلية الفرنسية، ولم يشأ «سانت مارسيل» الاصطدام مع هذه القوة، فسلمها إلى الجند، وحز في نفسه أن تظل البضائع «المصادرة» في مخازن أصحابها، لاعتقاده أن السلطات الحكومية بالإسكندرية لن تعمد إلى مصادرتها وأخذها؛ لأن هذه السلطات - كما قال - «إنما تريد أن يسود التفاهم الطيب بينها وبين مالطة؛ كي تستمر علاقاتها التجارية مع هذه نشيطة». بيد أن هذه الأزمة لم تلبث أن انفرجت مؤقتا عندما عمد الباشا نفسه، «الذي أراد أن يتخذ قرارا في هذه المسألة يحسم الخلاف فيها وما يتفق مع وجهات نظره»، إلى وقف المصادرة حتى تأتي أوامر قاطعة وأخيرة من الباب العالي بصدد هذه المسألة.
ثم إن «سانت مارسيل» لم يلبث أن وجد من الحكمة وأصالة الرأي، الكف عن «مناقشة» موضوع الخلاف مع حاكم الإسكندرية، وآثر الوكلاء الفرنسيون التريث حتى تأتيهم التعليمات من حكومتهم في باريس أو من سفارتهم في القسطنطينية، وأما الوزير «شامباني» فقد أقر «سانت مارسيل» على سؤاله القائم بالأعمال الفرنسي في القسطنطينية التدخل لدى الباب العالي، ثم أوصاه ببذل قصارى جهده من أجل تنفيذ الإجراءات التي أمر الإمبراطور باتخاذها ضد التجارة الإنجليزية.
وعندما أبلغ «دروفتي» الوزير، في رسائله إليه في 21 أغسطس، 9، 17 سبتمبر 1809، فشل مفاوضات الصلح بين محمد علي والمماليك، وخروج جيش الباشا لقتالهم وانتصاره عليهم في الصعيد، مع بيان الأسباب التي ذكرها محمد علي ل «دروفتي» لاتخاذه هذه الخطوة، وفحواها خوفه من أن يتحد البكوات مع الإنجليز إذا اقتضت هؤلاء الظروف السياسية المتغيرة إرسال حملة لغزو هذه البلاد، لاعتقاد الباشا أن الحرب مع النمسا قد اقتربت نهايتها؛ ولتوقعه أن يعلن الباب العالي الحرب على إنجلترة قريبا، أصدر الوزير «شامباني» تعليماته في 31 مارس 1810 إلى «دروفتي» يقول فيها: «لقد قرأت باهتمام ما ذكرته عن الموقف في مصر، وعن آراء أو أهداف الباشا السياسية، ولكنني لا أزال عاجزا عن إعطائك أية تعليمات بشأن الحوادث التي تعرضها علي كأمور محتملة الوقوع، ويبدو لي أن من الأوفق الانتظار، حتى تقع هذه فعلا، وحينئذ يتسنى لنا تقرير الخطة التي يجب اتباعها حيالها.»
وتحدث «دروفتي» في رسالته للوزير في 4 ديسمبر 1809، عن عودة الباشا من حملته الناجحة ضد البكوات في الصعيد، ومجيء محمد بك المنفوخ، أحد زعماء المرادية معه، ثم إنه تحدث في 12 مارس 1810، عن عودة «صمويل بريجز» القنصل الإنجليزي إلى منصبه في الإسكندرية، واستئناف المكائد والدسائس الإنجليزية النشيطة بعودته، والتي منها إغراء الوكلاء الإنجليز - كما قال «دروفتي» - لمحمد علي، على إعلان استقلاله في وضع مشابه لوضع حكام وجاقات الغرب، ثم ما يبدو للقنصل الفرنسي، من أن الإنجليز لم يتخلوا عن مشاريعهم العدوانية على مصر، واستعدادات الباشا العسكرية لرد أي اعتداء يقع على باشويته.
ولكن وزير الخارجية الفرنسية اكتفى عند إصدار تعليماته إلى «دروفتي» في 30 يونيو، بذكر أنه قد أحيط علما بما جاء في تقاريره عن الموقف في مصر، وعن عودة «بريجز» إلى الإسكندرية، واستئناف الإنجليز لمؤامرتهم في مصر، وأثنى على مهارته في كشف سرهم، وأوصاه بالمضي في جمع المعلومات الوافية الدقيقة وإرسالها إليه بانتظام.
وهكذا كان من الواضح، أن حكومة الإمبراطور في باريس، ما كانت تهتم وقتئذ، فيما يتعلق بمجريات الأمور في مصر، إلا بجمع المعلومات الدقيقة والمفصلة عن الحالة القائمة في البلاد، ومعرفة مبلغ نشاط الوكلاء الإنجليز بها، ونمو العلاقات التجارية بين الباشا والإنجليز، كما أن وقف هذه العلاقات، وتنفيذ «النظام القاري» بعرقلة هذه التجارة، وغلق المواني المصرية إذا أمكن، في وجه المتاجر الإنجليزية ، كان أهم ما عنيت به هذه الحكومة.
أضف إلى هذا، أن ما عاد يهمها، أن يستطيع محمد علي دعم أركان باشويته، والذود عنها، ومن وسائل ذلك، حسم خلافاته مع البكوات المماليك، وتحصين الثغور، واستكمال استعداداته العسكرية، فأقرت حكومة الإمبراطور، امتناع «دروفتي» عن التوسط بين الباشا وبين المماليك، أو مرافقة محمد علي في رحلته التفتيشية على المواني الشمالية، وقابلت بفتور ما ذكره الباشا عن الأسباب التي جعلته يقاتل البكوات في الصعيد، وفحواها - كما ذكرنا - خوفه من نزول حملة إنجليزية بالبلاد، نتيجة لما توقعه من انتهاء الحرب بين فرنسا والنمسا، وقيامها بين الباب العالي وإنجلترة، ثم تخلي البكوات عن موقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر» في عام 1807. وكان من الجلي أن الباشا إنما قصد من ذكر هذه الأسباب ل «دروفتي» معرفة رأي الحكومة الفرنسية، وهل تبغي معاونته على رد العدوان الإنجليزي إذا وقع، والأهم من هذا كله، هل تبغي مؤازرته في بلوغ استقلاله، الذي تحدث في أمره إلى «دروفتي» على نحو ما سيأتي ذكره.
ولكن في عام 1810 - كما في العامين السابقين خصوصا - كان لا يزال موضوع الإمبراطورية الشرقية، أو بالأحرى، موضوع استكمال «الإمبراطورية» يحتل مكانا بارزا في تفكير نابليون، ولم يكن من سياسة الإمبراطور أن يستطيع محمد علي دعم أركان باشويته بالدرجة التي تمكنه من مقاومة الغزو المنتظر.
بل إن الإمبراطور، في الوقت الذي بعث فيه وزير خارجيته بتعليماته الأخيرة إلى «دروفتي» في 30 يونيو 1810، طلب من وزير حربيته «كلارك دوق دي فيلتر»
Clarke, Duc de Feltre
في اليوم نفسه أن يبادر بإرسال أحد الضباط الكولونيل «بوتان»
Boutin
إلى الإسكندرية، وأن ينتحل الوزير بالاتفاق مع هذا الأخير عذرا يبرر به هذه الرحلة، وذلك حتى يفحص «بوتان» حالة الدفاع في المواقع الهامة في مصر والشام؛ في الإسكندرية ودمياط والصالحية، والعريش وغزا، ويافا وعكا، وغيرها، ويعد التقارير الوافية عن مقدار القوات التي بها، والتي توجد بمصر والشام جميعا، وطلب الإمبراطور أن تشتمل هذه التقارير على كل ما يمكن جمعه من معلومات عن الحالة المدنية والعسكرية في هذه البلاد.
وقد غضب نابليون لتأخر قيام «بوتان» بمهمته، فكتب إلى «كلارك» في 14 أكتوبر 1810 يقول: «إنه كان يعتقد أن ضابط سلاح المهندسين «بوتان» قد غادر إلى مصر والشام، ولا تعنيني التفصيلات، فليذهب إلى أوترنتو، أو إلى أنكونا، وليخف مهمته بالطريقة التي يشاؤها، ولكن الواجب تأديتها، وعليه أن يمضي الشتاء كله، ثم قسما من فصل الصيف المقبل في مصر والشام، بحيث يتمكن بعد ذلك من تقديم تقرير عن الأحوال العسكرية والسياسية في البلاد، وعليك أن توصيه بمشاهدة قلعة القاهرة، وقلعة الإسكندرية، ودمياط وعكا. وتشمل مهمته «زيارة» حلب ودمشق والإسكندرية، فأزل كل العقبات «التي قد تعترض قيامه بهذه المهمة»، ولا تتحدث إلي عنها بعد الآن.»
وقبل ذلك بيوم واحد، كان نابليون قد وافق على مشروع التعليمات المعدة لرسول آخر، هو السيد «نرسيا»
Nerciat ، أزمع إيفاده إلى مصر والشام، لزيارة عكا ويافا ورشيد والإسكندرية وقلعة القاهرة؛ «كي يدرس دراسة جيدة الموقف السياسي في مختلف الجهات في الشام ومصر». وتضمنت التعليمات المعطاة «نرسيا»، أن يقف على عدد الجنود في سوريا، ونوع العلاقات السائدة بين الحكام في مختلف جهاتها، ومعرفة المنافسات المنبعثة عن الحسد وخدمة المآرب الذاتية التي تنشر الانقسام والتفرقة بينهم، والوقوف على ميول الباشوات والبكوات نحو الباب العالي، وأثر هذه على حالة الدفاع عن الشام وتأمينها ضد الغزو. ثم وجب على «نرسيا» كذلك أن يفعل مثل هذا في مصر، ويقدم لحكومته ملاحظاته عن هذه الموضوعات جميعها، لا سيما فيما يتعلق برشيد والإسكندرية وقلعة القاهرة، فيتقصى في هذه الأماكن الأثر الذي بقي في ذهن أهلها عن حملة الفرنسيين السابقة (1798-1801)، مع معرفة الميول التي يحتفظ بها الزعماء والسكان نحو فرنسا، ونوع السلطة التي للباب العالي في مصر، وعدد الجند الذين يحتفظ بهم هناك، ومدى اعتماده (أي الباب العالي) على خضوع هذه الولاية العثمانية له.
وطلبت هذه التعليمات من «نرسيا» أن «يذكر دائما، للتغلب على الصعوبات التي قد تصادفه، وتحمل المشاق التي قد تنهكه أثناء تأدية مهمته، أنه إنما يقوم بهذه المهمة بوصفه أحد وكلاء أو عمال جلالة الإمبراطور في بلد لا يزال مليئا بكل «ذكريات» الأعمال العسكرية المجيدة، ويستأثر البت في مصيره باهتمام الإمبراطور بدرجة عظيمة.»
وعلى ذلك، فقد توجه «بوتان» و«نرسيا» في مهمتهما، فسلم «شامباني» جوازي سفر إلى «بوتان» في 16 نوفمبر 1810، أحدهما بوصفه مكلفا بمهمة لدى قناصل مصر والشام، والآخر بوصفه تاجرا رحالة، فوصل إلى الإسكندرية في آخر مايو 1811، وزوده «دروفتي» بالمعلومات التي يريدها. ولما كان «بوتان» قد أبلغه ولادة «ملك رومة» ووارث عرش «الإمبراطورية» الفرنسية، فقد أقيم احتفال كبير بالإسكندرية، ورتلت تسبيحة الشكر
Te Deum
بكنيسة المبنى الخاص بهيئة «الأرض المقدسة» الدينية، وصحبه «دروفتي» في زيارة الأماكن التي أراد مشاهدتها، فكان مما لاحظه أن الباشا مثابر منذ ثلاث سنوات على تحصين الإسكندرية، ولكن تحصينات الإسكندرية ليست مخيفة أو بالدرجة التي تمكن الباشا من صد هجوم الفرنسيين عند وقوعه عليها، وأكد أن الخوف مستبد بالباشا من نزول الفرنسيين، ولكنه لا وسيلة لديه لدفعهم. وقد كتب «دروفتي» في يونيو 1811، أن الباشا يريد النزول في الشواطئ المصرية، ولو أنه مما تجدر ملاحظته أن هذا قابل للزيادة دائما بفضل المجندين الذين يبعث بهم مندوبوه إلى مصر من مقاطعات الدولة العثمانية في أوروبا، ويريد الباشا رفع عدد جيشه - إذا استطاع - إلى عشرين ألف مقاتل، وبالرغم مما يزعمونه أن في وسعهم الذود عن مصر ضد الجيوش الأجنبية، يسود الاعتقاد بين صفوف الجند بأن من المتعذر عليهم بتاتا دفع الفرنسيين عن البلاد إذا غزوها. ثم إن الباشا الذي لا يقل اعتقاده عن اعتقاد جنده بعبث المقاومة ضد الفرنسيين، قد صار يعنى عناية خاصة بفرسانه الذين يعتمد عليهم في إمكانه مغادرة البلاد إذا تأزمت الأمور، والانسحاب منها، إما بطريق العريش إلى الشام، وإما بطريق السويس إلى بلاد العرب، ثم إن أسطوله بالسويس على قدم الاستعداد للحركة في أي وقت يشاؤه الباشا.
واستطرد «دروفتي» يتحدث عن خطة الانسحاب هذه والتحصينات التي بالقاهرة، فقال: «ومن عناصر هذه الخطة، وأجزائها، ذلك الطريق الذي أنشئ للمواصلات بين قلعة القاهرة وجبل المقطم.» وهو طريق لا أثر لفن تعبيد الطرق وإنشائها في شقه، يفضي بعد بلوغ القمة إلى الصحراء. وأما القلعة ذاتها وسائر التحصينات بالقاهرة فهي ليست في مثل الحال الطيبة التي تركها «جيش الشرق» عليها، ومع ذلك فإذا عمد الباشا إلى اللجوء إلى القلعة، تستطيع هذه القيام ببعض الدفاع، فقد زودها بذخائر الحرب بما يفوق كثيرا ما فعله كل أسلافه، وفي وسعه أن يمونها بالأغذية الوفيرة في أيام قليلة. وأكثر القلاع الصغيرة في المواقع التي حول القاهرة في حال سيئة، ولا يكاد يكون من هذه مزودا بالمدافع، غير تلك التي على الطريق الممتد من القاهرة إلى بولاق، وهذه - كما هو معروف - تحمي خطا من المتاريس والخنادق، كان محمد علي قد أنشأه أيام غزوة الإنجليز الأخيرة، ولا جدال في أنه سوف يعمد إلى نفس الاحتياط، إذا أرغمته الظروف على ذلك، ولكن الجند الأتراك سوف يلقون صعوبة في الدفاع عن مثل هذا الامتداد الطويل من الأرض، إلا إذا بادر لمساعدتهم على الأقل حدوث فيضان مرتفع للنيل، حتى تملأ مياه النهر الخنادق المحفورة؛ إذ يعد الهجوم الأمامي حينئذ غير عملي، ولا غنى عن الاستدارة حول هذه المراكز، مما ينجم عنه صعوبات أكثر، ولكني لا أعتقد أن الباشا سوف يصر على الدفاع خارج القلعة إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من الحرج، ويبدو لي أن خطة الحرب التي سوف يتخذها، هي بذل قصارى الجهد للاحتفاظ بالإسكندرية حتى تأتيه النجدات التي وعد الإنجليز بإمداده بها في مثل هذه الحالة، وأما إذا فقد الإسكندرية وخسر معركته الأولى، فإنه سوف يرتد إلى القاهرة، ينشر الخراب في البلاد التي سوف يمر بها في طريقه إليها، فإذا بلغ القاهرة الخاضعة لسلطانه، دافع عنها بالحديد والنار من مدفعية «القلعة»، ووضع فرسانه حوالي القاهرة وعلى شاطئ النهر، حتى إذا لم يعد في وسعه الاستمرار في الدفاع، طلب التسليم، أو عمد إلى إنقاذ نفسه بالفرار صوب السويس، حاملا نفائسه وأمواله، وآخذا معه أهله وأصدقاءه الأوفياء، وقد احتفظ لهذا الغرض بعدد كاف من الهجن. «ولم يزد الأتراك خلال السنوات التي قضوها أخيرا بالإسكندرية شيئا على التحصينات الموجودة بها، فكان كل ما فعلوه أنهم قاموا بترميم وإصلاح التحصينات التي تركها «جيش الشرق»، ولا شك في أن السيد «سانت مارسيل» قد أبلغكم - أي الوزير - أمر الأعمال الجديدة التي قام بها الباشا، وهذه - كما يؤكد لي كثيرون - لا قيمة ولا أهمية لها، فهي لا تعدو ترميم الأسوار القديمة من أيام العصور الوسطى حول المدينة، وهذه عند بلوغها حد الكمال لا تستطيع سوى إبداء مقاومة ضعيفة ضد هجوم تؤيده المدفعية، وفضلا عن ذلك يتطلب الدفاع وجود حامية كبيرة بالإسكندرية، مما يتعذر على الباشا فعله، وفي نظري أنه يستحيل عليه العثور بتاتا على العدد الكافي من رجال المدفعية اللازمين للخدمة في المراكز الأكثر أهمية. وأما تحصينات دمياط فهي تماما نفس التحصينات التي أنشأها الفرنسيون (إبان حملتهم) على فرع النيل، على مسافة قريبة من مصبه.»
وقد صحب «دروفتي» «بوتان» في رحلة إلى الصعيد في نوفمبر 1811، استمرت حتى بداية العام التالي، فعاد «دروفتي» إلى القاهرة في أواخر يناير 1812 تاركا «بوتان» في قنا؛ حيث ذهب هذا منها إلى القصير.
وأما «نرسيا» فقد قصد إلى القسطنطينية، والمعروف أنه كان بها في مايو 1811، ثم قصد إلى الأناضول؛ حيث شاهد بؤس أهله العظيم، وانتشار روح الاستياء والتذمر بين سكانه، حتى إن الصانع أو الزارع المسلم - كما قال - صار يتوق لأن تبسط دولة أوروبية سيطرتها على البلاد؛ حتى تعمل على تحريره من طغيان العثمانيين وظلمهم، وكان من رأيه أنه إذا غزيت الشام ومصر، تسنى العثور في بلاد الأناضول على موارد عظيمة تكفي لتغذية جيش مؤلف من مائتي ألف جندي سنوات عديدة، أضف إلى هذا، أن هؤلاء الجند ال 200000 يمكن جمعهم من بلاد الأناضول، بل وأكثر من هذا العدد إذا أراد الباشوات أصحاب الحكم في هذه الجهات. وفي يناير 1812، كان «نرسيا» موجودا بطرابلس الشام، وقد راجت الإشاعات وقتئذ عن وصول أسطول فرنسي أمام الشواطئ المصرية، ثم تحدث «نرسيا» عن عكا، فقال: إن عدد سكانها لا يتجاوز الستة أو السبعة آلاف، وإن تحصيناتها أولية وضعيفة، ولا تعد وحاميتها الخمسمائة، يضاف إليهم خمسمائة آخرون من المماليك الذين هم متغيبون أكثر الوقت، أو مبعثرون في مختلف الجهات، وقال «نرسيا» عن يافا: إن الاستيلاء عليها سهل ميسور.
ذلك كان مبلغ اهتمام نابليون بالشرق وقتئذ، وسواء حالت مشاغله في أوروبا دون غزو الشام ومصر - وذلك ما حدث فعلا - أو أن في وسعه في هذه السنوات، تنفيذ مشروعه، فقد شكل «سر نابليون» سياسته نحو مصر، ووجه نشاط الوكلاء الفرنسيين بها وجهات معينة، تتفق والغاية التي يستهدفها الإمبراطور، والتي ظل رغم مشاغله يمني النفس ببلوغها، ويعمل على تحقيقها.
وآية ذلك - عدا ما عرفنا - أنه حدث في اليوم نفسه الذي وافق فيه الإمبراطور على مشروع التعليمات المعطاة «لنرسيا»، أن كتب إلى وزير خارجيته «الدوق دي كادور» في 13 أكتوبر 1810، حتى يطلب من القناصل الفرنسيين في الشام ومصر مذكرات مفصلة عن مجريات الأمور في هذين البلدين عند أول يناير 1811، فيتناول هؤلاء الموضوع من نواحيه السياسية والعسكرية والمالية، وعلى أن يراجعوا هذه المعلومات حتى تتفق مع حقيقة الأحوال السائدة، عند أول يوليو من العام نفسه، ثم معاودة الكرة مرة ثانية عند أول يناير 1812؛ وذلك - كما قال نابليون - «حتى يجد كل الآراء أو الفكر التي سوف يحتاجها في هذه المذكرات التي يجب أن تكون منظمة ومرتبة، ومتصلة بشئون العلاقات الخارجية.»
وفي اليوم نفسه كذلك (13 أكتوبر 1810)، بادر «الدوق دي كادور» بالإجابة على تقارير «سانت مارسيل» بتاريخ 20 مارس، 25 أبريل، 29 مايو 1810، وقد تحدث هذا في تقريره الأول - وكان تقريرا مسهبا - عن تجارة القمح النشيطة بين مصر ومالطة وعن مسلك «الأب أرمننجيلد» المشين، الذي بادر برفع علم بيت المقدس «بمجرد أن نزل إلى البر قبطان إبريق إنجليزي، ثم وضع نفسه بعد ذلك تحت حماية القنصلية السويدية، والذي أوقف في الكنيسة الدعاء المعتاد لجلالة الإمبراطور نابليون، نتيجة لوصول أوراق غازيتة مالطة، من هذه الجزيرة، تتضمن قذفا في حق الإمبراطور، أو بناء على أوامر يدعي صدورها من البابا.» ثم استطرد «سانت مارسيل» يتحدث عن الشكاوى التي قدمها إلى «دروفتي» في القاهرة حتى يعمل على استدعاء هذا الرجل الديني المنشق، وحتى ينال من الباشا السلطة التي تمكن الوكلاء الفرنسيين من ممارسة اختصاصاتهم في الإسكندرية التي تخضع لسلطان «بتروتشي» القنصل السويدي وأحد وكلاء الإنجليز بها. كما راح يتحدث عن الشكاوى التي بعث بها إلى «لاتور موبورج» بالقسطنطينية، وقال: «وأما الأول (دروفتي) فإنه عجز عن حمل الباشا على التدخل في هذه المسألة، وأما الثاني (لاتور موبورج) فقد أجاب بكل بساطة في رسالته إلي بتاريخ 12 مايو 1809، بأنه ينبغي فيما يتعلق بمسألة «الأب أرمننجيلد» أن يعاقبه رؤساؤه.» ثم عاد فقال في رسالته بتاريخ 6 ديسمبر 1809، إن الواجب يقتضي مغادرة «الأب أرمننجيلد» للإسكندرية. «والواقع هو أني لم أظفر بشيء. وقد أبلغ نيافة الرئيس العام لهذه المؤسسة في بيت المقدس، وهي التي ينتمي إليها الأب أرمننجيلد، وقد أخبرته بكل هذه الوقائع، فأبلغ «دروفتي» في شهر ديسمبر من العام الماضي، أنه قد استدعى هذا الرجل، واستبدل غيره به، بل وأمر بمجيء أحد رجال هذه المؤسسة من القاهرة، ليقوم بوظائف «الأب أرمننجيلد» مؤقتا حتى يحضر من يتسلم عمله، ولكنه لما كان هذا الأخير يدعي لنفسه الحق في استئناف قرار صاحب النيافة لدى رومة، فقد بقي بالإسكندرية، ولم يصل المعين بدلا منه إلى الإسكندرية إطلاقا، مما ينهض دليلا على تضامن صاحب النيافة مع «الأب أرمننجيلد» ومسلكه المزيف، وهو الذي يصدر لوكلائه هنا أوامر متناقضة في نفس الوقت الذي يتهرب فيه من إحقاق مطالبنا المشروعة؛ ولذلك، فمن الضروري القضاء على مكائد هؤلاء الرهبان المشينة، أولئك الذين طمس أبصارهم ذلك التعصب الإجرامي الذي كان مبعث أضرار كثيرة في أماكن أخرى.»
وتحدث «سانت مارسيل» في رسالته بتاريخ 25 أبريل 1810، عن استمرار تصدير الغلال والأرز إلى مالطة، ونشاط تجارة الباشا مع الإنجليز، بينما لم يصل إلى الإسكندرية منذ بداية هذا العام سوى مركبين حربيين وأربع سفن تجارية فرنسية، جاءت من مرسيليا، وتحمل الأخيرة بضائع قليلة وقد عادت محملة بالنطرون خصوصا، وهذا عدا بعض السفن اليونانية التي ترفع العلم العثماني، وقد حضرت هذه من مرسيليا محملة كذلك ببضائع قليلة، وأخذت حمولتها من النطرون، وشكا «سانت مارسيل» من حاكم الإسكندرية الجديد، خليل بك ابن أخت الباشا؛ لأنه فرض ضريبة جمركية أخرى على الصادرات من الكتان والنطرون، والواردات من الأخشاب والصابون وغير ذلك، وكان خليل بك قد عين حاكما للإسكندرية، في مكان طبوز أوغلي، منذ أوائل العام نفسه، وصفه «سانت مارسيل» بأنه شاب لا خبرة له بتاتا، ولو أنه يريد النظام والعدالة، وكان - على ما يبدو في رسالته بتاريخ 29 مايو - أن أبلغ «سانت مارسيل» الوزير نجاح مساعيه أخيرا في إرغام «الأب أرمننجيلد» وغيره من الرهبان المتعصبين في ملجأ أو مؤسسة بيت المقدس الدينية بالإسكندرية على مغادرة هذه المؤسسة.
وقد أجاب «الدوق دي كادور» على هذه التقارير، بتهنئة «سانت مارسيل» على نجاحه هذا، وقال: «إن الهدوء المعتاد سوف يعود إلى الملجأ أو المؤسسة، بذهاب هؤلاء، كما امتدح نشاطه في إرسال المعلومات الخاصة بالنشاط التجاري في الإسكندرية، واستزاده منها في تقاريره المقبلة، وطلب إليه أن يبلغه كل ما يمكنه الوقوف عليه من معلومات ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بصالح حكومة جلالة الإمبراطور، وعلى الخصوص فيما يتعلق بتجارة إنجلترة ونظامها البحري.»
واستمر اهتمام الإمبراطور بمعرفة حال تحصينات الثغور والمراكز الرئيسية في مصر والشام، استعدادا لغزو هذه البلاد، فطلب من وزير خارجيته في 6 ديسمبر 1810 أن يكتب بالشفرة إلى قناصل الإمبراطور في مصر لإرسال المعلومات التي تصف مفصلا كل ما يتعلق بتحصينات القاهرة والإسكندرية ودمياط والعريش، كما طلب إليه أن يكتب إلى القناصل في الشام كي يبعثوا إلى الوزير بتفصيلات وافية عن التحصينات في غزا ويافا وعكا، وأن يوصوا بإرسال هذه المذكرات بطريق مأمون، وأن يكتبوها بالشفرة.
وقد تقدم كيف أن نابليون ظل يفكر تفكيرا جديا في مشروع الحملة على الشام ومصر طوال عام 1811، ويطلب من وزير بحريته «ديكريه» تهيئة الأساطيل الفرنسية في ميناء طولون وعند مصب «ألاسكو» خصوصا لهذا الغرض.
ومع أن هذا الغزو لم يقدر له الوقوع لا في هذه السنوات ولا في السنوات التالية، لأسباب خارجة في الحقيقة عن إرادة الإمبراطور نفسه، فقد كان لوجود هذا السر - سر نابليون - أثر مباشر على تكييف السياسة الفرنسية تجاه محمد علي، في الموضوع الذي استأثر باهتمامه من أيام حملة «فريزر» وهو الاستقلال من نمط استقلال وجاقات الغرب. (7) الفرنسيون يرفضون استقلال محمد علي
ولم تسد بين محمد علي والوكلاء الفرنسيين، نفس العلاقات الوثيقة التي ربطت بين الباشا و«دروفتي» على وجه الخصوص، أيام أزمة النقل إلى سالونيك، أو أثناء وجود جيش «فريزر» بالإسكندرية، فإنه ما إن جلت الحملة الإنجليزية عن هذه حتى بدأت العلاقات بينه وبين الوكلاء الفرنسيين تدخل في طور جديد، صادف فيه «دروفتي» وزملاؤه مصاعب جمة، مبعثها مضي الباشا في بيع غلاله للإنجليز، بالرغم من احتجاجات الوكلاء الفرنسيين المتكررة، ومبعثها كذلك، ما صار معروفا لدى الباشا، وحرص «بتروتشي» وسائر الوكلاء الإنجليز على إذاعته وترويجه، من انتواء الإمبراطور غزو مصر في أول فرصة سانحة.
وكان الغزو الفرنسي المتوقع لمصر من الشائعات التي ظلت رائجة في هذه البلاد خلال السنوات التي نحن بصدد دراستها (1808-1811)، وكان لها أوضح الأثر في رسم السياسة التي جرى عليها محمد علي، سواء في علاقاته مع الإنجليز والفرنسيين أنفسهم، أو مع الباب العالي، وكانت هذه سياسة تتسم بطابع الحيطة والحذر في علاقاته مع هؤلاء الأطراف الثلاثة، فهو يتقرب من الإنجليز كي يتقي شرهم، وحادث غزوهم الأخير للإسكندرية لا يزال ماثلا في الأذهان، وكي يستعين بهم على دفع الغزو الفرنسي إذا وقع ولا يريد إغضاب الفرنسيين؛ اتقاء لشرهم كذلك، وحتى لا يستعد لمجيء حملتهم المرتقبة على هذه البلاد، ولا يزال حادث غزوهم لها بدعوى الاقتصاص من المماليك على إيذائهم المصالح الفرنسية ماثلا في الأذهان كذلك، وهو لا يثق في نوايا الباب العالي نحوه، ويريد الاستعانة بإنجلترة وفرنسا في الوصول إلى الاستقلال الذي ينشده، حتى إذا رفضت هاتان الدولتان مساعدته، سلك مع الباب العالي الطريق الذي اعتقد أنه يعينه على نيل مأربه.
فإنه ما كاد الباشا يفرغ من مسألة عصيان ياسين بك الأرنئودي التي انتهت بنفيه خارج البلاد في فبراير 1808، وفي الظروف التي سوف يأتي ذكرها، حتى راجت الشائعات القوية عن قرب نزول جيش فرنسي بالشواطئ المصرية، وكان الإنجليز هم المسئولون عن ترويج هذه الشائعة، عندما وصل الإسكندرية منذ 18 يناير ذلك الإبريق الإنجليزي الذي سبقت الإشارة إليه، وهرع «بتروتشي» إلى القاهرة لمقابلة الباشا بها، وأسفرت المقابلات السرية والكثيرة بينهما، منذ وصوله في 25 يناير، عن ذيوع نبأ صدقه كثيرون هو أن هناك حملة فرنسية كبيرة، تجري الاستعدادات في مواني فرنسا لإرسالها إلى مصر، فتوقفت الإجراءات التي كان قد بدأها الباشا لترحيل عدد كبير من الجند الذين أظهروا تمردهم ضد سلطانه إلى الشام، وصدرت الأوامر إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط لتهيئة وسائل الدفاع عنها جميعها.
وكان الذي حمل الإنجليز على تحذير محمد علي من هذا الغزو المتوقع، ما عرفوه عن حملتي «أليمان» إلى ألبا و«غانتوم» إلى كرفو، واحتمال أن تذهب لذلك حملة أخرى من تارنتو أو كرفو إلى مصر، أضف إلى هذا اعتقاد الإنجليز الراسخ أن الفرنسيين لن يتخلوا عن مشروع غزو مصر بتاتا، فقال «سانت مارسيل» في تقريره إلى حكومته في 21 فبراير: إن الغرض من مجيء الإبريق الإنجليزي إبلاغ محمد علي قرب وصول قوات فرنسية عظيمة إلى مصر، ونصحه بتقوية المراكز الرئيسية في الشاطئ المصري، وتعزيز حامية الإسكندرية، وكان عندئذ أن عرض عليه الإنجليز إمداده بجيش لمساعدته ورفض الباشا الاستعانة بقوات أجنبية - على نحو ما سبق ذكره.
ولقد لقي هذا النبأ ذيوعا كبيرا في الإسكندرية على وجه الخصوص؛ حيث راح المسئولون بها يحذرون الشعب من قرب حضور جند أجانب لغزو مدينتهم، وفريق قال: إن هؤلاء من الإنجليز، واعتقد فريق آخر، وهم الأكثرية، أن الغزاة من الفرنسيين، ثم سرعان ما اشتد هياج الخواطر، عندما دخل ميناء الإسكندرية في 2 مارس 1808، ذلك الشباك الفرنسي المسلح «سربان» الذي تقدمت الإشارة إليه، فقد انزعج المسئولون من الأتراك والأرنئود بالثغر أيما انزعاج، وساورتهم المخاوف من أن تكون هذه السفينة طليعة أسطول فرنسي على وشك الظهور أمام الإسكندرية، وقلق طبوز أوغلي حاكم المدينة قلقا عظيما، فنشطت حركة الجند بها، استعدادا للدفاع، وتسلح الأهلون، وبذل «سانت مارسيل» قصارى جهده لتهدئة الخواطر، وزالت المخاوف رويدا رويدا عندما أنزلت السفينة البضائع التي كانت تحملها إلى البر، ومضت الأيام ولم يظهر للأسطول المزعوم أثر.
وفي القاهرة، كان حرج «دروفتي» وسائر مواطنيه عظيما بسبب هذا الحادث، واستمر هذا الحرج أياما عديدة؛ وذلك لأن الباشا صار يتوعد ويتهدد «دروفتي» لمعرفة المهمة الغير الاعتيادية التي كلف هذا الشباك الفرنسي بها، وكثر اعتداء الجند على الإفرنج، وأوجز «دروفتي» وصف الحالة في القاهرة، فقال: «إهانات مفرطة يرتكبها الجند في حق الأوروبيين، سرقات، وحوادث قتل تقع في الشوارع وفي وضح النهار. وأما في الإسكندرية فالغرامات والفرض بجميع أنواعها، وإزعاج وسوء معاملة للأوروبيين على يد حاكمها، وإفراط الجند في التعدي والإخلال بالنظام، مع عدم توقيع أية عقوبة عليهم لردعهم.»
ثم تزايدت متاعب الوكلاء الفرنسيين بسبب حادثي «الأب أرمننجيلد» والسفينة «لاروز»، وقد سبق الكلام عنهما، كما كثر في الشهور التالية ورود صحف مالطة الإنجليز، تقذف في حق الإمبراطور، ويروج الوكلاء الإنجليز مطاعنها عليه، وبذل الوكلاء الفرنسيون كل ما وسعهم من جهد وحيلة لكسب رضاء محمد علي، فانتهز «سانت مارسيل» قيام الباشا برحلته في الوجه البحري، في سبتمبر 1808، لمحاولة ذلك، وكان الباشا قد طلب إلى «دروفتي» مرافقته في هذه الجولة التي أراد بها زيارة دمياط ورشيد والإسكندرية، وامتنع «دروفتي» عن تلبية طلبه، في الظروف التي عرفناها، فأهدى «سانت مارسيل» محمد علي بندقية للصيد من صنع فرساي، وأهدى ترجمانه نظارة، وذلك أثناء زيارة الباشا لرشيد، وتكبد «سانت مارسيل» نفقات عظيمة بسبب هذه الزيارة، ولو أنه لم يكن هناك معدى في رأيه عن تحمل هذه النفقات لمقاومة نفوذ الوكلاء الإنجليز، ولجلب رضاء محمد علي، فكتب إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 2 يناير 1809، يلفت نظره إلى هذه النفقات التي صار يشكو من فداحتها، ويطلب إلى الوزير إمداده بالمال اللازم لمجاراة الوكلاء الإنجليز، فكان مما ذكره، يعلل سؤاله هذا: إن الوزير قد لا يعتقد أن النفقات التي تحملتها القنصلية الفرنسية بالإسكندرية، بسبب الهدايا التي قدمت للباشا وإنفاق المال الذي أوجبه وجوده برشيد ، أكثر مما ينبغي بذله، ولكن الحقيقة أن هذه المبالغ ضئيلة بالقياس إلى ما ينفقه الوكلاء الإنجليز، وفضلا عن ذلك، فإنها لم تكف لإرضاء الباشا، ثم استطرد «سانت مارسيل» يقول: «ومما زاد في شجوني أني علمت من السيد «دروفتي» أن الباشا قد شكا إليه من قلة كرمي وسخائي ولا يسعني إلا أن أعزو هذا الإلحاح، وهذا التذمر من جانبه، إلى تلك الصداقة المغرضة التي يبديها نحو الإنجليز الذين يعطونه أكثر بكثير جدا مما في وسعنا أن نعطيه نحن له، فأنظار أعدائنا موجهة دائما نحو مصر، ويبغون من سخائهم غرضا من الضروري تلافيه قبل وقوعه، ومن واجبنا إحباط مكائدهم، ولا ندحة لنا للوصول إلى هذه الغاية، عن كسب صداقة رجال وعمال هذه الحكومة - أي حكومة محمد علي - ولا طريق إلى ذلك غير إعطاء الهدايا في الظروف المناسبة، فإذا كانت هذه ضئيلة القيمة، امتنع تحقيق الغرض منها، وأما إذا انقطع إعطاء هذه الهدايا بتاتا، فسوف يتعرض القناصل لمزعجات تسوئ في هذه البلاد سمعة الفرنسيين، وتقضي تماما على التجارة الفرنسية، بفضل ما سوف يلقاه حينئذ أعداؤنا من مزايا كثيرة؛ ولذلك فإنه إذا تعذر علينا مجاراة هؤلاء الأعداء في سخائهم، فلنعط إذن بالقدر الذي يكفي - على الأقل - لإبعاد تلك الكراهية عنا، والتي مبعثها الطمع الأشعبي، وسوف يتكفل حينئذ ما لهذه الأمة الفرنسية العظيمة من سمعة عالية، ومجد عسكري، بترجيح كفة الميزان في صالحنا.»
وكان في شهر مارس أن انحلت مسألة السفينة «لاروز»؛ حيث أصدر الباب العالي فرمانا أمر فيه بإرجاع البضائع المصادرة إلى أصحابها، المرسلة هذه إليهم، بالإسكندرية، وإرجاع السفينة إلى ربانها على أن يرفع هذا العلم العثماني عليها، ولم يكن هذا الحل، بالحل الذي يريده «سانت مارسيل» الذي شهد المدافع تطلق من الطوابي بالثغر تحية لهذا العلم عند رفعه، وقال: «إن المال الذي وزع بسخاء على رجال الحكومة بالإسكندرية، كان من أثره مظاهرات الاحترام هذه التي لم يكن من عادة المسئولين إجراؤها.»
وانتهت مسألة هذه السفينة، في الوقت الذي ذاع فيه خبر عقد الصلح بين الباب العالي وإنجلترة جاء به إلى الثغر إبريق إنجليزي، احتفل بمقدمه قنصلا إسبانيا والنمسا، فرفعا أعلام دولتيهما احتفاء به، ورحب حاكم المدينة بقبطان هذا الإبريق الذي نزل إلى البر لزيارته وتسليمه رسائل باسم محمد علي باشا، وقد سبق أن تحدثنا عن الأثر الذي أحدثه ذيوع نبأ الصلح بين تركيا وإنجلترة، ومسعى «دروفتي» لدى الباشا الذي ظفر منه بوعد قاطع بأن الحرب إذا قامت فعلا بين فرنسا والباب العالي فإنه لن يحيد عن معاملته الودية السابقة للوكلاء والرعايا الفرنسيين في ولايته.
ولكن كثرة الصعوبات التي صادفها «دروفتي» في عمله كوكيل فرنسي في هذه البلاد، منذ خروج الإنجليز من الإسكندرية، ورواج الشائعات عن قرب الغزو الفرنسي لهذه البلاد، ونشاط تجارة القمح مع إنجلترة، وهي الصعوبات التي كان آخرها ما نشأ الآن عن عقد الصلح بين الأتراك والإنجليز لم يلبث ذلك كله أن جعل «دروفتي» يسأل حكومته أن تنقله من بلد صار يصفه بأنه متوحش، ولا قدرة له على الإقامة به إذا قامت الحرب فعلا بين فرنسا وتركيا، فكتب في 9 أبريل 1809 يقول تعليقا على الوعد الطيب الذي أعطاه له محمد علي: «ومع أنه ليس من الحكمة دائما الركون إلى مثل هذه الأقوال أو الوعود، وينبغي لي أن أرغب في وقوع حادث يرغمني على ترك بلاد متوحشة أفنيت فيها خمس سنوات من عمري، تحيط بي الأخطار من كل جانب، ويستبد بي القلق، ولا أتذوق غير الحرمان، حتى انتهكت قواي وضعفت صحتي، فإنه إذا اقتضى صالح الدولة بقائي بهذه البلاد، ففي اعتقادي أنه بوسعي على الرغم من انفصام العلاقات بين الحكومتين (العثمانية والفرنسية) تدبير أمر إقامتي طالما كان هناك نفع يرجى من مكوثي بها.» وقد اختتم «دروفتي» رسالته هذه بطلب تعليمات من حكومته في هذا الشأن.
وتزايدت متاعب الوكلاء الفرنسيين، عندما عاد «بريجز» في ديسمبر 1809 إلى منصبه بالإسكندرية كقنصل للإنجليز بها، ونشطت مكائد «بتروتشي»، وثار الأب أرمننجيلد ثورته المعروفة على سلطان الإمبراطور الفرنسي وممثليه في مصر، وشكا «دروفتي» من دسائس طبيب الباشا - مندريشي - وترجمانه ، وقويت الشائعات عن الغزو الفرنسي المنتظر، وأجاز الباشا دخول سفن الحرب الإنجليزية إلى ميناء الإسكندرية، وظل «دروفتي» وزملاؤه يعانون صعوبات عدة في إحباط هذه المؤامرات والدسائس حتى وقع حادث في شهر أبريل 1810، أثار مخاوف محمد علي من ناحية فرنسا، واستفزه الغضب الشديد بسببه على الوكلاء الفرنسيين.
فقد وصل إلى مصر، في طريقه إلى جزيرة «إيل دي فرانس»، رسول في خدمة الإمبراطور، يدعى «كادر»
Kader ، نزل من دمياط إلى القاهرة؛ حيث كان يبغي مغادرة هذه الأخيرة إلى السويس حوالي اليوم السابع عشر من شهر أبريل، ولكنه لم يحتط في كتمان أمره أو الغرض من رحلته، فبلغ خبره القاهرة قبل وصوله إليها، وطغى عليه الزهو والافتخار، فعزا لمهمته أهمية كبيرة، لم تكن - كما قال «دروفتي» - في الحقيقة لها، فكان هذا المسلك غير الحكيم من ناحيته إلى جانب اختياره هذا الطريق الشاذ - طريق دمياط - للذهاب إلى الهند؛ «لأنه كان أول الرسل الفرنسيين الذين شوهدوا إطلاقا يتخذون هذا الطريق في رحلتهم إلى الهند على الأقل في المدة التي قضاها «دروفتي» في مصر»، كان لذلك كله أبلغ الأثر في جعل الوكلاء الإنجليز يعمدون إلى اتخاذ أساليبهم المعروفة في مثل هذه الظروف للاستفادة من هذا الحادث، ودبروا مكيدة للإيقاع بين الباشا و«دروفتي»، فأبلغوا الباشا أن «كادر» يحمل معه رسائل إلى «دروفتي» حتى يسلمها هذا إلى البكوات المماليك، وراحوا يسعون للاستيلاء على الرسائل التي حملها هذا الرسول من الباشا نفسه.
ويذكر «دروفتي» تفاصيل هذه المؤامرة، في تقريره إلى حكومته في 28 أبريل 1810، فيقول: «ولكنه حدث لحسن الحظ أني في نفس المساء الذي دبرت فيه هذه المؤامرة (للإيقاع بينه وبين الباشا) كان علي أن أبعث بترجماني إلى الوزير محمد علي، فقابله الباشا مقابلة سيئة للغاية ، وفي سورة غضبه أرسله إلي دون أن يدعه يفتح فاه بكلمة واحدة، ليبلغني أن الواجب يقتضيني الامتناع عن إنشاء صلات في مصر مضادة لمصالحه إذا شئت العيش في هدوء وسلام، فما إن بلغتني هذه الرسالة، حتى امتطيت جوادي قاصدا إلى القلعة دون أن أفقد دقيقة واحدة، وكان الوقت ليلا، ووجدت الباشا على أهبة الانصراف إلى مخدعه، فرحب بي ترحيبا فاترا، ولو أنه أبدى ارتياحه لما ظهر من اهتمامي بالحضور إليه لأساله تفسير ما وقع، ونهضت أقوالي دليلا على ما أكنه من ولاء، وغادرني الباشا وهو يشكرني على حضوري الذي جنبه قضاء هذه الليلة في كدر، وأعطاني موعدا لمقابلته في اليوم التالي.
وأما هذه المقابلة الثانية فقد استطالت كثيرا، أكد لي الباشا في أثنائها أن الوكلاء الإنجليز قالوا: إنهم يدفعون خمسين ألف قرش عثماني، للحصول فقط على صورة من الرسالة التي وصلتني من فرنسا لتسليمها إلى الزعماء المماليك، الأمر الذي يدل - على ما يبدو لي - على أنهم مستعدون للتضحية بهذا المبلغ لسلب الرسول «كادر» ما يحمله، وفي اعتقادي أنه لا جدوى من إبلاغكم - مخاطبا وزير الخارجية - كل ما دار في هذه المقابلة، فأكتفي لذلك بذكر نتائجها.
فإنه مما يبدو لي أن الباشا مقتنع بأنه لا يقدر على الركون إلى الصداقة التي يظهرها نحو الإنجليز، فإن هؤلاء إنما يبذلون قصارى جهدهم لتحريضه على اتخاذ خطوات مضادة لمصالحه وواجبه، وأقسم لي على سيفه، أنه لما كان يشعر بواجبه نحو كرامته، ونحو نظام حكومته، فقد رفض كل شروط يبدو أنها تستهدف وضعه تحت حماية الإنجليز، ثم إنه أظهر لي أسفه على ترك فرقاطته التي يريد إدخالها في البحر الأحمر عن طريق المحيط - والمقصود هنا الفرقاطة أفريقية، وقد سبق ذكر موضوعها - تبحر إلى مالطة، وقد أبلغني أنه سوف يلغي السماح لسفن الحرب الإنجليزية بدخول ميناء الإسكندرية القديمة، وأنه سوف يصدر أوامره لتحصين الإسكندرية تحصينا جيدا، وأنه لما كان لا يسعه إلغاء الأوامر التي أجازت تصدير الحبوب إلى مالطة، فسوف يرفع أثمانها بدرجة تزعج المتجرين بها ، ثم أنهى الباشا كلامه بأن طلب مني نسيان ما حدث، ثم استدعى أمامي رئيس حراس قافلة السويس، وقال له: إنه سوف يعتبره مسئولا عن أي شيء يشكو منه الرسول «كادر»، ثم أعطاني خطابا يحمل توصية طيبة بهذا الرسول لعمال الباشا من مدنيين وعسكريين في كل المواني.
وأما هذه المقابلة فقد جرت في اليوم التاسع عشر من هذا الشهر.
وقد تمهلت في إبلاغكم عنها؛ حتى يتسنى لي أن أنقل إليكم في الوقت نفسه، أن «كادر» قد وصل سالما إلى السويس، وأنه قد غادرها إلى جدة، ويحمل معه خطابات توصية إلى المسئولين في جدة، وكذلك في مخا.»
وذكر «دروفتي» دليلا على أن الباشا يعني فعلا ما أبلغه إياه في هذه المقابلة من حيث علاقاته مع الإنجليز: «أن محمد علي قد أنفذ أحد ضباطه إلى إسكندرية لإجراء الترميمات التي تتطلبها التحصينات في هذه المدينة، وأنه بعد أن فرض ضريبة صادر على الحبوب معادلة لثلثي قيمتها، بدعوى حاجته إلى بعض الغلال لإرسالها إلى القسطنطينية، لم يلبث أن وضع بعض القيود على شحنات القنصل الإنجليزي إلى مالطة، وأخيرا فقد رفض الموافقة على التعريفة الجديدة التي حصل السفير الإنجليزي عليها من الباب العالي لتعيين قيمة الرسوم الجمركية على البضائع التي يصدرها التجار البريطانيون من مصر أو يستوردونها إليها.
ومبعث هذا الرفض، هو روح الباشا الاستقلالية التي تزداد قوة دائما، وطالما بقيت القسطنطينية وأزمير وحلب وجزر بحر الأرخبيل تعاني القحط والمجاعة، وتزخر مصر بالغلال الوفيرة، ولقد فرضت على الصادرات إلى تركيا ضرائب كبيرة لم يسبق لها وجود بتاتا.»
ولا جدال في أن تصريحات الباشا «لدروفتي» في اجتماع 19 أبريل هذا، كانت تصريحات هامة، قد تنبئ - على نحو ما أراد «دروفتي» أن يقنع نفسه به - بأن تغييرا قد طرأ على سياسة محمد علي، من شأنه أن يقربه من الوكلاء الفرنسيين، ويباعد بينه وبين خصومهم الإنجليز، لا سيما وأن الباشا، بفضل الإجراءات الأخيرة التي اتخذها قد أقام الدليل في نظر «دروفتي» على أنه يريد تعطيل تجارتهم، والحد - على الأقل - من تصدير غلاله إلى مالطة وغيرها من الأماكن التي كانت مسرحا لنضالهم مع الفرنسيين في أوروبا، ولكن الحقيقة كانت على النقيض من ذلك، ولم يفطن «دروفتي» إلى غرض الباشا من إظهار شكوكه له نحو الإنجليز، أو مبعث زيادة الرسوم الجمركية على الصادر، وقد كان هذا إجراء ماليا، اتخذه الباشا مع الإنجليز، كما اتخذه مع الباب العالي، ولم يبغ منه سوى غرض واحد فحسب، هو ملء خزائنه بالمال الذي استمر في حاجة شديدة إليه دائما لدفع مرتبات الجند وسد نفقات الحكومة. ثم كان مما أحيا الأمل لدى «دروفتي» في إمكان حدوث هذا التغيير في سياسة محمد علي، أن الباشا على الرغم من مكائد الوكلاء الإنجليز، وسورة الغضب التي استبدت به، قد مكن «كادر» من المضي في رحلته بسلام، بل وزوده بخطابات توصية إلى عماله في مختلف الأساكل.
ومع ذلك، فإن شيئا مما يكون «دروفتي» قد منى نفسه به لم يحدث، ذلك أن تصدير الحبوب والكتان وغيرهما إلى مالطة لم يتوقف إطلاقا، بل تزايد نشاطه في الشهور التالية، واستمرت السفن تأتي بالبضائع الإنجليزية إلى الإسكندرية، سواء كانت هذه السفن بريطانية أم نمساوية أم غيرها، وترفع أعلاما إنجليزية أو غير إنجليزية. ثم استمر دخول السفن الحربية الإنجليزية إلى الميناء من وقت لآخر، فحضر إبريق من مالطة في شهر مايو، قال عنه «دروفتي»: إنه «الثاني الذي ظهر في هذه المياه منذ ثلاثة شهور»، واحتفل الإنجليز في الإسكندرية بعيد ميلاد ملكهم جورج الثالث احتفالا ضخما رائعا، ونثروا النقود بسخاء، ليلتقطها فقراء الأهلين، وذلك - كما قال «دروفتي» أيضا في 13 يونيو - حتى يكسبوا صداقة الجماهير، على غرار ما فعلوا في الأيام التي سبقت غزوهم في عام 1807، وعندما انتصر الباشا على بكوات المماليك في قنطرة أو جسر اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس من العام نفسه، واستولى على غلال وحاصلات الصعيد خصوصا، صدرت أكثر الغلال إلى مالطة، وفي أكتوبر دخل الإسكندرية إبريق إنجليزي آخر يحمي أربع سفن آتية من مالطة كي تستبدل غلالا بحمولتها. وفضلا عن ذلك كله، فإنه لم تمض أسابيع معدودات على هذه التصريحات التي أدلى بها الباشا «لدروفتي»، حتى كان قد عقد مع «بلزوني» في 28 مايو 1810، تلك المعاهدة التي رفضت الحكومة الإنجليزية التصديق عليها.
وواقع الأمر، لم يكن السبب الذي حدا محمد علي إلى التبسط في هذه التصريحات التي فتحت أمام «دروفتي» آفاقا واسعة، أسف الباشا على مصادقته للإنجليز، أو ندمه على إرسال فرقاطته أفريقية إلى مالطة في طريقها إلى إنجلترة كي يتم تسليحها هناك استعدادا للقيام برحلتها إلى البحر الأحمر حول رأس الرجاء الصالح، أو تسلط الخوف عليه من ناحية الإنجليز، أو حرصه على تنمية العلاقات التجارية بينه وبين فرنسا، في وقت كان يعلم فيه أن الفرنسيين عاجزون عن الإفادة من أية تسهيلات قد يعطيها لهم - وقد عرض عليهم فعلا كما ذكرنا أن يبيعهم الغلال بأثمان مخفضة - وذلك بفضل ما للإنجليز من سيطرة مكينة في البحر الأبيض، بل إن الذي حفز محمد علي على الإدلاء بهذه التصريحات كان تقريره الاستعانة بالفرنسيين على تحقيق مشروع استقلاله، ذلك المشروع الذي عرف عنه «دروفتي» نفسه الشيء الكثير، أثناء مفاوضات عام 1807، التي انتهت بجلاء الإنجليز عن الإسكندرية.
فقد اعترضت مفاوضات الباشا منذ استئنافها مع الوكلاء الإنجليز بعد جلاء حملة «فريزر» صعوبات جمة، فلم تعر الحكومة الإنجليزية - كما عرفنا - آذانا مصغية لمقترحاته السياسية، ثم لم تلبث أن ظهرت بعض العراقيل أثناء مفاوضته الأخيرة مع «بلزوني»، وكان مبعثها محاولة «بلزوني» و«بريجز» اشتراط شروط رأى فيها الباشا مساسا بكرامته ورغبة في وضعه تحت الحماية الإنجليزية، الأمر الذي جعله يقسم أمام «دروفتي» أنه لن يتخلى عن واجبه نحو نفسه ونحو نظام حكومته. وعلى ذلك، فإنه ما إن انتهت مفاوضاته مع «بلزوني» و«بريجز» بعقد المعاهدة، التي وإن كان مجرد إبرامها - إذا جاء تصديق الحكومة الإنجليزية عليها - اعترافا عمليا بالوضع الذي يصبو إليه في علاقاته مع الدول الأجنبية، وخطوة ممهدة لاستكمال الوضع المشابه لما كانت تتمتع به وجاقات الغرب آنئذ؛ فقد جاءت خلوا من كل ارتباط سياسي يتصل بالمحالفة التي أرادها مع الإنجليز؛ لم يجد الباشا مناصا من محاولة الاستعانة بالفرنسيين، منافسي الإنجليز وخصومهم، على الظفر ببغيته.
وكان الباشا قد حرص على استبقاء حبل المودة موصولا بينه وبين الوكلاء الفرنسيين، بالرغم من رواج الشائعات الكثيرة عن عزم الفرنسيين على إرسال جيش كبير لغزو مصر، فلزم الحيطة والحذر في استعداداته العسكرية، حتى «سانت مارسيل» وغيره من مواطنيه، لم يخامرهم شك في أن الغرض من هذه الاستعدادات إنما هو الاحتراس من ناحية الإنجليز وغزوهم لهذه البلاد مرة ثانية، أكثر من الحيطة ضد فرنسا. ثم إنه كان قد حرص كذلك على استرضاء الوكلاء الفرنسيين في شئون التجارة، وأظهر استعداده دائما لتفسير الأسباب التي ألزمته بتصدير الغلال إلى مالطة، وهي الأسباب التي بادر هؤلاء بذكرها في تقاريرهم إلى حكومتهم يعللون بها هذا النشاط المنافي لصالح دولتهم، والتي كان منها على نحو ما عنى محمد علي بإبرازه خوفه من الغزو الإنجليزي، وحاجته إلى المال لإنجاز استعداداته العسكرية تهيؤا لدفع هذا الغزو إذا وقع، وزيادة على ذلك، فقد تظاهر بالرغبة في معاونتهم على اجتياز الأزمة التي أحدثتها مصادرة السفينة «لاروز» بسلام، أو تلك التي أثارها مسلك «الأب أرمننجيلد» المشين، ثم ها هو ذا يطلع «دروفتي» على ما يجول في ذهنه، ويبسط له مخاوفه من الإنجليز، ويظهر ندمه على إرسال أفريقية إلى مالطة، وتهدأ سورة غضبه فيبيح «لكادر» المضي في مهمته، ويزوده بالتوصيات لضباطه.
وقد خيل إلى الباشا، الذي وإن كان لم يركن إلى نوايا فرنسا نحوه، كما لم يركن إلى نوايا إنجلترة؛ فقد ظل يجهل سر نابليون، ولا يعرف شيئا عن استعداداته ومشاريعه، اللهم إلا ما نقله إليه الإنجليز عنها، وكان مفهوما عن هؤلاء أنهم خصوم الإمبراطور وأعداؤه الألداء، نقول إنه قد خيل إلى محمد علي أن بوسعه أن يجذب الفرنسيين إلى مؤازرته على بلوغ استقلاله، إذا هو - إلى جانب كل ما تقدم - لوح أمام أنظارهم بالمزايا التي يمكن أن تنتفع بها مصالحهم التجارية في مصر، وفاته أن الوكلاء الفرنسيين، علاوة على ما كانت تنتويه حكومتهم نحو مصر، كان لا مناص من أن ينظروا بعين الشك إلى طبيعة ما يجري من اتصالات بينه وبين الوكلاء الإنجليز خصومهم، وأن يعزوا إلى تحريض هؤلاء ومكائدهم كل مشروع يصدر من الباشا، ولا يتفق في أغراضه مع أهداف إمبراطورهم السياسية.
وعلى ذلك، فقد طلب محمد علي الاجتماع «بدروفتي »، وتحدث إليه في مشروع استقلاله، طالبا معاونة فرنسا في تحقيقه، فأبلغ «دروفتي» حكومته ما دار في هذا الاجتماع، في تقرير بعث به إليها من القاهرة في 28 نوفمبر 1810، جاء فيه:
إن محمد علي، وهو يتأهب للسفر إلى الإسكندرية، كي يشرف بنفسه - كما يقول - على شحنات الغلال التي يجب عليه إرسالها إلى القسطنطينية؛ قد رغب في أن أجتمع به اجتماعا سريا قبل رحيله، فكانت مقابلة طويلة، تناول الحديث في أثنائها الكلام عن مشاريعه التجارية في البحرين الأبيض والأحمر، ولا سيما رغبته - قبل كل شيء - في أن تكون لديه بالبحر الأبيض سفن تجارية، يسعها ممارسة حقوق الحياد في كل الأحوال، ولقد جعله النقاش حول هذا الموضوع يتطرق إلى الاعتراف بأنه ليس على صلات طيبة جدا بحكومته؛ أي الباب العالي، وأنه يريد من فرنسا موافقتها على أن يصير في مصاف وجاقات الغرب.
ولقد انتقل من ذلك في استطراد طويل، إلى الكلام عن المزايا التي بوسعه إعطاؤها للتجارة الفرنسية، ثم اختتم حديثه مطالبا إياي أن أوضح له ما إذا كان من المحتمل أو من غير المحتمل، أن تلقى المزايا التي يعرضها، والتي تنتفع بها التجارة الفرنسية قبولا لدى صاحب الجلالة الإمبراطور، ولما صار الباشا يلح علي في أن أجيب على تساؤله جوابا قاطعا، ذكرت له أن هذا أحد الشئون العليا التي يخرج تناولها عن نطاق عملي المكلف به لدى محمد علي، وأن كل ما أستطيع فعله هو أن أعده بإحالة هذا الموضوع على وزير الخارجية الفرنسية، ويبدو لي أن جوابي هذا كدره، فأظهر تحفظا في مقالته بعد ذلك، لم ألحظه عند بداية الحديث.
ويبدو مما ذكره لي قبل هذا التحفظ، أن الوكلاء الإنجليز قد أكدوا له نجاح المفاوضات التي سوف يجريها مع حكومتهم بشأن هذه المسألة، بل وأجزم أن لهم نصيبا كبيرا في جعله يقرر الذهاب إلى الإسكندرية؛ حيث ينتظرون بها وصول قنصل بريطاني جديد، هو مأمور السفارة البريطانية السابق بالقسطنطينية.
ولقد علمت أنهم؛ أي الوكلاء الإنجليز، معجبون بأنفسهم لنجاحهم في صرف الباشا عن الإصغاء لنصائحي، ويرجون بمجرد ذهابه إلى الإسكندرية أن يستطيعوا الظفر منه بتسهيلات كثيرة؛ لأخذ الحبوب، ولإنجاح كل عملياتهم الأخرى التجارية والسياسية. ومما يدعو للأسف أن الإنجليز قد اشتروا كل الرجال المحيطين بالباشا، ثم إنهم يدفعون الذهب كتضحية في سبيل تمكنهم من خديعته، وتحريضه على اتخاذ خطوات أفضت إلى توريطه دائما مع الباب العالي، فضلا عن تمكينهم من توثيق الصلة بين مصلحته وصوالحهم، وجبره على اعتبار الإنجليز وحدهم أصدقاءه المخلصين الذين في وسعه أن ينتظر بعض المساعدة منهم عند الحاجة.
ومع ذلك، فأملي كبير في أن يستطيع «سانت مارسيل» بفضل ما عرف عنه من غيرة ونشاط أن يثبت لدى محمد علي ذلك التحرز النافع الذي مبعثه إساءة الظن بالإنجليز، والذي منعه حتى الآن من الوقوع في الشرك الذي تنصبه له هذه الزمرة من الأعداء.
ذلك كان الأسلوب الذي عرض به «دروفتي» مقترحات الباشا على حكومته، ولقد كان من الواضح أن محمد علي في رغبته أن يكون لسفنه الحق في ممارسة حقوق الحياد، إنما أراد أن يظفر لباشويته بذلك الوضع الذي كان لوجاقات الغرب، والذي من خصائصه تمكين الوجاقات الثلاثة: طرابلس، وتونس، والجزائر، من التزام موقف الحياد إذا نشبت الحرب بين الدولة العثمانية صاحبة السيادة الاسمية عليها، وبين أية دولة أجنبية، فتسير سفن الوجاقات بأمان، تخفق عليها أعلامها، ودون أن تتعرض لخطر المصادرة. ولقد كان من مزايا الظفر بهذا الوضع المباشر لباشويته، عدم تعطيل نشاط الباشا التجاري، في وقت كثر فيه دخول السفن إلى ميناء الإسكندرية خصوصا، وخروجها منها محملة بالبضائع المجلوبة إلى مصر أو المصدرة منها، وعندما كان محمد علي يهتم ببناء أسطول تجاري يعمل في البحرين: الأبيض والأحمر؛ كي يستخدمه في نقل منتجات باشويته، فيستأثر هو بتجارة المرور، بدلا من أن يفيد من هذه أصحاب السفن الأجنبية، ثم إنه كان من مزايا الوضع الذي أراده لباشويته، تقرير الحكم الوراثي في أسرته في مصر، على نحو ما سبقت الإشارة إليه مرارا في هذه الدراسة.
ولكن «دروفتي» الذي لم يكن يجهل مشروع الباشا الاستقلالي، لم يجد في مقترحات محمد علي أثناء هذه المقابلة السرية ما يدعوه للفت نظر حكومته إليه جديا، سوى نشاط الوكلاء الإنجليز ومساعيهم للتأثير على بطانة الباشا بالرشاوى، وعلى الباشا نفسه بالهدايا حتى يجذبوه لتأييد مصالحهم، واعتبر مشروع محمد علي الذي يمكنه من الوقوف موقف الحياد في علاقاته مع الباب العالي والدول الأوروبية عند قيام حالة حرب بين تركيا والدول، من وحي الإنجليز أنفسهم الذين يبغون توريط محمد علي مع الباب العالي، لبواعث اعتقد «دروفتي» أنها لا بد متصلة بمصالحهم السياسية والتجارية فحسب، وكان مما أيد هذا الرأي لديه ما قاله محمد علي نفسه، من أن الوكلاء الإنجليز يؤكدون له موافقة حكومتهم على أن تكون لديه سفن تجارية بالبحر الأبيض يسعها ممارسة حقوق الحياد في كل الأحوال.
وفضلا عن ذلك، فقد كان «دروفتي» صاحب آراء محددة عن حكومة محمد علي من ناحية، وعن أساليب الباشا السياسية من ناحية أخرى، من حيث إن هذه الحكومة لم تكن متمتعة بذلك الاستقرار الذي يخول الباشا التطلع إلى الاستقلال المنشود، ومن حيث إن هذه الأساليب كانت تهدف إلى مداورة واسترضاء الدول الأوروبية جميعها، ولا يمكن الاطمئنان لذلك إلى سياسته، بل ينحصر نشاط الباشا في باشويته، ولا يتعدى أفق سياسته حدود هذه الباشوية ذاتها. وبنى «دروفتي» رأيه هذا، على تجاربه الطويلة في هذه البلاد، وعلى وقوفه على مجريات الأمور بها، لا سيما في الفترة التي تلت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية.
وقد بسط «دروفتي» وجهة نظره هذه منذ أوائل عام 1808، في تقرير مسهب عن الموقف في مصر، بعث به في 8 أبريل، إلى «تاليران» برنس ودوق دي بنيفنتو
Benevent
وزير الخارجية الفرنسية، فقال: «... وأما فيما يتعلق بالباشا فإنه يعتبر نفسه لا أقل من أمير مطلق السلطة، بالرغم من قوله إنه عبد لجلالة السلطان المعظم، وبينما يصدر أوامره لمرءوسيه بتنفيذ المعاهدات القائمة بين الحكومات الأوروبية والباب العالي، فهو لا يدع الفرصة تمر دون إظهار أن هذه الأوامر إنما تصدر عن تلك السيادة التي يمارسها، ويتوقف إصدارها على إرادته هو وحده، والمبدأ الذي يطغى على سياسته، هو دائما مراعاة خواطر جميع الدول، دون تمييز إحداها على الأخرى، وإذا شاء جلالة الإمبراطور مراجعة التقارير التي كان لي شرف تقديمها إلى السفارة الفرنسية بالقسطنطينية خلال عام 1807، لاتضح له أنه ليس لمحمد علي أي اتجاه أكيد في علاقاته مع الوكلاء الأوروبيين، فلا تتعدى سياسته حدود مصر التي يقول إنه إنما صار سيدا عليها بحد حسامه، والتي يقول إنه إنما يبغي قضاء حياته بها، وأن يكون مماته ودفنه بها.
ومع ذلك، فإن ادعاءات السيادة هذه لم تنجح حتى هذه اللحظة في تحريره من تلك التبعية التي يفرضها عليها جيشه، ذلك الجيش الذي هو مستعد دائما للتمرد والعصيان من أجل مرتباته المتأخرة، ولقد جعلته هذه الحقيقة أكثر من أي شيء آخر يبذل قصارى جهده لإنهاء خلافاته مع البكوات المماليك بأية وسيلة كانت، فقد كان يريد الذهاب إليهم على رأس جنده قبل الحوادث التي وقعت في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 1807 - ويشير هنا إلى تمرد الجند وقتذاك، وكان حادثا سوف يأتي ذكره - حتى يملي شروط الصلح عليهم في البلاد التي يوافق اليوم على تركها لهم.
ويبدو لي أنه لا معدى عن عرض هذه الأمور، لما تنطوي عليه من دلالة على أن الموقف في مصر سوف يظل دائما دون تغير وعلى حاله، فيما يتعلق بتلك الحكومة التي سوف تخضع دائما لكل تلك المتاعب المنبعثة من عدم استقرارها، ووجود تلك المنازعات الحزبية التي تحيط بها، ولا مفر من أن يشعر الإفرنج بالصدمات التي تنجم عن مثل هذه الحالة التي يسودها اختلال النظام، ومن واجب القناصل كذلك أن يعتمدوا على ما يستطيعون الآن وفي المستقبل أن ينالوه من نفوذ بتدبيرهم الشخصي، أكثر من اعتمادهم على الامتيازات والاحترام الذي تضفيه عليهم طبيعة مهمتهم.
والمصريون في حال يبعث على أبلغ الأسى، فالضرائب القاسية في الصعيد والوجه البحري، والمظالم وبعثرة الأموال قد أرهقت المزارعين واضطرتهم إلى الشحاذة، كما ألقت بهم في مهواة اليأس والقنوط.»
وأما اعتقاد «دروفتي»، بأن تشبث محمد علي بمشروع استقلاله من وحي الإنجليز، فكان اعتقادا قديما رسخ في ذهنه، منذ أن شهد توثق الصلات بينه وبينهم، بسبب تجارة القمح، وزيادة نشاط الوكلاء الإنجليز، وبخاصة دسائس السيد «بتروتشي»، فكتب قبل مقابلته السرية مع محمد علي ببضعة شهور، ومنذ 12 مارس 1810، إلى «شامباني» وزير الخارجية الفرنسية: أن الوكلاء الإنجليز «يعملون على زيادة تمسك محمد علي بمشروعه المحبب إليه، ألا وهو التخلص من سيادة الباب العالي، والارتقاء بباشويته إلى مصاف الدول البربرية (وجاقات الغرب)، وقد اجتهدوا في تملقه وإرضاء عاطفته المنبعثة عن الشعور بالكرامة الذاتية، بأن صاروا يعدون بترك راية ملك مصر تخفق في البحر الأبيض، فتتمتع جميع السفن التي تحمل هذه الراية بكل الامتيازات التي للمحايدين، ولو أنهم علقوا ذلك بشرطين، رفض الباشا الإذعان لهما، أولهما: السماح لسفن الحرب الإنجليزية بالدخول إلى ميناء الإسكندرية القديمة، وثانيهما: طرد الوكلاء الفرنسيين.
ولقد كان بفضل هذه المناورات، أن حصل الإنجليز - على الأقل - على الغلال لتصديرها إلى مالطة، ريثما تنتهي هذه المفاوضات إلى نتيجة.
وحيث إني لم أعرف ظروف هذه المحاولات والدسائس السرية، إلا بطريق ما كان يصلني من تقارير متفرقة ولا رابط بينها، فقد تعذر علي حتى الآن الوصول إلى فكرة صحيحة ودقيقة بالدرجة التي تتيح لي المجازفة بإبداء رأي عن النتيجة التي قد تسفر هذه المحاولات عنها، ولكنني أجد لزاما علي بالرغم من ذلك، أن أذكر أن الوكلاء الإنجليز منذ أن صار من المتوقع قطع العلاقات بين تركيا وإنجلترة قريبا، قد كفت لجاجتهم في ذلك الموضوع الذي اعتادوا دائما تقديمه على كل ما عداه من الموضوعات التي تناولها حديثهم، وأعني بذلك خوفهم من الأسطول الذي يتأهب في طولون للانقضاض على مصر، ثم إنهم صاروا إذا تحدثوا عن الاستعدادات التي تجري في موانيهم هم أنفسهم يبذلون قصارى جهدهم لتحويل انتباه الباشا إلى نواح أخرى، بإعلانهم أن الغرض من هذه الاستعدادات إنما هو إرسال أساطيلهم إلى البرتغال وكرفو.»
وقد ذكر «دروفتي» الأسباب التي حفزت الإنجليز ووكلاءهم - في رأيه - على تشجيع محمد علي على التمسك بمشروعه الاستقلالي ، والدخول معه في مفاوضات سرية تهدف إلى تحقيق هذا الاستقلال، الذي يرقى بباشويته إلى مصاف وجاقات الغرب، والتمويه عليه - في نظر «دروفتي» - فيما يتعلق بالغرض من الاستعدادات التي تجري في موانيهم، فقال في نفس رسالته هذه، «وإنما لمما يبدو لي أن هذه الوقائع (السالفة الذكر، والتي بسطها في تقريره) إنما تنهض دليلا على أن الحكومة البريطانية ما زالت متمسكة بمشاريعها العدوانية على مصر، ومن الممكن لذلك أن تتجدد نفس الظروف التي مرت بي من هنا في عام 1807.»
وعلى ذلك، فإنه لم يكن من المنتظر، وتلك آراء «دروفتي» عن حكومة محمد علي وقتئذ، وعن مشروع استقلاله، أن توافق حكومة الإمبراطور في باريس على تحرر محمد علي من سيادة الباب العالي، بالدرجة التي تمكنه من إنشاء باشويته أوجاقا من طراز وجاقات الغرب، ناهيك بمشاريع نابليون نفسه وذلك السر الذي لم يشأ التخلي عنه، فقد صمت «الدوق دي كادور» عن مشروع هذا الاستقلال في التعليمات التي أصدرها إلى «دروفتي» في 30 يونيو 1810، ولم يسترع انتباهه، من تقرير 12 مارس، سوى مكائد الإنجليز ومؤامراتهم، ولم يتبدل موقف حكومة الإمبراطور، من مشروع محمد علي طوال هذا العام (1810)، أو خلال العامين التاليين؛ أي في السنوات التي تتناولها هذه الدراسة.
ومع أن محمد علي قد حاول استرضاء الوكلاء الفرنسيين، بأن صار يعرض عليهم بيع غلاله للحكومة الفرنسية، بثمن يقل بمقدار الربع عما يبيع به لحسابه الخاص في المواني الألمانية التي تزود جزيرة كرفو بحاجتها من الغلال، وهي التي يعلم أنها تشكو كغيرها من المجاعة، فقد ظل «دروفتي» ينقم على الباشا نبذه لأوامر الباب العالي التي تمنع تصدير الغلال للإنجليز، وهم الذين سلكوا في هذه المسألة مسلكا لم يتوخوا منه - على الأقل - المحافظة على المظاهر، وذلك في الوقت الذي يبغون فيه - على حد قول «دروفتي» - العيش في سلام مع الباب العالي بكل وسيلة، واعتقد الوكيل الفرنسي أن محمد علي لا يزال على عهده مع الإنجليز الذين قال إنهم «يدفعونه دفعا إلى المضي في طريق لا شك في أنه يفضي إلى توريطه مع الباب العالي، وإلى تسويء العلاقة بينه وبين صاحب السيادة الشرعية عليه إلا إذا كان الديواني العثماني - كما افترض «دروفتي» تعليلا لعدم تأزم الأمور بين الفريقين بسبب نبذ الباشا لأوامر القسطنطينية - قد اتبع نفس السياسة المتقلبة والمتلونة التي طالما جعلته يزود الرسول (الذي يبعث به إلى الولاة) بفرمانين في وقت واحد، يلغي أحدهما الآخر.»
وشكا «دروفتي» من نفاق الإنجليز من جهة، ومضي الباشا في التعامل معهم من جهة أخرى، فقال في رسالته إلى «شامباني» في 27 مارس 1811، «إنه لمما يبعث على السخرية أكثر من أي شيء آخر، أن يعمد الإنجليز إلى لصق إعلان على باب القنصلية البريطانية بالإسكندرية، يقولون فيه: إنه قد صار ممنوعا من الآن فصاعدا اعتماد هذه القنصلية لأوراق السفن المشحونة بالحبوب لغرض تصديرها إلى مالطة ... إلخ؛ بناء على أمر السفارة الإنجليزية بالقسطنطينية الصادر في 25 أكتوبر 1810، بينما يشاهد المرء في الوقت نفسه قوافل تأتي من هذه الجزيرة تحرسها سفن الحرب البريطانية، وذلك من أجل أخذ الغلال إلى مالطة، وبينما يشاهد المرء بعد ذلك السيد «ماثوس»
Mathos
وقد كان من موظفي هذه السفارة ذاتها، بمجرد نزوله إلى البر يبدأ المفاوضة مع الباشا لشراء كميات عظيمة من الحبوب.» ثم استطرد «دروفتي» يعلق على ذلك كله بقوله: «ومن المحتمل أن يكون الإنجليز الذين أصبحوا مجردين من كل الوسائل التي زودهم بها المماليك حتى الآن لإثارة الحرب الأهلية والفوضى في مصر، قد صاروا اليوم يبذلون الجهد لتوريط الباشا مع حكومته؛ أي الباب العالي؛ كي يستطيعوا يوما ما سوقه لاتخاذ خطوات، تنتفع بها مشاريعهم العدوانية التي ما فتئوا يدبرونها ضد هذه البلاد. ولقد كان ذلك ما دفعني - كواجب مفروض علي - لتحذير الباشا، الذي قال إنه محتاط لتجنب الوقوع في هذه الفخاخ المنصوبة، ومهما لوحظ من عدم انطباق في مسلك الباشا بين أقواله وفعاله، فالصحيح دائما أنه وإن استجاب بارتياح دائما لمطالب أعدائنا؛ أي تصدير الغلال للإنجليز والتجارة معهم، فهو إلى جانب هذا قد كلفهم ثمنا غاليا، نال من ماليتهم كثيرا. ومنذ أن اتضح لي استحالة إقناع الباشا بحرمان نفسه من تلك الموارد التي تأتيه من هذه التجارة، فقد صار هدفي الذي أبذل قصارى جهدي دائما لتحقيقه، هو دعم أسعار الغلال وعدم تقلبها بقدر الاستطاعة»؛ وذلك لفائدة التبادل التجاري الضئيل وقتئذ مع فرنسا، وتموين الحامية الفرنسية بجزيرة كرفو.
وبالرغم من تحذير «دروفتي» للباشا من ناحية الإنجليز، ونصحه له، فقد مضى محمد علي - كما سبقت الإشارة إليه - في توثيق صلاته بهم، سواء كان مبعث هذا - على نحو ما كتب «سانت مارسيل» في 3 يوليو 1811 - ما تدره عليه تجارة الغلال معهم من أرباح طائلة، أو استناده على مؤازرتهم في تحقيق أطماعه الاستقلالية، وقد تناول «سانت مارسيل» الموضوع مرة أخرى في رسالته التي سبقت الإشارة إليها، إلى حكومته في 13 يوليو.
ثم راح يؤكد في رسالة تالية في 14 يوليو: «أن السبب الرئيسي فيما هو قائم من صلات بين الباشا والإنجليز، إنما هو اتجار باشا مصر بالغلال مع مالطة، ثم هناك ما يدعوني إلى الاعتقاد كذلك، بأن استمرار هذه التجارة، مع ما في ذلك من خرق حتى لأوامر الباب العالي، إنما هو نتيجة لما تفرضه على الباشا تلك النصوص التي تضمنتها المعاهدة السرية التي أبرمت مع الإنجليز وقت انسحابهم من مصر في عام 1807.»
ثم إنه لم تلبث أن نشأت أزمة من طراز تلك التي أثارها حادث المركب «لاروز» في عام 1808، سببت امتعاض الوكلاء الفرنسيين من محمد علي، وأظهرت حرص الباشا على استرضاء الإنجليز وعدم تكدير خواطرهم، غير آبه لما قد يلحق بالمصالح الفرنسية من أذى نتيجة لهذا المسلك، ولم يسع الوكلاء الفرنسيين سوى مداراة الباشا لتجنب الاصطدام معه، في وقت تزايدت فيه مشاغل الإمبراطور وتفاقمت مشكلاته في أوروبا من ناحية، ووجب على هؤلاء الوكلاء استرضاء محمد علي حتى يبعث بغلاله لتموين الفرنسيين في كرفو من ناحية أخرى.
وأما تفصيل هذه الأزمة الجديدة، فهو أن إحدى سفن القرصان النابوليتانية، وتدعى «روا دي روم»
Roy de Rome ، كانت قد «غنمت» بالقرب من مالطة، سفينة ترفع علما إنجليزيا محملة شحنة من الأنبذة وغيرها من سيفالونيا - إحدى جزر الأيونيان - إلى مالطة، وكان قبطان سفينة القرصان «أنطوان ميشيل»
Antoine Michel
من ضباط بحرية «جلالة ملك الصقليتين» يواقيم مورا
Joachim Murat ، الذي خلف يوسف بونابرت ملكا على هذه المملكة التي أقامها نابليون في شبه الجزيرة الإيطالية، فذهب القرصان إلى ميناء طرابلس الغرب ليبيع غنائمه بها، ولكن يوسف القره مانلي، باشا طرابلس، لم يسمح ببيع الغنائم، لصداقته مع الإنجليز، تلك الصداقة التي أفضت بعد ذلك إلى عقد معاهدة سلام معهم (في 10 مايو 1812) تجددت بفضلها المعاهدات القديمة التي عقدها هذا الوجاق مع بريطانيا؛ وعلى ذلك فقد غادرت «روا دي روم» طرابلس إلى الإسكندرية لبيع البضائع والسفينة المصادرة، فبلغت ميناء الإسكندرية في 12 أغسطس 1811، ولكن «مسيت» بوصفه قنصلا بريطانيا، لم يلبث أن تدخل لمنع بيع هذه «الغنائم الإنجليزية» فنشأت الأزمة.
واستند «مسيت» في معارضته هذه إلى أن معاهدة امتيازات جديدة قد عقدت حديثا بين حكومته والباب العالي، تنص إحدى موادها خصوصا على منع بيع أية غنائم إطلاقا في المواني العثمانية، وقد ترتب على هذه المعارضة أن قرر حاكم الإسكندرية، عدم إنزال البضائع إلى البر، حتى تأتي أوامر الباشا، الذي أحال عليه هذه المسألة، فأبلغ «سانت مارسيل» الأمر إلى «دروفتي». ولما كان محمد علي بالسويس وقتئذ، فقد أوفد «دروفتي» إليه «مانجان»، وأصدر الباشا أمره بعدم المعارضة في بيع الغنائم، وتحدى «مسيت» هذا الأمر، فلصق إعلانا على باب القنصلية الإسبانية - وعداء «كامبو أبي سولر» القنصل الإسباني لفرنسا معروف - يحذر فيه الجمهور من شراء البضائع والسفينة المصادرة، بالرغم من إجازة الحكومة المحلية - كما قال الإعلان - «بيع هذه الغنائم التي استولت عليها سفينة القرصنة «روا دي روم» من الإنجليز»، وينذر باتخاذ إجراءات قضائية فورا ضد من يقدم على ذلك لرد البضائع المشتراة على غير وجه حق، أو دفع قيمتها إذا حصل التصرف فيه وتعذر إحضارها.
ولكن أوامر جديدة لم تلبث أن وصلت حاكم الإسكندرية خليل بك، تلغي الأوامر السابقة، وتمنع البيع؛ فقد بادر «مسيت» بإرسال احتجاجاته إلى محمد علي، وكان موجودا بالسويس وقتئذ «الشيفالييه بالان»
القائم بأعمال البعثة الدبلوماسية السويدية في القسطنطينية ، وكان هذا قد قدم لزيارة الآثار في مصر، ثم ذهب لمقابلة الباشا في السويس، فرأى الباشا استشارته، فقال «بالان»: «ولو أنه يجهل ما يحدث خارج القسطنطينية، إلا أنه يعلم أنه محرم على الإنجليز والفرنسيين بيع الغنائم في القسطنطينية»، فكان هذا الرأي كافيا - على نحو ما شكا الوكلاء الفرنسيون - لأن يلغي محمد علي أمره السابق ويحيل المسألة على القسطنطينية حتى يفصل فيها الباب العالي. وتعجب «دروفتي» كيف يدعي «بالان» الجهل بما يجري خارج القسطنطينية، وهو الذي يعلم أن القراصنة الفرنسيين يجلبون غنائمهم التي يصادرونها من الإنجليز إلى مينائي شيوز وسالونيك لبيعها فيهما، ولكن «دروفتي» نفسه راح في كتبه إلى حكومته في 5 سبتمبر 1811 يعلل السبب الذي حدا بالسيد «بالان» لإبداء الرأي المتقدم، فقال: «إن «بالان» هو الذي عين قنصلا عاما للسويد في مصر وسمح بأن يمثلها بها السيد «بتروتشي» المشهور الذي ورد اسمه كثيرا في التقارير التي بعث بها إلى حكومته، وهو العدو الألد لفرنسا، والوكيل ذو الحماسة العظيمة للحكومة الإنجليزية في مصر.» ثم إن «سانت مارسيل» بادر بإبلاغ «لاتور موبورج» بالقسطنطينية ما حدث؛ حتى يتوسط لدى الباب العالي لاستصدار أمر لمحمد علي بعدم الممانعة في بيع الغنائم.
وقد سببت مسألة السفينة «روا دي روم» امتعاض واستياء الوكلاء الفرنسيين من محمد علي، الذي يريد تضحية مصالح دولتهم، لقاء استرضاء أصدقائه الإنجليز، والذي - حتى يجد مخلصا من مواجهة الموقف بنفسه فلا يثير بتصرف قد يأتيه غضب الإنجليز أو أعدائهم الفرنسيين منه - قد أحال هذا الموضوع إلى الباب العالي، مع ما في ذلك من تعطيل لنشاط القراصنة الفرنسيين الذين سوف يمتنع عليهم بيع الغنائم التي يصادرونها من الإنجليز في المواني المصرية حتى يأتي قرار الباب العالي، وقد يطول الزمن قبل أن يأتي هذا القرار كما هو معروف عن بطء الديوان العثماني وتردده، وقد يصدر هذا القرار في غير صالح الفرنسيين بسبب تقلب الباب العالي.
ولقد كانت الدعاوى التي تذرع بها «مسيت» لوقف بيع غنائم السفينة «روا دي روم» على جانب كبير من الخطورة؛ لأنه إذا صح قول «مسيت» إن معاهدة امتيازات قد عقدت من مدة قريبة بين حكومته والباب العالي، تنص إحدى موادها بصورة خاصة على منع بيع أية غنائم في مواني الدولة العثمانية، لأفاد الإنجليز وحدهم من هذا الخطر، ووقع الغرم على الفرنسيين فحسب، ذلك أن الإنجليز كان في وسعهم - على نحو ما شرح «سانت مارسيل» لوزير الخارجية الفرنسية في 26 أغسطس 1811 - أن يذهبوا بغنائمهم بكل سرعة إلى القاعدة القريبة من «الليفانت» التي لهم، وهي مالطة، بينما تبعد المواني الفرنسية عن «الليفانت»، ويتعذر على القراصنة الفرنسيين لذلك الوصول إليها بسرعة أو دون التعرض لمطاردة الأسطول الإنجليزي لهم، ومعنى هذا أنه صار ممنوعا على هؤلاء، التجول في مياه الليفانت مما يترتب عليه أن تحظى تجارة الإنجليز في هذه الجهات بكل أمن وسلام، فتزيد انتعاشا أكثر مما هي عليه الآن.
واعتقد الوكلاء الفرنسيون أن الواجب كان يقتضي محمد علي أن يذكر حسن صنيع فرنسا معه، من جهة، وما للباب العالي من أفضال سابقة عليه من جهة أخرى، وهو الذي يعتمد في بقائه في باشويته على رضائه، ويدين له بالطاعة بوصفه تابعا له، فلا يبادر بإجابة مطالب الوكلاء الإنجليز ويقبل على تنفيذها قبل أن تصله أوامر الباب العالي الصريحة والقاطعة في هذه المسألة، وأنه ما كان ينبغي للباشا أن يتعلل بضرورة انتظار أوامر الباب العالي، وهو الذي لا يجهل - كما قال «سانت مارسيل» - أن القراصنة الفرنسيين كثيرا ما يأتون بغنائمهم إلى مواني الدولة العثمانية، ولا يلقون معارضة ما في بيعها «فهل تغدو مصر يا ترى كتونس وطرابلس الغرب التي يؤكدون لي أن البايات والباشوات في هذه الوجاقات قد بدءوا يستمعون لما يقوله الإنجليز؟»
وساء الوكلاء الفرنسيين أن يغض الباشا نظره على اجتراء «مسيت » على الانتقاص من سلطته، وتحدى أوامره لرجال حكومته، فيرضى بأن ينشر «مسيت» ذلك الإعلان الذي تهدد وتوعد فيه كل مشتر لغنائم «روا دي روم» بالمقاضاة، وبالرغم من الأوامر التي أصدرها الباشا إلى حاكم الإسكندرية بإجازة بيع هذه الغنائم، فقال «سانت مارسيل»: إن عمل «مسيت » هذا كان فيه إضعاف لسلطان الباشا، ومع ذلك فإنه لم يعترض عليه. واستخلص «سانت مارسيل» من هذا الحادث «أن الإنجليز قد صاروا مسيطرين على مصر، التي يأخذون منها كل غلالها لتموين وإعاشة أعداء فرنسا، والذين لم يكفهم الحصول على هذه المزايا، فأجبروا الباشا على الرضوخ لإرادتهم، حتى يمنع بيع غنائم تافهة صادرها القراصنة النابوليتان وأتوا بها إلى هذه البلاد.» ثم استطرد يقول: «وهكذا يظل الإعجاب والتحيز لكل ما هو إنجليزي في زيادة مطردة في مصر، ولا يمحو من أذهان الفرنسيين المقيمين بهذه البلاد ما يتحملونه من إهانات سوى حقيقة أنهم ينتمون لتلك الأمة المجيدة التي يتبوأ عرشها أعظم الأبطال جميعا.»
واستمرت مسألة هذه الغنائم معلقة مدة طويلة، حدث في أثنائها أن قبض إبريق إنجليزي على «روا دي روم» بالقرب من قبرص في سبتمبر 1811، ثم إنه كان في شهر أكتوبر أن أبلغ «لاتور موبورج» من القسطنطينية «سانت مارسيل» أن الباب العالي قد أصدر أمرا إلى محمد علي؛ حتى لا يضع أية عراقيل في سبيل بيع الغنائم، ولكن الباشا نفى «لدروفتي» وصول هذا الأمر إليه، حتى إذا كان شهر مارس 1812، حضر قبطان «روا دي روم» نفسه، مزودا برسالة من كتخدا الباشا بالقسطنطينية لإجازة البيع، وكان القبطان «أنطوان ميشيل» بعد أن أطلق سراحه الإنجليز قد ذهب إلى القسطنطينية، فأحدثت رسالة كتخدا الباشا الأثر المطلوب، فأجاز محمد علي البيع، ولكن على شريطة أن يمتنع من الآن فصاعدا إحضار أية غنائم وبيع أية غنائم سواء كانت فرنسية أو إنجليزية في مواني الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن قرار محمد علي في صالح الفرنسيين للأسباب التي سبقت الإشارة إليها.
بيد أنه لم يكن في وسع الوكلاء الفرنسيين مهما بلغ بهم الكدر والاستياء، إغضاب محمد علي، ليس فقط لأن مشروع الغزو الفرنسي لمصر لم يتحقق، على الرغم من الإشاعات التي استمرت تذيع وقتئذ عن الحشود المستعدة في هذه البلاد، وليس لأنه كان من العبث تكدير الباشا في موضوع لم يقم أي دليل على أنه مستعد لتلبية رغبتهم فيه، ووقف تعامله مع الإنجليز أو تصدير غلاله إلى مالطة، بل وكذلك لأن الفرنسيين أنفسهم كانوا يريدون أن يمون الباشا بالغلال حاميتهم في كرفو.
فقد سأل «دروفتي» الباشا أن يبعث ببعض السفن المحملة بالغلال إلى كرفو، وأجاب الباشا سؤله، فأشرف منذ أغسطس 1811، أحد التجار الفرنسيين بالقاهرة ويدعى «منتل»
Mentel
على حركة التصدير إلى كرفو، وفي الشهر نفسه غادرت سفينة مجرية الإسكندرية إلى دمياط، لتبحر منها إلى كرفو بعد شحنها، وقد غادرت هذه دمياط في الشهر التالي محملة بالغلال، لبيعها لحساب الباشا هناك، وعقد الوكلاء الفرنسيون آمالا كبيرة على أن يتبع هذه السفينة غيرها، طالما لم يقع من يغير عواطف الباشا الطيبة، ولكنه حدث أن فضل قبطانها الذهاب بشحنته إلى سيفالونيا؛ حيث رجا الظفر بربح أوفر، ولم يسلم للمندوب التجاري الفرنسي في كرفو، وهو «ماثيو لسبس» سوى مبلغ صغير من الأثمان التي حصلها، كان على «ماثيو لسبس» أن يبتاع بها زيوتا للباشا في نظير الغلال التي أرسلها.
ولما كان «ماثيو لسبس» عند توقعه العودة إلى مصر قنصلا عاما بها، قد أعد أسلحة في ليفورنة ليحملها معه هدية إلى محمد علي، فقد قرر الآن إرسال هذه الهدية إلى الباشا؛ ضمانا لذلك الشعور الطيب الذي أبداه من حيث تصدير غلاله إلى كرفو، وحتى يزيد ورود الغلال إليها، وذلك كما قال «ماثيو لسبس» إلى جانب ما اشتراه من زيوت للباشا، بذلك القدر الضئيل المتبقي من الأثمان التي يبعث بها غلاله، ووافق وزير الخارجية الفرنسية «الدوق دي بسانو»
Bassano
على هذا الرأي، وطلب هذا بدوره من «دروفتي» في 21 مارس 1812، عند وصول هذه الهدية أن يقوم بتقديمها للباشا إذا وجد الظروف مناسبة لفعل ذلك، كدليل على ما تكنه له الحكومة الفرنسية من تقدير واحترام، وما ترجوه له من تمنيات طيبة. ثم إن الوزير لم يلبث أن أضاف إلى ذلك قوله مخاطبا «دروفتي»: «ولدي ما يحملني على الاعتقاد بأن هذا الاهتمام البادي من جانبنا سوف يكون له وقع طيب في نفس محمد علي، ولا أشك في أنك سوف تفيد من هذه المناسبة؛ لحمله على إرسال شحنات أخرى من الغلال إلى كرفو حسب وعده لك.» ثم حذر الوزير «دروفتي» بعد حادث قبطان السفينة الأخيرة، من تكليف قباطين غير موثوق بأمانتهم كل الوثوق بالذهاب بهذه الشحنات إلى كرفو.
وقد حرص «ماثيو لسبس» على أن تصل هدية الأسلحة هذه في سلام وأمان إلى الباشا، فطلب أن يبعث محمد علي بمن يتسلمها باسمه من يانينا أو بريفيسا، وأبلغ «دروفتي» محمد علي خبر هذه الهدية، فكان لهذا النبأ وقع حسن لديه، ولكن «دروفتي» الذي اعتقد أن من العبث أن يتوقع إنسان أن تقف هذه الهدية ما يظهره الباشا من صداقة وتحيز للإنجليز؛ حيث إنه يؤثر نفعه المالي على كل ما عداه عمد إلى تعليل إهدائه هذه الهدية، بأنه اعتراف من حكومته بحسن صنيعه في تموين كرفو، وتعويض له عن الخسائر التي تكبدها في هذه الصفقة. وفي كتابه إلى «الدوق دي بسانو» في نوفمبر 1812 قال «دروفتي» يبرر ما فعله: «إن هذه الطريقة - على ما يبدو له - تتلاءم وحدها مع ما يأخذ به الباشا من آراء نفعية، وفضلا عن ذلك، فإنها تبقي قائمة شكاوانا السابقة، حتى إذا حدث ما يدعو لإبرازها أمكن بعثها ضده.»
كتب «دروفتي» هذه الرسالة في 28 نوفمبر 1812؛ أي بعد أن كان محمد علي قد فرغ من تذليل الصعوبات الداخلية التي اعترضت توطيد باشويته في مصر، ثم تسنى له دعم أركان الولاية، منذ أن قضى على العناصر المناوئة لسلطانه وأجهز على البكوات المماليك في مذبحة القلعة في مارس من العام السابق - كما سيأتي ذكره - ونجح في إزالة سخط الباب العالي عنه بإنفاذ ولده طوسون باشا على رأس الحملة الموجهة لقتال الوهابيين في الحجاز. ولم يبد علاوة على هذا كله أن نابليون - وقد اندحر في غزوه لروسيا - سوف يقدر على غزو مصر مرة أخرى، ومع ذلك، فإن ما ذكره «دروفتي» لتبرير الطريقة التي أبلغ بها الباشا نبأ هدية الأسلحة، من حيث إنها تكفل بقاء الشكاوى السابقة قائمة لبعثها ضد محمد علي عند الحاجة لإبرازها لينهض دليلا على أن الفرنسيين كانوا لا يزالون يتوقعون حتى هذا الوقت المتأخر أن يغزو إمبراطورهم هذه البلاد، بل إن الإشاعات - على نحو ما أشرنا - قد ظلت قوية طوال هذه الفترة، وبخاصة في أواخر عام 1810 وأوائل العام التالي، عن توقع مجيء الفرنسيين القريب لغزو البلاد؛ ولذلك فإنه وإن كان الوكلاء الفرنسيون قد حرصوا على استبقاء صلات المودة مع محمد علي، وعنيت حكومة الإمبراطور في باريس بإظهار تقديرها واحترامها لمحمد علي، وتمنياتها الطيبة له، فقد كان من الواضح أن فرنسا لن توافق بحال من الأحوال على مشروع استقلال محمد علي.
ولقد كان لموقف فرنسا هذا من مشروع الاستقلال، إلى جانب موقف إنجلترة منه، أكبر الأثر في تقرير محمد علي أن يطرق الباب المتبقي له؛ أي اللجوء إلى صاحب السيادة الشرعية عليه، وهو السلطان العثماني، لعله يظفر منه مباشرة بذلك الوضع الذي أراده لباشويته حتى تصبح هذه وجاقا من طراز وجاقات الغرب، على أساس الاعتراف بالحكم الوراثي في أسرته. ولكنه مما يجب ملاحظته، أن هذا الاتجاه صوب تركيا قد بدأ قبل اتضاح فشل جهود محمد علي مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في المسألة التي تذرع بها للظفر بمأربه، وهي أن يكون لسفنه الحق في الملاحة تحت رايته هو، أو بالأحرى تحت راية الوجاق المصري، حتى يتسنى لها التمتع بصفة المحايد فلا تتعرض لها أساطيل العدو، في حالة الحرب بين تركيا والدول الأجنبية، فقد سارت مساعيه لدى الباب العالي من أجل الحصول لباشويته على وضع مشابه لوضع وجاقات الغرب في نفس الوقت الذي جرت فيه مساعيه لهذه الغاية مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في مصر.
وثمة حقيقة أخرى، فقد اتضح للباشا أثناء مفاوضته مع الإنجليز والفرنسيين، كما استطاع أن يدرك من مجريات الأمور في أوروبا، أن الدول بسبب انشغالها بالنضال العنيف مع نابليون في القارة، ما كانت تريد أن تتكدر علاقاتها مع تركيا، وهي التي أتاح لها عقد الصلح مع إنجلترة في يناير 1809، استئناف المحاولة من أجل تحقيق رغبتها؛ أي الوقوف موقف الحياد من النضال الدائر، وكان بعد لأي وعناء أن أنهت في 28 مايو 1812 معاهدة بوخارست الحرب بين تركيا وروسيا، وأدرك محمد علي أن الإقدام على انتزاع استقلاله من الباب العالي عنوة، دون أن يجد ظهيرا له من بين الدول الأوروبية، مغامرة خاسرة؛ ولذلك فقد كان لهذه الحقيقة وزن في تشكيل علاقاته مع الباب العالي، منذ جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، إلى عام 1811؛ أي إلى نهاية هذه الفترة التي نحن بصدد دراستها. (8) الاتجاه صوب تركيا
والحقيقة أنه تضافرت - عدا ما ذكرنا - عوامل عدة لتكييف العلاقات التي سادت بين محمد علي والباب العالي في هذه الفترة (1807-1811)، مرد طائفة منها إلى ما صح عليه عزم محمد علي من البقاء والاستقرار في مصر، والظفر بالباشوية الوراثية، ومرد بعضها الآخر إلى حذر الباب العالي من ضياع هذه الولاية المصرية من الدولة، سواء حصل ذلك نتيجة لغزو أجنبي أو لعصيان الباشا ونبذ السيادة العثمانية، أضف إلى هذا أن الباب العالي قد اعتبر أن من حقه على الباشا أن ينهض هذا بوصفه تابعا له، ومتمسكا بالولاء لصاحب السلطان الشرعي عليه لتلبية مطالب الديوان العثماني، فيما فيه المحافظة - في الواقع - على كيان الإمبراطورية العثمانية وتجنيبها الأخطار التي تهددتها.
وكان من أثر هذه العوامل، أن تميزت العلاقات بين الباشا والباب العالي في هذه الفترة، بالتقلب والتغير، فهي تارة تكدرها الشوائب، وأخرى تتسم بطابع التفاهم، وفي كل الأحوال لحمتها وسداها المداراة من الجانبين، لإدراك الديوان العثماني تعذر إخراج محمد علي من باشويته، وهو الذي تتدعم حكومته تدريجيا، وكلما طال بقاؤه في الولاية. أضف إلى هذا أن الباب العالي كان في حاجة إلى معاونة الباشا الصادقة لإخماد عصيان الوهابيين وثورتهم بالحجاز، ووقف إغاراتهم على أملاك الدولة في الشام والعراق، لا سيما بعد أن انكسرت جيوش ولاته أمام الوهابيين، هذا من ناحية؛ ولأن الباشا من ناحية أخرى كان يدرك أن من خرق الرأي نبذ سيادة السلطان ومناوأته طالما لا يجد سندا من الدول الأوروبية يؤازره، وقد شهدت هذه الفترة تسوية الخلافات رويدا رويدا بين الجانبين، حتى إذا وافت سنة 1810 على ختامها، كان الباب العالي قد قطع على نفسه عهدا بإعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي في باشويته، وإن كان قد جعل ذلك مشروطا بخروج جيش محمد علي إلى الحجاز والانتصار على الوهابيين وكسر شوكتهم.
ولقد كان من الواضح في أثناء ذلك كله، أن محمد علي قد صح عزمه على الاستقرار في هذه البلاد وعدم التخلي عن ولايته، إلا إذا أرغم إرغاما بحد السيف - كما قال - على تركها، وذلك قرار لم يكن هناك أي شك في جديته منذ أن نشأت أزمة النقل إلى سالونيك - على نحو ما سبق توضيحه - ثم ظهر هذا العزم صادقا عند انتهاء حملة «فريزر»، وكان مبعث المشروع الذي تقدم به محمد علي من ذلك الحين بصورة محددة لإنشاء باشويته وجاقا من نمط وجاقات الغرب.
ولم يكن انتصار الباشا على حملة «فريزر»، واضطرار هذه الحملة إلى الانسحاب من الأراضي المصرية في الظروف التي عرفناها، الباعث الفرد الذي حفز الباشا على السعي من أجل تنفيذ مشروع استقلاله عن الباب العالي، بل إن ضعف الدولة الذي أعجزها عن تطويع باشواتها المتمردين عليها في طائفة من ولاياتها الأخرى، وطمع الدول في ممتلكاتها، ثم اختلال الأمور في مركز السلطنة ذاتها، كل هذه كانت أسبابا زادت من تحفز الباشا، كما أنها جعلته مطمئنا إلى استطاعته الفوز بمأربه، إذا هو ظل مثابرا على سعيه، وكان لحادث الانقلاب الذي قام به الإنكشارية في إسلامبول وأفضى إلى عزل السلطان سليم الثالث وقتله، ثم انتهى بعزل السلطان التالي مصطفى، وتولية محمود الثاني، أبلغ الأثر في نفس محمد علي، من حيث دلالته على اضطراب الأحوال في مقر السلطنة، بصورة لا شك في أنها سوف تزيد من ضعفها وعجزها عن ردع ولاة الدولة المتمردين، ومن حيث إنه ساعد على رسوخ اعتقاد محمد علي بأن الواجب يقتضيه العمل بكل سرعة لتثبيت باشويته في مصر بصفة دائمة، حتى ينأى بها عن الأخطار التي قد تتهددها نتيجة لمثل هذه الانقلابات إذا وقعت مرة أخرى، وطرأ على ذهن أصحاب السلطة الجدد محاولة عزله أو نقله من باشويته، وقد بلغت القاهرة أنباء هذه الانقلابات وتفاصيل حوادثها، وما أفضت إليه، كل ذلك دفعة واحدة على ما يبدو، في أواخر جمادى الثانية 1213؛ أي في الثلث الأخير من شهر أغسطس 1808. ثم لم يمض قليل على ذيوع هذه الأخبار حتى كان قد وصل إلى بولاق في 24 أغسطس رسول من القسطنطينية وعلى يده مرسوم بإجراء الخطبة باسم السلطان محمود بن عبد الحميد، فتحقق الخبر.
وظهر تصميم الباشا على الاحتفاظ بباشويته واستكمال سلطانه بها، وأنه قد صح عزمه على البقاء والاستقرار بها وعدم مبارحتها، أولا في تمسكه بالإسكندرية التي تسلمها من الإنجليز، وضمها إلى باشويته، وثانيا في استقدامه سائر أفراد أسرته من قولة، ثم أسرات رجاله ومعاونيه الصادقين. وقد عهد الباشا إلى أبنائه ومن وثق في ولائهم له بالمناصب الهامة في الحكومة.
وكانت العلاقات بين الباشا والديوان العثماني قد استمرت في الفترة التالية لجلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية، لا يعتورها الكدر، فقد تقدم كيف أن الباب العالي أرسل الهدايا للباشا ولكبار العسكر، كما أعاد إبراهيم بك بن محمد علي من القسطنطينية، إظهارا لرضاء السلطان وتقديره لجهود الباشا في الانتصار على الإنجليز (سبتمبر 1807)، فاستمر هذا الرضا في الشهور التالية، حتى إذا جاء موعد تجديد الولاية للباشا وتثبيته بها عن العام التالي، حضر قابجي من القسطنطينية في ديسمبر 1807 يحمل مرسومات أحدها بتقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر، وآخر بالدفتردارية باسم ولده إبراهيم، وآخر بالعفو عن جميع العسكر جزاء على إخراجهم الإنجليز من ثغر الإسكندرية، وحمل هذا القابجي - ويدعى بيانجي بك - خلعا وشلنجات هدايا للباشا ولرجاله. وقد غادر البلاد في فبراير من العام التالي، راجعا إلى القسطنطينية.
ولكنه لم تمض شهور قلائل حتى قامت «حركة الينكجرية» وانتهت الانقلابات التي وقعت بالقسطنطينية بالمناداة بمحمود الثاني في 29 يوليو 1808، وكان في هذا الشهر نفسه أن وصل الإسكندرية قبطان من رجال البحرية العثمانية، قصد فورا إلى القاهرة لمقابلة محمد علي، قال عنه «دروفتي» في رسالته إلى حكومته من القاهرة من 10 أغسطس «إنه يحمل أوامر تطلب من محمد علي باشا إعطاءه قومندانية المواني والشواطئ المصرية»؛ أي إرجاع الإسكندرية وسائر المواني إلى الإشراف العثماني تحت إدارة القبطان باشا بالقسطنطينية مباشرة، وتعيين رؤساء لحكومتي الإسكندرية ودمياط خاضعين رأسا للباب العالي، ومستقلين عن باشوية القاهرة.
ومع أن الباشا رحب بهذا القبطان ترحيبا كبيرا، فقد كان من الواضح - على حد ما قال «دروفتي» في رسالته السالفة - «أنه لا يميل بتاتا إلى تسليمه حكومة الثغور والشواطئ المصرية»، بل إن الباشا ما لبث أن قرر القيام بجولة في الشواطئ المصرية لزيارة دمياط ورشيد والإسكندرية، وهي الجولة التي أراد أن يصحبه فيها «دروفتي»، واعتذر هذا لعدم وجود تعليمات لديه من حكومته تجيز له ذلك - على نحو ما سبق بيانه - وقد قام الباشا بهذه الرحلة، فتجول في جهات الوجه البحري، وذهب إلى دمياط ورشيد والإسكندرية. وقد تحدث «سانت مارسيل» عن الغرض من هذه الرحلة في كتابه إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 21 سبتمبر 1808، فقال: «ومع أن أحدا لا يعرف السبب الحقيقي لرحلته هذه، ولكن الاعتقاد السائد هو أنه يبغي أن يستميل السكان إلى تأييد رغبته في الاحتفاظ لنفسه بحكومتي الإسكندرية ودمياط، اللتين يريد الباب العالي تعيين حكام لهما، مستقلين عن باشا القاهرة.»
ثم استمرت مساعي الباب العالي لإخراج الإسكندرية من نطاق باشوية محمد علي، حتى أوائل العام التالي، ولكن دون نتيجة، فيذكر الشيخ الجبرتي في حوادث محرم 1224 (16 فبراير-17 مارس 1809) أن قاصدا «حضر من قبودان باشا يطلب عوائده بالإسكندرية، فقال له حاكم الإسكندرية، ينبغي أن تذهب إلى الباشا بالترعة (ترعة الفرعونية، التي كان الباشا وقتئذ يشرف بنفسه على سدها لمنع انسياب المياه من فرع دمياط)، وتقابله، فذهب إليه وقابله»، ولكن الأجل لم يمهل هذا القاصد للوصول إلى نتيجة قاطعة فيما جاء بسببه؛ فقد بات ليلته عند السد، وأصبح ميتا فأخرجوه إلى المقبرة. وقد شغل الباب العالي بعد ذلك بالمسألة التي طغت على كل ما سواها، وهي استنهاض همة محمد علي لإنفاذ جيشه لقتال الوهابيين بالحجاز، فركدت مسألة الإسكندرية، واستتب سلطان محمد علي بها، وظلت من ذلك الحين هي وسائر الثغور والشواطئ المصرية جزءا لا يتجزأ من باشوية مصر، فكان دخول الإسكندرية - خصوصا في نطاق هذه الولاية - الخطوة الأولى التي خطاها الباشا في سبيل استكمال سلطان باشويته.
وكان من بين الإجراءات التي لجأ إليها محمد علي من أجل توطيد سلطانه في هذه الباشوية، أنه عين أهله وأقاربه في مناصب الجيش والإدارة الهامة، من ذلك رفعه إلى مرتبة الباشوية ابنه طوسون بك الذي عهد إليه بقيادة الحملة المعدة للحجاز، ثم ابنه إبراهيم بك الذي جعله دفتردارا. وقال «دروفتي» في 9 أبريل 1809، وهو يذكر هذه الإجراءات التي اتخذ منها دليلا على أن الباشا إنما يعتمد على القوة في قدرته على البقاء في حكومة مصر، والتي يبغي منها تأكيد وضمان سيادته في مصر، «إنه إذا استثنينا بعض الجند من الأرنئود وقلة من العثمنلي من تركية آسيا الذين هم اليوم أقل كلفة له، وأقل ولاء للباشا كذلك، فإن سائر الجيش يتولى قيادته ضباط من أهله أو أصدقاء الباشا المحالفين له.»
وقد رفع محمد علي ولديه طوسون وإبراهيم إلى الباشوية في شهر أبريل 1809، وخصص لهما منازل لإقامتهما، وجعل لكل منهما حاشية كبيرة، وأحاطهما بالحراس والضباط، وقد أضفى عليهما محمد علي هذه الرتبة الرفيعة، كإنعام من خصائص السلطة التي يتمتع بها، يمنحه الباشا لمن يشاء، ودون الرجوع في ذلك إلى رأي الباب العالي، وقد فسر المعاصرون مقصد محمد علي من ذلك بأنه الرغبة في تعويد أهل مصر على مشاهدة أعضاء أسرته يمارسون السلطة الفعلية في البلاد، وإقناعهم بأن الباشا قد صمم على البقاء في حكم هذا القطر، فلا يتوقعون حدوث تبديل أو تغيير، ويرسخ في أذهانهم أن حكومة الباشا باقية، وتصبح هذه الحقيقة أمرا مسلما لديهم.
وكان لهذه الغاية ذاتها؛ ولأن الباشا قد قرر فعلا البقاء في باشويته، مهما كانت الظروف والأحوال، إلا إذا أرغمته قوة خارقة على التخلي عنها، أن بعث محمد علي يدعو سائر أفراد أسرته، زوجه الأولى وبصحبتها بنتيها وولده الثالث إسماعيل، أخو طوسون وإبراهيم، فما إن وصلوا من قولة إلى الإسكندرية ، حتى ذهب إبراهيم بك لاستقبالهم في 26 مايو 1809. وفي 28 مايو عاد إبراهيم إلى القاهرة، واتخذت الاستعدادات لملاقاة الأسرة في بولاق يوم 31 مايو، «فنبهوا على جميع النساء والخوندات، وكل من كان لها اسم في الالتزام، أن يركبن بأسرهن ويذهبن إلى ملاقاة امرأة الباشا ببولاق، وذلك صبح اليوم المذكور، واعتذرت الست نفيسة المرادية بأنها مريضة، ولا تقدر على الحركة والخروج فلم يقبلوا لها عذرا.» ويصف الشيخ الجبرتي هذا الاستقبال فيقول: «فلما كان صبح يوم 31 مايو اجتمع السواد الأعظم من النساء بساحل بولاق على الحمارة المكارية، وهم أزيد من خمسمائة مكار، حتى ركبت زوجة الباشا، وساروا معها إلى الأزبكية، وضربوا لوصولها وحولها بمصر عدة مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية، ثم وصلت الهدايا والتقادم، وأقبلت من كل ناحية الهدايا المختصة بالأولاد والمختصة بالنساء.»
وكان من بين الواصلين من قولة، ابن بونابرتة الخازندار، وكثير من أقارب وأهالي الرؤساء الأرنئود، من بطانة الباشا، وقد نجح الباشا - ولا شك - فيما قصد إليه من حضور كل هؤلاء، وهو المقصد الذي ذكره المعاصرون - على نحو ما أسلفنا - فكتب الشيخ الجبرتي معلقا على ذلك بقوله: «فإنهم لما طابت لهم مصر واستوطنوها وسكنوها ونعموا فيها أرسلوا إلى أهاليهم وأولادهم وأقاربهم بالحضور، فكانوا في كل وقت يأتون أفواجا أفواجا نساء ورجالا وأطفالا.» وهكذا كان من الواضح أنه صار راسخا في أذهان أهل البلاد أن حكومة الباشا قد توطدت دعائمها، مع ما يستتبع ذلك من تعود المصريين رويدا رويدا على تلقي التوجيه من هذه الحكومة صاحبة السلطان في البلاد، وعدم الانسياق وراء نصح وتوجيهات هيئات أو أفراد آخرين تعودوا في الماضي القريب على قبول النصح منهم كالمشايخ والعلماء، أو عدم التردد في نبذ أوامر الباب العالي نفسه، التي تعودوا على احترامها، وذلك إذا جاءت هذه مناقضة لصالح الباشا.
وفي واقع الأمر، كان محمد علي في هذه الأثناء، قد قطع شوطا كبيرا في سبيل دعم أركان ولايته، حتى إنه صار لا يخشى بأسا من علاقاته مع الباب العالي بالصورة التي تتفق مع مصالح باشويته فحسب ، فمضى في تصدير الغلال إلى مالطة والتعامل مع الإنجليز، بالرغم من أوامر الباب العالي الذي أراد منع إعطاء الغلال للدول الأجنبية، وكانت المسألة الوحيدة التي أذعن فيها الباشا لإرادة الديوان العثماني، هي السهر على تحصين الثغور والاستعداد لدفع الغزو الأجنبي عن البلاد إذا وقع، وقد اتفق النشاط في هذه الناحية مع مصلحة الباشا نفسه، وقد سبق الحديث عن جهود محمد علي في تحصين الإسكندرية ورشيد بصورة جدية، منذ أن وصله عن طريق الإنجليز، في الظروف التي ذكرناها، في أوائل عام 1808، الخبر بخروج عمارة الفرنسيس إلى البحر بسيسيلية، وربما استولوا عليها، وكذلك مالطة، فكان في أواخر يناير من هذا العام أن جمع رجال الباشا عدة كثيرة من البنائين والنجارين وأرباب الأشغال لعمارة أسوار وقلاع الإسكندرية وأبي قير والسواحل. ثم حدث في ديسمبر من العام التالي أن وصلت أخبار بأن عمارة الفرنساوية نزلت إلى البحر وعدة مراكبهم مائتان وسبعة عشر مركبا محاربين، ولا يعلم مقصدهم أي جهة من الجهات، وحضر ثلاثة أشخاص من الططر المعدين لتوصيل الأخبار، وبيدهم مرسوم مضمونه الأمر (من الدولة العثمانية) بالتحفظ على الثغور، فعند ذلك أمر الباشا بالاستعداد وخروج العساكر. وفي منتصف ديسمبر 1809 سافر جملة من العساكر إلى ناحية بحري، فسافر كبير منهم ومعه جملة من العسكر إلى الإسكندرية، وكذلك سافر خلافه إلى رشيد وإلى دمياط وأبي قير والبرلس.
ثم تزايد إلحاح الباب العالي في طلب الغلال من مصر، وظهر تكدره من مراوغة الباشا له الذي لم يشأ - كما أسلفنا - أن يبعث إلى القسطنطينية بما يسد حاجتها من الغلال، ويكف عن تصدير غلاله إلى الإنجليز، فوصل القاهرة، قابجي في فبراير 1810 وعلى يده مراسيم بطلب ذخيرة وغلال، ووردت الأخبار في الشهر نفسه من الديار الرومية بغلبة الموسكوب واستيلائهم على ممالك كثيرة، وأنه واقع بإسلامبول شدة وحصر وغلاء في الأسعار وتخوف، ولم ير الباشا مناصا من تجهيز بعض شحنات الغلال لإرسالها إلى القسطنطينية، ولكنه لما كان يرى في إمداد الدولة بالغلال تعويقا لمشاريعه التجارية، ويتوقع تكدر العلاقات بينه وبينها لعدم استجابته لكل مطالبها، فقد تحدث إلى «دروفتي» عن مشروع استقلاله (في نوفمبر من العام نفسه)، وذكر أنه ليس على علاقات طيبة جدا مع الباب العالي، غير أن مباحثاته مع «دروفتي» لم تسفر - كما عرفنا - عن النتيجة التي ينشدها، فضلا عن أن مفاوضاته مع الوكلاء الإنجليز بصدد استقلاله قد باءت هي الأخرى بالفشل. وعلى ذلك، فلم يكن هناك معدى عن أن يحاول الباشا التقرب من الباب العالي، وتحسين صلاته به، لعله يظفر منه بمأربه.
ولقد اعترضت جهوده مع الديوان العثماني، من أجل الفوز برضاء الباب العالي، في هذه المرحلة - عدا تصدير الغلال إلى الأجانب، وعدم الثقة الكامنة لدى الفريقين نحو بعضهما بعضا - طائفة من الصعوبات التي كان مبعثها المباشر إصرار الباب العالي من ناحية على إنفاذ جيش من مصر لقتال الوهابيين، ثم طرد يوسف كنج باشا دمشق من ولايته، ولجوؤه إلى محمد علي من ناحية أخرى، ومحاولة هذا الأخير إبعاد سليمان باشا الكرجي والي عكا وصيدا من حكومة دمشق التي دانت له بعد خروج يوسف كنج منها، ومع أن محمد علي ظل ممتنعا عن الخروج إلى الحجاز مدة طويلة، وظل الباب العالي من جهته ممتنعا عن إعادة يوسف كنج إلى ولايته، فقد انفرجت الأزمة رويدا رويدا بين الباشا والباب العالي، عندما وعد السلطان آخر الأمر بإعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي في مصر، ولو أنه جعل تنفيذ هذا الوعد مشروطا بنجاح محمد علي في إخماد حركة الوهابيين، وقرر الباشا إنفاذ الحملة إلى الحجاز، بعد أن كان قد فرغ من دعم أركان باشويته وقضى على البكوات المماليك، وهم أشد خصومه مناوأة لسلطان باشويته، في مذبحة القلعة، ثم تبين له أن في وسعه أن يجني من حملته في بلاد العرب فوائد عدة تزيد من توطيد سلطانه في باشويته. (9) مسألة الحرب الوهابية
فقد لقيت دعوة محمد بن عبد الوهاب تأييدا كبيرا منذ أن تعهد محمد بن سعود أمير الدرعية في عام 1744 بنشر الدعوة في البلاد العربية، وبايعه الشيخ على أن يكون إماما يتبعه المسلمون، وصار عبد العزيز بن محمد بن سعود يغزو في الجزيرة (شمالها وغربها وشرقها وجنوبها) ففتح الرياض، ثم القصيم (1773-1775)، وغزا الأحساء، وسار ابنه سعود في طريقه، وتوفي محمد بن عبد الوهاب سنة 1792، وقت أن كانت جيوش الشريف غالب بن مساعد، شريف مكة، زاحفة من الحجاز لمحاربة أهل نجد دون طائل. وفي سنة 1800 دخل سعود كربلاء، وانهزمت جيوش الدولة التي بعث بها سليمان باشا والي العراق إلى الأحساء لمحاربة أهل نجد فيها، ولكنه حدث بعد سقوط كربلاء - مقر الشيعة المعروف - أن اغتال رجل شيعي الإمام عبد العزيز في الدرعية في السنة نفسها، وكان عبد العزيز قد عين قبل وفاته بخمس عشرة سنة ابنه سعودا خلفا له. وفي عام 1803 دخل سعود مكة، بعد أن جلا عنها الشريف غالب إلى جدة. وبعد عامين استولى الوهابيون على المدينة، ثم اتجهت أنظارهم إلى الشمال، فوصلوا إلى حوران والكرك، ووقفوا منتصرين على أبواب الشام وفلسطين، وأوقعوا الهزيمة بجند الدولة الذين خرج بهم والي الشام عبد الله العظم للحج في عام 1805، ووجدت الدولة العثمانية - وقد انكسرت جيوش ولاتها في العراق والشام - أن تطلب من محمد علي أن يتولى بنفسه إنقاذ الحرمين الشريفين ودحر الوهابيين.
وكانت الدولة، منذ أن بلغها عزم عبد العزيز بن سعود على مهاجمة الحرمين الشريفين، قد بعثت منذ منتصف ديسمبر 1802 تطلب إلى خسرو باشا والي مصر وقتئذ «والي دفترداره» خليل رجائي أفندي، إرسال نجدة من مائة وخمسة وعشرين ألف قرش إلى والي جدة، ومثلها إلى أحمد باشا متصرف «إبج إيل»
Itch Il
الذي رقي وزيرا وعين حاكما عسكريا للمدينة المنورة، على أن يذهب خسرو باشا من فوره إلى جدة ومعه عدة وافرة من الجند والمدافع والذخيرة، وعلى أن يذهب أحمد باشا الموجود وقتذاك بدمياط إلى المدينة وبصحبته عدد من الجند، ولكن هذا الأمر لم ينفذ بالنسبة لخسرو باشا أصلا، بسبب الحوادث التي مرت بنا والتي انتهت بطرده من الولاية، ثم تأخر ذهاب أحمد باشا نفسه إلى الحجاز حتى أرغم هو الآخر على مبارحة القاهرة في يونيو 1803.
واستمرت الدولة تطلب إنفاذ النجدات من الرجال والمؤن والذخائر، من مصر إلى الحجاز، فوصل الططر بفرمان من الباب العالي باسم علي باشا الجزائرلي والبكوات المماليك، بتشهيل أربعة آلاف عسكري وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وإرسال ثلاثين ألف إردب غلال إلى الحرمين، فقال الشيخ الجبرتي في حوادث 7 فبراير 1804، «إنهم عملوا ديوانا وقرءوا هذا الفرمان، وكان أيضا مما جاء فيه، أنهم؛ أي الدولة، قد وجهوا أربع باشات من جهة بغداد بعساكر، وكذلك أحمد باشا الجزار أرسلوا له فرمانا بالاستعداد والتوجه لذلك، فإن ذلك من أعظم ما تتوجه إليه الهمم الإسلامية، وأمثال ذلك من الكلام والترقق، وفيه بعض القول بالحسب والمروءة بتنجيز المطلوب من الغلال، وإن لم تكن متيسرة عندكم، تبذلوا الهمة في تحصيلها من النواحي والجهات بأثمانها على طرف الميري بالسعر الواقع. ولكن علي باشا الجزائرلي كان قد قبل ذلك بأيام معدودة، وانشغلت حكومة القاهرة الثلاثية (البرديسي، إبراهيم، محمد علي) بمطاردة الألفي عقب وصوله من إنجلترة، ثم حدث انقلاب 12، 13 مارس 1804 الذي أخرج البكوات من حكومة القاهرة، وتنصيب أحمد خورشيد باشا. وقد قرئ فرمان في 4 يوليو من العام نفسه يطلب تشهيل لوازم الحج والحرمين من الصرة والغلال. وفي 27 يوليو وصل مندوب من قبل الباب العالي يحمل أوامر تقضي بإخراج خمسمائة من العسكر إلى ينبع البحر يقيمون بها محافظين لها من الوهابيين، ويدفع لهم جامكية سنة كاملة وذخيرتها وما يحتاجون إليه من مؤنة وغلال وجبخانة. وقد تبين من قراءة هذه الأوامر أنه قد تعين أبو مرق باشا بعساكر الشام إلى الحجاز، فأحضر أحمد خورشيد كبار العسكر وعرض عليهم ذلك الأمر، وقال لهم إنه ورد لي إذن عام في تقليد من أقلده، فمن أحب منكم قلدته أمرية طوخ أو طوخين، فامتنعوا من ذلك ، وقالوا نحن لا نخرج من مصر، ولا نتقلد منصبا خارجا عنه.» وكانت كل القوة التي غادرت البلاد إلى ينبع البحر لا تزيد على مائة عسكري لا غير ذهب بها في 20 أغسطس من العادلية خارج القاهرة علي باشا الوالي المسافر إلى ينبع البحر، قاصدا إلى السويس في طريقه إلى الحجاز. وفي 17 نوفمبر وصل قاصد من الديار الرومية؛ أي من الدولة وعلى يده فرمان عن مراسلة للباشا (أحمد خورشيد) بإرسال باشة الينبع لمحافظتها من الوهابيين وأنه أعطاه ذخيرة شهرين، بأن يرسل إليه ما يحتاجه من الذخيرة لأجل حفظ الحرمين.
ولكن خورشيد لم يستطع إرسال أية نجدات أخرى لجيش الدولة بالحجاز، مع ضآلة النجدات الأخيرة التي بعث بها إليه، وذلك لانشغاله بالنضال مع محمد علي، ذلك النضال الذي انتهى بالمناداة بولاية هذا الأخير، كما هو معروف في مايو 1805، وقد جاء في المكاتبة التي حملها سلحدار القبطان باشا إلى محمد علي بإبقائه في القائممقامية أن يقلد من قبله باشا على عسكر يعين إرساله إلى البلاد الحجازية ويسهل له جميع احتياجاته من الجبخانة وسائر الاحتياجات واللوازم، واستعد طاهر باشا المتعين للذهاب إلى بلاد الحجاز وبرز بعساكره إلى خارج باب النصر في نوفمبر، ولكن هؤلاء الجند شغلوا بمطاردة جماعة الألفية وعربان أولاد علي، في ديسمبر، وبطل أمر السفرة المذكورة، وشغل محمد علي بنضاله مع البكوات، وكان كل ما فعله أن أخرج المحمل والكسوة وعين للسفر بهما من القلزم مصطفى جاويش العنتبلي ومعه صراف الصرة، وقد ارتحلت القافلة فعلا من القاهرة في 7 فبراير 1806 قاصدة إلى السويس.
وتعذر بسبب أزمة النقل المعروفة إلى سالونيك، والنضال مع محمد بك الألفي من ناحية، وبكوات الصعيد من ناحية أخرى، إرسال النجدات إلى الحجاز، بالرغم من أن المرسوم الذي كان قد أتى به كتخدا القبطان صالح باشا لتقرير الولاية لمحمد علي في سبتمبر 1806، قد نص في نظير تثبيته في الولاية، على قيامه بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين، وإيصال العلائق والغلال لأربابها (في الحجاز) على النسق القديم. ثم حضر في نوفمبر من العام نفسه قابجي يحمل فرمانين: أحدهما يتضمن تقرير الباشا على ولاية مصر، والثاني يتضمن الأوامر بإجراء لوازم الحرمين وطلوع الحج وإرسال غلال الحرمين ... وتشهيل غلال وقدرها ستة آلاف إردب وتسفيرها على طريق الشام؛ معونة للعساكر المتوجهين إلى الحجاز.
ولكنه لم تمض شهور قليلة حتى كانت حملة «فريزر» قد جاءت إلى مصر واستولت على الإسكندرية، ونشب من ثم ذلك النضال الذي تتبعنا أدواره من نزول الإنجليز في الأراضي المصرية في مارس 1807 إلى وقت جلائهم عن الإسكندرية في سبتمبر من العام نفسه، وكان في أثناء ذلك أن وصلت في 14 يونيو «القافلة والحجاج من ناحية القلزم على مرسى السويس، وحضر فيها أغوات الحرم والقاضي الذي توجه لقضاء المدينة، وهو المعروف بسعيد بك، وكذلك خدم الحرم المكي، وقد طردهم الوهابي جميعا، وأما القاضي المنفصل فنزل في مركب ولم يظهر خبره، وقاضي مكة توجه بصحبة الشاميين، وأخيرا المواصلون، أنهم منعوا من زيارة المدينة، وأن الوهابي أخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر، وحضر أيضا الذي كان أميرا على ركب الحجاج، وصحبته مكاتبة من مسعود الوهابي (والمقصود هنا سعود بن عبد العزيز) ومكتوب من شريف مكة غالب، وأخبروا أنه أمر بحرق المحمل.» وشكا حاكم قلعة المدينة، الحاج مصطفى، من انقطاع ورود الحبوب التي كانت ترسلها مصر سنويا إلى الحرمين الشريفين، منذ عام تقريبا، مع شدة الحاجة إليها بسبب البؤس والضنك المنتشرين بهذه الجهات، وبعث الباب العالي حوالي منتصف سبتمبر 1807 يطلب من محمد علي إرسال كميات وافية من الحبوب إلى المدينة المنورة بكل سرعة، وعندما صدر في نوفمبر من العام نفسه فرمان تقرير محمد علي باشا على ولاية مصر (للسنة القابلة؛ حيث جرت العادة بتقرير الولاية سنويا)، ذكر الباب العالي أن محمد علي قد استحق هذا التقرير في وظائفه تقديرا لمواهبه، ولجهوده في أخذ الإسكندرية من الإنجليز، وقال إن من بين واجبات وظائفه هذه ما يتعلق بمسألة الحرمين الشريفين، وقد وصل القاهرة في 24 ديسمبر 1807، القابجي بيانجي بك يحمل فرمان التقرير هذا وغيره من المراسيم، وكان من بين هذه مرسوم بالتأكيد في التشهيل والسفر لمحاربة الوهابيين بالحجاز واستخلاص الحرمين.
وقد بقي بيانجي في مصر قرابة شهرين يستحث الباشا على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وقال الشيخ الجبرتي: إن هذا القابجي «كان حضر بالأوامر بخروج العساكر للبلاد الحجازية، وخلاص البلاد من أيدي الوهابية، وفي مراسيمه التي حضر بها التأكيد والحث على ذلك، فلم يزل الباشا يخادعه ويعده بإنفاذ الأوامر، ويعرفه أن هذا الأمر لا يتم بالعجلة، ويحتاج إلى استعداد كبير وإنشاء مراكب في القلزم، وغير ذلك من الاستعدادات.» ويستطرد الشيخ، فيذكر الوسيلة التي لجأ إليها محمد علي لإظهار الصعوبات التي تعترض تنفيذ الأوامر التي جاءته فورا ودون إمهال، وأهم هذه الصعوبات ما تتكلفه الحملة المزمعة من نفقات طائلة مع خلو خزانته من المال، «فعمل الباشا ديوانا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر والمشايخ، وقال لهم: لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليهما الوهابيون، ومشوا أحكامهم بهما، وقد وردت علينا الأوامر السلطانية المرة بعد المرة للخروج إليهم ومحاربتهم، وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين، ولا تخفى عنكم الحوادث والوقائع التي كانت سببا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر، والآن حصل الهدوء، وحضر قابجي باشا بالتأكيد والحث على خروج العساكر وسفرهم، وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذا الوقت، فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس، فأعملوا رأيكم في تحصيلها. فحصل ارتباك واضطراب، وشاع ذلك في الناس، وزاد بهم الوسواس، ثم اتفقوا على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها»، فغادر بيانجي القاهرة في 28 فبراير 1808، للعودة إلى القسطنطينية، وخرج الباشا لوداعه.
ووجه الأهمية في هذا الحادث، أنه يحدد بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين الباشا والباب العالي بشأن الحرب الوهابية، فقد درج الباب العالي منذ أن وصل محمد علي إلى الولاية، على مطالبة الباشا بإرسال الغلال التي جرت العادة بإرسالها سنويا إلى الحرمين الشريفين، وإنفاذ النجدات من الذخائر والجبخانة والعسكر إلى الحجاز، وقد شاهدنا كيف أن الباشا لم يرسل جندا إلى الحجاز، وكيف شكا حاكم المدينة المنورة من عدم ورود أية حبوب من مصر، منذ عام 1806، وقد كان المسوغ لعدم تلبية أوامر الباب العالي، انشغال الباشا بنضاله ضد البكوات المماليك، وحربه مع الإنجليز، ثم عدم تكليف الباشا رسميا، كأحد الباشوات الذين عينهم الباب العالي لقيادة الحملات الموجهة ضد الوهابيين، بالخروج بجيش مستقل وبوصفه باشا مصر، للاشتراك مع زملائه في هذه الحملات.
ولكنه سرعان ما صار للمسألة وجه جديد، عندما فوض الباب العالي محمد علي رسميا بتصفية الحرمين الشريفين، وحضر القابجي باشا، يطلب إليه إنفاذ العسكر إلى الحجاز، وصار لزاما على الباشا امتثال أمر السلطان والخروج فورا لقتال الوهابيين، وانتحال المعاذير المبررة لتباطؤه في تنفيذ هذه الأوامر الصريحة والمحددة. ولما كان الباشا لا يريد الدخول في حرب، ميدانها بعيدة، ونفقاتها جسيمة، وهو لما يفرغ بعد من دعم أركان باشويته، والقضاء على خصومه الداخليين - البكوات المماليك - وتطويع الجيش الذي كان لا يزال يتخذ من المطالبة بمرتباته المتأخرة ذريعة للتمرد والعصيان، ولا تزال إلى جانب هذا كله حاجته إلى المال شديدة، ولما كان في حاجة كذلك إلى السفن لنقل جيشه إلى بلاد العرب، وذلك في الوقت الذي عظم فيه نشاطه التجاري وأراد السفن لنقل غلاله المصدرة إلى الخارج، فقد آثر الباشا عدم الدخول وقتئذ في هذه المغامرة، التي باء فيها بالفشل غيره من الولاة في العراق والشام، زد على ذلك، أنه كان غير مطمئن لنوايا الباب العالي من جهته، ولا يزال ماثلا في الأذهان حادث محاولة نقله إلى سالونيك، بينما هو يريد تأمينا لباشويته، أن يرقى بها إلى مصاف وجاقات الغرب، على أساس الحكم الوراثي في أسرته، فلا يظل تجديد ولايته، وتقريره بها سنويا، مرهونا برضاء الباب العالي عليه، وخاضعا لنزوات الديوان العثماني وتقلبات الأهواء السياسية، أو مطالبها من وجهة النظر العثمانية.
وحيث إن الباب العالي قد فوض إليه الآن إنهاء مسألة الحرمين الشريفين، وصار ينتظر صدوع الباشا بالأوامر الصادرة إليه من صاحب السيادة الشرعية عليه، فقد وجب على محمد علي أن يوضح للباب العالي الأسباب التي تحول دون صدوعه بهذه الأوامر فورا ومن غير إبطاء، ولكن الباب العالي - كما سيتضح - لم يقتنع بالحجج والدعاوى التي قدمها محمد علي، ثم تزايدت خطورة الموقف في الحجاز، وتزايد تبعا لذلك، إلحاح الديوان العثماني على محمد علي بضرورة الخروج لحرب الوهابيين، فكثر الأخذ والرد بين الجانبين، وتبودلت الرسائل الكثيرة بينهما ، وانقضت سنوات أربع، منذ سبتمبر 1807، قبل خروج جيش طوسون باشا بن محمد علي إلى الحجاز في سبتمبر 1811، وتكشف هذه المراسلات عن حقيقة الأعذار التي انتحلها محمد علي لإرجاء إنفاذ الحملة ضد الوهابيين، ثم إنه لم يلبث أن طرأ في أثناء ذلك على العلاقات بينه وبين الباب العالي ما كدرها بسبب حادثة يوسف كنج (أو جنج) وسليمان باشا التي ألمعنا إليها، حتى إنه بدا في وقت من الأوقات أن الأمور قد تأزمت بينهما بدرجة لا أمل في تسويتها، لولا حاجة الباب العالي إلى جيش محمد علي من جهة، ثم ما أظهره محمد علي نفسه من حنكة سياسية، من جهة أخرى، مكنته من اجتياز الأزمة، ثم الظفر علاوة على ذلك، بذلك الوعد الذي أشرنا إليه، تقرر الحكم الوراثي في مصر إذا انتصر جيش الباشا في الحجاز.
وقد بدأ الباشا مراسلاته مع الباب العالي، يوضح الأسباب التي تحول دون إنفاذ عسكره فورا إلى الحجاز في فبراير 1808، فكتب إلى الآستانة يقول: إنه وإن كانت قد أحيلت إلى عبدكم تصفية الحرمين الشريفين، وتطهيرهما من الخارجي بموجب الخط الهمايوني، التي هي بالشوكة مقرونة فسمعا وطاعة، وليس لي جواب غير مؤدى سمعنا، ومن الجلي أن عبدكم عبد الدولة العلية ومملوكها، ولكن هناك أسباب تدعو إلى إعمال الروية والتريث، منها: أن واقعة الحرمين هذه ليست من المسائل التي يمكن إنجازها بالاعتماد على جهده هو وحده، بل هي مادة جسيمة تتطلب إمداد السلطان ملاذ العالم، بإرسال عشرة آلاف كيس نقدا وعدا، غير المهمات وما إليها، وهذا مما يعجز محمد علي عن فعله؛ لأنه - كما قال - مثقل بالديون الكثيرة، سواء كان مبعثها بقاء بعض الأراضي في مصر دون ري - بسبب انخفاض الفيضان في هذا العام، وقلة الإيراد المتحصل تبعا لذلك - أم النفقات التي تطلبها فتح الإسكندرية وإجلاء الإنجليز عنها، أم المبالغ الكثيرة التي تعهد محمد علي بدفعها سدادا للديون التي بقيت على سلفه أحمد خورشيد باشا وقت عزله من الولاية، أضف إلى هذا، أنه لم يصل الباشا بارة واحدة من إيرادات الصعيد؛ لأن هذا الإقليم بيد البكوات المماليك.
ثم إن هناك سببا آخر هاما يدعوه إلى عدم إخلاء مصر من الجند، بإرسال الجيش المطلوب إلى الحجاز، هو أنه قد ترتب على الحرب القائمة بين الدولة وأعدائها، أن صارت مصر مطمح أنظار جميع الدول المسيحية؛ ولذلك فأقرب الاحتمالات وأجدرها بالملاحظة، إنما هو احتمال أن يتسلط أعداء الدين على السواحل المصرية، فيما إذا صار إرسال العسكر الموجودين بمعية عبدكم محمد علي إلى الحجاز، ثم وعد الباشا بإنجاز استعداداته على وجه السرعة، وسداد ديونه، حتى يتسنى له القيام بالمهمة المكلف بها في السنة القادمة، وقال: إنه يعمل الآن لتجهيز ثلاثة أو أربعة آلاف جندي من المشاة لهذه الغاية، يعتزم إرسالهم إلى جدة بحرا بطريق السويس، مزودين بالذخائر والمهمات وكامل العدة والأدوات، وإن كان هو شخصيا لا يستطيع السفر لمجرد تلك المحاذير التي سردها في رسالته هذه.
ولم تلق هذه المعاذير قبولا لدى الباب العالي، فأوفد إلى مصر عبد الكريم آغا، من أغوات القصر السلطاني ومعه خطوط شريفة، وعطايا ملوكية، يستحث محمد علي على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ويبين للباشا مدى حاجة الباب العالي إلى سند مفيد يأخذ على عاتقه تصفية مسألة الحرمين الشريفين، التي فوض محمد علي باستخلاصها من يد الوهابي، ولإبلاغه تعهد السلطان بإجابة كل ما يسأله محمد علي في هذا الشأن. فبادر الباشا بالكتابة إلى القسطنطينية في 10 مارس 1808، يظهر خضوعه وولاءه للسلطان العثماني، ويعتذر في الوقت نفسه عن عجزه عن تلبية رغبته.
وكان من المعاذير التي انتحلها الباشا في هذه المرة، أنه وإن كان قد نجح في جعل نصف طائفة المماليك يدخلون في ذلك حذو الجماعة الأولى، فالواجب يقتضيه متابعة السعي في دفع غوائلهم وشرورهم بالقوة القريبة من الحكمة والتعقل؛ حتى ينبسط ظل الدولة على إقليم الصعيد، ثم إنه لم يستطع حتى الآن سداد ديونه.
ثم استند محمد علي في عبث محاولة القضاء على الوهابيين، بالاعتماد على جيشه هو فحسب، إلى أن هؤلاء قد استولوا على الحجاز من عشرين سنة خلت ، وتزايد استقرارهم به سنة بعد أخرى، وتسنى لهم ضبط شئونه ودعم سلطانهم به، حتى صار لا يكفي لدفع هذا الشر والأذى، أن يزحف محمد علي بجيشه من مصر فحسب، إلى مكة والمدينة، بل تحتم أن تخرج كذلك الجيوش من الشام وعكا وبغداد، فإذا أمكن تدبير زحف من مصر ومن هذه الجهات، في وقت واحد على مكة والمدينة، وقام الجميع بحملة واحدة، يتخابر رؤساء هذه الجيوش مع بعضهم بعضا، لأمكن تنظيم المصلحة بصورة تكفل إنجازها بسهولة وتحقيق الثمرة المرجوة منها، وقد وصل محمد علي إلى هذا الرأي بعد إمعان النظر، وفي يقينه أن الأخذ به لا يفضي إلى هلاك الخارجي المذكور وإزالة كل أثر له من مكة والمدينة فحسب، بل واقتلاع جذوره كذلك من موطنه الأصلي.
على أن الباشا الذي كان لا يرى من صالحه إنفاذ جيشه إلى الحجاز وقتئذ، وخشي أن يأخذ الباب العالي برأيه هذا الذي ذكره، لم يلبث أن استدرك، معتذرا عن عدم إمكانه إرسال جنده، بأنه طالما بقيت الحرب دائرة الرحى بين الباب العالي والدول ولم ينعقد الصلح، فإن مصر سوف تظل موضع أطماع هذه الدول الأجنبية، ولا يكفي ما لدى محمد علي من الجند للذود عن مصر وللزحف بجيش عظيم على الحجاز معا وفي آن واحد.
وعلى ذلك، فقد اقترح محمد علي على الباب العالي حلا لهذه المشكلة كان من الواضح أن هذا الأخير يعجز عن اتخاذ أية خطوة بصددها، هو أن يتفضل الباب العالي بإصدار أمر عال يؤمن به الباشا على أن الدول الأجنبية لن تتسلط في هذا الباب؛ أي لا تغير على مصر، حتى إذا صدر هذا التعهد من جانب الديوان العثماني اطمأن بال محمد علي.
ولم يشأ محمد علي ، حتى إذا تمكن الباب العالي من إجابة هذه الرغبة، إلا أن يعجل تلبيته لأوامر الديوان العثماني مشروطة بشروط، أهمها: أن يمده الباب العالي نفسه بما يحتاج هو إليه لإنجاز استعداداته، وانعقاد الصلح بين تركيا والدول، ثم قال: «إنه من الجلي الواضح أن سبب تأخره عن الخروج إلى الحجاز، ليس سوى تلك الديون التي استدانها من أجل تحصين الإسكندرية، منعا لتسلط الدول المسيحية على قلعة هي بمثابة المفتاح لإقليم الحرمين الشريفين، فإذا انعقد الصلح، وبعث الباب العالي إليه بالأشياء التي هو في حاجة إليها لإعداد الحملة المطلوبة، فإنه سوف يزحف على الحجاز في السنة القابلة بنفسه وعلى رأس جيشه، ويبذل قصارى جهده، بل ويجاهد جهاد المستميت قولا وفعلا، وقلبا وقالبا، من أجل القضاء على العدو وإفنائه بعون الله تعالى.»
وقد أرفق محمد علي برسالته هذه قائمة بالأشياء التي يريدها من الباب العالي، ومن هذه أقمشة من الجوخ، لارتفاع ثمنها في مصر، بل وانعدام وجودها تقريبا، بسبب الحرب القائمة، مع أنه في حاجة إلى أقمشة منها تكفي للباس عشرة آلاف جندي، نصفهم من الفرسان، علاوة على النفقات الأخرى التي يقتضيها تجهيز هؤلاء إلى جانب ما يربو على الثلاثين ألف شخص من الموظفين، والسياس والحمالين والطباخين والسعاة، أضف إلى هذا نفقات ستة آلاف جمل لنقل المؤن والأغذية والعتاد، ثم إن الباشا طالب بأثمان 200000 إردب من الغلال لغذاء الجند مدة ستة شهور، و400000 إردب لسنة كاملة، عدا نفقات الهجن والإبل التي تحمل هذه إلى ميناءي القصير والسويس، ونفقات الشحن كذلك إلى ينبع وجدة، علاوة على المال اللازم لشراء الهدايا وإعطاء المنح والعطايا لأغوات الداخل والخارج وسائر رجال الحكومة، ولصرف علوفات العسكر ومعيناتهم على حساب مائة وخمسين ألف خرج، ثم ما يلزم من مال لعمارة خمس قلاع لوضع الذخائر بها، والمراد إرسالها من مصر إلى الحجاز، ثم الصرر والعطايا التي جرت العادة على إعطائها لطوائف العربان، وذلك إلى جانب ما يتطلبه البذل لهم لاستمالتهم وكسب صداقتهم. وقد قدر محمد علي المبالغ اللازمة، والتي طلبها من الباب العالي في هذه القائمة مبلغ يتراوح بين خمسة وثلاثين ألف كيس نقدا وأربعين ألفا، ولا شك في أنها - كما قال - سوف تنفق لصالح الدين والدولة، ويؤدي إنفاقها إلى نجاح هذه المصلحة الخيرية، ولم يفت الباشا أن يذكر في ذيل هذه القائمة أن الأقاليم المصرية قد بقيت شراقي بسبب قلة الماء في هذه السنة المباركة.
وحتى يجيب الباب العالي هذه المطالب التي تنحصر في أمرين هامين، من وجهة نظر محمد علي: تكليف ولاة العراق والشام وصيدا أو عكا بإنفاذ جيوشهم في وقت واحد مع الجيش الخارج من مصر لقتال الوهابيين، ثم إرسال الإمدادات من المال والمهمات إلى محمد علي، حسب القائمة السالفة الذكر؛ حرص محمد علي على التمسك بالغيرة والحماس لمشروع الحرب الوهابية، ولو أنه راح يردد نفس المعاذير التي ذكرها سابقا، والتي أخرت خروجه إلى الحجاز، ويشير على الديوان العثماني بضرورة العمل بالخطة التي ذكرها، من حيث زحف الجيوش العثمانية من مختلف ولايات الدولة المتاخمة لبلاد العرب، للإطباق على الوهابي من كل جانب.
وأراد الباشا أن يستوثق من موقف شريف مكة، غالب بن مساعد، فكتب إليه حتى يعلم ما إذا كان غالب مع الدولة أم مع الخارجي، ثم أبلغه محمد علي أن مأمورية الحجاز قد أسندت إليه، وأنه يستعد للخروج إلى الحجاز، وسأله إذا كان يرغب في إرسال أحد كبار الأمراء من لدنه أو رئيسا من قواد الجند لمرافقة الحملة المزمعة، ولكن غالبا لم يجب بشيء على كتاب محمد علي، ثم إنه تبين للباشا أن الشريف غالبا، وسعود بن عبد العزيز، عندما علما بأنه يهيئ جيشا كبيرا يعتزم إرساله بطريق السويس إلى الحجاز، بادرا بالاتفاق والاتحاد صورة ومعنى، حتى إنهما أنفذا ثلاثمائة مقاتل من المغاربة والعربان ومدافع وذخيرة، ونحو ألف ومائتي فارس إلى قلعة المويلح (القريبة من الأراضي المصرية) واستولوا عليها. ثم إنه نمى إلى الباشا مما صار يرويه الحاضرون من يافا وغزة، أن سعود بن عبد العزيز بالاتفاق مع غالب بن مساعد قد أنفذا عثمان المضايفي، بجيش من العربان كبير للزحف على الشام، وأن الشريف قد بعث يكتب إلى العربان في جهتي غزة والخليل لجذب قلوبهم، وكان عثمان بن عبد الرحمن المضايفي من وزراء الشريف غالب، اختلف معه في الرأي، فطرده الشريف من مكة، وانحاز المضايفي إلى السعوديين، ودخل مكة مع سعود في عام 1803، ثم إنه لما تصالح سعود وغالب، ثم اتحدا لدفع الخطر المتوقع أنفذا المضايفي إلى المويلح، ولو أن هذا الصلح لم يكن مبعثه خلوص النية من جانب الشريف الذي ظل يسعى لإخراج الوهابيين من الحجاز، ومع ذلك، فقد أثمر اتحادهما المؤقت ثمرته المرجوة.
وبادر محمد علي بإبلاغ الباب العالي ما وقف عليه من أخبار، ثم إنه اتخذ من استيلاء المضايفي على قلعة المويلح سببا لبيان وجه الصعوبة في إرسال الجند بحرا من جهة السويس لوجود قوات الوهابيين بموقع المويلح الذي يقطع الطريق على الجند عند خروجهم من بحر السويس إلى بحر القلزم، وكتب إلى الباب العالي في 18 يونيو 1808، أنه يستحيل لهذا السبب خروج الجيش الذي يعده إلى الحجاز، وأن نجاح هذه المهمة - مهمة استخلاص الحرمين الشريفين من الوهابي - متوقف على الزحف بجيوش عظيمة في آن واحد من جانب كل من مصر والشام وبغداد (أو العراق) برا وبحرا في حركة متسقة.
ثم إنه كان في هذه الرسالة أن راح محمد علي يبسط الأسباب الأخرى التي تمنعه من إنفاذ الحملة، فقال: إن الزراعة قليلة في هذا العام لانخفاض النيل، ولأنه علاوة على ذلك قد شاء قضاء الله وقدره أن تهب ريح سموم عاتية فتكت بالزرع، فشحت الغلال وارتفع ثمنها حتى بلغ سعر الإردب المصري عشرة ريالات، أضف إلى هذا أنه من الواضح أن توجه عبدكم محمد علي من مصر قبل انعقاد الصلح (بين تركيا والدول) أمر ينطوي على الخطر كل الخطر؛ حيث إن الدول الأجنبية تتطلع للاستيلاء على هذه البلاد؛ ولذلك فإنه يرجو بمجرد أن يبعث الباب العالي بالإمدادات التي تضمنتها القائمة التي أرسلها الباشا طي رسالته السابقة في 10 مارس، أن يستطيع الذهاب إلى الحجاز في السنة القابلة؛ حيث إن ذهابه في هذا العام، للأسباب التي ذكرها قد صار متعذرا، وقد اختتم محمد علي هذه الرسالة بقوله: وها هو ذا الشريف غالب قد استولى على قلعة المويلح برا وبحرا، وشرع يعتدي على أطراف الشام، وهو متحد مع الوهابي، فواجب الدولة - على نحو ما أراد أن يقول - أن تتدبر الأمر بسرعة.
أما الدولة فقد أخذت - على ما يبدو - برأي محمد علي، فوجهت سر عسكرية الحجاز مع إيالة الحبشة وجدة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم السابق؛ حتى يتولى القيادة العليا للعمليات العسكرية المزمعة في الحجاز، على أن يكون زحفه من جهة الشام، وأصدرت أوامرها إلى سليمان باشا والي بغداد، حتى يزحف من العراق على نجد، وطلبت من محمد علي الزحف من مصر على مكة والمدينة، ثم اهتم الباب العالي بإجابة مطالب الباشا حسب القائمة التي أعدها، ولكنه حتى نهاية عام 1808، لم يكن محمد علي قد أرسل الدفتر المبينة فيه تفاصيلها، مما سبب ارتباكا عظيما لوكيل الباشا في القسطنطينية، محمد نجيب أفندي، الذي بعث يرجو سرعة إرساله. وفي 28 نوفمبر صدر قرار الباب العالي بتثبيت محمد علي باشا في الولاية، كما بعث السلطان في الشهر نفسه، يثني على حسن إدارته ويشكره على حكومته الطيبة، وينقل إليه خبر تثبيته في وظائفه، ويذكره بواجبات هذا المنصب، ومنها أن يتبع التعليمات التي بعث بها إليه يوسف ضيا باشا والي جدة وحلب والقائد الأعلى للحجاز، وأن يعمل لتأمين الشواطئ والمواقع المصرية.
وكان مقصد محمد علي، عندما لفت نظر الدولة إلى استفحال شر الوهابيين بالحجاز، واتحادهم الأخير مع الشريف غالب، وهو الاتحاد الذي مكنهم من الاستيلاء على قلعة المويلح، وغزو أطراف الشام، ثم صار - لذلك - يكرر القول في ضرورة خروج جيوش ثلاثة من العراق والشام ومصر في وقت واحد ضد الوهابي؛ كان مقصد محمد علي، عدا انتحال الأعذار لعدم الخروج إلى الحجاز في سنته، أن يظفر بولاية جدة (الحجاز) والقيادة العليا للقوات المحاربة هناك؛ حيث إن الباب العالي قد عهد إليه بمأمورية الحجاز وفوضه في إنهائها، حتى إذا صح عزمه نهائيا على الذهاب إلى الحجاز، وفي الوقت الذي يلائمه، كانت إيالة الحبشة وجدة التعويض أو المكافأة التي ينالها عند انتصاره على الوهابيين.
وكاشف الباشا كتخداه في القسطنطينية، محمد نجيب بما يريده، ولكن الأخير لم يجد الظرف مناسبا لإثارة هذا الموضوع في دوائر الديوان العثماني؛ لأن محمد علي حتى هذا الوقت، كان لا يزال يتلمس شتى الأعذار للمماطلة والتسويف، وإرجاء الخروج إلى الحجاز من عام إلى آخر، فلم يكن الباب العالي راضيا عن مسلكه، فآثر محمد نجيب كتمان هذه المسألة حتى تحين الفرصة المواتية، ثم إنه لم يلبث أن كتب إلى محمد علي عندما تعين يوسف ضيا لسر عسكرية الحجاز، وآلت إليه ولاية الحبشة وجدة «أنه وإن صار توجيه عسكرية الحجاز مع إيالة الحبشة وجدة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأسبق، وكما سبق أن أبلغه محمد نجيب إلى الباشا من قبل فإنه من غير المقطوع به حتى الآن، ما إذا كان الصدر سيذهب فعلا إلى الحجاز أو لا يذهب؛ ولذلك فقد استحث محمد نجيب في رسالته هذه بتاريخ 17 ديسمبر، الباشا على الخروج إلى الحجاز، ووعد أنه عند تحرك محمد علي بإذن الله، في السنة القابلة من مصر، يقوم بإجراء ما يلزم من أجل توجيه إيالة جدة إلى عهدته.»
وفي 8 فبراير 1809 وصل القاهرة قابجي، «وعلى يده مرسومان، أحدهما تقرير للباشا على ولاية مصر، والثاني يذكر فيه أن يوسف باشا ضيا المعدني (أو المعدن) الصدر السابق تعين بالسفر على بلاد الشام لتنظيم بلاد العرب والحجاز، وأن يقوم محمد علي باشا بلوازمه وما يحتاج إليه من أدوات وذخيرة وغير ذلك. وفي الشهر نفسه وصل قاصد يخبر بوصول قابجي وعلى يده مرسومان: أحدهما الأخبار عن صلح الدولة مع الإنجليز والموسكوب وانفتاح البحر وأمن المسافرين، والثاني الأمر بالسفر والخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما، وأن يوسف باشا الصدر السابق المعروف بالمعدن تعين بالسفر للحرمين عن طريق الشام، وكذلك سليمان باشا والي بغداد متعين أيضا بالسفر من ناحيته (العراق) على الدرعية ، وأحضر للباشا تقريرا بالولاية مجددا وخلعة وسيفا.» وفي 18 مارس 1809 وصل القابجي إلى القاهرة، وطلع إلى القلعة؛ حيث قرئت المراسيم بحضرة الجمع.
ولكن الباشا وقتئذ كان مهتما قبل كل شيء بإخراج تجريدة إلى البكوات المماليك بالصعيد لنكثهم عهودهم معه، في ظروف سوف يأتي بيانها في موضعها ، ولم يعر هذه الأوامر التي تطلب منه الخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما أي التفات. وقد علق الشيخ الجبرتي على عدم تلبية الباشا لرغبات الديوان العثماني من حيث إرسال الإمدادات المطلوبة إلى يوسف ضيا، بأنه لم يظهر لذلك الكلام أثر بيد أن كتخدا بك (محمد آغا لاظ) بالغ في الحفاوة بالقابجي عند وصوله، وقد كان الباشا وقتئذ متغيبا بجهة السد - سد الترعة الفرعونية - وتوافد الأعيان والأشياخ، وأكابر الدولة للسلام عليه، وضربوا بعد الفراغ من قراءة المراسيم مدافع وشنكا، ووعد الباشا بالاهتمام بأمر هذه الحملة الهامة، ولكنه كان من الواضح - على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في 9 أبريل 1809 - أن الباشا قطعا لا ينتوي فعل شيء.
وعلل «دروفتي» السبب في ذلك بقوله: «إن تخليص الحرمين الشريفين اللذين يعتبرهما المسلمون حرز الإمبراطورية العثمانية، التي تتوقف سلامتها على بقائهما في كنفها وتحت رعايتها، لم يكن محببا إلى قلب محمد علي، بقدر ما كان لباشويته من محبة في قلبه، والثابت قطعا أنه إنما يحكم مصر بفضل ما لديه من قوة فحسب، وهو دائب على اتخاذ كل الوسائل التي تضمن له بسط سلطانه في مصر وتأكيده.»
وبعث محمد علي إلى الآستانة في 6 مايو يقول: إنه قد وصله أمر الباب العالي «بشأن مباشرة فتح الحرمين الشريفين هذه السنة، ودفع الخارجي؛ أي الوهابي عنهما، وأن الباب العالي قد عين يوسف ضيا باشا والي جدة وحلب حالا، والصدر الأعظم سابقا، قائدا عاما للحجاز، باستقلال تام، وتفويض كامل، لا جدل فيه ولا مناقشة، على أن يزحف سليمان باشا والي بغداد عن طريق الأحساء والدرعية، وأن يتحرك محمد علي من مصر على جدة وينبع، بالمخابرة مع حضرتي المأمورين المشار إليهما»؛ ولذلك فهو يمتثل لإرادة السلطان العثماني، ويؤكد أن غايته إنما هي خدمة هذه المصلحة الخيرية، ملبيا لرغائب القائد العام، الذي يضع نفسه تحت أوامره بموجب الأوامر العلية الصادرة إليه، ويختم رسالته بإظهار استعداده للحركة، بمجرد أن يبلغه تحرك المأمورين المشار إليهما.
وحدث في هذه الأثناء أن جاء إلى مصر جماعة من حجاج المغاربة وغيرهم في طريق عودتهم إلى بلادهم، يحملون معهم عريضة من أهل مكة والمدينة يشكون فيها من سوء معاملة سعود بن عبد العزيز لهم ولسائر الحجاج، ومنعه ذكر اسم السلطان في الخطبة، ورفعه لستار الكعبة (الكسوة الشريفة) واستبداله بها عباءة سوداء، مكتوب عليها لا إله إلا الله، سعود خليفة الله، وأخبر هؤلاء أن غرض سعود من كل ذلك، إعلان خلافته على المسلمين للعالم أجمع، توطئة لإعلان نبوته في آخر الأمر، وقد استنجد أهل مكة والمدينة في عريضتهم بمحمد علي؛ لإنقاذ الحرمين الشريفين وإنقاذهم.
وقد انتهز محمد علي فرصة ورود هذه العريضة ليكتب إلى الباب العالي مرة أخرى في 16 مايو يتنصل من الذهاب إلى الحجاز، ويحاول في الوقت نفسه تطمين الباب العالي على ولائه له، ومنع غضبه عليه، من جراء تسويفه ومماطلته، فقال: إن استنجاد أهل مكة والمدينة به، ورغبته في إنهاء سيطرة الوهابيين وتخليص الحرمين الشريفين، إلى جانب نزوله على إرادة الباب العالي، كل ذلك جعله مصمما على الخروج إلى الحجاز تصميما مبعثه الغيرة والحمية الإسلامية، والإيمان العميق، حتى إنه «تجهز للخروج وصار على وشك إكمال استعداداته، ولكنه لما كان لم يصله خبر صحيح عن تحرك يوسف ضيا باشا، القائد العام للحجاز، أو سليمان باشا والي بغداد، فقد جرؤ هو؛ أي محمد علي على تسطير هذه الرسالة يستفسر عما آلت إليه المأمورية المذكورة وما تم بشأنها، متسائلا عما إذا كانت الدولة قد شغلت من جديد بأمر خاص بعلاقاتها مع الدول الأجنبية، أم حدث التأخير لحكمة ما، ولكنه يجد لزاما عليه أن يبلغ الباب العالي أنه صار متهيئا للزحف، ولا يؤخره سوى انتظار المهمات والأشياء التي كان قد بعث سابقا يرجو إرسالها إليه، ثم انتظار وصول الخبر عن قيام يوسف ضيا وسليمان باشا بزحفهما على الحجاز.» وقد استحث الباشا في ختام رسالته الباب العالي، ليرسل إليه بكل سرعة المهمات التي طلبها، وإصدار أمره إلى يوسف ضيا وسليمان باشا بالزحف دون إمهال والسماح لمحمد علي بالزحف للمبادرة بتطهير الحرمين الشريفين، وتفريج كربة أهلهما.
ولكن بدلا من أن يمده الباب العالي بالمال والمهمات التي طلبها، صار هذا الأخير يكلف الباشا بدفع مبالغ من المال لأفراد معينين، كهبة سلطانية أو كمعاشات أو على سبيل المعاونة لهم، كما صار يطلب إليه إرسال الصناع المهرة في قلفطة السفن إلى ترسانة القسطنطينية، من الإسكندرية ورشيد ودمياط، ثم بعض المهمات من مخلفات الحرب التي تركها الإنجليز بالإسكندرية عند جلائهم عنها من أزمنة بعيدة، وقد اعترض الديوان العثماني على بيع ملح البارود للتجار الأجانب، وطلب في أبريل ومايو 1809، أن يرسل الباشا إلى ترسانة القسطنطينية عشرة آلاف قنطار منها، على حساب الخزانة المصرية، وعلاوة على ذلك، فقد طالب الديوان العثماني في الشهر نفسه بإرسال «الزجرية»، وهذه ضريبة كانت قد فرضت على الأنبذة و«العرقى» وسائر المشروبات الروحية التي تباع في القاهرة، وضواحيها، وكذلك على الزبيب والبلح وغير ذلك من الفواكه التي تستخرج منها هذه المشروبات، على أن ترسل حصيلتها إلى القسطنطينية، وكانت قد فرضت هذه الضريبة منذ نوفمبر 1805، ولم يصل الباب العالي شيء منها، وطلب الباب العالي تحقيقا في ذلك، وإرسال المتحصل منها على وجه السرعة.
أضف إلى هذا كله، أن الباب العالي صار يلح في ضرورة إرسال الغلال ومختلف الأغذية إلى القسطنطينية، بسبب المجاعة المنتشرة بها، وقد تقدم كيف أن الباشا كان ضنينا بإرسال غلاله إليها، للأسباب التي عرضناها، فلم يرسل إلا كميات قليلة، ومع أن الباب العالي كان قد أراد إرسال كميات من السكر والأرز والبن والحبوب إلى المطابخ السلطانية منذ ديسمبر 1808، على حساب الخزانة المصرية، فقد اضطر لإعادة الطلب في أبريل ثم في ديسمبر من العام التالي، كما أمر الباشا بتخفيض أثمان الأرز وسائر أصناف الحبوب المجلوبة من مصر؛ حتى لا يتغالى التجار الجشعون في رفع أثمانها عند بيعها في القسطنطينية، كما طالب بالرسوم الجمركية المتحصلة في الإسكندرية ومن قريتي عيد وشوارق التابعتين للإسكندرية، وذلك عن العامين الهجريين: 1223، 1224 (28 فبراير 1808-5 فبراير 1810)، «وعهد إلى الباشا من الآن فصاعدا بتأدية هذه المهمة؛ لأن السلطان يريد أن يلفت نظر الباشا إلى أن وصول هذه المبالغ إلى خزانة ترسانة القسطنطينية أمر ضروري ولا ندحة عنه، نظرا للنفقات الجسيمة التي تقتضيها تهيئة السفن الحربية التي أرسلت هذا العام إلى البحر الأبيض، وبعدد أكبر كذلك إلى البحر الأسود.»
على أنه كان مما أزعج الباشا إزعاجا كبيرا مطالبة يوسف ضيا باشا، والباب العالي له، بمبلغ جسيم من المال في يوليو 1809، من أجل المصلحة الخيرية؛ أي الحرب الوهابية، وتفصيل ذلك، أن يوسف ضيا كان أيام وجوده بهذه البلاد أثناء (حملة 1801) المعروفة لإجلاء الفرنسيين عنها، قد وضع ترتيبا بالاتفاق مع أعيان البلاد ومشايخها، بمناسبة إعادة النظر في حصص الالتزام وتقاسيطها، والأراضي الرزق الأحباسية، صار له بمقتضاه إيراد لنفسه على تقاسيط الالتزام، وأوراق الإقطاعات والفراغات التي آلت بفضلها بعض الحصص بالفراغ إلى الملتزمين، وهي التي نزل عنها لهم أرباب الاستحقاق فيها، نظير أن ينال المفرغ قدرا من المال معجلا ومؤجلا، وقد دخل هذا الإيراد الذي اختص به الصدر الأعظم نفسه تحت بابي ما صار يعرف بقصر اليد وخرج القلم، ولكنه غادر هذه البلاد، دون أن يحل شيئا مذكورا منها، ثم لم يرده شيء من هذا الإيراد في السنوات التالية، وظل الحال على ذلك حتى تعين يوسف ضيا لقيادة الحملة المزمع إنفاذها إلى الحجاز، وصار في حاجة ملحة إلى هذه الأموال المتأخرة لإنجاز استعداداته، فطالب بها الآن، وأيده الباب العالي في طلبه.
وعلى ذلك، فقد حضر سلحداره إلى القاهرة في 28 يونيو 1809، «وعلى يده مرسوم مضمونه طلب ما كان أحدثه يوسف ضيا حين كان بمصر»، وقد طالب يوسف ضيا بهذا الإيراد عن المدة من عام 1216 (1801) إلى عام 1224 (1809)، فكان حساب ذلك 2800 كيسا «قلمية الكشوفية» عن هذه السنوات المذكورة، ثم إن الباب العالي أضاف في الوقت نفسه إلى هذا المبلغ، ألف كيس «إمدادية تجهيز السفر الحربي» لحملة الحجاز المزمعة، فبلغت القيمة المطلوبة 3800 كيس، وكان هذا مبلغا جسيما.
ولم يكن من المنتظر أن يرضى محمد علي بدفع هذا القدر الجسيم، وهو الذي ما فتئ يشكو من قلة المال في خزائنه، ويلقى صعوبات شديدة في جمع ما يكفي منه لسد نفقات الإدارة، ودفع مرتبات الجند، وإنفاذ حملاته ضد البكوات المماليك، ويطلب من الباب العالي - كما شهدنا - إمداده بالمال والمهمات كي يستطيع إعداد الحملة المزمع إرسالها إلى الحجاز؛ ولذلك فقد صار الباشا يتدبر الأمر، لسؤال الباب العالي إعفاءه من دفع هذا المبلغ، ولقد كان لهذه المسألة آثار أخرى خطيرة، من حيث إنها كانت السبب المباشر فيما وقع بين محمد علي والسيد عمر مكرم من اصطدام انتهى بنفي هذا الأخير من القاهرة، على نحو ما سيأتي ذكره.
وأما محمد علي، فقد بادر بتسطير رسالة طويلة إلى الباب العالي في 14 يوليو 1809 يعتذر فيها من عجزه عن دفع هذا المال المطلوب، ويوضح أسباب هذا العجز، فقال: «إن سلفه خورشيد أحمد باشا، كان وقت أن اقتضت المصلحة سفره إلى بلاد الروم (تركيا) مفصولا من الولاية، مدينا بثلاثة آلاف كيس، متأخر مرتبات الجند، وقروضا استدانها من مختلف التجار، وتعهد محمد علي بوفاء هذه الديون، بمقتضى صكوك أعطيت لأصحابها، توجب عليه سدادها، محافظة على شرف الوزارة، ودفعا لوقوع ثورة، وحرصا على عدم تعريض هذا الوزير (أحمد خورشيد) للفضيحة على أيدي أرذال الناس، فكان بفضل ذلك أن استطاع محمد علي إنقاذ الوزير المذكور، وإرساله إلى الديار الرومية، على أنه منذ إرساله، لم يتسع للباشا الوقت، ولم يكن في ميسوره الشروع في سداد هذه الديون.
ثم كان مما زاد في حيرة الباشا استيلاء الإنجليز على الإسكندرية، وما صار يخشاه من تأثر البكوات المماليك بمساعي هؤلاء الغزاة ومسايرتهم لهم، وقد وقع الغزو فجأة، في وقت كان الباشا قد بدأ يستعد لقتال البكوات للانتهاء من أمرهم، ودفع شرورهم بالقوة الممزوجة بالحكمة والتعقل والروية، وقد اضطر بسبب ذلك إلى الإنفاق والبذل ومنح العطايا الكثيرة سواء كان هذا الإنفاق لدفع مرتبات جند الباشا نفسه، أم لدفع مرتبات الجند الذين أمر الباب العالي بإرسالهم من صيدا والشام إلى مصر، مما ترتب عليه أن تضاعفت ديونه.
زد على ذلك ما اقتضاه الأمر بعد فتح الإسكندرية وجلاء الإنجليز عنها من إبعاد رؤساء الجند الساعين في إثارة الفتنة والفساد في مصر، وذلك صونا للمصلحة، مما استلزم إعطاء هؤلاء علوفاتهم؛ أي مرتباتهم وسائر مخصصاتهم المتأخرة، نقدا.
وعلاوة على ذلك، فإن لدى محمد علي عددا كبيرا من الجند، من أصناف الدليلان (الكشافة) والتفنكجيان (الرماة) والسكبان (جند الحرس)، والعربة جيان (المدفعية والحوذية) والشالوبة (أنفار المراكب)، يتكلفون ما قيمته ثلاثة وعشرين ألف كيس من الإيرادات المتحصلة من مصر، ولا ندحة عن وجود هذا العدد الكبير من الجند، ثم إنفاق هذا القدر الجسيم من الإيراد عليهم؛ لأن مصر مطمح أنظار الدول الأجنبية، ناهيك بما تتطلبه مأمورية الحرمين الشريفين التي عهد بها إلى محمد علي، من وجود هؤلاء الجند الكثيرين.
ومع أن الإيرادات المتحصلة من هذا القطر الآن، لا تكفي لسد نصف هذه النفقات الكثيرة، طالما بقي الصعيد غير خاضع لسلطان الباشا فقد اقتضت المصلحة إعطاء الأراضي الواقعة قبلي إقليم البهنساوية للأمراء المصرية (البكوات المماليك)، وفضلا عن عدم الانتفاع بها، يتحمل محمد علي نفقات أخرى بسبب ما يبذله للبكوات من مال؛ حيث إنهم صاروا الآن في خدمته؛ ولأن في ذلك ضمانا لجلب الغلال من الصعيد، وهذه لا مناص من جلبها وادخارها مع غيرها من المؤن، لصالح مأمورية الحرمين الشريفين التي عهد بها إليه الباب العالي، وبحسبان أن فيضان النيل في هذه السنة سوف يكفي لري الأراضي بهذا القطر.
ويعتزم الباشا إنفاذ الجند إلى الحجاز والزحف على جدة وينبع، بمجرد أن يتحقق لديه أن في وسعه أن يطمئن اطمئنانا كاملا من ناحية الفرنسيين؛ نظرا لأنه قد بلغه أنه لم يعد لهؤلاء مجال لمد فتوحاتهم والتسلط على بلدان أخرى في أوروبا بعد تغلبهم على النمسويين في الحرب.
وأن ما يقوم به محمد علي من إعداد ما تحتاجه حملته المزمعة على الحجاز، من خيول وبغال وجمال، وقرب للماء، وأكياس وغلال، وما يتكلفه هذا كله من نفقات، يوازي في أهميته وضرورته المحتمة، ما يبذل الباب العالي من جهد في قتاله مع الدول الأجنبية وما يتحمله من نفقات بسبب ذلك.
وصفوة القول حيث إنه؛ أي الباشا قد غرق في الدين حتى أذنيه، فمن الواضح الجلي أنه يتعذر عليه - بل ومن المستحيل - تحصيل المبلغ المطلوب وإرساله، وهو لذلك يسأل ولي النعم (السلطان) عفوه وصفحه الجميل، وإعفاءه من هذا التكليف.»
وقد أدرك محمد علي أن تباطؤه في الخروج إلى الحجاز، ثم تقاعسه عن إمداد الباب العالي بحاجته من الغلال، وسائر أنواع الحبوب للمعاونة على كسر حدة المجاعة في القسطنطينية، أو بما يلزم ترسانة القسطنطينية من مهمات، لمؤازرة تركيا في مجهودها الحربي، ثم أخيرا امتناعه من إرسال «قلمية الكشوفية، وإمدادية تجهيزات السفر الحربي»، لمساعدة يوسف ضيا على الخروج بحملته إلى الحجاز، أدرك محمد علي أن ذلك كله من شأنه أن يغير عليه الباب العالي، وأنه وإن كان قد حرص على ترديد عبارات الخضوع والولاء، فالواقع أنه يقف موقف العصيان من الدولة والتمرد على السلطان العثماني، وأنه لا مناص من تبلور علاقاته مع الباب العالي، إن عاجلا أو آجلا، بصورة لا بد مفضية إلى الاصطدام، إذا استمر التسويف واستطالت المماطلة.
وقد تنازع محمد علي في هذه المرحلة عاملان محددان: الإقبال على نجدة الدولة، أو الانصراف إلى تحقيق مشروع استقلاله الذي سبق الحديث عنه، وكان معنى الإقبال على نجدة الدولة، سد مطالبها التي لا تفرغ، وإرهاق موارده المحدودة، وهو الذي كان في أزمة مالية مزمنة للأسباب التي كثيرا ما أشرنا إليها، وحرمانه من تلك الأرباح الوفيرة التي يجنيها من تجارة القمح، وتكليفه ما لا طاقة له به وقتئذ من أجل إنفاذ جيش كبير لإخماد حركة الوهابيين في الحجاز، في وقت لما يفرغ فيه من نضاله المستميت مع البكوات المماليك الذين يهددون بخصومتهم العنيدة باشويته ذاتها، وذلك كله دون أن يكون لديه ضمان ما، بأن الباب العالي سوف لا يقلب له ظهر المجن، ويقصيه من باشويته، بينا أن تحقيق مشروع الاستقلال بنيل الحكم الوراثي في مصر، ينهي كل مخاوفه من ناحية الباب العالي، ويزيد من دعم حكومته ويمكن سفائنه - وقد بدأ محمد علي ينشئ أسطولا تجاريا، بمناسبة الاستعداد لحملة الحجاز المزمعة يعمل في البحرين الأبيض والأحمر - من نقل تجارته وغلاله عبر البحار بأمان تحت راية وجاقه، ولا تتعرض لمصادرة أعداء الباب العالي لها؛ لأن الباشا في وسعه - على الرغم من الحرب الدائرة بين الدولة العثمانية والدول الأجنبية - أن يعلن حياده، وفضلا عن ذلك، فقد كان من مزايا عدم الاستجابة لرغبات الباب العالي، أن يتوفر الباشا أولا وقبل كل شيء على إنهاء عصيان البكوات المماليك، وإخضاعهم لسلطان حكومته، فيدخل الصعيد بغلاله الوفيرة في حوزته، فتنشط تجارته وتكثر أرباحه تبعا لذلك، وينبسط سلطان باشويته على الأقاليم الداخلة في نطاقها، فتقوى هذه الباشوية، وتتدعم أركانها، بالدرجة التي تساعده على الاستقلال الذي ينشده.
ثم إن انصرافه عن مقاومة الحركة الوهابية، من شأنه أن يزيد هذه الحركة استفحالا، لا سيما وقد انهزمت جيوش الدولة على أيدي الوهابيين، ورسخت أقدام هؤلاء، وكثرة إغارتهم على أملاك الدولة المتاخمة لهم، وبدأ يتغلغل نفوذهم في اليمن، وقد يكون الوهابيون إذا عظمت قوتهم مصدر خطر على باشويته، وهم الذين ما فتئوا يبثون الدعوة في مصر ذاتها، منذ أن استولوا على مكة فلغط الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه، فمنهم من جعله خارجيا وكافرا، وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم، وطائفة من التجار الذين استولى الوهابي على قوافلهم، وعطل تجارة البن من مخا خصوصا باستيلائه على السفن المحملة به من اليمن، ومن الناس من قال بخلاف ذلك لخلو غرضه، وما إن وصل الخبر مع ركب الحجاج العائدين إلى القاهرة في يونيو 1803 بسقوط مكة المكرمة في أيدي الوهابيين، حتى صار الناس يتناقلون هذا الخبر ويتحدثون فيه سرا فيما بينهم، على نحو ما لاحظ «مسيت» وقتئذ، وأثبت الشيخ الجبرتي صورة ما جاء في أوراق تتضمن دعوة الوهابي وعقيدته، وقد ظلت الأنباء تترى بعد ذلك عن انتصارات الوهابيين في الحجاز، وإغارتهم على أملاك الدولة في أطراف العراق والشام وفلسطين واليمن، وكان آخر هذه ما أبلغه محمد علي نفسه إلى الباب العالي من استيلائهم على قلعة المويلح.
ولكن استفحال حركة الوهابيين، كان من شأنه كذلك أن يشتت جهود الدولة ويضعفها ويقعد بها عن مناوأة محمد علي إذا هي شاءت مناوأته، ويعجزها عن حربه وقتاله إذا هي أرادت إقصاءه من باشويته، واضطر الباشا إلى الاصطدام معها وقتالها، وفضلا عن ذلك، فقد كان من رأي محمد علي أن الوهابي في شق عصا الطاعة على الدولة لم يأت أمرا إدا، بل قد خطا الخطوة التي يفكر الباشا نفسه في خطوها، وأنها إذا تحرجت العلاقات بينه وبين الباب العالي لدرجة انقطاعها وإعلان الباشا لعصيانه السافر وتمرده، لأفاد هذا الوضع المستحدث في إنشاء صلات تجارية وثيقة مع الوهابي، وكان من بين الحوافز على إنشاء أسطوله التجاري في السويس توقع هذا الاحتمال نفسه.
ولم يكن محمد علي قطعا يريد في هذه المرحلة إنفاذ جيش إلى الحجاز، بل إن هذه الاعتبارات جميعها، كانت مبعث ذلك المسعى الذي بدأه مع الوكلاء الإنجليز والفرنسيين وقتئذ، من أجل الظفر بتأييد دولتي إنجلترة وفرنسا لمشروع استقلاله، فقد استأنف مفاوضته مع الأولين منذ سبتمبر 1808، وهي المفاوضة التي أسفرت في آخر الأمر - في مايو 1810 - عن عقد تلك المعاهدة التجارية التي رفضت الحكومة الإنجليزية التصديق عليها، بينما هو قد تحدث إلى «دروفتي» منذ أبريل 1810 في موضوع استقلاله.
بيد أن فشل هذه المفاوضات من جهة، واندفاع محمد علي في حرب مع الباب العالي، من المقطوع به من جهة أخرى أنه لن يخرج منها ظافرا، لمعارضة الدول له، ولأنه كان في وسع المماليك أن يفيدوا منها للم شعثهم والتألب عليه من جديد بالرغم من انتصاره عليهم في معارك اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس 1810، قد جعل الباشا يتريث في الأمر، ووجد أن لا ندحة له في النهاية عن تهيئة جيشه وإكمال استعداداته للخروج إلى حرب الوهابيين، ولقد كان من مزايا استرضاء الباب العالي إمكان الحصول من صاحب السيادة الشرعية عليه على ذلك الوضع الذي أخفق في نيله عن طريق التحالف أو الاتفاق مع إنجلترة وفرنسا.
وعلى ذلك، فقد بادر بعد التماس إعفائه من دفع المبالغ المطلوبة منه، برسم قلمية الكشوفية، وإمدادية تجهيزات السفر الحربي يؤكد للباب العالي صدق رغبته في إنفاذ الجيش إلى الحجاز، ويعد وعدا قاطعا بإرسال كميات كبيرة من الغلال إلى ميناءي السويس والقصير، مع بضعة آلاف من الجند المهيئين لهذه الحملة، وذلك سواء كان واليا الشام وبغداد قد قاما بالمعاونة المطلوبة منهما أم لم يفعلا ذلك، ثم إنه ينبئ الباب العالي بتجهيزاته البحرية من أجل بناء السفن اللازمة لنقل الجند والعمل في البحر الأحمر، ومن بين هذه الفرقاطة التي عرفت باسم أفريقية والتي عهد إلى قبطانها إسماعيل جبل طار بالذهاب بها إلى مالطة ثم إلى إنجلترة، لتسليحها ثم الدخول بها بعد ذلك إلى البحر عن طريق رأس الرجاء الصالح والدوران حول أفريقية، ثم إن الباشا لم يلبث أن وسط قبو كتخداه في الآستانة للاتفاق مع السفير الإنجليزي هناك بصدد شراء سفينة إنجليزية من مالطة للعمل في البحر الأحمر، ولما كان هذا الأخير قد اقترح عوضا عن الشراء إعارة إحدى سفن الإنجليز من الهند بطاقمها؛ لأن حكومته ترفض بيع سفائنها، فقد اعترض الباب العالي على ذلك، وقر الرأي على جلب هذه السفينة من جزر بحر إيجة أو المواني العثمانية أو أخذها من الأسطول العثماني نفسه، على أن يتأكد لدى الباشا فعلا بمشاورة المختصين أن في استطاعة هذه السفينة إتمام رحلتها حول أفريقية دون صعوبة.
وعلاوة على هذا الاهتمام الذي أبداه الباشا لإكمال استعداداته البحرية، فقد خفف شيئا من مطالبه الأولى من الباب العالي، وقصر هذه الآن على عدد من عربات المدافع وقليل من المهمات الأخرى من ذخائر الحرب، ولما كان محمد علي يشك في إخلاص الشريف غالب، فقد أشار على الدولة أن تستوثق من نواياه نحوها فتبعث إليه بكتاب بالعربية تستفسر منه عما إذا كان في عزمه الممانعة في دخول جند محمد علي إلى الحجاز أو أنه سوف يؤازرهم؟
وكان لما ظهر من جدية استعدادات الباشا - لا سيما فيما يتعلق بإنشاء السفائن اللازمة لنقل الجيش إلى جدة وينبع، ثم وعده بإنفاذ الحملة سواء خرج واليا الشام والعراق أم لم يخرجا، ثم إشارته على الدولة بالكتابة إلى الشريف - أحسن الأثر في نفس السلطان العثماني، فبدأت من ثم تزول هواجسه من ناحية محمد علي وتتحسن العلاقات بين الفريقين تحسنا ملموسا، كان من أثره أن اختار السلطان رسولا ذا مكانة لحمل فرمان التثبيت في الولاية عن عام 1810 إلى القاهرة، كما اهتم الباب العالي بإنجاز المهمات التي طلبها الباشا لإرسالها إليه بكل سرعة.
فبادر سليم ثابت، أحد وكلاء الباشا في القسطنطينية، يبلغه منذ 20 مارس، بأن المهمات التي يطلبها الباشا، لا سيما القنابل يجري شحنها من ميناء قولة لإرسالها أولا بأول مع السفن الذاهبة إلى مصر، ومن هذه مركب القبطان ديمتراكي الأنزلي، على وشك الإقلاع، بعد أن استأجرتها الدولة تنقل إلى مصر إحدى عشرة قنبلة وعشر عربات للمدفعية الخفيفة، ويرجوه (في 25 مارس) أن يعيد هذه السفينة محملة بالغلال إلى القسطنطينية.
ثم إن سليم ثابت كتب إليه في 20 مارس، لبيان الأثر الطيب الذي أحدثه اهتمام الباشا بمسألة الحرمين الشريفين، أن هذا الاهتمام قد أكسبه رضاء السلطان، وأنه عند توفيق الباشا في هذه الخدمة الخيرية الجليلة، سوف تترى عليه الإنعامات الكثيرة عند انتهاء حسن خدمته للدولة. بل إن الباب العالي لم يلبث أن عهد إليه بتفويض كامل بمهمة إنقاذ الحرمين مستقلا عن واليي الشام والعراق، كما بعث إليه بصورة من الكتاب الذي سطره للشريف غالب بن مساعد ومفتيي المذاهب الأربعة والسادة وكافة القبائل وعشائر العربان، وجميع الأهلين المسلمين، وقد نعت هذا الأمر العالي، الموشح بالخط الشريف محمد علي نعوتا عظيمة، فبعث الباشا في 16 أبريل 1810، يقدم فروض الولاء والشكر للسلطان، وينبئ الباب العالي، بأنه عين لحملة الحجاز، صفوة من رجاله، الحائزين لرتبة رياسة بوابي دار السعادة بالديوان العثماني: صالح آغا (قوش)، وحسن آغا محافظ دمياط، وسليمان آغا محافظ رشيد، وغيرهم من الرجال المحنكين، على رأس سبعة آلاف جندي من الترك والأرنئود المتمرسين في الحروب، وعين قائدا عاما أو «سر عسكر» للحملة ولده طوسون أحمد باشا، على أن يكون مدير مهمات الجيش السيد طاهر أفندي، وهو صاحب خبرة بشئون الحجاز لسابق خدمته الطويلة به، كما أبلغ الباب العالي، بمناسبة إخفاق الوساطة لدى السفير الإنجليزي لشراء إحدى السفن من مالطة، أنه لم تعد له حاجة بها وبغيرها من السفن التي يمكن إحضارها من جزر بحر إيجة أو المواني العثمانية أو أسطول الدولة؛ حيث إن ميناءي دمياط والإسكندرية صارتا تذخران بالأخشاب من كل نوع، وأنه قد تم في بولاق تجهيز الأخشاب اللازمة لصنع إحدى وعشرين سفينة، تحمل الجمال هذه الأخشاب إلى السويس؛ لتركيب السفن بها، وأن إسماعيل جبل طار أو البشكطاش (جبل النار) قد صار إنفاذه - مع الفرقاطة أفريقية - إلى مالطة، في طريقه إلى البحر الأحمر بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وأنه قد اعتزم إرسال مهمات الحملة في هذه السفن وغيرها من نوع «الداو» التي استولى عليها في البحر الأحمر، وذلك مع قسم من الجيش، بينما يذهب القسم الآخر بطريق البر، يدفعه إلى فعل ذلك، إشادة السلطان بمناقبه ونعته بالحيدري الشيم.
وهكذا صفت الأمور بين الباشا والباب العالي، وبدا أن الأول معتزم حقا وصدقا إنفاذ الحملة إلى الحجاز، ولو أنه كان من الواضح أن استرضاء الباب العالي كان جزءا من الخطة التي رسمها الباشا لنفسه وقتئذ، والتي صار مدارها الحرص على علاقات المودة والصداقة مع الباب العالي، في الوقت الذي لم تسفر مساعيه لدى الوكلاء الإنجليز والفرنسيين عن النتيجة المرجوة، وكان مما شجع محمد علي على التعهد بإنفاذ جيشه لقتال الوهابيين فور فراغه من استعداداته التي يسير فيها بكل همة، أنه كان كبير الأمل في إنهاء خلافاته قريبا مع البكوات المماليك، ووعد إبراهيم بك وزملاؤه بالحضور من الصعيد إلى القاهرة، ليضعوا أنفسهم تحت إشرافه ومراقبته، اعترافا منهم بسلطان حكومته عليهم، كما سيأتي ذكره في موضعه.
ولكن الجو لم يلبث أن اكفهر مرة أخرى، وشاب بعض الكدر العلاقات بين الباشا والباب العالي عندما عمد هذا الأخير إلى خلع يوسف كنج باشا من ولاية الشام، وولى مكانه سليمان باشا الكرجي والي عكا وصيدا، فجمع سليمان حكم هاتين الولايتين في يده، ونشأت من ذلك مشكلات عدة، وصار محمد علي يلح في رجاء الباب العالي إعادة يوسف كنج إلى منصبه وعزل سليمان باشا، لا سيما بعد أن ثبت أن لهذا الأخير صلات مع البكوات المماليك، وقد ظلت مسألة يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي هذه موضع أخذ ورد طويلين، حتى استطاع الباشا استئصال شأفة البكوات في مذبحة القلعة المعروفة، فانتفى الخطر من جهتهم، وصار لا يخشى من ناحية اتصال فلولهم بسليمان باشا، وحتى ظفر الباشا كذلك بوعد صريح من الباب العالي بتقرير الباشوية الوراثية في مصر، إذا هو أنفذ جيشه إلى الحجاز، وانتصر هذا الجيش على الوهابيين.
بيد أن الوصول إلى هذه النتائج التي حصل عليها الباشا، كآثار مباشرة لقضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي، لم يكن سهلا هينا، بل كادت تتحرج بسبب هذه القضية العلاقات بين الباشا والباب العالي، لولا تغلب الحكمة من الجانبين فيرضى الأخير من جهة، بأن يقطع على نفسه عهدا بجعل الحكم وراثيا في أسرة محمد علي، ولو أنه جعل عهده هذا مشروطا بنجاح الحملة المصرية، ويصح عزم الباشا من جهة أخرى على إنفاذ حملته إلى الحجاز بعد أن قر رأيه على الاتجاه صوب الشرق نهائيا؛ لما في ذلك من مزايا، ينتفع بها في توطيد أركان باشويته. (10) قضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي
وتفصيل خبر هذه القضية وتتبع آثارها، يرتبط ارتباطا وثيقا بذلك التطور الذي ساعد على تكييف سياسة محمد علي، ورسم خطوطها، وهو التطور الذي شهدنا أولى مراحله تبدأ بمراقبة محمد علي للأمور، ودراسة الأوضاع السائدة في البلاد، ووزن القوى المتناحرة فيها لا سيما منذ أن صار أحد قائدي الأرنئود الكبيرين، واشترك في الحوادث التي أفضت إلى طرد محمد خسرو باشا من الولاية، ثم لا يزال هذا التطور ينتقل من مرحلة إلى أخرى أثناء المناداة بولاية محمد، وأثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم أثناء حملة «فريزر» حتى إذا ظهرت مسألة الحرب الوهابية، كان قد صار الغرض الأوحد من سياسته هو الظفر بالحكم الوراثي في مصر، سواء تحقق ذلك، برغم أنف الباب العالي - وقد تبين لمحمد علي أنه يتعذر عليه فعل ذلك؛ لعدم تأييد الدولتين (إنجلترة وفرنسا) لمشروع استقلاله - أم جاء بموافقة صاحب السيادة الشرعية عليه، وهو أمر اعتقد الباشا أن من الميسور تحقيقه إذا نجح في استرضاء الباب العالي، على أنه مما تجدر ملاحظته أن بروز قضية يوسف كنج وسليمان باشا في هذه المرحلة، كان بسبب ما انطوت عليه هذه القضية من حقائق متصلة بوضع باشويته في علاقاتها مع مقر السلطنة، كولاية من ولايات الدولة العثمانية، للسلطان العثماني شرعا وقانونا مطلق التصرف في مصير ولاته عليها، يبقيهم في مناصبهم بها أو يعزلهم عنها، ثم بسبب الملابسات التي لابستها، من حيث صلة باشويته بالولايات العثمانية الأخرى المتاخمة لها، وهي صلة لا محيد عن خضوعها لأثر الحوادث الطارئة في هذه الولايات عليها، نقول إن بروز هذه القضية كان من أحسم العوامل التي جعلت الباشا يتجه بنظره من هذا الوقت المبكر صوب الشرق؛ أي صوب الشام.
حقيقة تنازعت الباشا الرغبة في التوسع نحو الغرب، وظهرت آثار هذه الرغبة عندما تزوج محمد علي في مايو 1812 من أرملة أحمد باشا القره مانلي الذي أخرجه أخوه يوسف باشا حاكم طرابلس الغرب من حكومة أو باشوية بنغازي في عام 1805، فلجأ إلى مصر، ولم تكن هذه المرة الأولى التي فعل فيها ذلك؛ حيث كان قد لجأ إلى الإسكندرية وأقام بالصعيد بعض الوقت في العام السابق، وقد عاش الآن بالإسكندرية ثم توفي بها بعد ست سنوات، فتزوج الباشا من أرملته، وأغدق على إخوتها العطايا، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته في 20 مايو 1812 يعلق على هذا الحادث بأن ما فعله الباشا إنما يحمل على الاعتقاد بأنه ما تزوج هذه الزيجة إلا من أجل تحقيق مأربه، وهو غزو برقة، التي امتلكها ملوك مصر القدماء في الزمن الغابر.
ولكن هذا الاتجاه نحو الغرب كان حدثا عابرا، فقد أقر «سانت مارسيل» نفسه في رسالته السالفة بأنه من المعروف أن أطماع باشا مصر، هي إنشاء حكومته على غرار حكومات وجاقات الغرب، إذا شاءت الدول العظمى تأييد أهدافه، وفضلا عن ذلك، فإنه ما أن أثيرت قضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي، وتوسط محمد علي لدى الباب العالي لإرجاع يوسف كنج إلى ولاية دمشق، وإلحافه في عزل سليمان باشا، حتى راح «دروفتي» يوضح لحكومته في 11 نوفمبر 1810 بواعث هذا المسعى، فقال: إن محمد علي يبغي من إعادة باشوية دمشق إلى يوسف كنج، وضع قدمه في الشام، وتحقيقا لهذه الغاية يريد كذلك تنصيب ولده طوسون باشا على ولاية صيدا وعكا، بدلا من واليها سليمان باشا، ثم يستطرد «دروفتي» فيقول: ومع أن مساعيه في صالح يوسف كنج لم تلق قبولا لدى الباب العالي فإن ذلك لا يمنع الاعتقاد بأنه من المحتمل أن ينفذ الباشا خططه التي يبغي منها امتلاك سوريا. ثم عاد «دروفتي» في 19 أبريل 1811 يتحدث عن غايات محمد علي فقال: «إنه؛ أي القنصل الفرنسي، علم أن الباشا كلف قبو كتخداه في القسطنطينية أن يجس نبض وزراء السلطان العثماني في احتمال ظفره بالاستقلال الذي يريده، وفضلا عن ذلك، فهو؛ أي محمد علي، يبغي دائما الحصول على باشوية الشام، وذكر لي ذات يوم أن هذا لن يكلفه سوى سبعة أو ثمانية ملايين قرش يدفعها لخزانة السلطان»، بل إن «دروفتي» ساورته الشكوك من ناحية الغرض الذي يبغيه الباشا من استعداداته العسكرية، فقال في كتابه إلى حكومته في 5 يونيو 1811: «إن الباشا منذ عودته من الإسكندرية في 30 مايو، قد اختص بكل عنايته الجيش الذي يتهيأ بقيادة طوسون باشا لقتال الوهابيين، ولكن كل الاستعدادات التي أجريت تدل على أن هذا الجيش سوف يقطع الصحراء للذهاب إلى سوريا، والحقيقة أن غرض هذه الحملة الصحيح لا يزال سرا يكتمه الباشا، الذي لا يترك حتى في هذا الأمر ذلك النظام الذي درج عليه في سياسته من حيث التأني والتمهل والتسويف، ثم العمل حسبما تقتضيه الظروف.»
وكان بعد أن سير الباشا حملته فعلا ضد الوهابيين، أن كتب «دروفتي» في نشرته الإخبارية عن حوادث شهر أكتوبر 1811، أن الباشا لا يزال يرفض التخلي عن مشروع إرجاع يوسف كنج إلى حكومة دمشق؛ «ليضع بهذه الوسيلة قدمه في سوريا، ولقد جعله الباب العالي يرجو إمكان هذا الترتيب بمجرد نجاحه في طرد الوهابيين من الحرمين الشريفين.» وفي نشرته الإخبارية عن حوادث النصف الأول من شهر ديسمبر عام 1812، كتب «دروفتي» أن بدو الصحراء التي تفصل سوريا عن مصر قد نهبوا قافلة غنية في طريقها من السويس إلى القاهرة، فبعث محمد علي يهدد سليمان باشا بالحرب، إذا لم تعد المنهوبات وتسوى المسألة تسوية مرضية، كما بعث برسول إلى القسطنطينية يشكو سليمان باشا، وقد بدر من الباشا في هذه المناسبة أنه لما يتخل بعد عن مشروع مد سلطانه إلى سوريا.
وهكذا ارتبطت قضية يوسف كنج وسليمان باشا بمشروعات محمد علي السياسية والتي صارت وقتئذ حملة الحجاز ذاتها من أهم أركانها؛ لأن الاتجاه صوب الشرق يحمل معنى دعم باشويته على أساس الحكم الوراثي الذي يريده ويسعى من أجله، ولأن نجاحه في إعادة يوسف كنج إلى حكومة دمشق ثم تنصيب ولده طوسون باشا في ولاية صيدا وعكا، وطرد سليمان باشا من هذه الأقاليم المتاخمة لباشويته، يمكنه من مد سلطانه إلى سوريا، وفي ذلك كله تعزيز وتقوية لباشويته المصرية.
وتفصيل خبر يوسف كنج، أنه استطاع بعد حياة حافلة بالمغامرات - يخدم تارة أحمد باشا الجزار، وتابعه سليمان باشا الكرجي الطرف الثاني في هذه القضية، وتارة أخرى عبد الله باشا العظم - استطاع أن يظفر بولاية الشام خلفا لعبد الله العظم، فلم يلبث في الحكم إلا قليلا، حتى علا ذكره فأقام العدل وأبطل المظالم، واستقامت أحواله، وشاع أمر عدله النسبي في البلدان، فثقل أمره على غيره من الولاة وأهل الدولة لمخالفته طرائقهم، فقصدوا عزله وقتله، وكان سليمان باشا ممن تربصوا به الدوائر ، وطمعوا في ولايته، وقد واتت سليمان الفرصة، عندما توانى يوسف كنج في الخروج بجيش لقتال الوهابيين، وإنقاذ الحرمين الشريفين، تلبية لأوامر الباب العالي، وسهل على خصومه تأليب الديوان العثماني عليه، وأصاخ الباب العالي السمع لسعايتهم، فاعتقد أن يوسف كنج قد انحاز إلى جانب الوهابيين، وآثر نفعه الخاص على مصلحة الدولة، ثم حدث أن هاجم الوهابيون الشام في بداية عام 1810، فعجز كنج يوسف عن دفعهم، فدخلوا حوران وعجلون، واكتفى يوسف باشا بتحصين «مزيريب» - وتقع إلى الجنوب من دمشق - وقفل راجعا إلى عاصمة ولايته، وصار يطلب النجدة من سليمان باشا بعكا، والأمير بشير الشهابي بلبنان لمقاومة الوهابيين وطردهم، فكان لهذا الحادث أسوأ الوقع في دوائر الباب العالي.
فقد رسخ الاعتقاد الآن، بانضمام يوسف كنج إلى الوهابيين قلبا وقالبا، وقرر الباب العالي عزله من ولاية الشام، وإسناد المنصب إلى سليمان باشا، ولما كانت قد استطالت مماطلة محمد علي وتسويفه وتأخره في الخروج بينما استفحل شر الوهابيين، وزادت سطوتهم؛ فقد قرر الباب العالي كذلك، أن يأمر باشا القاهرة أمرا حاسما قاطعا، بإنفاذ جيشه إلى الحجاز، لا سيما وأنه قد بعث إليه بجانب من المهمات التي يريدها، ويستمر إرسال باقي هذه المهمات إليه دون انقطاع، واختار الباب العالي لهذه المهمة المزدوجة «قزلار آغا» ويسمى عيسى آغا، وصفه الشيخ الجبرتي بأنه: «أسمر اللون حبشي مخصي لطيف الذات، متعاظم في نفسه، قليل الكلام.»
فقصد قزلار آغا إلى عكا يحمل فرمانا بعزل يوسف كنج وضم ولاية الشام إلى سليمان باشا والي صيدا وعكا، بدعوى أن يوسف باشا قد نبذ الطاعة، وتباطأ في إرسال جنده إلى بلاد العرب، ودبر سليمان باشا خدعة يستطيع بها إخراج يوسف كنج من الشام، وأخذ حكومتها منه، فعمل على ترويج إشاعة كاذبة بأن الوهابيين قد اقتربوا ثانية من مزيريب، ثم خرج على رأس جيشه لملاقاتهم، ودعا في الوقت نفسه زميله والي الشام، يوسف كنج، إلى الخروج لصد العدو ودحره، فصدق يوسف باشا الخبر ولبى الدعوة، ولكنه ما إن خرج من دمشق، حتى قصد سليمان إلى دمشق بكل سرعة ودخلها، وأبرز فرمان توليته عليها، وأعلن أنه حاكمها، فأسقط في يد يوسف كنج، ولكنه أبى الإذعان وصمم على المحاربة، ولكنه انهزم، ونهب جنده متاعه وانفضوا من حوله، وأهدر الباب العالي دمه، ثم إنه صار يتنقل من مكان إلى آخر، ثم ما لبث أن كتب إلى محمد علي يستأذنه في اللجوء إليه، فأذن له، فحضر إلى دمياط في أوائل سبتمبر 1810، وأرسل محمد علي لملاقاته طاهر باشا، ووصل يوسف كنج القاهرة في 13 سبتمبر، ونزل بقصر شبرا وضربوا لحضوره مدافع، ثم أنزله الباشا بمنزل يطل على بركة الأزبكية وعين له ما يكفيه، وأرسل إليه هدايا وخيولا، وما يحتاج إليه.
وأما قزلار آغا، فقد وصلت القاهرة الأخبار منذ 2 أغسطس 1810 بحضوره من طرف الدولة وعلى يده أوامر وخلعة وسيف وخنجر لمحمد علي باشا، وصحبته أيضا مهمات وآلات مراكب، ولوازم حروب لسفر البلاد الحجازية، ومحاربة الوهابيين، وكان محمد علي متغيبا عن القاهرة، ومشغولا في حربه مع البكوات المماليك في الصعيد؛ حيث انتصر عليهم عند جسر اللاهون في 20 يوليو، وكان يستعد للالتحام معهم في المعركة التي شتتت شملهم في الشهر التالي عند البهنسا، ولكن رجال حكومته في القاهرة احتفوا بعيسى آغا عند وصوله احتفاء طيبا، وقد وصل هذا شبرا يوم 11 أغسطس فعملوا له هناك شنكا وحراقات وتعليقات قبالة القصر الذي أنشأه الباشا بساحل شبرا، وخرجوا لملاقاته ثم عملوا له موكبا عظيما وطلع إلى القلعة، وضربوا عند طلوعه إلى القلعة مدافع، وأحضر قزلار آغا خلعة من القسطنطينية لإسماعيل بن محمد علي، فعملوا ديوانا بالقلعة، وألبسوها لابن الباشا، وجعلوه باشا مير ميران ... وضربوا شنكا ومدافع.
ولكنه سرعان ما تبين أن قزلار آغا - على غير مألوف عادة رسل الباب العالي - يرفض كل ما يريد رجال الباشا أن يقدموه له من هدايا، بل وأبى أن ينزل بالمنزل الذي أعده الباشا لسكناه، وكان هذا التحفظ الشاذ دليلا على أن الأوامر التي أتى بها رسول الباب العالي في هذه المرة كانت صارمة شديدة ولا يحتمل تنفيذها أي إمهال، وأن على الباشا أن يخرج بجيشه سريعا إلى الحجاز، فبادر محمد علي بالعودة إلى القاهرة، ووصلها في 17 سبتمبر، وراح يؤكد للآغا أنه مهتم جد الاهتمام، ومن زمن طويل بانتزاع الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، وأنه تعهد بالقيام بهذه المهمة منفردا من بضعة شهور خلت، ولم يطل مقام قزلار آغا فغادر القاهرة إلى القسطنطينية في 29 سبتمبر، ولكن قبل سفره كان الباشا قد بدأ يسعى لدى الباب العالي، لاستصدار عفو السلطان عن يوسف باشا، وإرجاع ولاية الشام إليه، وعزل سليمان باشا عنها، ثم إبعاده إن أمكن من عكا وصيدا كذلك.
ولم يكن هناك بعد انتصار محمد علي على البكوات المماليك في معركتي قنطرة اللاهون والبهنسا الأخيرتين، ما يدعو لإرجاء إنفاذ جيشه إلى الحجاز؛ حيث انتفى الآن أكبر مسوغ استند إليه الباشا حتى هذا الوقت في إرجاء حملته ضد الوهابيين؛ لأن الباب العالي كان قد أجاب مطالبه، وبدأ يبعث إليه بالمهمات وأدوات الحرب التي يريدها، أضف إلى هذا أن محمد علي نفسه كان قد صمم فعلا على تلبية أوامر السلطان، للأسباب التي عرفناها، ولكن ظهور مسألة يوسف كنج وسليمان باشا، أدخل تغييرا جديدا على الموقف، حمل الباشا على التريث حتى ينتهي إلى أمر في هذه القضية.
ومما تجدر ملاحظته، أن محمد علي لم يكن يريد أن يتخذ من هذه المسألة مجرد ذريعة تضم إلى ذرائعه الأخرى التي توسل بها سابقا لإرجاء تنفيذ أوامر الباب العالي، بل إنه كان صحيح العزم على تسوية قضية يوسف كنج وسليمان باشا التسوية التي تكفل له الاطمئنان على باشويته، قبل إخراج أكثر قوات جيشه من البلاد وإرسالهم إلى أرض الحجاز البعيدة، ولقد كان من نتائج مسعى الباشا لتحقيق هذه الغاية، وعد الباب العالي له - كما أسلفنا - بمنحه الحكم الوراثي في باشويته عند انتصاره على الوهابي.
وتتضح جدية مسعى محمد علي في إرجاع ولاية الشام إلى يوسف كنج من الأسباب التي استند عليها في المطالبة بعزل سليمان باشا الكرجي، وتأمين الدولة له؛ أي لمحمد علي، من شروره، وأما هذا المسعى فقد بدأ وقزلار آغا لا يزال في القاهرة، فكتب محمد علي إلى الباب العالي في 25 سبتمبر 1810 رسالة طويلة، يلتمس ليوسف باشا العفو من السلطان إلغاء عقوبة الإعدام التي صدرت عليه، وإطلاقه والإفراج عنه، وتوجيه إيالة الشام إليه.
وتضمنت هذه الرسالة شكوى محمد علي من سليمان باشا، وكانت شكوى مريرة، بدأها بقوله: إن هذا الأخير ينتمي إلى نفس الجنس الذي ينتمي إليه المماليك في مصر؛ ولذلك فهو بحكم هذه الصلة يهوى مساعدتهم قدر استطاعته، وقد كانت له بمحمد بك الألفي صلة وثيقة، والأخير في حياته كان أقوى البكوات خصومة لمحمد علي، ويعزو الباشا لمكائده السبب في إغراء البكوات: شاهين الألفي وزملائه الذين كان محمد علي قد نجح في الاتفاق معهم في العام السابق وحضروا مستأمنين يعيشون في القاهرة - على نحو ما سوف يأتي ذكره مفصلا - «فأسكنهم بها محمد علي بالاستئمان والصلح على أن يلتحقوا بخدمته، فكان سليمان باشا هو الذي دعاهم إلى العصيان، بتلقينه دروس الفتنة والفساد لهؤلاء (البكوات) في رسائله إليهم، التي صار يحضهم فيها على التمرد، ويحرك فيهم الفتنة، مبعث ذلك فساد رأيه ثم رغبته في تعطيل محمد علي عن القيام بالمهمة التي أسندت إليه؛ أي إنقاذ الحرمين الشريفين، الأمر الذي ترتب عليه كذلك، اضطرار محمد علي إلى تحمل نفقات كثيرة بسبب استئنافه للنضال والحرب مع المماليك. وفضلا عن ذلك، فقد دأب سليمان باشا على تحرير الشكاوى في حق هذا الخادم المطيع؛ أي محمد علي، إلى الدولة العلية، وإلى أولياء الأمور (بالباب العالي) دون أن يكون لهذه الشكاوى أصل أو سبب.»
ثم استطرد الباشا يقول: «ولكنه قد تمكن من إزالة غائلة المماليك بحد السيف ولله الحمد، بفضل ما يملكه من قوة وقدرة في ظلال جلالة السلطان، وأعطى المناصب التي كانت أعطيت للمماليك إلى رجال حكومته، فكان ما فعل سليمان باشا من حيث تحريك الفتنة والحض على العصيان، مبعث خير في النهاية، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
ومع ذلك، فلا يعني هذا انتفاء الخطر من ناحية سليمان باشا ؛ إذ يتوقع محمد علي عند إرسال ولده طوسون أحمد باشا مع جنده المشاة المعينين للذهاب بطريق البحر إلى جهة الحرمين الشريفين، وعند سفر محمد علي قريبا بطريق البر، بعد ذهاب ولده؛ يتوقع محمد علي قطعا أن يعود سليمان باشا إلى مألوف عادته القديمة، فيعمل على تحريك الفتنة، ويدأب على إلحاق الأذى به؛ حيث إنه عاجز كل العجز عن الذهاب إلى الحجاز، وإن كان قد طلب الباب العالي منه ذلك؛ لأنه لا جند ولا قوة لديه، ومع أنه يجب على محمد علي أن يمضي في مهمته غير عابئ بفتن سليمان باشا لاعتقاده أن من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، إلا أن المصلحة تقتضي أن لا يترك خلف المنتدب لمهمات جسيمة لم يتيسر لأحد القيام بها منذ خمس سنوات، وعشر سنوات، وعشرين سنة، من يقوم بتحريك الفتنة ضده، ويعمل على إفساد الأمور عليه، ولا أن يكون مثل هذا الرجل في جواره، حتى يهدأ خاطره ولا ينصرف ذهنه إلا للمهمة المكلف بها.
وعلى ذلك، فإذا دفع المشار إليه؛ أي سليمان باشا، وأزيل من جواره، ووجهت إيالة الشام إلى يوسف باشا كنج، مع التفضل بالصفح عن ذنبه والعفو عنه، وإبقاء وزارته؛ دخل الاطمئنان إلى قلب الباشا وتسنى إنجاز مأمورية الحجاز بكل سرعة.
وليس مبعث ما يسأله محمد علي سوى ما تستلزمه طبيعة المهمة المكلف بها، من حيث ما يجب لتسهيلها من دفع عوامل الشر عنه، ولم يكتب ما كتب لغرض نفساني ضد سليمان باشا أو لتحيز في جانب يوسف باشا، آية ذلك أنه ما كتب شيئا منذ أن ولي الوزارة في شأن هذين، سواء كان خيرا أم شرا، إلا ما أملته الوقائع الصحيحة، وقد توسط الآن في الشفاعة ليوسف باشا كنج حسبة لله؛ نظرا لأنه يدين بالعبودية لجلالة السلطان، ولا ذنب له، وتعرض لغضب جلالته، بسب ما افتراه عليه خصومه زورا وبهتانا، وحيث إن يوسف باشا قد التجأ إلى محمد علي ويعده مسموع الكلمة، وموضع اعتبار لدى الدولة العلية، يرجو محمد علي أن يقبل السلطان شفاعته، وقد قال تعالى:
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .
واختتم الباشا رسالته بتكرار الرجاء في دفع سليمان باشا الذي يجزم محمد علي يقينا أنه يسعى في المفاسد المفضية إلى الشرور، والتي يتسبب عنها انشغال البال أثناء قيامه بمهمة الحجاز، ويرجو إبعاده من جواره ، مع إصدار العفو عن يوسف باشا كنج وإطلاقه، ومحو عقوبة الإعدام عنه وتوجيه إيالة الشام إليه، وأنه؛ أي محمد علي، لم يكن فيما سطره لا متحيزا ضد سليمان باشا ولا متجنيا عليه، فضلا عن أنه لم يكن مدفوعا بعوامل نفسانية ضد هذا الأخير لا سبب ولا موجب لها.»
وعاد محمد علي في 30 سبتمبر يكرر رجاءه في العفو عن يوسف باشا وإرجاع ولاية الشام إليه، وإبعاد سليمان باشا من جواره، فذكر نفس الحجج التي ذكرها في رسالته السابقة، مبينا أن بقاء سليمان باشا على حدود باشويته، يثير الفتن ويحبك خيوط المؤامرات ضده، ويعطل خروجه إلى الحجاز، مع ما يترتب عليه التأخير في إنهاء مهمة الحرمين الشريفين، واستشراء فتنة الوهابيين في بلاد العرب تبعا لذلك، من ضرر عظيم لا يقتصر أذاه على محمد علي، بل يلحق بالدولة بأسرها، وأكد الباشا أنه سوف يقوم بإنجاز هذه المهمة وحده ودون انتظار أية معاونة من أحد، بمجرد أن يقبل الباب العالي رجاءه.
ومع أن الباشا ظل مهتما في إكمال استعداداته لحملة الحجاز، وجلب سفن الداو أو الضاو إلى ميناء السويس لنقل الجند، فقد استمرت قضية يوسف كنج وسليمان باشا تحتل مكانا ظاهرا في تفكيره، وكان لا يسعه إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وخطر البكوات المماليك لا يزال ماثلا، طالما بقي سليمان باشا يراسلهم، ويحضهم على جمع فلولهم، واستئناف القتال مع الباشا، والثابت أن الخطر المباشر، قد طغى في هذه الفترة على التفكير في أي غرض آخر، بعيد أو قريب، استهدفه الباشا من حملته المزمعة على الحجاز.
وقد شفع محمد علي وساطته في حق يوسف كنج لدى الباب العالي، ببذل المال الكثير في القسطنطينية، ونشط كتخداه محمد نجيب وسائر وكلائه، يسعون بكل همة لاستصدار العفو عن يوسف كنج وإرجاعه إلى ولايته، فكتب أحد هؤلاء، سليمان أفندي، منذ 19 سبتمبر يطمئن محمد علي بأن المساعي مبذولة لهذه الغاية، ولكن جهود هؤلاء الوكلاء لم تأت بنتيجة لتمسك الباب العالي بموقفه، وبدلا من أن يقبل هذا وساطة محمد علي بعث يأمر محمدا عليا برمي رقبة يوسف باشا، وجاء في أمره هذا إليه (في أكتوبر سنة 1810)، أن الباب العالي كان قد عهد إلى يوسف كنج بالولاية على مقاطعات غنية كثيرة، مثل دمشق وطرابلس الشام، لقاء أن يقوم بمحاربة سعود بن عبد العزيز وطرده من الحرمين الشريفين، ولكن يوسف كنج لم يفكر إلا في مصلحته الخاصة، ولم يهتم بهذه المسألة، بل إنه لم يلبث أن اتحد مع الوهابي، مع ما في ذلك من خروج على الشريعة الإسلامية، ولما كان السلطان قد علم أن يوسف باشا قد ذهب إلى محمد علي لاجئا، فقد أصدر أمره إلى هذا الأخير أن يبعث إلى القسطنطينية بأقصى سرعة رأس يوسف كنج مقطوعا.
وفي 11 أكتوبر من العام نفسه، كتب أحمد شاكر من القسطنطينية إلى محمد علي، يوضح الأسباب التي جعلت أبواب الشفاعة ليوسف باشا والتماس العفو عنه مغلقة، وينبه بإرسال الأمر الصادر إلى الباشا بقطع رأسه وإرساله إلى الدولة، وهو الأمر السالف الذكر، فذكر أحمد شاكر أن سبب غضب الباب العالي على يوسف باشا، هو كسله وتراخيه في مسألة استخلاص الحرمين الشريفين من الوهابيين، فصدر فرمان من السلطان بإعدامه؛ حيث اعتبر مسلك يوسف كنج مخالفا للدين والشرع؛ ولذلك فقد صارت أبواب الشفاعة مسدودة، بل وأصدر السلطان أمره إلى الباشا برمي رقبته، ولا معدى عن تنفيذ هذا الأمر نظرا لما ظهر من استهجان لوساطة الباشا وشفاعته في حق يوسف كنج.
فكان هذا الفشل صدمة لمحمد علي ومخيبا لآماله، حتى إن «دروفتي» الذي استطاع أن ينفذ إلى سريرة الباشا، بحكم صلاته الوثيقة به من وقت وصوله إلى الولاية، وأحاديث الباشا الكثيرة معه عن مشروعاته وأهدافه، لم تفته ملاحظة أن وساطة محمد علي لم تقابل بترحاب في القسطنطينية، مما أحدث أثرا سيئا في نفسه، لما سوف يترتب على رفض إرجاع يوسف كنج إلى باشوية دمشق من تعطيل لأطماع محمد علي في سوريا، ولو أن هذا الأخير - كما استطرد «دروفتي» في رسالته التي نقل فيها هذا الخبر إلى حكومته في 11 نوفمبر - يتذرع (لتبرير وساطته) بدعوى أن قسما من الفرسان السوريين في جيشه، والذين خدموا سابقا تحت قيادة يوسف كنج أيام ولايته في الشام، يرفضون السير ضد الوهابيين ما لم يرجع يوسف كنج إلى باشويته.
ولكن هذه الصدمة ما كانت لتثني محمد علي عن عزمه، وهو الذي قر رأيه على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، بل كانت على العكس من ذلك مبعث نشاط جديد لاستئناف المسعى لدى الباب العالي بكل همة، ولما كان الديوان العثماني من جهته لا يسعه الاستغناء عن خدماته، ويبغي القضاء على الوهابي، ولا يوجد من الولاة في الدولة من يستطيع إنفاذ جيش قوي، وكامل العدة لهذه الحرب، التي اعتبرتها الدولة العثمانية حربا دينية، فقد تضافرت العوامل التي ساعدت على انفراج الأزمة. (11) الباب العالي يعد بالباشوية الوراثية
فقد مضى محمد علي في استعداداته، ولكنه اشترط شرطا أساسيا لخروجه شخصيا إلى الحجاز، لضمان نجاح الحملة المزمعة، أن يعفو السلطان عن يوسف كنج، وأن يعزل سليمان باشا من ولاية الشام، فكثرت المراسلات بين القاهرة والقسطنطينية في الشهور الستة التالية، تبين في أثنائها لمحمد علي أن الأمور قد تحرجت بينه وبين الباب العالي بسبب تأخر خروج جيشه إلى الحجاز، لدرجة أنه صار حتما عليه أن يرسل هذه الحملة لقتال الوهابيين، سواء أجاب الباب العالي مطلبيه (العفو عن يوسف كنج وعزل سليمان الكرجي) أم لم يجبهما، وهذا إذا شاء عدم الاصطدام معه وإعلان الثورة عليه، وهو ما لم يكن في وسعه ولم يكن في صالحه - للظروف والأسباب التي عرفناها - أن يفعله، ولقد كان من أثر تحرج الأمور بينه وبين الديوان العثماني في هذه الفترة، أن قر رأي محمد علي على درء خطر مكائد سليمان باشا عنه، ومعالجة مسألته بالوسائل التي في وسعه هو اللجوء إليها، طالما بقي الباب العالي مصرا على بقاء سليمان باشا في ولايتي الشام وصيدا، ولا يريد عزله من حكومة دمشق، فكان هذا العزم مبعث الكارثة التي حلت بالبكوات المماليك في مذبحة القلعة، ثم إنه كان مما جعل محمد علي ينزل بهم هذه الكارثة المروعة، أن الباب العالي - كتسوية لقضية يوسف كنج وسليمان باشا - وعد محمد علي بإجابته إلى المطلب الذي نشده دائما، وظل ركن الزاوية في سياسته بأسرها في هذه الفترة، إنشاء الحكم الوراثي في باشويته.
ثم إنه تبين في أثناء هذه الشهور الستة للسلطان كذلك، أن محمد علي بالرغم مما بدا منه من لجاجة في قضية يوسف كنج وسليمان باشا، قد صح عزمه فعلا على القيام بحملة الحجاز، فقطع شوطا بعيدا في الاستعداد لهذه الحملة، وأرسل قطع أسطوله من بولاق لتركيبها في السويس لنقل الجند، كما شرع في شحنها بالمؤن والذخيرة، فلم يكن هناك معدى إذن، لضمان نجاح هذه الحملة من نزول الباب العالي شيئا من موقفه، لا سيما وقد اشترط محمد علي لذهابه بنفسه إلى الحجاز مع جيشه إجابة مطالبه، فكان وعد الباب العالي بإعطائه الحكم الوراثي أولا ثم كان عفوه عن يوسف كنج ثانيا، بل ووعد الباب العالي بتنصيب يوسف كنج واليا على جدة، كتسوية نهائية لمسألته.
وكان من الواضح أنه إذا نجح محمد علي في حملته ضد الوهابيين، زاد قدمه رسوخا في باشويته، بحيث يتعذر على سليمان باشا مناوأته، لا سيما بعد أن يجرده من الأداة التي استخدمها في تحريك الفتنة في مصر (البكوات المماليك)، وبحيث يستطيع محمد علي تجديد المسعى في مسألة يوسف كنج، ومن أجل الظفر بالباشوية الوراثية، مقصده الأول دائما إذا أخلف الباب العالي وعده.
واستؤنفت المراسلات بين محمد علي والباب العالي، بكتاب بعث به إليه في 18 أكتوبر 1810، محمد عارف أحد وكلاء الباشا في القسطنطينية، يستنهض همته في موضوع الحرمين الشريفين، ويذكر له أن ما ظهر من تصميم الباشا على محاربة الوهابيين، قد قوبل بالدعوات الطيبات الصالحات من شيخ الإسلام ، الذي سطر كتاب ثناء وتقدير للباشا، ولكن الباشا بقي متمسكا بمطلبه (عزل سليمان باشا من إيالة الشام)، وعاد يؤكد في 3 نوفمبر، أن سليمان باشا لا يني يتراسل مع البكوات المماليك، بالرغم من عداء هؤلاء المستمر لمحمد علي، حتى إنه اضطر إلى قتالهم، وإعمال السيف فيهم وقال إنه يسوءه أشد الاستياء أن يكون الباب العالي قد كلفه بمأمورية إنقاذ الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين مستقلا ومتعهدا بهذه المصلحة الجسيمة وحده بينما تجري المكاتبات في الوقت نفسه بين سليمان باشا وبين البكوات المماليك، وتقوم بين الفريقين صداقة اشتهر أمرها بين الناس، كما صار معروفا للجميع أن هناك مراسلات بين سليمان والبكوات، ثم قال محمد علي: «إن سليمان باشا لا يبغي من مصادقته للبكوات وتراسله معهم سوى الحيلولة دون تمكين محمد علي من القيام بهذه المأمورية الحجازية، وأن سليمان لن يحجم عن بذل كل ما يملك في هذا السبيل؛ حتى ينتقم منه، لا سيما وأن مئات من الأشقياء (المماليك) صاروا يقيمون الآن بولاية السودان فارين من مصر، ومع أن هناك خلافا بينهم فيما يجب أن يفعلوه: أيذهبون إلى تونس ومنها يبحرون إلى فرنسا، أم يذهبون إلى الوهابيين عن طريق الحبشة، أم ينضمون إلى سليمان باشا، فيذهبون عن طريق الجبل (على طول شاطئ البحر الأحمر) على ظهور الإبل إلى القدس، فقد استحسنوا جميعا الرأي واستصوبوه، وقرروا الذهاب إلى سليمان باشا.»
وقد أنذر محمد علي في رسالته هذه «أنه إذا اتضح له أن البكوات قد صح عزمهم فعلا على الذهاب إلى سليمان باشا فإنه لا محالة سوف يسلط عندئذ قواته على جهة العريش وغزة، ويرسل إلى تلك الجهات قدرا من العساكر البدو ليقطعوا السبيل على المماليك، ثم إنه لما كان واضحا أن الباشا المذكور سليمان لا يقتصر على كل حال على الاشتغال بخاصة نفسه، بل سوف يتصدى بعد سفر محمد علي من مصر إلى الحجاز، ويعمل لنشر المفاسد، وإرباكه حتى يوقعه في الغلط، فإن بقاء سليمان في ولايته سوف يعطل خروج محمد علي في جيشه ضد الوهابيين؛ ولذلك فإنه يعود فيطلب مكررا ضرورة عزل سليمان باشا من إيالة الشام.»
وفي 25 نوفمبر عاد محمد علي يكتب مرة أخرى إلى الباب العالي: «أن حاجته لإبعاد سليمان باشا من ولاية الشام قد باتت أمرا ظاهرا ظهور الشمس في رائعة النهار؛ لأن لديه من المعلومات الوثيقة ما يجعله يجزم قطعا بأن سليمان سوف يجترئ على باشويته وقت سفره في الحجاز، وأما إذا لم يبعد سليمان باشا من إيالة الشام فسوف يضطر محمد علي إلى البقاء في مصر، ويكتفي فقط بإرسال العساكر المرتبين بحرا بالضرورة، وهو لا يدري حينئذ إذا كان من المنتظر أن ينجح هؤلاء في تحقيق المهمة المكلفين بها والوصول إلى الغرض المنشود؛ أي هزيمة الوهابيين واستخلاص الحرمين الشريفين منهم، أم يكون الفشل نصيبهم.»
وقد انطوى هذا التحذير على تهديد خفي بأن الباشا قد يعدل في آخر لحظة عن إنفاذ الحملة كلية؛ حيث إنه قد صار مشكوكا في نتيجتها إذا هي ذهبت بدونه.
وعلاوة على ذلك، فقد اختار محمد علي هذا الوقت بالذات، ليعرض «مشروع استقلاله» بصورة واضحة محددة على القسطنطينية، ويطلب إعطاءه وضعا مماثلا لوضع وجاقات الغرب، فبعث إلى كتخداه محمد نجيب في 24 نوفمبر 1810 برسالة مطولة، تحدث فيها عن هزائم جيوش الدولة على يد الروس، والتي كان من أثرها أن اضطر السلطان إلى طلب النجدة من نابليون، ثم استطرد من ذلك إلى عرض مشروع استقلاله، وذكر مزاياه، والفائدة التي تعود من تحقيقه على الدولة ذاتها، فقال: «ولقد وجدت الوسيلة التي يمكن بها خدمة الدولة وقد سبق لي أن ذكرتها لكم - مخاطبا نجيب أفندي - وهي أن يعلن الباب العالي إيالة مصر حرة، في نفس الوضع الذي لوجاق الجزائر والوجاقات الأخرى؛ فإنه إذا حدث قيام حالة حرب بين الإنجليز والإمبراطورية العثمانية، فسوف يكون في وسعي البقاء بمنأى عن هذه الحرب، وأظل على صلات طيبة مع الإنجليز، وأستطيع حينئذ الحصول على خمس أو عشر سفن كبيرة، أرفع عليها علم الوجاق المصري فأجعل هذه السفن تطوف في البحر الأبيض، ولن ألقى صعوبات ما في تموين أهل القسطنطينية بالغلال وسائر أصناف الحبوب، وبالذخائر المصرية، وسوف أعمد إلى شحنها بكميات وفيرة من هذه المواد، وأبعث بهذه السفن المحملة إلى القسطنطينية دون انقطاع، ومن ناحية أخرى فلن تصادف مهمة استخلاص الحرمين الشريفين المسندة إلي أية صعوبات تعطلها، فسوف يقوم بها الباشا فورا، وهو مطمئن إلى نجاحه في هذه المهمة، حتى إذا انتهت مهمة الحرمين الشريفين، يعمد جلالة السلطان إلى سحب هذا الوضع الذي أعطي لإيالة مصر، وتعود هذه إلى الوضع الأدنى الذي كان لها، كمقاطعة عادية من مقاطعات الدولة فحسب، وما نحن وأهل هذه البلاد إلا عبيدا لمولانا صاحب الجلالة.»
وهكذا، كان من الواضح مما جاء في هاتين الرسالتين، أن الباشا بما أبداه من تشكك في نجاح الحملة إذا خرجت بدونه، وبما تقدم به الآن من طلب صريح، يبغي منه رفع ولايته إلى مرتبة الوجاقات قد صار يلوح بأن إنفاذ جيشه إلى الحجاز مرتهن بإجابته، ليس إلى مطلبه الخاص بعزل سليمان باشا من إيالة الشام فحسب، بل وإعطائه الحكم الوراثي في مصر كذلك.
ولقد كان لهذا التهديد الخفي أسوأ الوقع في دوائر الباب العالي، ونشط المعارضون لمطالب محمد علي ينشرون دعاية مسممة ضده، وأذاع بعض بطانة السلطان العثماني عن مطالب محمد علي، إن تلك إلا حجج ودعاوى، لا يبغي منها الباشا سوى المماطلة والتسويف، وأنه لن يخرج لحرب الوهابيين، ولو بذل له السلطان ملك الدنيا بحالها، ولقي وكلاء الباشا نصبا وتعبا في دفع هذه الاتهامات عن مولاهم، وراحوا يحذرونه مغبة إرجاء إرسال ابنه طوسون باشا قائد الحملة العام إلى السويس وإلى ينبع، كما صاروا يحذرونه من اتخاذ صلات سليمان باشا بالبكوات المماليك ذريعة للتخلي عن الحملة أو للإبطاء أكثر مما وقع في إنفاذها، وفضلا عن ذلك، فقد راحوا من ناحية أخرى يبذلون كل ما وسعهم من جهد وحيلة لالتماس العفو السلطاني ليوسف كنج، وإنهاء مسألته بصورة تبعث على الرضى وتحفظ سمعة محمد علي الذي أخذ على عاتقه أمام الملأ التوسط فيها، ثم إنهم كدوا وكدحوا حتى يظفروا من الباب العالي بجواب شاف للمسألة التي أثارها جديا الآن محمد علي، وهي رفع إيالة مصر إلى مرتبة الوجاق على نمط وجاقات الغرب، وعلى أساس تقرير الوراثة في باشويته، ولقد تبين لهؤلاء الوكلاء أثناء مساعيهم هذه أن الأمل عظيم في نجاحها، على الأقل بالدرجة التي تكفل قدرا كبيرا من الرضى، لو أن الباشا أنفذ جيشه إلى الحجاز بكل سرعة.
وعلى ذلك، فقد بادر محمد عارف ومحمد نجيب بالكتابة إليه من القسطنطينية في 8 ديسمبر يستحثانه على إرسال ولده طوسون باشا إلى السويس، ويؤكدان له «أن وصول هذا الخبر إلى الآستانة يحدث أثرا كبيرا في دوائر الديوان العثماني، ويكون مدعاة لبشر وفرح عظيمين، وبخاصة لأن هناك كثيرين ممن يعارضون إجابة مطالب الباشا، ويزعمون أن من العبث توقع قيام محمد علي بهذه الحملة؛ لأنه لو أعطي الباشا الدنيا بأسرها لما تحرك إلى الحجاز، ولما أرسل أحدا في هذه المهمة.»
وفي 20 ديسمبر 1810 بعث إليه محمد نجيب برسالة على غاية من الأهمية، يوضح له جسامة الأخطار التي ينطوي عليها تردده في إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ويبلغه شدة تذمر الباب العالي وشكواه المريرة مما يظهر له من مماطلة من جانب الباشا في هذه المسألة، ولهذه الرسالة بفضل ما تضمنته آثار خطيرة، من حيث إنها جعلت الباشا يحزم أمره نهائيا على إنفاذ الحملة الوهابية دون أي إبطاء من جهة، واتخاذ الإجراءات التي اعتقد وجوبها، وكان في قدرته هو اتخاذها محليا لتجنيب باشويته شرور سليمان باشا واجتراءه عليها أثناء غيبة جيشه في بلاد العرب البعيدة، وأما نص هذه الرسالة بتاريخ 23 ذي القعدة 1225 و20 ديسمبر 1810 فكان الآتي:
من محمد نجيب إلى مولاي صاحب الدولة محمد علي
لم أقصر في تبليغ جميع إرادات وإفادات أفندينا محمد علي كما أمر ... وقد حدث ذات ليلة أن دعاني أحد عظماء الدولة لمقابلته في عزلة، ودام الاجتماع بيننا أربع ساعات متصلة، فقال هذا العظيم: يا نجيب أفندي، دعنا نطرح الرسميات جانبا في هذه الجلسة، ونتكلم بصراحة ووضوح، فإنك لم تترك شيئا إلا قلته لنا ولغيرنا، في صالح حضرة والي مصر، إما كتابة وإما مشافهة، ولكن إني أسألك ماذا فعل المشار إليه لتنفيذ أية إرادة أصدرتها الدولة العلية إليه؟ لقد أهمل أوامرها جميعها، وهو وزير منذ ست سنوات، لقد اكتفى بأن صار يعد بإرسال ستين ألف كيلة من الحنطة وبضع مئات من أكياس النقود إلى مولانا السلطان صاحب الشوكة، وذلك في العام الماضي فقط، ولا يمكن أن تكون هذه الخدمة في خلال ست سنوات مبعثا للرضى والاطمئنان.
ثم إن محمد علي - كما استمر هذا العظيم يقول - كان قد وعد منذ ثلاث سنوات بإرسال خمسمائة كيس نقدا لإعانة الجهاد (ضد الوهابيين) ثم طلب أن يستبدل بها إرسال ذخائر، فصرح له بذلك، ولكن لم يظهر لهذه الذخائر أي أثر إلى الآن، وبالرغم من مضي أكثر من ثلاث سنوات على إحالة مسألة الحرمين الشريفين إلى عهدته، فقد ظل يتخلص دائما من القيام بهذه المهمة، فيقول سأذهب هذه السنة، أو سوف أذهب في السنة القادمة، ولم نلمس أثرا يدل على وجود أية نية لديه في هذا الشأن، بل كان كل ما شهدناه هو المماطلة والتسويف فحسب، وقول «لعل» و«ليت».
ومع أنه تعهد قطعا في العام الماضي وأكد الكلام بأنه سوف يخرج إلى الحجاز بعد ثمانية شهور دون انتظار لما يفعله واليا الشام وبغداد، ودون أن يطلب مليما واحدا، أو حتى ما يساوي المليم من الدولة العلية، وبالرغم من الإغداق عليه بالمهمات والإدارات الكثيرة، وفي وقت الضيق هذا (الذي تمر به الدولة)، ثم إعلاء قدره، وتلطيف خاطره بهذه الصورة التي لم يسبق لها مثيل، من جانب الطرف الهمايوني الأشرف بتفضيله بإرسال وكيل الخزينة الهمايونية له، فإنه لم ينفذ وعده بحجة الأمراء (البكوات) المماليك.
فهل تعتقدون أن مسألة هؤلاء البكوات، مسألة ذات خطورة حقيقة، أم أنتم تحسبون أنكم تستغفلون الدولة العلية بذلك؟ نعم إن نقض البكوات لعهدهم أمر واقع ومسلم به، ولكن لماذا لم يرسل محمد علي رأسين أو ثلاثة رءوس مقطوعة إلى مقر سياسة السلطنة العثمانية ، وعلى الأخص بعد خيانة شاهين بك الألفي الذي أنعم عليه محمد علي بإنعامات كثيرة؟ ولماذا أحضره إليه الباشا مرة بعد أخرى، ثم أكرم وفادته في المرة الأخيرة أكثر مما فعله معه في المرة الأولى؟ وهل يمكن إذا فكرنا في الأمر قليلا أن يقبل العقل ما فعله الباشا؟ أوليس هذا دليلا على أن ما فعله محمد علي نوع من التواطؤ مع الأعداء؟
لقد جرى ما جرى، ولنضرب الآن صفحا عنه، ولكن الباشا بالرغم من تعهده في عريضته للباب العالي هذه المرة في أثناء توجهه لمحاربة البكوات، وهي العريضة التي قال فيها: إنه سينهي مسألة البكوات في ظل الدولة، وإنه لن ينقض عهده أيضا فيما يتعلق بالمسألة الحجازية حتى إنه ترك كاتب ديوانه في مصر (القاهرة)، لإنجاز الاستعدادات اللازمة، حتى إذا عاد من محاربة المماليك خرج فورا بجيشه إلى جهات الحجاز، ودون أن يجعل هذا الجيش يدخل القاهرة، بالرغم من هذا كله، صرف الباشا نظره عن وعده، كأنه لم يكسب شيئا من هذا القبيل، وكأنما لا علم له بشيء من ذلك جميعه، ثم راح يعلق حركته وتوجهه إلى الحجاز على عزل والي الشام سليمان باشا.
فيا عزيزي نجيب أفندي، بماذا يضره والي الشام؟ أيجوز أن نتحاشى وزيرا شجاعا جبارا كسليمان باشا بسبب أمور طفيفة كهذه؟ لقد أرسل حضرة سليمان باشا في العام الماضي، وفي وقت حاجتنا وضيقنا مؤنا تزيد على المائة والخمسين ألف كيلة من الحبوب، عدا ما أرسله من نقود تزيد على الألفين والخمسمائة كيس، وعلاوة على ذلك، فإنه منذ أن نصب واليا لصيدا، حرص أعظم الحرص على عدم التذرع بشتى الأعذار والدعاوى للتخلص من الطلبات التي طلبت منه، وعلى عدم تأخير مصالح اليوم إلى الغد، كما حرص على الظفر بالرضى الشاهاني، وهو يستعد الآن لإنجاز ما يلزمه للتوجه إلى الأقطار الحجازية حسب تعهده.
ولكن حضرة الباشا محمد علي اعتذر دائما عن إجابة شيء مما طلب منه، وقبلت الدولة اعتذاره عن تأخره في هذه المسألة الخيرية (الحجازية)، ورضيت بإرساله الستين ألف كيلة من الحنطة، والخمسمائة كيس من النقود، وهذا مع العلم بأنه من المشكوك فيه أنه سوف يرسل حتى ذلك، وأما الوزراء العظام وسائر الأمراء الكرام، فقد بادروا بتقديم إعانة الجهاد، مرة ومرتين وثلاث مرات ... (وهم كذلك) رغم حاجتهم للمساعدة من الدولة، بسبب حروبهم المستمرة ضد الأعداء ، منذ ثلاث سنوات، قد باعوا فراءهم وسروجهم، واستدانوا مبالغ طائلة من المال، وبعثوا بذلك كله للدولة ...
لقد كنا طلبنا من حضرة الباشا محمد علي إرسال خمسمائة كيس نقدا، ليس في لغة الآمر، ولكن في رجاء المتسول وضراعته، وعلى أن ينال في نظير ذلك حصة من إيرادات أية جهات أو أقاليم يريدها؛ أي إننا لم نطلب شيئا من غير مقابل، فحصلنا منه على أعذار منوعة، ثم طلبنا مقدارا من المال يتبرع به الأهالي، كل فرد حسب قدرته، بدلا من هذه الأكياس، ولكنه لم يفعل، بل إنه لم يقرأ على الأهالي الفرمان الذي وصله ...
ونحن ما أوضحنا حاجتنا، والتمسنا المساعدة من حضرة الباشا، إلا لاعتقادنا بأنه وزير الدولة الصادق، ومع هذا فلو أننا أعطينا هذا الفرمان إلى أي فرد من أهل مصر، مهما بلغت ضآلة شأنه، وقلنا له خذ هذا الفرمان واذهب إلى مصر، واجمع من أهل الإسلام ومن محسوبي الدولة العلية، ما تستطيع أن تجمعه من الفضة أو النقود، من غير أن يعلم بذلك حضرة والي مصر، ثم ابعث إلينا بما تجمعه، لكان ميسورا أن تصلنا مئات الأكياس من النقود.
فيا صديقي نجيب أفندي، لنفرض جدلا أن إقليم مصر ليس للدولة العلية، وإنما تملكه دولة أخرى، فهل إذا اعتزمنا إرسال شخص بكتاب إلى مصر، وطلبنا قدرا من المال لإعانتنا في وقت الضيق، أكان يفشل في مهمته؟ كلا؛ لأن مصر وقتئذ سوف تهب لمساعدتنا ... وهكذا لدينا أشياء كثيرة أخرى للكلام فيها، ولكن ما الفائدة من ذكرها؟
وفضلا عن ذلك، فإن حضرة الباشا محمد علي إذا اهتم بمسألة الحرمين الشريفين وسعى لإدخال السرور على نفس مولانا السلطان فإنه يكون كمن قدم للدولة كل ما ذكرته، وعلى ذلك ، فسوف نقبل جميع مطالبه، ويكون مقربا ومرضيا عنه أكثر من سائر الوزراء، وموضع لفتات وإنعامات الذات الشاهانية التي لا نهاية لها، والتي يعجز اللسان عن بيانها، وسوف ترون ذلك بأعينكم حين وقوعها.
ذلك كان حديث رجل الدولة العظيم مع قبو كتخدا الباشا، وقد أكد محمد نجيب على الباشا أن واجب المصلحة، ومقتضى الوقت والحال يدعوه إلى المبادرة بإنفاذ جيشه إلى الحجاز، حتى يبلغ القسطنطينية بسرعة نبأ وصول طوسون باشا ودخوله إلى ينبع.
ووجه الأهمية في هذه الرسالة، عدا بيان وجهة نظر الباب العالي في مسألة البكوات المماليك، مما سوف نتكلم عنه في موضعه، أنها كانت تتضمن تهديد الباشا بعبارات لا يمكن أن تخفى دلالتها على أحد، بالتدخل - تحت ستار استنفار المسلمين للجهاد ضد الوهابيين - في شئون باشويته فورا؛ أي تفويض أركان تلك الباشوية التي يبذل محمد علي قصارى جهده لدعمها من عدة سنوات، مما يتعذر عليه دفعه أمام سلاح الدين الذي يشهره الباب العالي في وجهه، وكان الباب العالي قد وجه فرمانا في أواخر يونيو وأوائل الشهر التالي من نفس هذا العام (1810) إلى محمد علي باشا، وقاضي مصر والقضاة ورؤساء الجند، والأعيان ومن إليهم، يطلب فيه التبرعات للجهاد، وقد جاء في هذا الفرمان أن السلطان كان قد عرفهم في فرمان سابق أغراض الروس الصحيحة الذين احتلوا «شوملة» و«وارنة»، وشرعوا يزحفون على القسطنطينية، ولما كانوا قد هددوا بحرق أبواب العاصمة إذا لم تجب مطالبهم، فقد انعقدت جمعية عامة في جامع السلطان محمد للتشاور في الأمر، وبناء على قرارها أعلن السلطان الجهاد، وتجنيد كافة المسلمين، وحيث إن الدولة في أزمة مالية، فقد وجب على كل مسلم التبرع، بقدر حميته الدينية، للخزينة العامة، معاونة منه في هذا الجهاد، بمقتضى الفتوى التي صدرت في هذا الموضوع، والتي بعث منها السلطان صورة طي فرمانه هذا، وقد أمر السلطان أن يحصل التبرع في مصر، لا سيما من جانب أغنياء القوم بها، ولكن هذا الفرمان «لم يقرأ، ولم ينفذ» في مصر، كما شكا الآن الباب العالي ، وقد يعمد هذا إلى إرسال أحد مندوبيه لجمع التبرعات سرا فيحرك الباب العالي الفتنة ضد محمد علي تحت ستار الدعوة للجهاد.
أضف إلى هذا، أن الثناء على سليمان باشا لبذله قصارى جهده في معاونة الدولة، ووصفه بالبسالة والإقدام، والتفاني في خدمة الدولة، كان ينطوي على التهديد من طرف خفي بإمكان إسناد باشوية مصر إلى سليمان باشا، وقد يستطيع هذا بالاتفاق مع الباب العالي، انتهاز الفرصة السانحة لتدبير إخراج محمد علي من مصر، كما فعل مع يوسف كنج باشا، الذي يسعى محمد علي الآن في إرجاعه إلى ولايته المغتصبة منه، ولا سبيل إلى نكران هذا الخطر؛ لأن سليمان باشا كان في وسعه الاتحاد مع البكوات المماليك، الذين برغم هزائمهم الأخيرة، كانوا لا يزالون يسعون للذهاب إلى سليمان باشا الكرجي والانضمام إليه.
على أنه إلى جانب هذه التهديدات، تضمنت هذه الرسالة ما يبعث على الأمل، في استجابة الباب العالي لمطالب الباشا، عندما لوحت بأنه إذا اهتم محمد علي بمسألة الحرمين الشريفين، ووصلت القسطنطينية الأنباء بأن طوسون باشا قد بلغ ينبع، وافق السلطان على ما يريده محمد علي، من حيث العفو عن يوسف كنج، ورفع الباشوية المصرية إلى مرتبة الوجاقات؛ أي إعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي.
فلم يعد هناك معدى حينئذ - لكل هذه الاعتبارات التي ذكرناها - عن أن يحزم الباشا أمره على إنفاذ جيشه إلى الحجاز دون إبطاء آخر، ولقد كان لهذا القرار الذي اتخذه محمد علي، إثر ورود هذا الكتاب إليه، نتيجة أخرى هامة، هي أنه نبتت من هذا الحين فكرة الإجهاز على البكوات المماليك بأية وسيلة، إذا تيقن لديه استحالة الاتفاق معهم، والاطمئنان إليهم.
وفي الشهور الثلاثة التالية سارت الأمور سيرا حثيثا، لتصفية المسائل المعلقة بين محمد علي والباب العالي، فقد استمر يستحثه وكلاؤه في القسطنطينية على إخراج جيشه إلى بلاد العرب، وأجاب الباب العالي مطالبه رويدا رويدا، وإن كان ظل متمسكا ببقاء سليمان باشا في إيالة الشام، ولكن خطر سليمان، كانت قد زالت حدته عندئذ، بسبب إقدام الباشا على الفتك بأدواته البكوات المماليك في مذبحة القلعة.
فقد كتب إليه محمد نجيب في 9 يناير 1811 يسرد المساعي التي قام بها، وما قدمه من حجج وبراهين في مناقشاته مع رجال الخاصة السلطانية، ومع سائر كبار الدولة، لتأييد مطالب الباشا، بصدد مسألة الشام والمسائل الأخرى، ويؤكد أنه لم يقصر في تنفيذ تعليمات الباشا في شأن هذه المسائل جميعها. «ولكن حيث إن خروج الجيش لإنقاذ الحرمين الشريفين قد تأخر، فقد اغتنم خصوم محمد علي هذه الفرصة وراحوا يقولون للسلطان: هل رأيتم يا مولانا كيف أن ربيب نعمتكم محمد علي باشا لا يقصد الذهاب إلى الحرمين، بل مراده تنظيم شئونه بالصورة التي تعود بالنفع على مصلحته الذاتية فحسب، لقد كان في وقت ما يتخذ من مسألة المماليك ذريعة لعدم الذهاب إلى الحجاز، واستمر على ذلك ردحا من الزمن، ولكنه الآن قد بدأ يجد من مسألتي الشام (وإبعاد سليمان باشا عن ولايتها)، ويوسف باشا كنج (واستصدار العفو عنه، وإرجاعه إلى حكومة دمشق) ذريعة جديدة، ولن يفيد شيء في حمله على الخروج إلى الحجاز، حتى ولو أنهيت هاتان المسألتان في صالحه.» وقد اعتذر محمد نجيب عن تكرار القول في هذا الموضوع الذي سبق أن ذكره للباشا، ولكن الذي اضطره لتسطير ذلك، هو شدة حزنه وألمه لما بلغت به الحال في القسطنطينية، وراح يحلف الأيمان لمحمد علي «أن كل مسألة من مسائل الباشا سوف يجري إنجازها بما يفوق كثيرا ما ينتظره محمد علي، ولكن ذلك كله متوقف على الدافع القوي الذي ييسر إنجازها: قيام طوسون باشا في أقرب وقت ووصوله إلى ينبع.» وقد اختتم محمد نجيب هذه الرسالة بقوله: «وعليه، فإني أستحلفكم يا سيدي بالله وبجاه رسوله الكريم أن تأذنوا بإنجاز مطلوبنا هذا؛ أي إنفاذ الجيش إلى الحجاز، وعندئذ لكم أن تطلبوا ما تشاءون، وإذا اتضح لكم أن مطالبكم هذه لا تجاب، فلكم أن تفعلوا حينئذ ما تريدونه.»
وأما محمد علي فقد راح من ناحيته يدفع عن نفسه اتهامه بأنه ما يريد عزل سليمان باشا عن ولاية الشام إلا لأغراض نفسانية، فلا سليمان الباشا بالرجل الذي نال من رفعة الشأن أو تحلى بالصفات النبيلة، التي تبعث على الحسد منه، ولا محمد علي بالرجل الذي لم يحظ تحت رعاية السلطان، بالنعم الجليلة واللفتات السامية، والتوجهات السنية مما لم يسبق أن حظي أحد غيره بمثلها، حتى ينفس على سليمان باشا مركزه ومنصبه. ثم بسط محمد علي السبب الذي يدعوه لطلب عزله، وهو لا يخرج عما سبق ذكره: اتصال سليمان باشا بالبكوات المماليك، واقتناع محمد علي بأنه مصمم على الكيد له وإثارة الفتنة عليه بمجرد خروجه إلى الحجاز.
وكان في رسالته التي ضمنها دفاعه هذا، وبعث بها إلى محمد نجيب في 16 يناير 1811، أن ذكر محمد علي مرة أخرى، أنه لن يستطيع مغادرة مصر، ومرافقة الحملة الموجهة إلى الحجاز، ما دام سليمان باشا في ولاية الشام، وبخاصة بعد أن بعث سليمان «يقول لبقايا المماليك من الأشقياء القليلين الذين طردوا وأجلوا إلى بلاد السودان: لا تأسفوا فإني سوف أريحكم قريبا إن شاء الله.» ثم أخذ الباشا يقول: «فإن كان المطلوب إنجاز المصلحة الحجازية على الوجه التام وكما ينبغي، فلتبذل الهمة لذهابي، بصرف العناية إلى صرف المشار إليه سليمان باشا عن إيالة الشام، وأما إذا كان لا ضرورة لسفري - ولا أدري إذا كان من الممكن أن يتم الأمر على يد العسكر المهيئين للذهاب والذين سوف أرسلهم بطريق البحر، أم يتعذر إنقاذ الحرمين الشريفين من غير ذهابي - فلا يجب أن يعزى إلينا أي تقصير إذا فشلت الحملة؛ فقد جاء في الأمثال: «ألف عامل ورئيس واحد»، وعند العلم يتوقف ذهابي على دفع المشار إليه عن إيالة الشام، كما أفدت مرارا حسبة لله.»
وفي كتاب آخر، في 26 يناير 1811، دافع محمد علي عن تهمة المماطلة والتسويف التي أسندت إليه، وكون أن هناك جماعة لدى الباب العالي - كما أبلغه وكلاؤه - تزعم «أن والي مصر لا يقوم بمهمة الحرمين الشريفين، آية ذلك ما أبداه قديما، ولا يزال يبديه من حجج يعتل بها، متعلقة بمسألة البكوات المماليك، إلى غير ذلك من الدعاوى والأعذار الأخرى، والتي لا يمكن أن يكون مقصده منها إلا ترك الوقت يمضي دون أن يفعل شيئا، فقال إن العمل جار بهمة لإعداد السفن اللازمة لنقل الجند من السويس، وإنه قد أبحر عدد من السفن إلى جهات مواني جدة وينبع واليمن لجلب سفن (الداو أو الضاو ) منها إلى القصير، وإنه يعتزم الذهاب بنفسه إلى السويس للإشراف على الاستعدادات النهائية، حتى إذا أكملت أنفذ ابنه طوسون باشا دون أي إمهال على رأس الجند المرسلين بحرا إلى أرض الحجاز، وفضلا عن ذلك، فهناك ما ينهض دليلا على أنه لم يكن القصد مما ذكره سابقا وأشار به على الباب العالي، التسويف والمماطلة، فقد ذكر الشريف غالب نفسه أن مأمورية إنقاذ الحرمين مأمورية جسيمة، لا تتم بمجرد الحركة من مصر وحدها فحسب، بل يقتضي لإنجازها، بل ويلزم لنجاحها، الحركة والزحف من الجهات الثلاث: مصر والشام والعراق، باتفاق مع حاكمي دمشق وبغداد، فلو كان غرض محمد علي عدم القيام بالحملة، وإضاعة الوقت وتفويت الفرصة، لتعلل بأعذار أخرى، غير مسألة المماليك، أجدر بالاعتبار، كأن يقول مثلا: إن واليي بغداد والشام، كليهما أقدم منه في منصب الوزارة وأغنى، فمتى تحركا تحرك هو في أثرهما، ومع أن هذه الدعوى - إذا ذكرت - تتفق مع ما يذكره ويشير به الشريف غالب، فقد امتنع محمد علي عن سلوك هذا الطريق، بل تهيأ للخروج إلى الحجاز دون طلب أية مساعدة مالية، ولا انتظار لإعانة أو لنجدة من ناحيتي الشام وبغداد، وتعهد بالقيام بهذه الخدمة الجليلة وحده، وتكفل بها عن رغبة صادقة منه في خدمة دينه ودولته لوجه الله تعالي.»
ولكنه قبل وصول هذا الكتاب الأخير إلى الآستانة، كانت جهود وكلائه بها قد أثمرت ثمرتها، وكان مما ساعد على ذلك، أن محمد علي قصر جهوده الآن على إلغاء حكم الإعدام الذي صدر في حق يوسف كنج، والتماس تعيينه في منصب آخر مناسب إذا تعذر إرجاعه إلى ولاية الشام.
وكان نزول محمد علي عن إصراره السابق على إعادة إيالة الشام إلى يوسف كنج خطوة موفقة، من حيث تذليل بعض الصعوبات القائمة، لتمسك الباب العالي ببقاء سليمان باشا في حكومة دمشق، ولكن هذه الخطوة كانت تدل من ناحية أخرى على أن محمد علي، منذ شهر يناير 1811، قد بيت النية على التخلص نهائيا من المماليك؛ أي تجريد سليمان - وقد اتضح تعذر نزع ولاية الشام منه - من ذلك السلاح الذي خشي محمد علي دائما أن يطعنه به في ظهره إذا خرجت جيوشه أو القسم الأكبر منها في حملة الحجاز.
وقد ظهرت آثار هذه الخطوة فيما كتبه إليه أحد رجاله بالقسطنطينية - أحمد شاكر - في 27 يناير 1811، يبلغه أن الباب العالي قد أصدر أمرا إلى حسن بك متصرف رودس بإرسال الصواري وغير ذلك من الأدوات اللازمة للسفن، والتي كتب الباشا يطلبها من القسطنطينية، كما تفضل الباب العالي بإجابة ملتمس محمد علي الخاص بترقية أحد خدامه - حسن كاشف القبرصي - فأنعم عليه برتبة رئيس البوابين (قبوجي باشبلق)، ويعلمه بوصول جواب الشريف غالب، ردا على مكاتبة محمد علي له، إلى الآستانة، ثم وصول التماس العفو عن حكم الإعدام الذي صدر على يوسف كنج باشا، وإعطاء هذا الأخير منصبا مناسبا. ثم يستطرد أحمد شاكر فيقول: «ولقد كانت الهمة تبذلونها مبعث سرور شامل، ثم إنه (عدا ما سبق ذكره) قد تفضل الباب العالي فأصدر العفو عن جرائم يوسف باشا وإلغاء الأمر الذي كان قد صدر بإعدامه على شريطة أن يظل يوسف باشا مقيما بمصر بعد رفع رتبة الوزارة عنه، بحسن توجهات الذات الشاهانية المبذولة نحو دولتكم، وبخاصة لأن صون نفوذكم واقتداركم في مهمة الحجاز التي عهد بها إليكم، هو ما يريده الباب العالي.» وفضلا عن ذلك، فقد وعد الباب العالي بإعطاء ولاية جدة إلى يوسف كنج مع إبقاء وزارته بمجرد انتهاء محمد علي من تأدية المهمة التي كلف بها، ونجحت جيوشه في إنقاذ الحرمين الشريفين؛ حيث إن الباب العالي يرى من غير المناسب إسناد منصب ليوسف كنج الآن.
وفي اليوم التالي (28 يناير) يؤكد ما ذكره أحمد شاكر، من حيث انتهاء مسألة استصدار العفو عن يوسف باشا كنج، «وأنه سيجري بعد هذا ما يلزم من ترتيبات ومساع خاصة بالمنصب الذي يلتمس الباشا إعطاءه له من قبل الدولة، وبغير ذلك من المسائل التي يلتمس الباشا إنهاءها»، ويؤخذ من رسالة نجيب أفندي هذه أن المسعى لنيل العفو عن يوسف كنج قد تكلف خمسة وعشرين ألف قرش، بعث نجيب أفندي يطلبها، وقال إنه لم يشأ إزعاج خاطر محمد علي بطلبها في أثناء المسعى الذي انتهى إلى هذه النتيجة، وكان في هذه الرسالة كذلك، أن راح محمد نجيب يؤكد ويقسم بالله العلي العظيم أنه ما إن يرد القسطنطينية الخبر بقيام طوسون باشا ودخوله إلى ميناء ينبع في أقرب وقت، حتى يتم إنجاز كل ما يطلبه مولاه محمد علي فورا، وبصورة تفوق كثيرا على كل ما يرجوه محمد علي. ويلحف عليه لذلك في سرعة إرسال طوسون باشا إلى ينبع.
على أن الأهم من ذلك كله، أن الباب العالي لم يلبث أن وعد برفع إيالة مصر إلى مرتبة الوجاق، على غرار وجاقات الغرب، فكتب محمد نجيب في 28 يناير 1811، يستحثه مرة أخرى على إرسال جيشه إلى الحجاز، «ويحلف يمينا لا يحنث فيها أبدا أنه إذا أنفذ الباشا جيشه إلى الحجاز، ولازمه التوفيق في خدمة الحرمين الشريفين؛ أي إنقاذهما من الوهابيين، فوالله إن طلباته من الباب العالي سوف تجاب جميعها دون حاجة إلى التماس أو توسط، والله وحده هو العليم بما سوف يحدث من أجل رفع شأنه وإعلاء قدره بالحظوظ الهمايونية والعنايات الملكية الأخرى التي تتضمن جعل إيالة مصر منحصرة في أولاد محمد علي وسلالته الطاهرة، مع توجيه رتبة الخان الرفيعة له.» ثم استطرد محمد نجيب فقال: «ولا يجب أن يساور محمد علي أي شك في حصول ذلك»، وأقسم بالله العظيم أن هذه المسألة موعود بها، واختتم رسالته قائلا: «وخلاصة القول يا مولاي، تفضلوا ببذل الهمة نحو إنهاء هذه المسألة، وأفرحونا بالبشائر، ثم اطلبوا ما تشاءون، تجدوا كل ما تطلبونه قد تنفذ، ولكم أن تفعلوا بي ما تشاءونه إذا امتنع تنفيذ شيء منها.»
وكان هذا الوعد فصل الخطاب، في قضية يوسف كنج وسليمان باشا، فقد وصل ططريان القاهرة في 18 مارس 1811، يبشران بالعفو عن يوسف باشا المنفصل عن الشام، وذاع في القاهرة أنه قد قبل فيه ترجي باشة مصر وشفاعته، وبعث محمد علي إلى الباب العالي في 20 مارس بقائمة شكر على العفو الصادر عن حضرة يوسف باشا كنج، ورفع عقوبة الإعدام عنه، وعلى الوعد الهمايوني بالتفضل عليه بمنصب ولاية جدة.
حقيقة ظل محمد علي، يلح في الشهور التالية في إرجاع يوسف كنج إلى ولاية الشام، وعزل سليمان باشا عنها، بدعوى أن وجود الأول في دمشق يفيد في معاونة محمد علي وإمداده بسهولة بحاجته من الخيام وغير ذلك من عتاد الحرب، فضلا عن استطاعة الباشا أن يسند إليه قيادة عدة آلاف من الفرسان مع معيناتهم ليزحف بهم من الشام على الحجاز، في الوقت الذي يجري فيه الزحف من مصر، مما يكفل إنجاز مصلحة الحجاز سريعا. ولكن الباب العالي ظل مصرا على موقفه، وانصرف الباشا لإتمام استعداداته بكل همة، وشرع في إرسال الجند ومهمات الحملة من السويس بالسفن منذ 3 سبتمبر 1811، قاصدة ينبع، وغادر طوسون باشا بركة الحاج مع فرسانه في 6 أكتوبر قاصدا إلى الحجاز بطريق البر.
وبذلك يكون قد انتهى الوجه الأول من سياسة محمد علي، الذي بدأ من وقت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر 1807، وانتهى عند خروج الحملة الوهابية إلى الحجاز في سبتمبر 1811، ولقد كان نشاط الباشا السياسي طوال هذه السنوات الأربع، محصورا في شيء واحد، دعم أركان الولاية. ومن أهم الوسائل لدعمها الظفر بالباشوية الوراثية، فكان هذا الغرض الأوحد الذي سعى إليه وقتئذ، هو العامل الذي أثر على تكييف علاقاته مع كل من إنجلترة وفرنسا والباب العالي، بالصورة التي شهدناها، ولقد صادفت الباشا عقبات كثيرة حالت دون تحقيق مشروع استقلاله، مبعثها رفض كل من إنجلترة وفرنسا لأي تغيير يطرأ على طبيعة صلات التبعية التي تربط بين باشوية مصر والباب العالي التي هي من أملاكه، وهو صاحب السيادة الشرعية عليها.
وقد رفض الإنجليز تأييد مساعي الباشا حرصا منهم على استرضاء الباب العالي، وضمانا لوقوفه موقف الحيدة - على الأقل - في الصراع الدائر بينهم وبين خصومهم الفرنسيين، ثم تجنبا لخلق مشكلات جديدة في داخل الدولة، في وقت كان الاعتقاد السائد أنها مترنحة وعلى وشك السقوط والانهيار، ويخشى إذا نال منها الإعياء بدرجة عجلت بسقوطها فعلا، وأفسحت المجال للدول الطامعة في أملاكها للإغارة عليها، أن يترتب على ذلك: إما ازدياد قوة روسيا، وإما ازدياد قوة فرنسا، مع ما يترتب على كلا الأمرين من زعزعة التوازن السياسي في أوروبا عموما، ثم زيادة متاعب الإنجليز وسائر الأمم المناوئة لسلطان نابليون وسيطرته المنبسطة وقتئذ في أوروبا.
وأما الفرنسيون فقد كان مبعث رفضهم، تمسك عاهلهم نابليون بسره الذي دار حول أمر واحد في هذه السنوات، هو محاولة تكميل إمبراطورية الغرب التي أقامها، بإدخال إمبراطورية الشرق تحت سلطانه، فلم يدخل في نطاق هذه السياسة إذا، تقوية الباشوية المصرية، وهي المقاطعة التي ما فتئ نابليون يرنو ببصره إليها منذ جلاء جيش الشرق عنها في عام 1801 والتي لم يصرفه عن إنفاذ جيش جديد لغزوها وامتلاكها سوى انشغاله بحروبه في أوروبا، حتى أذنت حملة روسيا في عام 1812، بانهيار كل مشروعاته الشرقية، فعلا وحقيقة.
ولقد أفاد محمد علي من انشغال الإمبراطور في أوروبا، من حيث عدم تعرض باشويته لغزو جديد، بعد خروج الإنجليز من الإسكندرية، فاستطاع تدبير شئونه الداخلية بصورة أفضت عند انقضاء هذه السنوات الأربع إلى دعم أركان ولايته، ثم إنه أفاد كذلك من انشغال الإنجليز في حروبهم ضد الإمبراطور، من حيث إنه استطاع إنشاء علاقات المودة والصداقة معهم والإبقاء عليها، وهي العلاقات التي أراد هؤلاء أن تسود بينهم وبينه؛ لحاجتهم إلى غلاله من جهة؛ وليطمئنوا من جهة أخرى على عدم خضوعه للنفوذ الفرنسي، ورضي الباشا أن يستبدل الصداقة والمودة فحسب بالمحالفة التي كان يريدها مع الإنجليز، فتظل علاقاته التجارية معهم؛ كي يكون له منها معين من المال لا ينضب، يعاونه على توطيد سلطانه في باشويته.
وكان الباشا أكثر توفيقا في علاقاته مع تركيا، صحيح أنه لم يظفر بإعلان باشويته وجاقا من نمط وجاقات الغرب، ولكنه ظفر بوعد جازم بإعطائه الحكم الوراثي في مصر، إذا هو أنفذ جيشه إلى الحجاز، ونجح في إنقاذ الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، وكان هذا فوزا ارتضاه محمد علي؛ لأنه كان يساوره الشك بتاتا في قدرته على هزيمة الوهابيين والنجاح في هذه المهمة التي عهد بها إليه الباب العالي؛ ولأنه كان قد عول على الاتجاه صوب الشرق قطعا، وكان يعنيه أن ينجح في مهمته.
على أن هناك ملاحظة هامة، هي أنه ما كان يستطيع محمد علي عرض مطالبه على الباب العالي، باللهجة التي ظهرت في شفاعته في حق يوسف كنج، أو في حملته العنيفة التي أثارها على سليمان باشا، وطلب عزله من إيالة الشام، لو أنه شعر بضعف مركزه في ولايته، بل إن مطالبه من الباب العالي - بما في ذلك سؤاله أن يمده بذخائر الحرب، والصواري لسفنه، وغير ذلك من عتاد الحرب - كانت تزيد وتقوى بقدر ما كان يحدث من دعم أركان حكمه في باشويته، فهو قد أنهى الفتن الداخلية، ونجح في تطويع الجيش، وإقصاء رؤسائه المتمردين، وقضى على نفوذ المشايخ وأبعدهم عن شئون الحكم، ونفى متزعم المعارضة السافرة ضده، عمر مكرم، وبدا في وقت ما أنه نجح كذلك في معالجة مسألة البكوات المماليك، وذلك قبل القضاء عليهم نهائيا في مذبحة القلعة، وكان كل نجاح يحرزه في هذا الميدان الداخلي، يزيد من اعتداده بنفسه، ومن تقوية يده في علاقاته مع الديوان العثماني؛ ولذلك فقد ارتبطت سياسة محمد الداخلية في هذه السنوات الأربع، ارتباطا وثيقا بسياسته الخارجية، وكانت كل منها متممة للأخرى بصورة واضحة.
وأما كيف تسنى للباشا أن يوطد أركان حكومته الداخلية، ويبسط سلطان باشويته حتى يشمل أرجاء هذه الباشوية، فذلك ما سوف نوضحه في الفصول التالية.
الفصل الثاني
الحكومة الموطدة
الانفراد بالسلطة
تمهيد
استطاع محمد علي تذليل الصعوبات التي اعترضت الحكم منذ أن نودي بولايته في مايو 1805، إلى وقت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر 1807، فتخطى في سلام العاصفة التي كادت تودي بباشويته، وتسنى له بعد هذا الانتصار أن يبدأ ذلك النشاط السياسي الذي سبق وصفه، والذي استهدف الظفر بالحكم الوراثي لتأمين الباشوية ولضمان استقرار الحكم، ودعم أركان الولاية، ولقد تميز هذا النشاط السياسي بأنه صار يشتد ويقوى في اطراد، تتزايد سرعته تبعا لما كان محمد علي يحرزه من نجاح في الميدان الداخلي، بالتغلب على العناصر المناوئة لسلطانه في باشويته ذاتها، والعلة في ذلك، أنه بالرغم من اجتياز الأزمات السابقة بسلام، لم يكن في مقدور محمد علي عند انسحاب «حملة فريزر» من الإسكندرية، الاطمئنان إلى أن الحكم قد صار له يقينا، وأن أسباب السلطة قد اجتمعت في يده هو وحده، بحيث يستطيع المضي قدما في تحقيق مشروع استقلاله دون أن يشغله شاغل.
فقد استمرت تتنازع السلطة الداخلية معه منذ المناداة بولايته، جماعات ثلاث: الجند، والمشايخ، والمماليك، الجند الذين قال بشأنهم «دروفتي» في كتاب له إلى حكومته في 8 أبريل 1808: «إنه وإن تظاهر محمد علي بالسلطان والسيادة، فهو عاجز عن التحرر من الاعتماد على جيشه، ذلك الجيش الذي جنده على أهبة القيام بالثورة وشق عصا الطاعة دائما إذا تأخرت مرتباتهم وعلائفهم.» والمشايخ الذين استندوا على ما كان لهم من زعامة بين الأهلين، جعلتهم يسهمون في إنهاء الأزمات الماضية، ليتطلعوا إلى المشاركة فعلية، تجرد محمد علي لو أنهم حققوا مبتغاهم، من السلطة التي لا غنى له عن ممارستها لضمان استقرار الحكم في الولاية. والمماليك الذين ظل يجمعهم، بالرغم من اختلافاتهم ونزعاتهم غرض واحد، هو إقصاء محمد علي من الولاية واسترجاع الحكم والسلطان في القاهرة.
وزيادة على ذلك، فقد استمرت حاجة محمد علي إلى المال شديدة، في السنوات التي تلت خروج الإنجليز من الإسكندرية، فهو وإن كان قد استطاع تدبير المال الذي استعان به على اجتياز الأزمات السابقة، وتعطل موارد البلاد لكساد التجارة، وانصراف العمال الزراعيين عن فلاحة الأرض، وإقفار كثير من القرى من أهلها، وبقاء الصعيد بإيراداته الوفيرة ملكا للبكوات المماليك، تعذر عليه إجراء أي تنظيم مالي، على أساس مساحة الأرض المنزرعة، وتحديد فئات الضرائب المفروضة عليها، وتعيين أوقات تحصيل هذه الضرائب بصورة رتيبة منظمة، ثم تحديد أبواب الإنفاق في نطاق الإيرادات المتحصلة، ولقد ظلت أبواب الإنفاق في السنوات الأربع التالية كما كانت عليه في الفترة السابقة، ولم يكن هناك ندحة عن أن يلجأ الباشا الآن إلى نفس الأساليب التي اعتمد عليها في الحصول على المال قبل ذلك.
صحيح أن محمد علي جنى ربحا وفيرا من تجارة الغلال، ولكن نفقاته كانت جسيمة، بسبب التجريدات التي بعث بها لمطاردة البكوات المماليك في الصعيد، والاستعدادات العسكرية المستمرة، وتحصين الإسكندرية وغيرها من الثغور الشمالية، وكثير من المواقع الداخلية، لا سيما تقوية وسائل الدفاع عن القاهرة، في وقت ساد فيه الخوف - كما شهدنا - من أن يأتي على البلاد غزو أجنبي، ثم لم يلبث أن جد باب آخر للإنفاق عندما عهد الباب العالي بمهمة الحرمين الشريفين إلى محمد علي، وشرع الباشا يتجهز جديا لإنفاذ جيشه إلى الحجاز منذ أن صح عزمه على الاضطلاع بهذه المصلحة الخيرية.
ولقد كانت هذه الحاجة المزمنة إلى المال، ولجوء محمد علي إلى طرائق لم تكن معروفة من قبل لتدبير المال الذي يريده، السبب المباشر لتأزم الأمور بينه وبين المشايخ ووقوع الاصطدام معهم، ثم إقصاء هؤلاء من الحياة العامة، وإبعاد السيد عمر مكرم ونفيه من القاهرة؛ لأن هذه الطرائق الجديدة آذت مصالح هؤلاء الأشياخ المادية، وهددت بالانتقاص من أسباب الحياة المادية والمترفة التي نعموا بها ردحا طويلا من الزمن على حساب الفلاحين وسائر المواطنين الكادحين والمكدودين.
وأما عنوان هذه الخطة التي سار عليها محمد علي، من حيث تطويع الجند، وإقصاء المشايخ والقضاء على المماليك بعد أن استنفد كل الوسائل لمصالحتهم، فهو الانفراد بالسلطة، ولا يعني الانفراد بالسلطة، أن الباشا كان مدفوعا إلى الاستئثار بكل أسبابها عن نزعة استبدادية، جعلته بطبعه يؤثر الطغيان على الشورى، ويستحل بعض الإقطاعات التي تمكنهم من العيش في هدوء وتحت كنفه ورعايته، ويعمد إلى إبعاد رؤساء الجند البارزين ليتخلص من منافسين يبغون مشاركته الحكم والسلطان في البلاد.
بل إن الانفراد بالسلطة، كان الدعامة التي يقوم عليها استقرار الحكم، ولا معدى عن استقرار الحكم إذا شاء محمد علي دعم أركان ولايته، وإنقاذ البلاد من شرور الفوضى الماضية، وبدء عهد من الإصلاح والإنعاش الداخلي، يرقى بأهلها إلى مصاف الأمم الفتية الحديثة، ولا يتسنى دعم أركان الولاية إلا إذا رضخ الجيش لسلطان صاحب الحكم في الولاية، واستطاع الحاكم إدارة شئون الحكم بما يكفل له تحقيق الأغراض التي توخاها، وقدر على بسط سلطانه حتى يشمل كل ركن في باشويته، ولقد أثبتت الحوادث أثناء فترة التجربة والاختبار الماضية، كما سوف تثبت في السنوات التي تتناولها هذه الدراسة، أن الجيش المتمرد، سواء بسبب تأخر مرتبات الجند، أم لتحريض بعض كبار الضباط والقواد المغامرين لهؤلاء الجند على الثورة والعصيان، أم لأن الجند أنفسهم، وكلهم من المرتزقة، كان حب السلب والنهب مغروزا في طبائعهم؛ أثبتت الحوادث أن هذا الجيش المتمرد عامل اضطراب وقلقلة، ومصدر خطر على الباشوية ذاتها، ثم إن هذه الحوادث أثبتت كذلك، أنه وإن كانت الفرصة قد تهيأت ليلعب الأشياخ والمتصدرون للزعامة الشعبية دورا هاما على مسرح الفوضى السياسية السابقة، فقد أظهر هؤلاء العجز كل العجز عن تفهم كنه الزعامة التي ينشدونها، وأقاموا الدليل بتحاسدهم وانقسامهم من جهة، وتكالبهم على الدنيا وإيثارهم لمصالحهم المادية والذاتية على كل ما عداها، ثم عدم فهمهم لدقائق السياسة، وقصورهم عن استشفاف ما وراء أعمال الباشا من مقاصد قريبة أو بعيدة من جهة أخرى، على أنهم لا يصلحون للزعامة التي ينشدونها، وأن اشتراكهم في الحكومة عن طريق إبداء النصح والمشورة معرقل لدولابها، ومعطل لمشروعات الباشا. وأما البكوات المماليك، فقد ظلوا خطرا يهدد بتقويض عروش الباشوية ذاتها، ولا سبيل إلى دفع هذا الخطر إلا بتقرير سلطان الباشوية في أرجاء الولاية بأسرها، وأثبتت الوقائع أن لا ندحة عن استئصال شأفة البكوات المماليك لبلوغ هذه الغاية.
ذلك إذا كان معنى الانفراد بالسلطة، وفي هذا المعنى أضحى الانفراد بالسلطة بمثابة حجر الزاوية في البرنامج الذي توفرت كل جهود محمد علي لتحقيقه، والذي استهدف رفع مصر إلى مرتبة وجاقات الغرب على أساس الحكم الوراثي في أسرته، وبينما سعى محمد علي سواء في علاقاته مع الباب العالي أم مع إنجلترة وفرنسا لبلوغ مقصده بالوسائل الدبلوماسية، فقد صار يعمل من أجل استقرار الحكم، وتشييده على دعائم ثابتة، حتى يخلق من الولاية المستقرة قوة تؤازره بثبوت وجودها فيما يبذل من مساع سياسية، فارتبط لذلك شقا برنامجه الخارجي والداخلي بعضهما ببعض ارتباطا وثيقا. وكما تكللت جهوده الخارجية بالنجاح، من حيث ظفره بوعد قاطع من الباب العالي برفع إيالة مصر إلى مرتبة الباشوية الوراثية عند إنفاذه جيشه إلى الحجاز والانتصار على الوهابيين، واستخلاص الحرمين الشريفين من أيدي هؤلاء، فقد أسفرت جهوده الداخلية عن استقرار الحكم ودعم أركان الولاية بفضل تطويعه الجند، وإخماد فتنتهم وعصيانهم، وإقصاء المشايخ عن شئون الحكم وسياسة الدولة والقضاء على البكوات المماليك. (1) تطويع الجند
ولقد كانت أولى المشكلات التي صادفت محمد علي عقب جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وكانت مبعث خطر كبير - لا على باشويته فحسب، بل وعلى حياته هو نفسه كذلك - عصيان الجند وتمردهم على سلطانه، وقد شهدنا كيف بدأت حركة العصيان هذه والباشا لا يزال في الإسكندرية، وخشي كثير من المعاصرين المتطيرين أن يكون هذا الحادث نذير شؤم على حكومة الباشا، وقوى تشاؤمهم بسبب انقلاب السفينة التي نزل منها محمد علي وحسن باشا طاهر وسليمان آغا (وكيل دار السعادة سابقا) حال رجوع الباشا من الإسكندرية، وذلك عند زفتية، ثم ما حدث عند دخول محمد علي القاهرة؛ حيث كبا به حصانه وأصابته رضوض شديدة، فضلا عن حادث آخر ذكره «دروفتي» في كتابه إلى «سباستياني» في 10 أكتوبر، هو سطو اللصوص على غرف الباشا التي ينام فيها وسرقتهم أشياء ثمينة بجواره، ومما كان عليه هو نفسه.
وحق لهؤلاء المتطيرين أن يتشاءموا من هذه الحوادث، وبخاصة من تمرد الجند؛ لأن الجيش هو الذي أنزل الهزيمة بالبريطانيين، وهو القوة التي اعتمد عليها محمد علي دائما في مطاردة البكوات المماليك، ثم كان بفضل وثوقه من ولاء كبار ضباطه وتعاون هؤلاء معه أن أمكن طرد حكومة البكوات من القاهرة، وإقصاء أحمد خورشيد من الولاية، وتأييد محمد علي نفسه في منصب الحكم والسلطان بعد المناداة بباشويته، علاوة على أن مؤازرة الجيش له في أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، جعله يقدر على نبذ أوامر الباب العالي ظهريا وإبطال مسعى الألفي خصوصا من أجل استرداد الحكم في القاهرة، ويعلن أنه لن يتخلى عن باشويته إلا بحد السيف، وإذا أرغم على ذلك إرغاما. فإذا انتقض الجيش عليه الآن، وتناسى البكوات خلافاتهم وأحقادهم، وجمعوا كلمتهم على انتهاز هذه الفرصة السانحة لمهاجمة غريهم، لاستطاعوا هدم باشويته، ناهيك بما قد يفعله الباب العالي، وهو الذي لن يتوانى عن انتهاز الفرصة هو الآخر، لبسط سلطانه على الولاية، الغاية التي يسعى إليها دائما.
وحقيقة الأمر، أن الباشا كان من واجبه تطويع الجند، لضمان بقاء الجيش مواليا له، لأسباب عدة، غير التي ذكرناها، أهمها ما ظل يذيع عن الغزو الأجنبي المرتقب، بعد جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وحاجة الباشا إلى جيش قوي لدفع هذا الغزو إذا وقع، فمع أنه كان قد أراد إنقاص الجيش إلى العدد الذي يكفي لضمان استتباب الأمن الداخلي، والقضاء على العناصر المناوئة لحكمه، لا سيما البكوات المماليك، واستخدام العدد الذي لا يعجز الباشا عن دفع مرتباته وعلائفه ولا يسبب بقاؤه إرهاقا لميزانيته، فقد اضطر منذ أواخر عام 1807 وأوائل العام التالي، إلى إلغاء الإجراءات التي كان قد اتخذها لترحيل أعداد كبيرة من جنده إلى الشام، وذلك منذ أن تطايرت الشائعات عن قرب خروج حملة من المواني الفرنسية لغزو هذه البلاد، ومنذ أن راح «بتروتشي» وسائر الوكلاء الإنجليز يؤكدون قرب وصولها، وكان هؤلاء الجند الذين أراد إبعادهم الباشا الآن، من الذين اشتركوا في حركة العصيان الخطيرة التي وقعت في القاهرة في أكتوبر 1807 على نحو ما سنذكره، وقد ظلت هذه الشائعات تتجدد بصورة مستمرة في الشهور التالية، وعمد الجند إلى إزعاج الإفرنج في القاهرة والإسكندرية، والاعتداء على الأهلين في كل مكان، على مألوف عادتهم في كل مرة يطلب إليهم التهيؤ للخروج إلى الثغور والشواطئ للدفاع عنها، أو التأهب لصد غارات المغيرين على القاهرة ذاتها، أو الذهاب في تجريدة لمطاردة البكوات المماليك.
ثم إنه كان لا مناص من تطويع الجند، إذا شاء الباشا إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وقد لقي صعوبات جمة في حشد الجند برئاسة محمد طاهر باشا منذ أن طلب إليه الباب العالي النجدة، فلم يستقم أمر الجيش إلا بعد أن قضى محمد علي على محركي الفتنة بين الجند، وأخرجهم من البلاد، واستبدل بهم قوادا على جيشه من أهله وعشيرته والموثوق في إخلاصهم وولائهم له.
وفضلا عن ذلك، فقد ساهم الجيش في كل الانقلابات التي أطاحت بحكومات الباشوات منذ خروج الفرنسيين من البلاد، فالأرنئود ساهموا في طرد محمد خسرو، والإنكشارية قتلوا طاهر باشا ونصبوا مكانه أحمد باشا، والأرنئود هم الذين طردوا هذا الأخير، ثم اعتمد عليهم محمد علي في تقويض عروش حكومة البكوات في القاهرة، بعد أن ضلعوا مع المماليك في قتل علي باشا الجزائرلي، ثم قضى الجيش على ولاية خسرو باشا الثانية المعروفة بالكناية، وكان بفضل اعتماد محمد علي عليه أن تولى أحمد خورشيد، ثم اشترك الأرنئود والدلاة في عزل هذا الأخير بعد ذلك، وكان اشتراك الجيش في هذه الانقلابات الكثيرة من أسباب زيادة الفوضى في صفوفه، وجنوحه إلى العصيان عن أول بادرة، أضف إلى هذا، ما أحدثه الانقلاب الذي قام به الإنكشارية (أو الينكرجية) في قصر الخلافة والسلطنة ذاتها، وهو الانقلاب الذي أسفر عن مقتل السلطان سليم، وانتهى بالمناداة بمحمود الثاني سلطانا للدولة في الظروف التي عرفناها، فقد قوى هذا الانقلاب من اعتداد الجند وكبار ضباطهم بأنفسهم، فتزايدت روح التمرد والعصيان في صفوف الجيش.
وساعد على انتشار الفوضى بين الجند، أن هؤلاء كانوا خليطا من أجناس منوعة، فمنهم التركي والأرنئودي، والكردي، والشامي، والمغربي، والنوبي، واليوناني، عدا جماعة من الفرنسيين والليفانتيين الذين انضم منهم فريق كذلك إلى البكوات المماليك، ولقد كانوا جميعا من المرتزقة، لا يربطهم بقوادهم وقائدهم الأعلى سوى المرتبات والعلوفات التي ينالونها، ولا صلة تربطهم بالبلاد حتى يعنيهم أمرها، استقامت الأمور بها في ظل حكومة مستقرة موطدة، أم سادت بها الفوضى، وكثرت الانقلابات، طالما ضمنوا حصولهم على مرتباتهم ممن يئول إليه الحكم، وكانوا غرباء عن المصريين، ولم يمتزجوا بهم إلا في حالات شاذة معينة، كان مبعثها إما الخوف من ثورة الأهلين عليهم، وهذا ما ندر حدوثه، وإما الطمع في أموال الأهلين وأرزاقهم؛ ولنهب متاعهم ودورهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وتلك كانت القاعدة المعمول بها، ولطالما انبث هؤلاء المرتزقة في كل مكان بالقاهرة ينهبون ويسلبون، ولطالما انتشروا في القرى يهلكون الحرث والضرع، وينزلون الكوارث بالفلاحين، فاتخذوا من خروجهم في أية تجريدة من التجريدات، أو عودتهم منها، أو مجرد تهيؤهم لمغادرة القاهرة، والذهاب إلى ميدان القتال، ذريعة للاعتداء على الأهلين وإيذائهم وقتل من يعترض طريقهم منهم، كما أنهم ألحقوا بالأوروبيين وسائر الأجانب خصوصا بالقاهرة والإسكندرية، مختلف الإهانات، ولم يسلم هؤلاء من أذاهم وشرهم، ووجد الجند فيما حدث من انقلابات حكومية فرصا مواتية للمضي في إفراط، في أعمال السلب والنهب، والاعتداء على سكان البلاد من مصريين وأجانب على السواء.
ولم يكن الضباط ورؤساء هذا الجيش يقلون جشعا وحبا للمال عن جنودهم، أو لا يطمعون في نهب الأهلين وسلبهم دورهم ومتاعهم وأرزاقهم وأموالهم، فلم تربطهم هم الآخرين أية صلة بالبلاد التي وفدوا إليها مرتزقة كسائر الجند، ولم يعنهم شيئا أمر أهلها وهم الغرباء عنهم، ولم يشعروا بأي ولاء لشاغل منصب الولاية، فهم يشتركون مع سائر صفوف الجيش في كل الانقلابات التي تحدث، وينبذون سلطان الباب العالي وأوامره بسهولة، طالما استولوا هم على مرتباتهم ومخصصاتهم، وكانت هذه جسيمة، وينالونها وفق نظام سبق ذكره، حصل كل كبير من هؤلاء بفضله على مرتبات لعدد من الجند يربو على ثلاثة أمثال العدد الموجود فعلا تحت قيادته، بل إن هؤلاء كثيرا ما احتفظوا بهذه المرتبات لأنفسهم ولم يدفعوا إلا النزر اليسير منها لجنودهم، مما كان من أسباب ثورة هؤلاء وعصيانهم، ولم تهتم أكثرية هؤلاء الكبار إلا بالثراء السريع في أثناء خدمتهم، شأن كل مرتزقة، ولقد شاهدنا كيف أن عديدين من هؤلاء صاروا يزمعون مغادرة البلاد بالثروات التي جمعوها، وكيف استطاع بعضهم العودة إلى بلاده غنيا، بينما حال الجند دون سفر الآخرين حتى يدفعوا لهم مرتباتهم المتأخرة، وفطن محمد علي من مبدأ الأمر، ومنذ أن صح عزمه على الوصول إلى الولاية، إلى ضرورة ضمان ولاء الجند له، وجذب رؤسائهم إليه، بالحرص على دفع مرتباتهم وعلائفهم في أوقاتها، كما صار ديدنه بعد أن تسلم أزمة الحكم، السهر على دفع هذه المرتبات كذلك دون تأخير، وكان الشاغل الأكبر له في سنوات التجربة والاختبار التي مرت به، تدبير المال بكل الوسائل لدفع هذه المرتبات منه.
زد على ذلك، أن المصلحة الذاتية وحدها هي التي جعلتهم يقبلون على مؤازرة محمد علي، عندما أغدق الباشا عليهم النعم والعطايا، وأقطعهم الأرض التي صادرها من البكوات المماليك خصوصا، ووجد كبار الضباط أنهم ينعمون في مصر بعيش لم يكن ليتسنى لهم التمتع به لو أنهم بقوا في أوطانهم أو غادروا هذه البلاد، ومع ذلك، فقد ظل جماعة منهم ينفسون على الباشا المركز الذي بلغه، ومنافسة حسن باشا طاهر الأرنئودي، وعمر بك الأرنئودي وأضرابهما له معروفة مشهورة، وقد استطاع محمد علي كبح جماح هذه المنافسة، بفضل ما أظهره من حنكة في مداراته لهم، حتى إذا تخطى بسلام العواصف التي كادت تطيح بولايته، وتدعمت أركان باشويته رويدا رويدا، تخلى هؤلاء عن أطماعهم، ورضخوا في آخر الأمر لسلطانه، بل وعاونه جماعة منهم على اجتياز الأزمات التي واجهته، ولو أن فريقا من هؤلاء الحاقدين عليه، كياسين بك الأرنئودي ورجب آغا، ظلوا يحركون الفتنة عليه، بل إن عمر بك الأرنئودي نفسه لم يلبث أن شق عصا الطاعة (في عام 1809)، وأعلن صالح آغا قوج (قوش) تمرده، ولما تمض شهور قليلة على بدء الحرب ضد الوهابيين في الحجاز، وكان تطويع الجند ضروريا، لضمان الانتصار على هؤلاء الرؤساء المتمردين.
وكان مما زاد في خطورة انتشار روح التمرد والعصيان في الجيش، تأهب العربان البدو دائما للانضمام إلى كل كبير من الضباط يخرج على سلطان محمد علي، ويجمع حوله طائفة الفارين من الجيش، والذين يعقدون آمالا عظيمة على قدرتهم على المضي في أعمال السلب والنهب على نطاق واسع تحت راية العصيان التي يرفعونها، ووجد العربان هم الآخرون في هذا العصيان فرصة مواتية لإشباع نهمهم، والمضي في أعمال السلب والنهب دون رادع، وقد تذوق العربان طعم هذه الحياة التي خلقتها الفوضى السياسية في مصر، نتيجة للتطاحن بين البكوات المماليك ومختلف الباشوات الذين تولوا الحكم في السنوات الماضية، ثم تطاحن هؤلاء الباشوات أنفسهم مع كبار ضباط الجيش وجنده، وعلى رأس كبار الضباط هؤلاء محمد علي نفسه، فامتزج العربان بالجند المتمردين، وعملت طوائف منهم تحت لواء القواد المغامرين، حتى إن قصة هؤلاء وأولاء سرعان ما صارت قصة واحدة، وتوزع العربان أنفسهم طوائف، بعضها يعمل مع الضباط العصاة، والآخر يعمل مع البكوات المماليك، والفريق الثالث يؤيد حكومة محمد علي، كل طائفة حسبما تمليه عليها مصالحها، التي لا تعدو توقع الظفر بالمغانم والأسلاب الكثيرة.
ومنذ حادث المناداة بولاية محمد علي، وعزل أحمد خورشيد من الولاية، كتب الشيخ الجبرتي في حوادث شهر أغسطس من عام 1805، عن الدلاة الذين استقدمهم خورشيد للاستعانة بهم على غريمه، ثم خذلوه، أن «هؤلاء كانوا إذا وردوا قرية نهبوها، وأخذوا ما وجدوه فيها، فأخذوا الأولاد والبنات وارتحلوا.» ثم يستطرد الشيخ من ذلك إلى ذكر دور العربان، فيقول: إنه لا يلبث أن يأتي العرب الناهبون خلفهم، فيطلبون الكلف والعليق، وينهبون أيضا ما أمكنهم، ثم يرتحلون أيضا خلفهم. ولكنه ما إن يرتحل هؤلاء وأولئك، حتى يأتي جند الحكومة أو التجريدة فيفعلون أقبح من الفريقين من النهب والسلب، حتى ثياب النساء. وتكرر عدوان العربان على الأهلين أثناء نضال الألفي وسائر البكوات، فقد انتهز عربان أولاد علي فرصة حضور جماعة من الألفية إلى الجيزة، وجمعهم الكلف من أهلها، فأغاروا بدورهم على هذا الإقليم من ناحية البحيرة في ديسمبر 1805 وعاثوا بأراضي الجيزة، حتى إن محمد علي عين لتعقبهم محمد طاهر باشا الذي كان يتهيأ وقتئذ للخروج إلى الحجاز ولم يخرج - على نحو ما عرفنا - ثم إن العربان التحموا كذلك مع جند الباشا في المعركة التي دارت رحاها في 12 ديسمبر من العام نفسه، في جهة مصر القديمة، وأسفرت عن ذهاب جماعة من الأرنئود إلى الأخصام والانضمام إليهم، وقد سبق ذكر هذه المعركة. وفي مارس من العام التالي (1806)، انضم طائفة من العربان إلى مماليك شاهين الألفي للإغارة على إقليم الجيزة، وأخذ الكلف من أهله، واضطر محمد علي إلى الخروج إلى ناحية بولاق وعدى طاهر باشا إلى بر إنبابة وبصحبته عساكر كثيرة لمطاردتهم.
وفي عام 1806 تعددت حوادث عصيان الجند من جهة، واشتراك العربان مع البكوات المماليك في الإغارة على مختلف الأقاليم من جهة أخرى، فمن الحوادث البارزة، اتحاد العربان مع أجناد المماليك في أبريل، في الإغارة على جزيرة السبكية، وحضور عمر بك الأرنئودي إلى القاهرة (في 18 أبريل) من بني سويف يخبر بعصيان رجب آغا وفريق من الجند خامروا عليه وانضموا إلى الأمراء القبليين، وبلغ عدد هؤلاء العصاة نحو الستمائة، وتمرد الجند الذين كانوا مع حسن باشا طاهر الأرنئودي وأخيه عابدين بك، بسبب تأخر مرتباتهم، ومنع الباشا دخول طائفة منهم وصلوا إلى بولاق ومصر القديمة، من الدخول إلى القاهرة، واستعان الباشا بالعربان لإخماد حركتهم، فجمع من عربان الحويطات والعائد وغيرهم أعدادا كثيرة، وأقام هؤلاء بناحية شبرا ومنية السيرج، واستمروا يحتشدون في هذين المكانين أربعة أيام بتمامها، وكانوا جملة كبيرة، وطلب محمد علي من رؤساء الجند المتمردين مغادرة البلاد، ولكن هؤلاء أبوا حتى يقبضوا المنكسر لهم من مرتباتهم، ولكن الباشا استطاع أن يبذر بذور التفرقة بينهم، فدس إلى أصاغرهم من خدعهم واستمالهم، حتى تفرقوا في خدمة المستوطنين، ولم يبق مع كبارهم المعاندين إلا القليل، فلم يسعهم بعد ذلك إلا الامتثال وارتحلوا في 18 مايو 1806 من بولاق، وسافر معهم «حسن آغا الشماشرجي» ومن بصحبته من المصريين وحولهم العربان، وساروا على طريق دمياط (وكانوا اثنين وخمسين شخصا من كبار طائفة الأرنئود)، وعلق الشيخ الجبرتي على حادث الاستعانة بالعربان في إخراجهم بقوله: إنه قد «حصل من العرب في مدة تجمعهم ما لا خير فيه، وكذلك في مدة إقامتهم من الخطف والتعرية، وقطع الطريق على المسافرين.»
وأما رجب آغا وياسين بك، فقد انضما بمن معهما من الجند المتمردين إلى البكوات المتحصنين بالمنيا، وأنشأا المتاريس في جهة المنيا البحرية ليحولا دون وصول مراكب الذخيرة إليها، وأنقذ المنيا وصول محو بك بالذخيرة إلى بني سويف ؛ حيث اصطحب منها حسن باشا طاهر وعابدين بك، وهزموا ثلاثتهم رجب آغا وياسين بك، واقتحم جيشهم المتاريس، ودخلوا البلدة.
وفي أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، أراد الألفي - وصلته الوثيقة بالعربان معروفة - استثارة هؤلاء ضد حكومة محمد علي واستنهاضهم لمعاونته في إقصاء الباشا من الولاية، فبعث بالكتب إلى مشايخ الحويطات والعائد، وإلى شيخ الجزيرة وسائر رؤسائهم، ولكن هؤلاء - كما عرفنا - آثروا إطلاع الباشا على هذه الكتب، منذ أن توطدت علاقاته معهم أثناء حادث إبعاد كبار الأرنئود المتمردين، فأحضر ابن شديد وابن شعير هذه الكتب التي أتتهم من الألفي إلى محمد علي، ثم إن الباشا عند تصميمه في يوليو 1806، على الخروج لمناجزة الألفي، لم يلبث أن أرسل أوراقا لتجمع العربان، وعين لذلك حسن آغا محرم، وعلي كاشف الشرقية، وفي 24 يوليو وصل كثيرون من عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق، وأطلقت المدافع احتفاء بقدومهم، وقد تقدم كيف أن جيش الألفي كان يضم عدة آلاف من عربان أولاد علي وغيرهم.
ولقد كان وجه الخطورة بعد ذلك، أن يجنح الجند إلى العصيان، إبان حملة «فريزر»، أو يقبل العربان على معاونة البريطانيين، فيسدون حاجة هؤلاء إلى الفرسان، وقد انتظر الإنجليز دون طائل أن يسد المماليك هذا النقص في جيشهم، ولكن الباشا الذي أرضى الجند بدفع مرتباتهم إليهم، استطاع أن يجهز الجيش الذي أوقع بالإنجليز الهزيمة الساحقة في معركة الحماد المعروفة، ثم إن العربان امتنعوا عن نجدة الإنجليز أثناء العمليات العسكرية، ولم يستطع «فريزر» والوكلاء الإنجليز استمالة العربان إلى تموين الإسكندرية، إلا بعد انسحابهم إليها وتحصنهم بها. على أن متاعب الباشا من ناحية الجند والعربان سرعان ما تجددت به جلاء الإنجليز عن الإسكندرية. (2) عصيان 26 أكتوبر سنة 1807
فقد ظهرت بوادر عصيان الجند عقب رحيل جيش «فريزر» من الإسكندرية، وأثناء وجود الباشا بها، وقد سبق الحديث عن أسباب هذا العصيان، ثم نجاح الباشا في إخماد هذه الحركة، ولكن روح التمرد التي سرت في الجيش بأسره وقتئذ، لم تلبث أن ظهرت آثارها كذلك في القاهرة، وكان مبعث جنوح الجند إلى التمرد في هذه المرة، الغرور الذي ملأ نفوسهم نتيجة لانتصارهم على البريطانيين، ولاعتقادهم أنهم أصحاب الفضل في إجلاء هؤلاء عن البلاد، وتوهمهم أنه قد صار من حقهم لذلك أن يقتضوا من أهل البلاد ثمنا لتخليصهم من شرور الاحتلال الأجنبي، لا سيما وقد خيل لهم أن المصريين كانوا يتمنون هزيمتهم والخلاص منهم على يد الغزاة الأجانب، ووجدوا على كل حال في هذا الاعتقاد، سواء أكان صحيحا أم وهما وخيالا، ذريعة لإطلاق العنان لنزواتهم، والاعتداء على الأهلين دون رقيب أو وازع.
ولقد سبقت الإشارة إلى الفعال المنكرة التي صار يرتكبها الأرنئود في القاهرة بمجرد عودتهم إليها بعد انقضاء معارك رشيد والحماد، وكان أهم ما عني به هؤلاء الاستيلاء قسرا على بيوت الناس وطرد أصحابها منها بعد سلب فرشهم وأمتعتهم، بدعوى أن متاعهم قد استهلك منهم في السفر والجهاد ودفع الكفار عنهم؛ أي القاهريين، بينما هؤلاء مستريحون في بيوتهم وعند حريمهم؛ ولأن القاهريين ليسوا بمسلمين؛ لأنهم كانوا يتمنون تملك النصارى لبلادهم، ويقولون إنهم خير من الأرنئود، ولم يكن في مقدور الباشا أو كتخداه كبح جماح هؤلاء البغاة، وهم إلى جانب انغراس الميل إلى السلب والنهب في طباعهم، لا يزالون منتشين بخمرة النصر، فحرص كلاهما على تهدئة خواطر القاهريين وتسكينهم خوفا من وقوع الاصطدام بين هؤلاء وبين الجند، وعزز الكتخذا بك دعاوى الجند، فراح يقول: «أناس جاهدوا وقاتلوا أشهرا وأياما، وقاسوا ما قاسوه في الحر والبرد والطل، حتى طردوا عنكم الكفار وأجلوهم عن بلادكم، أفلا تسعونهم في السكنى، ونحو ذلك من القول»، وهكذا أفحش الجند في التعدي على الناس وغصب البيوت من أصحابها، ثم إنهم تعدوا إلى الحارات والنواحي التي لم يتقدم لهم السكنى بها قبل ذلك، مثل نواحي المشهد الحسيني، وقلعة الجامع المؤيدي، والخرنفش والجمالية، حتى ضاقت المساكن بالناس لقلتها، وصار بعض المحتشمين إذا سكن بجواره عسكر يرتحل من داره ولو كانت ملكه، بعدا من جوارهم، وخوفا من شرهم، ولم يستثنوا بيوت المشايخ، بل وأهانوا من احتج منهم على فعالهم إهانات بالغة.
على أن هذا العصيان سرعان ما استفحل شره حتى صار خطرا على الباشا نفسه وعلى حكومته، وظهرت بوادر هذه الخطورة في محاولة قام بها بعض الجند السكارى والمجانين للاعتداء على حياة محمد علي، فقد عمد الباشا منذ عودته من الإسكندرية إلى القاهرة، إلى الطواف في شوارع القاهرة، يبذل قصارى جهده لوقف اعتداءات الجند على الأهلين، وتوطيد الأمن وقطع دابر الفوضى التي اتضح أنها بلغت غايتها في العاصمة أثناء غيابه عنها، فحدث (يوم 16 أكتوبر) أثناء مروره في ناحية سوق (أو سويقة) العزى، سائرا إلى ناحية بلغيا أن صادف في أحد الشوارع حفنة من الراقصات، منهمكات في تسلية بعض الجند الأرنئود، لم يمنعهن عن الرقص مرور الباشا، بل ضاعفن نشاطهن، وصارت (لصاجاتهن) فرقعة كبيرة، فأراد بعض حاشيته، إلزامهن بالسكوت، احتراما لموكب الباشا، فعز على بعض الجند من المخمورين، أن يسلبهم الباشا متعتهم، فانتحى منهم اثنان جانبا، وطلعا إلى مكتب فوق سبيل كان قائما بين الطريقين تجاه من يأتي من تلك الناحية - سوق العزى - يرصدان الباشا في مروره، فحينما أتى الباشا مقبلا لذلك المكتب أطلقا في وجهه بارودتين، فأخطأتاه، وأصابت إحدى الرصاصتين فرس فارس من الملازمين حوله، فسقط، ونزل الباشا عن جواده على مصطبة حانوت مغلوقة، وأمر الخدم بإحضار الكامنين بذلك المكتب، فطلعوا إليهما، وقبضوا عليهما، واستبد الغضب بالباشا وأمر بإحراق المكتب، وتدخل سكان الحي جميعهم، يلتمسون العفو، ثم حضر كبير هؤلاء الجند من دار قريبة من ذلك المكان، واعتذر إلى الباشا بأنهما مجنونان وسكرانان، فعدل عن حرق المكتب، وأمر كبير الجند بإخراجهما وسفرهما من مصر، وركب الباشا وذهب إلى داره.
وقد عزا «دروفتي» في كتابه إلى «سباستياني» من القاهرة في 20 أكتوبر 1807 هذا الحادث إلى ازدياد عجرفة الجند، منذ عودتهم إلى القاهرة، بعد انتصاراتهم الأخيرة على الإنجليز، بدعوى أنهم هم الذين طردوا هؤلاء، وأرغموهم على ترك الإسكندرية، وقد راح «دروفتي» يشكو من الإهانات التي لحقت بالأوروبيين على أيديهم، وشيوع الفوضى في القاهرة، وانعدام الأمن، حتى إن أحدا من الأهلين ما صار في وسعه الاطمئنان على حياته، ولو لزم داره، وعاش بين أهله وعشيرته؛ وذلك لأن الجند دأبوا على الاعتداء على البيوت وأصحابها، وسعيد الحظ هو الذي يتسنى له الفرار بعياله وحريمه، فكان من أثر انتشار روح التمرد والعصيان هذه أن كاد محمد علي نفسه يقع فريسة لاختلال النظام بين جنوده، ويقول «دروفتي»: إن الذين أطلقوا عليه الرصاص، كانوا من الجند المأجورين لفعل ذلك، وإن البيت الذي أطلق منه الرصاص كان معروفا بأن قاطنيه من القتلة المأجورين، وأن الرصاص جرح حصان الباشا وأحد ضباطه.
وكان سبب التمرد المباشر، أو على الأصح، الذريعة التي تذرع بها الجند للمضي في اعتداءاتهم، تأخر مرتباتهم؛ ولذلك فقد عمد الباشا إلى فرض الإتاوات وعقد القروض لدفع هذه المرتبات منها، وكان محمد علي منذ 6، 13 أكتوبر قد أمر بفتح الطلب من الملتزمين ببواقي الميري على أربع سنوات ماضية ثم أمر بفتح دفاتر الطلب بميري السنة القابلة، كما كان منذ 6 أكتوبر قد أمر بكتابة أوراق البشارة بذهاب الإنكليز وسفرهم من الإسكندرية وأرسلت هذه إلى البلاد والقرى، ولكن هذه كانت إجراءات، لا بد من مضي بعض الوقت، قبل أن تأتي ثمرتها، ولقي الباشا صعوبات في استدانة كل المال الذي يريده، وهكذا تعذر عليه إرضاء الجند، وصار هؤلاء - كما قال «دروفتي» - يقابلون كل معترض على فعالهم بازدياد صياحهم مطالبين بمرتباتهم المتأخرة.
ولذلك فإنه لم تنقض عشرة أيام على حادث سوق العزى، حتى تجمهر حوالي الخمسمائة من الأرنئود والعثمنلي أمام قصر الباشا بالأزبكية، صبيحة يوم 26 أكتوبر، يطلبون علائفهم، وحاول الباشا استنزال شيء منها، فأبى الجند، فوعد بالدفع عندما يتجمع لديه المال اللازم لسدادها فقالوا لا نصبر، ثم إنهم استولوا على مدفعين وآخر من نوع الهاون وقاذفة للقنابر ، كانت جميعها بفناء القصر، ثم بادروا بإطلاق الرصاص على نوافذ الحجرات التي يقطنها الباشا، وضربوا بنادق كثيرة، وكان في وسع محمد علي أن يأمر رجاله بإطلاق النار عليهم؛ لتوفر الرصاص في المكان الذي كان موجودا به وقتئذ، ولكنه امتنع، تجنبا لوقوع حوادث وخيمة، وارتجت البلد وأرسل السيد عمر مكرم إلى أهل الغورية والعقادين والأسواق يأمرهم برفع بضائعهم من الحوانيت ففعلوا وأغلقوها، وتوسط سلحدار الباشا، والدفتردار أحمد أفندي (الملقب بجديد) لدى الجند، وقدما نفسيهما رهينة في يد الثوار لتهدئتهم وتسكينهم، حتى يفي الباشا بوعده لهم؛ حيث قطع على نفسه عهدا بدفع مرتباتهم في أيام قليلة، ولما كان الثوار قد فرغت ذخيرتهم، فقد انصرفوا، آخذين معهم السلحدار والدفتردار ويعتدون في طريق انسحابهم على الأهلين بوحشية قاسية.
ولكنه ما إن انسحب هؤلاء، حتى حضر الدلاة بدورهم، قبل الغروب يمنون النفس بنيل مثل الوعود التي نالها الثوار السابقون، فضربوا أيضا بنادق، ولكنهم قوبلوا بغير ما قوبل به زملاؤهم؛ إذ ضربت عليهم عسكر الباشا، وتبودل إطلاق النار من الجانبين، وانزعجت القاهرة أيما انزعاج، وساد الرعب والفزع بالمدينة، وقتل من الدلاة أربعة، وجرح أفراد منهم، فانكفوا ورجعوا، وبات الناس متخوفين، وخصوصا نواحي الأزهر، فأغلقوا البوابات من بعد الغروب، وسهروا خلفها بالأسلحة، ولم تفتح إلا بعد طلوع الشمس.
وكان من المتوقع أن يعيد الدلاتية الكرة في هذا اليوم الثاني (27 أكتوبر)، يؤيدهم بعض العسكر من العثمنلي والأرنئود الذين لم يشتركوا في حوادث اليوم السابق، ولم تسر فيهم روح التمرد بعد، ولكن النهار مضى دون أن يقع جديد، ولو أن الحال ظل على ما هو عليه من الاضطراب.
بيد أن الباشا لم ير من الحكمة البقاء في سرايه بميدان الأزبكية، فنقل أمتعته الثمينة تلك الليلة إلى القلعة، وكذلك ثاني يوم، ثم إنه غادر سرايه مستخفيا هو وكبار ضباطه في الساعة الأولى من صبيحة يوم 28 أكتوبر، قاصدا إلى القلعة، وحوله حوالي الثلاثمائة من حرسه المسلحين من المماليك الفرنسيين بقيادة عبد الله دراو
Derau
وقد صحبه كذلك حسن باشا طاهر «الأرنئودي»، الذي قال إن الباشا إنما يقصد إلى منزله، فما إن تحقق بونابرتة الخازندار من وصول محمد علي إلى القلعة سالما، حتى صرف الحاضرين في الحال، ونقل ما بقي من أمتعة ثمينة، وكذلك الخزينة فورا وكذلك الخيول والسروج، وخرجت عساكره يحملون ما بقي من المتاع والفرش والأواني إلى القلعة.
وبمجرد أن وقف العصاة على ما حدث، هاجموا قصر الباشا ونهبوه، ولم يحترموا سوى الحريم، «وأشيع في البلدة أن العساكر نهبوا بيت الباشا، وزاد اللغط والاضطراب، ولم يعلم أحد من الناس حقيقة الحال، حتى ولا كبار العسكر، وزاد تخوف الناس من العسكر الذين حصلت منهم عربدات، وخطف عمائم وثياب، وقتل أشخاص، وأصبح يوم (29 أكتوبر) وباب القلعة مفتوح، والعساكر مرابطون به، وواقفون بأسلحتهم، وطلع أفراد من كبار العسكر بدون طوائفهم، ونزلوا، وكل طائفة متخوفة من الأخرى، والأرنئود فرقتان: فرقة تميل إلى الأتراك، وفرقة تميل إلى جنسها، والدلاة تميل إلى الأتراك وتكره الأرنئود، وهم كذلك، والناس متخوفة من الجميع، ومنهم (الجند) يخشى من قيام الرعية (الشعب) ويظهر التودد لهم، وقد صاروا مختلطين بهم في المساكن والحارات، وتأهلوا وتزوجوا منهم.»
ولم يكن هناك معدى عن انتقال محمد علي إلى القلعة؛ لأنه طالما بقي في سرايه بالأزبكية، انعدم كل رجاء في إمكان إخماد عصيان الجند؛ وذلك لأن هذه السراي، كانت تقع في ميدان الأزبكية، وهو الميدان الرئيسي في القاهرة وقتئذ، ولم يكن من المتيسر الدفاع عنها، بل على العكس من ذلك، كان التغلب على أية مقاومة تأتي من جانب أهلها سهلا ميسورا، إذا وقع هجوم منظم عليها، وكان لا ندحة للباشا عن الالتجاء إلى مكان أمين يحتمي به، بعد الهجومين اللذين حدثا يوم 26 أكتوبر، ناهيك بالمؤامرات والمكائد التي عرف أن بعض رؤساء جنده يحيكونها ضده، حتى إن الشيخ الجبرتي ذكر يعلل انسحاب الباشا إلى القلعة، أنه «يقال إن طائفة من العسكر الذين معه بالدار أرادوا غدره في تلك الليلة (ليلة 27-28 أكتوبر)، وعلم ذلك منهم بإشارة بعضهم لبعض رمزا، فغالطهم وخرج مستخفيا من البيت، ولم يعلم بخروجه إلا بعض خواصه الملازمين له، وأكثرهم أقاربه وبلدياته.» وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 31 أكتوبر: «إن المسألة لم تكن لتقف عند هذا الحد لولا أن السيد عمر مكرم - وهو موال دائما للباشا - لم يعمد لتسليح الأهالي، ولولا أن بعض زعماء الجيش، مثل حسن باشا طاهر وعمر بك الأرنئودي، وصالح آغا قوج (قوش) لزموا الحياد.
وأما القلعة فكانت مزودة بكل وسائل الدفاع اللازمة، والاستيلاء عليها - عدا أن من شأنه إعطاء الباشا الملجأ الأمين الذي يطلبه - يجعله قادرا بفضل التحصن بها، على الإشراف والسيطرة على القاهرة بأسرها، والحيلولة دون استيلاء الثوار عليها؛ إذ لو وقعت هذه في أيديهم لاستفحل شرهم كثيرا، أضف إلى هذا أنه سوف يتسنى له من معقله بالقلعة، أن يتفاوض مع رؤساء المتمردين وإنهاء عصيان الجند الذين سوف يتضح لهم عجزهم عندئذ عن إلحاق الأذى بالباشا، وفي وسع محمد علي أن يبذر بينهم بوسائله المجربة بذور التفرقة، حتى إذا تصدعت صفوفهم، عاقب محركي الفتنة عقابا صارما، وذلك هو عين ما حدث.
ومما يجدر ذكره أن الباشا ظل بعد هذه الحوادث يتخذ من القلعة مكانا لسكناه وإقامته، ولم يكن سبب ذلك أنه قد بيت العزم - كما يرى بعض الكتاب - على الاستبداد برعيته، ذلك الاستبداد الذي يرى هؤلاء عنوانا له، انفراد محمد علي بالسلطة في تلك الصورة الرتيبة التي تبدأ في زعمهم بإقصاء المشايخ عن شئون الحكم، وتنتهي بالفتك بالمماليك في مذبحة القلعة، بل إن حوادث العصيان والتمرد ظلت تقع من حين لآخر في الأعوام التالية، ولو أنها لم تكن بمثل هذه الخطورة؛ حيث كان قد استطاع عند نهاية الفترة التي نعنى بدراستها، الهيمنة على الجيش، كما بدأ يعمل لإنشاء النظام الجديد، كما استمرت مكائد كبار الضباط ضد حكومته وضد شخصه، وكان آخرها في هذه الفترة حادث أو كائنة لطيف باشا في ديسمبر 1813، وقد حاول هذا تحريك الفتنة ضد حكومة الباشا فانتهى الأمر بقتله، وفضلا عن ذلك، فإن محمد علي لم يعش في عزلة بالقلعة، وقد وزع إقامته بينها وبين سرايه بميدان الأزبكية، وصار يصرف شئون الحكم من المكانين، وإن كثر انعقاد ديوانه بالقلعة، وقد قطن بسراي الأزبكية بعض حريمه وأهله منذ أن استقدم من قولة زوجه الأولى وسائر أفراد أسرته.
على أن انتقال الباشا إلى القلعة، ونهب سرايه بالأزبكية كان بمثابة الإشارة لانتشار أعمال السلب والنهب في القاهرة على يد الجند الذين تراوح عددهم وقتئذ بين الثمانية والعشرة آلاف، فانطلق هؤلاء في شوارع المدينة وأحيائها، يعتدون على النساء، ويفتكون بالأزواج، ولا ينجو من سلب متجره وحانوته إلا من دفع فدية كبيرة، واستمر الحال على ذلك أسبوعا كاملا، فأوذي القاهريون إيذاء بليغا، وتوقفت الأعمال وانتشر الرعب والفزع في القاهرة. وفي ليلة أول نوفمبر - وكانت ليلة رؤية هلال رمضان - لم يمكن عمل الموسم المعتاد، وهو الاجتماع ببيت القاضي، وما يعمل به من الحراقة والنفوط والشنك وركوب المحتسب ومشايخ الحرف والزمور والطبول واجتماع الناس للفرجة بالأسواق والشوارع وبيت القاضي، فبطل ذلك كله ... ولم تثبت الرؤية تلك الليلة.»
ولم يمكن احتمال هذا الحال طويلا، وسعى «دروفتي» لدى الرؤساء لتأمين حياة وأموال الرعايا الفرنسيين، فتحدث في هذا الشأن على وجه الخصوص مع عمر بك الأرنئودي، وصالح آغا قوج (قوش) والسيد عمر مكرم، وحصل من هؤلاء على تأكيدات قاطعة باهتمامهم بصالح الرعايا الفرنسيين، وكتبوا له في ذلك قائلين: «إنهم سوف يتخذون كل ما ينبغي من وسائل لمنع وقوع أية إهانات على مبنى القنصلية الفرنسية وحارة الفرنساوية، (حي الإفرنج) بالمدينة»، وأكدوا أن في وسع «دروفتي» أن يعتمد كل الاعتماد على إمكان البحث معهم في أي أمر قد يبدو له ضرورة بحثه معهم، ثم إن له أن يعتمد كذلك على مساعدتهم له عند الحاجة.
وكان محمد علي منذ 28 أكتوبر قد عقد ديوانا بالقلعة، حضره رؤساء الجند وكبار القواد، كما حضره صغار الضباط، وتحدث فيهم بلهجة حازمة، وحاول أن يفرق بين صغار الضباط والرؤساء، فألقى مسئولية ما يشكو الجند منه من عدم حصولهم على مرتباتهم على كاهل الرؤساء الذين يتقاضون ما يزيد مائة مرة على ما يستحقونه عدلا وقانونا ، بينما يتركون جندهم في عوز وحاجة، وأظهر الباشا استعداده لإجابة مطالب الجند، على شريطة أن يقدم هؤلاء الرؤساء حسابا عن المبالغ الطائلة التي أخذوها. وأما إذا كان الجيش يريد تنحيته عن الحكم، فلهم أن يختاروا باشا غيره، فيعود هو حينئذ إلى رتبته العسكرية القديمة، أو يرحل عن البلاد كلية، ولكنه طالما بقي في الحكم، فإنه لن يتحول عن عزمه في ضرورة إصلاح المالية العسكرية، ثم استطرد الباشا من ذلك يقول: «ولقد حان الآن الوقت لإنهاء الإهانات والاعتداءات التي يتعرض لها الإفرنج واليهود والمسيحيون، وإبطال السلب والنهب الذي يقع على أهل القرى، لا لشيء سوى إشباع نهم بعض الرؤساء وإرواء جشعهم، وذلك كله محافظة على سمعة الجيش نفسه، ولتوفير السعادة لسكان وأهل البلاد»، ثم اختتم الباشا مقالته بإظهار ضرورة طرد جميع المحرضين على الثورة، وأعلن أنه لن يصرف سوى مرتبات ثلاثة شهور فحسب لكل الجيش عن استحقاقات سنة كاملة، إلا إذا خرج الجند إلى الصعيد لمناجزة البكوات المماليك وصار الباشا سيدا للصعيد، فعندئذ ينالون مكافأة طيبة.
وأثر كلام الباشا في صغار الضباط تأثيرا كبيرا، ووجد هؤلاء مقترحاته عادلة ومعقولة، فرفضوا الإصغاء لحجج ودعاوى رؤسائهم، وعجز هؤلاء عن استمالتهم إلى المضي في التمرد والعصيان، وتشاور الرؤساء في الأمر، ولما كانوا لا يجرءون على تقديم الحساب المطلوب منهم؛ لأنه لن يكون في صالحهم، فقد قر رأيهم على قبول التسوية التي اقترحها الباشا، ثم إنهم أمروا في اليوم نفسه بإرجاع المنهوبات التي أخذت من سراي الأزبكية، وانفرجت الأزمة، وانصرف الاهتمام إلى تدبير المال اللازم لدفع المرتبات التي وعد بها محمد علي.
ولما كان الناس قد أوذوا بسبب هذه الفتنة، وأوذيت على وجه الخصوص مصالح المشايخ وأعيان القاهريين، وكلهم صاحب ثروة، ويخشى على أمواله من الضياع، فقد عقد هؤلاء العزم على وقف الفتنة بكل وسيلة، يدفعهم إلى ذلك حرصهم على مصالحهم الذاتية، قبل أي اعتبار آخر، ثم إلحاح العامة فطلع طائفة من المشايخ (يوم 31 أكتوبر) إلى القلعة، وتكلموا وتشاوروا في تسكين هذا الحال، بأي وجه كان، ثم نزلوا، واستطال الأخذ والرد في طرائق تدبير المال، وتعددت اجتماعات المشايخ بكبار الضباط في منزل السيد عمر مكرم، وكثرت المؤتمرات كذلك في بيت السيد محمد المحروقي، وعند غيره.
ولكنه كان من الواضح أن الواجب يقتضيهم أن يفصلوا في هذه المسألة بكل سرعة، فقد استمر الاضطراب والشغب. وفي 2 نوفمبر بين العصر والمغرب، ضربوا مدافع كثيرة من القلعة، وأردفوا ذلك بالبنادق الكثيرة المتتابعة، وكذلك العسكر الكائنون بالبلدة، فعلوا كفعلهم من كل ناحية، ومن أسطحة الدور والمساكن، وكان شيئا هائلا، واستمر ذلك إلى بعد الغروب وتهكم الشيخ الجبرتي، فقال: «وذلك شنك لقدوم رمضان، في دخوله وانقضائه.»
وعلى ذلك فإنه لم تنقض أيام قلائل على هذا الحادث، حتى كانت قد أسفرت المباحثات والمشاورات في يوم 5 نوفمبر عن ترتيب لتدبير المال اللازم، كان فريدا في نوعه، يدل على حرص المشايخ على مصالحهم الذاتية، وقصورهم عن إدراك معنى الزعامة الشعبية التي طمعوا فيها، وعجزهم عن تحمل مسئولياتها، وقد شرح الشيخ الجبرتي هذا الترتيب في قوله: وفي هذا اليوم «انكشفت القضية عن طلب مبلغ ألفي كيس بعد جمعيات في مشاورات تارة ببيت السيد عمر النقيب، وتارة في أمكنة أخرى، كبيت السيد المحروقي وخلافه، حتى رتبوا ذلك ونظموه، فوزع منه جانب على رجال دائرة الباشا، وجانب على المشايخ الملتزمين، نظير مسموحهم في فرض حصصهم التي أكلوها، وهي مبلغ مائتي كيس، وزعت على القراريط، على كل قيراط ثلاثة آلاف نصف فضة على سبيل القرض؛ لأجل أن ترد أو تحسب لهم في الكشوفات، من رفع المظالم، ومال الجهات، يأخذونها من فلاحيهم، وفرض من ذلك مبلغ على أصحاب الحرف وأهل الغورية، ووكالة الصابون ووكالة القرب، والتجار الآفاقية، واستقر الطلب ببيت ابن الصاوي بما يتعلق بالفقهاء، وإسماعيل الطوبجي، بالمطلوب من طائفة الأتراك وأهل خان الخليلي، والمرجع في الطلب والدفع والرفع إلى السيد عمر النقيب.»
ومعنى ذلك، أن هذا الترتيب قد كفل للمشايخ - وقد صاروا في هذا العهد من كبار الملتزمين - استرداد ما يدفعونه، باحتسابه من مسموحهم في فرض حصصهم، وتفسير ذلك أن المشايخ الملتزمين؛ أي أولئك الذين التزموا بدفع الضريبة (الميري) عن حصة الأرض التي اعتبروا مسئولين عن تأدية المال (أو الميري) عنها إلى الحكومة، كانت الحكومة قد أعفتهم في نظير التزامهم من دفع الضريبة عن جزء من أراضيهم وأملاكهم الخاصة الداخلة في حصة التزامهم، فعرف ذلك باسم مسموح المشايخ، وكان المفروض أن يعفى الفلاحون في هذا الجزء المعفي من الضريبة، من دفع الضرائب كذلك، ولكن المشايخ درجوا - بالرغم من ذلك - على جمع الضرائب وسائر الفرض والإتاوات الحكومية من الفلاحين الموجودين بالأرض المعفاة منها حسب هذا النظام؛ وعلى ذلك، فإنه عندما أراد المشايخ والزعماء القاهريون - ويكادون يكونون جميعا من المشايخ الملتزمين، وهم كذلك أغنياء القاهرة وسراتها - إنهاء فتنة الجند التي آذت أشد ما آذت - كما ذكرنا - مصالح هذه الطبقة، رتبوا احتساب المبالغ التي يدفعونها من مسموحهم من الفرض على حصص التزامهم، فترد هذه المبالغ إليهم أو تحتسب لهم في كشوف الضرائب، والإتاوات التي يحصلونها - دون وجه حق أصلا - من الفلاحين في أرضهم أو حصص التزامهم، وبهذه الطريقة ضمن المشايخ استرداد ما دفعوه.
ولم يأبه المشايخ والرؤساء الشعبيون لمصالح الفريق الآخر، من صغار التجار وأرباب الحرف والصناعات الصغيرة، الذين قصمت ظهورهم الضرائب الفادحة والإتاوات المتكررة، فوقع على كاهلهم عبء دفع قسط كبير من المبلغ المطلوب، دون أي ضمان لاستردادهم إياه أو لاستنزاله من الضرائب أو الإتاوات التي تحصل منهم، وهكذا أثبتت المشايخ والرؤساء الشعبيون أنهم لا يعنون إلا بصون مصالحهم الذاتية فحسب.
ومع أن كبار الضباط ورجال الباشا قد اشتركوا مع المشايخ في بحث الأمر، فقد كان من الواضح أن الذي عنى به الباشا وقتئذ، هو وصول مبلغ الألفي كيس إليه ليدفع منه مرتبات الجند حسبما وعد به، كما كان من الواضح أن كبار الضباط إنما يهمهم وصول المال لأيديهم حتى يدفعوه بدورهم للجند؛ ولذلك فقد كان ترتيب توزيع المبلغ على الطوائف والهيئات - وبعد أن دفع رجال دائرة الباشا قسما منه - من شأن المشايخ والرؤساء الشعبيين أنفسهم.
وعلى ذلك فإنه ما إن جرى تحصيل هذا المبلغ، حتى «اجتمع الكثير من أهل الحرف كالصرماتية وأمثالهم، والتجأوا إلى الجامع الأزهر، وأقاموا به ليالي وأياما فلم ينفعهم ذلك، وانبث المعينون بالطلب، وبأيديهم الأوراق بمقدار المبلغ المطلوب من الشخص، وعليها حق الطريق، وهم قواسة أتراك وعسكر ودلاة، وقواسة بلدي، ودهي الناس بهذه الداهية في الشهر المبارك، فيكون الإنسان نائما في بيته ومفتكرا في قوت عياله، فيدهمه الطلب، ويأتيه المعين قبل الشروق، فيزعجه ويصرخ عليه، بل ويطلع إلى جهة حريمه، فينتبه كالمفلوج من غير اصطباح، ويلاطف المعين، ويوعده ويأخذ بخاطره، ويدفع له كراء طريقه المدفوع له في الورقة المعين بها المبلغ المطلوب قبل كل شيء، فما يفارقه إلا ومعين آخر واصل إليه على النسق المتقدم، وهكذا.» (3) الضرب على أيدي المحرضين (3-1) نفي رجب آغا
وما إن سكنت فتنة الجند، حتى شرع الباشا يعمل بحزم وشدة للضرب على أيدي رؤساء الجند الذين تزعموا هذه الفتنة، وعقوبة الثوار الظاهرين، والمغامرين الذين يحركون القلاقل والاضطرابات؛ ليعيثوا فسادا في القاهرة خصوصا؛ وليسلبوا القاهريين ويعتدوا عليهم، والذين كان وجودهم - كما كتب الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن هذه الحوادث في نوفمبر من العام نفسه - مصدر خطر لا على سلطانه وحكومته فحسب، بل وعلى حياته هو نفسه كذلك، حتى إذا شاء الاعتماد على ولاء الجيش له، وجب عليه - كما قال هؤلاء - أن يتخذ إجراءات سريعة وحاسمة للتخلص منهم.
وكان واضحا أن ترك الجند يسدرون في غوايتهم، دون وقف اعتداءاتهم على الأهلين، سوف يترتب عليه انعدام الأمن في القاهرة، وإفلات زمام الأمور من يد الباشا في آخر الأمر، ومن المحتمل كثيرا قيام القاهريين بالثورة، صحيح أن الفتنة الأخيرة مرت دون أن يحرك القاهريون ساكنا للانتقام من الأرنئود والدلاة الذين آذوهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم، وذلك بفضل الإجراءات التي اتخذها عمر مكرم وغيره من المتصدرين، لإغلاق الحوانيت، ومنع تسلح الأهلين، وإلزامهم بالمكوث في بيوتهم، وإغلاق البوابات وحراستها، ولكن الخطر كان كامنا، ولا ضمان لدوام هذا السكون إذا وقعت فتنة أخرى من طراز هذا العصيان والتمرد . ولقد عبر الشيخ الجبرتي عن كراهية الشعب لجند الباشا، فقال: «ولشدة قهر الخلائق منهم، وقبح أفعالهم، تمنوا مجيء الإفرنج من أي جنس كان، وزوال هؤلاء الطوائف الخاسرة، الذين ليس لهم ملة ولا شريعة، ولا طريقة يمشون عليها، فكانوا يصرخون بذلك بمسمع منهم، فيزداد حقدهم وعداوتهم، ويقولون أهل هذه البلاد ليسوا مسلمين؛ لأنهم يكرهوننا ويحبون النصارى، ويتوعدونهم إذا خلصت لهم البلاد، ولا ينظرون لقبح أفعالهم.»
وكان أخطر المحرضين على التمرد والعصيان، رجب آغا، وكان من الذين انضموا إلى الألفي سابقا وصار أحد قواد مشاته، وقد تقدم ذكر حادث مخامرة رجب آغا على عمر بك الأرنئودي ومقاومته مع ياسين بك في المنيا، وتظاهر بالولاء لمحمد علي بعد ذلك، ولكنه صار يدبر الثورة ضده، وكان من كبار المحرضين على الفتنة الأخيرة، فأصدر الباشا أمرا بعد سكون الفتنة بنفيه، فلم يمتثل رجب آغا لهذا الأمر، وجهر بالعصيان، وكادت تقوم الفتنة من جديد، لولا أن تغلب جند الباشا عليه، وأوذي الأهلون في هذا الحادث كذلك إيذاء بليغا. ويقص الشيخ الجبرتي تفاصيل ما وقع في قوله في حوادث يوم 19 نوفمبر 1807: «قصد الباشا نفي رجب آغا الأرنئودي وأرسل إليه يأمره بالخروج والسفر، بعد أن قطع خرجه، وأعطاه علوفته، فامتنع من الخروج، وقال أنا لي عنده خمسين كيسا، ولا أسافر حتى أقبضها، وذلك أنه في حياة الألفي الكبير، اتفق مع الباشا بأن يذهب عند الألفي وينضم إليه، ويتحيل في اغتياله وقتله، فإن فعل ذلك وقتله وتمت حيلته عليه، أعطاه خمسين كيسا، فذهب عند الألفي والتجأ إليه، وأظهر أنه راغب في خدمته، وكره الباشا وظلمه، فرحب به وقبله وأكرمه مع التحذر منه، فلما طال به الأمد ولم يتمكن من قصده، ورجع إلى الباشا، فلما أمره بالذهاب الآن أخذ يطالبه بالخمسين كيسا، فامتنع الباشا، وقال: جعلت له ذلك في نظير شيء يفعله، ولم يخرج من يده فعله، فلا وجه لمطالبته به، واستمر رجب آغا في عناده، وذلك أنهم لا يهون بهم مفارقة مصر التي صاروا فيها أمراء وأكابر، بعد أن كانوا يحتطبون في بلادهم، ويتكسبون بالصنائع الدنيئة ... ثم إنه جمع جيشه إليه من الأرنئود بناحية سكنه، وهو بيت حسن كتخدا الجربان بباب اللوق، فأرسل إليه الباشا من يحاربه.
فحضر حسن آغا سر ششمه من ناحية قنطرة باب الخرق، وحضر أيضا الجم الكثير من الأتراك وكبرائهم من ناحية المدابغ، وعمل كل منهم متاريس من الجهتين، وتقدموا قليلا حتى قربوا من مساكن الأرنئود تجاه بيت البارودي، فلم يتجاسروا على الإقدام عليهم من الطريق، بل دخلوا من البيوت التي في صفهم، ونقبوا من بيت إلى آخر، حتى انتهوا إلى أول منزل من مساكنهم، فبغتوا البيت الذي يسكن به الشيخ محمد سعد البكري، ونفذوا منه إلى المنزل الذي بجواره، ثم منه إلى منزل علي آغا الشعراوي، ثم إلى بيت سيدي محمد وأخيه سيدي محمود المعروف بأبي دفية، الملاصق لمسكن طائفة من الأرنئود، وعبثوا في الدور وأزعجوا أهلها بقبيح أفعالهم.
فإنهم عندما يدخلون أول بيت يصعدون إلى الحريم بصورة منكرة، من غير دستور ولا استئذان، وينقبون من مساكن الحريم العليا، فيهدمون الحائط ويدخلون منها إلى محل حريم الدار الأخرى، وتصعد طائفة منهم إلى السطح، وهم يرمون بالبنادق في الهواء في حال مشيهم وسيرهم وهكذا، ولا يخفى ما يحصل للنساء من الانزعاج، ويصرن يصرخن ويصحن بأطفالهن، ويهربن إلى الحارات الأخرى، مثل حارة قواديس، وناحية حارة عابدين، بظاهر الدور المذكورة، بغاية الخوف والرعب والمشقة، وطفقت العساكر تنهب الأمتعة والثياب والفرش، ويكسرون الصناديق ويأخذون ما فيها، ويأكلون ما في القدور من الأطعمة في نهار رمضان من غير احتشام.
ولقد شاهدت أثر قبيح فعلهم ببيت أبي دفية المذكور من الصناديق المكسرة، وانتشار حشو الوسائد والمراتب التي فتقوها وأخذوا ظروفها، ولم يسلم لأصحاب المساكن سوى ما كان لهم خارج دورهم، وبعيدا عنها، أو وزعوه قبل الحادثة، وأصيب محمد أفندي أبو دفية برصاصة أطلقها بعضهم من النقب الذي نقب عليهم، نفذت من كتفه، وكذلك فعل العساكر التي أتت من ناحية المدابغ بالبيوت الأخرى.
واستمروا على هذه الأفعال ثلاثة أيام بلياليها.
وتدخل عمر بك الأرنئودي، وصالح قوج (قوش) لإنهاء الفتنة، وتوليا رجب آغا بحمايتهما، فحضر عمر بك كبير الأرنئود الساكن ببولاق ليلة 23 نوفمبر، وكذلك صالح قوج إلى رجب آغا المذكور، وأركباه وأخذاه إلى بولاق، وبطل الحرب بينهم، ورفعوا المتاريس في صبحها، وانكشفت الواقعة عن نهب البيوت ونقبها، وإزعاج أهلها، ومات فيما بينهم أنفار قليلة، وكذلك مات أناس وانجرح أناس، من أهل البلد.» وفي 26 نوفمبر سافر رجب آغا، وتخلف عنه كثير من عساكره وأتباعه، وذهب من ناحية دمياط وطرد رجب آغا من البلاد نهائيا.
وعمد الباشا إلى التخلص رويدا رويدا من سائر متزعمي العصيان والمحرضين عليه، أولئك الذين لم يدر في ذهنهم قط أن يسودوا عليهم سيدا يأتمرون بأمره، ويطيعون نواهيه، بل اعتقدوا أن من حقهم أن يختاروا الزعيم الذي يرضخ لأهوائهم، ويخضع لنزواتهم، وصار إطلاق الرصاص والعصيان ديدنهم كلما واتتهم الفرصة للإفصاح عن تذمرهم، وإعلان غضبهم وسخطهم على حكومة الباشا، ولما لم يكن مركز محمد علي قد توطد بالدرجة التي تجعله قادرا على الاقتصاص من الثوار بالطرق العادية المألوفة خشية أن يؤدي إنزال العقوبة بالمحرضين على العصيان إلى هياج الجنود وسريان روح التمرد بين سائر صفوف الجيش، وثورة الجيش بأسره، فقد لجأ الباشا إلى وسائل صامتة للخلاص منهم، فجرى إعدام كثيرين من قادة العصيان بالقلعة سرا، واتخذ من واجب تحصين الإسكندرية، وسائر الثغور والمواقع في الشاطئ الشمالي، ذريعة لإبعاد الآخرين من القاهرة، وتوزيعهم على مختلف الحاميات، بحيث لا تظل قوات كبيرة من الجيش مجتمعة في مكان واحد، وبحيث ينالون علائفهم ومرتباتهم من الأماكن التي يرسلون إليها، فيخف كذلك عبء نفقاتهم عن خزانته، فضلا عن أن توزيعهم هذا لا ينال من قوته شيئا، لبقاء الجيش قائما، وفي ديسمبر من السنة نفسها قطع الباشا رواتب طوائف الدلاة وأمروا بالسفر إلى بلادهم.
ولم يظهر أثر هذه الإجراءات التي اتخذها محمد علي لتطويع الجند إلا شيئا فشيئا، فقد بقيت بطبيعة الحال طائفة من الجند بالقاهرة، للدفاع عنها، واستمرت اعتداءات هؤلاء على الأهلين، فلا يمر يوم دون وقوع اعتداءات جديدة، حتى لاحظ الوكلاء الفرنسيون أن أصحاب الأسمال البالية هم الذين في وسعهم وحدهم أن يشعروا بأي أمن وطمأنينة عند سيرهم في شوارع العاصمة. (3-2) حادث ساحرة دمنهور
وكان من العوامل التي ساعدت على زيادة الفوضى بين طوائف الجند، اعتقاد هؤلاء في المشعوذين والسحرة، يحتفون بهم ويسيرون في ركابهم؛ تكريما لهم وتلمسا للبركة منهم، في مواكب ذات جلبة وضوضاء، يطوفون بهم في شوارع القاهرة، ويعتدون على القاهريين، ويسلبون الحوانيت والدكاكين. وكان أخطر من ظهر من هؤلاء المشعوذين الذين اعتقد فيهم كثيرون من الأرنئود على وجه الخصوص، امرأة من نواحي دمنهور ادعت أن لها صلة مباشرة بعالم الأرواح، يخاطبها روح يسمى الشيخ علي، ويجيب على ما يسأله السائلون بواسطتها، وفي وسع هؤلاء كذلك أن يلمسوا يده في جلسات خاصة في ظلام الليل، واشتهر أمر هذه الساحرة، وصار لها آلاف من المؤمنين بها، ومن بينهم عدد عظيم من الأرنئود، فصارت تتجول في شوارع القاهرة على حصان، يحيط بها الأرنئود حراسا لها. وخشي الباشا أن تكون هذه المرأة أداة في يد أعدائه، يستخدمونها لتأليب الجند، بل وتحريك الشعب نفسه على الثورة، فسعى جهده لكشف خديعتها وإظهار كذب ادعائها، والتخلص منها بصورة لا تستفز جنده الأرنئود. فاستدعى الباشا إليه أربعة من الحواة، ووعدهم بمبلغ من المال إذا استطاعوا إحضار الساحرة، فوجدها هؤلاء عند باش آغاة التبديل، أو رئيس خفراء الحراسة الليلية، يحيط بها المعجبون من الجند وغيرهم، فلما أرادوا القبض عليها انتصر لها الجند وهددوا الحواة وطردوهم بدعوى أن البيت سوف يسقط على رءوسهم إذا مس أحد بشر شخص هذه المرأة المقدسة. وتزايد خطرها يوما بعد آخر، وصار لا ندحة عن إنهاء مسألة هذه الساحرة بكل سرعة، فأمر الباشا رئيس الشرطة بإحضارها؛ حتى يظهر كغيره إعجابه بفعالها الخارقة، واستقبلها الباشا أمام سرايه في ميدان الأزبكية قبل الغروب، وهو جالس تحت شجرة كبيرة من الجميز يدخن نارجيلته بالقرب من ساقية، يحيط به المعجبون بها والمؤمنون بسحرها، ورجاها إحضار الروح، ووقف جمهور كبير يشهد ما يجري بين الباشا وبينها. ولما كان الليل لم يرخ سدوله بعد، والمكان خلاء، فقد اعتذرت الساحرة بأن اتصال الروح لا يحدث إلا في الظلام، وعلاوة على ذلك، فقد ذهب الشيخ علي للصلاة في جامع الإمام الحسين، وأنه سيعود بعد قليل، فدخل الباشا إلى قصره، وتبعه كبار الضباط ورؤساء الجند لمشاهدة المعجزة، فلما جاء الليل جلس الباشا وحوله هؤلاء الرؤساء، ويجاوره طبيبه الخاص «بوزاري» وترجمانه؛ لأنه لا يتكلم العربية، وادعت الساحرة أنها تجهل التركية، و«بوزاري» يعرف اللغتين، فأطفئت الأنوار، وأجاب الشيخ علي على الأسئلة التي وجهت إليه في صوت مكبوت، وبدا كأنما الباشا قد غلب على أمره، ولكنه لم يلبث أن طلب أن يقبل يد الروح، وكان بعد لأي وعناء أن رضي الشيخ علي أن يمد أطراف أصابعه حتى يقبلها الباشا، فقبض عليها بشدة وأحضرت الأضواء، واتضح أن اليد هي يد الساحرة ذاتها، التي ثبت أنها ذات قدرة على إخراج الأصوات من بطنها، وقرر الباشا إغراقها في النيل فورا، فقام صخب وقامت ضجة حتى شعر الباشا بالخوف لحظة، ولكن سرعة بديهته وشجاعته أنقذتا الموقف، فقال: «لا شك في أن هذه المرأة يمتلكها روح ذو قدرة خارقة، وهذا الروح لن يدعها تهلك، أما إذا كان لا وجود لهذا الروح أصلا، واتضح أنها كانت تخدع الناس وتغشهم، فإنها سوف تغرق.» وأمام هذا المنطق القوي إذا، رضي المعارضون بأخذها إلى النيل؛ حيث ألقيت الساحرة به، وانتظروا - بعض الوقت - خروجها من النهر، ولكن دون جدوى، فانصرفوا لشأنهم.
على أنه كان من أثر ما ظهر من تصميم محمد علي، على ردع حركات العصيان، وأخذه جنده بالشدة، للقضاء على عوامل الفوضى واختلال النظام في جيشه، أن فر كثيرون من الصفوف، وقصدوا إلى الأرنئودي الثائر الآخر ياسين بك، يعملون تحت لوائه، وكان خطر هذا قد أخذ يستفحل منذ حوادث عصيانه الأخيرة والتي ذكرناها، ووجب على الباشا القضاء على حركته بكل وسيلة. (3-3) نفي ياسين بك الأرنئودي
فقد استفحل شر ياسين بك وأخذ يعيث فسادا في أقاليم مصر الوسطى ، وانضم إليه كثيرون من رؤساء العثمنلي والأرنئود الذين أصاب كبرياءهم تصميم الباشا على جمع أسباب السلطة في يده، كما فر إليه كثيرون من الجند؛ لنقمتهم - كما ذكرنا - على النظام الذي يريد الباشا إدخاله في الجيش، أضف إلى هذا أن العربان الذين من دأبهم انتهاز الفرص السانحة للسلب والنهب، سرعان ما صاروا يتوافدون على معسكره في أعداد عظيمة واجتمع لدى ياسين بك من القوة ما جعله قادرا على إبراز جيش في الميدان يضارع في أعداده وسلاحه ما لدى محمد علي نفسه من مشاة، وداعب الأمل ياسين بك في إمكان انتزاع الباشوية من محمد علي، ولا جدال في أنه كان في وسعه أن يفعل ذلك، لو أنه أوتي إلى جانب أطماعه هذه وقدرته على النضال في جلد ومثابرة - وقد شهد المعاصرون له بالقدرة على الكفاح القوي - شيئا من الحكمة وبعد النظر، فعرف كيف ينحاز بالقوات التي لديه لإحدى القوتين المتناضلتين وقتئذ: محمد علي أو البكوات المماليك، فيسير في نفس الطريق الذي سار فيه الباشا نفسه، في أوائل عهده، ومنذ أن صح عزمه على الوصول إلى الحكم والولاية، حتى إذا استعان بإحدى هاتين القوتين في القضاء على جماعة من خصومه، استطاع منازلة الجماعة الأخرى، وكان من الواضح أن من صالحه الاتحاد مع البكوات المماليك إذا شاء القضاء على حكومة محمد علي؛ لأن انضمام فرسانهم إلى جيشه - لا شك - يجعل كفته الراجحة في أية معارك يخوض غمارها مع الباشا.
ولكن ياسين بك كان مغامرا تنقصه الحنكة السياسية، عجز عن ابتداع سياسة أو تدبير خطة محكمة للوصول إلى غايته، واعتمد في جذب الجند إليه على كرمه وسخائه معهم، وهو الذي تسنى له أن يجمع ثروة طائلة بأعمال السلب والنهب التي انغمس فيها، فأجزل لجنده العطاء، وكان مرحا بطبعه، وذا شخصية محببة للنفوس، كثير التسامح مع جنده، حتى أحبه هؤلاء، ورضوا بالعمل تحت لوائه وتزايدت أعداد الوافدين منهم إلى معسكره يوما بعد يوم، ولكنه أخطأ خطأ جسيما عندما اعتبر أعداء له، كل من رفضوا الانضواء تحت لوائه، وبدلا من الاتحاد مع البكوات الذين بالصعيد، جلب سخطهم عليه، واستثار عداءهم ضده بسبب مضي عصاباته في النهب والسلب والتخريب، مما أثار عليه أسياد الصعيد الثلاثة: إبراهيم بك، وعثمان بك حسن، وشاهين بك المرادي خليفة عثمان البرديسي، فاتحدوا ضده وقرروا مهاجمته.
فقد انتهز في سبتمبر وأكتوبر 1807 وقوع الخلاف بين البكوات، بسبب إغارة سليمان بك البواب على بعض القرى التابعة لشاهين بك المرادي ونهبها، فاستولى ياسين على بني سويف والمنيا؛ حيث تحصن بها، ولم يتورع أثناء مناوشاته مع المماليك عن مهاجمة ملوي وأخذ مبلغ كبير من المال من أهلها، بالرغم من أنها تتبع محمد بك المنفوخ المرادي حامي ياسين بك نفسه. وفي نوفمبر كان لا يزال ياسين متحصنا بالمنيا، وفي مناوشات مستمرة مع البكوات من الألفية والمرادية على السواء، ويتخذ العدة لإخضاع إقليم الفيوم كذلك.
وكان البكوات وقتئذ يتفاوضون من أجل الصلح مع الباشا - على نحو ما سيجيء ذكره في موضعه - وكان شاهين بك الألفي يعيش مستأمنا في الجيزة والقاهرة، ومنذ أن صالحه الباشا في ديسمبر 1807، فاستعان محمد علي به في استثارة أسياد الصعيد لقتال ياسين، وكان هؤلاء يسخطون عليه سخطا عظيما، فأوقعوا به هزيمة كبيرة بالقرب من منفلوط في يناير 1808، ونهبوا حملته ومتاعه وانسحب في حوالي المائتين فحسب إلى المنيا؛ حيث تحصن بها، وحضر أبوه إلى القاهرة مستسلما. وشرع محمد علي يجهز تجريدة لمطاردته من حوالي السبعمائة أو الثمانمائة، بقيادة بونابرتة الخازندار (أحمد آغا)، وتقدم التجريدة سليمان بك الألفي من رجال شاهين الألفي في قوة أخرى، وانضم بكوات الصعيد إلى جيش حسن باشا طاهر الأرنئودي للقضاء على ياسين، فهاجموا المنيا من الناحية القبلية، بينما صوب الأرنئود مدافعهم عليها من الناحية البحرية. وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته في أول فبراير 1808، أن هذه الحملة عند انضمامها إلى قوات المماليك بالصعيد سوف تغدو قوة عظيمة في وسعها طرد ياسين بك من المنيا والسيطرة عليها، «ولا جدال في أن إخضاع هذا الثائر - الذي أتيح له خلق سلطة ثالثة في مصر أشد خطرا مما قد تبلغه سلطة الباشا، أو سلطة البكوات المماليك؛ لأن أكثرية العربان منحازون إليه - من شأنه بسط الهدوء، وفتح المواصلات لاستئناف النشاط التجاري الذي تعطل من مدة طويلة بين الوجهين البحري والقبلي.»
ويصف الشيخ الجبرتي ما وقع بعد خروج هذه التجريدة، فيقول في حوادث يوم 10 فبراير 1808: «ورد الخبر بأن سليمان بك الألفي لما وصل إلى المنيا، ونزل بفنائها، خرج إليه ياسين بك بجموعه، وعساكره وعربانه، فوقع بينهما وقعة عظيمة، وانهزم ياسين بك وولى هاربا إلى المنيا، فتبعه سليمان بك في قلة، وعدى الخندق خلفه، فأصيب من كمين بداخل الخندق ووقع ميتا، بعد أن نهب متاع ياسين بك وجماله وأثقاله، وشتت جموعه، وانحصر هو وعربانه وما بقي منهم بداخل المنيا، وكانت الواقعة (يوم 4 فبراير 1808). فلما ورد الخبر بذلك على الباشا، أظهر أنه اغتم على سليمان بك، وتأسف على موته، وأقام العزاء عليه خشداشينه بالجيزة، وفي بيوتهم، وطفق الباشا يلوم على جراءة المصريين (البكوات المماليك) وإقدامهم، وكيف أن سليمان بك يخاطر بنفسه، ويلقى بنفسه من داخل الخندق، ويقول أنا أرسلت إليه أحذره، وأقول له أن ينتظر بونابرتة الخازندار، ويراسل ياسين بك، ويطلعه على ما بيده من المراسيم، فإذا أبى وخالف ما في ضمنها، فعند ذلك يجتمعون على حربه، وتتقدم عسكر الأتراك لمعرفتهم وصبرهم على محاصرة الأبنية، فلم يستمع لما قلت، وأغرى بنفسه، وأيضا ينبغي لكبير العسكر التأخر عن عسكره، فإن الكبير عبارة عن المدبر الرئيسي، وبمصابه تنكسر قلوب قوته، وهؤلاء القوم بخلاف ذلك، يلقون بأنفسهم في المهالك.
ولما أرسل جماعة سليمان بك يخبرون بموت كبيرهم، وأنهم مجتمعون على حالتهم، ومقيمون بعرضيهم ومحطتهم على المنيا، وأنهم منتظرون من يقيمه الباشا رئيسا مكانه، فعند ذلك أرسل الباشا إلى شاهين بك الألفي يعزيه، ويلتمس منه أن يختار من خشداشينه من يقلده الباشا إمارة سليمان بك، فيتشاور شاهين بك مع خشداشينه، فلم يرض أحد من الكبار أن يتقلد ذلك، ثم وقع اختيارهم على شخص من المماليك يسمى يحيى، وأرسلوه إلى الباشا، فخلع عليه، وأمره بالسفر إلى المنيا ، فأخذ في قضاء أشغاله وعدى إلى بر الجيزة.»
ولكن أمد مقاومة ياسين بك في المنيا لم يطل، فقد شجعه بعد مقتل سليمان بك على الصمود، فرار قسم من جند بونابرتة الخازندار من جيشه، وانضمامهم إلى ياسين بك عند وصولهم إلى المنيا، واستنادا على هذه النجدة التي جاءته، قرر ياسين القيام بحركة خروج مسلح من المنيا، تكللت بالنجاح، وفقد المماليك أربعة من رؤسائهم، وقتل كثيرون من رجال شاهين الألفي، بيد أن قصور تفكيره السياسي سرعان ما أوقعه فريسة لأطماعه؛ فقد أرسل إليه بونابرتة الخازندار «يستدعيه إلى الطاعة، وأطلعه على المكاتبات والمراسيم التي بيده من الباشا خطابا له وللأمراء الحاضرين والغائبين المصرية؛ أي البكوات المماليك، وفي ضمنها إن أبى ياسين بك عن الدخول في الطاعة، واستمر على عناده وعصيانه، فإن بونابرتة والأمراء المصرية يحاربونه.» غير أن هذا التهديد ما كان يكفي وحده لإقناع ياسين بك بالتسليم، فقال «دروفتي»: إن هذا إنما أغراه على التسليم، والوقوع في الشرك الذي نصبه له الباشا، وعد محمد علي له بإعطائه باشوية جدة، وتوليته قيادة الجيش الذاهب لقتال الوهابيين في الحجاز، فانخدع ياسين بهذه الوعود، ونزل على حكم بونابرتة، وحضر عنده بعد أن استوثق منه بالأمان. وفي 13 فبراير «وصلت الأخبار بذلك إلى مصر (القاهرة)، وخرجت العربان المحصورة بالمدينة، بعد أن صالحوا على أنفسهم، وفتحوا لهم طريقا، وذهبوا إلى أماكنهم، واستلم بونابرتة المنيا، فأقام بها يومين، وارتحل عنها وحضر إلى مصر.»
ووصل ياسين إلى ثغر بولاق في 16 فبراير، وركب صبيحة اليوم التالي، وطلع إلى القلعة، ولم يلق الترحيب الذي انتظره، بل على العكس من ذلك، عوقه الباشا في القلعة وأراد قتله، ولكن مثلما تدخل عمر بك الأرنئودي وصالح قوج، في مسألة رجب آغا وأنقذاه، فقد تدخلا وغيرهما من الأرنئود في مسألة ياسين بك، وتعصبوا له، «وطلعوا إلى القلعة يوم 20 فبراير، وقد رتب الباشا عساكره وجنده، وأوقفهم بالأبواب الداخلية والخارجية، وبين يديه، وتكلم عمر بك وصالح آغا مع الباشا في أمره، وأن يقيم بمصر، فقال الباشا: لا يمكن أن يقيم بمصر، والساعة أقتله، وأنظر أي شيء يكون، فلم يسع المتعصبين له إلا الامتثال، ثم أحضر الباشا ياسين بك وخلع عليه فروة، وأنعم عليه بأربعين كيسا، ونزلوا بصحبته بعد الظهر إلى بولاق، وسافر إلى دمياط، ليذهب إلى قبرص، ومعه محافظون.»
وهكذا، كما كتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية في 27 فبراير: «تخلصت مصر من هذا الزعيم الذي قسم وجوده مصر إلى مناطق ثلاث، يتناضل رؤساؤها على السلطة، وحقيقة الأمر أن محمد علي ذو عبقرية تمكنه من إفساد مشروعات أعدائه وخططهم، بالمفاوضة تارة، والكيد تارة أخرى للأحزاب والجماعات الطامعة في السلطة»، وتوقع كثيرون - وقد قضى على ياسين بك الآن، ورضي شاهين الألفي بالاعتراف بسلطان محمد علي وعاش تحت رقابته مع سائر بكوات بيت الألفي، بينما ظل سائر البكوات مبعثرين في الصعيد، وتدور المفاوضات بينهم وبين محمد علي - توقعوا أن تنجح مفاوضات الباشا مع هؤلاء، وأن يستقيم له الأمر، فينفرد بالسلطان في أرجاء باشويته، بل اعتقد كثيرون، «أن الباشا صار متحررا الآن، وللمرة الأولى، منذ وصوله إلى الحكم والولاية، من خطر كل عداوة جدية، صحيح، هناك أعداء لا ندحة عن النضال معهم، ولكن هؤلاء كانوا مهزومين، ولا حاجة لبذل جهود كبيرة للقضاء عليهم، إذا أظهر الباشا المهارة التي عالج بها الأمور حتى هذا الوقت.» (3-4) تطويع العربان
على أن الحوادث سرعان ما أثبتت أنه لا معدى عن بذل جهود شاقة مضنية، ليس فقط لإخضاع البكوات المماليك - كما سيأتي ذكره في موضعه - بل وكذلك لاجتثاث تمرد الجند وعصيانهم من أصوله من جهة، ولتطويع العربان من جهة أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى انحياز طوائف العربان إلى البكوات المماليك، ورؤساء الجند العصاة، ومن أشهر هؤلاء: أولاد علي، والجهنة، والهنادي، وعائد، والهوارة، والماعزة، والحويطات.
وكان العربان يشبهون الجند العصاة ورؤساءهم المتمردين، من حيث ميلهم إلى السلب والنهب، ويشبهون المماليك، من حيث انتشار الخلافات والانقسامات بينهم، واتبع الباشا في كسر حدة شرهم، نفس الأساليب التي اتبعها مع جنده المتمردين ومع خصومه المماليك، فهو يسير جيشه ضدهم تارة، ويغير على قوافل تجارتهم، ويستميل إليه طوائف منهم، ويتدخل في خصوماتهم، ويوسط لديهم المشايخ والسيد عمر مكرم، وينتصر لفريق منهم على فريق تارة أخرى، ويبذر بذور الشقاق والتفرقة بينهم كل الوقت، وكان لا مندوحة عن تطويع العربان كرها أو سلما، إذا شاء أن يمنع أذاهم عن الأهلين، في القاهرة وضواحيها وسائر الأقاليم التي خضعت لسلطانه، وإذا شاء أن يصرفهم عن مؤازرة خصومه الألداء، البكوات المماليك.
وقد أتيحت الفرصة للباشا للتدخل في شئونهم، وتجربة أساليبه معهم، عندما قوي الخصام بين الحويطات والعيايدة في سبتمبر 1806، ودار القتال بين الفريقين خارج أسوار القاهرة وحولها، وانقطعت السبل بسبب ذلك، فانتصر الباشا للحويطات، وخرج إلى العادلية جهة القبة أو قبة النصر، خارج باب النصر عند قبر الملك العادل طومان باي في قوة لفض هذه الخصومة ووقف القتال، واجتمع مشايخ الحويطات والعيايدة عند عمر مكرم الذي أصلح بينهم. وفي يناير 1807 انتقم الباشا من عرب المعازة الذين استمروا ينقلون التجارة بين الصعيد والقاهرة، بالرغم من محاولة محمد علي منع كل إمدادات عن البكوات بالصعيد، في وقت كان الخطر فيه على حكومته عظيما، من احتمال اتحاد الألفي مع زملائه بالصعيد، والذي حال دون وقوعه وفاة الألفي في الأيام الأخيرة من هذا الشهر نفسه، فحدث يوم 11 يناير أن وصلت قوافل الصعيد من ناحية جبل المقطم وبها أحمال كبيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم، فركب الباشا ليلا وكبسهم على حين غفلة، ونهبهم وأخذ جمالهم وأحمالهم ومتاعهم، حتى أولاد العربان والنساء والبنات، ودخلوا بهم إلى المدينة، يقودونهم أسرى في أيديهم، ويبيعونهم فيما بينهم.
وكان من نتائج صلح الباشا مع شاهين بك الألفي في ديسمبر 1807، ومجيء هذا إلى القاهرة أن حضر معه عربان الهوارة الذين كانوا بمعسكره، ثم إن الباشا انتفع من صلحه مع شاهين عندما توسط هذا بين طوائف العربان المتخاصمة في إقليم البحيرة: الهنادي والجهنة وأولاد علي، وكان للألفية صلات وثيقة بهم من أيام الألفي الكبير الذي أصهر من الهنادي والجهنة، وأراد شاهين مناصرتهم على أولاد علي. وتفصيل ما وقع بين هؤلاء العربان ، أن أولاد علي كانوا قد تغلبوا على هذا الإقليم، وعاثوا فيه فسادا كبيرا، وأخرجوا الهنادي والجهنة من قطاعاتهم، فحضر هؤلاء الآن إلى القاهرة يشكون مما نزل بهم، ويقدمون خضوعهم للباشا في أوائل مارس 1808، فتوسط شاهين الألفي في الأمر، وتم الاتفاق على عودتهم إلى منازلهم بالبحيرة، وأن يطردوا أولاد علي، وخرج معهم شاهين وخشداشينه، فقصدوا إلى دمنهور، وارتحل أولاد علي إلى حوش ابن عيسى، ثم التحم الفريقان في معركة كبيرة، سقط في أثنائها اثنان من كبار الأجناد والألفية، وانجلت عن هزيمة أولاد علي الذين أسر منهم نحو الأربعين، كما غنمت منهم غنائم كثيرة من جمال وأغنام، وتفرقوا وتشتتوا، واضطروا إلى الانسحاب صوب الفيوم والصعيد، ومكن شاهين الهنادي والجهنة ورجع إلى الجيزة في أوائل مايو بعد أن عمر الهنادي والجهنة ورجع إلى الجيزة في أوائل مايو بعد أن عمر الهنادي والجهنة بأرض البحيرة.
ولم يرض أولاد علي بهزيمتهم، فاتصلوا ببعض أهل الدولة يوسطونهم لدى الباشا؛ حتى يأذن بعودتهم إلى البحيرة، وعرضوا مائة ألف ريال، لقاء رجوعهم للبحيرة وإخراج الهنادي، فأجاب ملتمسهم، ولكن الهنادي والجهنة رفضوا الإذعان، وحاربوا أولاد علي، ونهبوا ونالوا منهم، بعد أن كانوا ضيقوا عليهم، وحصلت اختلافات، فامتنع أولاد علي عن دفع المال الذي قرروه على أنفسهم، واجتمعوا بحوش عيسى، فأنفذ الباشا إليهم تجريدة يؤلف الدلاة قسما منها، سلم قيادتها إلى عمر بك الألفي من رجال شاهين الألفي، فخرجت هذه التجريدة في 21 أكتوبر 1808 واشترك معها الهنادي في قتال أولاد علي الذين ظهروا عليهم وهزموهم، وقتل من الدلاة أكثر من مائة، وكذلك من العسكر، ونحو الخمسة عشر من المماليك.
وعندئذ أنفذ الباشا تجريدة أخرى يصحبها نعمان بك وغيره من البكوات والمماليك الألفية لمنازلة أولاد علي في حوش ابن عيسى، ولما كان بعض هؤلاء قد انسحبوا إلى الفيوم، فقد أرسل الباشا لمطاردتهم تجريدة أخرى، كما سافر أيضا شاهين بك وباقي الألفية ما عدا عمر بك الذي ظل مقيما بالجيزة وكان ذلك في نوفمبر، ثم لم يلبث أن لحق بهم حسن الشماشرجي، وتغلبت هذه التجريدات على أولاد علي، فارتحل هؤلاء عن البحيرة، وتجمعوا في الفيوم.
وفي أوائل فبراير 1809، خرجت عساكر كثيرة ... بقصد الذهاب إلى الفيوم، صحبة شاهين بك والألفية لمطاردتهم.
وقد ظل أولاد علي عدائهم للباشا، حتى مايو 1810، وكان - بعد أن نقض إبراهيم بك الصلح، ونكث شاهين الألفي عهده ، وخرج في 17 مايو جميع من كانوا بمصر (القاهرة) من الأمراء والأجناد المصرية قاصدين إلى الصعيد في ظروف سوف يأتي ذكرها - أن طلب أولاد علي الصلح والاتفاق مع الباشا، فقد عول الهنادي على اللحاق بشاهين الألفي ومغادرة إقليم البحيرة للانضمام إلى البكوات بالصعيد، وحاول الباشا أن يعترض طريقهم فركب ليلا وسافر إلى ناحية كرداسة (في 23 مايو) على جرائد الخيل، ولكنه لم يجد أحدا، فكان من أثر خروج الهنادي إلى الصعيد، أن حضر مشايخ عربان أولاد علي للباشا (في 27 مايو)، فكساهم وخلع عليهم، وألبسهم شالات كشميري عدتها ثمانية شالات، وأنعم عليهم بمائة وخمسين كيسا.
غير أن العامل الحاسم في تطويع العربان، وانفضاضهم على وجه الخصوص من حول البكوات المماليك، كان هزيمة هؤلاء في معركة اللاهون والبهنسا في يوليو وأغسطس 1810، ثم الإجهاز عليهم في مذبحة القلعة في أول مارس 1811، وتعقب بقاياهم وفلولهم في أنحاء القطر بالتقتيل والتشريد، والرعب الذي قذفته هذه المذبحة في قلوب العربان وغيرهم، وتيقن هؤلاء أن حكومة الباشا قد تدعمت أركانها نهائيا، وصار محمد علي سيد القطر، وانبسط سلطانه على أرجائه، فدانوا بالطاعة والخضوع التامين له، أضف إلى هذا أن الباشا عرف كيف يطمئن العربان على عاداتهم وتقاليدهم، وشرع يدير شئونهم في نطاق نظام يرعى هذه العادات والتقاليد.
وقد شرح «دروفتي» لحكومته في 20 يونيو 1811، مسألة العربان هذه، والإجراءات التي اتخذها أو يزمع الباشا اتخاذها معهم في قوله: «أرى من واجبي أن أذكر بعض ما يعن لي من آراء بشأن العربان المعتقد أنهم منحازون إلى الباشا، فقد بذل محمد علي جهده لربط هؤلاء به بروابط تخضعهم بشكل ما لسلطانه، وذلك بعد حملته الأخيرة ضد البكوات التي ساهم بعض العربان في إنزال الهزيمة التي حلت بهم ، فقد أراد قبل كل شيء أن يستبدل حياة التوطن والاستقرار، بحياة الظعن والانتقال التي يعيشونها، فأعطاهم عددا من القرى، ثم إنه عين بعد ذلك أحد ضباطه ليقوم بدور الحكم الوحيد لفض كل الخلافات التي تنشأ بينهم، وهذا الضابط مكلف كذلك بمعالجة شئونهم لدى الحكومة، ويرجو الباشا أن يقيم عليها رئيسا، وكان العربان قد بدءوا يعتادون على هذه الأوضاع عندما بعثت فيهم مذبحة المماليك روح الحرية والمقاومة القديمة، فانحازت قبيلتان منهم إلى جانب البكوات، واتخذ الباقون مواقفهم على حافة الصحراء؛ حيث صاروا يسلكون - على مألوف عادتهم - مسلكا مبهما يبعث على الشك في صدق نواياهم في علاقاتهم مع الباشا، ولكن محمد علي لا يبدو أنه متأثر بذلك، وفي كل مرة تحدث إلي في هذا الموضوع، أظهر لي أنه لا يحب أن يكون هذا السلوك المبهم موضع شكوك من ناحيتهم، بل يعتبرهم الباشا قوات عسكرية مساعدة في وسعه استخدامهم عند الحاجة، بدفع المرتبات لهم كما يجري مع طوائف الجند الأخرى، ولو أنه لا يعتمد عليهم في حالة وقوع غزو أجنبي، وعندما طفق منذ ثمانية أيام مضت يذكر لي الأعداد التي يتألف منها جيشه، لم يشر بشيء إلى العربان؛ لأنه يعرف جيدا أن العربان لن يتخلوا بتاتا عن المبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه مناورتهم: الانحياز دائما إلى جانب المنتصر، ومحمد علي مشغول دون هوادة بالحملة المزمعة ضد الوهابيين ... وأما البكوات المماليك، فسوف يرغمهم فيضان النيل القريب على الانسحاب صوب الواحات، ويعتمد الباشا على هذا الظرف المناسب في جذب العربان إليه، وإغراء الأرنئود والعثمنلي وغيرهم الذين لا يزالون مع البكوات على الفرار من جيشهم وتركهم.» (3-5) فتنة عمر بك الأرنئودي
وواقع الأمر، أن تطويع العربان لم يستأثر من اهتمام محمد علي بمثل القدر الذي استأثر به تطويع الجند؛ لأنه كان من المتعذر القضاء على عناصر الشغب دفعة واحدة، وإخماد روح التمرد والعصيان التي تأصلت جذورها في صفوف الجيش من مدة بعيدة، لا سيما وأن حاجة الباشا الملحة إلى المال، وعجزه المستمر عن دفع مرتبات الجند بانتظام ، أو سدادها برمتها، قد أمد هؤلاء بالذريعة التي يتذرعون بها لعصيان أوامره، أضف إلى هذا أن تصميم الباشا على أخذ الجند بالشدة بعد فتنة أكتوبر 1807، للقضاء على عوامل الإخلال بالنظام في صفوف الجيش، أساء كثيرين من الرؤساء وكبار الضباط والجند العاديين، حتى إن نفرا من هؤلاء وأولاء، لم يلبثوا أن آزروا فتنة رجب آغا، أو غادروا الصفوف للالتحاق بمعسكر ياسين بك الأرنئودي، أو بمعسكر بكوات الصعيد، أو أنهم اتخذوا من تأخر مرتباتهم ذريعة للبقاء في القاهرة التي استمرأوا العيش بها، ينهبون ويسلبون، وصعب عليهم مغادرتها، في تجريدات لم يكن لهم بها حاجة ولا مأرب.
وقد ظهر هذا التمرد عقب حادث ياسين بك، وإخراجه من البلاد، عندما انتشر الخبر وراجت الإشاعات عن نزول جيش فرنسي في الشاطئ الشمالي، وأنفذ الباشا قسما كبيرا من الأرنئود وسائر أصناف الجند إلى دمياط ورشيد ودمنهور وسائر المواقع الهامة في الشاطئ وفي الدلتا عموما، فقد امتنع كثيرون من رؤساء الجند أنفسهم عن مغادرة القاهرة حتى يحصلوا على مرتباتهم المتأخرة، ولجأ الباشا إلى شتى الطرق لجمع المال لدفعها، حتى يستطيع إبعادهم وتفريقهم في شتى الأماكن النائية.
وكانت أولى الخطوات التي اتخذها الباشا لتطهير الجيش بعد ذلك، أن قطع مرتب الدلاة وأمر بإخراج جماعة منهم وترحيلهم، على اعتبار أنهم أعراب؛ أي ليسوا من الأرنئود، ولا حاجة له بهم ولعيثهم وإفسادهم وضجيج الأهلين بالشكوى منهم، وعزل كبيرهم «كردي بوالي»، وقلد مصطفى بك - من أقرباء الباشا - رياسة الباقين منهم، ثم ضم إليه طائفة من الأتراك، ألبسهم طراطير، وجعلهم دلاتية. وفي 8 أغسطس 1808، سافر كردي بوالي، وخرج صحبته عدة كبيرة من الدلاة.
ثم واتت الفرصة بعد ذلك للتخلص من عمر بك الأرنئودي، الذي تعصب لرجب آغا، وياسين بك، وكان عمر بك من كبار الأرنئود، ذوي الكلمة النافذة بينهم، اشترك في حوادث فترة الفوضى السياسية التي سبقت المناداة بولاية محمد علي، كما أسهم في الحوادث التالية، خلال الأزمات التي تعرضت لها حكومة محمد علي بعد ذلك، واعتقد أنه لا يقل عن الباشا نفسه جاها ومرتبة، وعرف الباشا بما أوتي من حنكة سياسية وعبقرية لإفساد خطط خصومه أو منافسيه في الحكم، كيف يتفادى شره بمداراته، حتى إذا انتهت أزمة الجند بسلام في أكتوبر 1807، وشرع محمد علي يتخذ الإجراءات التي نفرت جمهرة الرؤساء والجند منه، والتي وجب اتخاذها لكبح جماح الجند وتطويعهم، أظهر عمر الأرنئودي ميوله الصحيحة، وما يعتقده في نفسه من قدرة على معارضة الباشا ومناوأته.
وكان الحادث الذي أفضى إلى إخراجه من البلاد، أن الباشا في أوائل عام 1809 كان قد أنفذ رجاله يجمعون السفن في النيل، في بولاق وفي فروع النهر في الدلتا، استعدادا لإرسال تجريدة ضد بكوات الصعيد، فعثر أحد رجاله (قبودان بولاق) عند صهرجت، على مركب مشحونة بالغلال لأحد الأرنئود للتجارة فيها، وأصر القبودان على أخذ المركب قبل أن يبيع صاحبها غلاله ويعود بها إلى بولاق، فتشاجر الرجلان، وقتل القبودان، وأراد جماعته القبض على القاتل، ففر إلى قرية بها طائفة من الدلاة حموه، وخشي ملتزم البلدة، مصطفى آغا، من مغبة استطالة النزاع بين الفريقين، وما يلحق قريته من تخريب، فاقترح على الفريقين الذهاب إلى الباشا ليرى رأيه، وحضر المتنازعون إلى بولاق، ولكن القاتل لم يلبث أن هرب منهم، والتجأ إلى عمر بك الأرنئودي القاطن بها، فلما طالبه مصطفى آغا بتسليمه، امتنع عمر بك، وقال له: «اذهب إلى الباشا وأخبره أنه عندي، وأنت لا بأس عليك.»
ولكن الباشا عندما بلغه ذلك، استشاط غضبا، وأنب مصطفى آغا؛ لأنه لم يحتفظ بالقاتل وتركه يهرب، فاعتذر مصطفى آغا بعدم قدرته على ذلك من الدلاتية الملتجئ القاتل إليهم، وكأنهم هم الذين أفلتوه، فأمر الباشا بحبسه، وأرسل مصطفى آغا بالخبر إلى عمر بك، «فحضر إلى الباشا، وترجى في إطلاقه، فوعد أنه في غد يطلقه إذا حضر القاتل، فقال عمر بك: إنه عند أزمير آغا، وهو لا يسلم فيه، وركب إلى داره.»
فلما كان صباح اليوم التالي (28 مارس)، أمر الباشا بقتل مصطفى آغا، «فأنزلوه إلى الرميلة، ورموا رقبته عند باب القلعة، ثم قتلوا شخصا من الدلاة بسبب هذه الحادثة. وفي يوم 29 مارس قتل الأرنئود شخصين من الدلاة أيضا.» وفي 30 مارس، شدد الباشا في مطالبة عمر بك بإرسال القاتل (الأرنئودي)، وقال: «إن لم يرسله، وإلا أحرقت عليه داره، فامتنع من إرساله، وجمع إليه طائفة من الأرنئود، وصالح آغا قوج جاره، وركب الباشا وذهب إلى ناحية الشيخ فرج، وحصل ببولاق قلقلة وانزعاج، ثم ركب الباشا راجعا إلى داره بالأزبكية وقت الغروب، وكثرت الأرجاف والقلقلة بين الأرنئود والدلاتية.»
وفي أول أبريل قتل الأرنئود اثنين من الدلاتية، جهة قنطرة السباع، والتجأ القاتل إلى كبير من كبار الأرنئود، فأرسل الباشا إلى حسن باشا طاهر طلب منه ذلك الكبير، «وأكد في طلبه، وأنه يقطع رأس القاتل ويرسلها، فكأنه فعل، وأرسل إليه حسن باشا برأس ملفوفة في ملاية تسكينا لحدته، وبردت القضية، وسكنت الحدة، وراحت على من راحت عليه.» «ولكن الباشا قد صمم على إخراج عمر بك من البلاد، فأمره بالسفر من مصر، وقطع خرجه ورواتبه هو وعسكره، فلم تسعه المخالفة، وحاسب على المنكسر له ولعساكره من العلائف، وكذلك حلوان البلد التي في تصرفه، فبلغ نحو ستمائة كيس، وزعت على دائرة الباشا وخلافهم، وكان الباشا ضبط جملة من حصص الناس، واستولى عليها من بلاد القليوبية بحري شبرا، واختصها لنفسه، فلما استولى على حصص عمر بك، ودفع لها حلوانها، وهي بالمنوفية والغربية والبحيرة، عوض بعض من يراعي جانبه من ذلك.
وأخذ عمر بك ومن يلوذ به في تشهيل أنفسهم وقضاء حوائجهم. وفي 16 يونيو نزل عمر بك إلى المراكب من بيته من بولاق، وسافر على طريق دمياط، ليذهب إلى بلاده، وسافر معه نحو المائة، وهم الذين جمعوا الأموال، واجتمع لعمر بك المذكور من المال والنوال أشياء كثيرة، عباها في صناديق كثيرة، وأخذها معه، وذلك خلاف ما أرسله إلى بلاده، في دفعات قبل تاريخه.»
ومما تجدر ملاحظته أن عمر بك لم يلق تأييدا من الجند في فتنته هذه مثل ما لقي رجب آغا قبل ذلك بعام واحد فحسب، ودل ذلك على أن كبار الرؤساء قد بدءوا يفقدون قدرتهم على تحريك الفتنة بين الجند ضد الباشا، وأن الباشا قد بدأ يسيطر على الجند، وشعر هؤلاء أنه وحده صاحب الحكم والسلطان في البلاد، صحيح ظلت تقع بعض حوادث التمرد والعصيان بعد ذلك، لكن هذه كانت فردية، لم تشترك فيها طوائف الجند، كما فشلت بسهولة كل حركة عصيان قام بها الرؤساء أنفسهم.
وأما عن محاولات الاعتداء الفردية على الباشا، فقد حدث في شهر يونيو 1810، أن «عمل الباشا ميدان رماحة بالجيزة، فتقنطر به الحصان، ووقع على الأرض، فأقاموه» وأصيب في أثناء ذلك غلام من مماليكه برصاصة فمات. وسجل الشيخ الجبرتي في تاريخه أنه يقال إن الضارب لها كان قاصدا الباشا فأخطأه، وأصابت ذلك المملوك، والأجل حصن. وكان كل ما تعرض له محمد علي من أخطار بعد ذلك، مبعثه مكائد البكوات المماليك الذين حاولوا اغتياله في هذا العام نفسه والعام الذي يليه، أثناء انشغاله بالحملة المعدة لحرب الوهابيين، وقد اكتشف الباشا أمر هذه المكائد في حينها، وأخفق المتآمرون على نحو ما سيأتي ذكره.
وكان السبب في تطويع الجند - عدا الشدة التي أخذ بها الباشا هؤلاء للقضاء على عوامل الفوضى في جيشه، وإبعاده المحرضين على العصيان والثورة - حرصه على إرضاء الجند بدفع مرتباتهم لهم، ثم استقدام جند جدد من الدلاة (المجانين) من الشام، ووضعهم تحت إمرته مباشرة، وتحت قيادة أقربائه، والرؤساء الذين يثق في ولائهم له، وهذا إلى جانب أجناد من العثمنلي، وغرضه من ذلك موازنة قوى الأرنئود في جيشه. فحضر في نوفمبر 1809 طائفة من الدلاتية من ناحية الشام، ودخلوا مصر؛ أي القاهرة، كما حضر غيرهم. وفي يونيو ويوليو 1810 حضر كثير من عسكر الدلاة من الجهة الشامية، وكذلك حضر أتراك على ظهر البحر كثيرون.
وشغل الجند ورؤساؤهم بالتجريدات التي أرسلت إلى الصعيد لقتال المماليك في غضون عامي 1809، 1810، وزاد انتصار الباشا على هؤلاء، خصوصا في معركتي اللاهون والبهنسا من دعم سيطرته على الجند، ثم إنه ما إن دانت بعض أقاليم الصعيد له بعد هذه الانتصارات حتى عين كبار ضباطه حكاما على الأقاليم، ومنهم صالح قوج (قوش) الذي عينه حاكما على أسيوط، وقد ظل هذا في الصعيد حتى استدعاه الباشا إلى القاهرة عند تدبير مذبحة المماليك، فوصلها في فبراير 1811.
ولقد دل إحكام تدبير هذه المذبحة ونجاحها، على أن الجند وكبار ضباطهم قد صاروا طواعية طائعين للباشا، وأما أولئك الذين أراد محمد علي إقصاءهم، فقد استطاع عزلهم من مناصبهم بسهولة، من هذا القبيل عزله ثلاثة من الرؤساء الأرنئود. قال «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في 18 أغسطس 1812، إن الباشا اكتشف تآمرهم عليه، ومحاولتهم تحريض الجند على الثورة ضده، فقطع خرجهم وعلائفهم، وأعطاهم المنكسر لهم، وهو حوالي الثلاثة آلاف كيس، وأمرهم بمغادرة البلاد، ومع أن «سانت مارسيل» توقع عصيان الجند ونشوب الثورة في القاهرة بسبب هذا الحادث فإن شيئا من ذلك لم يقع. (3-6) نفي صالح قوش وأحمد آغا لاظ
وأما تفصيل هذه الواقعة، فهو أنه كان قد ظهر من الخلاف والخذلان بين بعض رؤساء الأرنئود في الحرب الوهابية ما سبب هزيمة جيش طوسون باشا في وادي الصفراء، وولى أكثر الجنود وكبار ضباطهم هاربين، وقصد من هؤلاء الأخيرين تامر كاشف وحسين بك دالي باشا وغيرهما إلى المويلح ينتظرون بها إذن الباشا في رجوعهم إلى مصر أو عدم رجوعهم، ثم إنه كان من بين الذين غادروا الجيش، صالح قوج (قوش) ولكن هذا عندما نزل في السفينة من ينبع كر راجعا إلى القصير، واستقل برأيه؛ لأنه يرى في نفسه العظمة، وأنه الأحق بالرياسة. وصار يسفه رأي السيد محمد المحروقي الذي ذهب مع الجيش ليشرف على لوازمه واحتياجاته وأمور العربان ومشايخهم، كما صار يسفه رأي طوسون باشا، ويقول هؤلاء الصغار كيف يصلحون لتدبير الحروب، ويصرح بمثل هذا الكلام، وأزيد منه، وكان هو أول منهزم، وعلم كل ذلك الباشا بمكاتبات ولده طوسون، فحقد في نفسه، وتمم (صالح قوج) ذلك بسرعة رجوعه إلى القصير، ولم ينتظر إذنا في الرجوع أو المكث.
وفي 25 يناير 1812 حضر إلى القاهرة حسين بك دالي باشا وغيره كثيرون من كبار الضباط الذين كانوا في المويلح، «ودخلت عساكرهم المدينة شيئا فشيئا ، وهم في أسوأ حال من الجوع، وتغير الألوان، وكآبة المنظر ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم، وقد سخط الباشا عليهم، ومنع ألا يأتيه منهم أحد ولا يراه. وفي 23 مارس، حضر تامر كاشف ومحو بك وعبد الله آغا، وهم الذين كانوا حضروا إلى المويلح بعد الهزيمة في وادي الصفراء فأقاموا مدة، ثم ذهبوا إلى ينبع عند طوسون باشا، ثم حضروا في هذه الأيام باستدعاء الباشا. وفي 10 يوليو وصل صالح قوج، وسليمان آغا وخليل آغا من ناحية القصير. وفي 13 يوليو طلع الجماعة الواصلون إلى القلعة، وسلموا على الباشا، وخاطره منهم منحرف، ومتكدر عليهم؛ لأنه طلبهم للحضور مجردين بدون عساكرهم ليتشاور معهم، فحضروا بجملة عساكرهم، وقد ثبت عنده أنهم هم الذين كانوا سببا للهزيمة لمخالفتهم على ابنه، واضطراب رأيهم، وتقصيرهم في نفقات العساكر، ومبادرتهم للهرب، والهزيمة عند اللقاء، ونزولهم بخاصتهم إلى المراكب، وما حصل بينهم وبين ابنه طوسون باشا من المكالمات، فلم يزالوا مقيمين في بيوتهم ببولاق ومصر، والأمر بينهم وبين الباشا على السكوت نحو العشرين يوما، وأمرهم في ارتجاج واضطراب، وعساكرهم مجتمعة حولهم، ثم إن الباشا أمر بقطع خرجهم وعلائفهم، فعند ذلك تحققوا من المقاطعة.»
وقد دفع الباشا ما كان منكسرا لهم في 3 أغسطس، وقدره ألف وثمانمائة كيس، وأمرهم بالسفر، ولم يتقدم جندي واحد من جنودهم لمؤازرتهم، فشرعوا في بيع بلادهم؛ أي الأراضي والقرى التي كانت أعطيت لهم التزاما وكشوفية، وتعلقاتهم. ويصف الشيخ الجبرتي ضيقهم بهذا الأمر الذي عجزوا عن معارضته، فيقول: إنهم قد «ضاق ذرعهم، وتكدر طبعهم إلى الغاية، وعسر عليهم مفارقة أرض مصر، وما صاروا فيه من التنعم والرفاهية والسيادة والإمارة، والتصرف في الأحكام، والمساكن العظيمة، والزوجات والسراري، والخدم والعبيد والجواري، فإن الأقل منهم له البيتان والثلاثة من بيوت الأمراء ونسائهم التي قتلت أزاوجهن على أيديهم، وظنوا أن البلاد صفت لهم، حتى إن النساء المترفهات، ذوات البيوت والإيرادات والالتزامات صرن يعرضن أنفسهن عليهم، ليحتمين فيهم، بعد أن كن يعفنهم، ويأنفن من ذكرهم، فضلا عن قربهم.»
وفي 24 أغسطس فر سليمان آغا ومحو بك، وفي 28 منه «سافر صالح آغا قوج وصحبته نحو المائتين ممن اختارهم من عساكره الأرنئودية، وتفرق عنه الباقون، وانضموا إلى حسن باشا وأخيه عابدين بك وغيرهما.»
وكان لهذا الحادث ذيول، خلصت الباشا من سائر زملائه القدامى، الذين اشتركوا - كما فعل عمر بك الأرنئودي وصالح قوج - في كل ما وقع من حوادث، من أيام فترة الفوضى السياسية، ووصول محمد علي إلى الولاية.
فقد أساء أحمد بك الأرنئودي، من كبار عظماء الأرنئود القدامى، وزميل عمر بك وصالح قوش، أن يتم إبعاد الأخير وصحبه، فطلب من الباشا أن يقطع خرجه، ويعطيه علوفة عساكره حتى يسافر مع إخوانه، وكان هؤلاء الإخوان علاوة على تخاذلهم وفرارهم بعساكرهم من ميدان القتال في واقعة الصفراء، قد بيتوا النية فيما بينهم على إشعال الثورة وإحداث انقلاب يطيح بمحمد علي، ويعهد بالحكم والباشوية إلى أحمد بك الأرنئودي، ولكن خاب سعيهم؛ لأن أحدا من الجند وسائر الضباط والرؤساء لم يعضدهم، ووقف الباشا على تدابيرهم وحقيقة نواياهم، فبادر بإقصاء صالح قوج وزملائه؛ ولذلك فإنه عندما أسقط في يد أحمد بك، طلب السفر، ولكن الباشا تظاهر بالعطف عليه، ومنعه، وأظهر الرأفة به، فتغير طبعه، وزاد قهره، وتمرض جسمه، فأرسل إليه الباشا حكيمه، فسقاه شربة وافتصده، فمات من ليلته في 5 أغسطس.
ويذكر «دروفتي» هذه الحوادث في نشرته الإخبارية عن شهر أغسطس 1812، إلى حكومته، فيقول: إن هؤلاء الضباط الذين أبعدوا كانوا قد تآمروا لتسليم أزمة الحكم إلى أحمد بك الأرنئودي، ولكن مؤامرتهم فشلت تماما، ووقف عليها الباشا، وأما أحمد بك فقد مات مسموما، وأما الثلاثة الزعماء العصاة فقد أرغموا على ترك القاهرة، فمنهم من ارتحل بطريق الصحراء إلى الشام، وذهب صالح قوج إلى أبي قير للإبحار منها إلى القسطنطينية.
وأما الحادث الآخر من ذيول واقعة صالح قوج وزملائه، فكان إبعاد أحمد آغا لاظ، وهو لا ينتمي إلى كتخدا بك محمد آغا لاظ، ولو أنه من بلده، وكان صاحب شجاعة وجرأة وهمة، وله نفوذ كبير بين كبار الرؤساء الأرنئود، ويتمتع بسمعة عظيمة في الجيش، لبسالته ، وإليه يعود أكبر الفضل في تمهيد الصعيد وإخلائه من الأجناد المماليك، وقد عينه محمد علي حاكما على قنا ونواحيها، ولكنه اشترك في المؤامرة التي ذكرناها، وعرف الباشا ذلك، فكتب «دروفتي» منذ 5 سبتمبر، تعقيبا على إبعاد صالح قوج وإخوانه: «ولا يزال هناك موضوع يدور البحث في شأنه ، هو نفي أحمد آغا لاظ، قائد قسم من الجيش بالصعيد، وهذا الزعيم الذي يتمتع بسمعة عالية في الجيش، ويخشى من نفوذه، وجسارته، وإقدامه، هو الوحيد الآن الذي ظل في استطاعته الانتقاض على سلطان محمد علي.»
ويفصل الشيخ الجبرتي كائنة أحمد آغا لاظ، بصورة تكشف عن أصول هذه المؤامرة التي ذكرها «دروفتي» و«سانت مارسيل»، وأسباب فشلها، وكذلك الطرائق التي تحيل بها الباشا لاستقدام أحمد آغا لاظ إلى القاهرة؛ حيث ضرب عنقه بها، فيقول الشيخ في حوادث آخر سبتمبر وأول أكتوبر 1812، «وفي تلك الليلة حضر (إلى القاهرة) أحمد آغا لاظ، حاكم قنا ونواحيها، وكان من خبره أنه لما وصلت إليه الجماعة الذين سافروا ونفوا في الشهر الماضي، وهم: صالح آغا (قوج) وسليمان آغا ومحو بك، ومن معهم واجتمعوا على المذكور، بثوا شكواهم، وأسروا نجواهم، وأضمروا في نفوسهم أنهم إذا وصلوا إلى مصر، ووجدوا الباشا منحرفا منهم، أو أمرهم بالخروج والعود إلى الحجاز، امتنعوا عليه وخالفوه، وإن قطع خرجهم وأعطاهم علائفهم بارزوه ونابذوه وحاربوه، واتفق أحمد آغا المذكور معهم على ذلك، وأنه متى حصل هذا المذكور، أرسلوا إليه فيأتيهم على الفور بعسكره وجنده، وينضم إليه الكثير من المقيمين بمصر (القاهرة) من طوائف الأرنئود كعابدين بك وحسن باشا وغيرهم بعساكرهم، لاتحاد الجنسية.
فلما حصل وصول المذكورين، وقطع الباشا راتبهم وخرجهم، وأعطاهم علائفهم المنكسرة، وأمرهم بالسفر، أرسلوا لأحمد آغا لاظ المذكور بالحضور بحكم اتفاقهم معه، فتقاعس وأحب أن يبدي لنفسه عذرا في شقاقه مع الباشا، فأرسل إليه مكتوبا يقول فيه: إن كنت قطعت خرج إخواني، وعزمت على سفرهم من مصر وإخراجهم منها، فاقطع أيضا خرجي، ودعني أسافر معهم.
فأخفى الباشا تلك المكاتبة، وأخر عود الرسول، ويقال له الخجا ، لعلمه بما أضمروه فيما بينهم، حتى أعطى للمذكورين علائفهم على الكامل، ودفع لصالح آغا (قوج) كل ما طلبه وادعاه ولم يترك لهم مطالبة يحتجون بها في التأخير، وأعطى الكثير من رواتبهم لحسن باشا وعابدين بك أخيه، فمالوا عنهم، وفارقهم الكثير من عسكرهم، وانضموا إلى أجناسهم المقيمين عند حسن باشا وأخيه، فرتبوا لهم العلائف معهم، وأكثرهم مستوطنون ومتزوجون، بل ومتناسلون، ويصعب عليهم مفارقة الوطن، وما صاروا فيه من التنعم، ولا يهون بمطلق الحيوان استبدال النعيم بالجحيم، ويعلمون عاقبة ما هم صائرون إليه؛ لأنه فيما بلغنا، أن من سافر منهم إلى بلاده قبض عليه حاكمها، وأخذ منه ما معه من المال الذي جمعه من مصر، وما معه من المتاع، وأودعه السجن، ويفرض عليه قدرا فلا يطلقه حتى يقوم بدفعه، على ظن أن يكون أودع شيئا عند غيره، فيشتري نفسه به، أو يشتريه أو يرسل إلى مصر مراسلة لعشيرته وأقاربه، فتأخذهم عليه الغيرة، فيرسلون له ما فرض عليه ويفتدونه، وإلا فيموت بالسجن، أو يطلق مجردا ويرجع إلى حالته التي كان عليها في السابق، من الخدم الممتهنة والاحتطاب من الجبل، والتكسب بالصنائع الدنيئة، ببيع الأسقاط والكروش، والمؤاجرة في حمل الأمتعة ونحو ذلك؛ فلذلك يختارون الإقامة، ويتركون مخاديمهم، خصوصا والخسة من طباعهم.
هذا، والباشا يستحث صالح آغا (قوج) ورفقاءه في الرحيل؛ حيث لم يبق له عذر في التأخير، فعندما نزلوا في المراكب وانحدروا في النيل، أحضر الباشا الخجا المذكور، وهو عبارة عن الأفندي المخصوص بكتابة سره وإيراده ومصرفه، وأعطاه جواب الرسالة، مضمونها: تطمينه وتأمينه، ويذكر له أنه صعب عليه وتأثر من طلبه المقاطعة، وطلبه المفارقة، وعدد له أسباب انحرافه عن صالح آغا (قوج) ورفقائه، وما استوجبوا به ما حصل لهم من الإخراج والإبعاد، وأما هو فلم يحصل منه ما يوجب ذلك، وأنه باق على ما يعهده من المحبة، فإن كان ولا بد من قصده وسفره، فهو لا يمنعه من ذلك، فيأتي بجميع أتباعه، ويتوجه بالسلامة أينما شاء، وإلا بأن صرف عن نفسه هذا الهاجس، فليحضر في القنجة في قلة، ويترك وطاقه وأتباعه، ليواجهه ويتحدث معه في مشورته، وانتظام أموره التي لا يتحملها هذا الكتاب، ويعود إلى محل ولايته وحكمه.
فراج عليه؛ أي أحمد آغا لاظ ذلك التمويه، وركن إلى زخرف القول، وظن أن الباشا لا يصله بمكروه، ولا يواجهه بقبيح من القول، فضلا عن الفعل؛ لأنه كان عظيما فيهم، ومن الرؤساء المعدودين، وصاحب همة وشهامة وإقدام، جسورا في الحروب والخطوب، وهو الذي مهد البلاد القبلية، وأخلاها من الأجناد المصرية (المماليك)، فلما خلت الديار منهم، واستقر هو بقنا وقوص، وهو مطلق التصرف، وصالح آغا (قوج) بالأسيوطية، ثم إن الباشا وجه صالح آغا إلى الحجاز، وقلد ابنه إبراهيم باشا ولاية الصعيد، فكان يناقض عليه أحمد آغا المذكور في أفعاله، ويمانعه التعدي على أطيان الناس، وأرزاق الأوقاف والمساجد، ويحل عقد إبراماته، فيرسل إلى أبيه بالأخبار، فيحقد ذلك في نفسه، ويظهر خلافه ويتغافل، وأحمد آغا المذكور على جليته وخلوص نيته.
فلما وصلته الرسالة، اعتقد صدقه؛ أي محمد علي، وبادر بالحضور في قلة من أتباعه، حسب إشارته، وطلع إلى القلعة ليلة السبت، وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان 1227 (3-4 أكتوبر 1812)، فعبر عند الباشا وسلم عليه، فحادثه وعاتبه، ونقم عليه أشياء، وهو يجاوبه ويرادده، حتى ظهر عليه الغيظ، فقام كتخدا بك وإبراهيم آغا، فأخذاه وخرجا من عند الباشا، ودخلا إلى مجلس إبراهيم آغا، وجلسوا يتحدثون، وصار الكتخدا وإبراهيم آغا يلطفان معه القول، وأشارا عليه بأن يستمر معهما إلى وقت السحور وسكون حدة الباشا، فيدخلون إليه، ويتسحرون معه، فأجابهم إلى رأيهم، وأمر من كان بصحبته من العسكر، وهم نحو الخمسين بالنزول إلى محلهم، فامتنع كبيرهم، وقال: لا نذهب ونتركك وحيدا، فقال الكتخدا: وما الذي يصيبه، وهو همشري، ومن بلدي، وإن أصيب بشيء كنت أنا قبله، فعند ذلك نزلوا وفارقوه، وبقي عنده من لا يستغني عنه في الخدمة.
فعند ذلك أتاه من يستدعيه إلى الباشا، فلما كان خارج المجلس، قبضوا عليه، وأخذوا سيفه وسلاحه، ونزلوا به إلى تحت سلم الركوب، وأشعل الضوى المشعل ، وأداروا أكتافه، ورموا رقبته، ورفعوه في الحال، وغسلوه وكفنوه ودفنوه، وذلك في سادس ساعة من الليل، وأصبح الخبر شائعا في المدينة.
وأحضر الباشا الخجا، وطولب بالتعريف عن أمواله وودائعه، وعين في الحال باشجاويش ليذهب إلى قنا، ويختم على داره، ويضبط ما له من الغلال والأموال، وطلبت الودائع ممن هي عنده، التي استولوا عليها بالأوراق، فظهر له ودائع في عدة أماكن، وصناديق مال وغير ذلك، ولم يتعرض لمنزله ولا لحريمه.
وعندما نقل «دروفتي» إلى حكومته في 4 أكتوبر، خبر إعدام أحمد آغا لاظ، قال: إن محمد علي قد تخلص من الرجل الوحيد الذي بقي من بين كبار ضباط جيشه، يخشى من مطامحه وشجاعته ونفوذه في الجند، وتأثيره عليهم.»
وهكذا، تم لمحمد علي تطويع الجند، وإبعاد كبار الضباط والرؤساء الذين تعذر عليهم التسليم بالحقيقة والواقع، وكان الباشا لا يعدو في نظرهم، زميلهم القديم في السلاح، ساعدوه في مغامرته، فوصل إلى الحكم والسلطان، ولما كان الواجب يقتضيه - في رأيهم - أن يرضخ لرغباتهم ونزواتهم، بدلا من أن يسلك مسلك السيد معهم، ويفرض عليهم سلطانه، وتوهموا أنهم إذا غامروا مثل مغامرته سهل عليهم غصب الحكم منه، ما دام يصر على إنهاء الفوضى في الجيش، ومحاسبة ضباطه ورؤسائه حسابا عسيرا، على كل حركة تمرد أو عصيان تبدر منهم، مهما قل شأنها، ومهما كانت أسبابها.
على أن هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، هي أن الباشا ما كان يستطيع تطويع الجند من أرنئود ودالاتية وغيرهم، وإقصاء محرضيهم على الثورة والعصيان لو أنه عجز عن دفع مرتبات العسكر، أو إعطاء كبار الضباط الذين أراد نفيهم المنكسر لهم من المرتبات والعلائف لتجريدهم من الوسائل التي قد يتذرعون بها للتباطؤ في الخروج، وإطالة مكثهم بالبلاد، وكان من المتعذر على الباشا نفيهم من مصر عنوة لتعصب زملائهم لهم، كما وقع في حوادث رجب آغا وياسين بك الأرنئودي، وعمر بك، وصالح قوج، ولم يتخلص الباشا بالقتل من أحمد آغا لاظ، إلا بعد أن كان قد تم له كسر شوكة كبار الضباط الأرنئود، وعلاوة على ذلك ، فقد كان مما يسر انفضاض سائر الرؤساء والجند، من حول صالح قوج، أن الباشا أعطى الكثير من رواتبهم - كما مر بنا - إلى حسن باشا وعابدين بك، وهما اللذان بقيا من كبار الأرنئود، واشتركا في كل الانقلابات، وأسهما في التدابير التي مكنت محمد علي من الوصول إلى الحكم، والتغلب على الصعوبات التي اعترضت باشويته، من حين المناداة بولايته إلى وقت القضاء على المماليك في مذبحة القلعة، واستتباب الأمن نهائيا تبعا لذلك لحكومة محمد علي.
ولذلك، فقد كان المال في هذه الفترة (1807-1811)، كما كان في فترة التجربة والاختبار التي سبقتها (1805-1807)، عصب الحكم والأداة الفعالة في دعم أركان الولاية، ومثلما كانت حاجة محمد علي إلى المال شديدة وملحة قبل عام 1810، فقد ظلت هذه الحاجة قائمة، بل وزادت شدتها في السنوات التالية. (4) المسألة المالية (4-1) الحاجة إلى المال
وتضافرت أسباب عدة - غير دفع مرتبات الجند، وما تطلبه نفي وإبعاد المحرضين على الثورة والتمرد، والمتآمرين على سلامة الدولة - على استمرار الحاجة الملحة إلى المال، وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأسباب عند الكلام عن المشكلات التي واجهت محمد علي عقب توليه الولاية، ولكن زاد على هذه الآن غيرها، فمن عوامل الأزمة المالية المزمنة، النظام المتبع في دفع رواتب الجند، والذي ألمعنا إليه في مناسبات سابقة، وبمقتضاه ينال كل رئيس من الرؤساء العسكريين، أو كبار الضباط، مرتبات أربعة أنفار عن كل جندي واحد من الذين تتألف منهم الفرقة التابعة له والخاضعة لقيادته، حتى إن الباشا صار يدفع مرتبات ستين ألف جندي، لجيش لم يتجاوز عدده وقتئذ ستة عشر ألف جندي فحسب.
أضف إلى هذا تعذر تنظيم الإدارة المالية، ووضع ميزانية تقديرية على الأقل، لضبط أبواب الإيراد والمنصرف، فظلت مصادر الإيراد، من ضرائب مباشرة وغير مباشرة، منوعة ومتعددة، ثم زيدت عليها السلف والقروض الإجبارية، من الوطنيين والأجانب على السواء، وهذا عدا المصادرات، والاستيلاء على قوافل التجارة، وإلزام أصحابها افتداءها بقدر من المال، وغير ذلك من الأساليب التي سوف يأتي ذكرها لاستنضاح المال. وظلت أبواب الإنفاق غير محددة، فهناك إلى جانب الخراج الذي يدفع سنويا للقسطنطينية، ومرتبات الجند، ونفقات الإدارة العادية، نفقات لا سبيل إلى تجنبها، كلما حضر الرسل والقصاد من لدن الباب العالي، يحملون فرمانات التثبيت في الولاية، وكانت هذه تصدر لتجديد الولاية سنويا؛ حيث إن الباشوية لم تكن وراثية، كما كثر مجيء هؤلاء الرسل يحملون الفرو والقفاطين والسيوف، علامة رضا السلطان على الباشا، أو ينقلون إليه بشرى التثبيت فحسب، وفي كل مرة يحضر فيها هؤلاء الرسل والقصاد، ومن بينهم من كان صاحب مكانة، زيادة في تكريم الباشا - على حد قول الديوان العثماني - وجبت الحفاوة بهم، والإغداق عليهم بالعطايا والهدايا والبقاشيش لا لأنفسهم فحسب، بل ولرجال الديوان في دوائر الباب العالي، وفي سراي السلطان نفسه، وقد استرعت النفقات الجسيمة التي يتكلفها هؤلاء الرسل نظر الشيخ الجبرتي، فقال معلقا على كثرة إرسال الباب العالي لهم، يحملون الأوامر والمراسيم، إما لتجديد الولاية، أو لإظهار رضاء السلطان، أو لغير ذلك من الشئون التي كان يفتعلها رجال الديوان العثماني افتعالا، بغية الظفر بالمنح والعطايا والبقاشيش من محمد علي: «ومحل القصد من ورود هذه البيورولديات والفرمانات والأغوات والقبجيات، إنما هو جر المنفعة لهم، بما يأخذونه من خدمهم، وحق طريقهم، من الدراهم والتقادم والهدايا.
فإن القادم منهم إذا ورد، استعدوا لقدومه، فإن كان ذا قدر ومنزلة، أعدوا له منزلا يليق به، ونظموه بالفرش والأدوات اللازمة، وخصوصا إذا كان حضر في أمر مهم، أو لتقرير المتولي على السنة الجديدة، أو بصحبته خلع رضا وهدايا، فإنه يقابل بالإعزاز الكبير، ويشاع خبره قبل وروده إلى الإسكندرية، ويأتي المبشرون بوروده من الططر، قبل خروجه من دار السلطنة بنحو شهر أو شهرين، ويأخذون خدمتهم وبشارتهم بالأكياس، وإذا وصل هو أدخلوه في موكب جليل، وعملوا له ديوانا ومدافع وشنكا، وأنزل في المنزل المعد له، وأقبلت عليه التقادم والهدايا من المتولي، وأعيان دولته ورتب له الرواتب والمصاريف لمأكله هو وأتباعه، لمطبخه وشراب حانته، أيام مكثه شهرا أو شهورا، ثم يعطى من الأكياس قدرا عظيما، وذلك خلاف هدايا الترحيلة، من قدور الشربات المتنوعة، والسكر المكرر، وأنواع الطيب كالعود والعنبر، والأقمشة الهندية والمقصبات، لنفسه ورجال دولته.
وإن كان دون ذلك، أنزلوه بمنزلة بعض الأعيان، بأتباعه وخدمه ومتاعه، في أعز مجلس، ويقوم رب المنزل بمصروفهم ولوازمهم وكلفهم، وما تستدعيه شهوات أنفسهم، ويرون أن لهم المنة عليه بنزولهم عنده، ولا يرون له فضلا، بل ذلك واجب عليه، وفرض يلزمه القيام به، مع التآمر عليه وعلى أتباعه، ويمكث على ذلك شهورا حتى يأخذ خدمته، ويقبض أكياسه، وبعد ذلك كله، يلزم صاحب المنزل أن يقدم له هدية، ليخرج من عنده شاكرا ومثنيا عليه عند مخدومه وأهل دولته، أقضية يحار العقل والنقل في تصورها.»
وإلى جانب هذا، كان على الباشا أن يمد وكلاءه بالقسطنطينية، بالمال الوفير، للإنفاق منه بسخاء، لسد نهم الباب العالي، الذي طالما ذكر محمد علي كلما تحرجت الأمور بينه وبين الديوان العثماني، أنه يعرف الطرائق المثلى التي يمكن بها اجتياز الأزمات في القسطنطينية، فهو بحاجة إلى البذل والعطاء عند تجديد تقريره على الولاية، أو لرد كيد خصومه، أو لإنهاء المسائل التي يهمه أن يتم حلها في صالحه، كمسألة يوسف كنج التي مرت بنا، أو لكسر حدة غضب الباب العالي منه، بسبب تباطؤه في تنفيذ أوامره، ومماطلته وتسويفه، في المسائل التي يرى من صالحه كذلك المماطلة والتسويف فيها، كعدم إنفاذ جيشه إلى الحجاز حتى يطمئن على ولايته ويفرغ من دعم أركانها.
وعلاوة على ذلك، فقد وجب عليه الاحتياط للمستقبل دائما في علاقاته مع الباب العالي، وقد عرفنا أن هذه لم تقم أصلا على تبادل الثقة بين الفريقين وأوجد محمد علي باشويته في نطاق إمبراطورية كان الذهب - على نحو ما شهد به المعاصرون - السلاح البتار والفيصل القاطع في كثير من عظائم الأمور، والدرع الواقية لصاحبها عند اشتداد الخطوب، ولطالما اشترى الباشوات العصاة في الدولة الجيوش المرسلة للقضاء عليهم، وكثيرا ما كان هؤلاء يدفعون سرا من مالهم معاشا للسلطان نفسه ولأعضاء ديوانه، وتلك كانت الطرائق التي تذلل بها الصعوبات في القسطنطينية والتي قال محمد علي - كما أسلفنا - إنه خبير بها.
ثم إنه كان لا ندحة عن الاحتفاظ بجيش قوي، يدين بالطاعة للباشا، ومتأهب للقتال دائما، يسيره ضد البكوات المماليك، أعدائه الداخليين، أو ضد الغزاة أعدائه الخارجيين، سواء كان هؤلاء من البريطانيين - كما وقع - أم من الفرنسيين، كما كان من المتوقع وقتئذ أن يحدث، أم من العثمانيين، وهم الذين خشي الباشا دائما كيدهم له وغدرهم به، ولا مناص كذلك من إنشاء هذا الجيش القوي، عظيم العدة والعدد، إذا أراد من ناحية أخرى كسب رضاء الباب العالي، وتجريده من الذرائع التي قد يتذرع بها لإعلان سخطه ونقمته عليه، ولقد ظل الباب العالي يلح على باشا مصر إلحاحا عظيما منذ 1807، أن يقاتل الوهابيين، ويسترجع الحرمين الشريفين منهم، وتزايد هذا الإلحاح في السنوات التالية، حتى بلغت لجاجة الباب العالي منتهاها في عام 1810، وآثر محمد علي للأسباب التي عرفناها - إنفاذ حملة إلى الحجاز، على الاصطدام مع صاحب السيادة الشرعية عليه، وشمر عن ساعد الجد والعمل لبناء ذلك الأسطول الذي أراد أن يجعله نواة لأسطول مصر التجاري من جهة، والذي ينقل قسما من الجيش والمهمات إلى الحجاز، ويبسط سلطان الباشا في البحر الأحمر من جهة أخرى، وقد تطلب ذلك كله نفقات طائلة.
واعتلى محمد علي أريكة الولاية، وخزانتها خالية من المال، وتعيش الحكومة من يومها لغدها، ولا سبيل إلى سد نفقات الإدارة العادية، ناهيك بما كان يحتاجه الولاة الذين سبقوه من أموال لتدبير شئونهم مع الجند تارة ومع الديوان العثماني تارة أخرى؛ إلا باللجوء إلى الفرض والإتاوات والغرامات وأخذ السلف الإجبارية من الأهلين، والقروض من التجار الأجانب، ولقد تقدم كيف أن خورشيد باشا ترك الولاية وهو مدين بثلاثة آلاف كيس متأخر مرتبات الجند، وقروضا استدانها من مختلف التجار، وتعهد محمد علي بسدادها، ولم يجد محمد علي مناصا هو الآخر، بسبب خلو خزانته من المال من اللجوء إلى نفس الأساليب التي لجأ إليها أسلافه في الولاية.
وكان من بين القروض العديدة التي عقدت، أو بالأحرى التي أرغم الأجانب القاطنون بالبلاد على إقراض الحكومة إياها، قرضان كانت لهما قصة، وجرت بشأنهما مفاوضات كثيرة: أحدهما قرض «بتروتشي» قنصل السويد، وقنصل إنجلترة كذلك، إلى وقت جلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية، وقد سبقت الإشارة إلى قصة هذا القرض الذي بلغت قيمته ستين ألف قرش عثماني، فقد شكا «بتروتشي» إلى القائم بالأعمال السويدي بالقسطنطينية، وأمر الباب العالي في أكتوبر 1807 بسداد هذا الدين، ورد أملاك «بتروتشي» إليه، تلك التي كان قد صادرها محمد علي، إذا صحت دعوى قنصل السويد هذا، وأما القرض الآخر، فلم يكن لمحمد علي يد فيه، وإن صدر له الأمر بسداده.
فقد اضطر خسرو باشا أثناء ولايته إلى الاستدانة من «روشتي» قنصل النمسا مبالغ على دفعات بلغت قيمتها 230858 قرشا عثمانيا، أعطى عنها ناظر قصره «كيلارجي باشي» وخازنداره إيصالات «لروشتي» عند حدوث الانقلاب الذي طرد خسرو من الولاية، وسجلت هذه الإيصالات بالمحكمة، ومع أن دفتردار ذلك العهد شرع يدفع بناء على أوامر الباب العالي المبالغ التي أبرز أصحابها إيصالات عنها، موقعا عليها من خسرو باشا نفسه، فقد وجد أصحاب الإيصالات الموقع عليها من الخازندار والكيلارجي باشي صعوبات عديدة في أخذ حقوقهم، وكان «روشتي» من بين هؤلاء، فعمد إلى توسيط سفير النمسا في القسطنطينية لدى الباب العالي، بارون «شتورمر»
Stürmer
وكانت دعوى السفير في وجوب سداد هذا الدين، أن خسرو باشا لم يستخدم الأموال التي استدانها من «روشتي» في الإنفاق على شخصه، ولكن لدفع مرتبات الجند وتقديم الهدايا للقواد الإنجليز الذين بقي جيشهم بالبلاد بعد خروج الحملة الفرنسية منها، فلم يغادرها البريطانيون إلا في مارس 1803، ثم لمواجهة مطالب الإدارة التي عجزت الخزانة العامة عن سدها؛ ولذلك فإن هذا الدين دين على الحكومة وهي ملزمه بوفائه، وسلم الباب العالي بوجهة نظر السفير، فأصدر أمرا إلى حكومة الباشا بالقاهرة في أكتوبر 1807 بسداد الدين ولكن دون جدوى، فاستأنف «روشتي» المسعى، وجدد «شتورمر» احتجاجاته لدى الباب العالي، وشهد «ستفاناكي»
Stefanaki - وكان يعمل ترجمانا في مصر، ثم صار الآن أحد وكلاء الباشا بالقسطنطينية، وترجمانا في الوقت نفسه في الجيش العثماني - بصحة الوقائع التي ذكرها السفير النمسوي وأراد الاستناد عليها في اعتبار المبالغ التي أعطى عنها خازندار خسرو باشا والكيلارجي باشي دينا على الحكومة، وقال «ستفاناكي» إنه كان الواسطة بين «روشتي» وخسرو باشا، وإن الأموال التي استدانها الأخير أنفقت في الوجوه التي ذكرها السفير، وأيد الباب العالي وجهة النظر هذه مرة أخرى، وأصدر أمرا في فبراير 1808، إلى محمد علي وإلى دفترداره أحمد أفندي جديد، وإلى عارف أفندي قاضي مصر، بسداد هذا الدين، وتسلم أمين خلوصي المندوب الموفد لهذه الغاية، المبلغ المرقوم.
ولكن «روشتي» لم يستطع استيفاء دينه كاملا، ومع أن خسرو نفسه قد اعترف بأنه استدان من قنصل النمسا هذا، مبلغ 230048 قرشا عثمانيا، ليدفع منها مرتبات الجند كما قال؛ فقد تبين للباشا ودفترداره بعد فحص السجلات، أن المبلغ الذي استدين لدفع مرتبات الجند كان أربعا وثمانين ألف قرش فحسب، واستدان خسرو المتبقي من المطلوب سداده للإنفاق منه على شخصه ولكسوة حرسه الخاص. وعلى ذلك فقد دفع الدفتردار هذا المبلغ «لروشتي»، وحتى عام 1810 كان لا يزال لهذا في ذمة الحكومة 146048 قرشا، بذل «شتورمر» قصارى جهده لدى الباب العالي لاستصدار أمر إلى حكومة الباشا بدفعه، وشهد «ستفاناكي» مرة أخرى بأن السبب في عدم تقييد بقية المبلغ في السجلات كان حدوث الثورة في القاهرة؛ وعلى ذلك فقد بعث الباب العالي أمرا في مايو 1810، إذا كان ما يقوله «ستفاناكي» صحيحا، بوجوب دفع المبلغ المتبقي، وهو 146048 قرشا دون تأخير.
أما محمد علي، فقد صار يشكو دائما في كل ما دار بينه وبين الباب العالي من مراسلات بصدد الحملة المزمعة ضد الوهابيين من كثرة الديون التي صار ينوء بها كاهله، والتي جعلت متعذرا عليه إنجاز استعداداته لتلبية أوامر الباب العالي بالسرعة المرغوبة، ثم اتخذ من هذه الديون ومن حاجته إلى المال عموما تكأة يستند عليها في إرجاء إنفاذ جيشه إلى الحجاز، حتى يتم له الاطمئنان على باشويته ويفرغ من دعم أركانها.
ولقد سبق أن أشرنا في فصول سابقة وكلما تناول الكلام حاجة محمد علي إلى المال، إلى أن العلة في استمرار هذه الأزمة المستحكمة والمزمنة، عدا الاستيلاء البكوات المماليك على إيرادات الصعيد، إنما هي كساد التجارة، واضمحلال الصناعة، والأهم من ذلك كله، تعطل الزراعة بسبب الحروب الداخلية بين الطوائف المتنازعة على السلطة، وما تعرض له الفلاحون من اعتداءات الجند الأرنئود والدلاة على أرواحهم وأموالهم ومواشيهم ونتاجهم الزراعي، ثم ما فرضته عليهم الحكومة من أنواع الإتاوات والمغارم، إلى جانب فتح طلب مال الميري في غير أوقاته مقدما وسلفا تارة، وعن أعوام سابقة بدعوى تأخر إغلاق حسابها تارة أخرى، وأنفذت حكومة الباشا التجريدات العسكرية إلى مختلف المديريات لجباية الضرائب.
ولما كان الفلاحون يعجزون عن وقف هذه الاعتداءات عليهم، وأرهقتهم الأعباء المالية الثقيلة، وجردهم عمال الباشا والعربان والجند من ثمرة كدهم وكدحهم، فقد غادر كثيرون الأرض فرارا من هذه المغارم، وأقفرت قرى عديدة من سكانها، وهرب الفلاحون إلى الصحراء وإلى الواحات، كما هاجر نفر منهم إلى الشام، وترتب على ذلك أن صار حوالي ثلث الأرض المزروعة على أيام الفرنسيين، مهملا متروكا، طغت عليها رمال الصحراوين الغربية من الشرق، والليبية من الغرب.
وتزايدت حدة الضنك والبأساء في المدن خصوصا، بسبب استيلاء الباشا على محاصيل القمح والحبوب، لتصديرها إلى الإنجليز وغيرهم. وفي سنتي 1808، 1809 بلغ سعر إردب القمح ثلاثين قرشا عثمانيا، وذلك برغم وفرة محصوله، بينما كان ثمنه على أيام الحملة الفرنسية لا يزيد على سبعة قروش فحسب، وهدد نقص النيل في كل مرة عند حدوثه بانتشار المجاعة في القاهرة؛ حيث كانت تختفي الغلال من أسواقها بصنع ساحر.
وكان من عوامل زيادة البؤس كساد التجارة، واختفاء الصناعات الأهلية، حتى عجز التجار وأرباب الحرف والصناعات عن تأدية الضرائب والغرامات والقروض المطلوبة منهم، وظهر نوع من المعاملة وقتئذ لمواجهة هذه الالتزامات، كان فريدا في نوعه؛ حيث صار الأفراد يستدينون من الجند المال الذي يدفعون منه الضرائب والإتاوات، والذي ينال منه الجند أنفسهم مرتباتهم، ونشطت سوق السلف والقروض هذه، وأقرض الجند الأهلين بفوائد باهظة، فبلغ سعر الفائدة 8٪ في الشهر الواحد، ووجد التجار والصناع في هذه العملية مخرجا مؤقتا من أزمتهم، ولكنه كثيرا ما كان يحدث بطبيعة الحال، أن يجد هؤلاء المستدينون عند حلول موعد السداد أنهم يعجزون عن الدفع، فتصادر عندئذ أملاكهم لبيعها، ويلقى القبض عليهم، وسعيدو الحظ منهم من يستطيعون النجاة بأنفسهم بالفرار إلى الصحراء أو الواحات كما يفعل الفلاحون.
وتدخل الباشا للحد من جشع الجند، وتحديد سعر الفائدة، وكان تدخله في هذه المسألة مثار التعجب؛ حيث لم يكن لمنع الربا، ولكن لتقريره بتحديد سعر الفائدة لوقف هروب الأهلين من البنادر والقرى، والأمر الذي يرتب عليه - إذا استمر - حرمان الحكومة من دافعي الضرائب والمغارم والسلف وما إليها، فيعلق الشيخ الجبرتي على ذلك بقوله في حوادث أول يناير 1809: نزل والي الشرطة وأمامه المناداة على ما يستقرضه الناس من العسكر بالربا والزيادة على أن يكون كل كيس ستة عشر قرشا في كل شهر لا غير، والكيس عشرون ألف نصف فضة، وهو الكيس الرومي، بفائدة
38٪ في السنة، ثم استطرد الشيخ: «وذلك بسبب ما انكسر على المحتاجين والمضطرين من الناس، من كثرة الربا لضيق المعاش، وانقطاع المكاسب، وغلو الأسعار، وزيادة المكوس، فيضطر الشخص إلى الاستدانة، فلا يجد من يدانيه من أهل البلد، فيستدين من أحد العسكر، ويحسب عليه على كل كيس خمسين قرشا في كل شهر»؛ أي بفائدة 120٪ في السنة على اعتبار أن الكيس خمسمائة قرش - «وإذا قصرت يد المديون عن الفوائد، أضافوا الزيادة على الأصل، وبطول الزمن تفحش الزيادة، ويئول الأمر لكشف حال المديون، وجرى ذلك على كثير من مساتير الناس، وباعوا أملاكهم ومتاعهم، والبعض لما ضاق به الحال ولم يجد شيئا، خرج هاربا وترك أهله وعياله، خوفا من العسكري، وما يلاقي منه، وربما قتله، فأعرض بعض المديونين إلى الباشا، فأمر بكتابة هذا البيوردي، ونزل به والي الشرطية، ونادى به في الأسواق، فعد ذلك من غرائب الحكام؛ حيث ينادى على الربا جهارا في الأسواق من غير احتشام ولا مبالاة؛ لأنهم لا يرون ذلك عيبا في عقيدتهم.»
وواجهت حكومة الباشا بسبب إفلاس الأهلين، وهروب الفلاحين خصوصا إلى الصحراء والواحات مشكلة مزدوجة: إقفار القرى من أهلها، مما نجم عنه تأخر الزراعة بصورة مطردة، ثم تزايد عدد المعوزين والمتعطلين في المدن، لا سيما في القاهرة، نتيجة لإفلاس عديدين من طوائف صغار التجار والصناع. وحاول محمد علي معالجة هذه المشكلة، بأن ينقل إلى الريف لتعمير القرى المهجورة فقراء العاصمة، فأصدر أوامره المشددة إلى شرطته حتى يجمعوا كل من لا صنعة أو حرفة له، والخدم المتعطلين عن العمل، والأرامل الفقيرات، والنساء اللاتي لا أولاد لهن؛ لنقلهم جميعا قوة واقتدارا، وتحت حراسة الجند إلى مساكنهم الجديدة في القرى التي هجرها أهلها، ولكن أحدا من هؤلاء لم يشأ مغادرة العاصمة إلى هذه المساكن الجديدة، فاختفوا سريعا عن الأنظار، ولم يمكن تنفيذ هذه الأوامر.
بيد أن إقفار مساحات من الأرض من زارعيها، كان معناه حدوث نقص في المال أو الإيرادات المتحصلة من هذه الأراضي، فيغدو شأن هذه الأراضي، شأن تلك التي في حوزة بكوات المماليك في الصعيد، في وقت استحكمت فيه أزمة الباشا المالية، وكان في مقدوره مطالبة الملاك والزراع الذين لم يغادروا الأرض بدفع الضريبة التي تخلص من أدائها الفارون، ولكن هذا الإجراء كان قمينا بأن يثير عليه الاحتجاجات الصاخبة من كل جانب؛ وعلى ذلك، فقد هدته عبقريته إلى ابتكار وسائل جديدة لتحصيل المال، إلى جانب اتباع الإجراءات التي لجأ إليها في الماضي.
أما أهم الطرائق المبتكرة، فكان تقرير مساحة معينة للفدان، تجبى الضرائب بمقتضاها، بحيث لا تزيد مساحة كل فدان على
333 قصبة مربعة، وعلى أن ينقص طول القصبة من ثلاثة أمتار وخمسة وسبعين سنتيمترا إلى ثلاثة أمتار وأربعة وستين سنتيمترا، فألغي بهذا النظام الجديد، تنوع مساحات الفدان القديمة؛ حيث كانت مساحة الفدان من الأراضي الخصبة أقل من مساحته في الأراضي البعيدة عن النيل، فالقريب من النيل كانت مساحته 324، والبعيد عنه 576 قصبة مربعة، وفي دمياط كانت مساحة الفدان 432 قصبة مربعة، وكانت تجبى الضرائب على أساس فئات محددة عن كل فدان، فتدفع الأراضي الضريبة بنسبة مساحة الفدان بها، ويقل المتحصل منها في جهة عن غيرها، فنجم عن الترتيب الجديد أنه بينما نقص تقدير مساحة الأراضي الزراعية في مجموعها، بقي عدد الأفدنة على حاله، ولما لم يطرأ تغيير على فئات الضريبة ذاتها، فقد تسنى بأسلوب أدق، تحصيل مقدار المال أو الميري نفسه المربوط على الأرض.
وثمة وسيلة عامة أخرى لجأ إليها محمد علي لعلاج أزمته المالية، هي أنه حاول تلافي العجز الحاصل في حصيلة الضرائب الجمركية، لكساد التجارة، بزيادة الرسوم الجمركية زيادة عالية على تجارة الوارد، بصورة أتت بنتيجة عكسية؛ حيث انكمش الاستهلاك المحلي للبضائع المجلوبة من الخارج، بدرجة نقصت بها إيرادات الجمارك، واضطر الباشا إلى البحث عن مصادر للمال أخرى، فعندما نمى إليه أن احتكار الحكومة للتبغ من مصادر الإيراد المربحة في فرنسا، قرر من فوره احتكار تجارته في مصر، فوضع عملاءه في مواني القطر يشترون لحسابه التبغ المستورد من تركيا، وأقام مستودعا مركزيا في القاهرة، لتوزيع التبغ منه إلى بلدان الوجه البحري والصعيد، كما أنشأ مصنعا في القاهرة كذلك يعمل فيه الصناع لإعداد الدخان المهيأ لاستهلاك العاصمة، ووفد الباعة كل صباح على المصنع لأخذ مقطوعية اليوم من الدخان، وقضى هذا الاحتكار الحكومي على صناعة اختص بها الأفراد العاديون، وكسبوا منها رزقهم، فاشتد التذمر، وعلت الاحتجاجات الصاخبة، وانخفض الاستهلاك، واضطر الباشا إلى التخلي عن هذه التجارة، واستعاض عن ذلك بفرض ضريبة جمركية عالية على جميع أصناف التبغ المستورد إلى البلاد، على أنه مما تجدر ملاحظته، أن هذه المحاولة الاحتكارية الأولى، والتي حدثت في غضون الشهور الستة الأولى من عام 1808، كانت تجربة قائمة بذاتها، ولا صلة لها بنظام الاحتكار الواسع الذي أنشأه محمد علي بعد ذلك.
وتسنى للباشا أن يتبع طريقا ثالثا لتفريج أزمته، بفضل ما كان يحرزه من انتصارات على البكوات المماليك، وما صار يستتبع ذلك من مصادرة أملاكهم وأراضيهم، وكان أصحاب الأرض عموما هم المماليك الذين تتألف منهم الطبقة الحاكمة، ويمتلك هؤلاء نصف الأرض تقريبا، ثم الأفراد العاديون، ولهؤلاء قسم من الجزء الباقي من الأرض، بينما ظل القسم الأخير منها من أراضي وأملاك الوقف المرصدة للمساجد والسبل وأبواب الخيرات المنوعة، وبمقتضى النظام السائد بين المماليك، كان لكل صنجق من صناجقهم حصة معينة من الأرض يوزعها بين بكواته وكشافه، بما عليها من قرى ودساكر، وهو وحده صاحب الحق الأعلى في ملكيتها، بينما كانت تؤجر الأرض والمباني المنشأة عليها للفلاحين الذين يدفعون عنها إيجارا بعضه نقدا والآخر عينا، وكان للفلاحين كذلك أن يستأجروا أراضي وعقار الوقف المرصد ريعها للجوامع وما إليها، كما كان لهم أن يستأجروا الأرض من الأفراد العاديين.
وبقدر نجاح محمد علي في القضاء على طائفة المماليك، كثر عدد القرى، وزادت مساحة الأرض التي دخلت في حوزته بعد جلاء هؤلاء عنها، وصار يوزع هذه على كبار ضباطه، وقد شهدنا كيف أن أحمد بك الأرنئودي، أو عمر بك، أو صالح آغا قوج، أو حسن باشا، استطاعوا جميعا بسبب هذا الإجراء أن يجمعوا ثروات طائلة بفضل امتلاكهم للقرى والأراضي التي أعطاهم محمد علي إياها، بل إن الباشا كثيرا ما كان يعمد إلى توزيع القرى والأرض التي يمتلكها البكوات المماليك على ضباطه وأعوانه، في جهات لم تكن بعد قد دخلت في حوزته واعترف سادتها بسلطانه.
على أن هذه الإجراءات العامة لم تكف لسداد نفقات الباشا، ولقطع دابر أزمته المالية المزمنة، ووجد الباشا أن مصدرا هاما من مصادر الإيراد، قد ظل معطلا، نتيجة لبقائه متحررا من سلطان الحكومة، ونعني بذلك أراضي الوقف والرزق والإحباسية، فقرر الاستيلاء عليها، وكان هذا القرار السبب المباشر لوقوع الاصطدام بينه وبين المشايخ، بيد أنه لا معدى عن تتبع الإجراءات السابقة لهذه العملية الأخيرة، والتي لجأ إليها محمد علي لسد العجز الظاهر في ماليته منذ أن تزايدت حاجته إلى المال، عقب خروج الإنجليز من الإسكندرية، لمواجهة مطالب الحكومة من يوم لآخر، لفهم هذه الواقعة على حقيقتها. (4-2) أساليب الباشا المالية
ذلك أن الأساليب التي اتبعها الباشا الآن لجمع المال، كانت نفس الأساليب السابقة، والتي أرهقت أهل البلاد عموما والقاهريين خصوصا، وكانت مبعث سخطهم وتذمرهم، ولو أن أحدا منهم لم يجرؤ على الاعتراض أو الاحتجاج عليها؛ وسبب ذلك توطد سلطان الباشا المطرد، وإقبال المشايخ والزعماء الشعبيين، وعلى رأسهم عمر مكرم، على معاضدته وتأييده، ولم يكن الأهلون يرون مبررا لتوالي المظالم والمغارم عليهم، وهم الذين أسهم المشايخ وزعماؤهم في تطويعهم تزلفا للباشا، لإغداقه عليهم بالحصص من ناحية، ولعدم تعرضه لمسموحهم أو لإيرادات الوقف المتنظرين هم عليه من ناحية أخرى.
بيد أن مضي الباشا في أساليبه المالية، ثم لجوءه أخيرا إلى تجريد المشايخ من الإيرادات التي نعموا بها، بمهاجمة نظام الوقف المألوف، لم يلبث أن زاد من تذمر الأهلين وسخطهم، ثم أفضى إلى انحراف المشايخ والتصدي لمعارضته، ولكن ثمة ملاحظة جديرة بكل اعتبار، كان لها شأن في تكييف الحوادث التالية، ومساعدة الباشا على التخلص من معارضة المشايخ، سواء أكانت هذه معارضة صامتة أم سافرة، هي أن سخط الشعب تحول رويدا رويدا إلى المشايخ أنفسهم، حتى إذا ذهب هؤلاء يعارضون الباشا، لم يحرك الشعب ساكنا لمؤازرتهم، وترك الباشا يقتص منهم، ويعمل على إقصائهم من شئون الحكم كلية، على نحو ما سيأتي ذكره.
أما الباشا فقد بدأ منذ 6 أكتوبر 1807 - كما سبق بيانه - يفتح الطلب من الملتزمين ببواقي الميري على أربع سنوات ماضية. وفي 23 أكتوبر، فتحوا أيضا دفاتر الطلب بالميري عن السنة القابلة وبدأت من ثم المتاعب التي شكا منها الأهلون والتي بسطها الشيخ الجبرتي في تاريخه، فقال: «وجهت الحكومة الطلب بها إلى العسكر، فدهي الناس بدواه متوالية، منها خراب القرى، بتوالي المظالم والمغارم والكلف، وحق الطريق، والاستعجالات، والتساويف، والبشارات، فكان أهل القرية النازل بها ذلك، ينتقلون إلى القرية المحمية لشيخ من الأشياخ، وقد بطلت الحماية أيضا حينئذ، ثم أنزلوا بالبنادر مغارم عظيمة لها قدر من الأكياس الكثيرة، وذلك عقب فرضة البشارة، مثل دمياط ورشيد والمحلة والمنصورة، مائة كيس وخمسون كيسا، ومائة وخمسون كيسا وأكثر وأقل.
وفي أثناء ذلك قرروا أيضا فرضة غلال وسمن وشعير وفول على البلاد والقرى، وإن لم يجد المعينون للطلب شيئا من الدراهم عند الفلاحين، أخذوا مواشيهم وأبقارهم، ليأتي أربابها، ويدفعوا ما تقرر عليهم، ويأخذوها ويتركوها بالجوع والعطش، فعند ذلك يبيعونها على الجزارين، ويرمونها عليهم قهرا بأقصى القيمة، ويلزمونهم بإحضار الثمن، فإن تراخوا وعجزوا، شددوا عليهم بالحبس والضرب.»
وفي ديسمبر 1807، بدأ الباشا إعادة النظر في تقدير مساحة الأراضي المزروعة، وتقرير فئات الضرائب عليها بنسبة خصبها وارتوائها من ماء النيل، فأنفذ ولده إبراهيم بك في 24 ديسمبر إلى مديرية القليوبية، ومعه طائفة من المباشرين الأقباط وعلى رأسهم جرجس الطويل، كبيرهم، وعدد من أفندية الروزنامة والكتبة، للكشف على الأطيان التي رويت والأخرى الشراقي، «فأنزلوا بالقرى النوازل، من الكلف وحق الطرقات، وقرروا على كل فدان رواه النيل أربعمائة وخمسين ونصف فضة تقبض للديوان، وذلك خلاف ما للملتزم، والمضاف، والبراني، وما يضاف إلى ذلك من حق الطرق والكلف المتكررة.»
وبدأ الباشا القروض الإجبارية، فتقرر في 31 ديسمبر من العام نفسه، إرغام مساتير الناس على تقديم سلف، تحتسب لهم من المغارم التي سوف يجري تقريرها على حصصهم في المستقبل، وعين الجند لتحصيل هذه السلف الفريدة في نوعها، فتغيب غالب الناس وتوارى لعدم ما بأيديهم، وخلو أكياسهم من المال، والتجأ الكثير منهم إلى ذوي الجاه، ولازموا أعتابهم، حتى شفعوا فيهم، وكشفوا غمتهم.
وانتهز الباشا فرصة مجيء القابجي بيانجي بك، يطلب من محمد علي إنفاذ جيشه إلى الحجاز، لمطالبة المتصدرين من المشايخ والزعماء بتدبير النفقات التي تستلزمها تلبية أوامر الباب العالي، والتي قدرها الباشا بأربعة وعشرين ألف كيس. وفي فبراير 1808 «عمل الباشا ديوانا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر مكرم والمشايخ، وقال لهم: لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليهما الوهابيون، ومشوا أحكامهم بها، وقد وردت علينا الأوامر السلطانية، المرة بعد المرة، للخروج إليهم ومحاربتهم وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين، ولا تخفى عنكم الحوادث والوقائع التي كانت سببا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر، والآن حصل الهدوء، وحضر قابجي باشا بالتأكيدات والحث على خروج العساكر وسفرهم، وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذا الوقت، فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس، فأعملوا رأيكم في تحصيلها.»
وكان هذا مبلغا جسيما، فحصل ارتباك واضطراب، وشاع ذلك في الناس، وزاد بهم الوسواس، ولما كان الباشا غير متهيئ لإنفاذ جيشه إلى الحجاز وقتئذ، للأسباب التي عرفناها، فقد راح يبذل قصارى جهده لإقناع القابجي بالتريث وعدم العجلة؛ إذ يحتاج هذا الأمر إلى استعدادات كبيرة، وإنشاء مراكب في بحر القلزم، وسهل عندئذ الاتفاق على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها.
وفي العام نفسه قام محمد علي برحلة في الوجه البحري، استغرقت شهرا تقريبا من 27 أغسطس إلى 22 سبتمبر 1808، كان الغرض منها جمع المال لإرسال هدية إلى الباب العالي، وشرح الشيخ الجبرتي الأساليب التي اتبعت في جمع المال أثناء هذه الرحلة، فقال: «سافر محمد علي باشا إلى بحري، ونزل في المراكب، وأرسل قبل نزوله بأيام تشهيل الإقامات، والكلف على البلاد، من كل صنف خمسة عشر، وأخلوا له ولمن معه بيوت البنادر، مثل المنصورة ودمياط ورشيد والمحلة والإسكندرية، وفرض الفرض والمغارم على البلاد، على حكم القراريط التي كانوا ابتدعوها في العام الماضي، على كل قيراط سبعة آلاف وسبعمائة نصف فضة، وسماها كلفة الذخيرة، وأمر بكتابة دفتر لذلك.
فكتب إليه الروزنامجي أن الخراب استولى على كثير من البلاد، فلا يمكن تحصيل هذا الترتيب، فأرسل الباشا من المنصورة يأمر بتحرير العمار بدفتر مستقل، والخراب بدفتر آخر، فلما فعل الروزنامجي ذلك، أدخل فيها بلادا بها بعض الرمق لتخلص من الفرضة، وفيها ما هو لنفسه، فلما وصلت إليه؛ أي محمد علي، أمر بتوزيع ذلك الخراب على أولاده وأتباعه وأغراضه، وعدتها مائة وستون بلدة، وأمر الروزنامجي بكتابة تقاسيطها بالأسماء التي عينها له، فلم يمكن الروزنامجي أن يتلافى ذلك فتظهر خيانته، ووزعت وارتفعت عن أصحابها.
وكذلك حصل بإقليم البحيرة لما عمها الخراب، وتعطل خراجها، وطلبوا الميري من الملتزمين، فتظلموا واعتذروا بعموم الخراب، فرفعوها عنهم، وفرقها الباشا على أتباعه، واستولوا عليها، وطلبوا الفلاحين الشاردة والمنسحبة من البلاد الأخر، وأمروهم بسكناها، وزادوا في الطنبور نغمات، وهو أنهم صاروا يتتبعون أولاد البلد أرباب الصنائع الذين لهم نسبة قديمة بالقرى، وذلك بإغراء أتباعهم وأعوانهم، فيكون الشخص منهم جالسا في حانوته وصناعته، فما يشعر إلا والأعوان محيطون به يطلبونه إلى مخدومهم، فإن امتنع أو تلكأ سحبوه بالقهر، وأدخلوه إلى الحبس، وهو لا يعرف له ذنبا، فيقول: وما ذنبي؟ فيقال له: عليك مال الطين، فيقول: وأي شيء يكون الطين؟ فيقولون له: طين فلاحتك من مدة سنتين لم تدفعه؟ وقدره كذا وكذا، فيقول: لا أعرف ذلك، ولا أعرف البلد، ولا رأيتها في عمري، لا أنا ولا أبي ولا جدي، فيقال له: ألست فلان الشبراوي أو المنياوي مثلا، فيقول لهم: هذه نسبة قديمة، سرت إلي من عمي أو خالي أو جدي، فلا يقبل منه، ويحبس ويضرب حتى يدفع ما ألزموه به، أو يجد شافعا يصالح عليه، وقد وقع ذلك لكثير من المتسببين والتجار وصناع الحرير وغيرهم.
ولم يزل الباشا في سيره حتى وصل إلى دمياط، وفرض على أهلها أكياسا، وأخذ من حكامها هدايا وتقادم، ثم رجع إلى سمنود، وركب في البر إلى المحلة، وقبض ما فرضه عليها، وهو خمسون كيسا نقصت سبعة أكياس عجزوا عنها بعد الحبس والعقاب، وقدم له حاكمها ستين جملا وأربعين حصانا، خلاف الأقمشة المحلاوية، مثل الزردخانات والمقاطع الحرير، وما يصنع بالمحلة من أنواع الثياب والأمتعة، صناعة من بقي بها من الصناع.
ثم ارتحل عنها ورجع إلى منوف، وذهب إلى رشيد والإسكندرية، ولما استقر بها عبى هدية إلى الدولة، وأرسل إلى مصر (القاهرة) فطلب عدة قناطير من البن والأقمشة الهندية وسبعمائة إردب أرز أبيض أخذت من بلاد الأرز، وأرسل الهدية صحبة إبراهيم أفندي المهردار ...
وفي 22 سبتمبر حضر محمد علي باشا من غيبته، وطلع على ساحل بولاق ... وذهب إلى داره بالأزبكية، ثم طلع ثاني يوم إلى القلعة ...»
وفي 8 ديسمبر 1808 عزل الباشا السيد محمد المحروقي من نظارة الضربخانة، ونصب بها شخصا من أقاربه، وكان متولي أمانة الضربخانة السيد أحمد المحروقي، فلما توفي في ديسمبر 1804، عين الباشا ابنه السيد محمد مكان أبيه في أغسطس 1805، واستمر في منصبه حتى عزله الآن محمد علي، وكانت قد جرت العادة بأن يدفع المتولي لشئونها مال الميري الذي عليها، وعوائد الباشا وكتخداه والمرتبات إلى أصحابها، على أن يكون المتبقي له بعد دفع أجر الخدمة والمصاريف، فضمن تعيين أحد أقارب الباشا على دار الضرب أو سك النقود، حصول الباشا على هذا المتبقي، أضف إلى هذا أن الإشراف على عملية سك النقود ذاتها كانت عملية في وسع الباشا الانتفاع منها، من حيث تحديد نسبة المعادن الخالصة، كالفضة أو الذهب عند مزجها بغيرها لسك العملة المطلوبة، فيدخل خزانته الفروق بين قيمة المعدن المستخدم في سك النقود، وسعر التداول المعين لها.
وثمة عملية أخرى، كانت مصدر ربح للباشا، هي تغيير صرف النقود الفضية والذهبية كالريال الفرانسة، والمحبوب، والمجر، من أنواع العملة الطيبة التي استمر اختفاؤها من السوق، واستخدامها في تجارة الوارد، وقد اختفت كذلك العملة الصغيرة؛ أي الفضة العددية من أيدي الناس والصيارف؛ «لتحكيرهم عليها، ليأخذها تجار الشوام بفرط في مصارفتها تضم للميري، فيدور الشخص على صرف القرش الواحد فلا يجد صرفه إلا بعد جهد شديد، ويصرفه الصراف أو خلافه للمضطر بنقص نصفين فضة أو ثلاثة»، وبلغ صرف الريال الفرانسة إلى مائتين وأربعين، والمحبوب إلى مائتين وخمسين، فنودي في نوفمبر 1808 على المعاملة بأن يكون صرف الريال الفرانسة بمائتين وعشرين، والمحبوب بمائتين وأربعين. وفي أبريل 1809 نودي مرة ثانية على صرف الفرانسة والمحبوب والمجر، كما نودي في العام الماضي، ويعلل الشيخ الجبرتي ذلك بقوله: «لأنه لما نودي بنقص صرفها، ومضى نحو الشهر أو الشهرين، رجع الصرف إلى ما كان عليه وزيادة، فأعيد النداء كذلك، وسيعود الخلاف ما دام الكرب والضيق بالناس، على أن هذه المناداة والأوامر بالنقص والزيادة ليست من باب الشفقة على الناس، ولا الرحمة بهم، وإنما هي بحسب أغراضهم وزيادة طمعهم، فإنه إذا توجهت المطالبات بالفرض والمغارم، نودي بالنقص، ليزيد الفرض، وتتوفر لهم الزيادة، ويحصل التشديد والمعاقبة على من يقبض الزيادة من أهل الأسواق، وإذا كان الدفع من خزانتهم في علائف العسكر أو لوازمهم الكبيرة، قبضوها بأزيد من الزيادة التي نادوا عليها، من غير مبالاة ولا احتشام، تناقض ما لنا إلا السكوت عنه.»
وتناول الشيخ الكلام عن المعاملة مرة أخرى، فأسهب في شرح هذه العملية التي لم ير فيها إلا وسيلة لاختلاس أموال الناس، وذلك بمناسبة المناداة في أواخر 1810 وأوائل 1811 على صرف المحبوب بزيادة صرفه ثلاثين نصفا، بينما كان المحبوب يصرف - كما رأينا - بمائتين وخمسين من زيادات الناس في معاملاتهم، ونادوا بالنقص وقتذاك، فعادوا الآن ينادون بالزيادة، وذكر الشيخ الغرض من ذلك ، ثم ما كان يحدث من نقص في وزن وعيار العمل المتداولة التي تصدرها دار الضرب أو الضربخانة واختفاء النقود الصغيرة من الفضة، أو نصف فضة - كما كانت تسمى - وهي «الميدي» المحرفة عن «المؤيدي»: مسكوكات مصنوعة من خليط الفضة والنحاس وقيمتها واحد على أربعين من القرش، واختفاء غيرها من الخمسة فضة، والعشرة فضة، والعشرين فضة أو نصف القرش، فقال في حوادث 28 / 12 / 1810-25 / 1 / 1811: «وفي هذه الأيام نودي بالزيادة، وذلك بحسب الأغراض والمقاصد والمقتضيات، ومراعاة مصالح أنفسهم، لا المصلحة العامة، هذا مع نقص عياره (عيار المحبوب) ووزنه عما كان عليه قبل المناداة، وكذلك نقصوا وزن القرش، وجعلوا القرش على النصف من القرش الأول، ووزنه درهمين، وكان أربعة دراهم، وفي الدرهمين ربع درهم فضة، هذا مع عدم الفضة العددية»؛ أي نصف الفضة أو الميدي وسائر المسكوكات الصغيرة التي ذكرناها، وعدم وجودها بأيدي الناس والصيارف، وإذا أراد إنسان صرف قرش واحد من غيره، صرفه بنقص ربع العشر، وأخذ بدله قطعا صغارا إفرنجية، يصرف منها الواحدة باثني عشر، وأخرى بعشرة، وأخرى بخمسة، ولكنها جيدة العيار، وهم الآن يجمعونها ويضربونها بما يزاد عليها من النحاس، وهو ثلاثة أرباعها، قروشا؛ لأن القطعة الصغيرة التي تصرف بخمسة أنصاف فضة وزنها درهم واحد وزني، فيصيرونها أربعة قروش، فتضاف الخمسة إلى ثمانين، وكل ذلك نقص واختلاس أموال الناس من حيث لا يشعرون.
ثم طرق الشيخ الموضوع نفسه في ديسمبر 1811 ويناير من العام التالي، فلاحظ ما طرأ على صرف المعاملة من زيادة فاحشة من جهة، ونقص في وزنها وعيارها من جهة أخرى، وطفق يشرح هذه الظاهرة، فقال: «وذلك أن حضرة الباشا أبقى دار الضرب على ذمته، وجعل خاله ناظرا عليها، وقرر لنفسه عليها في كل شهر خمسمائة كيس، بعد أن كان شهريتها أيام نظارة المحروقي خمسين كيسا في كل شهر، ونقصوا وزن القروش نحو النصف عن القرش المعتاد، ونادوا في خلطه حتى لا يكون فيه مقدار ربعه من الفضة الخالصة، ويصرف بأربعين نصفا، وكذلك المحبوب نقصوا من عياره ووزنه.
ولما كان الناس يتساهلون في صرف المحبوب والريال الفرانسة ويقبضونها في خلاص الحقوق ومن المماطلة والمفلسين وفي المبيعات الكاسدة بالزيادة لضيق المعايش، حتى وصل صرف الريال إلى مائتين وخمسين نصفا والمحبوب إلى مائتين وثمانين، ثم زاد الحال في التساهل في الناس بالزيادة أيضا عن ذلك، فينادي الحاكم بمنع الزيادة، ويمشي الحال أياما قليلة، ويعود لما كان عليه وأزيد، فتحصل المناداة أيضا ويعقبونها بالتشديد والتنكيل بمن يفعل ذلك، ويقبض عليه أعوان الحاكم ويحبس ويضرب ويغرمونه غرامة، وربما مثلوا به وخرموا أنفه وصلبوه على حانوته، وعلقوا الريال في أنفه ردعا لغيره.
وفي أثناء ذلك إذا بالمناداة بأن يكون صرف الريال بمائتين وسبعين والمحبوب بثلاثمائة وعشرة، فاستمع وتعجب من هذه الأحكام الغريبة التي لم يطرق سمع سامع مثلها.
هذا مع عدم الفضة العددية في أيدي الناس، فيدور الشخص بالقرش وهو ينادي على صرفه بنقص أربعة أنصاف، نصف يوم حتى يصرفه بقطع إفرنجية، منها ما هو باثني عشر أو خمسة وعشرين أو خمسة فقط، أو يشتري من يريد الصرف شيئا من الزيات أو الخضري أو الجزار، ويبقى عنده الكسور الباقية، يوعده بغلاقها، فيعود إليه مرارا حتى يتحصل عنده غلاقها، وليس هو فقط بل أمثاله كثير.
وسبب شحة الفضة العددية، أنه يضرب منها كل يوم بالضربخانة ألوف مؤلفة يأخذها التجار بزيادة مائة نصف في كل ألف، يرسلونها إلى بلاد الشام والروم، ويعوضون بدلها في الضربخانة الفرانسة والذهب؛ لأنها تصرف في تلك البلاد بأقل مما تصرف به في مصر.
وزاد الحال بعد هذا التاريخ حتى استقر على صرف الألف مائتين، وتقرر ذلك في حساب الميري فيدفع الصارف ثلاثين قرشا عنها ألف ومائتان ويأخذ ألفا فقط، والفرانسة والمحبوب بحسابه المتعارف بذلك الحساب، والأمر لله وحده .»
وكثر التفنن في أساليب طلب المال، فابتدعت حكومة الباشا إلى جانب ما سمته كلفة الذخيرة - في أغسطس 1808 - نوعا آخر من المغارم، في أبريل 1809، سمته الترويجة، وتفصيل ذلك أن الباشا أمر في أوائل أبريل بتحرير فرضة الأطيان، بزيادة الثلث على ما تقرر في العام السابق؛ لأن النيل في ذلك العام (أغسطس 1808) كان قد نقص نقصا كبيرا، فربطت الآن الضرائب على الأطيان، ورتبت في أربع مراتب، تزيد كل ضريبة عن الأخرى مائة نصف فضة، وبحيث جعل أعلاها ثمانمائة نصف فضة، ثم طلبت الحكومة جانبا معجلا من الضريبة، هو الذي أسموه بالترويجة، وهذا بالرغم من أن الفرضة الماضية بقي الكثير منها بالذمم لخراب القرى، وعجز الحكومة عن تحصيلها، وبالرغم من الضائقة التي حلت بالأهلين بسبب انعدام الغلال من الأسواق، نتيجة لنشاط حركة تصديرها إلى الخارج، إلى مالطة خصوصا؛ فقد تشحطت الغلال وغلا سعرها حتى بلغ الإردب القمح ألفا وستمائة نصف فضة، وعز وجوده بالرقع والعرصات، وأما السواحل فلا يكاد يوجد بها شيء من الغلة بطول السنة. وهكذا راح الشيخ الجبرتي يعلق على ذلك كله بقوله: ولولا لطف الله بوجود الذرة لهلكت الخلائق، ومع ذلك استمرار المغارم والفرض، حتى فرض الغلة عين، وكذلك تبن وجمال، وما ينضاف إلى ذلك، مما سمعته غير مرة، مما يطول شرحه.
وعندما أنفذ الباشا كبار قواده في تجريدة ضد البكوات في الصعيد في أغسطس 1809، وجاءته أخبار غير مطمئنة عن هذه التجريدة، اعتزم الذهاب بنفسه، فأمر للحصول على المال، في أوائل سبتمبر بتحرير دفتر فرضة ترويجة على إقليم المنوفية والغربية والشرقية والقليوبية، وذكروا أنها من أصل حساب الشهرية المبتدعة.
وفي أواخر أكتوبر من العام نفسه ابتكرت حكومة الباشا أسلوبا جديدا في تحصيل مال الأطيان، نتيجة لزيادة الفيضان زيادة كبيرة في هذه السنة، فحرروا دفتر الأطيان على ضريبة واحدة، عن كل فدان خمسة ريالات، غير البراني والخدم، ولم يحصل في ذلك مراجعة ولا كلام ولا مراجعة في شيء، كما وقع في العام الماضي والذي قبله في المراجعة بحسب الري والشراقي، وأما في هذه السنة فليس فيها شراقي، فحسابها بالمساحة الكاملة لعموم الري، فإن النيل في هذه السنة زاد زيادة مفرطة، وعلا على الأعالي، وتلف بزيادته المفرطة الدراوي والأقصاب بقبلي، وكذلك غرق مزارع الأرز والسمسم والقطن وجنائن كثيرة بالبر الشرقي بسبب انسداد الترعة الفرعونية بتلك الناحية، وكان الباشا وقتئذ بالصعيد يبغي بكوات المماليك على الاتفاق معه، والحضور إلى القاهرة للإقامة بها تحت إشرافه ومراقبته، فأرسل يطلب هذه الدفاتر ليطلع عليها، فسافر إليه بها المعلم غالي، وأخذ صحبته أحمد أفندي اليتيم من طرف الروزنامة، وعبد الله بكتاش الترجمان، فذهبوا إليه بأسيوط وأطلعوه عليها، فختم عليها.
وفي سنة 1810 حررت دفاتر الضريبة على الأرض، على حساب المساحة الكاملة، باعتبار أن الأرض قد رويت جميعها بسبب زيادة الفيضان، وقد سميت هذه البدعة بالقياسة؛ لكون المباشرين والكتبة قاسوا مساحة الطين الري، الذي ارتوى بمياه النيل، ولو أن بلادا كثيرة من إقليم البحيرة وغيره قد بقيت شراقي بسبب عدم حفر الترع وحبس الحبوس وتجسير الجسور، لانشغال الفلاحين والملتزمين بالفرض والإتاوات، وعجزهم عن القيام بذلك.
وفي 12 مارس 1810، طلب الباشا كتاب الأقاليم «وشرع في تقرير فرضة على البلاد بما يقتضيه نظره ونظر كشاف الأقاليم والمعلمين القبط، فقرروا على أعلاها ثمانين كيسا والأدنى خمسة عشر كيسا، ولم يتقيد بتحرير ذلك أحد من الكتبة الذين يحررون ذلك بدفاتر ويوزعونها على مقتضى الحال، ولم يعطوا بالمقادير أوراقا لملتزمي الحصص، كما كانوا يفعلون قبل ذلك، فإن الملتزم كان إذا بلغه تقرير فرضة، تدارك أمره، وذهب إلى ديوان الكتبة، وأخذ علم القدر المقرر على حصته وتكفل بها، وأخذ منهم مهلة بأجل معلوم، وكتب على نفسه وثيقة وأبقاها عندهم، ثم يجتهد في تحصيل المبلغ من فلاحيه، وإن لم يسعفوه في الدفع، وحولوا عليه الطلب دفعه من عنده إذا كان ذا مقدرة، أو استدانه ولو بالربا، ثم يستوفيه بعد ذلك من الفلاحين شيئا فشيئا، كل ذلك حرصا على راحة فلاحي حصته وتأمينهم واستقرارهم في وطنهم ليحصل منهم المطلوب من المال الميري وبعض ما يقتاتون به هم وعيالهم ، وإن لم يفعل ذلك تحول باستخلاص ذلك كاشف الناحية، وعين على الناحية الأعوان بالطلب الحثيث وما ينضاف إلى ذلك من حق طرق المعينين وكلفهم، وإن تأخر الدفع تكرر الإرسال والطلب على النسق المشروح، فيتضاعف الهم، وربما ضاع في ذلك قدر أصل المطلوب وزيادة عنه مرة أو مرتين، والذي يقبضونه يحسبونه، وهو في كل ريال عشرة أنصاف فضة يسمونها ديواني، فيقبض المباشر على الريال تسعين نصفا فضة، ويجعل التسعين ثمانين، وذلك خلاف ما يقرره في أوراق الرسم من خدم المباشرين من كتبة القبط.
فينكشف حال الفلاح ويبيع ما عنده من الغلة والبهيمة، ثم يفر من بلدته إلى غيرها، فيطلبه الملتزم ويبعث إليه المعينين من كاشف الناحية بحق طريق أيضا، فربما أداه الحال إن كان خفيف العيال والحركة إلى الفرار والخروج من الإقليم بالكلية، وقد وقع ذلك حتى امتلأت البلاد الشامية والروسية من فلاحي قرى مصر الذين جلوا عنها، وخرجوا منها، وتغربوا عن أوطانهم، من عظيم هول الجور.
وإذا ضاق الحال بالملتزم وكتب له عرضحالا يشكو حاله وحال بلده أو حصته وضعف حالها ويرجو التخفيف، وتجاسر وقدم عرضحاله إلى الباشا، يقال له هات التقسيط (سند التمليك) وخذ ثمن حصتك أو بدلها، أو يعين له ترتيبا بقدر فائظها على بعض الجهات الميرية من المكوس والجمارك التي أحدثوها، فإن سلم سنده، وكان ممن يراعى جانبه، حول إلى بعض الجهات المذكورة صورة، وإلا أهمل أمره، وبعضهم باعها لهم بما انكسر عليه من مال الفرض، وقد وقع ذلك لكثير من أصحاب الذمم المتعددة، انكسر عليه مقادير عظيمة، فنزل عن بعضها، وخصموا له ثمنها من المنكسر عليه من الفرضة، وبقي عليه الباقي يطالب به، فإن حدثت فرضة أخرى، قبل غلاق الباقي، وقعد بها وضمت إلى الباقي، وقصرت يده لعجز فلاحيه، واستدان بالربا من العسكر، تضاعف الحال، وتوجه عليه الطلب من الجهتين، فيضطر إلى خلاص نفسه، وينزل عما بقي تحت يديه كالأول، وقد يبقى عليه الكسر ويصبح فارغ اليد من الالتزام ومديونا.
وقد وقع ذلك لكثير كانوا أغنياء ذوي ثروة، وأصبحوا فقراء محتاجين، من حيث لا يشعرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
ومن الأساليب التي لجأ إليها الباشا لجمع المال، ما ذكره الشيخ الجبرتي في حوادث عام 1809: منها احتكار النشوق، وإلزام الأهلين بشرائه، ثم احتكار النطرون، وإلزام القرى بأخذ كميات معينة منه، وأخيرا محاولة إلزام الأهلين بشراء العرقي، ويسجل الشيخ تفاصيل هذه المسائل بصورة توضح الكيفية التي حاولت بها حكومة الباشا إرغام الناس على شراء النشوق والنطرون والعرقي، ثم تذمر الأهلين.
فيقول الشيخ: «إن بعض المتصدرين من نصارى الأروام أنهى إلى كتخدا بك أمر النشوق وكثرة المستعملين له والدقاقين والباعة، وأنه إذا جمعت دقاقوه وصناعه في مكان واحد، ويجعل عليهم مقادير، ويلتزم به ويضبط رجاله، وجمع ماله وإيصاله إلى الخزينة، من يكون ناظرا وقيما عليه كغيره من أقلام المكوس التي يعبرون عنها بالجمارك؛ فإنه يتحصل من ذلك مال له صورة، فلما سمع كتخدا بك ذلك أنهاه إلى مخدومه، فأمر الباشا في الحال بكتابة فرمان بذلك، واختار الذي جعلوه ناظرا على ذلك خانة بخطة بين الصورين، ونادوا على جميع صناع النشوق وجمعوهم بذلك الخان، ومنعوهم من جلوسهم بالأسواق والخطط المتفرقة، والقيم على ذلك يشتري الدخان لذلك من تجاره بثمن معلوم حدده، لا يزيد على ذلك، ولا يشتريه سواه، وهو يبيعه على صناع النشوق بثمن حدده ولا ينقص عنه، ومن وجده باع شيئا من الدخان أو اشتراه أو سحق نشوقا خارجا عن ذلك الخان ولو لخاصة نفسه، قبضوا عليه وعاقبوه وغرموه مالا، وعينوا معينين لجميع القرى والبلدان القبلية والبحرية، ومعهم من ذلك الدخان، فيأتون إلى القرية ويطلبون مشايخهم، ويعطونهم قدرا موزونا، ويلزمونهم بالثمن المعين بالمرسوم الذي بيدهم، فيقول أهل القرية: نحن لا نستعمل النشوق ولا نعرفه ولا يوجد عندنا من يصنعه، وليس لنا به حاجة ولا نشتريه، ولا نأخذه، فيقال لهم: إن لم تأخذوه فهاتوا ثمنه، فإن أخذوه أو لم يأخذوه فهم ملزمون بدفع القدر المعين المرسوم، ثم كراء طريق المعينين، وكلفتهم وعليق دوابهم.»
تلك كانت بدعة المكس على النشوق.
وأما سائر البدع والمستحدثات، فقد بسطها الشيخ في قوله عن النطرون: إنهم «فرقوه وفرضوه على القرى، محتجين أيضا باحتياج الحياكة والفزازين إليه؛ لغسل غزل الكتان وبياض قماشه ونحو ذلك.» ثم استطرد الشيخ يقول: «وأشنع من ذلك كله أنهم أرادوا فعل مثل هذا في الشراب المسكر المعروف بالعرقي، وإلزام أهل القرى بأخذه ودفع ثمنه إن أخذوه أو لم يأخذوه، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: إن شربه يقوي أبدانهم على أعمال الزرع والزراعة، والحرث والكد في القطوة (وهي تشبه الشادوف) والنطالة (أخذ الماء بالنطل وهو الدلو) والشادوف، ثم بطل ذلك.»
ومن الأصناف التي فرضت حكومة الباشا مكوسا مرتفعة عليها، الأرز والكتان والحرير والحطب والملح، فدفع فيها المستهلك أثمانا باهظة، ثم إن هذه المكوس لم تلبث أن زيدت في غضون عام 1810 حتى غلت أسعارها إلى الغاية، فصار سعر الدرهم الحرير خمسة عشر نصفا بعد أن كان نصفين فحسب، وصار القنطار من الحطب الرومي بثلاثمائة نصف بعد ثلاثين أو أربعين نصفا، وأما الملح فقد شرح الشيخ الجبرتي ما حدث من تفنن في زيادة سعره، فقال: «وكان الملح يأتي من أرضه بثمن القفاف التي يوضع فيها لا غير، ويبيعه الذين ينقلونه إلى ساحل بولاق، الإردب بعشرين نصفا، وإردبه ثلاثة أرادب، ويشتريه المتسبب بمصر (القاهرة) بذلك السعر؛ لأن إردبه إردبان، ويبيعه أيضا بذلك السعر، ولكن إردبه واحد، فالتفاوت في الكيل لا في السعر، فلما احتكر صار الكيل لا يتفاوت، وسعره الآن أربعمائة وخمسون نصفا، والتزم به من التزم، وأوقف رجاله في موارده البحرية، لمنع من يأخذ منه شيئا من المراكب المارة بالسعر الرخيص من أربابه، ويذهب به إلى قبلي، أو نحو ذلك.»
ويصف الشيخ الجبرتي مصادر المال الأخرى، أو بالأحرى الحيل - على حد قول الشيخ - التي صارت حكومة الباشا تتوسل بها لأخذ المال، فقال في حوادث مايو 1811: إن الكتخدا محمد آغا لاظ، صار «يتنوع في استجلاب الأموال، ويتحيل في استخراجها بأنواع من الحيل، فمنها أنه يرسل إلى أهل حرفة من الحرف ويأمرهم ببيع بضاعتهم بنصف ثمنها، ويظهر أنه يريد الشفقة والرأفة بالناس، ويرخص لهم في أسعار المبيعات، وأن أرباب الحرف تعدوا الحدود في غلاء الأسعار، فيجتمع أهل الحرفة ويضجون ويأتون بدفاترهم وبيان رأس مالهم، وما ينضاف إليه من غلو جزئيات تلك البضاعة، وما استحدث عليها من الجمارك والمكوس، وغلو الأجر في البحر والبر، فلا يستمع لقولهم ولا يقبل لهم عذرا، ويأمر بهم إلى الحبس، فعند ذلك يطلبون الخلاص ويصالحون على أنفسهم بقدر من المال يدفعونه، ويوزعون ذلك على أفرادهم فيما بينهم، ثم يزيدون في سعر تلك البضاعة ليعوضوا غرامتهم من الناس، معتذرين بتلك الغرامة، وما حل بهم من الخسارة، ثم تستمر الزيادة على الديوان - وأظن استمرار الغرامة أيضا - فجمع بهذه الكيفية أموالا عظيمة، وهي في الحقيقة سلب أموال الناس من الأغنياء والفقراء.»
محاسبة المباشرين
ومن الوسائل التي لجأ إليها الباشا لاستنضاح المال، إرغام المباشرين المكلفين بجباية الضرائب على دفع الغرامات، ومطالبتهم بما اعتقد أنهم أخذوه من المال أو «الميري» المتحصل، وقد ساعد المباشرون أنفسهم الباشا على استنضاح المال منهم لعيش كبارهم في بذخ وترف، لفت إليهم الأنظار، ولاحتفاظهم بطرائقهم في تدوين حساباتهم، حتى صارت جباية الضرائب، وتدوين أقلامها والمتحصل منها في سجلات الحكومة حكرا لهم تقريبا، مما جعلهم موضع شكوك الباشا ورجاله، أضف إلى هذا، تحاسدهم فيما بينهم، وتنافسهم على منصب كبير المباشرين، الأمر الذي جعلهم يتزلفون للباشا بالوقيعة في حق بعضهم بعضا، وتفانى كل منهم في إرشاده إلى مقدار الثروة التي بيد الآخر، ناهيك بما كان يقف عليه الباشا، أو يترامى إليه عن الوسائل التي يتبعها المباشرون، وهم أصحاب الحول والطول في تحصيل المال من الأهلين المرهقين والفلاحين المكدودين في أخذ الرشاوى والعطايا من هؤلاء، وكانت الفكرة السائدة لدى الباشا عنهم - ويشترك معهم في هذا أفندية الروزنامة ورؤساؤهم - أنهم تنقصهم الأمانة، آية ذلك مظاهر الثراء الذي يتمتع به كبارهم خصوصا.
ولقد تقدم كيف أن المعلم غالي، نفس على جرجس الجوهري منصبه في عام 1805، فعمل على تغيير الباشا من ناحيته، وساعده في هذا المسعى المعلم فلتيوس، حتى عزل الباشا جرجس الجوهري وولى المعلم غالي كبيرا للمباشرين، واضطر جرجس الجوهري إلى الفرار، وصودرت أملاكه، ودفع القبط غرامات فادحة بسبب هذا الحادث.
ولكنه ما إن عظمت حاجة الباشا إلى المال، حتى شرع في حساب كبير المباشرين، المعلم غالي نفسه، وأعيان المباشرين ، واستطاع أن ينتزع منهم مبالغ طائلة مصالحة على أنفسهم وفي نظير رضائه عليهم.
وبدأ الباشا في يونيو 1809 بمطالبة المعلم غالي بألف كيس، وألزمه بها، فلم يسع المعلم إلا جمعها، بتوزيعها على المباشرين والكتبة، وجمعها في أقرب زمن. وكان في نوفمبر من العام نفسه أن حضر المعلم جرجس الجوهري إلى القاهرة بأمان من محمد علي، وكان مختفيا في الصعيد، فأظهر غالي مودة عظيمة له، وأثث له بيته الذي بحارة الونديك، وقام له بجميع لوازمه، وأكرمه الباشا، وذهب الناس مسلمهم ونصرانيهم وعالمهم وجاهلهم للسلام عليه، ولكن احتفاء المعلم غالي به لم يكن إلا رياء ومداهنة فلم يمكنه من استرداد مكانته، وانحط قدره، ولازمته الأمراض، حتى وافاه الأجل المحتوم في أواخر سبتمبر 1810، وخلا الجو للمعلم غالي، وتعين بالتقدم، ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية.
على أن هذه الموافقة لم تنقذ المعلم غالي وزملاءه من غضب الباشا، الذي اعتقد فيهم دائما - كما أشرنا - الخيانة، هم وكتبة الروزنامة، وقرر الباشا حسابهم بموجب دفاترهم، فأمر في 19 فبراير 1810 بالاحتياط على بيوت عظماء الأقباط، كالمعلم غالي نفسه والمعلم جرجس الطويل وأخيه، وفلتيوس وفرانسيسكو، وعدتهم سبعة، فأحضروهم في صورة منكرة وسمروا دورهم، وأخذوا دفاترهم، فلما حضروا بين يديه قال لهم: أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه، وأمر بحبسهم، فطلبوا منه الأمان، وأن يأذن لهم في خطابه، فأذن لهم، فخاطبه المعلم غالي، وخرجوا من بين يديه إلى الحبس، ثم توسط في أمرهم لدى الباشا حسين أفندي الروزنامجي، فقرر عليهم غرامة سبعة آلاف كيس، بعد أن كان الباشا طلب منهم ثلاثين ألف كيس.
وفي 8 مارس من العام نفسه، نمى إلى الباشا أن ثلاثة من كتبة الأقباط المتقيدين بقياس الأراضي بالمنوفية قد أخذوا البراطيل والرشوات على قياس طين أراضي بعض البلاد، وأنقصوا من القياس فيما ارتوى من الطين، وهي البدعة التي حدثت على الطين الري، وسموها القياسة، فأمر بالقبض عليهم وضربهم وحبسهم.
وسعى المعلم منصور ضريمون، معلم ديوان الجمارك، لدى الباشا لتغييره على المعلم غالي وأعوانه، وقرر الباشا محاسبة المعلم غالي وكبار المباشرين ، فألقى القبض في 16 أكتوبر 1810 على المعلم غالي والمعلم فرنسيس أخيه، والمعلم فلتيوس، والمعلم جرجس الطويل، وباقي أعيان المباشرين، وأنزل المعلمان غالي وفلتيوس إلى بولاق لنفيهما إلى دمياط، بينما حبس الباقون في القلعة، وختموا على دورهم، ووجدوا عند المعلم غالي نيفا وستين جارية بيضاء وسوداء وحبشية، وتقلد المباشرة المعلم منصور ضريمون والمعلم بشارة ورزق الله الصباغ مشاركان معه.
وكانت هذه الإجراءات كافية لأن يبذل المغضوب عليهم قصارى جهدهم للمصالحة على أنفسهم، وسعى الساعون في هذه المصالحة، وأنزل المحبوسون من القلعة إلى بيت إبراهيم بك الدفتردار، ابن الباشا بالأزبكية، وفيهم جرجس الطويل وأخوه حنا وجريس، وفرنسيس أخو غالي، ويعقوب كاتبه، وغيرهم، وأشاعوا عمل حسابهم، ثم دار الشغل، وأفلحت جهود الوسطاء، وتم الأمر على أربعة وعشرين ألف كيس، يدفعها المعلم غالي، ونزل له فرمان الرضا والخلع والبشائر، وذلك في آخر رمضان 1225؛ أي 29 أكتوبر 1810.
وفي اليوم التالي، نزلت طبلخانة الباشا إلى بيت المعلم غالي، واستمروا يضربون النوبة التركية ثلاثة أيام العيد ببيته، وكذلك الطبل الشامي، وباقي الملاعيب، وترمى لهم الخلع والبقاشيش، وأما المعلم غالي فقد حضر في 5 نوفمبر، وطلع إلى القلعة، وخلع عليه الباشا خلع الرضا، وألبسه فروة سمور، وأنعم عليه، ونزل له عن أربعة آلاف كيس من أصل الأربعة وعشرين ألف كيس المطلوبة في المصالحة ونزل المعلم غالي إلى داره وأمامه الجاويشية والأتباع بالعصي المفضضة، وأقبل عليه الأعيان من المسلمين والنصارى للسلام عليه والتهنئة له بالقدوم المبارك، وأما المعلم منصور ضريمون فقد جبروا خاطره بأن قيدوه بخدمة بيت إبراهيم بك، ابن الباشا، الدفتردار، وقيدوا رفيقيه في خدم أخرى.
كائنة حسين أفندي الروزنامجي
ومثلما حاسب الباشا المباشرين، جباة الضرائب، ومحصلي مال الميري، واعتقد فيهم الخيانة، واضطرهم إلى المصالحة على أنفسهم، فقد حاسب كذلك أفندية الروزنامة وكبيرهم، واعتقد فيهم عدم الأمانة، وأخذ منهم الغرامات الفادحة، وتسنى له بهذه الوسيلة أن يستنضح منهم المال، كما استنضحه من المباشرين الأقباط.
والروزنامة، هي المصلحة المكلفة بقيد إيرادات البلاد ومصرفها، ولديها دفتر ميري مال الكشوفية، وعنها تصدر السندات إلى الملتزمين الذين يدفعون المال الميري، وتحفظ سجلات بأسماء هؤلاء وقدر الميري الذي عليهم، ودفتر صرة الأشراف، شريف مكة والمدينة والينبع وأغوات الحرم وأهالي مكة والمدينة، ودفتر جرايات أهالي الحرمين، ودفاتر الجمارك أو الرسوم الجمركية التي على الدواوين (الجمارك) مثل إسكندرية ودمياط ورشيد وبولاق ومصر القديمة، ومال البهار والبحرين (الرسوم الجمركية على الغلال الواردة إلى البحرين وهما ساحلا بولاق ومصر القديمة)، والخردة؛ أي الرسوم المفروضة على الملاحي والمغنيات والحواة ومن إليهم، وغيره. ومن مهام الروزنامة ربط دفاتر الجمكية بمصر إلى العساكر وغيره، وربط قدر جملتها على الصحيح، ثم قيد أطيان الرزق بأسماء أصحابها، إلى غير ذلك. وصفوة القول أن الروزنامة هي المشرفة على الإدارة المالية بالبلاد، ومع أن الروزنامة كان قد بطل عملها على أيام الحملة الفرنسية واستبدل الفرنسيون بها نظاما آخر، وأقاموا لجنة عهدوا إليها ببعض اختصاصات الروزنامة، فقد استأنفت الروزنامة نشاطها عقب خروج الفرنسيين من البلاد.
وكان المقيدون بخدمة الروزنامة، الأفندية، ورئيسهم هو الروزنامجي ومن تحته شاجرتية تلاميذ ثلاثة وكيسدار أو كيسه دار، وهو حافظ أكياس الورق، ويعاون الروزنامجي في الإشراف على أعمال الأفندية، قلفاوات أربعة، ويحاسب كتبة الخزينة سائر الأفندية على ما بعهدتهم من المال الميري، ومن تحت يد المذكورين صيارف يهود ثلاثة، وكان للروزنامجي مرتب ثابت، عدا نصيبه من حساب ما يجمعه ويشتريه أمين أو آغا المشاق؛ أي نسل حبال القنب الذي كانت تطلبه الدولة القسطنطينية وما له من الضرائب التي على الغلال، وعليه أن يدفع في كل سنة في نظير منصبه هذا مال كشوفية كبير؛ أي الضريبة المعروفة باسم ميري الوظائف.
وكان رئيس الروزنامة وقتئذ، حسين أفندي الروزنامجي، وهو صاحب الأجوبة المشهورة على الأسئلة التي وجهها إليه «إستيف»
Estève
أحد رئيسي الإدارة المالية على أيام الحملة الفرنسية - وكان سلفه «بوسيلج»
- وقد شرح حسين أفندي في هذه الأجوبة نظام الإدارة والحكم في الروزنامة في عهد الفرنسيين - كما سبقت الإشارة إليه - ثم أسند إليه هذا المنصب فعلا بعد خروج الفرنسيين، وكان «مطلق التصرف في الأموال الميرية، ويبلغها إذا سئل فيها للقائم بالدولة؛ أي الباشا الوالي، إيرادا ومصرفا، ليكون إجمالا لا تفصيلا، لكونه أمينا وعدلا، وكان الإيراد والمنصرف محررا ومضبوطا في الدفاتر التي بأيدي الأفندية الكتاب، ومن انضم إليهم من كتاب اليهود في دفاترهم أيضا بالعبراني، لتكون كل فرقة شاهدة وضابطة على الأخرى.» وفي 18 أغسطس 1807 عينه الباشا في منصب الدفتردارية، ولكنه ما لبث أن عاد إلى منصبه الأول عندما وصل قابجي في 24 ديسمبر من العام نفسه، ومعه مرسومات، منها واحد بتقرير الدفتردارية باسم إبراهيم بن محمد علي.
ونجح الروزنامجي والأفندية في الاحتفاظ بسر مهنتهم، فاستخدموا خطا في تدوين سجلاتهم يعرف بخط القرمة، استعصت على غيرهم قراءته، فكانت هذه السرية من العوامل التي جعلتهم يستأثرون بإدارة مالية البلاد، ولكنها جعلت الباشا من ناحية أخرى، يتشكك في أمانتهم، وبخاصة عندما أعوزه المال، وسعى الساعون للوقيعة بحسين أفندي، فكانت محاسبة هذا الأخير، والمقربين إليه، الوسيلة التي تذرع بها الباشا لاستنضاح المال منهم، كما فعل مع المباشرين.
ولما كان الباشا قد «استحدث أقلام المكوس، وجعلها في دفاتر تحت أيدي الأفندية وكتبة الروزنامة، فقد صارت هذه من جملة الأموال الميرية في قبضها وتحاويلها، والباشا مرخي العنان للروزنامجي، ومرخص له في الإذن والتصرف.» واستمر ذلك حتى بدأ تغيره عليه، فكانت أول دسيسة أدخلوها في الروزنامجة، وابتداء فضيحتها وكشف سرها - كما قال الشيخ الجبرتي - أن اختار الباشا في 8 مارس 1810، أحد الأفراد المعروفين بالإدمان على المسكرات ويدعى خليل أفندي، وكان هذا كاتبا لخزينة محمد خسرو باشا، ولا يفيق من الشرب، وقلده النظر على الروزنامجي وكتابه، وسموه «كاتب الذمة؛ أي ذمة الميري من الإيراد والمنصرف، وكان ذلك عند فتح الطلب بالميري عن السنة الجديدة، فلا يكتب تحويل ولا تنبيه ولا تذكرة حتى يطلعوا خليل أفندي عليها ويكتب عليها علامته، فتكدر من ذلك الروزنامجي وباقي الكتبة.»
وكان الساعون بالوشاية في حق حسين أفندي الروزنامجي، بعض الأفندية الخاملين الذين أنهوا إلى المسئولين أن الروزنامجي ومن معه من الكتاب يوفرون لأنفسهم الكثير من الأموال الميرية ويتوسعون فيها، وكان سبب هذه الوشاية أن حسين أفندي ائتمن أحد خواص كتابه، أحمد اليتيم، «فأرخى له العنان، لفطانته ودرايته، فكان هو المشار إليه من دون الجميع، ويتطاول عليهم، ويمقت من فعل دون اطلاعه، وربما سبه ولو كان كبيرا أو أعلى منزلة منه في فنه، فيمتلئ غيظا، وينقطع عن حضور الديوان، فيهمله، ولا يسأل عنه، والأفندي الكبير لا يخرج عن رأيه لكونه سادا مسد الجميع، فدبروا على أحمد أفندي المذكور وحفروا له وأغروا به حتى نكبه الباشا.»
فحدث في أبريل 1810، أن كاشف إقليم الدقهلية أبلغ الباشا أنه قاس قطعة أرض داخلة ضمن إقطاع أحمد أفندي اليتيم، فوجد مساحتها خلاف المقيد بدفتر المقياس الأول، ومسقوط منها نحو الخمسمائة فدان، وذلك من فعل أحمد اليتيم ومخامرته مع النصارى الكتبة والمساحين؛ لأنهم يراعونه ويدلسون معه؛ لأن دفتر الروزنامة بيده، فأمر الباشا بالقبض عليه وسجنه، وتشفع فيه السيد محمد المحروقي وعلي كاشف الكبير الألفي، وكانا حاضرين بالمجلس، وبدعوى أنه مريض بالسرطان في رجله، أخذه المحروقي إلى داره، ثم راجع الباشا في أمره، فقرر عليه ثمانين كيسا بعد أن قال: إني كنت أريد أن أقول ثلاثمائة كيس، فسبق لساني فقلت مائة كيس، وقد تجاوزت لأجلك عن عشرين كيسا، وهو يقدر على أكثر من ذلك؛ لأنه يفعل كذا وكذا.
واستطرد الشيخ يقول: «وقد عدد الباشا أشياء تدل على أن أحمد أفندي اليتيم ذو غنية كبيرة، منها أنه لما سافر إلى الباشا بدفتر الفرضة (وقد سبقت الإشارة إلى سفره به مع المعلم غالي وعبد الله بكتاش) إلى ناحية أسيوط، طلع إلى البلدة في هيئة وصحبته فرس وسحاحير وبشخانات وكرارات وفراشون وخدم وكيلارجية ومصاحبجية، والحكيم والمزين، فلما شاهد الباشا هيئته سأل عنه وعن منصبه، فقيل له إنه جاجرت من كتبة الروزنامة، فقال إذا كان جاجرت بمعنى تلميذ، فكيف يكون باش جاجرت أو قلفاوات الإقليم، فضلا عن كبيرهم الروزنامجي، وأسر ذلك في نفسه.
وطفق الباشا يسأل ويتجسس عن أحوالهم. وفي مارس 1810 قلد خليل أفندي كتابة الذمة في الروزنامة - كما تقدم - وانضم إليه الكارهون للمذكور الذين كانوا خاملي الذكر بوجوده، وتوصلوا إلى باب الباشا وكتخدا بك، وأنهوا فيه أنه يتصرف في الأموال الأميرية كما يختار، وأن حسين أفندي الروزنامجي لا يخرج عن مراده وإشارته وبيته مفتوح للضيفان، ويجتمع عنده كل ليلة عدة من الفقراء، يثرد لهم الثريد في القصاع، ويواسي الكثير من أهل العلم وغيرهم، ويتعهد بكثير من الملتزمين بالفرض التي تقرر حصصهم، ويضمها في حسابه، ويصبر عليهم حتى يوفوها له في طول الزمن، ونحو ذلك، وكل ما ذكر دليل على سعة الحال والمقدرة.
وأما الذنب الذي أخذه الباشا به، فإن القدر المذكور (500 فدان) من الطين، كان من الموات، فاتفق أحمد أفندي اليتيم مع شركائه ملتزمي الناحية وجرفوه وأحيوه وأصلحوه بعد أن كان خرسا ومواتا لا ينتفع به، وجعلوه صالحا للزراعة، وظن أن ذلك لا يدخل في المساحة فأسقطه منها، فوقع له ما وقع، وأسقطوا اسمه من كتاب الروزنامة، ومنعوه منها.
وأمر الباشا في الوقت نفسه الكتاب بعمل حساب حسين أفندي الروزنامجي عن السنتين السابقتين (1223، 1224)، واستمرت عملية الحساب هذه أياما، ولكنها أسفرت عن زيادة مائة وثمانين كيسا لحسين أفندي، فلم يعجب الباشا ذلك، واستخونهم في عمل الحساب، ثم ألزم حسين أفندي بدفع أربعمائة كيس، وقال أنا كنت أريد منه ستمائة كيس، وقد سامحته في مائتين، في نظير الذي تأخر له. وأظهر الباشا رضاءه عن حسين أفندي، فخلع عليه فروة في اليوم التالي باستقراره في منصبه، ونزل حسين أفندي إلى داره، ولكنه سرعان ما حدث بعد الغروب أن حضر إليه جماعة من العسكر في هيئة مزعجة، ومعهم مشاعل، وطلبوا الدفاتر، وهم يقولون: معزول، معزول، وأخذوا الدفاتر وذهبوا، وحولوا عليه الحوالات بطلب الأربعمائة كيس، فاجتهد في تحصيلها ودفعها، ثم ردوا له الدفاتر ثانيا .
واستطاع خليل أفندي بحكم وظيفته، كاتب الذمة، الإحاطة بجميع أسرار كتبة الروزنامة وموظفيها، ومعرفة أساليبهم في إدارة أعمال هذه المصلحة؛ حيث إنه لا يكتب تحويل ولا ورقة ميري ولا خلاف ذلك مما يسطر في ديوانهم حتى يطلع عليه خليل أفندي المذكور ويرسم عليه علامته، وطفق الباشا يسأل ويتجسس عن أحوال الأفندية، وكل قليل يستخبر الباشا من خليل أفندي، ثم انتقل ديوان الروزنامة إلى بيت خليل أفندي نفسه، تجاه منزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية، وترأس بالديوان قاسم أفندي كاتب الشهر (المختص بشئون الالتزام في الوجه القبلي، وجمارك الثغور، ومال البهار والبحرين والخردة)، وقريبه قيطاس أفندي، ومصطفى أفندي باش جاجريت.»
واصطحب إبراهيم بك عند ذهابه إلى الصعيد في أواخر أبريل 1812 لتحرير وقبض الأموال، بعد القضاء نهائيا على المماليك، قاسم أفندي، وظل قيطاس ومصطفى باش جاجريت موضع رعاية حسين أفندي الروزنامجي وولده محمد أفندي، ولا يتعرضان لهما فيما يتصدران له، ويضمنانه في عهدتهما، ووثق إبراهيم بك في قاسم أفندي، الذي صار خصيصا به مثل الوزير الصاحب والنديم، ورتب له الباشا في كل سنة ثمانين كيسا خلاف الخروج والكساوي، وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات، وما يكون فيه تحصيل الأموال، فكأنه قصر في كشف بعض الأشياء، وأرسل إبراهيم إلى والده يعلمه بخيانته هو وكاتب الأرزاق، وضرب قاسم أفندي علقة قوية ووصل خبر هذه النكبة إلى القاهرة في 4 يناير 1813، فانتهز الروزنامجي وابنه هذه الفرصة، وصارا يقصران مع قيطاس أفندي ومصطفى أفندي، وأظهر ابن الروزنامجي مكمون غيظه في حقهما، ومانعهما أيضا، وخشن القول لهما، فاتفقا على إنهاء الحال إلى باب الباشا وشرعا يكيدان للروزنامجي وولده.
فما إن رجع إبراهيم إلى القاهرة في 23 يناير 1813، حتى بادر قيطاس ومصطفى برفع أمرهما إلى الباشا، ويقول الشيخ الجبرتي: «ولعل ذلك بإغراء باطني على حسين أفندي الروزنامجي، فعرفا الباشا عن مصارف وأمور يفعلها حسين أفندي ويخفيها عن الباشا، وأنه إذا حوسب على السنين الماضية يطلع عليه ألوف من الأكياس، وكان محمد علي أذن لحسين أفندي في صرف الجامكية السائرة للعامة والخاصة فيما يتعلق بمشايخ العلم والأفندية الكتبة والسيد محمد المحروقي بالكامل، وما عداهم ربع استحقاقهم وكتب له فرمانا بذلك، فقال له الروزنامجي: في بعضهم من يستحق المراعاة كبعض أهل العلم الخاملين وأهل الحرمين المهاجرين ومستوطنين بمصر بعيالهم وليس لهم إيراد يعيشون منه، إلا ما هو مرتب لهم من العلائف في كل سنة، وكذلك بعض الملتزمين الذين اعتادوا سداد ما عليهم من الميري وبعضه بما لهم من الإتلافات والعلائف والغلال، فقال له: النظر في ذلك لرأيك، فإن هذا شيء يعسر ضبط جزئياته، فاعتمد على ذلك وطفق يفعل في البعض بالنصف والبعض بالثلث أو الثلثين، وأما العامة والأرامل فيصرف لهم الربع لا غير حسب الأمر، ويقاسون في تحصيل ربع استحقاقهم الشدائد من السعي وتكرار الذهاب والتسويف والرجوع في الأكثر من غير شيء مع بعد المسافة، وفيهم الكثير من العواجز، فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع، وطلع إلى الباشا فعرفه بذلك، فقال الباشا: لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني، وما كان بدون ذلك فلا، وأنكر الحال السابق منه، وقال: هو متبرع فيما فعله، فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات، وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه، فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالا على الحالة التي هو معه عليها.»
فطلب الآن الباشا محاسبة حسين أفندي عن أربع سنوات متقدمة، فخرج قيطاس أفندي ومصطفى أفندي باش جاجرت من عنده «وأخذا صحبتهما مباشرا تركيا، ونزلوا على حين غفلة بعد العصر (23 يناير 1813) وتوجهوا إلى منزل أخيه، عثمان أفندي السرجي، ففتحوا خزانة الدفاتر، وأخذوها بتمامها إلى بيت ابن الباشا إبراهيم بك الدفتردار، واجتمعوا في صبحها (24 يناير) للمحاققة والحساب مع أخيه عثمان أفندي المذكور، واستمروا في المناقشة والمحاققة عدة أيام مع المرافعة والمدافعة، والميل الكلي على حسين أفندي، ويذهبون في كل ليلة يخبرون الباشا بما يفعلون، وبالقدر الذي ظهر عليه، فيعجبه ذلك، ويثني عليهما ويحرضهما على التدقيق، فتنتفخ أوداجهما، ويزيدان في الممانعة والمدافعة والمرافعة في الحساب، وحسين أفندي على جليته ويظن أنه على عادته، وأسفر الحساب عن سنة واحدة، نحو الألف ومائتي كيس وكسور؛ أي خمسة آلاف كيس عن أربع سنوات، فتقلق حسين أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه، ولم يجد مغيثا ولا شافعا ولا دافعا.»
وفي 9 فبراير، أحضره وخلع عليه خلعة الإبقاء في منصبه في الروزنامة، وكان غرض الباشا من ذلك تطمينه، حتى يدفع هذا المبلغ، ثم أرسل إليه يطلب منه خمسمائة كيس من أصل الحساب، «فضاق خناقه، ولم يجد له شافعا ولا ذا مرحمة، فأرسل ولده إلى محمود بك الديودار يستجيره فيه، وليكون له واسطة بينه وبين الباشا، وهو رجل ظاهره خلاف باطنه، فذهب معه إلى الباشا، فبش في وجهه ورحب به، وأجلسه محمود بك في ناحية من المجلس، وتناجى هو مع الباشا، ورجع إليه يقول له: إنه يقول إن الحساب لم يتم إلى هذا الحين، وأنه ظهر على أبيك تاريخ أمس خمسة آلاف كيس وزيادة، وأنا تكلمت معه، وتشفعت عنده في ترك باقي الحساب والمسامحة في نصف المبلغ والكسور، فيكون الباقي ألفين وخمسمائة كيس تقومون بدفعها، فقال: ومن أين لنا هذا القدر العظيم، وقد عزلنا من المنصب أيضا، حتى كنا نتداين ولا يأمننا الناس إذا كان القدر دون هذا أيضا؟ فرجع إلى الباشا، وعاد إليه يقول له: لم يمكني تضعيف القدر سوى ما سامح فيه، وأما المنصب فهو عليكم، وفي غد يطلع والدك، ويتجدد عليه الإبقاء، وينكمد الخصم، وعلى الله السداد، ونهض محمد أفندي ابن الروزنامجي وقبل يده وتوجه، فنزل إلى دارهم، وأخبر والده بما حصل، فزاد كربه، ولم يسعه إلا التسليم، وركب في صبحها (10 فبراير) وطلع إلى الباشا، فخلع عليه، ونزل إلى داره بقهره، وشرع في بيع تعلقاته وما يتحصل لديه.»
ولكن الباشا لم يلبث أن عزله من منصبه، وفي 15 فبراير خلع على مصطفى أفندي «باش جاجرت» ونزل هذا إلى داره، وأتاه الناس يهنئونه بمنصب الروزنامجي. وفي 7 مارس طلب الباشا حسين أفندي الروزنامجي، «وطلب منه ما قرره عليه، وكان قد باع حصصه وأملاكه ودار مسكنه، فلم يوف إلا خمسمائة كيس، فقال له: ما لك لم توف القدر المطلوب، وما هذا التأخير؟ وأنا محتاج إلى المال، فقال: لم يبق عندي شيء، وقد بعت التزامي وأملاكي وبيتي وتداينت من الربويين حتى وفيت خمسمائة كيس، وها أنا بين يديك ، فقال له: هذا كلام لا يروج علي، ولا ينفعك بل أخرج المال المدفون، فقال: لم يكن عندي مال مدفون، وأما الذي أخبرك عنه، فيذهب فيخرجه من محله، فحنق منه وسبه وقبض على لحيته ولطمه على وجهه وجرد السيف ليضربه، فترجى فيه الكتخدا والحاضرون، فأمر به فبطحوه، وأمر القواسة الأتراك بضربه، فضربوه بالعصي المفضضة التي بأيديهم، بعد أن ضربه هو بيده عدة عصي وشج جبهته، حتى أتوا عليه، ثم أقاموه وألبسوه فروته وحملها وهو مغشي عليه، وأركبوه حمارا وأحاط به خدمه وأتباعه، حتى أوصلوه إلى منزله، وأرسل معه جماعة من العسكر يلازمونه، ولا يدعونه يدخل إلى حريمه، ولا يصل إليه منهم أحد.
وركب في أثره محمود بك الديودار بأمر الباشا، وعبر داره ودار أخيه عثمان أفندي المذكور، وأخذ صحبته إلى القلعة، وسجنوه، أما ولده وأخواه فإنهم تغيبوا من وقت الطلب، واختفوا، ونزل إليه في اليوم الثاني (8 مارس 1813) إبراهيم آغا آغات الباب يطالبه بغلاق ثمانمائة كيس وقتئذ، فقال له: وكيف أحصل شيئا وأنا رجل ضعيف، وأخي عثمان عندكم في الترسيم (الحبس)، وهو الذي يعنيني ويقضي أشغالي، وأخذتم دفاتري المختصة بأحوالي مع ما أخذتموه من الدفاتر، وأقام عنده إبراهيم آغا برهة، ثم ركب إلى الباشا وكلمه في ذلك، فأطلقوا له أخاه يسعى في التحصيل.» •••
تلك إذا طائفة من الأمثلة التي توضح الأساليب التي اتبعها الباشا في تحصيل المال، والتي جعلت الشيخ الجبرتي ينحى باللائمة الشديدة على حكومته، ويوجه لشخص الباشا نفسه نقدا لاذعا مرا، فيقول: إن «من طبعه الحقد والحسد والتطلع لما في أيدي الناس، وأن لا غرض له سوى سلب أموال الناس من الأغنياء والفقراء.»
وسواء أكان الشيخ الجبرتي محقا في نقده لهذه الأساليب، أم كان الباشا مرغما على اللجوء إليها؛ لحاجته الملحة إلى المال، للأسباب التي ذكرناها في موضعها، فإن أحدا من المشايخ والزعماء الشعبيين لم يعترض على الباشا في شيء من تصرفاته هذه، بل إن المتصدرين منهم كانوا يقبلون على تأييد الباشا ومعاضدته، واكتفى الشيخ الجبرتي ومن نحا نحوه بالنذير الصامت، ووجد الشيخ متنفسا لكربه وألمه، في تسطير آرائه في الطيارات أو قصاصات المذكرات التي استعان بها في تدوين تاريخه، فلم يحرك المشايخ ساكنا حتى شرع الباشا في حاجته المستمرة إلى المال، يعمل على مقاسمتهم إيراداتهم الخاصة من فائض الالتزام ومن ريع الأوقاف التي تنظروا عليها، فهب المتصدرون لمعارضته، وكان اصطدامهم معه منشأ الكارثة التي حاقت بهم، وبالسيد عمر مكرم خصوصا، والذريعة التي اتخذها الباشا لإقصائهم عن شئون الحكم عموما، وتجريدها من تلك الزعامة الموهومة التي خيل إليهم أنها من حقهم، وأنهم جديرون بها.
الفصل الثالث
الحكومة الموطدة
إقصاء المشايخ
تمهيد
كان من مقتضيات الانفراد بالسلطة، حرمان المشايخ من ذلك النفوذ الذي كان لهم بين الأهلين، في الزمن الماضي، والذي أرادوا أن يبنوا عليه - بالرغم من وهنه الآن، بل زواله - زعامة في وسعها الاجتراء على معارضة الباشا ومقاومته، وكان خليقا بهؤلاء المشايخ أن يفشلوا فيما ابتغوه، لأسباب مردها إلى طبيعة هذا النفوذ نفسه، الذي تولد في بيئة هيأت له القالب الذي أفرغ فيه، وحددت له المدى الذي ما كان يقدر على تجاوزه، فعجز هذا النفوذ عن سعة ما عمل المشايخ لإدخاله في دائرته الضيقة المحدودة، وذلك في وقت كان قد أصبح فيه الزمان غير الزمان، فاستبدلت بفوضى تشتت السلطة السالفة، حكومة توفر لها الاستقرار في وجه كل العقبات التي صادفتها في الداخل، أو الأخطار التي أتتها من الخارج، وتربع في دستها عاهل وجد لزاما عليه أن يجمع أسباب السلطة في يده هو وحده؛ كي يمهد لنقل باشوية مصر من مجرد مقاطعة عادية من أملاك الدولة العثمانية إلى باشوية وراثية، ناهيك بما طرأ على المشايخ أنفسهم من تبدل وتغير، جرد سوادهم من صفات الورع والتقوى والزهد في الدنيا، والاشتغال بأمور الدين الحنيف، وهي الصفات التي أوجدت نفوذهم في الزمن السابق، فصاروا الآن يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويتنافسون على أماكن الزعامة والصدارة، السبيل الظاهر للتمتع بلذائذ الحياة، ولبلوغ الجاه والسلطان بين أقوامهم. وكان من جراء التكالب على هذه العروض الزائلة، أن دبت الخلافات والانقسامات بينهم، وذهبت ريحهم، وفقدوا إيمان الأهلين القديم بزعامتهم، واحترامهم لهم، ونزلت أقدارهم في أعين السلطات القائمة، وضاع المسوغ الذي كان لنفوذهم السابق، وسهل القضاء عليهم. (1) الأصل في نفوذ المشايخ
وكان مبعث زعامة المشايخ القديمة، الترتيب الذي وضعه العثمانيون لحكومة هذه البلاد منذ أن افتتحوها في القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي، وهو ترتيب مكن البكوات المماليك من الظفر بالسلطة الفعلية، بينما بقي للسلطان العثماني في آخر الأمر السيادة الرسمية فحسب، ممثلة في عماله وضباطه وعلى رأسهم الباشا الذي كان لا حول له ولا طول أمام طغيان العسكريين رؤساء الحاميات العثمانية من جهة، والبكوات المماليك من جهة أخرى. وكان على المصريين وحدهم أن وقعت ويلات هذا الترتيب، وقد ظلوا يتذوقون مرارته أجيالا طويلة.
ولما كان العثمانيون والبكوات المماليك - إلا من ندر من بينهم - يجهلون لغة البلاد. ومنعت الأوضاع اتصال المحكومين بالهيئات الحاكمة، فلم يكن للأهلين من ملجأ يلجئون إليه في نكباتهم سوى مشايخهم وفقهائهم، يناشدونهم المعاونة في تخفيف نكبتهم، ويرجونهم التوسط والشفاعة لدى البكوات لرفع المظالم عنهم، واستطاع المشايخ والفقهاء في حالات عديدة إسداء هذه المعونة، وكان لهؤلاء في ذلك العهد الغابر مكانة مرموقة لدى الهيئات الحاكمة لاشتغالهم بالدين دون سواه، واشتهارهم بالصلاح، ولظفرهم بمحبة الشعب واحترامه العظيم لهم، وهم الذين قاموا آنئذ بوظائفهم خير قيام، من حيث قراءة صحيح البخاري في الجوامع عند حدوث الملمات، والتوفر على البحث والدراسة، وتلقين الأهلين أصول العبادة والدين الحنيف في البنادر والقرى، والتدريس في الجامع الأزهر، والجوامع الأخرى الهامة في دسوق وطنطا والإسكندرية وغيرها، فتمتعوا بنفوذ روحي كبير على سواد الأهلين، وارتفعت مكانة هؤلاء المشايخ والفقهاء من ناحية أخرى؛ لأن البكوات المماليك نزعت نفوسهم إلى تبجيل العلماء وأهل الصلاح والتقوى، عادة الطوائف والجماعات التي لجهلها بقواعد الدين الصحيح وإهمالها لها تحرص على الاحتفاظ بمظاهر التمسك بالدين، ومن أولى هذه، إضفاء الاحترام والتبجيل على رجاله، ومن دلائل هذا الاحترام - ولا شك - قبول وساطة المشايخ والعلماء وشفاعتهم، ثم إن البكوات ما لبثوا أن وجدوا في ارتفاع مكانة المشايخ وازدياد نفوذهم الروحي بين الشعب، وما يتيح لهم استخدام هؤلاء كحلقة اتصال بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة.
ولا جدال في أن المشايخ قد أفادوا فائدة كبيرة من هذا التطور الذي حدث نتيجة لالتفاف الأهلين حولهم وتوسيطهم لدى الهيئات الحاكمة من جهة، ولتبجيل الهيئات الحاكمة، وعلى الأخص البكوات المماليك لهم، ثم توسيط هؤلاء كذلك لهم لدى الشعب؛ لمؤازرتهم في اجتياز الأزمات التي تعرضوا لها من جهة أخرى، فصارت لهم الجرأة عند اشتداد الخطوب بالأهلين على أيدي البكوات أن ينذروا ويتوعدوا البكوات، بل ويتهددونهم بتأليب الرعية عليهم إذا بدا منهم إهمال لنصحهم أو أبوا الاستماع لوساطتهم وشفاعتهم، وكسب المشايخ والعلماء من هذا الوضع مزايا عديدة، لعل أهمها عدم مساس السلطات الحاكمة المملوكية والعثمانية بنظام الوقف، أو الأوقاف التي حبست للإنفاق من ريعها على المساجد والسبل، ووجوه البر والصدقات، والمدارس وما إلى ذلك، وكان المشايخ أنفسهم هم المنتظرون على كثير من هذه الأوقاف، كما كانت هذه مصدر عيش لعديدين من الأهلين. قال الشيخ الجبرتي: «إن هذه الإرصادات والأطيان موضوعة من أيام الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي في القرن الخامس، وجعلها من مصاريف بيت المال؛ ليصل إلى المستحقين بعض استحقاقهم من بيت المال بسهولة، ثم اقتدى به في ذلك الملوك والسلاطين والأمراء إلى وقتنا هذا، فيبنون المساجد والربط والخوانق والأسبلة، ويرصدون عليها أطيانا يخرجونها من زمام أوسيتهم، فيستغل خراجها أو غلالها لتلك الجهة، وكذلك يربطون على بعض الأشخاص من طلبة العلم والفقراء على وجه البر والصدقة ليتعيشوا بذلك، ويستعينوا به على طلب العلم، وإذا مات المرصد عليه ذلك، قرر القاضي أو الناظر خلافه ممن يستحق ذلك، وقيد اسمه في سجل القاضي ودفتر الديوان السلطاني عند الأفندي (من أفندية الروزنامة) المقيد بذلك، الذي عرف بكاتب الرزق، فيكتب له ذلك الأفندي سندا بموجب تقرير يقال له الإفراج، ثم يضع عليه علامته ثم علامة الباشا والدفتردار، ولكل إقليم من الأقاليم القبلية والبحرية دفتر مخصوص عليه طرة من خارج، مكتوب فيها اسم ذلك الإقليم ليسهل الكشف والتحرير والمراجعة عند الاشتباه، وتحرير مقادير حصص أرباب الاستحقاقات، ولم يزل ديوان الرزق الإحباسية محفوظا مضبوطا في جميع الدول المصرية جيلا بعد جيل، لا يتطرقه خلل إلا ما ينزل عنه أربابه لشدة احتياجهم، بالفراغ لبعض الملتزمين بقدر من الدراهم معجل، ويقرر للمفرغ على نفسه قدرا مؤجلا دون القيمة الأصلية، في نظير المعجل الذي دفعه للمفرغ، ويسمونها حينئذ داخل الزمام، ولم تزل على ذلك بطول القرون الماضية.»
ولعل من أهم المزايا المادية التي كسبها المشايخ كذلك من الوضع الذي صار لهم، بقاء النظام المعروف باسم مسموح المشايخ، وقد سبق الكلام عنه، وكاد الملتزمون يكونون جميعا من المشايخ وأغنياء القاهرة، وظلوا يحصلون من الفلاحين في الأرض الداخلة ضمن حصصهم، الضرائب التي كان المشايخ والملتزمون معفون منها، في مسموحهم.
واشتهر في العهد العثماني المملوكي طائفة من المشايخ، منهم من أعلام القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي، الشيخ شمس الدين الشرنبابلي «شيخ مشايخ الأزهر في عصره»، والشيخ شمس الدين محمد البقري، وكان غالب علماء مصر إما تلميذه أو تلميذ تلميذه، واستحق طائفة منهم بما بلغوه من علم، وتحلوا به من صلاح وتقوى، ما صاروا يتمتعون به من نفوذ لدى الهيئتين الحاكمة والمحكومة على السواء، وتميز من بينهم عديدون في القرن الثاني عشر الهجري والثامن عشر الميلادي، كانوا ملجأ أصحاب الحاجات، يشفعون للناس، ويتوسطون لقضاء حاجاتهم لدى السلطات الحاكمة، ولرفع الظلم عنهم، اشتهروا بالزهد في الدنيا، والانقطاع للتدريس ونشر الهداية، فصاروا موضع احترام وتبجيل الأهلين، ويخشاهم البكوات وسائر الحكام ويهابونهم، منهم الشيخ سليمان المنصوري، المتوفى سنة 1169ه/1756م، وكان في عصره «أحد الصدور المشار إليهم، أتقن الأصول ومهر في الفروع، ودارت عليه مشيخة الحنفية، ورغب الناس في فتاويه، وكان جليل القدر، عالي الذكر، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة.» والشيخ سليمان المنصوري هو الذي تصدى لمعارضة محاولة كان قد أزمع عليها السلطان العثماني في عام 1735 للنيل من نظام الوقف، فوردت في أيامه من دار السلطنة مراسيم لإبطال بعض المرتبات التي جرت العادة بصرفها من ريع الأوقاف المرصدة على الخيرات والصدقات وما إليها، وقال القاضي: «أمر السلطان لا يخالف، ويجب إطاعته»، فكان جواب الشيخ: إن هذه المرتبات «فعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جرت به العادة في مدة الملوك المتقدمين، وتداولته الناس، وصار يباع ويشترى، ورتبوه على خيرات ومساجد وأسبلة، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يعطل ذلك، وإن أمر ولي الأمر بإبطاله لا يسلم له ويخالف أمره؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ولا يسلم للإمام في فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه أيضا.» وتم للشيخ ما أراد.
ومن المشايخ الذين ذاع صيتهم، واحتفى بهم البكوات المماليك والباشوات العثمانيون على السواء، وخشوا جانبهم، الشيخ محمد بن سالم الحفناوي أو الحفني نسبة إلى بلده حفنا، وهي قرية من أعمال بلبيس، ولد على رأس المائة (1100ه/1688م)، وتوفي سنة 1180ه/1767م، كان «على غاية من العفاف ... كريم الطبع جدا، وليس للدنيا عنده قدر ولا قيمة، جميل السجايا، مهيب الشكل ... على مجالسه هيبة ووقار ... ومن مكارم أخلاقه أنه لو سأله إنسان أعز حاجة عليه أعطاها له كائنة ما كانت، ويجد لذلك أنسا وانشراحا، ولا يعلق أمله بشيء من الدنيا، وله صدقات وصلات خفية وظاهرة ... أقبل عليه الوافدون بالطول والعرض، وهادنه الملوك، وقصده الأمير والصعلوك، فكل من طلب شيئا من أمور الدنيا أو الآخرة وجده.» قال عنه محمد راغب باشا أحد الولاة العثمانيين في ذلك الوقت (1745-1748): إنه سقف على مصر من نزول البلاء، ونظيره قول بعض الأمراء (البكوات) حين قيل له: الأستاذ الحفناوي من عجائب مصر، قال: بل قل من عجائب الدنيا. تدخل في النزاع الدائر بين البكوات أيام مسعى علي بك الكبير للظفر بشياخة البلد، وكان هذا قد نفي إلى الصعيد، وأراد خصومه مطاردته، فعقدوا جمعية، وعزموا على تشهيل تجريدة، وتكلموا وتشاوروا في ذلك، فتكلم الشيخ الحفناوي في ذلك المجلس، وأفحمهم بالكلام، ومانع في ذلك، وقال: أخربتم الأقاليم والبلاد، في أي شيء هذا الحال، وكل ساعة خصام ونزاع، وتجاريد، علي بك هذا رجل أخوكم وخشداشكم؛ أي شيء يحصل إذا أتى وقعد في بيته، واصطلحتم مع بعضكم وأرحتم أنفسكم والناس، وحلف أنه لا يسافر أحد بتجريدة مطلقا، وإن فعلوا ذلك لا يحصل لهم خير أبدا، فقالوا: إنه هو الذي يحرك الشر، ويريد الانفراد بنفسه ومماليكه، وإن لم نذهب إليه أتى هو إلينا، وفعل مراده فينا، فقال لهم الشيخ: أنا أرسل إليه مكاتبة، فلا تتحركوا بشيء حتى يأتي رد الجواب، فلم يسعهم إلا الامتثال، فكتب له الشيخ مكتوبا وبخه فيه وزجره ونصحه ووعظه، وأرسلوه إليه، وقد مرض الشيخ بعد هذا الحادث بأيام ورمى بالدم وتوفي في 27 ربيع الأول 1181 / 23 أغسطس 1767.
وكان من طرازه الشيخ علي بن موسى المعروف بابن النقيب (1125-1186/1713-1772)، وأخوه السيد بدر الدين، وقد درس الأول بالمشهد الحسيني واشتهر أمره وزاد صيته ... وكان ذا جود وسخاء وكرم ومروءة ووفاء، لا يدخل في يده شيء من متاع الدنيا، إلا وبذله لسائليه، وأغدق به على مبتغيه، وقد خلفه عند وفاته في إملاء درس الحديث النبوي بمسجد المشهد الحسيني، أخوه الذي أقبلت عليه الناس والأعيان، ومشى على قدم أخيه، وسار سيرا حسنا، وجرى على نسقه وطبيعته في مكارم الأخلاق وإطعام الطعام، وإكرام الضيفان، والتردد على الأعيان والأمراء؛ أي البكوات المماليك، والسعي في حوائج الناس، والتصدي لأهل حارته وخطته في دعاويهم، وفصل خصوماتهم وصلحهم، والذب عنهم، ومدافعة المعتدي عليهم، ولو من الأمراء والحكام في شكاويهم وتشاجرهم وقضاياهم، حتى صار مرجعا وملجأ لهم في أمورهم ومقاصدهم، وصار له وجاهة ومنزلة في قلوبهم، ويخشون جانبه وصولته عليهم.
واشتهر بالورع والزهد الشيخ علي بن أحمد الصعيدي العدوي المالكي (1112-1189 / 1700-1775)، عرف عنه أنه طالما كان يبيت بالجوع في مبدأ اشتغاله بالعلم، وكان لا يقدر على ثمن الورق، ومع ذلك إن وجد شيئا تصدق به، ولقد كان شديد الشكيمة في الدين، يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة ويحب الاجتهاد في طلب العلم، ويكره سفاسف الأمور، «وينهى عن شرب الدخان، ويمنع من شربه بحضرته وبحضرة أهل العلم تعظيما لهم، وإذا دخل إلى منزل من منازل الأمراء (البكوات المماليك) ورأى من يشرب الدخان شنع عليه وكسر آلته، ولو كانت في يد كبير الأمراء، وشاع عنه ذلك، وعرف في جميع الخاص والعام، وتركوه بحضرته، فكانوا عندما يرونه مقبلا من بعيد، نبه بعضهم بعضا ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم وأخفوها عنه، وإن رأى شيئا منها أنكر عليهم ووبخهم وعنفهم وزجرهم»، وخشي البكوات جانبه، حتى إن علي بك الكبير في أيام إمارته كان إذا دخل عليه الشيخ في حاجة أو شفاعة، أخبروه قبل وصوله إلى مجلسه، فيرفع الشبك من يده، ويخفوه من وجهه وذلك مع عتوه وتجبره وتكبره.
واتفق أن الشيخ الصعيدي دخل على علي بك في بعض الأوقات «فتلقاه على عادته وقبل يده وجلس، فسكت الأمير مفكرا في أمر من الأمور، فظن الشيخ إعراضه عنه، فأخذته الحدة، وقال مخاطبا له باللغة الصعيدية: يامين، يامين، يا من هو غضبك ورضاك على حد سواء، بل غضبك خير من رضاك، وكرر ذلك، وقام قائما، وهو يأخذ بخاطره، ويقول: أنا لم أغضب من شيء، ويستعطفه، فلم يجبه، ولم يجلس ثانيا، وخرج ذاهبا، ثم سأل علي بك عن القصة التي أتى بسببها، فأخبروه، فأمر بقضائها.» واستمر الشيخ منقطعا عن الدخول إليه مدة، حتى ركب في ليلة من ليالي رمضان مع الشيخ نور الدين حسن الجبرتي، والد عبد الرحمن، «في حاجة عند بعض الأمراء، ومرا ببيت علي بك، فقال له نور الدين: أدخل بنا نسلم عليه، فقال: يا شيخنا أنا لا أدخل، فقال: لا بد من دخولك معي، فلم تسعه مخالفته، وانسر بذلك علي بك تلك الليلة سرورا كثيرا.» ولما مات علي بك، وصار الأمر لمحمد أبي الذهب، لقي الشيخ علي الصعيدي منه كل إجلال، فقد كان أبو الذهب «يجل من شأنه ويحبه ولا يرد شفاعته في شيء أبدا، وكل من تعسر عليه قضاء حاجة ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته، فيكتبها مع غيرها في قائمة، حتى تمتلئ الورقة، ثم يذهب إلى الأمير بعد يومين أو ثلاثة، فعندما يستقر في الجلوس، يخرج القائمة من جيبه، ويقص ما فيها من القصص والدعاوي، واحدة بعد واحدة، ويأمره بقضاء كل منها، والأمير لا يخالف ولا ينقبض خاطره في شيء من ذلك.
وفي أثناء ذلك يقول له: لا تضجر ولا تأسف على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا، فإن الدنيا فانية، وكلنا نموت، ويوم القيامة يسألنا الرب عن تأخرنا عن نصحك، وها نحن قد نصحناك، وخرجنا من العهدة، وإذا تلكأ عليه في شيء صرخ عليه، وقال له: اتق النار وعذاب جهنم، ثم يمسك يده ويقول له: أنا خائف على هذه اليد الكويسة من النار، وأمثال ذلك.» وكان رأي الشيخ الجبرتي فيه أنه لم يخلف بعده مثله.
وكان من هذا الطراز نفسه، الشيخ أحمد بن محمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الخلوتي الشهير بالدردير (1127-1201 / 1715-1787)، كان «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بالحق، ولا يأخذه في الله لومة لائم، وله في السعي على الخير يد بيضاء»، كثر تدخله أيام حكم إبراهيم ومراد للانتصاف للشعب منهما، ولدفع ظلمهما وظلم عمالهما عنه، من ذلك ما فعله لوقف اعتداءات حسين بك شعت أو الشغت، بمعنى يهودي في مارس 1786، عندما نهب حسين بك دار أحد الأهلين بحي الحسينية، فثار هؤلاء «وحضروا إلى الجامع الأزهر، ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير، فونسهم وساعدهم بالكلام، وقال لهم أنا معكم، فخرجوا من نواحي الجامع، وقفلوا أبوابه، وصعد منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة، وأغلقوا الحوانيت، وقال لهم الشيخ الدردير: في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة، وأركب معكم، وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم.» فخشي المسئولون العاقبة وخافوا من تضاعف الحال، وتعهدوا بإحضار المنهوبات، ولو أن حسين الشغت لم يلبث أن أجاب - على سؤال إبراهيم بك «كلنا نهابون، أنت تنهب ومراد بك ينهب، وأنا أنهب ... وبردت القضية» - وللشيخ واقعة أخرى من هذا القبيل في طنطا أثناء أحد موالد سيدي أحمد البدوي، وقد عسف كاشف الغربية بالأهلين، فاشتكوه للشيخ الدردير، وكان هناك يقصد الزيارة، «فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة، فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف، دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له: «أنتم ما تخافون من الله»، وهجم على الكتخدا أحد الأهلين وضربه، فضرب خدام الكتخدا تابع الشيخ، وهاجت الناس على بعضهم، ووقع النهب في الخيم وفي البلد، ونهبت عدة دكاكين، وأسرع الشيخ في الرجوع إلى محله، وراق الحال بعد ذلك، وركب كاشف المنوفية - وهو من جماعة إبراهيم الكبير - وحضر إلى كاشف الغربية وأخذه وحضر به إلى الشيخ، وأخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان، وانقضى المولد ورجع الناس إلى أوطانهم وكذلك الشيخ الدردير. فلما استقر بمنزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي، وأخذ بخاطره أيضا، وكذلك إبراهيم بك الكبير، وكتخدا الجاويشية.»
وللشيخ الدردير معاصر من العلماء، احتل مكانة سامية بعلمه وفضله هو الشيخ أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني، الزبيدي الحنفي (1145-1205 / 1732-1791)، صنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، وأتم شرح القاموس في نحو أربعة عشر مجلدا سماه تاج العروس. اعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا غربان ووالاه بره حتى راج أمره وترونق حاله، واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام وإسماعيل أبو عبد الله، وأبو علي، وأولاد نصر وأولاد وافي، وهادوه وبروه، وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية، مثل دمياط ورشيد والمنصورة، وباقي البنادر العظيمة مرارا، حين كانت مزينة بأهلها، عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك، وتلقى عنهم، وأجازوه وأجازهم. شهد بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة ، الشيخ علي الصعيدي، والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد وغيرهم كثيرون. ولما أنشأ محمد بك أبو الذهب جامعه المعروف بالقرب من الأزهر، وأوجد به خزانة للكتب، «أنهوا إليه شرح القاموس ... وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها، وانفردت بذلك دون غيرها، ورغبوه في ذلك، فطلبه وعوض صاحبه عنه مائة ألف درهم فضة.» وعلا ذكر الشيخ مرتضى، وأقبل عليه الأشياخ والأعيان، وتحببوا إليه واستأنسوا به، وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف، ويعظهم، ويفيد بهم ... وحضر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي مجالسه ودروسه وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار، مثل مصطفى بك الإسكندراني وأيوب بك الدفتردار، فسعوا إلى منزله وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة. ولما تولى محمد باشا عزت (1776-1778) رفع شأنه وأصعده إليه، وخلع عليه فروة سمور وأجزل له العطايا، ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام، وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية لزم داره، ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر البكوات، ولما حضر القبطان حسن باشا لردع البكوات في عام 1786، لم يذهب إليه، بل حضر هو لزيارته، وخلع عليه فروة وهاداه وكانت شفاعة الشيخ عنده لا ترد، وإن أرسل هذا إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال وقبل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه، ونفذ ما فيها في الحال.
تلك إذا كانت صفات علماء ومشايخ ذلك العصر وسجاياهم: صلاح وتقوى، وزهد في الدنيا، وانكباب على العلم والدرس، يلوذ الناس بهم كي يتوسطوا لهم لدى الهيئة الحاكمة، ويشفعوا فيهم، ويردوا عنهم الظالم، أصحاب جرأة في الحق، يعظون الحكام ويرشدونهم إلى الطريق السوي، أو يغلظون لهم في القول، ويؤلبون عليهم الرعية، ويتوعدونهم بعذاب النار إذا سدروا في غوايتهم، نبه ذكرهم، وعلا شأنهم، وخافهم الجميع، وخطبوا ودهم، وتقربوا إليهم، ابتغاء كسب رضاهم، ولم يكن هؤلاء الذين ذكرت أسماؤهم هم المتحلين وحدهم بهذه الصفات، بل شاركهم في ذلك سائر زملائهم.
ولعل من الحوادث التي تظهر ما كان يتمتع به مشايخ وعلماء ذلك العصر من نفوذ عظيم على الأهلين وما كان لهم من مهابة عند البكوات المماليك، الذين كانوا يخشونهم، ويوسطونهم بدورهم لدى الشعب لعدم تحركه عليهم، والصفح عن جورهم وظلمهم؛ ما وقع عندما أوفدت الدولة القبطان حسن باشا لعقاب المماليك، واسترجاع سلطان الباب العالي في هذه الباشوية التي صارت نهبا بين طوائفهم، ومسرحا لفتنهم وخصوماتهم، فقد وسط البكوات المشايخ لدى القبطان حسن باشا الذي وصل أسطوله وجيشه إلى رشيد والإسكندرية في يوليو 1786، فأوفد منهم مراد بك وإبراهيم وفدا يتألف من المشايخ أحمد العروسي ومحمد الأمير ومحمد الحريري، وضموا إليهم جماعة من الأعيان، واتضح للعلماء عند مقابلتهم لحسن باشا أنه مصمم على إنهاء حكم مراد وإبراهيم، فأخبروا عند عودتهم من رشيد أنهم اجتمعوا على حسن باشا ثلاث مرات ... فقابلهم بالإجلال والتعظيم، وأن الشيخ العروسي قال له: «يا مولانا رعية مصر قوم ضعاف، وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس»، فقال: «لا تخشوا من شيء، فإن أول ما أوصاني مولانا السلطان أوصاني بالرعية ... ثم قال كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران، وترضونهم حكاما عليكم يسومونكم بالعذاب والظلم، ولماذا لم تجتمعوا عليهم وتخرجوهم من بيتكم؟» وطلب حسن باشا أن يكتب مكاتبة للرعية يقرأها المشايخ على الملأ في الأزهر، فاعتذر الشيخ العروسي، وعندما سلم حسن باشا مكاتبات إلى أحد أعضاء هذا الوفد من الأعيان أخفيت ولم يذع أمرها، وصار البكوات يتملقون المشايخ، وخشوا من قيام الرعية وراحوا يوسطون المشايخ لمنع قيامهم بالثورة عليهم، فانتهز إبراهيم بك حلول عيد الفطر المبارك، فزار الشيخ محمد البكري الصديقي شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب السادة الأشراف آنئذ، «وعيد عليه»، ثم زار الشيخ العروسي والشيخ أحمد الدردير «وصار يحكي لهم وتصاغر في نفسه جدا وأوصاهم على المحافظة، وكف الرعية عن أمر يحدثونه، أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت»؛ وذلك لأنه كان يخاف ذلك جدا، وخصوصا لما أشيع أمر الفرمانات التي أرسلها حسن باشا للمشايخ، وأكابر العربان وغيرهم، يعلن إليهم الغرض من مجيئه، وهو دفع الظلم عن الأهلين ولإيقاع الانتقام من إبراهيم ومراد، وتسامع بها الناس.
ثم إن البكوات عندما عجز مراد عن وقف زحف القبطان حسن باشا على القاهرة، ما لبثوا (في 17 أغسطس 1786) أن «أرسلوا مكاتبة إلى المشايخ والوجاقات يتوسلون بهم في الصلح، وأنهم يتوبون ويعودون إلى الطاعة»؛ أي طاعة الباب العالي، فتوسط المشايخ لدى باشا مصر، محمد يكن، ولكن دون طائل، ودخل القبطان حسن باشا القاهرة في اليوم التالي، وفر مراد بك إلى الصعيد، واستقر البكوات في أسيوط، وتوسط المشايخ مرة أخرى لمنع حسن باشا من بيع نساء البكوات وأولادهم الذين بقوا في القاهرة، وكان المتوسطون في هذا المشايخ: السادات والدردير والعروسي والحريري، وقد استهدف الشيخ السادات لغضبه، لصرامة خطابه له؛ حيث أنشأ يقول: «إنا سررنا بقدومك إلى مصر لما ظنناه فيك من الإنصاف والعدل، وأن مولانا السلطان أرسلك إلى مصر لإقامة الشريعة ومنع الظلم، وهذا الفعل لا يجوز، ولا يحل بيع الأحرار وأمهات الأولاد، ونحو ذلك من الكلام.»
وعندما غادر حسن باشا البلاد في أكتوبر 1787، سعى البكوات الذين بالصعيد: مراد وإبراهيم وغيرهما للصلح والعودة إلى القاهرة، وطلبوا أن يقع هذا الصلح على أيدي المشايخ والعلماء، وأناس من كبار الوجاقات - أي الأعيان - فأوفد إليهم عابدين باشا الشريف، باشا مصر، الشيخ محمد الأمير وإسماعيل أفندي الخلوتي وآخرين في فبراير 1788، ولكن دون طائل؛ حيث كان إسماعيل بك الكبير يشغل منصب شيخ البلد، ويستأثر أخصام إبراهيم ومراد بالسلطة في القاهرة، وقد ظل الحال على ذلك حتى طوى الطاعون الذي حدث في بداية العام التالي، إسماعيل بك الكبير وعددا من كبار البكوات الآخرين بالقاهرة، فبعث مراد وإبراهيم بالسيد عمر أفندي مكرم الأسيوطي يحمل خطابا إلى شيخ البلد عثمان بك طبل (تابع إسماعيل بك)، وإلى المشايخ وللباشا، محمد باشا عزت سرا، في يونيو 1791، يطلبون الصلح، ويتعهدون بسلوك الطريق السوي المستقيم بضمانة المشايخ، وقالوا في رسائلهم: «نحن أولاد اليوم، وإن أسيادنا المشايخ يضمنون غائلتنا.» وكان رأي المشايخ الذي أفصح عنه الشيخ أحمد العروسي، إن كان التفاقم بينهم وبين البكوات الموجودين بالقاهرة، فالمشايخ مستعدون للترجي لهم عند هؤلاء، وإن كان ذلك بينهم وبين السلطان، فالأمر للباشا نائبه، ثم اتفق الرأي على كتابة جواب حاصله «أن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه، وذكرتم أنكم تائبون، وقد تقدم منكم هذا القول مرارا، ولم نر له أثرا، فإن شرط التوبة رد المظالم، وأنتم لم تفعلوا ذلك، ولم ترسلوا ما عليكم من الميري في هذه المدة، فإن كان الأمر كذلك، فترجعوا إلى أماكنكم وترسلوا المال والغلال، ونرسل عرضحال إلى الدولة بالإذن لكم، فإن الأمراء الذين بمصر لم يدخلوها بسيفهم ولا بقوتهم، وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم، وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك، فإننا الجميع تحت الأمر.» وقد وقع على هذا الخطاب المشايخ والباشا العثماني، وسلموه إلى السيد عمر مكرم، الذي ذهب به إلى البكوات في الصعيد في يونيو 1791.
وكان مراد وإبراهيم وأتباعهما قد غادروا أماكنهم بالصعيد، وتقدموا صوب القاهرة حتى وصلوا إلى حلوان في أوائل يوليو، وأشاروا على المشايخ بالحضور إليهم وزيارتهم؛ كي يشاع عند الأخصام أن الرعية والمشايخ معهم. وبدأ دخولهم القاهرة في 22 يوليو، واستقروا بها، وأعاد إبراهيم ومراد، وبخاصة الأخير، سيرتهما السيئة في ظلم الرعية، وبذل المشايخ قصارى الجهد لردعهما وأتباعهما، حتى حدث في يونيو 1795، أن اعتدى محمد بك الألفي (الكبير) على أهل قرية بشرقية بلبيس، كان للشيخ عبد الله الشرقاوي حصة فيها، فاستغاث هؤلاء به، ولما لم يفد توسط الشيخ لدى إبراهيم ومراد في رفع الظلم عنهم، أثارها ضجة كبيرة في وجه الطاغيتين، وألب عليهما المشايخ والأهلين، وخرجت المسألة من مجرد المطالبة بوقف اعتداءات محمد بك الألفي إلى التمسك بضرورة رفع المظالم عن الأهلين عامة، والسير بالعدل في حكم الرعية وتأمينهم على أرواحهم وأموالهم، فقفل المشايخ أبواب الجامع الأزهر وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت، ثم «ركبوا ... واجتمع عليهم خلق كثير من العامة، وتبعوهم وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة، بحيث يراهم إبراهيم بك، وقد بلغه اجتماعهم، فبعث من قبله أيوب بك الدفتردار، فحضر إليهم، وسلم عليهم، ووقف بين يديهم، وسألهم عن مرادهم، فقالوا له: نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها، فقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات، فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس ، وما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك؟ والأمير يكون أميرا بالإعطاء لا بالأخذ، فقال: حتى أبلغ»، وانصرف، وتفاقم الحال عندما لم يصل المشايخ جواب، وقصد المشايخ إلى الأزهر؛ حيث باتوا فيه ليلتهم، وقد اجتمع عليهم خلق كثير، وخشي إبراهيم بك من العاقبة، فأرسل إلى المشايخ «يعضدهم ويقول لهم أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري ومرادي»، وراح يخيف مراد بك من نتائج هذه الحركة، فبعث مراد يقول: «أجيبكم على جميع ما ذكرتموه إلا شيئين: ديوان بولاق، وطلبكم المنكسر من الجامكية، ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم، وندفع لكم جامكية سنة تاريخه أثلاثا.» ثم إن مرادا طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم فذهبوا إلى الجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعي في الصلح على ما ذكر، وفي اليوم الثالث من بداية هذه الحوادث، حضر صالح باشا القيصرلي - الباشا العثماني - إلى منزل إبراهيم بك، واجتمع البكوات وحضر من المشايخ: محمد السادات، وعمر مكرم (وقد صار نقيبا للأشراف) والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري (الذي تولى سجادة الخلافة البكيرية بعد وفاة ابن خاله السيد محمد البكري الصغير في نوفمبر 1793)، والشيخ محمد الأمير، وقد منع هؤلاء العامة من السعي خلفهم. ودار الكلام، وطال الحديث «وانحط الأمر على أن البكوات تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسا موزعة، وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين، ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق، ويبطلوا رفع المظالم المحدثة والكشوفيات، والتفاريد والمكوس، ما عدا ديوان بولاق، وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس، ويرسلوا صرة الحرمين، والعوائد المقررة من قديم الزمان، ويسيروا في الناس سيرة حسنة.
وكان القاضي حاضرا بالمجلس، فكتب حجة عليهم بذلك، وفرمن عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها أيضا، وانجلت الفتنة، ورجع المشايخ وحول كل واحد منهم وأمامه وخلفه جملة عظيمة من العامة، وهم ينادون: حسب ما رسم سادتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة من مملكة الديار المصرية.
وفرح الناس ، وظنوا صحته، وفتحت الأسواق، وسكن الحال على ذلك نحو شهر، ثم عاد كل ما كان مما ذكر وزيادة، ونزل عقيب ذلك مراد بك إلى دمياط، وضرب عليها الضرائب العظيمة، وغير ذلك.»
ووجه الأهمية في الحوادث التي ذكرناها، أن المشايخ قد قاموا بدور الوساطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة على خير وجه، وبالقدر الذي استطاعوه، أهلهم لهذه الوساطة، ما اشتهر عن سوادهم من ورع وصلاح وتقوى، وانصراف عن الدنيا، حبب الشعب فيهم، ورفع مكانتهم لدى الباشا العثماني، والبكوات المماليك، ثم جور هؤلاء الأخيرين بالرعية وعسفهم بهم.
على أنه مما يجدر ذكره من ناحية أخرى، أن هذه الوساطة كانت ذا أثر محدود، أفلحت في قضاء بعض حوائج الأهلين، ورفعت شيئا من المظالم عنهم، ولكنها لم تنجح في ردع البكوات وأتباعهم، أو إلزامهم بإقامة الحكومة العادلة الطيبة، فظل البكوات سادرين في غوايتهم، ولم تفد شيئا من هذه الناحية وعودهم وارتباطاتهم، لرفع المظالم، والرفق بالرعية، ولم يكن لتلك الحجة التي كتبت عليهم بذلك في يونيو 1795 أي أثر، بل اشتد بغي البكوات وعظم طغيانهم في السنوات الثلاثة التالية، حتى إن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، لم يجد فيما وقع من الحوادث في عام 1210 / 1795-1796 - والتي يعتني بتقييدها - سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء؛ أي البكوات المماليك، والمظالم، أو في العام التالي (1211ه/1797-1798) كذلك سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل، وموجبات ترادف البلاء المتراسل، وظل طغيان البكوات على أشده حتى جاء بونابرت بحملته المعروفة فقوض عروش سلطانهم. (2) اضمحلال نفوذ المشايخ
وقد فطن بونابرت إلى أهمية دور الوساطة الذي قام به المشايخ في العهد السالف، فعول على الاعتماد عليهم في تنفيذ سياسته (الإسلامية-الوطنية )؛ لإقناع الشعب بالرضى بالحكم الفرنسي، والإخلاد إلى السكينة وعدم المقاومة، والرضوخ لسلطان بونابرت، والتعرف بواسطتهم على آراء ومطالب الشعب من جهة، ثم الاستعانة بهم من جهة أخرى على إيجاز المشروعات التي يرى الفرنسيون ضرورة إنجازها، فكان المشايخ والعلماء العنصر البارز في الدواوين التي تشكلت على أيام الحملة الفرنسية.
وكان هذا الحكم الأجنبي تجربة جديدة، امتحن المشايخ في أثنائها امتحانا عسيرا، فكان هناك فريق آثر الهجرة إلى خارج البلاد، أو مغادرة القاهرة إلى الريف أو إلى الصعيد، أو الانزواء بعيدا عن الحوادث، منصرفين إلى القراءة والتدريس بالمساجد، كالشيخ شامل أحمد بن رمضان بن سعود الطرابلسي الذي هاجر إلى بيت المقدس، والشيخ محمد الحريري الذي ذهب إلى أسيوط، ثم كان هناك فريق اشترك في حركات المقاومة الفعلية، كالشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسماعيل البراوي، وقد اتهم هؤلاء في إثارة الفتنة في ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر 1798، وقد أعدمهم الفرنسيون، ثم الشيخ محمد بن الجوهري وطائفة من المشايخ الذين اشتركوا مع السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي (شاه بندر التجار) في ثورة القاهرة الثانية في مارس وأبريل 1800، وقد اختفى عقبها الشيخ الجوهري. ثم كان هناك فريق من كبار المشايخ والمتصدرين، وهم الذين شكل الفرنسيون منهم دواوينهم، المشايخ: مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي وعبد الله الشرقاوي وخليل البكري ومحمد المهدي، وموسى السرسي وأحمد الويشي ومصطفى الدمنهوري ويوسف الشبرخيتي، ومحمد الدواخلي والسيد علي الرشيدي (نسيب الجنرال منو) وإسماعيل الزرقاني، وإسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب، وعبد الرحمن الجبرتي صاحب «عجائب الآثار».
وقد اعتقد هؤلاء أن من الخير مداراة الفرنسيين ومسايرتهم، لعلهم يستطيعون الاستمرار في دور الوساطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، والشفاعة للأهلين عقب حوادث الثورات والفتن، ثم لم تلبث جماعة منهم أن وجدت في هذه الأوضاع الجديدة فرصة مواتية لكسب النفوذ، واستغلال هذا النفوذ لصالحهم الشخصي، فدأبوا على مداهنة الفرنسيين وتملقهم، والاعتماد على صداقتهم لهؤلاء في جمع الثروة وبسط نفوذهم وسلطانهم على أبناء أمتهم، ولم يفت سواد الشعب ما كان يبغيه هؤلاء المشايخ المتصدرون ويسعون إليه، فشهدت هذه الفترة - فترة الاحتلال الفرنسي للبلاد - تحولا ملموسا في موقف الشعب من المشايخ، وبخاصة المتصدرون منهم، كما شهدت بداية التغير الذي طرأ على أساليب عيشهم، وجعلهم ينصرفون عن الدين والعبادة والوعظ والإرشاد، ويتهافتون على الدنيا وعرضها الزائل، مما كان من أثره جميعا أن طفق المشايخ يفقدون رويدا رويدا ما كان لهم من زعامة روحية سابقة.
حقيقة ظل هؤلاء المتصدرون، يتوسطون ويشفعون، ولكن شتان ما بين وساطتهم وشفاعتهم في الزمن السابق، على أيام أحمد الدردير أو علي الصعيدي أو ابن النقيب أو الحفني، وبين وساطة وشفاعة محمد المهدي أو سليمان الفيومي أو خليل البكري، وكانت هذه متخاذلة، لا يأبه الفرنسيون لها، ولا يجيبون شيئا منها اللهم فيما كان يتفق منها ومصالحهم هم أنفسهم فحسب، وقبل أي اعتبار آخر، بل إن الفرنسيين ما كانوا يترددون في تعويق المشايخ الذين اشتهروا بمداراتهم وصداقتهم لهم، وإساءة معاملتهم عند كل مناسبة يقتضي حرصهم على سلامتهم وأمنهم أن يفعلوا ذلك، كما حدث من فرض الغرامات عليهم عقب ثورة القاهرة الثانية، أو تعويق أكثر أعضاء الديوان بالقلعة، وحبسهم مع غيرهم من المشايخ وقت تضييق الإنجليز والعثمانيين الحصار على القائد الفرنسي «بليار»
Belliard
في القاهرة قبيل تسليمه.
ومن المشايخ الذين اشتهروا بتملق الفرنسيين، وانتقلت مداراة هؤلاء على أيديهم إلى تعاون صادق، ومداهنة ونفاق على حساب سواد الشعب: محمد المهدي، أقبلت عليه الدنيا قبل مجيء الفرنسيين وتداخل في الأكابر ونال منهم حظا وافرا، وعندما وقع الطاعون في سنة 1791، وفني كثيرون من البكوات وأهل البلاد، «اختفى بما أحبه مما انحل عن المولى من إقطاعات ورزق وغيرها، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، وعان الشركات والمتاجر في كثير من الأشياء مثل الكتان والقطن والأرز وغير ذلك من الأصناف، والتزم بعدة حصص بالبحيرة، مثل شابور وخلافها بالمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارا عظيمة بالأزبكية بناحية الرويعي ... ولما حضرت الفرنساوية إلى الديار المصرية، وخافهم الناس، وخرج الكثير من الأعيان وغيرهم هاربين من مصر، تأخر الشيخ محمد المهدي عن الخروج ولم ينقبض كغيره عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم، وانضم إليهم وسايرهم ولاطفهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته، ووثقوا بقوله، فكان المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة العظمى بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم حتى لقب عندهم وعند الناس بكاتم السر، ولما رتبوا الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين في قضاياهم ودعاويهم، كان هو المشار إليه فيه، وخدمة الديوان الموظفون فيه تحت أوامره، وإذا ركب أو مشى يمشون حوله وأمامه وبأيديهم العصي، يوسعون له الطريق، وراج أمره في أيامهم جدا، وزاد إيراده وجمعه واحتوى بلادا وجهات وأرزاقا، وأقاموه وكيلا عنهم في أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجيء إليه خراجها، ويصرف عنها ما يصرفه، ويأتيه الفلاحون منها ومن غيرها بالهدايا والأغنام والسمن والعسل، وما جرت به العادة، ويتقدمون إليه بدعاويهم وشكاويهم، ويفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب، وأخذ المصالح وصار له أعوان وأتباع، وخدم من وجهاء الناس.»
وقد حرص الشيخ المهدي على التمسك بذلك الأساس الذي قام عليه سلطانه، وهو التوسط والشفاعة لدى السلطات الحاكمة لرفع المظالم عن الساعين إليه بشكاياتهم من الفلاحين وسائر الأهلين، وهو دور كان لا غنى له عن المضي فيه عندما كان الأصل في تقريب الفرنسيين لهؤلاء المشايخ هو أن يكونوا الواسطة بينهم وبين الشعب، للوقوف على مطالبه ورغباته، للسعي في إزالة ما قد يكون سببا في إثارة الخواطر ضدهم، ولتوطيد سلطانهم الداخلي، فقال الشيخ الجبرتي: «وبالجملة فكان بوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سد بفعله ثقوبا واسعة وخروقا، وداوى برأيه جروحا وفتوقا، لا سيما أيام الهيازع والخصومات والتنازع، وما يكدر طباع الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته، ويسكن حدتهم بملاطفاته.» ولم يفت الشيخ أن يذكر أنه كان لهذه الوساطة والشفاعة ثمن يستحق بفضلها الجوائز الجزيلة من جانب أولئك الذين يتوسط لهم ويشفع فيهم لدى الفرنسيين.
ومن نفس الطراز، كان الشيخ أحمد العريشي، الذي نال حظوة كبيرة على أيام الفرنسيين، «تداخل (قبل مجيئهم) في القضايا والدعاوى، واشتهر ذكره، واشترى دارا واسعة بسوق الزلط بحارة المقسي خارج باب الشعرية، وتجمل بالملابس وركب البغال، وصار له أتباع وخدم، وهرعت الناس والعامة والخاصة في دعاويهم وقضاياهم وشكاويهم»، قلده الفرنسيون القضاء وانحرف هؤلاء عنه عند مقتل كليبر؛ لكون قاتله ظهر من رواق الشوام وهو شيخه، ولكنهم عادوا فولوه القضاء عندما تبينت براءته، وكان عبد الله جاك منو
Menou
رسم أن يكون اختيار القاضي بالقرعة فوقعت على الشيخ، فاستمر في منصبه حتى خرج الفرنسيون من البلاد.
وكان كذلك سائر المتصدرين، أقبلوا على الدنيا، وجمعوا المال، وتقربوا من الهيئات الحاكمة سواء كانت هذه من البكوات المماليك أم من الفرنسيين بعد مجيء حملتهم إلى مصر، وتداخلوا في القضايا؛ أي توسطوا لفض المنازعات بين الأهلين بعضهم وبعض أو بينهم وبين الحكام، وزاولوا التجارة، وإن عرف عن بعضهم الجود والكرم كالشيخ سليمان الفيومي، وكان هذا قد نال حظوة لدى البكوات، ثم لدى الفرنسيين، أحبه هؤلاء «وقبلوا شفاعاته، وصاروا يحضرون إلى داره، ويعمل لهم الولائم، وساس أموره معهم، وقرروه في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين، ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه، ورتبوا على مشايخ كل بلد شيخا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي شيخ المشايخ، مضافا ذلك لمشيخة الديوان، ازدحمت داره بمشايخ البلدان، فيأتون إليه أفواجا ويذهبون أفواجا، وله مرتب خاص، خلاف مرتب الديوان، واستمر معهم في وجاهته إلى أن انقضت أيامهم.» ومع أن الشيخ الجبرتي قد أطنب في وصف كرمه وجوده وسعيه في قضاء حوائج الناس والشفاعة لهم عند البكوات المماليك ثم عند الفرنسيين، فقد قال عنه إن بضاعته في العلم دقيقة، وراج أمر الشيخ موسى السرسي، بانتسابه للشيخ أحمد العروسي، «واشترى أملاكا واقتنى عقارا وببلده سرس الليانة ومنوف، مزارع وطواحين ومعاصر، واشترى دارا نفيسة بدرب عبد الحق بالأزبكية، وعدد الأزواج واشترى الجواري والعبيد والحبشيات الحسان.»
وأما الشيخ عبد الله الشرقاوي فكان طموحا، بدأ حياته «في قلة من خشونة العيش، وضيق المعيشة، فلا يطبخ في داره إلا نادرا، وبعض معارفه يواسونه ويرسلون إليه الصفحة من الطعام، أو يدعونه ليأكل معهم، ولما عرفه الناس واشتهر ذكره، فواصله بعض تجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا والصلات، فراج حاله، وتجمل بالملابس، وكبر تاجه ... ثم اشترى له دارا وساعده في ثمنها بعض من يعاشره من المياسير.» ولما توفي الشيخ أحمد العروسي (مارس 1794) تولى بعده مشيخة الجامع الأزهر «فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى كان يضرب بعظمها المثل»، وتعصب عليه جماعة من المشايخ والعلماء المناصرين للشيخ مصطفى الصاوي ضده وقتئذ، فضعف شأنه، حتى إذا حضر الفرنسيون نشط الشيخ عبد الله الشرقاوي، ومال إليهم بكليته، فجعلوه رئيس الديوان، «وانتفع في أيامهم بما صار يتحصل له من المعلوم المرتب له عن ذلك، وقضايات وشفاعات لبعض الأجناد المصرية (المماليك)، وجعالات على ذلك، واستيلاء على تركات وودائع خرجت أربابها في حادثة الفرنساوية وهلكوا، واتسعت عليه الدنيا، وزاد طمعه فيها، واشترى دارا بظاهر الأزهر، وهي دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين، وزوجته هي التي تدبر أمره، وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه، ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها، وكانت قبل زواجه بها في قلة من العيش، فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغا في كل شهر له صورة.»
وكان الشيخ خليل البكري يحقد على عمر مكرم توليه نقابة الأشراف، على أيام مراد وإبراهيم، فما إن احتل الفرنسيون البلاد، حتى تداخل فيهم، وعرفهم «أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلدوه إياها، واستولى على وقفها وإيرادها»، وراج حاله معهم، وصار يولم لهم الولائم في الموالد، ويسعى لخدمة أغراضهم، فكان له «قبول عند الفرنساوية، وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان، فأضحى وافر الحرمة، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة عندهم، فازدحم بيته بالدعاوى والشكاوى، واجتمع عنده مماليك من مماليك الأمراء المصرية الذين كانوا خائفين ومتغيبين، وعدة خدم وقواسة ومقدم كبير وسراجين وأجناد»، واستمر الحال على ذلك إلى أن حضر يوسف باشا ضيا عقب اتفاق العريش المعروف مع كليبر، وقامت ثورة القاهرة الثانية عقب نقض هذا الاتفاق، «ووقعت الحرب في البلدة (القاهرة) بين العثمانية والفرنساوية والأمراء المصرية وأهل البلدة، فهجم على داره المتهورون من العامة ونهبوه وهتكوا حريمه، وعروه من ثيابه، وسحبوه بينهم مكشوف الرأس»، ولم ينقذه من الهلاك سوى شفاعة بعض الأعيان، فلما انقضت الفتنة، شكا الشيخ للفرنسيين ما حل به بسبب موالاته لهم، «فعوضوا عليه ما نهب له ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم.»
وشذ عن هؤلاء المتصدرين حفنة قليلة من المشايخ، منهم الشيخ محمد السادات الذي اضطهده الفرنسيون، والشيخ محمد الأمير، وكان منصرفا للعلم، وصاحب جرأة وشجاعة، والشيخ مصطفى الصاوي، وقد لحقه اضطهاد الفرنسيين قبل ثورة القاهرة الثانية، وكان من بين الذين عوقوهم بالقلعة قبل تسليم «بليار»، ثم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وكان ممن غادروا القاهرة إلى أبيار عند دخول الفرنسيين، ولكنه ما لبث أن عاد إليها، ثم عينه «منو» في الديوان الذي أنشأه، وشغل بتدوين تاريخه، وعرف بالاتزان والاعتدال، ولم يرض عن مسلك المتصدرين، ولم يعمد لاستغلال النفوذ الذي صار له كأحد أحد أعضاء الديوان، عن طريق المداخلة، والمشاركة في القضايا والشفاعات.
وجماعة تلك كانت حال أكثرهم، لم يكن هناك معدى عن ذهاب هيبتهم لدى سواد الشعب، ونزول أقدارهم عنده، لا يغير من صحة هذا القول لجوء الأهلين إليهم يسألونهم الوساطة والشفاعة، كما جرت به عادتهم من قديم؛ لأن المشايخ في هذه المحنة - محنة الاحتلال الأجنبي - كانوا يتقاضون ما صار بمثابة أجر معلوم لهذه الوساطة والشفاعة؛ ولأنهم اعتمدوا في تعزيز مكانتهم ونفوذهم بين الشعب على دعم صلاتهم بالفرنسيين، ومداهنتهم والحرص على خدمة مآربهم، ناهيك بانكبابهم على الدنيا، والحرص على جمع المال، وزوال الصفات الأصيلة التي كانت مبعث زعامتهم السابقة، والأساس الذي قام عليه نفوذهم في الماضي، وهي الورع والتقوى، والزهد في الدنيا، والاشتغال بالدين.
وقد ظهرت بوادر اضمحلال نفوذهم، وضياع هيبتهم، في حادث الشيخ خليل البكري الذي سبقت الإشارة إليه، ثم إنه لما طلب الفرنسيون إلى هؤلاء المشايخ المتصدرين أثناء ثورة القاهرة الثانية أن يتوسطوا لإنهاء الفتنة، وعقد الصلح على أساس خروج العثمانيين والبكوات المماليك الذين دخلوا القاهرة وقتئذ، قام الأهلون على المتوسطين «وسبوهم وشتموهم، وضربوا الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ موسى السرسي ورموا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون: هؤلاء المشايخ ارتدوا، وعملوا فرنسيس، ومرادهم خذلان المسلمين، وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس.»
وكان هؤلاء المتصدرون، أمثال محمد المهدي، وعبد الله الشرقاوي، وموسى السرسي، وسليمان الفيومي وغيرهم، هم أول من رحب بعودة الباشا العثماني بعد انقضاء حكم الفرنسيين، وكانت لهم في العهد الجديد بعض الوساطات والشفاعات، ولكن في حالات متفرقة ونادرة، غمرتهم الفوضى السياسية المنتشرة وقتئذ في غمرتها، وانصرفوا إلى شئونهم الدنيوية، فلما يتصدوا لزعامة الشعب إلا مدفوعين من الشعب نفسه أو بالأحرى من القاهريين الذين أبهظتهم مظالم الباشوات، وتكرر وقوع اعتداءات الجند من أرنئود وإنكشارية ودلاة وغيرهم عليهم، وحتى في الحالات النادرة التي تدخل فيها المشايخ يتوسطون ويشفعون، لم يكن لذلك أي أثر، وظلوا خلال سنوات الفوضى هذه أدوات طيعة في أيدي أصحاب الانقلابات التي وقعت في أثنائها، والتي سبق الحديث عنها في موضعها، حتى عرف محمد علي كيف يستخدمهم بدوره لتنفيذ مآربه، واطمأن هؤلاء إلى التعاون معه؛ لما كان لديه من قوة كأحد كبار ضباط الأرنئود، والذي انفرد بزعامتهم بعد مقتل طاهر باشا، واعتقدوا أن في وسعه حماية أشخاصهم وأموالهم، ورفع المظالم عنهم وعن سواد الشعب.
فقد تقدم عند الكلام عن الفوضى السياسية التي انتشرت عقب خروج الفرنسيين من البلاد، كيف أن المشايخ والسيد عمر مكرم خصوصا تحدثوا عن إلباس طاهر باشا الفرو عن المظالم والإتاوات وسألوه رفعها دون طائل، وكيف أنهم أذعنوا لمطلب طاهر باشا منهم، فوقعوا على إعلام مهيأ لإرساله إلى الآستانة، تبريرا للانقلاب الذي وقع وأفضى إلى طرد خسرو باشا من الولاية، وكيف تشفع الشيخ محمد السادات في مصطفى آغا الوكيل، دون جدوى.
وفقد المشايخ كل نفوذ لدى أصحاب السلطان، فلم يأبه محمد علي لوساطتهم التي طلبها منهم أحمد باشا والي مكة والمدينة، وانتهى الأمر بإخراجه من البلاد، وبلغ من انهيارهم أنهم صاروا أدوات طيعة في أيدي إبراهيم والبرديسي وسائر البكوات أثناء الحكومة الثلاثية المعروفة، وأفلح محمد علي في جعلهم يوجهون الدعوة لعلي باشا الجزائرلي تحت مسئوليتهم للحضور إلى القاهرة، فأتاحوا الفرصة بذلك للبكوات حتى يقتلوه في الظروف التي عرفناها، ولم يفز المشايخ لقاء مسايرتهم للبكوات بطائل ، فعبثا حاولوا التوسط لدى إبراهيم بك في غضون عام 1803 لرفع المظالم التي علا ضجيج شكوى الشعب منها، وعبثا حاول الشيخ محمد الأمير نصح البكوات في اتباع العدل وترك الظلم في أوائل العام التالي.
ولقد استطاع محمد علي بتودده للمشايخ، وبتشجيعه للسيد عمر مكرم، وبالأشياخ على معارضة حكومة البكوات، أن يجعلهم يحرضون الأهلين ويؤازرونهم في تلك الثورة التي قضت على هذه الحكومة في مارس 1804، وأن يجعلهم يؤمنون بصدق ذلك الفرمان المزور الذي أعطى باشوية القاهرة لأحمد باشا خورشيد في الشهر نفسه.
وعبثا حاول المشايخ التوسط لدى خورشيد لإنهاء المظالم، واقتضى الحال تكاتف أربعة من المتصدرين، منهم: محمد السادات، ومحمد الأمير ومحمد المهدي وسليمان الفيومي، ثم السيد عمر مكرم؛ للشفاعة في حق السيدة نفيسة أرملة مراد بك.
ثم استطاع محمد علي مرة أخرى، استخدامهم في طرد خورشيد باشا من الولاية، وكان هذا الحادث فريدا في نوعه، من ناحية الآثار التي ترتبت عليه؛ لأنه لم يسبق للمشايخ الاشتراك في الانقلابات التي وقعت قبل ذلك وأفضت إلى تنحية أحد الباشوات من الولاية في السنوات الأربع الماضية؛ ولأن المشايخ ما لبثوا أن استندوا عليه وعلى ما وقع من مشاركتهم في الحوادث الهامة اللاحقة كأزمة النقل إلى سالونيك المعروفة، أو أثناء حملة «فريزر»، أو عندما صار محمد علي يوسطهم لإنهاء خصومة البكوات المماليك معه في المطالبة باختصاصات اعتقدوا أنها من لزوميات الزعامة التي صارت لهم في العهد الجديد، فكان ذلك منشأ اصطدامهم مع الباشا، والقضاء على البقية الباقية من ذلك النفوذ الضئيل الذي شاءت إرادة الباشا أن تحفظه لهم، حتى يؤدوا نفس الدور الذي أدوه سابقا كواسطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، ولكن بالطريقة التي يرضى عنها الباشا ويرسمها هو لهم بنفسه. (3) الاصطدام مع الباشا
ولقد درج الكتاب على إضفاء أهمية بالغة على ما حدث أثناء انقلاب مايو 1805، الذي أسفر عن المناداة بولاية محمد علي، وبالغوا في تقدير قيمة الوثيقة التي تضمنتها شروط المشايخ والزعماء الشعبيين، لإقامة الحكم الصالح في نظرهم، وهي الشروط التي رفضها خورشيد، وقبلها محمد علي، فمع أن هذه الشروط كانت منصبة على إبداء الرغبة التي طالما طلب المشايخ والأهلون بتحقيقها: وقف اعتداءات الجند عليهم، ورفع المظالم والمغارم والفرد التي كانت تحصل منهم، على غرار ما كانوا يفعلونه ويطلبونه كلما واتتهم الفرصة، فقد وصفت هذه بأنها وثيقة حقوق تشبه وثيقة إعلان الحقوق المشهورة التي أقرها البرلمان الإنجليزي في عام 1689 عقب الثورة التي أنهت حكم ستيوارت من إنجلترة، على أساس أن هذه الشروط قد تضمنت نصا يقضي بعدم فرض ضريبة دون موافقة المشايخ ورؤساء الشعب؛ أي تقرير المبدأ المعروف، ألا ضريبة من غير موافقة الشعب عليها، وألا ضريبة من غير تمثيل، الأمر الذي يبعد كل البعد عما حدث فعلا، على نحو ما سلف توضيحه عند الكلام عن تفاصيل هذا الإعلام الذي وقعه محمد علي.
فقد كان كل ما أراده المشايخ والرؤساء الشعبيون من توقيع محمد علي على هذه الوثيقة، ينحصر في أمرين: أحدهما عاجل، هو رفع المظالم التي يشكون ويشكو الشعب منها، والآخر آجل، هو ضمان استمرار المشاورة معهم في تصريف شئون الحكم، توقيا لما قد يقع عليهم وعلى الشعب من مظالم جديدة في المستقبل.
ولا جدال في أن المشايخ قد كسبوا نفوذا جديدا من جراء مساهمتهم في انقلاب مايو 1805، وحق لهم أن يتطلعوا إلى مشاورة الباشا لهم، ولم يبد من جانب محمد علي ما يجعلهم يشعرون في العامين التاليين أنه لا يريد مشاورتهم، بل على النقيض من ذلك، كانت هذه المشاورة في نظر محمد علي نفسه ضرورية لا غنى عنها لاجتياز الأزمات العصيبة التي اعترضت الحكم وقتئذ، لتوسط المشايخ في جمع الإتاوات وعقد السلف والقروض لسد حاجته الملحة إلى المال دائما ، ولتهدئة القاهريين الذين تعرضوا لإيذاء الجند، وللاعتماد عليهم في إقناع الباب العالي بضرورة بقائه في الولاية، وقد مهد محمد علي للظفر من المشايخ بتلبية مطالبه منهم، وإبداء الرأي والمشورة على النحو الذي يريده، بإرخاء العنان لهم، في التكالب على إنماء ثرواتهم الخاصة، وقد تقدم كيف تركهم يستكثرون من شراء حصص الالتزام، ويستغلون لنفعهم الشخصي مسموح المشايخ، يعيشون في بذخ وترف، ويجمعون حولهم الخدام والأتباع، فلم يلبث هؤلاء أن صاروا أدوات طيعة في يده، يلبون كل إشارة تبدر منه، ويسعون - سواء شاءوا أو لم يريدوا ذلك - لتعزيز ملكه وسلطانه، فهو يستكتبهم العرائض للباب العالي، ويوسطهم لدى البكوات المماليك، ويعتمد عليهم في استكمال أسباب الدفاع عن القاهرة (أيام حملة فريزر خصوصا).
وقد ترتب على هذا أن توهم المشايخ، والسيد عمر مكرم على وجه الخصوص، وهو صاحب اليد الطولى في إنهاء الأزمات التي سبقت انقلاب 1805، لصالح محمد علي، ثم في أثناء انقلاب 1805 نفسه، وما تبع هذا الانقلاب من أزمات أخرى؛ ترتب على هذا أن راح هؤلاء يفسرون مبدأ المشاورة بأنه إلزام للباشا بالرضوخ لكل رأي قد يشيرون عليه به، فإذا أبى المشورة، هددوا بإثارة القاهريين وتحريك الثورة ضده لطرده من الباشوية كما طردوا خورشيد باشا، فكان في هذا الوهم نكبتهم لأسباب عدة، أهمها: أن الشعب الذي شاهد الباشا يجتاز بنجاح الأزمات التي صادفته، وتتدعم أركان حكومته كلما طال بحكمه الأمد صار يفطن إلى أنه قد صار بالبلاد حاكم واحد، ويدرك أن هذا الحاكم يعتزم البقاء في باشويته، أضف إلى هذا أن الشعب الذي بدأ يفقد ثقته في المشايخ المتصدرين من أيام الاحتلال الفرنسي، ثم شاهدهم متكالبين على الدنيا، تسود الخلافات والمشاحنات بينهم، ولا يعنون إلا بخدمة مصالحهم الخاصة، ويجعلون من أنفسهم أدوات في أيدي الباشا وعمالا له لتوزيع الفرض والإتاوات على الأهلين، وجمع السلف والقروض الإجبارية منهم، بدلا من الاعتراض عليها، صار لا يأبه لهم، وضاعت مكانتهم عنده، حتى إذا أراد فريق منهم مقاومة حكومة الباشا بعد فوات الفرصة، انفض الشعب عنهم ولم يؤازرهم، فكان المشايخ أنفسهم المسئولين عن فقد ذلك النفوذ الذي بدأ يكون لهم من جديد ابتداء من حادث انقلاب عام 1805، والذي أكسبتهم إياه حوادث الأزمات التالية، والذي كان في وسعهم أن يستندوا عليه في فرض مشورتهم على الباشا، وإلزامه باتباعها إلزاما لو أنهم قنعوا بالقيام على شئون الدين، وعزفوا عن الجاه الزائف، وحرصوا على التكتل في جبهة واحدة رائدها التوسط حقيقة لرفع المظالم عن الشعب.
ولكنه ما مرت شهور قليلة على انقلاب 1805، حتى شاعت الفرقة بين المشايخ ووقعت بين أهل الأزهر منافسات، قال الشيخ الجبرتي إنها كانت بسبب أمور وأغراض نفسانية يطول شرحها، فتحزبوا حزبين: أحدهما يناصر الشيخ عبد الله الشرقاوي، والآخر الشيخ محمد الأمير، ودار الخلاف على نظارة الجامع الأزهر، وكان من أنصار الشيخ الأمير، عمر مكرم والشيخ محمد السادات، فكتبوا له تقريرا بذلك من القاضي، وختم عليه المشايخ، وقد استمر الخلاف قائما بسبب مشيخة الجامع ونظر أوقافه وأوقاف عبد الرحمن كتخدا مدة طويلة، وفشلت جهود الشيخ عبد الرحمن السجيني في مايو 1806 في إزالة أسباب التنافر، وسعى المشايخ: محمد الدواخلي، وسعيد الشامي، وكذلك عمر مكرم في حق الشيخ عبد الله الشرقاوي، بسبب أمور وضغائن ومنافسات فأغروا الباشا به، فأمره بلزوم داره، وألا يخرج منها ولا إلى صلاة الجمعة، حتى تدخل القاضي عارف أفندي في شأنه مع الباشا للإفراج عنه، والإذن له في الركوب والخروج من داره حيث يريد، فقال الباشا: أنا لا ذنب لي في التحجير عليه، وإنما ذلك من تفاقمهم مع بعضهم، فاستأذنه في مصالحتهم، فأذن له في ذلك، فعمل لهم القاضي وليمة ودعاهم، وتغدوا عنده، وصالحهم، وقرءوا بينهم الفاتحة، وذهبوا إلى دورهم، والذي في القلب مستقر فيه.
وقد استمرت الخلافات والمنافسات وتزايدت الحزازات بين المشايخ حتى ذهبت ريحهم تماما وأتاحت هذه الضغائن والانقسامات الفرصة للباشا للعمل على زيادة التفرقة بينهم، والإمعان في إضعافهم، حتى تسنى له إهمال أمرهم ثم إخماد كل معارضة من جانبهم والقضاء على ما تبقى من نفوذهم الذي كان قد وهن كثيرا، والانفراد وحده بكل أسباب السلطة في باشويته.
وكان من أهم العوامل في إضعاف شأن المشايخ، ما سبقت الإشارة إليه مرارا وتكرارا من انصراف هؤلاء عن الدين والعبادة، وتأدية وظائفهم التقليدية في المجتمع المصري، من حيث وعظ الناس وإرشادهم، والاهتمام بأمورهم والتوسط لقضاء حاجاتهم والشفاعة للمظلومين منهم عند الحكام، كل ذلك كواجب حتمي، لا ينتظرون من أدائه أجرا ولا شكورا، فصاروا متكالبين على الدنيا، لا يبغون من الوساطة إلا تعزيز مكانتهم هم أنفسهم لدى السلطات الحاكمة، وصاروا يأخذون عن هذه الوساطة الأجور العالية في صورة الهدايا والعطايا الجزيلة من الفلاحين وسائر الأهلين الذين يتوسطون لهم، وقد ظهرت أنانية المشايخ، وتقديم مصالحهم ومنافعهم الذاتية على مصالح الأهلين، في حادث فتنة الجند الكبيرة في أكتوبر ونوفمبر 1807، وقد سبق الكلام مفصلا عن الترتيب الذي وضع عندئذ لجمع المال المطلوب دفع مرتبات الجند منه لإنهاء الفتنة، وكيف أن المشايخ جعلوا العبء الأكبر يقع على صغار التجار وأهل الحرف ومن إليهم، وعلى الفلاحين المشتغلين في حصصهم، كما سبق الكلام عن استغلال المشايخ السيئ لهؤلاء الفلاحين المشتغلين في حصصهم، واتضح لسواد الشعب أن هؤلاء المشايخ المتصدرين، لا يريدون من هذه الصدارة سوى الظفر بالمغانم لأنفسهم، وانتهاز الفرص عن طريق تقربهم من الهيئة الحاكمة، والإذعان لمشيئة الحكام، للاستكثار من الأراضي والأموال، والعيش في بذخ وترف، حتى سماهم الشيخ الجبرتي «بمشايخ الوقت»؛ أي الانتهازيين الذين يدورون مع الريح أينما دارت.
وقد وصف الشيخ الجبرتي ما ترتب على استكثار هؤلاء من البلاد والحصص التي دخلت تحت مسموح المشايخ والتي أعفيت من المغارم والشهريات والفرض التي صار الباشا يفرضها على القرى، ومظالم الكشوفية وغير ذلك، فقال: «إن المشايخ اغتروا بذلك، واعتقدوا دوامه، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المنجاحين بدون القيمة»، ثم راح يصف تكالبهم على الدنيا، والفساد الذي استشرى في صفوفهم، فقال: «وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم، إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج المعروفة بزب الفيل، واستخدموا كتبة الأقباط، وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب، مع عدم سماع شكاوى الفلاحين، ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية، والحصص والالتزام، وحساب الميري والفائظ والمضاف، والرماية والمرافعات والمراسلات، والتشكي والتناجي مع الأقباط، واستدعاء عظمائهم في جمعياتهم وولائمهم والاعتناء بشأنهم، والتفاخر بتردادهم والترداد عليهم، والمهاداة فيما بينهم، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
وأوقع مع ذلك زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة، والتفاقم والتكالب على سفاسف الأمور، وحظوظ النفس على الأشياء الواهية، مع ما جبلوا عليه من الشح والشكوى والاستجداء، وفراغ الأعين، والتطلع للأكل في ولائم الأغنياء والفقراء، والمعاتبة عليها إن لم يدعوا إليها، والتعريض بالطلب، وإظهار الاحتياج لكثرة العيال والأتباع، واتساع الدائرة، وارتكابهم الأمور المخلة بالمروءة المسقطة للعدالة، كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة، وإعطاء الجوائز والنقوط لمناداة الخلبوص، وقوله وإعلامه في السامر، وهو يقول في سامر الجمع بمسمع من النساء والرجال من عوام الناس وخواصهم، برفع الصوت الذي يسمعه القاصي والداني وهو يخاطب رئيسة المغاني: يا ستي حضرة شيخ الإسلام والمسلمين، مفيد الطالبين، العلامة فلان، منه كذا وكذا، من النصفيات الذهب، قدر مسماه كثير، وجرمه قليل، نتيجة للتفاخر الكذب، والازدراء بمقام العلم بين العوام وأوباش الناس، الذين اقتدوا بهم في فعل المحرمات الواجب عليهم النهي عنها، كل ذلك من غير احتشام ولا مبالاة، مع التضاحك والقهقهة المسموعة من البعد في كل مجمع، ومواظبتهم على الهزليات والمضحكات، وألفاظ الكفاية المعبر عنها عند أولاد البلد بالأنقاط، والتنافس في الأحداث، إلى غير ذلك.»
فلم يكن من المنتظر، وقد انحط الحال بالمشايخ إلى هذا الدرك، أن يأبه الباشا لهم، وأن يستجيب لنصحهم ومشورتهم، تلك النصيحة أو المشورة التي خيل إليهم أن قد صار من حقهم إلزام الباشا باتباعها إلزاما، وراح يسعى الآن فريق منهم، اعتمادا على هذا المبدأ لمشاركته في الحكم، والحد من سلطانه، بل إن الباشا لم يلبث أن عمد بعد فراغه من أمر الإنجليز وانسحاب جيش فريزر من الإسكندرية، إلى إبطال مسموح المشايخ، والفقهاء ومعافي البلاد التي التزموا بها، ومع أن هذا الإجراء أنزل خسارة مادية جسيمة بالمشايخ المتصدرين؛ لأنهم - كما عرفنا - كانوا من كبار الملتزمين وقتئذ، ويملكون حصصا كثيرة، فإن أحدا منهم لم يجرؤ على معارضة الباشا؛ لضعفهم وتخاذلهم وانقسامهم على أنفسهم من جهة؛ ولأنه لم يكن في مقدورهم استثارة الأهلين أو فلاحيهم لمقاومة هذا الإجراء، ومناصرتهم، لضياع هيبتهم عموما في نظر الأولين، ولنفور فلاحيهم منهم، بعد أن عسفوا بهم، وأرهقوهم بمظالمهم.
وحدث أول احتكاك بين المشايخ ومحمد علي في أغسطس 1808، ظهر منه استخذاؤهم، أمام تهديده لهم بتجريدهم من حصصهم، وكان الباشا قد قرر ضريبة، أربعة في المائة على كل الحبوب والمأكولات المباعة في الشوارع والميادين والأسواق، وأزعجت هذه الضريبة القاهريين إزعاجا كبيرا، ثم زاد البلاء عندما جاء فيضان النيل في هذا العام قليلا، فنقص النيل نحو خمسة أصابع، وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم، فضج الناس، ورفعوا الغلال من الرقع والعرصات، والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شحة النيل في العام الماضي، وهيفان الزرع، وتنوع المظالم، وخراب الريف، وجلاء أهله.
فاجتمع المشايخ يوم 20 أغسطس، وطلعوا عند الباشا، للنظر فيما يجب فعله، لرفع المظالم وتفريج كربة الناس، فأشار الباشا بعمل استسقاء، وبأن يأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج إلى الصحراء، وأن يدعوا الله، وعندئذ انبرى الشيخ عبد الله الشرقاوي لنصح الباشا، فقال: ينبغي أن ترفقوا بالناس وترفعوا الظلم؛ حيث إن تخفيض الضرائب قد يكون في هذه الظروف أجدى نفعا في إزالة الضائقة، فكان جواب محمد علي: «أنا لست بظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فإني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم إكراما لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفتر محرر فيه تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ولا بد أني أفحص عن ذلك، وكل من وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة من فلاحيه أرفع الحصة عنه، فقالوا: لك ذلك»، وسكتوا أمام هذا التهديد، وراحوا ينشرون بين الناس ضرورة الخروج والسقيا، واتفق رأيهم على الذهاب إلى جامع عمرو بن العاص؛ لكونه محل الصحابة والسلف الصالح، يصلون به صلاة الاستسقاء، ويدعون الله ويستغفرونه، ويتضرعون إليه في زيادة النيل.
وفي 21 أغسطس ركب السيد عمر مكرم والمشايخ وأهل الأزهر وغيرهم، وتبعهم الأطفال، «واجتمع عالم كثير، وذهبوا إلى الجامع المذكور، بمصر القديمة، وصعد الشيخ جاد المولى على المنبر وخطب بعد أن صلى صلاة الاستسقاء، ودعا الله، وأمن الناس على دعائه، وحول رداءه، ورجع الناس بعد صلاة الظهر، وبات السيد عمر مكرم هناك، وفي تلك الليلة رجع الماء إلى محل الزيادة الأولى، واستتر الحجر الراقد بالماء»، ثم أشار بعض الناس في اليوم التالي (22 أغسطس) بإحضار الرؤساء الدينيين للقبط وطوائف اليونان والأرمن، والمسيحيين اللاتينيين من إرسالية الأرض المقدسة، والمبشرين الكاثوليك، والمارونيين واليهود الربانيين، فخرجوا جميعا إلى الجامع، وحضر المعلم غالي، ومن يصحبه من الكتبة الأقباط وجلسوا في ناحية من المسجد، يشربون الدخان، وانفض الجمع أيضا، وفي تلك الليلة زاد الماء ونودي بالوفاء وفرح الناس. وفي 23 أغسطس حضر الباشا والقاضي واجتمع الناس، وكسروا السد، وجرى الماء في الخليج، ولو أنه كان جريانا ضعيفا.
على أنه وإن كان قد انقضى بسلام أول احتكاك بين المشايخ والباشا، فقد كان من الواضح أن عوامل السخط والتذمر قد أخذت تتجمع في أوساط المشايخ، بسبب حرمانهم من إعفاءاتهم السابقة، في مسموحهم، وتهديد الباشا لهم بتجريدهم من حصصهم، ثم ما اتضح لهم من فقدان كل نفوذ لهم لدى حكومته، مع اتخاذ الباشا لهم أدوات طيعة لتوزيع المغارم والسلف على الأهلين، واستخدامهم في حمل هؤلاء على دفعها، وإرهاقهم هم أنفسهم بمطالبه المالية المتكررة، بالصورة التي سبق بيانها عند الكلام عن أساليب محمد علي المالية.
وانقسم المشايخ في حال سخطهم وتذمرهم، وفي موقفهم من حكومة الباشا عموما إلى فريق، انتهز فرصة هذا التذمر للفوز بمآربه الذاتية ونفعه الخاص على حساب الجماعة بالزلفى لدى الباشا والسعي في حق منافسيه على مكان الصدارة الذي أراد الاستئثار به لنفسه فحسب، وفريق خيل إليه الوهم أنه قد آن الأوان لمناقشة الباشا الحساب، ووقف مظالمه، والحد من سلطان حكومته، بفرض المشورة عليه فرضا، وإلزامه باتباع النصيحة إلزاما، وانفرد يتزعم هذه المعارضة السيد عمر مكرم في الظروف التي سيأتي ذكرها، ثم فريق ثالث، كان يتألف من المشايخ من غير المتصدرين، الذين وإن كانوا متذمرين وساخطين، فقد آثروا الصمت وعدم الجهر بتذمرهم وسخطهم، اللهم إلا بين أصدقائهم وخاصتهم. (4) المعارضة الصامتة: عبد الرحمن الجبرتي
ويمثل فريق هذه المعارضة الصامتة، الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، صاحب التاريخ المسمى «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، انحدر من سلالة اشتهر أفرادها بالعلم والفضل، ونشأ في بيئة علمية وثقافية، وكان أهله أصحاب ثراء وافر، فخالط خيار القوم، وتلقى الدروس عن أكابر الأشياخ، ومارس شئون الحياة الدنيا، وعرف الكثير عن أخبار قارئي العلم في الأزهر الشريف، وفي غيره من الجوامع، وعن كبار البكوات المماليك وصغارهم، والباشوات العثمانيين، وأرباب الدولة عموما، وقد حفزه على الاستفاضة من هذه المعرفة خصوصا، اهتمامه بالتأريخ لهم، وتسجيل الحوادث التي وقعت في هذه البلاد، سواء ما وصله خبره منها مما لم يحضره، أو ما شاهده منها بنفسه، وقد تحدث الشيخ عن الدافع له على تدوين هذه الحوادث، والطريقة التي اتبعها في تسجيلها، مما يسهل معرفته بالرجوع إلى ما كتبه عن ذلك في «تاريخه»، وأغرم الشيخ بالتاريخ، فقرأ كثيرا من كتبه، واستخلص منه عظات وعبرا جمة، وأفاده حسن انتباهه ودقة ملاحظته لما كان يجري من وقائع في عصره، لتبويبها وتسجيلها في تاريخه في فهم التاريخ وأغراضه ومراميه كصورة صادقة للحوادث من جهة، ووصف صحيح لطبائع الخلق وصفات الأفراد الذين اشتركوا في هذه الحوادث، فتحرى الدقة في كل ما سجله منها، وصار له رأي في نشأة المجتمع الإنساني، ووظائف الحكام، وواجباتهم، وراح على ضوء المبادئ التي أخذ بها في أصول الحكم وأسبابه وغاياته، ينقد أساليب الحكام، ويعرض الآثار التي ترتبت على مسلكهم في الحكم وسياسة شئون الرعية، ولم يفته بيان موقف هذه الرعية من مختلف الأحداث التي شهدوها، ورد الفعل الذي وقع بينهم نتيجة لها. (4-1) بيئته ونشأته
وينتسب أجداد الشيخ إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - جده السابع، والذي ينتهي علم الشيخ إليه، هو زين الدين عبد الرحمن الجبرتي، ارتحل من جبرت من بلاد زيلع بأرض الحبشة، إلى جدة ، ثم انتقل إلى مكة التي جاور بها وحج مرارا، ثم جاور بالمدينة المنورة سنتين، ولقي من لقي بالحرمين من الأشياخ وتلقى عنهم، ثم رجع إلى جدة، وكان حضوره إلى مصر من طريق القلزم في أوائل القرن العاشر للهجرة، والسادس عشر للميلاد، فجاور بالأزهر، وتولى شيخا على رواق الجبرتية، وخلفه على مشيخة الرواق ولده شمس الدين محمد، وكان صالحا عالما وصاحب كرامات، أقرأ دروسا في الفقه والمعقول، ثم خلفه على المشيخة بعد وفاته، ابنه الشيخ نور الدين علي، وقد نشأ هذا أيضا على قدم أسلافه في ملازمة العلم والعمل، وصار له شهرة وثروة، وتزوج زينب الجوينية ابنة القاضي عبد الرحيم الجويني، وكان ذا ثراء، وأنجب الشيخ نور الدين علي، الشيخين: حسن جد والد صاحب «عجائب الآثار»، وعبد الرحمن، وقد توفي سنة تسع وثمانين وألف (1678)، وأما حسن فقد عاش حتى سنة سبع وتسعين وألف (1686)، «وكان لزينب الجوينية أماكن جارية في ملكها وقفتها على ولدي زوجها المذكورين.»
وأخذ الشيخ حسن الجبرتي عن أشياخ عصره من أهل القرن الحادي عشر الهجري، كالبابلي والأجهوري والزرقاني وسلطان المزاحي والشبراملسي والشهاب الشوبري، وتفقه على الشيخ حسن الشرنبلالي الكبير ولازمه ملازمة كلية، وأعقب الشيخ حسن، برهان الدين إبراهيم، وكان هذا عند وفاة أبيه رضيعا، فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ محمد بن عمر المنزلي الأنصاري، فنشأ أيضا نشئا صالحا، تزوج ستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدلجي، وبنى بها في ربيع أول سنة ثمان ومائة وألف (أكتوبر 1696)، وأعقب نور الدين حسن الجبرتي والد الشيخ عبد الرحمن، وقد توفي بعد ولادة ابنه بشهر واحد، وذلك في سنة عشر ومائة وألف (1698).
وقامت بتربية نور الدين والدته بكفالة جدته أم أبيه، الحاجة مريم، ووصاية الشيخ محمد النشرتي شيخ الأزهر حينئذ، وقرروه في مشيخة الرواق كأسلافه، والمتكلم عنه الوصي المذكور، فتربى في حجورهم حتى ترعرع، وأخذ العلم عن أشياخ العصر، كالشيخ حسن الشرنبلالي ابن الشرنبلالي الكبير، والمشايخ: السيد علي السيواسي الضرير، وأحمد التونسي المعروف بالدقدوسي، وعلي العقدي، ومحمد بن عبد العزيز الزيادي والشهاب أحمد بن مصطفى الإسكندراني الشهير بالصباغ، ومنصور المنوفي ومحمد السجيني الضرير، وغيرهم وغيرهم من أئمة ذلك الزمان، واشتغل بتجديد الخط وأتقن اللغتين الفارسية والتركية، ثم اهتم بدراسة الرياضيات، وبرع فيها، تلقى العلوم الرياضية والمعارف الحكمية والفلسفية على الشيخ حسام الدين الهندي والشيخ محمد الغلاني الكشناوي «وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرءوا عليه علم الهندسة، وذلك سنة تسع وخمسين (1746) وأهدوا له من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القوة إلى الفعل»، وأعجب بعلمه الوالي أحمد باشا المعروف بكور وزير (1748-1750)، فكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني.» ومن نشاطه أنه عندما وقع الخلل في عام 1758 في الموازين والقبانين وجهل أمر وضعها ورسمها وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات وترتب على ذلك ضياع الحقوق وتلاف الأموال، وفسد على الصناع تقليدهم الذي درجوا عليه فعند ذلك تحركت همته لتصحيح ذلك، وأحضر كبار القبانية والوزانين وأطلعهم على سر الصنعة ومكنونها، ووضع في ذلك كتابا سماه العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين.
وكان الشيخ نور الدين حسن على علمه وفضله متواضعا لا يعرف التصنع في الأمور، ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة، ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد، وله منزلة عظيمة في قلوب الأكابر والأمراء والوزراء والأعيان ويسعون إليه، ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات، ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون في حاجة يتكلم فيها، وله عندهم محبة ومنزلة في قلوبهم زيادة عن نظرائه من الأشياخ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم، استشاره في سنة 1186ه / 1772 الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية في أيهما الأفضل: تقليد الصحفية أو كتخدا الجاويشية، فأشار عليه بالثانية، فعمل برأيه.
وكانت للشيخ مكتبة يختلف إليها المشايخ والطلاب ويستعيرون منها ما يشاءون، أهداه السلطان مصطفى الثالث نفائس من خزائنه، وكذلك أكابر الدولة الروم ومصر وباشة تونس والجزائر، واجتمع لديه من كتب الأعاجم مثل الكلستان وديوان حافظ وشاه نامه، وتواريخ العجم وكليلة ودمنة ويوسف زليخا وغير ذلك . وكذلك الآلات الفلكية من الكرات النحاس وغيرها من الآلات الارتفاعية والميالات، وحلق الأرصاد والأسطرلابات والأرباع والعدد الهندسية، وأدوات غالب الصنائع، مثل النجارين والخراطين والحدادين والسمكرية والمجلدين والنقاشين والصواغ، وآلات الرسم والتقاسيم.
لازمه من المشايخ الذين توثقت أواصر الصداقة بينهم وبينه، محمد بن إسماعيل النفراوي، ومحمد الصبان، ومحمد عرفة الدسوقي، ومحمد الأمير، وعبد الرحمن العريشي، ومحمد الفرماوي وغيرهم، وتلقى عنه من أشياخ العصر محمد المصيلحي وحسن الجداوي وأحمد بن يونس ومحمد الخالدي الشافعي الشهير بابن الجوهري وغيرهم، وهذا إلى جانب من كان يعولهم من الأشياخ الناشئين والمهاجرين.
وعاش نور الدين حسن الجبرتي في يسر ورخاء، وقفت عليه جدته أماكن عدة، منها الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية، ومع اشتغاله بالعلم كان يعاني التجارة والبيع والشراء والمشاركة والمضاربة والمقايضة، وحدث أن تزوجت جدته بعد وفاة جده الأمير علي آغا، باش اختيار متفرقة، المعروف بالطوري وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح، وكانت إذ ذاك عامرة وبها المرابطون، ويصرف عليهم العلوفات والاحتياجات، وبنى الشيخ نور الدين بابنته، ولما مات صهره في عام 1137ه/1725 تقلد أعماله وحل في وظيفته مع كونه في عداد العلماء، ولبث بها فترة من الزمن، ولكنه لم يلبث أن تكدر خاطره عندما أرسل خادما له يسمى سليمان الحصافي (جربجيا) على قلعة المويلح، فقتلوه هناك، فتكدر لذلك، وترك هذا الأمر، وأعرض عنه وأقبل على شأنه، من الاشتغال، وماتت زوجة بنت الأمير علي آغا في حياة أبيها، فتزوج بنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب، وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وعقارات وأوقاف، ومن ذلك وكالة لكتان، وربع وحوانيت تجاه جامع الزردكاش، وبيت كبير بساحل النيل، وآخر تجاه جامع مرزه جربجي، وتوفي رمضان هذا في سنة تسع وثلاثين ومائة وألف (1727). واستمرت ابنته في عصمة الشيخ نور الدين محمد حتى ماتت في المحرم سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف (مايو 1768) وعمرها ستون سنة، وكانت من الصالحات الخيرات المصونات، وحجت صحبته في سنة إحدى وخمسين (1739) وكانت به بارة وله مطيعة. واقتنى المماليك والعبيد والجواري البيض والحبوش والسود، وأنجب من الأولاد نيفا وأربعين ولدا ذكورا وإناثا ماتوا كلهم دون البلوغ، ولم يعش له من الأولاد سوى عبد الرحمن الجبرتي، وكانت وفاة الشيخ نور الدين بعد مرضه بالهيضة الصفراوية، في غرة صفر سنة ثمان وثمانين ومائة وألف (13 أبريل 1774).
تلك إذا كانت البيئة التي نشأ فيها عبد الرحمن الجبرتي، وهي بيئة علم ودين وأدب وثقافة، ويعيش أهله في ثراء، ولوالده جاه ونفوذ كبيران.
وقد ولد الشيخ عبد الرحمن في خريف سنة سبع وستين ومائة وألف (1754)، ووالدته إحدى السراري، وكان الابن الثاني لولده في هذا العام، ثم لم يلبث أخوه أن لحق بسائر أولاد الشيخ نور الدين المتوفين، وكان ذلك سنة 1179ه/1766م. وأما عبد الرحمن فقد درس في بعض الكتاتيب بحي الأزهر، ثم في مدرسة السنانية بخطة الصنادقية، ثم التحق برواق الشوام لتلقينه مذهب الحنفية على يد الشيخ عبد الرحمن العريشي (1763)، ولكن والده لم يلبث أن زوجه بعد خمس سنوات عام 1182ه/1768م، فقطع المجاورة، ولكنه لم ينقطع عن الأزهر، أخذ عن والده العلوم الرياضية والحكمية والفلكية، وانتفع بما كان يقصه عليه من أخبار الأشياخ، والعلماء والحكام، وقد شاركه في هذه الدروس وهو ناشئ، الشيخ أحمد الطهطاوي، وتوثقت عرى الصداقة بين الطهطاوي وعبد الرحمن الجبرتي من ذلك الحين، وكان أكبر أساتذته الأثرين عنده، أبو الفيض محمد مرتضى الزبيدي - وقد سبق الحديث عنه - ثم عبد ربه العزيزي المعروف بابن الست. وكان من أصدقائه أشياخ عرفوا بالعلم والصلاح وصناعة الأدب، كالشيخ أحمد يوسف الشنواني والشيخ يوسف الديار بكرلي والسيد علي العلوي، والسيد إسماعيل وهبي الخشاب، وعلي عبد الله درويش الرومي والشيخ حسن العطار وغيرهم. وبرع عبد الرحمن في علم الفلك والعلوم الرياضية، وقد ثابر على حضور وإلقاء الدروس في الأزهر وفي بيته في الفلك والهندسة والحساب والفقه، ولم تصرفه مشاغله الدنيوية عن العلم، عندما انتقل إليه الإشراف على إدارة الأملاك التي ورثها عن والده، والأوقاف التي كانت للأسرة في القاهرة، ومصر القديمة وبولاق وإدكو، وفي غير ذلك من الجهات.
وكان بعد وفاة والده الشيخ نور الدين حسن الجبرتي أن قام عبد الرحمن في الأيام الأولى من عام تسع وثمانين ومائة وألف (1775) برحلة إلى الوجه البحري، فزار كفر الزيات وطنطا؛ حيث حضر المولد الأحمدي بها في هذا العام، وعقد أواصر الصداقة هناك مع الشيخ أحمد السماليجي الشافعي، الذي ظل يزوره بعد ذلك ويتردد عليه بمنزله في القاهرة، ثم فوة ورشيد؛ حيث زار الشيخ أحمد علي الخضري، وشهد مؤلفين لوالده، ثم إدكو وبها أوقاف الجبرتية، ولا يبعد أن يكون قد زار أبيار كذلك؛ حيث للأسرة بها أرض ومزارع، وزار عبد الرحمن في السنة نفسها دمياط والمنصورة. ومن المتفق عليه أنه حج إلى مكة وزار الصعيد، وهناك من يرجح أنه زار أبا قير والإسكندرية؛ حيث اجتمع بالشيخ المسيري المالكي، عالم الإسكندرية وشيخها الأكبر لذلك العهد.
وفي سنة إحدى وتسعين ومائة وألف (1777) عمر عبد الرحمن داره التي بالصنادقية، وقد ألف الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي أبياتا وتاريخا رقمت بطراز مجلس العقد الداخل، تبدأ بقوله:
خليلي هذا الروض فاحت زهوره
ولاح على الأكوان حقا ظهوره
وتنتهي بقوله:
ودام به سعد السعود مؤرخا
حمى العز بالمولى الجبرتي نوره
وفي أواخر سنة خمس وتسعين ومائة وألف (1781) تزوج الشيخ ربيبة صديقه علي عبد الله درويش الرومي برغبة منه، وما إن حصلت النسابة والمصاهرة حتى حوله بعياله إلى منزله؛ لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعاش. (4-2) تصنيف «عجائب الآثار»
وكان في شهر مارس 1788، أن فاتحه أستاذه الشيخ مرتضى الزبيدي في معاونته على إتمام ترجمة لأعلام القرن الثاني عشر الهجري من مصريين وحجازيين، وكان الذي طلب من الشيخ مرتضى ذلك، مفتي دمشق، أبو المودة محمد خليل المرادي الحسيني، فكان ذلك مبعث «عجائب الآثار»، وقد انكب عبد الرحمن على عمله بكل همة، فسود أوراقا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه وأوائل الثالث عشر الهجري، قال إنه «جمع فيها بعض الوقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدناها.» وقد رجع الشيخ في تقصي هذه الوقائع إلى كل ما عثر عليه من مؤلفات ومصنفات، ولو أن هذه كانت قليلة، فإنه وإن كان قد دون أسماء مشهوري المؤرخين وتصانيفهم، كالطبري وابن الأثير وابن الجوزي وابن خلكان، والمسعودي، والذهبي، والسمعاني وابن حجر العسقلاني، والصفدي والسيوطي وابن عساكر، واليافعي، وأبي نعيم، والمقريزي، والعيني، وقد قال الشيخ عن تاريخه إنه في أربعين مجلدا، رأيت منه بعض مجلدات بخطه وهي ضخمة في قالب الكامل، والسخاوي، وابن دقاق، وابن خلدون وهو في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة، من اطلع عليها رأى بحرا متلاطما بالعلوم، مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم. نقول إن الشيخ الجبرتي وإن كان قد ذكر كل هؤلاء المؤرخين ودون أسماء كتبهم، فقد استدرك قائلا: «وهذه صارت أسماء من غير مسميات، فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس، مما تداولته أيدي الصحافيين، وباعها القومة والمباشرون، ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم.»
ولما عزم الشيخ على جمع ما كان سوده لكتابة تاريخه، أراد أن يوصله بشيء قبله فلم يجد بعد البحث والتفتيش إلا بعض كراريس سودها بعض العامة من الأجناد ركيكة التركيب، مختلفة التهذيب والترتيب، وقد اعتراها النقص من مواضع في خلال بعض الوقائع، وكان ظفر بتاريخ من تلك الفروع، لكنه على نسق في الجملة مطبوع، لشخص يقال له أحمد جبلي بن عبد الغني، مبتدئا فيه من وقت تملك بني عثمان للديار المصرية، وينتهي كغيره مما ذكره إلى خمسين ومائة وألف هجرية (1737)، ثم إن ذلك الكتاب استعاره بعض الأصحاب، وزلت به القدم، ووقع في صندوق العدم، ومن ذلك الوقت إلى وقتنا هذا لم يتقيد أحد بتقييد، ولم يسطر في هذا الشأن شيئا يفيد، فرجع الجبرتي إلى النقل من أفواه الشيخة المسنين، وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين، وما انتقش على أحجار ترب المقبورين، وذلك من أول القرن إلى السبعين، وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها، ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها إلى أن تم ما قصدنا بأي وجه كان، وانتظم ما أردنا استطراده من وقتنا إلى ذلك الأوان. وقد عاونه إسماعيل الخشاب في الوقوف على الصكوك والحجج وما إليها من الوثائق المودعة بدار المحكمة الكبيرة، وكان قد تنزل لحرفة الشهادة بها لضرورة التكسب في المعاش، ثم لم يلبث الفرنسيون أن عينوه؛ أي الخشاب، في كتابة التاريخ لحوادث الديوان الذي رتبوه لقضايا المسلمين.
ويعزو الشيخ عبد الرحمن الفضل في جمع هذا التاريخ إلى مفتي دمشق السالف الذكر، فيقول: إنه «السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق، فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى، والتمس منه نحو ذلك؛ أي جمع تراجم أهل بلاده وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر الهجري، فأجابه لطلبته»، وشرع السيد مرتضى في جمع المطلوب بمعونة عبد الرحمن، ولم يذكر السبب الحامل على ذلك، ويذكر الجبرتي أنه ذهب يوما بما تيسر جمعه إلى السيد مرتضى وعنده بعض الشاميين، فأطلعه عليه، فسر بذلك كثيرا، وطارحه، وطارحه الجبرتي في نحو ذلك بمسمع من المجلس.
ولكنه حدث بعد هذه المقابلة بوقت قليل أن توفي السيد مرتضى (في أبريل 1791)، فتنوسي هذا الأمر شهورا، ووصل نعي السيد مرتضى إلى مفتي دمشق، أبي المودة، فبعث بكتاب إلى عبد الرحمن وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي تستدعي تحصيل ما جمعه الشيخ مرتضى من أوراقه، وضم ما جمعه عبد الرحمن وما تيسر ضمه أيضا وإرساله، وقد بلغ أبا المودة من الشيخ مرتضى نفسه أن عبد الرحمن الجبرتي قد أعانه على ذلك.
فنشط عبد الرحمن في فحص أوراق الشيخ مرتضى، وكان قد استطاع الظفر بها، وشراءها من تركته بعد وفاته، وهي في عشرة كراريس، رتبها الشيخ مرتضى على حروف التهجي وسماه المعجم المختص، ذكر فيه شيوخه ومن أخذ عنه أو ساجله أو جالسه من رفيق وصاحب وصالح، وقال: «أو من المشاهير، وقد أذكر فيه من أحبني في الله وأحببته أو استفدت منه شيئا أو أنشدني شيئا أو كاتبني أو كاتبته أو بلوت منه معروفا وكرما ... إلى آخر ما قال»، إلا أن الكراريس المذكورة لم تكمل، وترك في الحروف بياضات كثيرة، وغالب ما فيها - كما وجدها عبد الرحمن - أفاقيون من أهل المغرب والروم والشام والحجاز بل والسودان، والذين ليس لهم شهرة ولا كثير بضاعة من الأحياء والأموات، وأهمل من يستحق أن يترجم من كبار العلماء والأعاظم ونحوهم.
ويستطرد الجبرتي فيقول، إنه لما رأى ذلك، وعلم الباعث على جمع هذه التراجم، وتحققت لديه رغبة الطالب لذلك؛ أي أبي المودة السيد خليل مفتي دمشق، بادر بجمع ما كان سوده، وزاد فيه، وهي تراجم فقط دون الأخبار. وبينا هو مشتغل بذلك، جاءه نعي أبي المودة نفسه، الذي توفي في حلب في أواخر صفر سنة ست ومائتين وألف (أكتوبر 1791)، ففترت الهمة وطرحت تلك الأوراق في زوايا الإهمال مدة طويلة حتى كادت تتناثر وتضيع.
ولكن الجبرتي وإن كان قد طرح هذه الأوراق الخاصة بالتراجم دون الأخبار في زوايا الإهمال، فقد حرص من جهة أخرى على تدوين الوقائع وبخاصة ما استجد منها بعد هذا التاريخ على أيام الاحتلال الفرنسي، وكان يسجل كل واقعة بذاتها في جزازة مستقلة أو طيارة - كما يسميها - والدليل على ذلك أنه استطاع عند خروج الفرنسيين أن يضع كتابه الأول، وباكورة إنتاجه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» لإهدائه إلى يوسف ضيا باشا، بمناسبة استرجاع الدولة لهذه البلاد، وإنقاذها من المحتلين، وقد انتهى هذا التاريخ عند آخر شعبان 1216 / 4 يناير 1802، وأثبته في «عجائب الآثار» عند تدوينه بعد أن حذف مقدمته، وفصولا كان قد كتبها صديقه الشيخ حسن العطار. وثمة دليل آخر على تسجيله الوقائع ابتداء من سنة مائتين وألف (1786)، أنه استبدل بسرده الإجمالي للحوادث في الأعوام السابقة، والاهتمام أكثر الاهتمام بذكر الوفيات، إثبات الوقائع مفصلة بتدقيق يتناول أوقاتها في صبح أيامها وظهرها وعصرها ومغربها ومسائها، ثم إنه لم يعد يعتذر عن عجزه عن تحري تواريخ وفاة من ترجم لهم، كما كان يفعل خصوصا في الفترة السابقة على عام 1786.
ولم يبدأ عبد الرحمن كتابة تاريخه «عجائب الآثار» في النسق الذي ظهر فيه إلا بعد فترة طويلة من الزمن، وذلك عندما «حصل عندي باعث من نفسي على جمع الأوراق التي طرحت في زوايا الإهمال مدة طويلة مع ضم الوقائع والحوادث والمتجددات على هذا النسق»، وكان عندئذ - كما سبقت الإشارة إليه - أن راح ينقب في خزائن الكتب، ويطوف بالمقابر لقراءة أحجار ترب المقبورين، ويجد الذهن في استذكار ما كان سمعه من والده، ويسأل الأشياخ والمصريين، ويطلب معاونة إسماعيل الخشاب، في مراجعة الحجج والصكوك بالمحكمة، إلى غير ذلك من الوسائل التي لجأ إليها لاستيفاء معلوماته عن الموضوعات والحوادث السابقة التي أراد أن يصل تاريخه بها.
ولم يزعم الجبرتي أن ما سجله في تاريخه عن هذه الحوادث السابقة أو اللاحقة عن الصدق والحقيقة، وبمنأى عن كل مطعن وتجريح، فهو ما يفتأ يقول إن ما ذكره عن وقائع القرن الثاني عشر، وتراجم أعلامه، إنما هو «على سبيل الإجمال بحسب الإمكان، فإني لم أعثر على شيء من تراجم المتقدمين من أهل هذا القرن، ولم أجد شيئا مدونا في ذلك إلا ما حصلته من وفياتهم فقط، وما وعيته في ذهني، واستنبطته من بعض أسانيدهم وإجازات أشياخهم، على حسب الطاقة»، وأن ما جمعه كان «بحسب التيسير أن التفصيل متعذر، وجمع الشوارد في الظلام متعسر، وذلك بحسب الإمكان، وما وعاه الفكر والذهن خوان»، ثم يقول في ختام سنة خمس وعشرين ومائتين وألف (1810): «وانقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها؛ إذ لا يمكن استيفاؤها للتباعد عن مباشرة الأمور وعدم تحققها على الصحة، وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواية فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار، وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف، وربما أخرجت قيد حادثة حتى أثبتها، ويحدث غيرها، وأنساها، فأكتبها في طيارة حتى أقيدها في محلها، إن شاء الله تعالى عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشوش البال، وتكدر الحال، وهم العيال، وكثرة الاشتغال، وضعف البدن، وضيق العطن.»
ومع ذلك، فقد دل الاستقراء على أن الوقائع التي سجلها الجبرتي بنفسه وبخاصة عن عهدي الحملة الفرنسية ومحمد علي، ويشغل هذان العهدان الجزأين الثالث والرابع من تاريخه الذي يقف عند آخر ذي الحجة 1236 / 27 سبتمبر 1821، صحيحة في جوهرها وتفاصيلها، ومتفقة مع ما ذكره عنها غيره من المعاصرين الأجانب، ووجه الاختلاف بين ما دونه الشيخ وهؤلاء المعاصرون أنفسهم، وبين ما أظهره البحث الحديث، أن مرد ما قد يلاحظ من نقص في سرد بعض الوقائع، أو في استيفاء تفسيراتها إنما هو إلى عجز الشيخ وغيره من الكتاب الأجانب المعاصرين عن معرفة خفايا الأمور، وأسرار السياسة، التي كانت من شأن الحكام والمسئولين وحدهم فحسب، والتي لا سبيل لمعرفتها وإدراكها إلا بالرجوع إلى التقارير والوثائق الحكومية، مما لم يكن في متناول الشيخ أو متناولهم، أضف إلى هذا أن الجبرتي لم يكن - كما قال هو نفسه - من المقربين من أصحاب الحكم والسلطان أيام محمد علي، فاستمد المعلومات التي دونها عن عهده من أصدقائه وإخوانه والمشايخ، أو من المتصلين بالبكوات المماليك، وقد كان هو نفسه على صلة بكثيرين منهم، أو اعتمد على مشاهداته الخاصة، أو صار يقيد الأخبار التي قدر لها الذيوع والانتشار، وذلك بعد التدقيق في التحري عن مبلغ صحتها، وتفسير هذه الحقيقة خلو «عجائب الآثار» من المسائل الخاصة بصلات محمد علي السياسية بالدول الأجنبية إلا النذر اليسير منها. (4-3) التفكير السياسي عند الجبرتي
ولقد كان من شأن الثقافة التي تثقف بها الشيخ عبد الرحمن على يد والده، ثم جناها من اشتغاله بالتاريخ، منذ أن توفر على التنقيب عن تراجم الأعيان الذين أراد الترجمة لهم، وجمع شوارد الحوادث التي أراد تنسيقها وتسجيلها في «مظهر التقديس» أولا، ثم في «عجائب الآثار» ثانيا، إلى جانب الخبرة والتجربة اللتين كسبهما من حياته العامة والخاصة - وقد كان الشيخ أحد أعضاء الديوان الذي أنشأه الجنرال منو، كما كان صديقا لعديدين من البكوات، وأتاح له فضله كأحد نوابغ العلماء في عصره، وجاهه كأحد سراته، أن يعرف أو يصادق أكثر الأشياخ - نقول إنه كان من شأن ذلك كله أن صارت للشيخ فكرة واضحة محددة في أصول الدولة والسياسة شكلت موقفه من الحوادث التي شهدها، وتأثرت بها الأحكام التي أصدرها على المسئولين في عهده، سواء كان هؤلاء من المشايخ - وقد اعتبرهم في عداد أصحاب المسئولية - أم من البكوات المماليك، أم من الحكام الفرنسيين، أم من الباشوات العثمانيين، وعلى رأس هؤلاء الآخرين محمد علي.
ولقد تأثر الجبرتي في تفكيره أكثر ما تأثر - على ما يبدو - بآراء ابن خلدون، وهو الذي أعجب الشيخ بتاريخه ومقدمته، وسماه العلامة ابن خلدون، وقال إن تاريخه في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة، من اطلع عليها رأى بحرا متلاطما بالعلوم، مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم. ولم يختص الشيخ أي تصنيف آخر من الكتب والتواريخ التي ذكرها بمثل ما وصف به مقدمة ابن خلدون، لكتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
ومع ذلك، فلا يجب الاعتقاد بأن الشيخ لم يتأثر بغير ابن خلدون، من أصحاب التواريخ والتصنيفات التي ذكرها، أو بالآراء الذائعة المعروفة في أوساط علماء هذا العصر عن الخلافة والإمامة وما إلى ذلك من الأنظمة المتصلة بأصول الحكم والسياسة، والتي دان بها وأوضحها قادة الفكر والرأي من الفقهاء والمؤرخين العرب، بل إن تجارب الشيخ المستمدة من واقع الحياة، وما تخلف عنها من انطباعات في نفسه، كان ذا أثر في تكييف وجهات النظر التي أخذ بها، وبناء الرأي الذي صار له في كل هذه المسائل. على أن ثمة حقيقة أخيرة، هي أن العبر والعظام التي استخلصها الشيخ من تجاريبه ومن الحوادث التي وقف عليها بالبحث والتنقيب أو شاهدها بنفسه، كانت مبنية على تلك القيم والمثل التقليدية الذائعة في الأوساط العلمية والفقهية في عصره، فكان الجديد في تنسيق فكرته السياسية، نتيجة لهذا المزج كله، أن جعل العلم والعدل بالمعنى المتفق عليه عند علماء التفسير قوام المجتمع البشري وأساس الحكم الصالح والسياسة الرشيدة، وأن اتخذ من مقياس العلم والعدل أداة لتقسيم المجتمع إلى طبقات، ترتفع بعضها فوق بعض درجات.
ولما كان السبيل المتعارف عليه بين المتصدين لتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية في العمران البشري، لاستخلاص العبر والعظات منها، توطئة لبسط الرأي في أصول الحكم وسياسة الدولة، وتعزيزا له، هو الوقوف على تاريخ البشر منذ خلق العالم، فقد عنى الجبرتي - كما فعل الذين سبقوه - بتعريف التاريخ وبيان الغرض من تسجيله ودراسته، وذكر منافعه، ولم يأت الشيخ بجديد، بل يبدو أن مقالته في هذا الشأن لا تعدو كونها تلخيصا موجزا لما قاله ابن خلدون نفسه.
وقد عرف الجبرتي التاريخ بأنه «علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم، وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكام والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم، والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت، وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن؛ ليتحرز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويجتنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني، ويجتهد في طلب الباقي»، وهو علم شريف «فيه العظة والاعتبار، وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار ... ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني تعتني بتدوينه سلفا عن سلف وخلفا من بعد خلف»، وفن التاريخ «علم يندرج فيه علوم كثيرة، لولاه ما ثبتت أصولها، ولا تشعبت فروعها»، ثم يقول: إنه «ما ألف في فن من الفنون مثل ما ألف في التواريخ؛ وذلك لانجذاب الطبع إليها، والتطلع على الأمور المغيبات، ولكثرة رغبة السلاطين لزيادة اعتناقهم بحب التطلع على سير من تقدمهم من الملوك، مع ما لهم من الأحوال والسياسات وغير ذلك»، وقد أثبت الشيخ قائمة طويلة بالكتب المصنفة في التاريخ. وأما نظرة الجبرتي في نشأة المجتمع الإنساني وأصول الحكم، وشروطه، فقد أوجزها في قوله: «اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبث فيها كل دابة وقدر أقواتها، أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومأكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم؛ لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا، لا يستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح، فجعلهم الله تعالى يتعاضدون ويتعاونون في تحصيلها وترتيبها، بأن يزرع هذا لذاك، ويخبز ذاك لهذا، وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم، وركز في نفوسهم الظلم والعدل.
ثم مست الحاجة بينهم إلى سائس عادل وملك عالم يضع بينهم ميزانا للعدالة، وقانونا للسياسة، توزن به حركاتهم وسكناتهم، وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم، فأنزل الله كتابه بالحق، وميزانه بالعدل، كما قال تعالى:
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .»
وواضح أن الجبرتي في تفسير نشأة المجتمع الإنساني، قد ذهب مذهب من سبقوه من مفكري العرب إجمالا، من حيث اعتبار الحرية المطلقة قوام الحياة البدائية، يتمتع بها فرد، فلا يحدها سوى الحرص على سلامة الفرد نفسه؛ إذ يفضي عدم الحد منها إلى هلاكه، ويتم هذا التقليد بداهة وطبيعيا، ودون حاجة إلى عقد، وذلك بالإضافة إلى أن هذا الحد نفسه من حرية الأفراد قانون للسياسة وميزان للعدالة، ويترتب على هذه الحالة حصول الاجتماع للبشر، ثم يرتبط بوجود هذا الاجتماع، ظهور وازع يدفع بعضهم عن بعض. ومما تجدر ملاحظته أن الجبرتي كان متفقا في هذا كله مع ابن خلدون، ولكنه لم يلبث أن خالفه في اعتبار أن لا مناص من أن يكون الحكم في يد ذلك الملك العالم والسائس العادل بشرع مفروض من عند الله، بينما يرى ابن خلدون أن «الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته»، وجلي أن الشيخ لو سلم بهذا القول، لانهدم أحد الأركان التي بنى عليها نقده اللاذع لحكومة محمد علي، الذي وإن أنابه الملك أو السلطان في حكم هذه البلاد، فقد ملك لنفسه باشوية، فرض حكمه عليها بعصبيته، واقتدر بها - في نظر الشيخ - على قهر أهل البلاد وحملهم على جادته.
ويستبين مما عمد إليه الجبرتي من تمييز صفات معينة دون سائر الصفات المشترطة في الخلافة والإمامة، وبالتالي - في نظره - لصاحب الحكم الذي ينوب عن الخليفة صفات اهتم بها اهتماما خاصا، أراد أن يتخذها معايير يقيس عليها سلوك المسئولين عن الحكم في وقته - من إيثاره صفتي العلم والعدل على سواهما، ثم إنه عند تفسيره لهاتين الصفتين، تمسك بفكرته القائلة بأن الملك أو الحاكم العالم والسائس العادل، إنما هو مستخلف على الأرض من عند الله تعالى، وبشرع مفروض من عنده، وقد اقترب الشيخ في فكرته هذه من المذهب القائل بحق الملوك الإلهي أو المقدس في الحكم، وهي نظرية قد يدعو الأخذ بها إلى التسليم بالحكم المطلق، الذي لا يلزم صاحب الحكم باتباع مشورة الغير أو يطلبها منهم ويوجب على الرعية طاعته طاعة تامة، ولكنه كان واضحا من ناحية أخرى، أن الشيخ بتفسيره للعلم والعدل كان يهدف إلى بيان وجوب عزل من يتجرد منهما، ولو أنه لم يفصح عن ذلك إفصاحا، فقد قال ابن خلدون عند ذكر الشروط المطلوبة في الخلافة والإمامة أو في الملك والحاكم ما نصه: «فأما اشتراط العلم فظاهر؛ لأنه إنما يكون منفذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها، ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدا؛ لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال، وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه.» وقد عمل بهذا الرأي وطبق هذا المبدأ تطبيقا عمليا، من وجهة نظر الشيخ وسائر المشايخ في وقته عند تنحية خورشيد باشا عن الحكم والمناداة بولاية محمد علي في مايو 1805، فضلا عن أن الأساس الذي ارتكزت عليه مطالبة المشايخ ببقاء محمد علي في الباشوية أثناء أزمة النقل إلى سالونيك في العام التالي، كان تحليه بالعلم والعدل، الأمر الذي زاد من حنق الجبرتي على الباشا وعلى المشايخ المتصدرين معا؛ لأن محمد علي لم يكن في اعتباره عالما ولا عادلا.
قال الشيخ: إن علماء التفسير ذكروا أن المراد بالكتاب والميزان، العلم والعدل، وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه، من غير واسطة وسبب، على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة، ونشأ الاجتماع الإنساني، والعمران البشري، فاستخلف فيها من الآدميين خلائف، ووضع في قلوبهم العلم والعدل، ليحكموا بهما بين الناس، حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع، وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع، ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم، واختل معاشهم، فمعنى الخلافة أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه.
وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة؛ لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء، وإنما يسمى الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله، وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله، واستخلفه في أرضه بهذه الصفة، حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل، كما قال تعالى:
يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق .
وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم، وقوله تعالى:
إن ربي على صراط مستقيم ، إشارة إلى أن العدالة الحقيقة ليست إلا لله تعالى، فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل، وقوله
صلى الله عليه وسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض»؛ إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرا، لو فرض زائدا عليه أو ناقصا عنه، لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.
وانبرى الشيخ بعد أن أوضح معنى العلم والعدل، يقسم العدول في المجتمع طبقات رفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، فبنى هذا التقسيم على درجة توفر العلم والعدالة حسبما ذهب إليه، واستتبع اتخاذ العلم والعدل معيارا لوزن قيم الأفراد في المجتمع، تقسيم هذا المجتمع نفسه إلى طبقات، رفع الله بعضها فوق بعض درجات، والذي تجب ملاحظته أن الشيخ استطاع بفضل هذا التقسيم الطبقي الذي أوجده إرضاء الطبقة التي ينتمي هو إليها، وأن يعلو بها على طبقة الملوك وولاة الأمور، ومرد ذلك إلى ما لقنه إياه والده عن فضائل أهل العلم، وعن السطوة والنفوذ اللذين كانا اشتهروا بالصلاح والتقوى منهم في الزمن الغابر، وعلى أيام سلطان البكوات المماليك، وإلى أن الجبرتي نشأ في بيت علم وصلاح وتقوى، ويعتد بأجداده وآبائه من الأشياخ العلماء السراة، وهو الذي يقول في ترجمة أبيه نور الدين حسن الجبرتي: «أولئك آبائي فجئني بمثلهم»، ثم إلى ما شاهده من اضمحلال نفوذ المشايخ، وذهاب هيبتهم عند الحكام، أو على الأصح محمد علي، الذي عمد إلى الانفراد بالسلطة، وصار يستخدم المشايخ أدوات لتنفيذ مآربه، ولا يشاورهم ولا يسألهم النصيحة، ولا يعمل بها إذا جرؤ هؤلاء على إسدائها إليه.
ثم إن هذا التقسيم أتاح للشيخ أن ينحى باللائمة على الأشياخ والعلماء الذين انصرفوا عن الدين إلى الدنيا، ففسدت طبائعهم واختلت أمورهم، وفقدوا ما كان لهم من نفوذ، هو من حقهم بحكم ما اصطفاهم الله به بعد أنبيائه فميزهم عن سائر الخلق بالعلم والعدل، وفي كلامه عن هذه الطبقة ما يصور الحال السيئة التي وصل إليها مشايخ الوقت في عصره، والتي حالت بينهم وبين التطلع إلى الزعامة التي أرادوها؛ سعيا وراء الجاه، ونتيجة للافتتان بغرور الدنيا فحسب، وإن كان الشيخ ينفي أن العلماء على أيامه قد صاروا جميعا من مشايخ الوقت، وأنهم لا يزالون لذلك أهلا لاحتلال المكانة العالية التي من حقهم أن يحتلوها، وقد علل الشيخ ما ظهر من عجز من جانب سواد المشايخ العلماء العدول عن الحد من سلطان الحاكم الظالم، بأن الحكمة الأزلية قد اقتضت ذلك ، فيقول: إن «أصناف العدل من الخلائق خمسة الأول الأنبياء، والثاني العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء وإن لم يعطوا درجاتهم، واقتدوا بهم، واقتفوا آثارهم؛ إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه، ومشرق نور حكمته، فصدقوا بما أتوا به، وسروا على سبيلهم، وأيدوا دعوتهم، ونشروا حكمتهم، كشفا وفهما وذوقا وتحقيقا، وإيمانا وعلما، بكامل المتابعة لهم ظاهرا وباطنا، فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل وإظهار الحق يرفع منار الشرع، وإقامة أعلام الهدى والإسلام، وأحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى، تزهدا للرخص؛ لأنهم أمناء الله في العالم، وخلاصة بني آدم، ... مخلصون في مقام العبودية، مجتهدون في اتباع أحكام الشريعة ... أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وتلذذوا بنعيم المشاهدة، ولهم عند ربهم ما يشتهون، وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد، لا يقدح في حال الجميع؛ لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وإن كثر المبطلون، ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية، والعلماء هم آحاد الأكوان، وأفراد الزمان، وخلفاء الرحمن، وهم مصابيح الغيوب، ومفاتيح أقفال القلوب، وهم خلاصة خاصة الله من خلقه ...»
وأما الطبقة الثالثة فهم الملوك والأمراء، وقد تحدث الشيخ كثيرا عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها هؤلاء والواجب الذي عليهم نحو الرعية، وغني عن البيان، أن مدار الحديث في هذا كله كان حول العدل ولزومه فرضا وعينا، يوجبه الكتاب والسنة، ويجري بالكتاب والسنة، ولقد صال الشيخ وجال في هذا الباب؛ لاعتقاده الراسخ بظلم وجور حكومة محمد علي؛ ولأنه وجد في الكتابة عن العدل متنفسا لكربه؛ ولأن الباشا إذا عدل لم تعد له حاجة بالجيش، وانقادت الرعية لحكمه راضية وصارت جندا له، وانتفى تسويد أشرار القوم على خيارهم، ولقد كان الجبرتي يرى كبار الأرنئود، والدلاتية، والإنكشارية، وأجنادهم من الأعاجم والذين كان أكثرهم من الدهماء في بلادهم، يصلون إلى مراتب السيادة، وترتفع أقدارهم فيؤلمه ما يرى، ولم يكن مبعث تسويدهم - في نظره - إلا جور محمد علي ومن سبقه من الحكام في فترة الفوضى السياسية وظلمهم، ولطالما سجل الجبرتي في تاريخه بعد ذلك حوادث فرار الفلاحين من قراهم، وظواهر كساد التجارة وإفلاس مساتير الناس نتيجة لظلم الباشا وعسف عماله وضباطه، وقد استند الشيخ الجبرتي في ضرورة إقامة العدل على أحاديث نبوية، وأقوال وحكم مأثورة كثيرة، ولقد كان في سياق حديثه عن العدل، أن زاد الشيخ في تفسير ما سبق أن ذكره عن الحاجة الماسة إلى سائس عادل وملك عالم، لانتظام عقد المجتمع واستقامة أموره، فعزا هذه الضرورة إلى ما ارتكز في طباع البشر من ميل إلى الظلم يجب الحد منه ووقفه، حتى ينصرف الناس في سلام إلى شئون دنياهم وآخرتهم.
فالملوك والأمراء «يراعون العدل والإنصاف بين الناس والرعايا؛ توصلا إلى نظام المملكة وتوسلا إلى قوام السلطنة؛ لسلامة الناس في أموالهم وأبدانهم وعمارة بلدانهم، ولولا قهرهم وسلطتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف، فرأس المملكة وأركانها، وثبات أحوال الأمة وبنيانها: العدل والإنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية، فهما أس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة، فإن الله تعالى أمر بالعدل، ولم يكتف به حتى أضاف إليه الإحسان، فقال تعالى:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان ؛ لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها، وبالجور والظلم خرابها وزوالها، فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الإنصاف لهم، والظلم والجور كامن في النفوس، لا يظهر إلا بالقدرة، كما قيل:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم
فلولا قانون السياسة وميزان العدالة، لم يقدر مصل على صلاته، ولا عالم على نشر علمه، ولا تاجر على سفره، ولله در عبد الله بن المبارك؛ حيث قال:
لولا الخلافة ما قامت لنا السبل
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
فإن قيل فما حد الملك العادل، قلنا: هو كما قال العلماء بالله من عدل بين العباد، وتحذر عن الجور والفساد ... فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق ، وأطاعه الخلق، وصفت له النعمى، وأقبلت عليه الدنيا، فتهنأ بالعيش، واستغنى عن الجيش، وملك القلوب، وأمن الحروب، وصارت طاعته فرضا، وظلت رعيته جندا؛ لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل، ولا أروح إلى القلوب من الإنصاف، ولا أمر من الجور، ولا أشنع من الظلم.
فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور ألا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسنة؛ لأنه متصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة، ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس، ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره، فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل، فإنه أحوج الناس إلى معرفة العلم واتباع الكتاب والسنة، وحفظ قانون الشرع والعدالة، فإنه منتصب لمصالح العباد، وإصلاح البلاد، وملتزم بفصل خصوماتهم، وقطع النزاع بينهم، وهو حامي الشريعة بالإسلام فلا بد من معرفة أحكامها، والعلم بحلالها وحرامها؛ ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته، وضبط مملكته، وحفظ رعيته، فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه، وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له، فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه، وأدوم لبقائه، وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والإنصاف على الرعية ...»
وقد ذيل الشيخ كلامه هذا بطائفة من «نصائح الرشاد لمصالح العباد» لا يسع المرء إلا أن يرى فيها خلاصة الرأي الذي كونه في حكومة محمد علي وصارت لا تتاح له الفرصة إلا سجله في تاريخه، فقد قال الشيخ: «اعلم أن سبب هلاك الملوك، اطراح ذوي الفضائل، واصطناع ذوي الرذائل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاغترار بتزكية المادح، من نظر في العواقب سلم من النوائب، وزوال الدول باصطناع السفل، ومن استغنى بعقله ضل، ومن اكتفى برأيه زل، ومن استشار ذوي الألباب، سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول، فاز بدرك المأمول. من عدل في سلطانه، استغنى عن أعوانه، عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان، الملك يبقى على الكفر والعدل، ولا يبقى على الجور والإيمان، ويقال: حق على من ملكه الله على عباده، وحكمه في بلاده، أن يكون لنفسه مالكا، وللهوى تاركا، وللغيظ كاظما ، وللظلم هاضما، وللعدل في حالتي الرضا والغضب مظهرا، وللحق في السر والعلانية مؤثرا، وإذا كان كذلك، ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه ...»
وأما صنفا العدل الباقيان: فالرابع هم أوساط الناس يراعون العدل في معاملتهم، والخامس والأخير، القائمون بسياسة نفوسهم وتعديل قواهم، وضبط جوارحهم، وانخراطهم في سلك العدول؛ لأن كل فرد من أفراد الإنسان مسئول عن رعاية رعيته، التي هي جوارحه وقواه، كما ورد: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. (4-4) رأيه في حكومة محمد علي
ولقد كان من الأسباب التي حملت الجبرتي على النفور من حكومة الباشا والطعن عليها وتجريحها، ما كسبه من تجارب على عهد استئثار البكوات المماليك بالسلطة والحكم في مصر، وأثناء احتلال الفرنسيين لها، ثم طوال المدة التي شهدها من حكم محمد علي نفسه، فاستطاع بفضل ذلك أن يعقد مقارنة، توخى على قدر طاقته أن تكون دقيقة وصحيحة بين هذه العهود الثلاثة، وقد تحدث الشيخ نفسه عن حرصه على التنزه عن الهوى في بحثه وكتابة تاريخه، فقال: «ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق، أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقا لم أسلكه، وتجارتي برأس مال لم أملكه.»
وأما المقياس الذي قيست به أحكامه على هذه العهود الثلاثة فكان النظرية التي تكونت لديه في شئون الحكم وأصول السياسة، على اعتبار أن العلم والعدل هما أساس الجماعة الإنسانية أو العمران البشري، فصار الحكام والمسئولون والأفراد العاديون - وهم جميعا الذين تتألف منهم الطبقات الخمس التي ذكرها - أحد شيئين: إما متصفين بالعلم والعدل، وإما منعوتين بالجور والظلم، وفي ضوء هذه النظرية إذا ينكشف في «تاريخه» كنه الحقائق التي أثبتها، ويستبين مغزى الإشارات والإلماعات التي سجلها، وتتبلور المعاني التي انطوت عليها الآراء التي بسطها.
ولكن الجبرتي وإن أخذ على نفسه توخي الحق في أحكامه التي أصدرها على هذه العهود الثلاثة، وبمقاييسه التي عرفناها؛ فقد كان من الواضح، أنه متأثر بنزعات وفكرات ومبادئ معينة، مبعثها البيئة التي نشأ فيها، ونوع الثقافة التي تثقف بها، وكانت هذه دينية وعلمية في آن واحد، والتجارب التي مرت به.
فهو لا يعتبر البكوات المماليك غرباء عن البلاد، بل يسميهم الأمراء المصرية ويحفظ لهم عهدا وودا بحكم صلات أبيه وأجداده، وصلاته هو نفسه بهم؛ ولأنه كان في عهد حكومة البكوات وأعظم كبرائهم سطوة، أن بلغ احترام الأشياخ والعلماء الذروة، واعترفت الهيئة الحاكمة بنفوذهم، بقبولها لوساطاتهم وشفاعاتهم في صالح الرعية. ولقد نعى الجبرتي على هؤلاء الأمراء ظلمهم وجورهم، ولكنه رفض أن يفقد الأمل في إمكان ارعوائهم عن قبيح فعلهم، وارتداعهم، يجل من أعاظمهم الأمير علي بك الكبير (القازدغلي) «صاحب الوقائع المذكورة، والحوادث المشهورة»، والذي كان لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى، والرياسة الكبرى ... ولا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين، وصادق العلماء والمشايخ واحترمهم وأجلهم، وكان من بين هؤلاء نور الدين حسن والد عبد الرحمن الجبرتي، تتبع المفسدين الذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالات، وعاقبهم بالضرب الشديد والإهانة والقتل والنفي إلى البلاد البعيدة، ولم يراع في ذلك أحدا سواء كان متعمما أو فقيها أو قاضيا أو كاتبا، استتب في عهده الأمن، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم، وكان الجبرتي عند وفاة علي بك الكبير شابا يافعا في حوالي العشرين من عمره، ثم إنه لم يجد ما يأخذه على منتزع الملك منه، محمد بك أبي الذهب سوى قتله أهل يافا بإشارة وزرائه، ولولا ذلك لكانت حسنات أبي الذهب أكثر من سيئاته، واستطرد الشيخ يقول: «ولم يتفق لأمير مثله في كثرة المماليك وظهور شأنهم في المدة اليسيرة، وعظم أمرهم بعده، وانحرفت طباعهم عن قبول العدالة، ومالوا إلى طريق الجهالة، واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم، وزادوا عن سوابقهم، وألفوا المظالم وظنوها مغانم، وتمادوا على الجور، وتلاحقوا في البغي على الفور، إلى أن حصل ما حصل، ونزل بالناس ما نزل»، ولم يكن ما حصل وما نزل - في رأي الجبرتي - سوى احتلال الفرنسيين لهذه البلاد ثم قيام حكومة محمد علي.
وكان مراد وإبراهيم اللذان استأثرا بالسلطة وبخاصة منذ عودتها إليهما في السنوات السبع التي سبقت مجيء الحملة الفرنسية، المسئولين عن هذه النكبات، فالأول كان «ظالما غشوما، مختالا معجبا، وهو كان من أعظم الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومماليكه وأتباعه من الجور والتهور ومسامحته لهم»، ومع ذلك وبالرغم من السيئات والنقائص التي عددها له، لم يفت الشيخ أن يذكر أن مرادا «كان يحب العلماء ويتأدب معهم وينصت لكلامهم ويقبل شفاعتهم ويميل طبعه إلى الإسلام والمسلمين، ويحب معاشرة الندماء والفصحاء وأهل الذوق والمتكلمين ... عطاياه جمة، ومواهبه وهمته فوق كل همة.» وأما إبراهيم، فقد كان «مرخصا لخشداشينه في أفعالهم، كثير التغافل عن مساويهم مع معارضتهم له في كثير من الأمور، وخصوصا مراد بك وأتباعه، فيغضي ويتجاوز ... وكان هذا الإهمال والترخص والتغافل سببا لمبادئ الشرور، فإنهم تمادوا في التعدي وداخلهم الغرور، وغمرتهم الغفلة عن عواقب الأمور، واستصغروا من عداهم، وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار وبضائع الإفرنج الفرنساوية وغيرهم بدون الثمن، مع الحقارة لهم ولغيرهم، وعدم المبالاة والاكتراث بسلطانهم العثماني الذي يدعون أنهم في طاعته مع مخالفة أوامره ومنع خزينته، واحتقار الولاية ومنعهم من التصرف والحجر عليهم، فكان هذا كله سبب زوال دولة البكوات على يد الفرنسيين أولا، ثم على يد محمد علي ثانيا، الذي فتك بأكثرهم وقضى على سلطانهم، وأدى الحال بإبراهيم إلى الخروج والتشتيت والتشريد، هو ومن بقي من عشيرته إلى بلاد السودان يزرعون الدخن ويتقوتون منه، وملابسهم القمصان التي يلبسها الجلابة في بلادهم.»
ولعل محمد بك الألفي الكبير، كان أكثر هؤلاء البكوات حظوة عند الشيخ الجبرتي، فهو الأمير الكبير، والضرغام الشهير، صادق الشيخ حسن العطار، صديق الجبرتي، وتردد عليه هذا الأخير كثيرا، وحضر مجالسه، وقال عنه إنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور، ذهب إليه مرة عقب خروج الفرنسيين وعودة الحكم للعثمانيين، فوجده جالسا على السجادة فجلس معه ساعة، فدخل عليه بعض أمرائه يستأذنه في زواج إحدى زوجات من مات من خشداشينه، فنتر فيه وشتمه وطرده وقال للشيخ انظر إلى عقول هؤلاء المغفلين، يظنون أنهم استقروا بمصر، ويتزوجون ويتأهلون، مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن. ولقد تقدم في سياق هذه الدراسة ذكر الكثير من آراء الشيخ في الألفي الكبير، قال فيه عند وفاته: إنه كان «آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصراحة ونظرا في عواقب الأمور، وكان وحيدا في نفسه فريدا في أبناء جنسه، وبموته اضمحلت دولتهم، وتفرقت جمعيتهم، وانكسرت شوكتهم، وزادت نفرتهم، وما زالوا في نقص وإدبار ...»
ولقد كان الشيخ الجبرتي يود لو أن البكوات عدلوا وأصلحوا، ووضعوا للرعية ميزانا للعدالة وقانونا للسياسة، حتى تستقيم الأمور، ولكنهم جاروا وظلموا لحكمة أزلية، فنزلت بالبلاد الكوارث، وأولها مجيء الفرنسيس.
ويفسر موقف الشيخ من الاحتلال الفرنسي، مبدأه الآخر الذي أخذ به، وهو بغض الأجنبي الغاصب، ولكنه بغض يخلو من التعصب، فلا يصرف الشيخ إلى تعداد مساوئ الفرنسيين فحسب، ولا يجعله يجفل من التعاون معهم، فقد شاءت الحكمة الأزلية أن يسود الجهل بدلا من العلم، وأن يطغى الظلم فينمحي العدل، وأن يفضي اختلال الميزان، وزوال قانون الحكمة إلى تسلط هؤلاء الأجانب على البلاد.
كان الشيخ عند دخول الفرنسيين القاهرة، من بين الذين غادروها إلى الريف، فذهب إلى أبيار، ولكن إقامته بها لم تتجاوز عشرة أيام؛ لأن بونابرت طلب من الشيخين اللذين ترأسا الوفد الذي ذهب لمقابلته بعد واقعة الأهرام في يوليو 1798، مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي، الكتابة للذين هربوا بالحضور، فكان الجبرتي من بين من كتبوا لهم.
ولم يتعين الشيخ في الدواوين التي رتبها بونابرت، وقد كان له في علمه وفضله وجاهه، ما يتيح له فرصة التعيين بها، لا سيما وأن بونابرت دأب على استمالة العلماء والمشايخ تنفيذا لسياسته الوطنية الإسلامية، ولكن الشيخ الذي نعى على المشايخ افتتانهم بالحياة الدنيا لم يشأ أن يكون من بين المتصدرين، ثم إنه وإن اعتقد أن الحكمة الأزلية هي التي هيأت للفرنسيين احتلال البلاد، فإن هؤلاء كانوا ملاحدة بالرغم من تظاهرهم باحترام الدين الإسلامي، وكانوا أجانب ومغتصبين، أنهوا حكم السلطان العثماني (خليفة المسلمين) ونوابه في البلاد، وشرعوا ينظمون أساليب الإدارة والحكم على نهج يغاير ما ألفه الشيخ وخبره، فكان حريا به قبل الإقبال على التعاون معهم أو مقاومتهم، أن يقف على مدى تمسكهم بميزان العدالة وأن يعرف شيئا عن أحوالهم ونشاطهم، وأن يقتنع بفائدة هذا التعاون لصالح سواد الأهلين أو مضرته، وجدوى المقاومة، فيتعاون معهم، وعندئذ يقوم بدور الوساطة الذي اعتقد الشيخ أنه واجب العلماء والأشياخ بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، أو يحبذ المعارضة والمقاومة.
ولذلك لم يعتكف الشيخ بعد عودته من أبيار، بل حرص على مراقبة سير الحوادث، وشهد احتفالات الفرنسيين، وزار مجمعهم العلمي، وشاهد خزائن كتبهم ومصانعهم مدفوعا بغريزة الاستطلاع، ولأنه كان عالما بارعا يهتم بالرياضيات والطبيعيات والفلك والأرصاد وما إلى ذلك، وأمكنه بفضل صلاته مع المشايخ والمتصدرين أن يعرف أساليبهم الحكومية وأغراضهم وغاياتهم منها، كما أوقفه اهتمامه بمجريات الأمور على عاداتهم وأخلاقهم، وتسنى له بسبب ذلك كله أن يسجل في «تاريخه» تفصيلات كثيرة وصحيحة عن هذا الحكم الأجنبي الذي ابتليت به البلاد، كما تكونت لديه آراء ومبادئ معينة شكلت مسلكه، وحددت موقفه من الاحتلال الفرنسي في سنواته الثلاث.
فقد نعى على الفرنسيين مجونهم وخلاعتهم وانحلال أخلاقهم، وآلمه أشد ما آلمه اقتداء دهماء الناس بهم في مباذلهم، ثم امتداد الفساد إلى طبقات أخرى من الأهلين، وصار ينشد زوال حكمهم، ولكنه لما كانت الحكمة الأزلية هي التي مكنت للفرنسيين من فرض سلطانهم على البلاد، فقد انتظر أن يجيء خلاصها منهم بحكمة أزلية كذلك، وهو الذي شاهد فلول البكوات ومماليك المنهزمين ينتشرون في الشام والصعيد، ويتسلح الفرنسيون بآلات الحرب والقتال الحديثة، ويحصنون الطوابي بها، ويسلكون مسلك من صح عزمه على الإقامة المستمرة وإرساء سلطانه على قواعد قوية راسخة؛ ولذلك لم يكن الشيخ ممن ساهموا في ثورة القاهرة الأولى (أكتوبر 1798)، ونقد تشجيع بعض المتعممين للعامة الذين دبروا هذه الثورة، فقال: إن هذا البعض من المتعممين «لم ينظر في عواقب الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور» وزاد من إيمان الشيخ بعدم جدوى أمثال هذه الثورات، ما فعله الفرنسيون بالجامع الأزهر، وإيذاء الأهلين، وأخذهم بالقسوة والعنف بعد ذلك.
وكذلك كان موقف الشيخ من ثورة القاهرة الثانية (مارس وأبريل 1800) على أيام كليبر، فقد توهم الرؤساء العثمانيون والبكوات المماليك والأشياخ المتصدرون، أنهم بتأليب العامة على الفرنسيين، وإشعال نار الثورة ضدهم يستطيعون تملك القاهرة، وإخراج العدو من البلاد، وآلم الشيخ أن ينخدع القاهريون بهذه الأوهام، فيعرضوا أنفسهم لنقمة الفرنسيين، ويذهب العديدون من الأبرياء ضحية لهذه الفتنة الجامحة، وحز في نفسه أن ينقاد الشعب «للدجاجلة» الذين يكثرون في الفتن الهوجاء، ومن هؤلاء رجل مغربي «ليس ممن له في مصر ما يخاف عليه من مسكن أو أهل أو مال أو غير ذلك، كما قيل: لا ناقتي فيها ولا جملي»، آثار العامة على المشايخ الذين سعوا لإنهاء الفتنة بعد أن استفحلت، وعظم بلاء الناس وكربهم بسببها، وظهر عجز العثمانيين والبكوات المماليك عن طرد الفرنسيين، بل انتصر كليبر عليهم - كما هو معروف - في واقعة هليوبوليس وضيق الخناق على القاهرة، فسب الناس المشايخ وشتموهم وضربوهم، والتف العامة حول هذا المغربي؛ «لعدم إدراكهم لعواقب الأمور ... وتعضد كل بالآخر وكان غرضه دوام الفتنة؛ فإن بها يتوصل لما يريده من النهب والسلب والتصور بصورة الإمارة باجتماع الأوغاد عليه.» وكره الشيخ الجبرتي هذه الثورة ومحركيها عندما استطالت أيامها، وزاد النصب والتعب، وانعدمت الأقوات حتى هلكت الناس وخصوصا الفقراء والدواب، وشكا الشيخ من إيذاء عسكر العثمانلي للرعية وخطفهم ما يجدونه معهم، حتى تمنوا زوالهم، ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها. وقد أثلج صدره ما كتبه الشيخ محمد السادات إلى عثمان كتخدا (كتخدا الدولة)، يصب جام غضبه على العثمانيين وعساكرهم، الذين ما إن لاحت الفرصة لاسترجاعهم هذه البلاد، ودخل جماعة منهم القاهرة قبل نقض اتفاق العريش، حتى صاروا يؤذون الناس ويعتدون عليهم، ثم راحوا يشعلون الثورة، ويخدعون القاهريين بأكاذيبهم، ويخفون عنهم هزيمتهم وانقطاع المدد عنهم، وأثبت الجبرتي صورة التذكرة التي بعث بها السادات على يد السيد أحمد المحروقي إلى عثمان كتخدا، ونصها:
حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وما هي من الظالمين ببعيد:
ظننت أنك عدتي أسطو بها
ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بغير ما أملته
والمرء يشرق بالزلال البارد
أما بعد، فقد نقضت عهدي، وتركت مودة آل بيت جدي، وأطعت الظلمة السفلة، وامتثلت أمر المارقين السفلة، فأعنتهم على البغي والجور، وسارعت في تنجيز مرامهم الفاسد على الفور، من إلزامكم الكبير والصغير والغني والفقير، إطعام عسكركم الذي أوقع بالمؤمنين الذل والمضرات، وبلغ في النهب والفساد غاية الغايات، فكان جهادهم في أماكن الموبقات والملاهي، حتى نزل بالمسلمين أعظم المصائب والدواهي، فاستحكم الدمار والخراب، ومنعت الأقوات وانقطعت الأسباب، فبذلك كان عسكركم مخذولا، وبهم عم الحريق كل بيت كان بالخير مشمولا، كيف لا وأكابركم أضمرت السوء للمرتزقة في تضييق معايشهم، وأخذ مرتباتهم، وإتلاف ما بأيديهم من أرزاقهم وتعلقاتهم، وقد أخفتم أهل البلد بعد أمنها، وأشعلتم نار الفتنة بعد طفئها، ثم فررتم فرار الفيران من السنور، وتركتم الضعفاء متوقعين أشنع الأمور، فوا غوثاه وا غوثاه! أغثنا يا غياث المستغيثين، واحكم بعد ذلك يا أحكم الحاكمين، وانصرنا وانتصر لنا، فإننا عبيدك الضعفاء المظلومون يا أرحم الراحمين.
ولقد أفصح الشيخ السادات في تذكرته هذه عن كل ما كان يدور في ذهن الجبرتي، ويختلج في صدره، وأما حكمه على هذه الفتنة الجامحة فقد أوجزه في قوله: «وانكشف الغبار عن تعسة المسلمين، وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين (الذاهبون هم العثمانيون الذين هزمهم الفرنسيون، والمتخلفون هم القاهريون وسائر أهل البلاد) وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب.»
على أنه لم يمض شهران تقريبا على انتهاء هذه الفتنة، حتى وقع مقتل الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبي في 14 يونيو 1800، فكانت نادرة عجيبة، حصلت بسببها هوجة عظيمة في الناس، وكرشة وشدة انزعاج، وقد كان لهذا الحادث أثر عظيم في نفسه بسبب ما كشفه له عن عدالة أقوام ملحدين، كان من المتوقع أن ينتقموا في سورة غضبهم لموت كبيرهم من الأهلين، دون تمييز بين مذنب وبريء، وهم أصحاب السطوة والسلطان، ولكنهم عدلوا، ولم يعمدوا إلى القصاص من القاتل وشركائه في الجريمة إلا بعد تحقيق ومحاكمة، مع ضبط القاتل وقت وقوع الجريمة واعترافه بجرمه، ثم أطلقوا ساحة من ثبتت براءته في المحاكمة، فكانت هذه ظاهرة غريبة على الشيخ وعلى معاصريه الذين ألفوا بطش الحكام بالأبرياء والمذنبين على السواء، ولقد تزايد إعجاب الشيخ بعدالة الفرنسيين، عندما استطاع أن يعقد مقارنة بين هذه العدالة التي أجروها في أحكامهم، وهم الذين لا دين لهم، وبين ذلك الظلم الذي قاسى الأهلون أهواله عند عودة هذه البلاد إلى حكم العثمانيين، وتسلط البكوات عليها من جديد بعد ذهاب الفرنسيين، واستمرت اعتداءات طوائف العسكر من أرنئود ودلاة وغيرهم سنوات طويلة، وقد حمله تقديره لهذه العدالة على إثبات صورة من الأوراق التي ضمنها الفرنسيون أخبار الواقعة والمحاكمة، وطبعوا منها نسخا كبيرة باللغات الثلاث: الفرنساوية والتركية والعربية، وذلك - كما قال الشيخ - «لما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل، ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج، وغدره، وقبضوا عليه وقرروه، ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار، بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتبوا حكومة ومحاكمة، وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول، ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين، ثم نفذوا الحكم فيهم بما اقتضاه التحكيم، وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي الخطاط؛ حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص، كما يفهم جميع ذلك من فحوى السطور، بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدعون الإسلام، ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس، وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية مما سيتلى عليك بعضه بعد.»
وكان لهذه التجارب التي مرت بالشيخ أثرها - ولا شك - في اقتناعه بالتعاون مع الفرنسيين، فهم إلى جانب ما ظهر من اهتمامهم بالعلم، وتوفر علمائهم على البحث والتنقيب والدراسة بالرغم من الاضطرابات في القاهرة والأقاليم وذهاب عدد منهم ضحية لها، وإلى جانب ما أظهروه من تمسكهم بميزان العدالة، حرصوا على احترام شعائر المسلمين، ولم يكلفوا المشايخ المتصدرين الذين تعاونوا معهم عند مجيئهم، وصاروا أعضاء في الديوان الذي شكله بونابرت، بإتيان ما يتعارض مع الدين الحنيف، حتى إنه عندما رفض الشيخ عبد الله الشرقاوي وضع «الجوكار» - وهي العلامة التي يقال لها الوردة، كان رأي الجبرتي أن الشرقاوي لم يكن محقا في رفع هذه الشارة؛ لأن وضعها لا يخل بالدين، ثم إنه نجم عن تردد الشيخ على مجمعهم العلمي، وسؤاله لعلمائهم مستفسرا عما صار يصادفه لديهم من آلات أو يشاهده من تجارب علمية، وهم الذين إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدون الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، حتى إن الشيخ ذهب إليهم مرارا، وأطلعوه على ذلك - أن اتصل الشيخ بعدد من علمائهم، كما أنه عرف عددا آخر من الفرنسيين، عن طريق صديقه إسماعيل الخشاب، وكان لهذا مخالطة بهم، فتضافرت كل هذه العوامل على إزالة ما يكون قد تبقى لديه من نفرة منهم تحول دون تعاونه معهم إذا طلب إليه أن ينضم إلى أعضاء دواوينهم.
وعلى ذلك، فإنه عندما تسلم الجنرال «منو» قيادة الحملة العامة بعد مقتل كليبر، وأقام ديوانه الجديد في أكتوبر 1800 صار عبد الرحمن الجبرتي أحد أعضاء هذا الديوان، وصار صديقه إسماعيل الخشاب أمينا لمحفوظاته وكاتبا لسلسلة التاريخ؛ أي محاضر جلسات الديوان، ولقد كان هذا الديوان أداة طيعة في يد منو، ورضخ أعضاؤه لكل ما طلب «منو» منهم، ومبعث ذلك رد الفعل الذي حصل بعد ثورتي القاهرة السابقتين ومقتل كليبر، وصرامة الفرنسيين في الاقتصاص من الأهلين بفرض الغرامات الفادحة عليهم وانشغال القاهريين وأشياخهم بتدبير المال لدفعها، ثم يقين أعضاء الديوان بأن لا جدوى من المفاوضة أو المقاومة طالما كانوا عاجزين بمفردهم عن طرد العدو من بلادهم، كما كان مبعث هذا الرضوخ انتظارهم الفرج القريب على يد الجيوش المتأهبة للإغارة على مصر لإنقاذها من العدو، ولم يكن العثمانيون الذين فشلوا في قتال الفرنسيين، هم الذين تتألف هذه الجيوش منهم وحدهم، بل صار لهم حلفاء الآن من الإنجليز؛ أي من الجند المسلحين بأسلحة من طراز ما لدى الفرنسيين منها، والمدربين على نفس فنون الحرب والقتال التي درب الفرنسيون عليها.
ولا جدال في أن الشيخ الجبرتي منذ عضويته في هذا الديوان، صار يتنازعه عاملان: أحدهما الرغبة في مداراة الحاكمين، وكانت المداراة هي القاعدة التي بنى عليها سائر أعضاء الديوان كذلك مسلكهم مع قائد الحملة العام - لعل الشيخ يستطيع التوسط في قضاء حوائج الناس، أو لعل هذه المداراة ترفع شيئا من المظالم التي أوقعها الفرنسيون آنئذ في صورة مطالبهم المالية التي لا نهاية لها بالأهلين، أو لعله يتأتى من هذا التعاون ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار - أحد مشاريع «منو» التي عرضها على الديوان؛ توطئة لضبط المواريث، وتلك مسألة اهتم بها الأشياخ وقتئذ اهتماما بالغا. وأما العامل الثاني، فكان خجل الشيخ من هذا الرضوخ والاستسلام الذي لا خلاص منه، آية ذلك إغفاله في «تاريخه» إثبات تلك الورقة التي طلب «الكمثاري فوريه»
Fourier
من أعضاء الديوان أن يكتبوها تهنئة للجنرال «منو» على المولود سليمان مراد الذي ولد له من المرأة المسلمة الرشيدية.
ولزم الشيخ جانب الهدوء، وساير حكومة العهد الجديد كل المسايرة، فلم يعرف عنه أنه عارض في شيء، ولم يذكر هو عن نفسه أنه اقترح أمرا أو أبدى رأيا، فأما تعليل مسايرته فسهل ميسور، إذا أخذنا بالاعتبارات التي سبق ذكرها، وأما أنه لم يذكر عن نفسه ما يدل على مساهمته جديا في المسائل القليلة التي تركت الحرية فيها لأعضاء الديوان لمناقشتها وبحثها كمسألة ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار، فلا ينهض دليلا على عدم نشاط الشيخ، بل إن مبعثه عامل الخجل الذي سبقت الإشارة إليه، ولا جدال في أن الشيخ لم يكن عضوا خاملا، وهو الذي يؤخذ من التفصيلات التي حواها «تاريخه» عن هذا الديوان أنه واظب على حضور جلساته واهتم بما صار يدور فيه، ولكنه مما لا شك فيه كذلك أنه عرف عند الفرنسيين بالاعتدال والاتزان، والابتعاد عن الشغب، أو الاندفاع وراء العواطف، يؤيد هذا القول، ترك هؤلاء له حرا طليقا، عندما أصعدوا فريقا من زملائه إلى القلعة وقت اقتراب خطر الجيوش العثمانية والبريطانية الزاحفة على القاهرة من هذه الأخيرة، فكان الجبرتي، مع خليل البكري ومحمد الأمير وموسى السرسي، هم الذي أبقاهم الجنرال بليار في الديوان، ثم انضم إليهم سليمان الفيومي الذي أفرج عنه بعد قليل، بينما اعتقل محمد الأمير.
ولكن الشيخ الذي تأثر بهياج الخواطر الذي انتشر بين الأهلين نتيجة لانهزام الفرنسيين على يد الجيوش الزاحفة، وتوقعهم الخلاص القريب، ولم ترضه الاعتقالات التي حدثت واستفزه عسف الفرنسيين في جمع الغرامات والإتاوات في ساعات احتضارهم الأخيرة، سرعان ما انتعش أمله في زوال هذا الحكم الأجنبي البغيض، لا عن طريق الثورة وإثارة الفتنة المؤذية والشعب، ولكن بمقتضى الحكمة الأزلية، التي شاءت عند تفاقم الظلم والجور أن يستبدل العدل بهما، وينصب ميزانه، فصارت بلاغات «بليار» و«منو» ورسائل هذا الأخير التي بعث بها من الإسكندرية إلى الديوان، تمويهات وأكاذيب، ومحشوة بالكلام الفارغ.
وأفصح الجبرتي عن فرحه لزوال حكم الفرنسيين، بإهدائه كتابه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» إلى الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا - على نحو ما تقدم ذكره - وقد استهله بقوله: «حمدا لمن جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، وجعل الدولة العثمانية والمملكة الخاقانية بهجة الدين والدنيا»، ووجد الشيخ عبرة في زوال ملك الفرنسيين بعد أن بدا أن أقدامهم قد رسخت في البلاد، وأن سلطانهم قد توطد بها، فإذا هم ينخلعون عن التصرف والتحكم وسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه! وراعه ما قصه عليه حسين بك وكيل قبطان باشا وكان بصحبة الباشا عند ذهابه إلى الإنكليز، أثناء الحملة لقتال الفرنسيين وإجلائهم عن البلاد. قال حسين بك: «كنا في نحو الخمسين والإنكليز في نحو الخمسة آلاف، فلو قبضوا علينا في ذلك الوقت لملكوا الإقليم من غير ممانع، فسبحان المنجي من المهالك!» فكان تعليق الشيخ على ذلك أنه «إذا تأمل العاقل في هذه القضية، يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام؛ حيث سخر الطائفة الذين هم أعداء للملة هذه لدفع تلك الطائفة ومساعدة المسلمين، مصداق الحديث الشريف وقوله
صلى الله عليه وسلم :
الفعال!»
ولقد توقع الشيخ أن تسود العدالة بعودة الحكم إلى العثمانيين، ولكن سرعان ما ضاع أمله عندما عمت الفوضى في السنوات الخمس التالية، وكثرت الفتن والانقلابات، واعتدى الجند على الأهلين، وهاج القاهريون، والفلاحون بالأرياف، لما نزل بهم من جورهم، وصار أكثر الناس - كما قال - يتمنون أحكام الفرنساوية.
وأرهقت الشعب السلف الجبرية والإتاوات، وتوالت الفرد والمظالم، وتوقف حال الناس، ورضوا عن أحكام الفرنسيس، مما سبق ذكره وتوضيحه، وذكر رأي الشيخ في ذلك كله في سياق هذه الدراسة.
ثم إنه لم تلبث أن لاحت بارقة أمل، عندما شهد أحد رؤساء الأرنئود محمد علي يتودد إلى المشايخ والمتصدرين أمثال عمر مكرم وأحمد المحروقي، ويتقرب منهم، ويجوس الشوارع متحدثا مع العامة والرعية ومطمئنا لهم، ومشاركا لهم في التذمر والشكوى من عسف عثمان البرديسي وسائر البكوات أيام حكومتهم المعروفة، ويمني الجميع بقرب انتهاء عهد الظلم والجور، حتى استطاع تأليب الأشياخ والرعية على هؤلاء البكوات الظلمة، ثم راح يفعل نفس الشيء أثناء أزمته مع أحمد خورشيد، حتى تمكن بمعاونة المشايخ والرعية من إزاحة هذا الأخير من الولاية، والوصول بنفسه إلى الباشوية، فتوقع الجبرتي بداية عهد جديد على يد هذا المبشر الجديد.
ويستدل من التفاصيل التي ذكرها الجبرتي عن دور المشايخ خلال هذه الأحداث، وبالقدر الذي أراده لهم أصحاب الحكم أو المتطلعون إليه في هذه الفترة، أن الشيخ لم يكن من بين هؤلاء المتصدرين، أو إذا كان فإنه لم يشر إلى ذلك بقليل أو كثير، وسواء اشترك أم لم يشترك فقد ظل دائب الصلة بالأشياخ، ويعنى بتتبع نشاطهم ونشاط الحكام الباشوات العثمانيين، ونشاط البكوات المماليك، منازعي الدولة في السلطة والنفوذ، ولم يصرفه اشتغاله بشئونه الخاصة أو قراءة الدروس، أو انكبابه على تسجيل الحوادث أو الاهتمام باستكمال بعض الكتب التي أراد تأليفها في الفقه الحنفي والحساب والفلك وغير ذلك، لم يصرفه هذا عن التردد على محمد الألفي الكبير وغيره من البكوات، كالأمير ذي الفقار البكري، وحضور مجالس أحمد خورشيد باشا، وزيارة عمر مكرم وأحمد المحروقي وغيرهما من المتصدرين من المشايخ والأعيان في وقته.
ولكن تسلم محمد علي لزمام الأمور لم ينه عهد المظالم والسلف والإتاوات، ولم يتحقق به - في نظر الشيخ - ميزان العدل، ولم يلق الأهلون ومتزعموهم من الأشياخ والأعيان جزاء حسنا على سعيهم في تقليده الولاية، وانقلب الشيخ أيما انقلاب على هذه الحكومة الظالمة، والتي خالفت فيما اتبعته من طرائق لسد حاجتها الملحة إلى المال كل ما كان يدين به الشيخ من مبادئ عن سياسة الحكم والدولة، فلم ير في كل ما يحدث إلا ضياعا للعدالة وانتفاء لها، وتمكينا لأسافل القوم من الاستعلاء على أكابرهم، ومثابرة على استنضاح الأموال، وتجويعا للأهلين وتشريدا للفلاحين، واستبدادا بالرأي واستهانة بالعلماء واستخفافا برأي ذوي الفضل، واعتدادا بالعصبية في توطيد السلطة على أساس الجور بالناس والعسف بهم، وسلب أقواتهم وأرزاقهم، وتجريدهم من الأرض وما يملكون للإغداق بنعمه وآلائه على أهله وعشيرته وصنائعه ورؤساء أجناده، حتى صار كل هؤلاء أصحاب الشأن والسيادة والثراء الطائل، بينا يفتك المرض والجوع بأهل البلاد.
ولقد عظمت حفيظة الشيخ على الباشا لدرجة أنه تمنى زوال ملكه، فلم يكن من بين الأشياخ الذين وقعوا على العرائض التي طالبوا فيها ببقاء محمد علي في الباشوية أثناء أزمة النقل إلى سالونيك المعروفة، بدعوى أنه أجرى العدل، وأسعد الرعية، فوصف الشيخ ما نمقوه ووضعوا أختامهم عليه، أو زوروا خاتم من لم يفعل وختموا به أنه كلام عنه «يسئلون ولا يؤذن لهم فيعتذرون.»
وهذه الكراهية نفسها لحكم محمد علي، هي أحد بواعث حملته الشديدة على أشياخ عصره، «مشايخ الوقت»، الذين مكنوا للباشا بتكالبهم على الدنيا، وانقساماتهم وحزازتهم ومنافستهم، إغفال أمرهم، والازدراء بهم وبما قد يجرءون على إسدائه من نصح إليه، وهذه الكراهية كذلك كانت مبعث استيائه وتكدره من البكوات المماليك، والحملة عليهم هم كذلك بسبب فرقتهم، وعدم اجتماع كلمتهم وتخاذلهم، ومنافساتهم وكراهيتهم لبعضهم بعضا، فعجزوا عن اهتبال الفرصة السانحة أثناء أزمة النقل إلى سالونيك لاسترداد الحكم وطرد محمد علي على رأس جنده الأرنئود من هذه البلاد، وهم الغرباء عنها، والذين لا تربطهم صلة بها، على خلاف البكوات الذين اعتبرهم الجبرتي - كما أسلفنا - مصريين، ولقد اشتد سخطه على عثمان البرديسي خصوصا، أقوى خصوم الألفي ومنافسيه على السلطة، وأكثرهم عداء له، فعده وإخوانه المسترشدين برأيه الضعيف، مسئولين عن تفويت الفرصة، واستمرار محمد علي في باشويته.
واعتبر الجبرتي من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي أن يحم القضاء بالألفي قبيل وصول حملة «فريزر»، ولكنه وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ على أن تجري تصاريف القدر والحكمة الأزلية بهذه الصورة، لم يسعه تشفيا لمكنون حقده على الباشا إلا أن يسجل قول الشاعر:
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
ونقم الجبرتي على البكوات نقمة شديدة؛ لأنهم باستمرار تفرقهم وتخاذلهم قد أضاعوا الفرصة كذلك أثناء حملة «فريزر» لطرد محمد علي من باشويته.
ولقد درج الكتاب على مؤاخذة الشيخ على ما أظهره من حزن عند فشل حملة «فريزر»، وتمنيه لو أن الإنجليز انتصروا على الباشا وأنهوا حكمه، فشاءت الأقدار غير ما تمنى الشيخ، وحصلت الواقعة على غير قياس، كما أسفرت أزمة النقل إلى سالونيك في العام السابق عن انعكاس القضية، ولكن كراهية الشيخ لحكم محمد علي لم تكن صادرة عن اعتبارات شخصية أو مصالح ذاتية أو شهوة أو نزوة، حقيقة وقع على الشيخ الظلم كما وقع على غيره، ولكن كان له من الأملاك الواسعة والثراء ما يكفل له العيش في بحبوحة ويسر ولم يكن الطمع من شيمته، وخلا «تاريخه» من الإشارة إلى نفسه، ولكنه ذخر بالأمثلة والوقائع المتصلة بعيش عامة الناس والفلاحين، وما صاروا يلاقونه من عنت وإرهاق بالغين في حياتهم ومعاشهم نتيجة لأساليب الباشا المالية الظالمة، وكثيرا ما صار الشيخ يسجل تمني الناس لعودة حكم الفرنسيين، ولم يكن الجبرتي نفسه إلا واحدا من أولئك الذين شاطروا سواد الشعب وقتئذ هذه الأمنية.
ولم يكن هناك تعارض بين تمني عودة الحكم الأجنبي - على الرغم من كراهية الناس وكراهية الشيخ له - وبين المبادئ التي دان بها الشيخ، والتي تنحصر في وجوب إقامة ميزان العدالة كغرض عيني ألزم الله تعالى الحاكم به، سواء كان من المسلمين، أم شاءت الحكمة الأزلية نفسها أن يكون من غير المسلمين. أما أن يستمر الجور والظلم، فذلك ما لا بد من انتهائه امتد الأجل به أم قصر، ولا يطلب من امرئ أيا كان الرضى به، والطاعة لصاحبه، فإذا انتصر الإنجليز على الباشا، فلا بد أن مبعث هذا حكمة أزلية، وكما أيد الله هذا الدين بالرجل الفاجر لإنهاء حكم الفرنسيين، فإنه سبحانه سوف يؤيده مرة أخرى، عند اقتضاء الحكمة الأزلية ذلك بإنهاء حكم هؤلاء الفاجرين؛ أي الإنجليز، فلم يكن مبعث حزن الشيخ على فشل هؤلاء إلا تمنيه زوال الظلم والجور، وانتشار العدالة، آية ذلك قوله تعليقا على هزيمة الإنجليز: «وهذه الواقعة حصلت على غير قياس، وصادف بناؤها على غير أساس، وقد أفسد الله رأي أهالي الإقليم لانتصارهم لمن يضرهم ويسلب نعمهم، وما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيدي الناس، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأما لماذا أفسد الله رأي هؤلاء، فهو لبروز ما كتبه وقدره في مكنون غيبه، على أهل الإقليم من الدمار الحاصل، وما سيكون بعد، كما ستسمع به، ويتلى عليك بعضه، فما كان إلا ما أراده المولى جل جلاله من تعسة الإنكليز والقطر وأهله إلا أن يشاء الله.»
ورأى الشيخ في محمد علي أنه منطبع على الظلم والجور، متطلع إلى ما بأيدي الغير، مستبد، لا صديق ولا حبيب له، «يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مراد، ولا يصطفي ويحب إلا من لا يعارضه، ولو في جزئية، أو يفتح له بابا يهب منه ريح الدراهم والدنانير، أو يدله على ما فيه كسب أو ربح من أي طريق أو سبب، من أي ملة كان»، انحلت عزائمه عندما بلغه حصول الإنجليز بالإسكندرية، غدر بمعاونيه من كبار الأرنئود، أنزل البلاء بحسين أفندي الروزنامجي وغيره، ونفى وشرد عمر مكرم، وبيت غدر المصرية وقتلهم في مذبحة القلعة (1811)، أضف إلى هذا توالي المظالم في عهده واستمرار الغلاء، وإفلاس مساتير الناس من كل ما فصله الشيخ في «تاريخه».
ومع ذلك فقد حاول الشيخ أن يتحرز من كراهيته لمحمد علي وأن يكون عادلا في حكمه عليه، فذكر بمناسبة إصلاح سد الإسكندرية وإعادته (1816)، وقد اعتبره من محاسن الأفعال أنه كان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة، على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.
وشهد الجبرتي، بعد الحوادث التي ذكرناها رسوخ ملك محمد علي، مقترنا باستمرار الأساليب الحكومية التعسفية التي حرص الشيخ على ذكرها في «تاريخه» ووصف آثارها، فلم يتغير نظره في الباشا وحكمه، في السنوات التالية.
تلك إذا كانت أسباب معارضة عبد الرحمن الجبرتي لحكومة محمد علي، ولقد كانت هذه المعارضة - كما أسلفنا - معارضة صامتة، فلم يعرف عن الشيخ أنه حاول أن ينقد بصورة علنية أساليب الباشا، أو أن يوجه النصح له لتقويمه كما فعل عبد الله الشرقاوي مثلا في حادث الاستسقاء (أغسطس 1808)، أو الانضمام إلى المعارضة السافرة عند ظهورها فيما بعد كما سيأتي ذكره، ومع ذلك فقد كانت معارضة الشيخ على صمتها معارضة خطيرة، من حيث إنها قامت على مبادئ معينة، تتصل في جوهرها بضرورة توفر العدل شرطا أساسيا لوجوب الطاعة للحكام، فلم يكن مبعثها أغراضا شخصية لرعاية مصالح ذاتية، ولم يكن من المنتظر أن يمتنع الشيخ من الإفصاح عن آرائه الصحيحة لأصدقائه، أو للأشياخ الذين اجتمع بهم، وتبادل الرأي معهم في شتى الأمور التي شغلت أذهان الأشياخ أو المتصدرين في وقته، ومن أهمها استمرار الإتاوات والسلف والمظالم، ولا ندحة عن حديث الأشياخ في ذلك، وقد جردهم الباشا من كثير من امتيازاتهم المادية السابقة، فأبطل مسموح المشايخ، ولم يلبث أن استولى على إيرادات الأوقاف، وشارك الملتزمين - وأكثريتهم من المشايخ - في فائض التزامهم، وهو علاوة على ذلك قد انفرد بالسلطة وحده، ولا يجرؤ واحد منهم على نصحه والحد من سلطانه، بل وهناك ما يدل على أن أجزاء من «التاريخ» الذي كتبه أو المذكرات التي دونها في طيارته قد ذاع أمره - على الأقل - بين أصدقائه وفي أوساط المشايخ، فلم يكن من صالح النظام القائم في شيء أن تذيع هذه الآراء وأن تجد لها صدى بين سائر الأوساط، حتى إنه بعد انقضاء هذه الحوادث التي نحن بصددها بعشرة أعوام تقريبا، وبعد أن كان الباشا قد قضى على كل عناصر المعارضة والمقاومة، واستبد بالسلطان الكامل في ملكه، لم يلبث أن وجد هو ورجاله من الأصلح لحكمه الحجر على آراء الشيخ وإسكاته، حتى في معارضته الصامتة هذه، فأجمع التواتر على أن صهر الباشا محمد بك الدفتردار فتك بخليل بن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في يونيو 1822، فقصم هذا البلاء ظهره، وعزف عن التسجيل والكتابة، ثم لم يلبث أن ذهب الحزن، بجانب الإجهاد في القراءة والكتابة ببصره، وقد أشرف على السبعين، وعاش بعد ذلك معتكفا في داره حتى توفي بعد قليل في عام 1825 أو 1826. (5) المعارضة السافرة: عمر مكرم
بيد أن الشيخ الجبرتي، وإن كان لم يجهر بمعارضته للباشا، ولم يسهم في المعارضة السافرة التي بدأت تتألف بعد حادث الاستسقاء في عام 1808 خصوصا، فقد سجل تفاصيل هذه المعارضة، وأخبار متزعميها من الأشياخ والمتصدرين سواء كان مبعث زعامتهم لها رغبة في الجاه والسلطان أم مجرد المناورة للإيقاع بالخصوم الشخصيين وإشفاء غليل أحقادهم، يدفع الأولين على المعارضة الغرور وعمى البصيرة، ويحدو الأخيرين في مناوراتهم الطمع والنهم والتكالب على الدنيا، مما جعل هذه المعارضة السافرة - في نظر الشيخ - تجربة تعسة في ظروفها وملابساتها ونتائجها.
وأما المتزعم لهذه المعارضة السافرة فكان عمر مكرم، وهو يختلف عن الجبرتي من حيث تنشئته وثقافته ونظرته للأمور وهدفه من الحياة، فلم يعرف عنه أن نشأ في مثل البيئة التي نشأ فيها الجبرتي، ومع أنه جاور بالأزهر، واقتنى مكتبة كبيرة، فلم يكن في عداد المشايخ، وعلى خلاف ما فعل الجبرتي، انصرف أكثر ما انصرف للانشغال بالدنيا، وجمع المال، والاجتهاد لبلوغ أماكن الصدارة عن طريق الانغماس في شئون السياسة، بالقدر الذي هيأته له الظروف، والذي استطاع هو بتدبيره وسعيه أن يهيئه لنفسه، وبينما كان الجبرتي يحدد موقفه من كل عهد من العهود التي مرت به مسترشدا بتلك المبادئ المعينة التي دارت حول ضرورة إقامة ميزان العدل من جهة، وربط ما يجري من أحداث بموجب الحكمة الأزلية من جهة أخرى، كان عمر مكرم نهازا للفرص يقيس سعيه في خدمة أي عهد من العهود التي مرت به بمقدار النفع الذي يجنيه منه، فهو صديق حميم للبكوات المماليك طالما بقيت السلطة في أيديهم، وهو لا يحجم عن الانفضاض من حولهم، إذا تراءى له أن بوسعه أن يفيد من أصحاب السلطان الجدد، وهو لا يثبت على كل حال في أوقات الملمات والشدة، إلا إذا تحتم عليه الثبات والصمود، وبينا يظل الجبرتي أمينا على رأيه حفيظا على مبدئه، لا يفارقه الاتزان حتى آخر أيامه، يركب الغرور رأس عمر مكرم، ويزداد اعتداده بنفسه لدرجة الطغيان على الحكمة والتدبير الحسن، وتعويض البقية الباقية مما استمتع به من نفوذ إلى الضياع. (5-1) نشأته ونشاطه
ولد عمر مكرم في أسيوط، في تاريخ مجهول، قد يكون في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، لم يعرف شيء عن والده أو أجداده إلا أنهم ينتسبون إلى البيت النبوي الكريم، ولم يكن بيتهم عريقا في انتسابه هذا، فمن المعروف أن سبط بني الوفاء من بيتي البكري والسادات هم الذين كانت لهم من أزمان بعيدة مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف. وفي أواسط القرن الثامن عشر الميلادي جمع السيد محمد أبو هادي بن وفا بين مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف، وتولى بعد وفاته في سبتمبر 1762 الخلافة الوفائية ابنه أبو الأمداد السيد أحمد بن إسماعيل، ونزل عن نقابة الأشراف إلى السيد محمد أفندي البكري الصديقي الكبير، وقد تولى هذا المنصبين معا، وطمع في المشيخة السيد محمد السادات بسبب انقراض سلسلة أولاد الظهور بموت السيد محمد أبي هادي، والشيخ السادات من سبط بني الوفاء، ولكنه لم يوفق - كما شهدنا - وطمع في نقابة الأشراف - دون وجه حق - السيد عمر مكرم، اللهم إلا دعوى انتسابه البعيد للبيت النبوي الكريم.
وواتت الفرصة عمر مكرم لتحقيق مأربه، عندما فر البكوات مراد وإبراهيم إلى الصعيد وقت مجيء حملة القبطان حسن باشا (1786)، واتخذا مقامهما بأسيوط، فسعى معهما حتى صار مقربا منهما ، فوثقا به، وكان عمر مكرم هو الذي حمل كتبهما إلى المسئولين في القاهرة في منتصف عام 1791 ورجع بجواب هؤلاء إليهما - على نحو ما سبق ذكره - ونال حظوة كبيرة لديهما بسبب نجاحه في المهمة، وعمل على توثيق صلته بهما، حتى إذا توفي شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب الأشراف بمصر، محمد أفندي البكري الصديقي الصغير في نوفمبر 1793، تدخل مراد وإبراهيم، فتقلد عمر مكرم نقابة الأشراف، بينما تولى خليل البكري سجادة الخلافة البكرية أو الوفائية، واضطر محمد السادات إلى كتمان حنقه وغيظه، وأشرف عمر مكرم على إدارة أوقاف وأملاك النقابة، وهيمن على إيراداتها، وظل من أقرب المقربين للبكوات، وأسدى لهؤلاء خدمة جليلة بأن صار يسعى جهده لإنهاء الأزمة التي حدثت بين البكوات والمشايخ على أثر اعتداء محمد بك الألفي الكبير على إحدى قرى بلبيس في يونيو 1795، والتي أسفر حلها عن كتابة تلك الحجة التي تعهد فيها البكوات بالتزام العدل وأعلنوا فيها توبتهم عن مظالمهم السابقة، ولقد تقدم كيف أن وعود مراد وإبراهيم كانت كاذبة، وأن ظلمهما شمل الأهلين والإفرنج (والفرنسيين خصوصا) على السواء، وكان في نظر الأشياخ السبب الذي جر على البلاد نكبة الغزو الفرنسي والاحتلال الأجنبي، حتى إن الشيخ محمد السادات وجد من ذلك سبيلا لتقريعهما وأتباعهما، وذلك عندما طلب البكوات المشايخ للتشاور معهم وقت وصول الخبر إلى القاهرة بطلوع الفرنسيين إلى الإسكندرية، فتكلم الشيخ بالتوبيخ وقال: كل هذا سوء مقالكم وظلمكم، وآخر أمرنا معكم، ملكتمونا للإفرنج. وشافه مراد بك: وخصوصا بأفعالك وتعديك أنت وأمرائك على متاجرهم وأخذ بضائعهم وإهانتهم.
وعند اقتراب الفرنسيين من القاهرة، بذل عمر مكرم ما وسعه من جهد وحيلة لتطمين العامة ولحملهم على قتال العدو ومؤازرة البكوات، وكان العامة قد أفزعهم ما شهدوه من انحلال عزائم البكوات والإسراع في التأهب للارتحال من القاهرة، فداخلهم الخوف الكبير والفزع واستعد الأغنياء وأولو المقدرة للهروب لولا أن هددهم البكوات، وسعى أنصارهم لاستحثاث الناس على الجهاد، وكان عمر مكرم بين الساعين في ذلك، فصعد نقيب الأشراف إلى القلعة، فأنزل منها بيرقا كبيرا سمته العامة البيرق النبوي، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك، فكانت مظاهرة كبيرة لم تجد نفعا ولم تدفع ضرا، وانهزم البكوات في معركة الأهرام أو إنبابة المعروفة في 21 يوليو 1798، وفر مراد في طريقه إلى الصعيد، وفر إبراهيم متوجها إلى الشام، وخرج كثيرون من الأهلين يريدون الارتحال من القاهرة، وقر رأي المشايخ في اليوم التالي (22 يوليو) على الاتصال بالغزاة والاستفسار عن مقاصدهم، واطمأن عديدون لوعود الفرنسيين بتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فرجع الفارون ومعهم الأشياخ الذين كانوا قد صحبوهم في فرارهم - حتى المطرية - ومنهم الشيخ محمد السادات والشيخ عبد الله الشرقاوي، وأما عمر مكرم فإنه لم يطمئن ولم يرجع.
والواقع أن السيد النقيب كان قد صح عزمه على الارتحال من هذه البلاد مع البكوات الذين ارتحلوا عنها، فاتبع جماعة إبراهيم الهاربة نحو الشرق، واستقر به المقام في يافا فترة من الزمن، كانت كافية لأن يرى الفرنسيين وقد وطدوا أقدامهم في مصر، بل واستقام لهم الأمر فيها، حتى إنهم سيروا جيشا لغزو الشام وفتحها كذلك، وليتأكد لديه أن دولة البكوات قد زالت، فقد تشتتت جموع هؤلاء، وطاردهم الفرنسيون في الصعيد، بينما هم أخمدوا ثورة القاهرة (الأولى) في 21 أكتوبر 1798 في سهولة ويسر، ثم إنهم انتصروا على العثمانيين والبكوات الذين عجزوا عن وقف زحفهم على الشام، فاستولوا على العريش وغزة دون عناء.
واعتقد عمر مكرم - وقد تحصن العثمانيون في يافا - أنه سوف يستعصي على الفرنسيين وقائدهم بونابرت فتحها، ولكن سرعان ما دانت هذه للغزاة بعد قتال دام ثلاثة أيام فحسب، فسقطت في أيديهم في 7 مارس 1799، وكان عمر مكرم أحد أربعمائة تقريبا من المصريين اللاجئين بها، فأعادهم بونابرت إلى مصر، وكان عمر مكرم مع العائدين، وصل إلى دمياط بطريق البحر، مع جماعة ذكرهم الشيخ الجبرتي في «تاريخه» وتعوق بدمياط فترة من الزمن بسبب «الكرنتيلة»، ثم وصل إلى بولاق أخيرا في 7 يوليو 1799، فمكث هنيهة بزاوية علي بك التي بساحل بولاق، حتى وصل إلى داره، وكان في أثناء ذلك قد رجع بونابرت نفسه من حملته الفاشلة في الشام، ودخل القاهرة في 14 يونيو، فبادر عمر مكرم ثاني يوم وصوله - أي في 8 يوليو - بمقابلة بونابرت بصحبة الشيخ محمد المهدي الذي استطاع أن يفوز برضاء الفرنسيين عنه.
وكان الفرنسيون قد نزعوا نقابة الأشراف من عمر مكرم، وقلدوها منذ أغسطس 1798 الشيخ خليلا البكري، وكان هذا قد تداخل فيهم، وعرفهم أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلده الفرنسيون إياها، واستولى على وقفها وإيرادها، وفضلا عن ذلك فقد صادر الفرنسيون أملاك عمر مكرم؛ ولذلك فقد صار كل ما اهتم به - وقد رجع الآن إلى مصر - أن يسترجع أملاكه المفقودة ولم يكن بوسعه أن يسترد النقابة؛ لأن خليلا البكري - كما سبقت الإشارة - كان قد نال حظوة كبيرة لدى الفرنسيين.
ووجد عمر مكرم في وساطة محمد المهدي - وهذا صاحب حظوة كذلك لدى الفرنسيين - خير ما يعينه على نيل مأربه، فكانت مقابلته بصحبة الشيخ لبونابرت، وليس من المستبعد أن يكون محمد المهدي قد سعى للتمهيد لهذه القابلة؛ كسبا لرضاء بونابرت الذي قامت سياسته الإسلامية الوطنية على استمالة المشايخ والعلماء والأعيان، وأما بونابرت - على حد قول الجبرتي - فقد «بش له ووعده بخير، ورد إليه بعض تعلقاته، وكان هذا كل ما ظفر به عمر مكرم، فاستقر بداره، وصارت الناس تغدو وتروح إليه على العادة.»
ثم توالت الأحداث مسرعة، ففشل العثمانيون في محاولتهم الإغارة على الفرنسيين لطردهم من البلاد وانهزموا في موقعة أبي قير البرية في 25 يوليو 1799، وارتحل بونابرت عن مصر في 22 أغسطس، وتولى الجنرال كليبر قيادة الحملة، ولم يكن هذا من أنصار البقاء في مصر، بل يريد إخلاء البلاد وعودة جيش الشرق بكل سرعة إلى فرنسا، وشرع يتفاوض في شروط الجلاء مع العثمانيين والإنجليز، تلك المفاوضة التي أسفرت عن عقد اتفاق العريش في 24 يناير 1800، ثم نقضه وانهزام العثمانيين في معركة هليوبوليس في 20 مارس من العام نفسه.
وأنعشت المفاوضة آمال السيد عمر مكرم، الذي صار يترقب عودة هذه البلاد إلى حظيرة الدولة، ورجوع الأوضاع بها إلى حالها السابقة، واسترداد البكوات لسلطانهم القديم، ونزول القصاص بالمتعاونين مع أعداء الدولة، واستطاعته أن يسترجع نقابة الأشراف وأوقافها وريعها، عدا ممتلكاته المصادرة، فراح يستعد لمقابلة العهد الجديد، ثم دخل بعض العثمانيين القاهرة عقب إبرام اتفاق العريش، ولكن خاب الأمل بسبب نقض هذا الاتفاق ودارت رحى الحرب بين كليبر وجيش يوسف ضيا والبكوات (وعلى رأس هؤلاء إبراهيم بك)، فما إن سمع القاهريون صوت المدافع حتى اشتد هياجهم، وقامت ثورة القاهرة الثانية التي بدأت يوم المعركة نفسه (20 مارس).
وبدلا من تهدئة العامة - كما صار يفعل الشيخ الجبرتي - تزعم عمر مكرم هذه الثورة الفاشلة، فكان هو والسيد أحمد المحروقي من بين الذين سارعوا إلى التلول خارج باب النصر، وانضم إليهما أتراك خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر (القاهرة) ... وتبعهم كثير من عامة أهل البلد وبأيديهم النبابيت والعصي، والقليل معه السلاح، وكذلك تحزب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات، وجعلوا يطوفون بالأزقة وأطراف البلد، ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقضونها من اختراعاتهم وخرافاتهم، وقاموا على ساق، وخرج الكثير منهم إلى خارج البلد، على تلك الصورة، ثم عاد جمع عظيم من العامة ممن كان خارج البلدة ولهم صياح وجلبة على الشرح المتقدم، وخلفهم إبراهيم بك، ثم أخرى وخلفهم سليم آغا، ثم أخرى كذلك وخلفهم عثمان كتخدا الدولة، ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم، وصحبتهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي، وطائفة من البكوات، وراح نصوح باشا يقول للعامة اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم، وكانت ثورة عاتية، مر بنا طرف من حوادثها، ومنها إهانة الشيخ خليل البكري؛ حيث تتبع الناس عورات بعضهم البعض وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم، فاتهم الشيخ خليل بأنه يوالي الفرنسيس ويرسل إليهم الأطعمة، ولم ينقذه من أيدي العسكري وبعض أوباش العامة سوى توسط سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر، ولم يتوسط عمر مكرم قطعا في إنقاذه.
ولم تفد مساعي الصلح بين الفرنسيين والأشياخ - وكان كليبر قد عقد معه معاهدة في 5 أبريل - لإنهاء هذه الثورة الجامحة، وظل السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي وأتباعهما يمرون في كل وقت ويأمرون الناس بالقتال، ويحضونهم على الجهاد، مع اتضاح عدم جدواه، وما تسبب عن الثورة من توقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق، ومغالبة الجهلاء على العقلاء، وتطاول السفهاء على الرؤساء، وتهور العامة، ولغط الحرافيش، وغير ذلك مما لا يمكن حصره.
ولقد أشعل الفرنسيون الحرائق في الأحياء الوطنية، وأحرقوا حي بولاق وخربوه وتهدمت أغلب المنازل بالأزبكية، وصاروا يهددون بحرق القاهرة بأسرها إذا لم يخرج الجند العثمانيون ورؤساؤهم منها، وبات واضحا ألا سبيل للخلاص إلا بالإذعان، فتم الصلح نهائيا في 21 أبريل في اتفاق وقعه العثمانيون وإبراهيم بك، مع الجنرال كليبر، وغادر الأولون القاهرة، وخمدت الفتنة التي انكشف غبارها - على نحو ما ذكره الشيخ الجبرتي وأبناه قبل ذلك - عن تعسة المسلمين وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين، وكان عمر مكرم من بين الذين خرجوا من القاهرة، فقال الجبرتي: «خروج العثمانية وعساكرهم وإبراهيم بك وأمراؤه ومماليكه والألفي وأجناده ومعهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي الشاه بندر، وكثيرون من أهل مصر ركبانا ومشاة إلى الصالحية، وكذلك حسن بك الجداوي وأجناده، وأما عثمان بك حسن ومن معه فرجعوا صحبة الوزير يوسف ضيا، فلم يسع إبراهيم بك وحسن بك ترك جماعتهما خلفهما، وذهابهم بأنفسهم إلى قبلي، بل رجعا بجماعتهما على أثرهما، وذاقوا وبال أمرهم.»
ولزم عمر مكرم عرضي الصدر الأعظم والبكوات المماليك، حتى إذا انهزم الفرنسيون في العام التالي، واضطروا إلى تسليم القاهرة والإسكندرية والجلاء عن البلاد، رجع عمر مكرم ضمن من رجعوا، فدخل القاهرة في 15 يوليو 1801 وصحبته السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار بمصر، وقد ارتدى كل منهما خلعة من السمور، دليل تكريم أهل العقد والحل الجدد لهما، ورضائهم عنهما، ومكافأة لهما على جهودهما وولائهما.
ولم يكتف العثمانيون بمكافأة عمر مكرم بخلع الخلع السمور عليه، بل إنهم جردوا خليلا البكري من نقابة الأشراف، وقلدوا عمر مكرم إياها، فوصفه الشيخ الجبرتي حال دخوله القاهرة بأنه نقيب الأشراف، وكأنما تجريد خليل البكري من النقابة لم يكن كافيا لإشفاء غليل أخصامه، فراحوا يسعون لدى محمد خسرو باشا في حقه، متخذين من خروج ابنة له عن طورها أيام الفرنسيين ذريعة للنيل منه، وكانت هذه قد تبرأ منها والدها بعد خروج هؤلاء، وقتلت بأمر من الصدر الأعظم يوسف ضيا في 4 أغسطس 1801، فراح أعداء خليل البكري ينهون إلى محمد خسرو بأنه مرتكب للموبقات، ويعاقر الشراب وغير ذلك، وأن ابنته كانت تذهب إلى الفرنسيس بعلمه، وأنه قتلها خوفا وتبرئة لنفسه من الشهرة التي لا يمكنه سترها، ولا يقبل عذره فيها، ولا التنصل منها، وأنه لا يصلح لمشيخة سجادة السادة الوفائية، فعزله الباشا منها وقلدها أحد أتباع الشيخ شخصا من سلسلتهم يقال له الشيخ محمد سعد، ثم جدد أعداؤه مسعاهم لتجريده من ممتلكاته وأمواله كذلك، فتصدى لمفاقمته وأذيته أنفار من المتظاهرين مثل السيد عمر مكرم النقيب، والشيخ محمد وفا السادات وخلافهما، وتسلط عليه من له دين أو دعوى أو مطالبة حتى بيعوه حصصه. (5-2) عمر مكرم وعهد الفوضى السياسية
وصار عمر مكرم حينئذ ممن يحتلون مكان الصدارة في العهد الجديد، ولكن هذا كان عهدا - كما عرفنا - اتسم بطابع الفوضى السياسية، اختلفت فيه الأوضاع عن تلك التي خبرها على أيام سطوة البكوات المماليك، قبل الاحتلال الفرنسي، فالباشا العثماني يعمل جاهدا لاجتثاث سلطان البكوات تنفيذا لسياسة الباب العالي، والبكوات يفقدون سلطانهم رويدا، ويطردون من القاهرة، ويسير عليهم الباشوات الحملات لتعقبهم ومطاردتهم في الوجه البحري والصعيد، وتكثر في القاهرة حوادث الانقلابات تطيح بباشوية أحد الولاة تارة، وبرأس الآخر تارة أخرى، وتتوالى المظالم على الشعب وسط ذلك كله، فيئن من جور الإتاوات والفرد والسلف الإجبارية والمغارم، ويشكو من اعتداءات الجند عليه وإيذائهم له، ثم يشتد تذمره ويعلو صخبه في مظاهرات تقصد إلى الجامع الأزهر وسائر الجوامع، ويطلب المتظاهرون المتذمرون الغاضبون المشايخ حتى يقوموا بدور الوساطة لدى الباشا العثماني أو لدى البكوات - عندما صار لهؤلاء الحكم فترة من الزمن في عهد هذه الفوضى السياسية المتلاطمة - لرفع هذه المظالم، ولم يكن الشعب في طلبه هذا من المشايخ والمتصدرين قد خرج عن مألوف ما درج عليه في الأزمان السابقة، من حيث اتخاذ العلماء والمشايخ واسطة بينه وبين الهيئات الحاكمة.
ولقد عرف السيد عمر كيف يحتفظ في أثناء هذه الفوضى السياسية بمكان الصدارة الذي صار له، كنقيب للأشراف، وكرجل من رجال العهد الجديد، ولكن في الحدود التي رسمتها له أحداث هذه الفوضى السياسية ذاتها، فهو لن يكون بحال صاحب رأي لدى الباشوات العثمانيين أو رؤساء الأجناد وكبارهم المتنازعين فيما بينهم جميعا على السلطة والحكم؛ لأن هؤلاء اعتبروا خلافاتهم من شأنهم وحدهم فحسب، ولا دخل للرعية بها، واستخدموا المتصدرين من الأشياخ والأعيان كأدوات طيعة في الحالات التي أرادوا فيها استكتابهم العرائض والإعلانات كأسانيد شرعية يبررون بها انقلاباتهم في أعين الدولة، أو تكليفهم بجمع الإتاوات والسلف وما إلى ذلك من الأهلين، أو توسيطهم لدى البكوات المماليك.
والسيد النقيب لن يكون بحال كذلك من أعضاء البكوات أصدقائه القدامى، وأصحاب الفضل عليه، ومصدر نعمته، وأصل الوجاهة والصدارة اللتين وصل إليهما؛ لأنهم ما لبثوا أن صاروا في خصام دائم مع الدولة وفي ثورة عليها سواء أكانت هذه مستترة في بعض الأحايين أم سافرة في أكثرها، وهو كذلك لا يرى نفعا وفائدة من الانقلاب عليهم ونبذ الولاء لهم كلية، والباشوات العثمانيون وأجنادهم لا يزالون عاجزين عن هزيمتهم الهزيمة الساحقة، ولا يزال الباب العالي نفسه ظاهر التردد في موقفه منهم، فتارة يعلنهم عصاة ثائرين، وتارة يصطلح معهم، وتارة يكاد يفقد البكوات السلطة تماما، وتارة تنحصر هذه في أيديهم.
والسيد النقيب فوق ذلك كله لا يجرؤ على التظاهر برأي - على الأقل - ما لم يكن قد انعقد الإجماع عليه بين سائر المشايخ والمتصدرين؛ لأنه وإن كان له أصدقاء كثيرون من بين الأشياخ، ويتردد عليه الأهلون ويقصدونه كي يبثوا شكواهم، ويسألوه الرأي والنصيحة، فهو يعلم في كامن ضميره أن غالب صداقة زملائه الأشياخ زائفة، وأن التنافس القائم على الرئاسة والزعامة والصدارة، لما يستتبع حصولها من إثراء واستمتاع بلذائذ الدنيا، قد جعلهم يحقدون على بعضهم بعضا، ويسعون في إيذائه إذا قدروا على ذلك، ولا يحجم هو نفسه عن إيذائهم إذا وجد في هذا نفعا له، فهناك من أعدائه السافرين أو المستترين، خليل البكري - وقد تسعفه المقادير للإيقاع به كما أوقع هو وأتباعه به، وقد شغل عمر مكرم في السنوات التالية بإحكام تدمير السيد خليل وهدمه - ومحمد السادات (أبو الوفا) - وإن كان عمر مكرم على ما يبدو اعتقد في صداقته له - ومحمد الدواخلي، ومحمد المهدي - وهذان من أكثر المشايخ حقدا عليه - وعبد الله الشرقاوي، وذلك عدا غيرهم من المتعلمين الذين قاسوا صداقتهم له ولغيره بمقياس غضب أو رضاء الهيئات الحاكمة ومقدار إقبال الدنيا على المتصدرين أو إدبارها عنهم، ثم إنه يعلم في كامن ضميره كذلك أن مبعث تعلق العامة به، والمكانة التي احتلها من نفوسهم، زعامته السابقة لهم إبان ثورة القاهرة الثانية (مارس-أبريل 1800)، فلم تكن له مندوحة من إبلاغ شكاواهم - على الأقل - إلى السلطات المسئولة كلما أتيحت له الفرصة أن يفعل ذلك، إذا شاء الاحتفاظ بمكانته عندهم، وتلك بدورها مكانة لا معدى عن الاحتفاظ بها، لبقاء صدارته وعدم انقطاع الصلة بينه وبين السلطات المسئولة، بالقدر الذي يبقى عليه نقابة الأشراف ولا يحرمه من ريع أوقافها وأملاكها، ثم إنه لم تكن له مندوحة كذلك - إذا رغب الاحتفاظ بمكانته - من تزعم الأهلين المتذمرين المتظاهرين أو الثائرين، إذا استفحل الظلم وتمكن البلاء وانفجر بركان الغضب يقذف بالمشايخ وسائر المتصدرين إلى الصفوف الأمامية، للقيام بدور الوسيط التقليدي لدى الهيئات الحاكمة لرفع الجور والظلم الذي يشكو الشعب منه.
وعلى ذلك، فقد سلك السيد عمر مكرم في سنوات الفوضى السياسية هذه طريق الحيطة والحذر، سكن أيام الشدة التي تخضبت حوادثها بدماء البكوات الذين دبرت المكائد المعروفة لاغتيالهم في مطلع العهد الجديد، فنأى بنفسه عن فطنة الاتصال بهم والتعاون معهم بكل وسيلة، ولم يشذ عن سائر زملائه من الأشياخ والأعيان في الرضوخ لمطالب أصحاب السلطة سواء من الباشوات العثمانيين أم رؤساء الجند، وتكلم في صالح الشعب - أو القاهريين - بالقدر الذي لا يثير غضب المسئولين عليه، وفي حدود الظروف المواتية والمناسبات الملائمة، ورحب بعودة البكوات إلى الحكم أثناء الحكومة الثلاثية المتألفة من إبراهيم بك وعثمان البرديسي ومحمد علي، وارتفعت مكانته، بينما نزل الظلم والعسف بمنافسه وغريمه الشيخ محمد السادات على أيدي هؤلاء البكوات، ثم قلب لهم ظهر المجن، عندما ثار القاهريون ضدهم، وراح محمد علي يدبر تقويض حكومتهم وطردهم من القاهرة، فتعاون عمر مكرم معه؛ لاطمئنانه إلى قدرة محمد علي والأجناد الأرنئود، وتيقنه أن البكوات لم يعد لهم عيش في القاهرة، ثم آزر القائد المنتصر على غريمه أحمد خورشيد، ثم بلغ أقصى ما يمني النفس به من ضروب الصدارة والزعامة في إقباله على تأييد الانقلاب الذي أفضى إلى المناداة بمحمد علي، وأنهى الفوضى السياسية، فخرج من الأزمات المتلاحقة التي ميزت فترة هذه الفوضى، وقد تزايد شأنه رفعة وقدمه رسوخا في الصدارة والزعامة، وصار العضد الكبير لحكومة العهد الذي بدأ مؤسسا على أشلاء الفوضى السابقة.
يفسر مسلك السيد النقيب الذي كفل له الوصول إلى غايته هذه - وإن دفع ثمنا باهظا بعد ذلك لنجاحه الذي أدركه - جملة حوادث، منها أنه لم يعتكف ولم ينزو، بل اشترك في الحياة العامة، وثابر على التمسك بمظاهر الصدارة، يوزع التفاته إلى السلطات الحاكمة والبكوات المماليك بالعدل والقسطاس، وبالقدر الذي يتفق مع صالحه، فيحضر في أكتوبر 1801 احتفال عقد كريمة إبراهيم بك (السيدة عديلة)، ويحضر ما يقام من احتفالات لقراءة الفرمانات الواردة من الباب العالي، أو لوصول كسوة الكعبة الشريفة من حضرة السلطان، وقد صادفته أزمة في هذه الأيام الأولى عندما نازعه على نقابة الأشراف، وسلبها منه شخص يدعى يوسف أفندي، اشتهر بسوء السمعة والسيرة قبل مجيء الفرنسيين، ارتحل عن البلاد إلى إسلامبول وقت مكثهم بهذه البلاد، ثم صار يتحيل ويتدخل في بعض حواشي الدولة حتى ظفر بتولي نقابة الأشراف ومشيخة المدرسة الحبانية، فحضر إلى مصر في ديسمبر 1801 بعد جلاء الفرنسيين، وأهمل أمره أولا لمعارضة أعيان الأشراف له، غير أن محمد خسرو باشا لم يلبث أن قلده النقابة في 2 فبراير 1802، وبذل عمر مكرم قصارى جهده لاسترجاعها، وآزره في مسعاه يوسف ضيا الصدر الأعظم، الذي هرع عمر مكرم وبعض المتعممين لتوديعه عند مغادرته القاهرة في 13 فبراير من العام نفسه، فأعطاهم صررا وقرءوا له الفاتحة، فلم يمض شهران حتى وصل في 18 أبريل 1802 قاصد من الديار الرومية بمكاتبات وتقرير نقابة الأشراف للسيد عمر وعزل يوسف أفندي. وفي 19 أبريل ركب السيد عمر المذكور وتوجه إلى عند الباشا فألبسه خلعة سمور، ثم حضر عند الدفتردار شريف أفندي، فكانت مدة عزله من النقابة شهرين ونصفا.
ثم إن عمر مكرم حرص على أن يظل مقربا من خسرو باشا، وموضع ثقة رجال الدولة، من الأدلة على ذلك أنه ثار نزاع على ميراث في غضون شهر أكتوبر 1802 بين القائم على خدمة مقام سيدي أحمد البدوي ونسيبه، وادعى كل منهما أن بوسعه إحضار الأموال التي يكنزها الآخر للحكومة، فعوق خادم المقام في بيت السيد عمر مكرم، وذهب نسيبه مع طائفة من الجند إلى طنطا وجاء بأموال كثيرة كانت مخبوءة في بئر مردومة وفي مواضع أخرى.
وثمة دليل أهم من الأول، هو أن السيد عمر امتنع عن مقابلة «سباستياني» أثناء زيارة هذا لمصر في مهمته التي سبق الكلام عنها في أحد فصول هذا الكتاب، فقال «سباستياني» في تقريره: إنه توجه لزيارة عمر مكرم يوم 28 أكتوبر 1802، ولكن هذا كان مريضا فقابله ولده، ولم يذكر «سباستياني» أنه تسنى له بعد ذلك مقابلة النقيب بتاتا، وكان الحذر مبعث عدم مقابلته للفرنسيين، في وقت كان فيه للفرنسيين حزب من بين طوائف البكوات المماليك، والعلاقات متحرجة بين هؤلاء والدولة، وقد شاطر في هذا الحذر سائر المتصدرين، كالمشايخ: أحمد العريشي ومحمد المهدي ومحمد الأمير، وبعث خليل البكري يرجو «سباستياني» عدم زيارته؛ نظرا لسوء العلاقة بينه وبين الحكومة القائمة، ولم يرحب بزيارة الفرنسي سوى سليمان الفيومي، وبعث محمد السادات مع رسوله (جوبير) يؤكد ولاءه للفرنسيين.
ولم يسمع للسيد عمر مكرم - أو لسائر المشايخ والمتصدرين - صوت في الانقلاب الذي أفضى إلى طرد محمد خسرو، ولم يكن ليسمح أصحاب الانقلاب لأحد بالتدخل، وهم الذين كانوا - كما عرفنا - يقولون نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا، ولكن عندما احتاج طاهر باشا إلى سند شرعي موقع عليه من القاضي والمشايخ ونقيب الأشراف، يبعث به إلى الدولة تفسيرا لحركته، طلب هؤلاء - ومنهم عمر مكرم - لمقابلته يوم 6 مايو 1803، فانتهز المشايخ الفرصة وكلموه على رفع الحوادث والمظالم وظنوا فيه الخيرية، ولم يسجل الشيخ الجبرتي عن هذا الكلام سوى ما ذكرنا، ولكن قنصل النمسا (روشتي) أضاف في رسالته إلى «شتورمر» في القسطنطينية - أن عمر مكرم كان من بين المتكلمين في رفع المظالم التي يشكو منها الشعب، وأن طاهر باشا والدفتردار خليل أفندي السرجاني قد وعدا المشايخ خيرا، ولقد شهدنا كيف أن هذه المظالم استمرت برغم هذه الوعود الكاذبة، فلم يكن لهذه الوساطة التي تكاتف فيها المشايخ ولم ينفرد بها عمر مكرم أي أثر، بل كانت من قلة القيمة وعدم الجدوى بحيث لم ير الشيخ الجبرتي مسوغا لذكر أية تفاصيل عنها.
ولم يلبث أن تبع ذلك انقلاب أطاح برأس طاهر باشا، فلم يسمع للسيد النقيب والمشايخ صوت أو يعرف عنهم تدخل في هذا الحادث، سوى توسيط أحمد باشا والي المدينة لهم بالأمر لدى محمد علي لإقناعه بالإذعان إلى الطاعة عندما طمع أحمد باشا - دون جدوى - في الولاية، ولكن عمر مكرم رحب ترحيبا كبيرا بقيام الحكومة الثلاثية. وفي اليوم الذي وصل فيه محمد خسرو باشا إلى بولاق في أسر البكوات الذين اقتادوه من دمياط إلى القاهرة، دعا عمر مكرم إبراهيم بك (في 19 يوليو 1803) في بيته ببولاق فجلس عنده ساعة، وغرض النقيب توثيق صلاته بأرباب الحكم الجديد ولما يمض أسبوعان على تولي إبراهيم بك القائممقامية.
ولم يعرف عن عمر مكرم أنه توسط في نصح أو إرشاد أو احتجاج لدى البكوات إبان حكومتهم بالرغم من المظالم التي أوقعوها بالناس، والتي سردنا سابقا الشيء الكثير منها، اللهم إلا إذا ورطه العامة توريطا، وتساند معه بعض المشايخ المتصدرين في هذا المسعى، وانطوى التوسط على خدمة تسدى إلى البكوات أنفسهم بتهدئة الخواطر من ناحيتهم، كما حدث في نوفمبر 1803؛ حيث وقف في الخامس والعشرين من هذا الشهر جماعة من العسكر في خط الجامع الأزهر في طلوع النهار، وشلحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمائمهم، فانزعج الناس ووقعت فيه كرشة استفحل أمرها فوصلت إلى بولاق ومصر العتيقة وأغلقت الحوانيت، واجتمع الناس وذهبوا إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي والسيد عمر النقيب، والشيخ محمد الأمير، فلم ير هؤلاء بدا من الركوب إلى البكوات وعملوا جمعية وأحضروا كبار العساكر وتكلموا معهم ...
ولم تكن في صالح عمر مكرم معارضة البكوات، الذين صاروا أصحاب الحول والطول الآن في القاهرة، ولم تكن له ندحة عن استبقاء صداقتهم له، وقد شمل ظلمهم العامة والخاصة، فبقي محتفظا بمكانته لديهم، وظل الشعب واثقا في وساطته، ولقي منافسوه على أيدي البكوات كل عنت وإرهاق، بينما استمر هو معززا مكرما، فمن المعروف أن عثمان البرديسي حاول أن ينتزع عنوة من الشيخ محمد السادات منافس السيد النقيب وعدوه في البطن سلفة إجبارية في أواخر يناير 1804، فلم ينقذ الشيخ سوى تدخل عديلة هانم ابنة إبراهيم بك.
ولكن كان من المحال أن يسدر البكوات في غوايتهم، وتتوالى اعتداءاتهم على الأهلين دون أن يتحرك الشعب للثورة في النهاية، وأنذر تلبد السحب بقرب انفجارها، وكان للشيخ محمد الأمير من الجرأة والشجاعة ما حمله على لفت نظر البكوات، فيذكر الشيخ الجبرتي أنه انتهز فرصة اجتماع عقد لدى البكوات لقراءة فرمان ورد من الباب العالي في 2 فبراير 1804، فذكر بعض كلمات ونصائح في اتباع العدل وترك الظلم وما يترتب عليه من الدمار والخراب.
وكان أمام عمر مكرم أن يختار أحد أمور ثلاثة: إما الاستمرار على مصافاة البكوات ومؤازرتهم وسوف يصطدم في هذا مع إجماع المشايخ والمتصدرين الذين طلب الشعب وساطتهم، ولم يبد هؤلاء ترددا في الاستجابة لنداءاته، وكان المشايخ ناقمين على حكومة البكوات بسبب استيلائهم وجماعاتهم عنوة على ما أخذه المشايخ من حصة الالتزام بالحلوان أيام العثمانيين، وقد سبق لهم أن شكوا من ذلك وكتبوا في هذا عرضا لإبراهيم بك منذ 20 أكتوبر 1803، وإما التزام الحيدة، ومعنى ذلك تخليه في هذه الأزمة عن تلك الصدارة التي حرص كل الحرص على عدم التفريط فيها، وهذا ما لا يرضاه بحال، وإما مجاراة المشايخ والمتصدرين في الاستجابة لمطلب الشعب، ولا خوف عليه إن فعل؛ لأنه لا يعدو كونه واحدا من المتصدرين، ومتآزرا معهم، فلا سبيل إلى أن يسعى أحد خصومه لدى البكوات ضده.
وبقي عمر مكرم مترددا، فلم يعرف عنه أنه كانت له يد في تلك المظاهرة الصاخبة التي انفجرت يوم 8 مارس 1804، وصار نداؤها: «إيش تاخد من تفليسي يا برديسي»، ولم يعرف عنه أنه كان بين المشايخ الذين قال الجبرتي إنهم ركبوا وذهبوا لمقابلة البكوات مع الجمهور الصاخب الذي حضر إلى الأزهر، يستحثهم على التوسط لدى البكوات لرفع الفردة التي قرروها على العقار والأملاك، وشرعوا في تنفيذها على يد السيد أحمد المحروقي قبل ذلك بيوم واحد فحسب، ونجحت وساطة المشايخ في إبطالها في التو والساعة.
ولقد دلت جرأة الأهلين لحد القيام بالمظاهرة الغاضبة، كما دل خنوع البكوات واستسلامهم لمطالبه، على أن الضعف قد بدأ يدب في جثمان حكومتهم، وصار لا معدى للسيد النقيب عن تحديد موقفه من هذه الحكومة بسرعة، بالشكل الذي يتفق وصالحه.
وواتت الفرصة لتحديد موقفه نهائيا، عندما شرع محمد علي يتودد إلى المشايخ، ويستميل المتصدرين إليه؛ توطئة لإحداثه انقلابه الذي قوض عرش حكومة البكوات، وأخلى القاهرة منهم، ولقد تقدم كيف أن محمد علي قد استطاع - بشهادة «روشتي» - توثيق عرى الاتحاد بينه وبين السيد عمر نقيب الأشراف وسائر العلماء، فكان عمر مكرم من بين الذين وافقوا على وجوب إنهاء سلطان البكوات، وكان من بين الذين قرئ عليهم الفرمان الواصل من أحمد خورشيد بتوليته على الباشوية من لدن الباب العالي، فقر رأيهم على اعتماده وتنفيذه، فكانت المؤامرة التي انتهت بطرد البكوات من القاهرة.
وظل عمر مكرم في عداد كبار المتصدرين في الحكم الجديد، وبدأت من ذلك الحين صلاته الوثيقة بمحمد علي.
فكان السيد النقيب من بين المتوسطين في حادث الست نفيسة أرملة مراد بك في مايو 1804 - وقد مرت بنا تفاصيل هذا الحادث - ولو أن الذي تشدد في وجوب رفع الظلم عنها وهدد بأن الشعب لن يغفر لأحد إهانتها كان الشيخ محمد الأمير، وكان السيد عمر هو الذي وسطه خورشيد لتهدئة الهياج والمظاهرات التي قامت في الشهر نفسه احتجاجا على مظالمه، واحتج السيد النقيب بأن كل أرباب الحرف والصنائع فقراء، فرفع خورشيد المغارم الجديدة التي كان فرضها عليهم، وكان عمر مكرم من كبار الوسطاء بين خورشيد ومحمد بك الألفي؛ توطئة لتعاون الرجلين، وإن أخفق هذا المسعى في الظروف التي عرفناها.
ولكن توالي الغرامات والمظالم، واعتداء الدلاة على الأهلين، وهم جند خورشيد الذين أراد الاعتماد عليهم في مناصرته ضد محمد علي خصوصا، وسائر أخصامه، لم يلبث أن جعل من المتعذر أي تعاون من جانب عمر مكرم مع حكومته، وما إن تجمعت السحب التي أنذرت بهدم هذه الحكومة، حتى كان السيد النقيب في مقدمة المناصرين لمحمد علي، ومن أقطاب الانقلاب الذي انتهى بالمناداة بمحمد علي في مايو 1805.
على أن هناك حادثا جديرا بالتسجيل في هذه المناسبة يكشف عن مدى الدور الذي قام به عمر مكرم لتمكين محمد علي من الولاية، وهو دور ينطوي على الخداع والمخاتلة، تنكر فيه السيد النقيب لأصدقائه القدامى البكوات المماليك، وفوت الفرصة على محمد الألفي أقدرهم وأكفئهم، في استرجاع الحكم، أثناء أزمة الثورة على خورشيد، واضطراب الأحوال في القاهرة، ولقد كان في وسع الألفي يومئذ - لولا مخاتلة عمر مكرم ومراوغته - أن يحتل القاهرة، وقد يتخيل المرء أن مسلك عمر مكرم كان مبنيا على رغبة لديه في إنهاء المظالم التي عانى منها الأهلون كثيرا على أيدي البكوات المماليك، وأنه وثق بوعود محمد علي له بالسير في الرعية إذا ولي الأمر سيرا حسنا، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن مسلك عمر مكرم في جميع الحوادث السابقة كان متشكلا بما تمليه الرغبة في انتهاز الفرص، والدوران مع الريح أينما دارت، والمقامرة على الحصان الرابح دائما؛ استبقاء لمكان الصدارة الذي يشغله، واستزادة من الجاه والثراء اللذين كانا له؛ ولأنه قد توهم أن يغدو هو صاحب الرأي الأول في العهد الجديد.
وصف الشيخ الجبرتي هذا الدور، فقال: «ثم لما حصلت المفاقمة بين محمد علي وجماعته وبين خورشيد أحمد باشا، وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا، وهاجت الحروب بين خورشيد باشا وأهل البلدة كان الأمراء المصريون بناحية التبين والألفي منعزل عنهم بناحية الطرانة، والسيد عمر يراسله ويعده ويذكر له: بأن هذا القيام من أجلك وإخراج هذه الأوباش، ويعود الأمر إليكم كما كان، وأنت المعني بذلك لظننا فيك الخير والصلاح والعدل، فيصدق القول، ويساعده بإرسال المال ليصرفه في صالح المقاتلين والمحاربين (ضد خورشيد)، ومحمد علي يداهن السيد عمر سرا ويتملق إليه ويأتيه في أواخر الليل وفي أوساطه، مترددا عليه في غالب أوقاته، حتى تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم، ولا يفعل أمرا إلا بمشورته ومشورة العلماء، وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه، وهم قادرون على ذلك كما يفعلون الآن، فيتورط المخاطب بذلك القول ويظن صحته، وأن كل الوقائع زلابية، وكل ذلك سرا لم يشعر به خلافهم.
إلى أن عقد السيد عمر مجلسا عند محمد علي وأحضر المشايخ والأعيان وذكر لهم أن هذا الأمر وهذه الحروب ما دامت على هذه الحالة لا تزداد إلا فشلا، ولا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية، فانظروا من تجدوه وتختاروه لهذا الأمر؛ ليكون قائم مقام حتى يتعين من طرف الدولة من يتعين. فقال الجميع: الرأي ما تراه. فأشار إلى محمد علي، فأظهر هذا التمنع وقال: أنا لا أصلح لذلك، ولست من الوزراء ولا من الأمراء ولا من أكابر الدولة، فقالوا جميعا: قد اخترناك لذلك برأي الجمع والكافة، والعبرة رضا أهل البلاد، وفي الحال أحضروا فروة وألبسوها له وباركوا له وهنأوه، وجهروا بخلع خورشيد أحمد باشا من الولاية، وإقامة المذكور في النيابة حتى يأتي المتولي أو يأتي له تقرير بالولاية، ونودي في المدينة بعزل خورشيد باشا وإقامة محمد علي في النيابة ... فلما بلغ الألفي ذلك وكان ببر الجيزة ويراسل السيد عمر مكرم والمشايخ، فانقبض خاطره ورجع إلى البحيرة، وأراد دمنهور.» (5-3) أفول نجمه
وتوهم السيد النقيب - وقد نجح الانقلاب، وتربع محمد علي على أريكة الولاية - أن الدنيا قد أقبلت عليه بتمامها وأن السلطة قد دانت له بحذافيرها، ومد محمد علي له في هذا الوهم، فاستعان به في تمكين باشويته في عهدها الأول، عن طريق تنميق العرضحالات للدولة لتذليل الصعوبات التي اعترضت تثبيته في باشويته، وتوسيطه في جمع الفرض والإتاوات من الرعية، والانتصار به على أعدائه البكوات المماليك، لا سيما محمد الألفي، وقد سبق ذكر الخدمات التي أسداها عمر مكرم لمحمد علي باشا في ذلك كله، وظهر تعاون عمر مكرم الصادق معه أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، وقد كانت هذه أزمة عصيبة كادت تطوح بباشوية محمد علي، فإلى جانب الاشتراك في تنميق العرضحالات، والتغرير بالبكوات الذين ظلوا يثقون فيه ويوسطونه - مع غيره من الأشياخ - من أجل الاتفاق مع الباشا، دأب عمر مكرم على استحثاث همة أهل دمنهور على مقاومة الألفي، وكانت هذه البلدة - كما يقول الشيخ الجبرتي - «منضافة إلى السيد عمر النقيب، فكان يرسل إليهم ويحذرهم من الألفي ويرسل إليهم ويمدهم بآلات الحرب والبارود، ويحضهم على الاستعداد للحرب، فحصنوا البلدة وبنوا سورها وجعلوا فيها أبراجا وبدنات، وركبوا عليها المدافع الكثيرة، وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الذخيرة والجبخانة وما يكفيهم سنة، وحفروا حولها خنادق، وامتنعت دمنهور على الألفي، فحاربه أهلها وحاربهم ولم ينل منهم غرضا، والسيد عمر يقويهم ويمدهم ويرسل إليهم البارود وغيره من الاحتياجات، وظهر للألفي تلاعب السيد عمر مكرم معه، وكأنه كان يقويه على نفسه، فقبض على السفير الذي كان بينهما، وحبسه وضربه، وأراد قتله، ثم أطلقه.» وفي أكتوبر 1806 كانت قد انتهت أزمة النقل إلى سالونيك. وفي يناير 1807 توفي الألفي، فزال أكبر خطرين تهددا في هذا العهد المتقدم باشوية محمد علي.
ولكن بدلا من أن يصبح عمر مكرم صاحب الحول والطول في حكومة الباشا، وبدلا من أن يستشيره هذا - على نحو ما تعهد به له - وجد عمر مكرم، وقد تكشفت له الحقيقة، أنه لا يعدو كونه أداة طيعة في يد محمد علي، يستخدمه هذا في تنفيذ مآربه فحسب، وبخاصة في جمع الإتاوات والسلف من الأهلين الذين تذمروا من استمرار وقوع المظالم عليهم، على خلاف ما كانوا يتوقعونه هم وزعماؤهم وأعيانهم وقت المناداة بولاية محمد علي، وبدأت ثقة الأهلين تتزعزع في زعمائهم، وفي السيد عمر مكرم على وجه الخصوص من ذلك الحين؛ لأن الأشياخ المتصدرين ما عادوا يأخذون على عاتقهم التوسط لرفع هذه المظالم عنهم، وانشغلوا بمنافساتهم وحزازاتهم وتكالبهم على الدنيا والاستكثار من الحصص والالتزام؛ ولأن عمر مكرم - وهو أكثر المتصدرين وجاهة في الدولة الجديدة وأرفعهم شأنا - كان الواسطة، لا في رفع المظالم عنهم، ولكن في ترويضهم على الرضوخ لها، وتلبية مطالب الحكومة.
وضجر عمر مكرم من هذا الدور الذي فرضه عليه تعاونه مع محمد علي، والذي بدأ ينفض الناس بسببه من حوله، ولم يكن في وسعه - وقد تورط كل هذا التورط في تعاونه مع الباشا، وقلب ظهر المجن للبكوات، أصدقاء الأمس وأخصام اليوم، فكان من المشتركين في تفويت فرصة استرجاع الحكم عليهم - أن ينتشل نفسه من الوهدة التي رماه فيها تشبثه بالوجاهة والصدارة وتطلعه إلى المشاركة في الحكم والرياسة، وكأنما فطن محمد علي لما يجول في خاطر عمر مكرم، فاقترح عليه ذات مرة - وقد تظاهر بأنه يريد الخروج لقتال الألفي في أبريل 1806 - أن ينوب عنه، وأن يكون قائما مقامه في الأحكام مدة غيابه، ولكن السيد النقيب كان فطنا حذرا فلم يقبل ذلك وامتنع ونفعه حذره؛ لأن الباشا فترت همته وقتئذ عن الخروج لمحاربة الألفي، وتبين أنها إيهامات لا أصل لها، وأما ضجر السيد النقيب من الدور الذي صار يقوم به، ثم عجزه في الوقت نفسه عن التخلي عنه، فقد أوضحهما الشيخ الجبرتي عند تسجيله حوادث يوم 21 ديسمبر 1806، فقال: إن الباشا «التمس من السيد عمر توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته، فضاق صدره، ولكنه شرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس؛ حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك.»
ولقد صار يتنازع عمر مكرم عاملان: مبعث أحدهما الاستمرار في تلبية مطالب وأوامر صديقه محمد علي، الذي كان يحرص من جانبه على الحفاوة بالسيد النقيب وتبجيله واحترامه، وإن كان لم يضع موضع التنفيذ تلك الشروط التي اشترطها على نفسه في تعاهده معه وقت انقلاب مايو 1805، بأن يعمل بنصح السيد النقيب وإرشاداته - إلى جانب نصح وإرشادات الأشياخ والعلماء، وما كان هذا الشطر الأخير مما يهتم عمر مكرم بتنفيذه أو يأبه له - وخيل إلى السيد أن من المحتمل أن ينفذ محمد علي ما تعهد به، فلا تعدو المشورة، تفويض تدبير المال الذي يطلبه الباشا إليه برأيه ومعرفته، فيترتب على تحميله مسئولية توزيعه وتحصيله، نفور الناس منه وانفضاض الأهلين من حوله، وتقويض عروش صدارته بنفس اليد المتسببة في الظاهر بإرساء قواعدها، وأما مبعث العامل الآخر، فهو الرغبة في تحطيم السلاسل التي شدته إلى نظام حكومي كان هو نفسه من العاملين على إنشائه، على أساس أن يكون له الرأي والمشورة فيما يجري من أحكام، ولكنه وقد فاتته أعظم فرصة إبان أزمة النقل إلى سالونيك لمحاولة الخلاص من حكومة الباشا، وظهر كأنما قد استقرت هذه الحكومة نهائيا على دعائم ثابتة، فلم يعد هناك مناص من الاستمرار في الدور الذي رضيه لنفسه في مبدأ الأمر، والذي صار يرجو الآن أن يطرأ ما قد يحمل الباشا على تنفيذ وعده.
ووجهت هذه الاعتبارات مسلك عمر مكرم في الحوادث التالية، بصورة أفضت في النهاية إلى اصطدامه مع الباشا ثم إلى نفيه، وزوال تلك البقية الباقية من مظاهر الجاه والصدارة التي دأب طوال حياته على الظفر بها، وضاعت الآن من يده نهائيا.
فقد أذن مجيء حملة «فريزر» إلى مصر، وتعرض باشوية محمد علي لأعظم خطر صادفته خلال سنوات التجربة والاختبار التي تلت المناداة بولايته، بأن يتوهم عمر مكرم أن في وسعه التحرر من قيود الطاعة المذلة التي فرضها عليه تعاونه مع الباشا، وأن هذا - وقد اشتدت المحنة به الآن - سوف لا يجد مناصا من الاعتماد على الرعية وزعماء الشعب للذود عن باشويته، وتخيل عمر مكرم أن حادثة استنفار العامة للجهاد بعصيهم ونبابيتهم وفئوسهم وهراواتهم لدفع الأجانب الغزاة سوف يتكرر الآن، على غرار ما حدث أيام غزو الفرنسيين عندما طرق هؤلاء أبواب القاهرة، بل ومن الثابت أنه قد ومض في ذهنه، أن الإنجليز وقد استولوا على الإسكندرية، سوف يجتاحون جيوش محمد علي، كما اجتاح الفرنسيون من قبلهم جيوش المماليك، وأن أيام الباشا في الحكم قد صارت معدودة، وأنه لا يجدر بالسيد النقيب أن يبذل جهدا لمعاونته على اجتياز هذه الأزمة؛ إذ كفاه ما فعل في الأزمات السابقة دون أن يلقى جزاء ولا شكورا، ولم يكن في اعتباره هذا الجزاء وهذا الشكور سوى المشاركة في الحكم عن طريق إبداء الرأي والمشورة.
آية ذلك أن «دروفتي» القنصل الفرنسي الذي هرب من الإسكندرية إلى القاهرة عند مجيء الحملة الإنجليزية - وكان محمد علي وقتئذ بالصعيد في تجريدته المعروفة ضد البكوات المماليك - وجد السيد النقيب فاتر الهمة متقاعسا، فلم يبد همة ونشاطا إلا بعد أن شاهد نشاط القنصل الفرنسي، والتفاف الأشياخ والأهلين حوله لتحصين القاهرة، ولم يخرجه عن تردده وإحجامه نهائيا سوى ورود الأنباء من الصعيد بأن الباشا متحرك للعودة على جناح السرعة إلى القاهرة، ثم عودة محمد علي فعلا إليها، وإنفاذه جيشه لملاقاة الإنجليز.
وعرض عمر مكرم والأشياخ في مقابلة لهم للباشا (12 أبريل 1807) أن يخرجوا جميعا للجهاد مع الرعية والعسكر، فكان جوابه أن «ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر»، ولقد سبق تفصيل هذا الحادث وغيره من الحوادث المتصلة بانهزام الإنجليز، واضطرارهم إلى الجلاء عن الإسكندرية، كما سبق تفصيل الأساليب التي لجأ إليها محمد علي لجمع المال الذي ظلت حاجته الملحة إليه قائمة.
وسرعان ما تبين للسيد النقيب أن دوره بعد واقعة الحملة الإنجليزية قد صار ثانويا، وأنه يفقد تدريجيا مكان الصدارة الذي كان له، فهو تارة تصله مكاتبة من السيد حسن كريت برشيد يطلب وساطته لدى الباشا حتى يمنع جنده من إيقاع المظالم بأهل رشيد، وتارة يلجأ إليه أيوب فودة كبير القليوبية المتهم بالمضالعة مع أحد قطاع الطرق، ويسمى زغلول للمصالحة على نفسه بمبلغ من المال حتى ينجو من العقاب، ويستعيد سيرته (مايو 1807)، وتارة يشكو إليه خدام الأضرحة وأهل القرافة ما لحق بهم من إيذاء على أيدي الجند لاتهامهم بالاتصال ببكوات الصعيد وإرسال ما يحتاجونه من بضائع وسلاح، وتارة يطلب البكوات وساطته مع غيره من الأشياخ والمتصدرين لإجراء الصلح بينهم وبين محمد علي (يونيو ويوليو 1807)، وتارة يلجأ إليه جماعة من طوائف القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ ليتوسط لهم لدى الباشا في رفع الإتاوة التي فرضها عليهم، وتنجح شفاعة السيد عمر في هذه المرة (8 أغسطس 1807)، وتارة يشكو إليه الأهلون إخراج الجند لهم من بيوتهم واستيلائهم عليها عنوة واقتدارا، فيكتب عمر مكرم والمشايخ عرضا في ذلك إلى كتخدا بك دون نتيجة (أكتوبر 1807)، وتارة يستدعيه الباشا مع المشايخ إلى القلعة لتكليفهم الاحتفاء بشاهين بك الألفي، فيسير السيد النقيب في موكبه الذي دخل به إلى القاهرة (ديسمبر 1807)، وتارة يحضر ديوان الباشا الذي عرض فيه إرادة الدولة للتهيؤ لحرب الوهابيين وضرورة جمع المال لإنجاز الاستعدادات اللازمة (فبراير 1808)، وتارة يخرج مع من خرجوا لصلاة الاستسقاء في جامع عمرو (أغسطس 1808).
ثم إن السيد النقيب إلى جانب ذلك كله، كان عليه بحكم منصبه (نقيبا للأشراف) أن يحضر الاجتماعات الرسمية لقراءة الفرمانات الواردة من الدولة، واحتفالات وفاء النيل، وما إلى ذلك.
وانخفض شأن عمر مكرم رويدا رويدا، فقل اتصال الباشا أو اجتماعه به في غير المناسبات الرسمية، أو التي يستدعيه فيها الباشا مع غيره من المشايخ والمتصدرين، حتى إنه ما صار يوسطه أو يعتمد عليه في إقناع الأهلين بدفع الإتاوات والمغارم التي لم ينقطع فرضها عليهم؛ لأن الباشا اعتمد الآن على جنده في تحصيل ذلك، وكان من المتعذر أن يتحد المشايخ لمقاومة إجراءات الباشا ومشاريعه، فيجد عمر مكرم من اتحادهم وتكتلهم سندا له في معارضته لها، فالخلافات والمنافسات والأحقاد لا تزال تفرقهم، وبلغ من تخاذلهم أنهم لم يجرءوا على الاعتراض على إلغاء مسموح المشايخ، مع ما ألحقه هذا الإجراء من إيذاء لصميم مصالحهم، وكان أكثر المتصدرين من المتمتعين بهذا المسموح من زمن قديم، واستكثروا - كما عرفنا - من شراء الحصص.
ولكن السيد النقيب وإن اضطر الآن إلى التواري عن مسرح السياسة العامة، والانزواء في عزلة تكاد تكون تامة، كان لا يزال يمني النفس بالظهور مرة أخرى، وسؤال الباشا عندئذ الحساب عن نكثه عهده، وعدم طلب مشورة السيد والأشياخ، وإلزامه بتنفيذ الاتفاق الذي قام على أساس تعاون عمر مكرم معه في حادث المناداة بولايته.
ثم إن عمر مكرم لم يقنع بإطلاق العنان لخياله وأمانيه وأحلامه فحسب، بل راح يتحين الفرص لمناوأة حكومة الباشا إذا وجد سبيلا إلى ذلك، ويشجع على إشاعة الفوضى، ولا يتحرج من انتقاد تصرفات الباشا في مجالسه، ودل مسلكه في حادث معين على أنه لا ينوي خيرا لحكومة محمد علي، وأنه ينقم منه ويحقد عليه في مكنون صدره.
حادث سليمان (شيخ بنها العسل)
أما ذلك الحادث، فهو حادث الشيخ سليمان الذي ظهر في بنها العسل واعتقد الناس فيه الولاية والسلوك والجذب: بدأ بداية متواضعة ونصبوا له خيمة وتوالت عليه النذور والهدايا وارتفع شأنه، فصار يطلب من القرى مقادير من الحبوب برسم طعام الفقراء، ويعين المريدين لتحصيلها وجعل لهم كراء طريق معين، على نحو ما تفعل الحكومة ذاتها عند إرسال الجباة ومحصلي المال إلى جهة من الجهات، ثم راح الشيخ ومعاونوه يحضون الأهلين على عدم دفع الضريبة أو الفرض والإتاوات التي تطلبها الحكومة، «وصار الذين حوله ينادون في تلك النواحي بقولهم: لا ظلم اليوم ولا تعطوا الظلمة شيئا من المظالم التي يطلبونها منكم، ومن أتاكم فاقتلوه ، فكان كل من ورد من العسكر المعينين إلى تلك النواحي يطلب الكلف أو الفرض التي يفرضونها، فزعوا عليه وطردوه، وإن عاند قتلوه، فثقل أمره على الكشاف والعسكر.
واستفحل شر الشيخ وخطره، فصار له عدة خيام وأخصاص، واجتمع لديه من المردان نحو المائة وستين أمرد، وغالبهم أولاد مشايخ البلاد، وكان إذا بلغه أن بالبلد الفلانية غلاما وسيم الصورة، أرسل يطلبه ، فيحضروه إليه في الحال ولو كان ابن عظيم البلدة، حتى صاروا يأتون إليه من غير طلب»، ويستطرد الشيخ الجبرتي الذي ننقل عنه هذه الرواية فيقول: «ولا يخفى حال الإقليم المصري في التقليد في كل شيء»، ثم يستأنف روايته فيذكر أن هذا العدد الكبير كان من جنس المردان، وذلك زيادة على ما اجتمع عند الشيخ من ذوي اللحى وهم كثيرون أيضا، وأما المردان فقد عمل لهم عقودا من الخرز الملون في أعناقهم، ولبعضهم أقراطا في آذانهم.
ثم إنه حدث أن أحد فقهاء الأزهر ويدعى الشيخ عبد الله البنهاوي، «ادعى دعوى بطين مستأجرة من أراضي بنها كان لأسلافه، وأن الملتزمين بالقرية استولوا على ذلك الطين من غير حق لهم فيه، بل بإغراء بعض مشايخ القرية، والشيخ زقزوق به رعونة، ولم يحسن سبك دعواه، وخصوصا كونه مفلسا وخليا من الدراهم التي لا بد منها الآن في الجعالات والبراطيل للوسايط وأرباب الأحكام وأتباعهم، ويظن في نفسه أنه يقضي قضيته بقال المصنف إكراما لعلمه ودرسه، فتخاصم مع الملتزمين ومشايخ بلده، وانعقدت بسببه مجالس، ولم يحصل منها شيء سوى التشنيع عليه من المشايخ الأزهرية والسيد عمر النقيب، ثم كتب له عرضحال ورفع أمره إلى كتخدا بك والباشا، فأمر الباشا بعقد مجلس بسببه، بحضرة السيد عمر مكرم والمشايخ، وقالوا للباشا: إنه غير محق وطردوه، فسافر إلى بلده، وسافر الباشا أيضا إلى جهة البحيرة والإسكندرية»، وكان ذلك في أوائل أغسطس 1807، ولا يزال النضال قائما ضد الإنجليز.
فوجد الشيخ زقزوق مخرجا له من مأزقه أن يستعين بالشيخ سليمان، شيخ بنها العسل، فقصد إليه وراح يغريه على الحضور إلى مصر (القاهرة )، وأنه متى وصل اجتمع عليه المشايخ وأهل البلدة، ويكون على يده الفتح والفتوح، وصادفت هذه الدعوة قبولا لدى الشيخ ومريديه والملتفين حوله، وكانت أطماع الشيخ سليمان قد تزايدت، حتى صار لا يكتفي بما كان له من نفوذ في بنها والجهات المجاورة لها، بل أراد الآن أن يبسط نفوذه وسلطانه على غيرها من الجهات، وشجعه على ذلك أن أهل القرى في ناحيته قد عملوا بنصحه وإرشاده، فامتنعوا عن دفع المال وطردوا المحصلين والجباة والعسكر الذين حضروا معهم، وحرضه خساف العقول المحيطون به والمجتمعون حوله على المجيء إلى مصر قائلين إنه سوف يكون له شأن؛ لأن ولايته اشتهرت بالمدينة، ولأهلها القاهريين فيه اعتقاد عظيم، وحب جسيم، فأطاع شياطينه.
وحضر الشيخ سليمان «برجاله وغلمانه، ومعه طبول وكاسات، على طريق مشايخ أهل العصر والأوان، فدخلوا إلى المدينة على حين غفلة، وبأيديهم فراقل يفرقعون بها فرقعة متتابعة، وصياح وجلبة، ومن خلفهم الغلمان والبدايات، وشيخهم في وسطهم»، وقصدوا أول ما قصدوا إلى المشهد الحسيني ويقع في أشد أحياء القاهرة ازدحاما وجلسوا بالمسجد يذكرون.
ثم انفصل عنهم جماعة من حملة الفراقل (أو الكرابيج) فقصدوا إلى بيت السيد عمر مكرم ودخلوه وهم يفرقعون بما في أيديهم من الفرقلات، وظلت جماعة منهم أمام البيت يفرقعون بهذه الفرقلات طول النهار، ثم ارتدوا إلى المسجد، وأقام الشيخ سليمان وأتباعه بالمسجد إلى العصر، ثم دعاهم إنسان من الأجناد يقال له إسماعيل كاشف أبو مناخير، له في الشيخ المذكور اعتقاد، فذهبوا معه إلى داره، وباتوا عنده إلى الصباح، ولما طلع النهار ركب الشيخ بغلة ذلك الجندي وذهب بطائفته إلى ضريح الإمام الشافعي فجلس أيضا مع أتباعه يذكرون.
وبلغ خبر الشيخ سليمان، والضجة التي أحدثها هو والحشد الذي معه كتخدا بك - ويحكم هذا القاهرة في غياب محمد علي - فخشي من وقوع اضطرابات بالمدينة، وأنفذ من فوره جماعة من الجند على رأسهم صالح آغا قوج إلى مقام الشافعي، وأراد القبض عليه، فخوفه الحاضرون، وقالوا له: لا ينبغي عليك التعرض له في ذلك المكان، فإذا خرج فدونك وإياه، فانتظره بقصر شويكار، فتبطأ الشيخ إلى قريب العصر، وأشاروا عليه بالخروج من الباب القبلي، وتفرق عنه الكثير من المجتمعين عليه، فذهب إلى مقام الليث بن سعد، ثم سار من ناحية الجبل، وذهب بداياته وغلمانه إلى دار إسماعيل كاشف التي باتوا بها.
وكان كتخدا بك عندما قرر القبض على الشيخ سليمان قد كتب تذكرة وأرسلها إلى السيد عمر النقيب يطلب الشيخ، بدعوى التبرك به، وأكد في الطلب، وقصده أن يفتك به، لقهرهم منه، وعلم السيد عمر ما يراد به، فبدلا من التعاون مع كتخدا بك في القبض على الشيخ، أو عدم التدخل في المسألة، بادر بإيفاد رسول من عنده يدعى الحاج سعودي الحناوي برسالة إلى الشيخ سليمان يقول له: إن كنت من أهل الكرامة، فأظهر سرك وكرامتك، وإلا فاذهب وتغيب، ولحق الحناوي بالشيخ بعد خروجه وأتباعه في طريق الصحراء، واقتفى أثره، وبلغه رسالة السيد عمر، ورجع إلى السيد عمر، فوجد كتخدا بك ورجب آغا حضرا إلى السيد عمر يسألانه عنه، ولم يكتفوا بالطلب الأول، فأخبرهما أنه ذهب ولم تلحقه الرسائل، فاغتاظوا، وقالوا نرسل إلى كاشف القليوبية بالقبض عليه أينما كانوا، وانصرفوا ذاهبين.
وقصدت العساكر بيت إسماعيل كاشف أبو مناخير، فقبضوا على الغلمان وأخذوهم إلى دورهم، ولم ينج منهم إلا من كان بعيدا وهرب وتغيب، وتفرق أتباعه ذوات اللحى، وكانت خاتمة الشيخ سليمان سريعة، فقد وشى به نفس الشيخ زقزوق البنهاوي الذي حرضه أصلا على الحضور إلى القاهرة، فتبرأ منه الآن ودل على مكانه، وكان الشيخ سليمان قد قصد إلى بهتيم ثم إلى نوب، فبعث كتخدا بك جندا قبضوا عليه وأحضروه، ثم ذهبوا إلى بولاق وأنزلوه في مركب وانحدروا به ثم غابوا حصة وانقلبوا راجعين، ثم بعد ذلك تبين أنهم قتلوه وألقوه في البحر، وهكذا انقضى أمره في أواخر أغسطس 1807.
ووقف الباشا من رجال حكومته على تفاصيل الدور الذي قام به عمر مكرم في هذه المسألة، ومحاولته إنقاذ الشيخ سليمان، بمراوغة الحكومة في أمره، والسيد النقيب هو الذي كان من أكبر عوامل إثارة هذا الحادث الذي لو أتيحت الفرصة للشيخ سليمان لتنفيذ غرضه لانقلب إلى فتنة تشيع الاضطراب والفوضى في القاهرة في وقت لا يزال الباشا مشغولا بمناجزة الإنجليز، فلجاجة عمر مكرم في معاداة الشيخ زقزوق البنهاوي والتشنيع عليه مع سائر الأشياخ، بالرغم من استناد دعواه على حق، هي التي جعلت هذا الأخير يغري الشيخ سليمان على الحضور إلى القاهرة، ومع أن الكشاف والجند والجباة المكلفين بتحصيل المال قد كثرت شكاواهم من امتناع الفلاحين وأهل القرى في إقليم بنها عن دفع الضرائب، فقد تقاعس السيد عمر مكرم عن معاونة المسئولين في القبض عليه، وأرسل إليه ينبهه إلى الخطر المحدق به ويحذره منه.
وأيا كان الأمر، فقد ظل عمر مكرم، كنقيب للأشراف، صاحب وجاهة وصدارة، ولم يشأ الباشا - وإن ظلت تتزايد الجفوة بينه وبين السيد النقيب بمرور الأيام - أن يقطع صلته به نهائيا أو أن ينبذه، وتحاشى الاصطدام به؛ لأنه لم يجهر بمعارضته له، ولأن الباشا - وكان منشغلا بمسائل أكثر أهمية - لم يجد ما يدعوه لإثارة مشاغل جديدة، فاستمر اشتراك عمر مكرم في الحياة العامة بالقدر الذي أوضحناه، وإن كانت نهاية مجده قد اقتربت.
وكانت آخر طنطنة للسيد عمر مكرم بالقاهرة، الاحتفال الذي أقامه لختان ابن بنته، فدعا الباشا والأعيان، وأرسل هؤلاء إليه الهدايا والتعابي، وفي أول مايو 1809 «عمل له زفة مشى فيها أرباب الحرف والعربات والملاعيب وجمعيات وعصب صعايدة، وخلافهم من أهالي بولاق والكفور والحسينية وغيرها من جميع الأصناف وطبول وزمور وجموع كثيرة، فكان يوما مشهودا، اكتريت فيه الأماكن للفرجة، وكان هذا الفرح - كما يقول الشيخ الجبرتي - آخر طنطنة السيد عمر بمصر، فإنه حصل له عقيب ذلك ما سيتلى عليك قريبا من النفي والخروج من مصر»؛ أي القاهرة. (5-4) التصادم بين عمر مكرم ومحمد علي
وكان مبعث الاصطدام المباشر بين الباشا وعمر مكرم، مضي محمد علي في أساليبه المالية؛ لاستمرار حاجته الملحة إلى المال، وازدياد تذمر الأهلين وعلى الخصوص المشايخ، الذين مست مصالحهم هذه الأساليب مباشرة، ثم توهم عمر مكرم أن الفرصة قد واتت للجهر بمعارضته علانية لحكومة الباشا، وأنه قد صار بوسعه الآن أن يحرك القاهريين على الثورة ضد الباشا، وأن يلزمه بوجوب التشاور معه ومع الأشياخ، وتنفيذ ذلك العهد الذي أخذه على نفسه باتباع نصحه ومشورته، منذ أربع سنوات مضت، لم يبد من جانب محمد علي في أثنائها ما يدل على ارتباطه بوعده، بل قام الدليل على العكس من ذلك، على أنه إنما يعمل جادا للانفراد بالسلطة، وجمع أسباب الحكم في يده هو وحده.
ثم إنه كان من ضمن البواعث على هذا الاصطدام، والتي جعلت السيد النقيب يجرؤ على معارضة الباشا معارضة سافرة، أنه لم يدخل في حسابه عدة اعتبارات هامة، لا شك في أنه لو أولاها عنايته، لتغلبت الحكمة على سوء التقدير، ولأمكن زوال أسباب النفور بينه وبين الباشا، ولكان من المحتمل أن يفضي ذلك إلى استعادة السيد النقيب لمكانته القديمة عند الباشا، ويقبل هذا مشاورته، خاصة وأن محمدا عليا بالرغم من الجفوة بينهما كان يحمل في نفسه تقديرا ظاهرا لعمر مكرم، ولا ينسى أنه آزره في بلوغ الولاية وتساند معه في اجتياز الأزمات التي مر بها، ولكن كان من سوء حظ عمر مكرم أنه لم يفطن إلى أن الأوضاع قد تغيرت تغيرا كليا الآن عما كانت عليه وقت أن كان بوسعه استثارة العامة وتحريكهم على السلطات القائمة؛ لأن الشعب الذي شهد انقسامات المشايخ وتخاذلهم، وانصرافهم عن الذود عن مصالحه، واهتمامهم بمصالحهم هم وحدهم فحسب، على نحو ما حدث في واقعة عصيان الجند في أكتوبر 1807، ولجوء المشايخ والمتصدرين إلى تحميل صغار التجار وسواد الأهلين العبء الأكبر من إتاوة المال المطلوب لدفع مرتبات الجند إخمادا للفتنة، ثم ثبت لديه بتوالي الأدلة والبراهين أن مصر صار لها سيد واحد هو محمد علي، من العبث مقاومته، لم يعد هذا الشعب يثق في زعامة المشايخ أو في زعامة السيد عمر مكرم على وجه الخصوص، أضف إلى هذا كله أن السيد النقيب لم يدخل في حسابه أن أخصامه وحاسديه والناقمين عليه من الأشياخ المتصدرين، وإن نافقوه وداهنوه، فهم سوف يكونون أول المنقلبين عليه إذا أظهر الباشا تغيره عليه، وصار غاضبا منه، وأن هذه الأحقاد الدفينة، بحيلولتها دون تكتل المشايخ والزعماء، سوف تحول كذلك دون تكتل الأهلين، وتزيد نفرة هؤلاء من المشايخ عموما، وانصرافهم عن السيد عمر مكرم خصوصا إذا حاول الثورة على محمد علي.
هذه الحقائق لا تلبث أن تتضح بتتبع الوقائع التي أفضت إلى نفي عمر مكرم.
فقد كان مثار الاصطدام بين الباشا وبين المشايخ عموما مسألتين: مشاركة الباشا للملتزمين في فائظهم، وامتدت هذه المشاركة فشملت مقاسمة ملتزمي السلع من الباعة، فثارت خواطر الأهلين من أصحاب التزام الأرض (وفي مقدمة هؤلاء المشايخ) وملتزمي هذه السلع، وكان لتذمرهم جلبة وضجيج. وأما المسألة الثانية فكانت فرض الضريبة على الأرض والعقارات الموقوفة على الجوامع والسبل وما إلى ذلك، وكانت المسألة الثانية تفوق في أهميتها وخطورتها المسألة الأولى؛ حيث كان الغرض من هذا الإجراء التمهيد لاستيلاء الحكومة على هذه الأوقاف، وقد اتخذ الإجراءان معا وفي وقت واحد، فشرعت حكومة الباشا في 28 يونيو 1809 «في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين (لتحصيله منهم) ودفتر آخر بفرض مال؛ أي ضريبة، على الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والأسبلة والخيرات وجهات البر والصدقات، وكذلك أطيان الأوسية المختصة أيضا بالملتزمين»، وكانت هذه أيضا معفاة من الضريبة، ويخصص ريعها للإنفاق منه على المسافرين والجند وموظفي الحكومة الذين ينزلون ضيوفا على أهل الناحية، كما يخصص بعض هذا الريع لمواجهة النفقات المحلية.
واستتبع تقرير الضريبة على أراضي الوقف فحص حجج الأوقاف، وكانت هذه موضع احترام من زمن قديم، لم تتعرض لها الحكومات المتعاقبة على مصر، حتى أثناء الاحتلال الفرنسي بشيء، طالما كانت تحمل اسم والي مصر وممهورة بختمه الكبير وعليها علامة الدفتردار، ولكن الباشا أمر بفحص هذه الحجج وتجديدها؛ أي استبدال غيرها بها، إذا ثبت أنها صحيحة، وأما إذا عجز المتولون على هذه الأوقاف على إبراز الحجج لتجديدها في ظرف أربعين يوما، استولت حكومة الباشا على الأراضي وعهدت بإدارتها لغيرهم، وبررت الحكومة هذا الإجراء بقولها: «إذا مات السلطان أو عزل بطلت تواقيعه ومراسيمه وكذلك نوابه، ويحتاج إلى تجديد تواقيع من نواب المتولي الجديد»، ولم يكن من الميسور إبراز كثير من الحجج لبلاها بسبب تقادم العهد عليها، أضف إلى هذا أن كثيرا من هذه الحجج كذلك صار لا ينطبق على ما جاء فيها عن تجديد معالم الأرض الموقوفة أصلا على أعيان الوقف الراهنة لمضي الزمن الطويل على إنشاء الوقف ولتغير المعالم أو للنزاع في الاستحقاق، فكان معنى ذلك أن تصبح معظم هذه الحجج عند الفحص غير مقبولة لسبب أو لآخر لدى عمال الحكومة، ويحرم المتولون عليها والمستحقون في خيراتها من أرزاقهم.
فكتبت بالإجراء الذي اتخذه الباشا «مراسيم إلى القرى والبلاد، وعينت الحكومة بها معينين، وحق طرق من طرف كشاف الأقاليم بالكشف على الرزق المرصدة على المساجد والخيرات، وتقدموا إلى كل متصرف في شيء من هذه الأطيان، وواضع عليها يده بأن يأتي بسنده إلى الديوان، ويجدد سنده، ويقوى بمرسوم جديد، وإن تأخر عن الحضور (في المهلة المعطاة له وهي أربعون يوما كما ذكرنا) يرفع عنه ذلك، ويمكن منه غيره، ثم إنهم حرروا دفترا لإقليم البحيرة بمساحة الطين الري والشراقي، وأضافوا إليه طين الأوسية والرزق، وكتبوا بذلك مناشير، وأخرج المباشرون كشوفاتها بأسماء الملتزمين، وفي الوقت نفسه شرعوا في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين بأنواع الأقمشة وباعة النعالات التي هي الصرم والبلغ، وجعلوا عليها ختمية، فلا يباع منها شيء حتى يعلم بيد الملتزم ويختم، وعلى وضع الختم والعلامة قدر مقدر بحسب تلك البضاعة وثمنها.»
ولما كانت هذه الإجراءات قد هددت أرزاق ليس فقط أولئك الذين يعيشون من هذه الأوقاف، بل وأصحاب الأواسي، وعامة الناس من الباعة والمتسببين، فقد ضج الناس وتزايد لغطهم، وازدحمت أحياء القاهرة بالمتذمرين والمتظاهرين الصاخبين، ومن بينهم السيدات وأطفالهن الذين صاروا مهددين بالحرمان من استحقاقاتهم في الأوقاف أو خيراتها، وقصد المتظاهرون إلى الجامع الأزهر، وتشكوا، ووعد المشايخ بالتكلم في شأن ذلك بعد التثبت.
وحدث أثناء هذه الفورة أن قبض الشرطة على شخص من أهل العلم من أقارب السيد حسن البقلي وحبسوه، وعبثا حاول المشايخ التوسط لإطلاق سراحه، بل أصعدوه إلى القلعة، فزادت الحال سوءا بسبب هذه الواقعة.
وفي 30 يونيو 1809، احتشد الجامع الأزهر بجموع المتظاهرين، «فحضر الكثير من النساء والعامة وأهل المسجون، وهم يصرخون ويستغيثون، وأبطلوا الدروس، فاجتمع المشايخ بالقبلة، وأرسلوا إلى السيد عمر النقيب فحضر إليهم وجلس معهم، ثم قاموا وذهبوا إلى بيوتهم.»
وهكذا وجد عمر مكرم الفرصة التي كان ينشدها لمعارضة الباشا ومقاومته، فيقول المعاصرون: «إن السيد النقيب كان يعيش من مدة طويلة في عزلة عميقة؛ لأنه منذ أن تأيد سلطان محمد علي، عمل هذا على إبعاده بصورة متزايدة عن الاشتراك في أي عمل من الأعمال العامة، بيد أن هذه العزلة لم تغير شيئا من مبادئ هذا الشيخ، فكان يرى وهو بداخل صومعته اضطراد زيادة السلطة المطلقة التي استأثر بها الرجل الذي كان هو أول من ألبسه الفرو لتقليده حكومة مصر، فواتته الفرصة الآن لينزل إلى معترك السياسة متصديا الآن للدفاع عن صالح الدين، وحقوق الشعب، وقبض عليها بكلتا يديه.»
وعلى ذلك فقد اجتمع بالمشايخ في اليوم التالي (أول يوليو)، وكان اجتماعا تحمس فيه الأشياخ، فتعاهدوا وتقاسموا على الاتحاد وترك المنافرة، وذلك من أجل الدفاع عن امتيازاتهم وحقوقهم، وعظم حماس بعض الحاضرين فأعلنوا أنه إذا أصر الباشا على المضي في طريقه الذي يسلكه، وجب عليهم أن يكتبوا في شأنه إلى الباب العالي، وأن يثيروا الشعب على هذا الطاغية الجديد، وأن يخلعوه من العرش الذي أجلسوه عليه، ثم إنهم كتبوا عرضحالا إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم والبدع، وختم الأمتعة وطلب مال الأوسية والرزق والمقاسمة في الفائظ، وكذلك أخذ قريب البقلي وحبسه بلا ذنب، وطالبوا برفع هذه المظالم.
ونمى إلى الباشا اجتماعهم فأوفد إليهم ديوان أفندي (سكرتيره) يستفسر عن سبب اجتماعهم، ويسأل عن مطلوبهم، فعرفوه بما سطروه إجمالا، وبينوه له تفصيلا، وحاول ديوان أفندي إنهاء هذه الأزمة والوصول إلى حل سلمي بين الأشياخ والباشا، فقال: «ينبغي ذهابكم إليه، وتخاطبوه مشافهة بما تريدون، وهو لا يخالف أمركم ولا يرد شفاعتكم، وإنما القصد أن تلاطفوه في الخطاب؛ لأنه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم، ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض»، وكان واضحا أن ديوان أفندي إنما يتكلم على لسان محمد علي الذي يعد بقبول وساطة المشايخ، والتشاور معهم، ولكن هؤلاء أصروا على موقفهم، فقالوا بلسان واحد: «لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا في السابق، فإننا بايعناه على العدل، لا على الظلم والجور، فقال لهم ديوان أفندي: وأنا قصدي أن تخاطبوه مشافهة ويحصل الغرض، فقالوا: لا نجتمع عليه أبدا، ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا.» وأخذ ديوان أفندي العرضحال ووعدهم برد الجواب.
وأخطأ عمر مكرم والمشايخ التقدير؛ لأن الزمن - كما أشرنا - قد تغير؛ ولأن الشعب وإن ظل يظهر احترامه للسيد النقيب وللأشياخ، فقد انقضى العهد الذي كان فيه لهؤلاء من النفوذ على العامة ما يمكنهم أو يمكن عمر مكرم من تحريكهم للثورة ضد الباشا؛ ولأن مقاسمة الباشا للملتزمين في فائظهم واسيتلاءه على إيرادات الأوقاف قد حرم فئة قليلة بالنسبة لسائر الشعب، وكان الأشياخ هم أكثر الناس امتلاكا لحصص الالتزام، وأكثر المنتظرين على الأوقاف منهم، حقيقة ضج القاهريون من توالي المظالم عليهم، ولكنهم - كما يذكر المعاصرون - لم يكونوا في قرارة أنفسهم إلا مرتاحين لهذا الإجراء الذي أزال الفوارق التي مكنت لفئة معينة من العيش في بحبوحة ورخاء، بينما عاشت الأكثرية في تقتير وحرمان وبؤس وشقاء، فهم والحالة هذه لن يتحركوا من أجل الدفاع عن مصالح هي في صميمها مصالح طائفة المشايخ الذين ما كانوا يعنون إلا برعايتها ورعاية شأنهم فحسب، فلم يكن احتشاد الأزهر بالنساء والأطفال والعامة معناه بحال من الأحوال أن القاهريين مستعدون للثورة على حكومة محمد علي.
ولقد فاتت هذه الحقيقة السيد عمر مكرم، ولكنها لم تفت محمد علي الذي كان له من العيون والأرصاد، والذي كان من دأبه - على حد تعبير الجبرتي - التجسس على الناس، ما يكفل له معرفة الموقف على حقيقته سواء من ناحية الشعب الذي لن يتحرك لمؤازرة عمر مكرم، أو من ناحية المشايخ أنفسهم الذين يستحيل عليهم الاتحاد والتكتل بسبب أحقادهم ومنافساتهم، فعول الباشا على إشاعة الخوف في نفوس المستضعفين من المشايخ من جهة، والتلويح بالمنافع أمام ناظري المتعطلين إلى الصدارة منهم أو الطامعين في منصب السيد عمر أو في الإيرادات التي تدرها عليه الأوقاف المنتظر عليها من جهة أخرى، ونجحت خطة الباشا في يسر وسهولة.
على أن هناك حقيقة لا معدى عن ذكرها، هي أن محمد علي مع تيقنه من الانتصار على هذه المعارضة المتخاذلة، ما كان يريد تجريد السيد عمر مما له، أو يبغي قطيعته أو يطلب نفيه، لما يحمله له من احترام كبير، بسبب كبر سنه؛ ولأنه كان ساعده الأيمن في الوصول إلى الولاية، بل ظل يحدوه الأمل حتى النهاية في إمكان استمالة السيد النقيب إليه، واستعادة علاقات الصفاء والمودة معه، ولم يكن بحال مبعث هذه الرغبة أن الباشا - كما يذكر الشيخ الجبرتي - «يخشى صولته، ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره، إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم، وهو الذي قام ينصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الإقليم، ويرى أنه إن شاء فعل بنقيض ذلك»، فقد فاتت الشيخ الجبرتي، كما فاتت عمر مكرم نفسه الحقائق التي ذكرناها سابقا، ولعل مرد ذلك إلى أن الشيخ لكراهته لحكومة محمد علي، ولتمنيه زوال ملكه، كان يعقد آمالا كبارا على هذه الحركة المناوئة، فلم يسعه عند فشلها بسبب تخاذل المشايخ وانفضاضهم من حول عمر مكرم، بل وسعيهم للدسيسة في حقه، إلا أن يعزو هذا الفشل إلى تدابير محمد علي الذي أخذ على عاتقه إشاعة الفرقة بين الأشياخ وصرفهم عن مؤازرة عمر مكرم خوفا منه.
بدأ الباشا إذا بأن أغفل أمر العرضحال الذي كتبه إليه المشايخ، وتظاهر بعدم الاهتمام به، فلم تمض خمسة أيام فحسب، حتى كان هذا البرود البادي من ناحيته قد أشاع القلق في نفوس عدد من المشايخ، ثم تبع هذا القلق الخوف من ضياع مصالحهم، فبادر في اليوم الخامس (4 يوليو 1809) الشيخان: محمد المهدي ومحمد الدواخلي بالاجتماع عند محمد أفندي الودنلي (ويعرف بطبل؛ أي الأعرج)، ناظر المهمات ومن رجال الباشا، وثلاثتهم في نفسهم للسيد عمر ما فيها، فتناجوا مع بعضهم، ثم انتقلوا في عصريتها وتفرقوا، وقصد المهدي والدواخلي إلى عمر مكرم يذكران له أن محمد أفندي طبل هذا يقول إن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الرزق، وقد كذب من نقل ذلك ويؤكد أنه؛ أي الباشا، يقول: «إني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم عليه ومواجهته يحصل المراد.»
ولقد كان نقل هذه الأقوال منسوبة إلى الباشا - على لسان محمد أفندي طبل - معناه أن الباشا يبغي التفاهم مع المشايخ وعمر مكرم، على أساس تنفيذ مبدأ المشورة الذي يطالبون به، ومحاولة ترضيتهم في مسألة مال الأوقاف مثار النزاع بينه وبينهم، وسواء كان اجتماع الثلاثة الحاقدين على عمر مكرم - محمد أفندي طبل والمهدي والدواخلي - للتآمر عليه والتمهيد لتدبير هلاكه، ويشترك معهم الباشا في هذه المؤامرة حتى يشيع التخاذل في صفوف المشايخ، أم كانت رغبة الباشا حقيقة تسوية هذا النزاع واسترضاء عمر مكرم والمشايخ؛ فقد كان من الواضح أن السيد النقيب في وسعه إنهاء أسباب الجفوة بينه وبين الباشا، ومن المحتمل كذلك الوصول إلى حل مناسب للمسألة، لو أنه استجاب لرغبة محمد علي، وتوجه مع المشايخ لمقابلته ومشافهته، ولكن قد صح عزمه على مناصبة الباشا العداء السافر، فاعتقد إذا هو أجاب طلبه، ونزل عن موقف معارضته هذه العلنية، أضاع فرصة المقاومة المجدية، ومهد للباشا السبيل لتفكيك ذلك الاتحاد والتكتل الذي أقسم المشايخ عليه وتعهدوا به.
وارتكب عمر مكرم خطأ كبيرا مبعثه - ولا شك - توهمه أن الخلافات والحزازات الماضية قد تنوسيت فعلا ما دام المشايخ قد أقسموا على نسيانها وعلى التآزر والاتحاد فيما بينهم ضد محمد علي، فكشف عن موقفه لأكبر أعدائه وخصومه، المهدي والدواخلي، وهما وإن كانا يمتنعان عن نقل ما يقوله عمر مكرم بأنفسهما إلى الباشا - وامتناعهما مشكوك فيه - فهما سوف يذيعان أقوال عمر مكرم حتى تبلغ أسماع الباشا، ذلك أن عمر مكرم لم يلبث أن أجاب على كلام محمد أفندي طبل: «أما إنكاره؛ أي محمد علي، طلب مال الرزق والأوسية فها هي أوراق من أوراق المباشرين عندي لبعض الملتزمين مشتملة على الفرضة ونصف الفائظ ومال الأوسية والرزق، وأما الذهاب إليه، فلا أذهب إليه أبدا، وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا، فالرأي لكم.»
بلغ هذا الحديث - دون شك أو ريب - محمد علي، وتبين له أن لا جدوى من تسوية النزاع وديا ليس فقط مع عمر مكرم متزعم حركة المعارضة، بل ومع سائر المشايخ المتذمرين، فعمد إلى إشاعة الفرقة والتخاذل بينهم حتى يمنع تكتلهم، وكان سهلا عليه أن يفعل ذلك، فطفق - كما قال الشيخ الجبرتي - «يجمع إليه بعض أفراد من أصحاب المظاهر ويختلي معه، ويضحك إليه، فيغتر بذلك ويرى أنه صار من المقربين، وسيكون له شأن إن وافق ونصح، فيفرغ له جراب حقده، ويرشده بقدر اجتهاده لما فيه المعاونة.»
وأوفد الباشا في نفس الليلة (4 يوليو) ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان إلى السيد عمر مكرم، وحضر الاجتماع المهدي والدواخلي، «وطال بينهم الكلام والمعالجة في طلوعهم ومقابلتهم الباشا، ورقرق لذلك كل من المهدي والدواخلي»، وكانت هذه الرقرقة أو إظهار الميل من جانب المهدي والدواخلي لتلبية طلب الباشا، قمينة بأن تجعل السيد النقيب يعدل عن رأيه لو أنه كان حكيما، ولكنه ظل مصمما على الامتناع، وطلب المهدي والدواخلي الشيخ محمد الأمير لمصاحبتهما إلى القلعة، ولكن هذا اعتذر بأنه متوعك، وغادر الشيخان وديوان أفندي وعبد الله بكتاش السيد عمر مكرم، وطلعوا إلى القلعة، وقابلوا الباشا.
ورحب محمد علي بالشيخين، وجاء في حديثه معهما أنه يستمع دائما باحترام وتقدير لكل ما يريدون إسداءه إياه من نصح وإرشاد، أو يشاءون الاحتجاج عليه من تصرفاته، ولن يهمل في أي ظرف أو مناسبة أن يكون عمله مبعث ارتياح للمشايخ، وسوف يقبل وساطتهم ولا يرد شفاعتهم، ولكنه يأبى قطعا أن يعمد المشايخ إلى عقد الاجتماعات العامة وتحريض الأهلين على الثورة، وإثارة خواطرهم، فهو لا يريد شيئا من هذه التهيجات الشعبية، وفضلا عن ذلك فإن هذه المظاهرات التي لا نفع منها ولا طائل تحتها لن تخيفه ولن تزعجه؛ لأنه إذا قام الشعب بالثورة كما يهدد المشايخ وهم الذين سبق أن تحدث فريق منهم عن تحريكها - أثناء الحماس الذي طغى على اجتماعهم يوم كتابة عرضحالهم - فلن يجد لدي سوى السيف والانتقام.
فلم يجد الشيخان ما يجيبان به سوى نفي هذه الأقوال التي بلغت الباشا كذبا وبهتانا عن المشايخ، فقالوا إن الذين أبلغوه ذلك لم يصدقوه، وإنهم عندما عقدوا الاجتماع المذكور - اجتماع 28 يونيو - لم يكن يدور في خلدهم بتاتا أن يئول الغرض منه بالتآمر على سلطة محمد علي؛ لأن مثل هذا الخاطر لم يرد في ذهنهم ولم يكن التآمر قطعا من نواياهم، وهم لم يفعلوا - في حقيقة الأمر - سوى ما اعتادوا فعله عند شعورهم بالضيق للتدبر في وسائل تفريحه وتخفيف حدة الضنك عن الشعب المتألم، بسؤال الفرج من لدن المولى عز جلاله.
وعاود الباشا الكلام في أمر الاجتماعات، وطلب منعها، ثم سأل عن السبب الذي حدا بالمشايخ إلى عقد اجتماع أول يوليو، وطلب معرفة أسماء الذين أقسموا اليمين على الاتحاد والتعاضد، فعزا الشيخان عقد الاجتماع إلى الشعب الذي كان هياجه حافزا عليه، ولكنهما آثرا الصمت عن المطلب الثاني، وراحا بدلا من ذلك يكذبان بكل قوة أن اتحادا قد حصل ضد سلطة الباشا.
ولم يكن هذا كل ما دار في هذه المقابلة، فقد ذكر الشيخ الجبرتي ما جرى فيها، وبخاصة فيما يتعلق بكشف الشيخين لمحمد علي عن موقفهما من متزعم حركة المعارضة، عمر مكرم: «قال الباشا في كلامه: أنا لا أرد شفاعتكم ولا أقطع رجاءكم، والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافا أن تنصحوني وترشدوني، ثم أخذ يلوم السيد عمر في تخلفه وتعنته (في عدم الحضور لمقابلته)، ويثني على البواقي، وراح الباشا يقول: وفي كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بقيام الجمهور ، فقال الشيخ المهدي: هو ليس إلا بنا، وإذا خلا عنا فلا يسوى بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف، يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين.»
ويعلل الشيخ الجبرتي طعن الشيخ المهدي على عمر مكرم وتجريحه له، بأنه قد تبين له ولزميله - وكان هذا الأخير حاضرا بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الشيخ عبد الله الشرقاوي - قصد الباشا؛ أي تخذيل عمر مكرم والتمهيد للإيقاع به، فوافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر، وراحا يتكلمان في حقه.
وانصرف الشيخان من هذه المقابلة وهما مذبذبان ومظهران خلاف ما هو كان في نفسيهما من الحقد وحظوظ النفس، غير مفكرين في العواقب وقصدا إلى السيد عمر، وهذا الأخير «ممتلئ بالغيظ مما حصل من الشذوذ ونقض العهد، فأخبروه بأن الباشا لم يحصل منه خلاف، وقال: أنا لا أردد شفاعتكم، ولكن نفسي لا تقبل التحكم، والواجب عليكم إذا رأيتموني فعلت شيئا مخالفا أن تنصحوني وتشفعوا، فأنا لا أردكم ولا أمتنع من قبول نصحكم، وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر، فهذا لا يناسب منكم، وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع، وتهييج الشرور وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك، فأنا لا أفزع من ذلك، وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم عندي إلا السيف والانتقام، فقلنا له: هذا لا يكون، ونحن لا نحب ثوران الفتن، وإنما اجتماعنا لأجل قراءة البخاري وندعو الله يرفع الكرب، ثم قال أريد أن تخبروني عمن انتبذ لهذا الأمر، ومن ابتدأ بالخلف، فغالطناه، وأنه وعد بإبطال الدمغة وتضعيف؛ أي تقليل الفائظ إلى الربع بعد النص، وأنكر الطلب بالأوسية والرزق من إقليم البحيرة»، ولم يطلعا السيد عمر بطبيعة الحال على ما دار بينهما وبين الباشا بشأنه.
ومرت أيام، وانفتح بين المشايخ باب النفاق، واستمر القيل والقال، وكل حريص على حظ نفسه وزيادة شهرته وسمعته، ومظهر خلاف ما في ضميره، والسيد النقيب متمسك برأيه، والأشياخ الوصوليون يجدون في التزلف لدى الباشا والقربى منه، والباشا يبذل ما وسعه من جهد وحيلة لإقناع عمر مكرم بالصعود إلى القلعة ومقابلته حسما لهذا النزاع الذي لا طائل تحته، والذي لا معدى عن عودة مغبته على عمر مكرم نفسه.
واستمر الحال على ذلك، حتى كان يوم 14 يوليو 1809، فأوفد الباشا ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان إلى السيد عمر، واجتمع المشايخ ببيته، وتكلموا في مسألة طلوعه إلى الباشا ومقابلته، ولكن السيد ركب رأسه، وراح يذكر المشايخ بالقسم الذي أقسموه على الاتحاد والتضافر، ولم يستطع كبح جماح غضبه، «فحلف أنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجها إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات، وقال: إن جميع الناس يتهموني معه، ويزعمون أنه لا يتجرأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، ويكفي ما مضى، ومهما تقادم يتزايد في الظلم والجور، وتكلم كلاما كثيرا»، ضرب الشيخ الجبرتي صفحا عن ذكره، ولكن غيره من المعاصرين يذكره، فقد هدد عمر مكرم بإحالة الأمر إلى الباب العالي إذا أصر الباشا على مظالمه، وتأليب الشعب وتحريكه للثورة عليه، وقال عمر مكرم: «وكما أصعدته إلى الحكم، فإني كفيل بإنزاله منه»، ورفض رفضا باتا الذهاب إلى محمد علي، وقد خيل إليه أنه بامتناعه عن مقابلة الباشا سوف يمتنع سائر الأشياخ عن مقابلته كذلك.
ولكن السيد النقيب أخطأ التقدير في هذه المرة أيضا؛ حيث قرر المشايخ مقابلة الباشا واختاروا لهذه المقابلة المشايخ: عبد الله الشرقاوي ومحمدا المهدي ومحمدا الدواخلي وسليمان الفيومي، واعتذر الشيخ محمد الأمير عن الذهاب لمرضه، وكانوا يريدونه معهم، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه، وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية، ذاكروه في أمر المحدثات، فأخبرهم أنه يرفع بدعة الدمغة، وكذلك يرفع الطلب عن الأطيان الأوسية، وتقرير ربع الفائظ، وقاموا على ذلك، ثم إنهم نزلوا إلى بيت السيد عمر، وأخبروه بما حصل، ولكن هذه كانت تسوية لم ترض عمر مكرم، ولم تخضد من عزمه على الاستمرار في المعارضة والمقاومة، فسألهم: وأعجبكم ذلك؟ ثم قال إن الباشا أرسل إليه يخبره بتقرير ربع المال الفائظ، فلم يرض، وأبى إلا رفع ذلك بالكلية؛ لأنه لما طلب الباشا في العام السابق إحداث الربع قال له السيد عمر: هذه تصير سنة متبعة، فحلف أنها لا تكون بعد هذا العام، وذلك لضرورة النفقة، وإن طلبها في المستقبل يكون ملعونا مطرودا من رحمة الله، وعاهد الباشا السيد عمر وقتئذ على ذلك، وشهد المشايخ بصحة هذه الواقعة، ثم طفق عمر مكرم يفند لهم دعاوى محمد علي فقال: «وأما قوله إنه رفع الطلب عن الأوسية والرزق فلا أصل لذلك، وها هي أوراق البحيرة وجهوا لها الطلب، فقال المشايخ: إننا ذكرنا له ذلك فأنكر، وكابرناه بأوراق الطلب، فقال: إن السبب في طلب ذلك من إقليم البحيرة خاصة فإن الكشافين لما نزلوا للكشف على أراضي الري والشراقي ليقرروا عليها فرضة الأطيان حصل منهم الخيانة والتدليس، فإذا كان في أرض البلدة خمسمائة فدان ري، قالوا عليها مائة، وسموا الباقي رزقا وأوسية، فقررت ذلك عقوبة لهم في نظير تدليسهم وخيانتهم، فقال السيد عمر: وهل ذلك أمر واجب فعله؟ أليس هو مجرد جور وظلم أحدثه في العام الماضي، وهي فرضة الأطيان التي ادعى لزومها لإتمام العلوفة (مرتبات الجند) وحلف أنه لا يعود لمثلها؟ فقد عاد وزاد، وأنتم توافقونه وتسايرونه ولا تصدونه، ولا تصدعونه بكلمة، وأنا الذي صرت وحدي مخالفا وشاذا، ووجه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان، وانفض المجلس» دون الوصول إلى نتيجة.
وهكذا - كما يقول الشيخ الجبرتي - «تفرقت الآراء، وراج سوق النفاق، وتحركت حفائظ الحقد والحسد، وكثر سعي المشايخ الحاقدين على عمر مكرم وتناجيهم بالليل والنهار»، ومع ذلك لم ينقطع الباشا في أثناء هذا كله عن مراسلة السيد عمر، يطلبه للحضور إليه والاجتماع به، ويعده بإنجاز ما يشير عليه به، وظن الباشا من المحتمل أن مبعث إصرار السيد النقيب طمع في المال؛ حيث قد انتفى - في نظر الباشا - ما يدعو لتمسكه بموقفه، طالما أنه قد أوضح الأسباب التي دعته إلى تقرير الطلب على الأوسية والرزق في إقليم البحيرة، وأنقص طلب فائظ الالتزام إلى الربع ووعد برفع المظالم، والأهم من ذلك كله أن يسأل عمر مكرم النصيحة، ويريد التشاور معه ، وقد فطن الباشا - ولا شك - إلى أن مقصد النقيب كان المشاركة في الحكم بطريق هذه المشاورة، فلما لم يقنع هذا، أوفد إليه كتخداه (محمد آغا اللاظ)؛ ليترفق به، وليعرض عليه ثلاثمائة كيس عطية من الباشا تدفع إلى السيد النقيب فورا، عدا كيس يعطى له يوميا، فلم يقبل.
وكان هذا آخر سهم في جعبة محمد علي لاستمالته، فزادت الوحشة بينهما ، وتيقن الباشا أن من العبث إغفال أمره، وعدم الاحتياط منه، فلم يزل ... متعلق الخاطر بسببه ويتجسس ويتفحص عن أحواله، وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر، وربما أغرى به بعض الكبار فراسلوه سرا، وأظهروا له كراهتهم للباشا، وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه، ولكن لم يخف على السيد عمر مكرم، ولم يزل مصمما وممتنعا عن الاجتماع به والامتثال إليه، ويسخط عليه، وراح المترددون على عمر مكرم ينقلون ما يبدر منه في مجالسه معهم إلى الباشا، ويحرفون بحسب الأغراض والأهواء. (5-5) نفي عمر مكرم
وتعذر دوام هذه الحال، وكان لا مناص من أن يبت الباشا في أمر عمر مكرم، سواء بتقريبه منه وإرجاعه إلى مكان الصدارة الذي كان له، أم بإقصائه وتحطيم ما تبقى له من وجاهة وصدارة تحطيما نهائيا، ومبعث الأمرين واحد، الانفراد بالسلطة، القاعدة التي بنى عليها محمد علي برنامج حكمه في سياسة شئون البلاد الداخلية، والتي اندرجت تحت برنامجه الأعلى، استقرار الأمر له في باشويته، والظفر بالحكم الوراثي في مصر.
على أن الباشا ما كان يستطيع تقريب عمر مكرم منه طالما بقي هذا مصرا على تجنبه، مصمما على معارضته، ولم يشأ الباشا أن يبطش به إلا بعد استنفاد كل ما لديه من وسائل لحمله على السير على جادته، واتضاح عجزه عن ذلك، فكان لا بد من محك أخير بين الرجلين ليصدر الباشا حكمه النهائي.
أما هذا المحك الأخير، فقد تجمعت الأسباب لتهيئته منذ وصول سلحدار يوسف ضيا باشا إلى القاهرة في 28 يونيو 1809 - أي قبل أول اجتماع للمشايخ بالأزهر بيومين اثنين فحسب - فقد حمل السلحدار - على نحو ما مر بنا - مرسوما بطلب المال المتجمع ليوسف ضيا باشا مما كان أحدثه؛ حيث كان بمصر بصفة قلم كشوفية، وقد بلغ حساب ذلك 2800 كيس، عدا ألف أضافها الباب العالي بصفة إمدادية تجهيزات السفر الحربي ضد الوهابية، فقد تقدم كيف أراد الباشا التنصل من دفع هذا المبلغ، فأعد رسالته التي راح يعتذر فيها عن عجزه المالي، ويبين الوجوه التي أنفق فيها أموالا طائلة، وكان إنفاقه لها سببا في عدم قدرته على تلبية مطالب الباب العالي.
فقد ابتدأ الباشا بأن أعد عرضحالا طلب من عمر مكرم التوقيع عليه؛ لأنه كان موجودا وقت استحداث الترتيب الذي يطالب يوسف ضيا بموجبه الآن بهذا المبلغ، ولكن عمر مكرم أبى التوقيع، ثم لم يكتف بالامتناع، بل طفق يطعن على البيانات التي تضمنها العرضحال ويعلن كذبها، وقد ذكر الباشا في عرضحاله أن الأكياس المطلوبة قد صرفت في المهمات، منها ما صرف في سد الترعة الفرعونية، ومبلغه ثمانمائة كيس، وعلى تجاريد العساكر لمحاربة الأمراء المصرية حتى دخلوا في الطاعة، كذلك مبلغا عظيما، وما صرف في عمارة القلعة والمجراة التي تنقل المياه إليها مبلغا أيضا، وكذلك في حفر الخلجان والترع، ونقص المال الميري بسبب شراقي البلاد، ونحو ذلك.
فانبرى السيد عمر يفند ذلك كله بابا بابا، قائلا: «أما ما صرفه في سد الترعة، فإن الذي جمعه وحياه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر، فلما ردوا عليه؛ أي محمد علي، وأخبروه بذلك الكلام، حنق واغتاظ في نفسه. وفرغ محمد علي من كتابة عرضحاله للدولة في 14 يوليو 1809، دون انتظار لتوقيع عمر مكرم.
وطلب الباشا عمر مكرم للاجتماع به فامتنع، فلما أكثر من التراسل، قال السيد النقيب: إن كان ولا بد فأجتمع به في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون، فلما قيل للباشا في ذلك، ازداد حنقه، وقال: إنه بلغ به أن يزدريني ويرذلني ويأمرني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس.»
فكانت هذه الواقعة هي الفاصلة.
فقد حضر الباشا يوم 9 أغسطس إلى بيت ولده إبراهيم بك الدفتردار «وطلب القاضي والمشايخ المذكورين، وأرسل إلى السيد عمر رسولا من طرفه ورسولا من طرف القاضي، يطلبه للحضور ليتحاقق ويتشارع معه، فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم»، وكان الباشا قد أحضر الشيخ محمدا السادات الطامع في نقابة الأشراف من أمد بعيد، والشيخ عبد الله الشرقاوي، «فعند ذلك أحضر الباشا خلعة وألبسها الشيخ السادات على نقابة الأشراف، وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر (القاهرة) يوم تاريخه، فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله، فأجاب إلى ذلك، ثم سألوه في أن يذهب إلى بلده أسيوط، فقال لا يذهب إلى أسيوط، ويذهب إما إلى إسكندرية أو دمياط.»
وتلقى عمر مكرم هذه الضربة متجلدا، «أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه، وليس فيه إلا التعب، وأما النفي فهو غاية مطلوبي، وأرتاح من هذه الورطة، ولكن أريد أن يكون في بلدة لم تكن تحت حكمه إذا لم يأذن لي في الذهاب إلى أسيوط فليأذن لي في الذهاب إلى الطور أو إلى درنة، فعرفوا الباشا، فلم يرض إلا بذهابه إلى دمياط، ثم إن السيد عمر أمر باشجاويش أن يأخذ الجاويشية (الواقفين على بابه بوصفه نقيبا للأشراف) ويذهب بهم إلى بيت السادات (النقيب الجديد) وأخذ في أسباب السفر.»
وفي ثاني يوم (10 أغسطس) اعتنى السيد محمد المحروقي بن السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار (المتوفى منذ نوفمبر 1804) بأمر السيد عمر وذهب إلى الباشا وكلمه وأخبره بأنه أقامه وكيلا على أولاده وبيته وتعلقاته، فأجازه بذلك، وقال الباشا: «هو آمن من كل شيء، وأنا لم أزل أراعي خاطره ولا أفوته»، وطلب محمد المحروقي ابن السيد عمر، وقابله الباشا وطمن خاطره، ولكنه أصر على وجوب سفر عمر مكرم إلى دمياط.
وفي 13 أغسطس، اجتمع المودعون للسيد عمر، وحضر محمد كتخدا الألفي وكان قد تعين بالسفر صحبته إلى دمياط، فخرج عمر مكرم وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنا على فراقه، وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر؛ لأنه كان ركنا وملجأ ومقصدا للناس ولتعصبه على نصرة الحق، فسار إلى بولاق ونزل في المركب وسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم إلى دمياط. وفي 21 أغسطس رجع محمد كتخدا الألفي إلى القاهرة من تشييع السيد عمر معلنا وصوله إلى دمياط واستقراره بها.
وهكذا انتهت مسألة معارضة عمر مكرم للباشا، فلم يتحرك الشعب للثورة تأييدا لمعارضة زعيمه؛ لأن زعامة عمر مكرم كانت قد انقضت أيامها من زمن طويل، ولم يتحرك أحد من الرعية التي هدد النقيب بتأليبها على محمد علي لإنزاله عن كرسيه للدفاع عن هذا الزعيم والتمسك ببقائه والحيلولة دون نفيه؛ لأنه وإن كان موضع الاحترام والاعتبار عند الجميع، فإن هذا الاحترام لم يكن معناه تعلق الشعب به بالدرجة التي تحفزه على الثورة من أجله، فكان ما ظفر به عمر مكرم من حقوق الزعامة التي توهمها أن اغتم الناس على سفره وخروجه كما ذكر الشيخ الجبرتي.
ولما كان تقرير عمر مكرم في نقابة الأشراف، بعد حادث تجريده منها وتقليدها يوسف أفندي في غضون عام 1802 قد جاء من الدولة، فقد عني محمد علي بكتابة عرضحال موقع عليه من المشايخ كذلك يذكر الأسباب التي دعته إلى خلع عمر مكرم من النقابة؛ وحتى يبطل مساعي هذا في دار السلطنة، إذا حدثته نفسه بالقيام بمسعى هناك من أجل استرجاع النقابة، كما فعل في المرة السابقة، وكان لا بد من تسويد صفحة السيد عمر بصورة تقطع كل أمل ورجاء في ذلك، ووجد الباشا ضالته في الأشياخ الذين لم يتورعوا عن أن ينسبوا إلى عمر مكرم أشياء لم تحصل منه، وكان محمد السادات أول من أظهر الكامن في نفسه، وصرح بالمكروه في حق السيد عمر ومن ينتمي إليه ويواليه، وتعاون مع الدواخلي والمهدي في تسطير العرضحال بالصورة التي أرادها الباشا، وعدوا له مثالب ومعايب وجنحا وذنوبا ونسبوا إليه أنواعا من الموبقات التي منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود وقطع أناسا من الشرفاء المستحقين وصرف راتبهم للأقباط المدخلين، ومنها أنه أخذ من الألفي في السابق مبلغا من المال ليملكه مصر (القاهرة) في أيام فتنة أحمد باشا خورشيد، ومنها أنه كاتب الأمراء المصريين (البكوات المماليك) أيضا في وقت الفتنة حين كانوا بالقرب من مصر ليحضروا على حين غفلة في يوم قطع الخليج، وحصل لهم ما حصل، وكان يريد تمليكهم القاهرة في غفلة الباشا والناس والعساكر، فنصر الله عليهم حضرة الباشا - والمقصود هنا حادث يوم 16 أغسطس 1805 - فأراد التسبب في خراب الإقليم وإثارة الفتن وموالاة البغاة المصريين؛ أي البكوات، وتطميعهم في المملكة، ومنها أنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقض دولة الباشا ويولي خلافه ويجمع عليه طوائف المغاربة والصعائدة وأخلاط العوام، ومنها أنه هو الذي أغرى المصريين (البكوات) على قتل علي باشا برغل الطرابلسي حين قدم واليا على مصر، وهو الذي كاتب الإنكليز وطمعهم في البلاد مع الألفي حين حضروا إلى الإسكندرية وملكوها ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية، وغير ذلك.
نمق المشايخ - الذين سماهم الشيخ الجبرتي «مشايخ الوقت» - هذا العرضحال في 12 سبتمبر 1809 ليرسله الباشا إلى الدولة، ومن الواضح أن هذه الاتهامات التي كيلت كيلا لعمر مكرم كلها كاذبة، وصف الشيخ الجبرتي ما جاء بهذا العرضحال بأنه زور وبهتان، وأن ما سطر به كان من عبارات عكس القضية، وتنميق الأغراض النفسانية، ولو أن الشيخ لم يشعر بعطف على عمر مكرم في محنته هذه، لتعاونه مع الظالم، وتمكين سلطانه - في رأيه - فعلق على نفي عمر مكرم وتجريده من نقابة الأشراف ثم تسطير هذا العرضحال في حقه، أنه على حد من أعان ظالما سلط عليه، وأن الذي وقع له بعض ما يستحقه، ومن أعان ظالما سلط عليه، ولا يظلم ربك أحدا.
وكان الممتنع عن توقيع هذا العرضحال أولا وآخرا الشيخ أحمد الطحطاوي فلم ينج من شر المشايخ، الذين زادوا في التحامل عليه وخصوصا الشيخ محمد (ابن وفا) السادات، والشيخ محمد الأمير، ولحقت بالشيخ أحمد الطحطاوي إهانات كثيرة، وانتهى الأمر بعزله من إفتاء الحنفية في 14 سبتمبر 1809، وتعين الشيخ حسن المنصوري بدلا منه، وراحوا يبالغون في ذمه والحط عليه؛ لكونه لم يوافقهم في شهادة الزور، ثم تعين في مشيخة الحنفية بعد وفاة المنصوري في يناير 1815 ثم توفي في يونيو من العام التالي.
وأما عمر مكرم فقد طالت إقامته بدمياط وهو ينتظر الفرج وقد أبطأ عليه، وهو ينتقل من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر على شاطئ البحر، وتشاغل بعمارة خان أنشأه هناك، والحرس ملازمون له، فلم يزل حتى ورد عليه صديق أفندي قاضي العسكر، فكلمه بأن يتشفع له عند الباشا في انتقاله إلى طندتاء (طنطا) ففعل، وأجاب الباشا إلى ذلك. وحوالي منتصف أبريل 1812، انتقل عمر مكرم إلى طنطا، فظل مقيما بها حتى شهر ديسمبر من عام 1818، فأذن له الباشا بالعودة إلى القاهرة.
وكان عمر مكرم عندما حصلت النصرة والمسرة للباشا بانتصاره في حرب الوهابية، قد أوفد حفيده السيد صالح بكتاب تهنئة لمحمد علي، وكان هذا وقتئذ بالإسكندرية، «فتلقاه بالبشاشة وطفق يسأله عن جده، فيقول له بخير ويدعو لكم، فقال له: هل في نفسه شيء أو حاجة نقضيها له؟ فقال: لا يطلب غير طول البقاء لحضرتكم، ثم انصرف إلى المكان الذي نزل به، فأرسل الباشا إليه في ثاني يوم عثمان السلانكلي - وقد صار قابجي باشا بعد قليل - ليسأله ويستفسره عما عسى أن يستحي من مشافهة الباشا بذكره، فلم يزل يلاطفه حتى قال: لم يكن في نفسه إلا الحج إلى بيت الله إن أذن له أفندينا بذلك، فلما عاد بالجواب، أنعم بذلك وأذن له بالذهاب إلى مصر وأن يقيم بداره إلى أوان الحج إن شاء برا وإن شاء بحرا، وقال: أنا لم أتركه في الغربة هذه المدة إلا خوفا من الفتنة، والآن لم يبق شيء من ذلك، فإنه أبي، وبيني وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف، وكتب له جوابا بالإجابة.»
وقد أثبت الشيخ الجبرتي صورة هذا الجواب، وهو يدل على ما يكنه محمد علي له من احترام وود، وينهض دليلا بعد كل هذه السنوات الطوال على أن الباشا عندما ألح في مقابلة عمر مكرم وطلوع هذا إليه في القلعة لإنهاء الأزمة التي أفضت إلى نفيه، كان صادق النية وقتئذ في إزالة أسباب الجفوة بينهما، واسترضاء عمر مكرم، لا عن خوف من تأليب هذا للرعية عليه وإنزاله من الحكم الذي قال إنه أصعده إليه، ولكن عن عطف وإشفاق من أن تنقطع صلاته بالرجل الذي عاضده في كل أزماته السابقة منذ توليه الباشوية، ولم يفسد مسعى الباشا سوى عناد عمر مكرم واغتراره بالتفاف طائفة من المتعممين حوله، ودخول الغفلة عليه من جراء نفاق الأشياخ معه ومداهنتهم له، ثم كبريائه الذي جعله يشتط في إصراره على إذلال محمد علي، وعلى التمسك بمعارضته له حتى بعد أن تبين له انفضاض الأشياخ من حوله بالرغم من اليمين التي حلفوها على الاتحاد والتعاضد ضد سلطان الباشا.
وكتاب محمد علي إلى السيد عمر كتاب مشهور، سماه فيه الباشا بوالده، بدأه بقوله: إلى «مظهر الشمائل سنيها، حميد الشئون وسميها، سلالة بيت المجد الأكرم، والدنا السيد عمر مكرم دام شأنه»، ثم راح يشكره على تهنئته له على ذلك الانتصار الذي كان مجلبة لثناء السيد، وأعلى الباشا بنيل مناه، ويبلغه إذنه له بالحج إلى بيت الله الحرام؛ تقربا لذي الجلال والإكرام ورجاء لدعوات السيد بتلك المشاعر العظام، ويسأله ألا يدع الابتهال ولا الدعاء له، ثم إن الباشا بعث إليه مع كتابه هذا كتابا آخر باسم الكتخدا بك محمد آغا لاظ، حتى يسهر على راحته بالقاهرة.
وأرسل محمد علي كتابا إلى كتخدا بك غير الذي بعث به إلى السيد عمر مكرم، ووصل هذا الكتاب قبل وصول السيد إلى القاهرة، وأرسل كتخدا بك ترجمانه إلى منزل السيد ليبشرهم بذلك، وأشيع خبر مقدمه، فكان الناس بين مصدق ومكذب، حتى وصل عمر مكرم إلى بولاق في 9 يناير 1819، «فركب من هناك وتوجه إلى زيارة الإمام الشافعي، وطلع إلى القلعة، وقابل الكتخدا وسلم عليه، وهنأ الشعراء بقصائدهم، وأعطاهم الجوائز، واستمر ازدحام الناس أياما ، ثم امتنع عن الجلوس في المجلس العام نهارا، واعتكف بحجرته الخاصة، فلا يجتمع به إلا بعض من يريده من الأفراد، فانكف الكثير عن الترداد.» وقال الشيخ الجبرتي: «وذلك من حسن الرأي»، ولم يحج إلى بيت الله الحرام لضعفه.
ولكن لم يكن مقدرا أن يبقى السيد عمر طويلا بالقاهرة يمضي ما تبقى له من حياة في شيخوخة هادئة؛ إذ لم يلبث أن حدث بعد عامين تقريبا أن قامت اضطرابات بالقاهرة بسبب تذمر القاهريين من ضريبة فرضها الباشا على المنازل، واشتدت الفتنة، وظن محمد علي أن للسيد عمر يدا فيها، فأمره بمغادرة القاهرة في منتصف أبريل 1822، منفيا إلى طنطا؛ حيث أقام بها إلى أن أدركته الوفاة، وهو في حوالي السبعين من عمره. (6) خاتمة المطاف بالمشايخ
انفسح المجال لمشايخ الوقت بنفي عمر مكرم إلى دمياط (في أغسطس 1809)، ونال الشيخ محمد المهدي مكافأته على سعيه ضده في اليوم نفسه الذي غادر فيه السيد عمر القاهرة، فحضر في صبح ذلك اليوم عند الباشا وطلب وظائف السيد عمر، فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي، ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وذلك بناء على طلبه، وكان الوقفان تحت يد السيد عمر ويتحصل منهما مال كثير، وزيادة على ذلك حاسب الشيخ المهدي على المنكسر له من راتب الغلال مدة أربع سنوات كان قد غابها عن القاهرة، فأمر الباشا بدفعها له من خزينته نقدا، وقدرها خمسة وعشرون كيسا، وذلك في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر، وعند ذلك رجع الشيخ إلى حالته الأولى التي كان قد انقبض عن بعضها من كثرة السعي والترداد على الباشا وأكابر دولته في القضايا والشفاعات وأمور الالتزام والفائظ والرزق والأطيان وما يتعلق به في بلاد الصعيد والفيوم، ومحاسبة الشركاء، وازدحمت عليه الناس.
وكان محمد السادات قد تولى نقابة الأشراف منذ 9 أغسطس 1809، وأقبل على الدنيا، وأنشأ دارا عظيمة، ولكنه لم يلبث أن مرض ثم توفي في 21 مارس 1813، وتقلد نقابة الأشراف، الشريك الآخر في الوقيعة بالسيد عمر مكرم، الشيخ محمد الدواخلي ، «فركب الخيول ولبس التاج الكبير، ومشت أمامه الجاويشية والمقدمون وأرباب الخدم، وازدحم بيته بأرباب الدعاوى والشكاوى، وعمر دار سكنهم القديمة وأدخل فيها دورا وأنشأ تجاهها مسجدا لطيفا وعمر دارا أخرى أسكنها إحدى زوجاته. وداخله الغرور وظن أن الوقت قد صفا له، وصار من أعيان الرءوس يطلع وينزل في كل ليلة إلى القلعة، ويشار إليه، ويحل ويعقد في قضايا الناس ، ويسترسل معه الباشا، وداخله الغرور الزائد، وصار يتطاول على كبار الكتبة الأقباط وغيرهم، ويراجع الباشا في مطالبه إلى أن ضاق الباشا منه، وأمر بإخراجه ونفيه إلى دسوق (عام 1816) فأقام بها أشهرا، ثم توجه بشفاعة السيد محمد المحروقي إلى المحلة الكبرى، فلم يزل بها متعلق الحواس منحرف المزاج متكدر الطبع، وكل قليل يراسل السيد المحروقي في أن يشفع فيه عند الباشا وليأذن له في الحج، ومرة يحتج بالمرض ليموت في داره، فلم يؤذن له في شيء من ذلك، ولم يزل بالمحلة حتى توفي» في 23 يناير 1818. وكان تعليق الشيخ الجبرتي على نفي الدواخلي أن ما وقع له «إنما هو قصاص وجزاء فعله في السيد عمر مكرم، فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر (القاهرة) والجزاء من جنس العمل.»
وأما الشيخ عبد الله الشرقاوي فقد توفي في 9 أكتوبر 1812، وكانت وفاته مثار خلاف بين المشايخ على مشيخة الأزهر، فتحزب هؤلاء شيعا متفرقة، بعضها يؤازر محمد المهدي، والبعض الآخر الشيخ محمد الشنواني، وفريق ثالث يرشح الشيخ بدوي الهيتمي، وفاز محمد المهدي بها ليوم أو اثنين فحسب، ثم قر الرأي على اختيار محمد الشنواني لها.
على أن المشايخ بعد نفي عمر مكرم كان قد انخفض شأنهم كثيرا، وساعد على ذلك أن نفرا من أبناء أصحاب المظاهر المتعممين كانوا قد ألفوا من بينهم عصابة، يقفون بالليل في صحن الأزهر لسلب من يعثرون عليه منفردا واستمر الحال على ذلك مدة، «وكذلك أخرجوا طائفة من القوادين والنساء الفواحش سكنوا بحارة الأزهر، واجتمعوا في أهله، حتى إن أكابر الدولة وعساكرهم، بل وأهل البلد والسوق جعلوا سمرهم وديدنهم ذكر الأزهر وأهله ونسبوا له كل رذيلة وقبيحة، ويقولون: نرى كل موبقة تظهر منه ومن أهله، وبعد أن كان منبع الشريعة والعلم، صار بعكس ذلك، وقد ظهر منه قبل الزغلية، والآن الحرامية، وأمور غير ذلك مخيفة»، وتوالى وقوع الحوادث بخط الجامع الأزهر من سرقات وضياع أمتعة من الدور والحوانيت، وتكرر ذلك حتى ضج الناس وكثر لغطهم، واتضح أن جماعة من المجاورين هم الذين يسرقون ولم ينقطع ذلك حتى اقتصوا ممن ثبتت عليهم التهمة (في مايو 1812).
ولما كان الشيخ سليمان الفيومي قد توفي في يناير 1810، ومات كذلك الشيخ محمد الأمير في سبتمبر 1817، فقد انقضى عهد الأشياخ المتصدرين، وهم الذين عرفنا من قصصهم ما عرفنا، وأما غيرهم من المشايخ والمتعممين، فقد حذا أكثرهم حذوهم، وأصدر الشيخ الجبرتي حكمه عليهم فقال: إنهم قد «زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآتم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم، يتكالبون على الأسمطة كالبهائم، فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين، وللكباب والمحمرات خاطفين، وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين»، وأما هذا الرأي فقد سجله الشيخ في حوادث شهر ربيع الأول عام 1231؛ أي في فبراير 1816.
الفصل الرابع
بسط سلطان الولاية
القضاء على المماليك
تمهيد
أتم إقصاء المشايخ بعد تطويع الجند، القضاء على العناصر المناوئة، أو التي تخشى مناوأتها لحكومة محمد علي، فانفرد بالسلطة، وكان انفراده بها من عوامل دعم أركان باشويته، كما أنه جاء في الوقت نفسه نتيجة لاضطراد رسوخ قدمه في هذه الباشوية بعد أن اجتاز بسلام العقبات التي اعترضت سبيله، وذلل الصعوبات التي صادفته منذ توليته في عام 1805، سواء ما تعلق منها بممارسته شئون الحكم الداخلية، أو كان متصلا بتدبر علاقاته مع الباب العالي والدول الأجنبية (إنجلترة وفرنسا خصوصا).
وواءم انفراده بالسلطة الهدف الذي جد في تحقيقه، تمكين الحكم الوراثي لأسرته في مصر، والشرط الأول لذلك - كما تبين - توطيد حكومته، فلم يكن من مقتضيات برنامجه إجازة مبدأ الشورى الذي طالب به فريق من المشايخ والمتصدرين؛ لأن مقصود هؤلاء من الشورى وقف إجراءاته المالية، ويستحيل عليه فعل ذلك؛ لأنه ما كان يرضى بوقفها على الرغم من شذوذها؛ لأنها السبيل الوحيد للحصول على المال من أسرع الطرق وأيسرها - المال الذي ظلت حاجته إليه ملحة طوال هذه السنوات للإنفاق منه في الوجوه التي تكفل دعم سلطانه الداخلي، وأهم هذه - كما شهدنا - ترويض الجند على الطاعة بدفع مرتباتهم إليهم، وتحصين القاهرة والثغور تهيؤا لدفع غزو أجنبي قد يأتي من ناحية إنجلترة أو فرنسا، أو لصد حملة قد يبعث بها الباب العالي إلى مصر لإقصائه من الحكم، وأخيرا لإعداد التجريدات المرسلة ضد البكوات المماليك، وكل أولئك أسباب لا معدى عنها لتثبيت باشويته وتقوية أركانها.
على أن الانفراد بالسلطة، وتقرير سلطانه في القاهرة والثغور وأرجاء الدلتا كان وحده لا يكفي لتأمينه على باشويته، طالما بقي الصعيد بأسره تقريبا - عدا بعض المراكز المبعثرة هنا وهناك - بأيدي البكوات المماليك، وخارجا عن سلطان باشويته؛ ولذلك فقد اقتضى نفس الهدف الذي أشرنا إليه، وجد في تحقيقه، إخضاع الصعيد لحكومته، وكان واضحا أن توطيد هذه الحكومة لن يتأتى إلا ببسط سلطانه في كل جوانب باشويته.
فالبكوات المماليك سوف يظلون شوكة في جانبه، ومصدر خطر ماثل على باشويته إذا ظلوا رافضين الاعتراف بسلطانه، وعجز عن تمكين سيطرته عليهم، وهو الذي عانى الكثير منهم خلال سنوات التجربة والاختبار السابقة بسبب عنادهم في مخاصمته وإصرارهم على مناوأته، فبسط سلطان الباشوية يعني أن يسرح هؤلاء حشودهم العسكرية، وكان فرسانهم قوة؛ لا جدال في أن محمد علي يخشى بأسهم، ويعني عدم لجوء الهاربين من جنده المتمردين إليهم حتى لا تظل معسكراتهم مواطن للتآمر على ملكه، وانفضاض العربان من حولهم، فتنكسر حدة أعمال السلب والنهب التي يشجعهم عليها تزاملهم مع المماليك والمنضوين تحت لوائهم في الإغارة على القرى والدساكر، ثم إنه يعني قبل كل شيء تحصيل الميري أو الضريبة على الأقاليم الواسعة التي في أيديهم، فكان لا مناص حينئذ من معالجة مسألة البكوات المماليك.
ولقد بدأ محمد علي يتدبر أمر البكوات منذ اعتلائه أريكة الولاية، وأجبرته شتى ملابسات الموقف، وكلما طرأ عليه تبدل، على ممارسة مختلف الطرائق معهم، حتى يخضد من شوكتهم، ويشتت من جموعهم، ويحول دون اتحادهم وتكتلهم ضده أو تعاونهم مع الغزاة الأجانب، أو مع الدول الطامعة في بسط نفوذها على البلاد، أو مع الباب العالي الذي يأبى إلا أن يسترجع سلطانه الشرعي عليها كاملا، فيراوغهم ويخادعهم تارة، ويخرج التجريدات لمطاردتهم تارة أخرى، ويعمل دائما لإشاعة الفرقة والانقسام في صفوفهم، ويبغي في أثناء ذلك كله كسب الوقت، والتمهيل حتى يتسنى له الفراغ من مشكلات أجدر لخطورتها بعنايته العاجلة، ويقربه انحسامها من الاقتدار على مناجزتهم وإيجاد الحل القاطع لمشكلتهم هم كذلك في النهاية، وكانت مذبحة القلعة المروعة السلاح البتار الذي قطعت به عقدتهم.
ولما كان محمد علي قد اختتم نضاله مع البكوات بالإيقاع بهم في هذه المجزرة، فقد أوحت هذه الفعلة لكثيرين أنه ما كان يسعى في كل علاقاته معهم إلا لتحقيق هذه الغاية، ينهض دليلا على ذلك - في رأيهم - أن الانفراد بالسلطة بإقصاء المشايخ وتشريد عمر مكرم خصوصا، لتأسيس حكم يقوم على الجبروت والطغيان، هو مبعث فتكه بالبكوات، في وقت لم يعد فيه لهؤلاء أي شأن بعد أن هزمهم هزيمة ساحقة ماحقة في المعارك التي نشبت أخيرا بينه وبينهم، ولم يفلت من يده حتى من استأمن منهم وعاش في كنفه وتحت حمايته، وقد رتب أصحاب هذا الرأي على ما أخذوا به، أن مذبحة القلعة كانت مؤامرة حبكت خيوطها من زمن طويل، وأن البطش بالبكوات كان غرضا يسعى إليه ولا يأنف من اللجوء إلى وسائل الغدر والخديعة لتحقيقه منذ أن ولي أمر مصر قبل ذلك بخمس سنوات.
ولا جدال في أن هذا اتهام جريء، قد يسوغه هول الفعلة التي وقعت، ووجه الجرأة فيه الزعم بأن الإجهاز على البكوات كان بيت القصيد من كل علاقات محمد علي معهم، والظن بأن مسعاه لتسوية صلاته بهم على أساس من الود والصفاء لم يكن إلا نفاقا وختلا ومخادعة، ولقد كفت هذه الجرأة وحدها؛ لأن تغدو واقعة المذبحة في حد ذاتها - وهي لا سبيل إلى نكران حدوثها - مثار جدل ونقاش، من حيث تعيين المسئول عنها ومرتكبها، وجلي أنه إذا صح انتفاء المسئولية عن محمد علي، وثبوت أن هناك من دبرها ونفذها غيره، ينفي عنه كذلك أنه بيت النية - ومن زمن طويل - على الفتك بالبكوات، أساس الاتهام كله، فزاد الخلط وتضاربت الآراء واختلفت في تعليلها؛ فالزعماء الألبانيون «هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه - وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في مظاهرها - بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة 1811، وهم الذين ألزموا محمد علي بالموافقة، ولو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظم لما تم التنظيم بالدقة التي تم بها»، وهو قول لا نصيب له من الصحة، وطبيب الباشا الخاص «مندريشي»
Mandrici
هو الذي أشار عليه بتدبير المذبحة للفتك بهم، وصاحب هذا الرأي «دروفتي»، أخذ به لبواعث سوف يأتي توضيحها في حينه، والباب العالي هو الذي طلب من محمد علي ذبحهم، فلم يسعه إلا أن يمتثل أمر مولاه، وسوف نرى كذلك - في موضعه - مدى انطباق هذا القول على الحقيقة، وهكذا.
ولا بد أن يستقر في الأذهان أن الباشا نفسه صاحب مذبحة القلعة، ومدبر هذه المكيدة، والمسئول عنها وحده، ولكن يجب التسليم كذلك، بأنه كان خالص النية، صادق الرغبة في مسعاه للصلح مع البكوات المماليك، وأن هؤلاء نكثوا عهودهم دائما، وأنهم تآمروا على سلامتهم وسلامة ملكه فيما بينهم ومع أعدائه، فحفروا قبورهم بأيديهم، وأن ضرورة الخروج للحرب الوهابية، الثمن الذي كان لا محيص من دفعه إذا شاء الظفر بالباشوية الوراثية، ألجأه إلى الفتك بهم، وأن التفكير في المذبحة لم ينبت في ذهنه إلا قبل شهر أو شهرين على الأكثر من تنفيذها، فكانت قصة محمد علي مع البكوات، قصة إقبال من ناحيته، وإدبار من ناحيتهم، حتى إذا أعيته الحيل في أمرهم، وصار نجاح أضخم مشروع في مطلع باشويته - وهو الحرب الوهابية - عقد عليه آمالا كبارا، مرتهنا بقدرته على التفرغ له ومباشرته، لم يعد هناك مجال لأي تردد أو إحجام من ناحيته عن ارتكاب الفعلة التي وإن أجازها برنامج سياسته، فلن تلقى سندا شرعيا أو أخلاقيا لتبريرها.
فثمة حقائق إذا لا سبيل إلى نكرانها، وهي؛ أولا: أن النضال ضد المماليك إنما يدخل في نظام ذلك البرنامج الذي ارتسمت معالمه بصورة قاطعة في ذهن محمد علي منذ عام 1807، والذي استهدف تقرير الباشوية الوراثية في أسرته في مصر منذ ذلك الوقت المبكر، والذي كانت دعامتاه، والمكملتان لبعضهما بعضا توطيد حكومته، على النحو الذي شهدناه، ثم بسط سلطانه الداخلي على كل أنحاء باشويته، الأمر الذي استتبع حتما القضاء على المماليك. وثانيا: أنه بالرغم من وضوح هذه الحقيقة لم يكن الغرض من الحرب التي خاض غمارها معهم إبادة المماليك وإفناءهم، بل لقد ظل محمد علي يرجو صادقا في أثناء هذا النضال المرير أن يستطيع استمالة المماليك إلى الرضاء بسلطانه، والعيش في هدوء وسلام في ظل ما يقطعهم من أملاك، وما يغدقه عليهم من نعم وأرزاق، ويجعلهم على قدم المساواة في وضعهم الجديد المنتظر مع كبار قواده ورؤساء جنده - يدخلهم في صفوف جيشه، فيعزز بفرسانهم قوات مشاته، ويبعث بهم - كجزء من جيشه - إلى أرض الحجاز لاسترجاع الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين. وثالثا: أنه طوال هذا النضال في مرحلته الأخيرة (1807-1811) ظل محمد علي أمينا على عهده مع كل مستأمن من البكوات، ولم ينقض اتفاقا أبرمه معهم، ولم يغرر بهم أو يخدعهم، بل كان البكوات - كما ألمعنا - هم الذين نكثوا بعهودهم معه دائما، وأرادوا خديعته والفتك به، وتقويض عروش سلطانه، وتحطيم تلك الباشوية التي كانت نواة الدولة التي أنشأها في النهاية. (1) مساعي الصلح مع البكوات
وتبدأ قصة العلاقات بين محمد علي والبكوات في مرحلتها الأخيرة هذه، من أيام «حملة فريزر»، ونجاح الباشا بفضل وساطة «مانجان» لدى البكوات في البرنبل وزاوية المصلوب في يونيو 1807، في الوصول إلى إقناع هؤلاء بالوقوف موقف الحياد في أثناء الحرب بينه وبين الإنجليز.
ولم يقطع الباشا مساعيه من أجل الصلح معهم بعد انتهاء الحرب مع الإنجليز ؛ لأنه لا يزال يخاف من أن يتحد البكوات ويزحفوا عليه من الصعيد، والجند في تمرد وعصيان، وخزانته خاوية من المال، والحكومة في القاهرة غير مستقرة، والأهلون يئنون من ثقل الضرائب والمغارم، والزراع في ضنك، والأرض مهملة حتى لقد أجدب تقريبا ثلث ما كان مزروعا منها عند خروج الفرنسيين من مصر (1801)، ولقد كان في عزم محمد علي - على ما أكد «دروفتي» في تقريره إلى حكومته بعد ذلك في 8 أبريل 1808 - أن يخرج على رأس جيشه لقتال المماليك، بعد إبرام الصلح مع الإنجليز - لولا عصيان الجند في 26 أكتوبر 1807، الذي جعله يعدل عن ذلك.
بيد أن «دروفتي» يذكر في تقريره كذلك، أن غرض محمد علي من خروجه لقتال المماليك كان لإملاء شروط الصلح عليهم في الأقاليم التي يوافق الباشا اليوم على إعطائها لهم؛ أي إن محمد علي لم يكن في عزمه إثارة حرب فناء وإبادة ضدهم، ورضي بأن يظلوا في الأقاليم الواسعة التي كانت بأيديهم فعلا في الصعيد، على شريطة الإذعان لحكومته ودفع الميري عنها، الشرط الذي اتخذه في هذه المرحلة وفي المراحل التالية أساسا لعقد أي صلح معهم.
ووسط الباشا في هذا المسعى «روشتي» منذ أواخر أكتوبر، وكان شاهين بك الألفي أول من استجاب للصلح، وقال الوكلاء الفرنسيون في تقريرهم عن حوادث هذا الشهر: إن العروض التي عرضها عليه كانت سخية، شملت إقطاعه الفيوم التزاما وكشوفية وفي عدة قرى في بني سويف والجيزة نفسها، فقبل شاهين الخضوع للباشا، وأغرته هذه العروض بتناسي توصيات الألفي الكبير، فتبودلت الرسائل بينهما. وفي 5 نوفمبر حضر إلى القاهرة محمد كتخدا شاهين الألفي ليتباحث مع الباشا في شروط الصلح، وأسفرت المباحثة عن إعطاء شاهين إقليم الفيوم بتمامه التزاما وكشوفية وإطلاق التصرف له فيها، إلى جانب ثلاثين بلدة من إقليم البهنسا مع كشوفيتها، وعشرة بلاد من بلاد الجيزة من البلاد التي ينتقيها ويختارها وتعجبه مع كشوفية الجيزة، وأن يكتب له بذلك تقاسيط نافذة في سائر البر الغربي، وعشرة بلاد من إقليم البحيرة مع كشوفية البحيرة بتمامها إلى حد الإسكندرية، وذلك لقاء خضوع شاهين واعترافه بسلطان محمد علي، وغادر محمد كخيا (كتخدا الألفي) القاهرة في 13 نوفمبر، وتهيأ الباشا لاستقباله وشرع يعد قصر الجيزة لنزوله - وكان العسكر قد خربوه ضمن بيوت الجيزة الأخرى التي خربوها - وأمر بإخلاء الجيزة من الجند والكاشف، فعدى الجميع إلى البر الشرقي وتسلم (في 29 نوفمبر) علي كاشف الكبير الألفي القصر وما حوله وما به الجبخانة والمدافع وآلات الحرب وغيرها.
وأما شاهين فقد وصل يوم 21 نوفمبر إلى دهشور؛ حيث وجد بها في انتظاره ديوان أفندي طاهر وطوسون بن محمد علي؛ للترحيب به ولمرافقته حتى الجيزة، وأحضر شاهين معه هدية من إبراهيم بك ومحمد بك المنفوخ المرادي برسم الباشا نحو الثلاثين حصانا ومائة قنطار بن قهوة، ومثلها سكر وأربع خصيان وعشرون جارية سوداء، قدم هذه الهدية لمحمد علي، محمد كتخدا وعلي كاشف، فأرسل هذا صحبتهما هدية ومعهما ولده وديوان أفندي، وخلع شاهين على طوسون فروة، وقدم له تقدمة وسلاحا نفيسا إنكليزيا، وكان قد بلغ شبرامنت في 26 نوفمبر، فلما وصل شاهين إلى الجيزة في 6 ديسمبر، أطلقت مدافع كثيرة تحية لقدومه، وأولم له علي جربجي موسى الجيزاوي وليمة فاخرة، ولو أنه فرض مصروفها وكلفها على أهل البلدة، وذهب شاهين لزيارة الباشا يوم 8 ديسمبر، في موكب عظيم، فعدى إلى البر الشرقي مع طائفة كبيرة من الكشاف والمماليك وعربان الهوارة، وكان الباشا قد أمر المشايخ والسيد عمر مكرم بانتظاره صحبة ابنه طوسون بك عند مصر القديمة، فتلقاه هؤلاء وسلموا عليه، وكان معهم طائفة من الدلاة، فتألف الموكب الذي قصد إلى القلعة من الدلاة بطبلاتهم وسفافيرهم يسيرون في الطليعة، يتلوهم الكشاف والمماليك وعمر مكرم والمشايخ، ثم شاهين الألفي وبجانبه طوسون بك، وخلفهم الطوائف والأتباع والخدم، وخلفهم النقانير، واستمر الموكب في سيره حتى وصلوا إلى ضريح الإمام الشافعي فزاروه، ثم ركبوا وساروا إلى القلعة، وطلعوا باب العزب إلى سراية الديوان، وانفصل عنهم المشايخ ونزلوا إلى دورهم، وقابل شاهين الباشا فخلع عليه فروة سمور مثمنة وسيفا وخنجرا مجوهرا وتعابي، وقدم له خيولا بسروجها، ثم تغدى عند طوسون في سرايه بالقلعة، ثم زار حسن باشا فأكرمه وخلع عليه أيضا، وقدم له خيولا وركب ثلاثتهم: شاهين وطوسون وحسن باشا وذهبوا عند طاهر باشا ابن أخت الباشا، فسلم عليه أيضا وقدم له تقادم، ثم ركب شاهين عائدا إلى الجيزة، وذهب إلى مخيمه بشبرامنت، واستمر مقيما بالمخيم حتى تمم عمارة القصر، وتردد كشافهم وأجنادهم إلى بيوتهم بالمدينة فيبيتون الليلة والليلتين ويرجعون إلى مخيمهم. وفي 10 ديسمبر، انتقل الألفية بعرضيهم وخيامهم إلى بحري الجيزة.
وجذب هذا الكرم والسخاء عددا من كبار الألفية، الذين ملوا المنفى وتاقت نفوسهم لاستئناف حياتهم المترفة في القاهرة، فوصلها يوم 12 ديسمبر أربعة من صناجقهم، هم: أحمد بك الألفي، ونعمان بك وحسين بك الصغير، ومراد بك الألفي، طلعوا إلى القلعة وخلع عليهم الباشا فراوي، وقلدهم سيوفا، وقدم لهم تقادم، ثم نزلوا إلى حسن باشا، فسلموا عليه، وخلع عليهم أيضا خلعا، ثم ذهبوا إلى بيت صالح آغا السلحدار (سلحدار الباشا) فأقاموا عنده إلى أواخر النهار، ثم ذهبوا إلى بيوتهم التي بها حريمهم فباتوا بها، وذهبوا في الصباح إلى الجيزة.
وبالغ الباشا في إكرام الألفية، فدفع من عنده الصداق لعديلة هانم ابنة إبراهيم بك التي عقد لأحمد بك الألفي عليها في 16 ديسمبر، وقدر الصداق ثمانية آلاف ريال، وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة، وذهب إلى مضرب النشاب واستدعى شاهين بك من الجيزة وعمل معه ميدانا وترامحوا وتسابقوا ولعبوا بالرماح والسيوف، ثم طلع الجميع إلى القلعة، واستمر شاهين بك عند الباشا إلى بعد الظهر، ثم نزل مع نعمان بك إلى بيت عديلة هانم فمكثا إلى قبيل المغرب، ثم أرسل إليهما الباشا فطلعا إلى القلعة فباتا عنده، ونزلا في الصباح وعديا إلى الجيزة.
واعتزم شاهين الزواج من أرملة حسين بك الوشاش الألفي، الذي غدر به جماعة عثمان البرديسي وقتلوه في غضون عام 1804 في ظروف سبق أن ذكرناها، واستأذن الباشا في ذلك، ولكن هذا قال: «إني أريد أن أزوجك ابنتي وتكون صهري، وهي واصلة عن قريب، أرسلت بحضورها من بلدي قولة، فإن تأخر حضورها جهزت لك سرية وزوجتك إياها.» وقد بر الباشا بوعده، فزوجه في منتصف مايو 1808، عندما تأخر حضور ابنته، سرية انتقتها لشاهين زوجة الباشا، ونظمتها، وفرش له سبع مجالس بقصر الجيزة، وجمعوا لذلك المنجدين، وتقيد بتجهيز الشواز والأقمشة واللوازم الخواجا محمود حسن البزرجان، من كبار التجار وأصحاب الوجاهة، وكذلك زوج الباشا نعمان بك سرية أخرى، وعمرت دار لسكناه وفرشت على طرف الباشا، وكثرت الأفراح حينذاك فتزوج علي كاشف الكبير الألفي بزوجة أستاذه، وعمر بك الأرنئودي بجارية من جواري الست نفيسة المرادية.
وعندما شاع خبر الصلح بين محمد علي وشاهين الألفي، وما لقيه الألفية على يدي الباشا من ضروب التكريم، قرر أمين بك الألفي الرجوع إلى مصر، وكان هذا - كما عرفنا - قد غادر البلاد عند جلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية لتوسيط الإنجليز لدى الباب العالي في صالح البكوات، وقابل «السير آرثر باجيت» في ثيندوس، ثم «السير ألكسندر بول» في مالطة، ثم «الميجور مسيت» في مسينا، وقصد أخيرا إلى طرابلس الغرب، رجاء أن تواتيه الفرصة للذهاب منها عبر الصحراء إلى مصر، فكتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية في أول يونيو 1808: «ينتظر حضور قافلة كبيرة من طرابلس الغرب وسائر الوجاقات تتألف من آلاف المغاربة في طريقها إلى مكة المكرمة للحج وسوف يحضر أمين بك الألفي إلى مصر مع هذه القافلة.» وفي 15 يونيو وصل أمين الألفي إلى القاهرة، وكتب الشيخ الجبرتي في حوادث هذا اليوم أن أمينا قد حضر من غيبته وكان مسافرا مع الإنكليز ... فلم يزل غائبا حتى بلغه صلح خشداشينه مع الباشا فرجع، وطلع على ردته، فأرسلوا له الملاقاة والخيول واللوازم، وحضر في التاريخ المذكور. (2) الصلح مع بكوات الصعيد
وأثمرت المعاملة الكريمة التي لقيها شاهين الألفي وسائر زملائه ثمرتها الطيبة، فاستطاع محمد علي الاستعانة بهم على تطويع العربان في إقليم البحيرة خصوصا - وقد قدم ذكر ذلك - والأهم من هذا، أنه تمكن من توسيط شاهين الألفي في الصلح مع بكوات الصعيد من بيت مراد والبرديسي: إبراهيم بك الكبير، وعثمان بك حسن، وشاهين بك المرادي (خليفة البرديسي ) وغيرهم.
ومنذ 16 ديسمبر 1807 كان قد تم الاتفاق على إرسال نعمان بك ومحمد كتخدا الألفي وعلي كاشف الصابونجي إلى إبراهيم بك الكبير لإجراء الصلح، وغادر هؤلاء القاهرة في مهمتهم هذه في ذلك اليوم مزودين بمكاتبات من شاهين الألفي، وكان الغرض من مسعاهم إحضار بكوات الصعيد إلى القاهرة، يقدمون فروض الولاء لمحمد علي، ويعترفون بسلطانه ويعيشون في كنفه، وحتى يكونوا تحت رقابته وملاحظته، على غرار ما حدث مع شاهين وزملائه.
وكان بكوات الصعيد لا يظهرون نشاطا كبيرا في هذه الأيام بسبب انقساماتهم وخلافاتهم على مألوف عادتهم، وبسبب ما طرأ عليهم من ضعف مادي من حيث نقص أعدادهم، وما نجم عن اختلافاتهم واستئثار كل بك منهم بالنفوذ على عدد من المماليك يجمعهم حوله ويؤلف منهم حزبا يدين بالطاعة له وحده، ثم بسبب بلوغ إبراهيم بك وعثمان بك حسن سن الشيخوخة، وهما كبيرا البكوات، بينما لم يكن شاهين بك المرادي - رئيس المرادية، وأحد المباشرين والضاربين لحسين بك الوشواش بالبر الغربي ليلة خروجهم وتعديتهم لملاقاة الألفي - يستمتع إلا بسلطة اسمية فحسب؛ وعلى ذلك فقد قبل بكوات الصعيد المفاوضة في شروط الصلح بالرغم من معارضة إبراهيم بك وعثمان حسن اللذين انعدمت كل ثقة لهما في الباشا، وكانا لا يرضيان إلا بطرده من الباشوية، ولقد راح الوسطاء - نعمان بك ومحمد كخيا (كتخدا الألفي) والصابونجي، يبذلون قصارى جهدهم لاستمالة البكوات إلى نبذ نصيحة إبراهيم وعثمان حسن، وتقليل أنصارهما، بدعوى المعاملة - الطيبة التي سوف يلقاها بكوات الصعيد والشروط السخية التي سوف يمنحها الباشا لهم إذا قبلوا الصلح كالبكوات الألفية فنجحت مساعيهم، ولم يستمع أحد لتحذيرات إبراهيم وعثمان حسن، فقر الرأي على إيفاد مرزوق بك بن إبراهيم بك وسليم بك المحرمجي إلى القاهرة للمفاوضة في شروط الصلح.
وفي 5 مارس 1808 وصل مرزوق وسليم المحرمجي إلى القاهرة ومعهما علي كاشف الصابونجي، «فطلعوا إلى القلعة، وقابلوا الباشا، وخلع هذا على مرزوق بك والمحرمجي فروتين ونزلا إلى دورهما، وبدأت المفاوضة، وترددوا على الباشا وطلعوا ونزلوا إلى القلعة ومنها، وبلغوا رسائل الأمراء القبليين، وذكروا مطالبهم وشروطهم، وشروط الباشا عليهم والاتفاق في تقرير الصلح والمصالحة، واستمر ذلك عدة أيام.»
وعلق محمد علي آمالا كبيرة على توفيقه في هذه الخطوة؛ لأن الصلح إذا تم مع البكوات المماليك سوف يضع حدا لشرورهم وغوائلهم، ويمكنه من بسط سلطانه على الصعيد، وكان لخضوع بكوات الصعيد في هذا الحين بالذات أهمية كبيرة؛ لأن الباب العالي قد صار يستعجله الآن - كما عرفنا - بإلحاح متزايد الخروج في جيشه إلى الحجاز، ويطلب إليه إرسال الإمدادات من مال ومؤن ومهمات لمساعدة الدولة، وحرم امتلاك البكوات للصعيد الباشا من إيرادات هذا الإقليم الغني بحاصلاته وغلاله الوفيرة، فهو يستطيع إذا قبل هؤلاء الصلح معه على أساس الاعتراف بسلطانه - ومعنى الاعتراف بسلطانه كما أوضح الباشا نفسه في شتى المناسبات التي حصلت فيها مفاوضات الصلح أن يدفع البكوات المال أو الميري؛ أي الضرائب الحكومية لخزانة الولاية - أن يظفر بإيرادات الصعيد.
وتفاءل الباشا خيرا من مجيء مرزوق بك وسليم المحرمجي، بعد أن تم تسليم شاهين الألفي وجماعته وصلحهم معه، فبادر بالكتابة إلى إستانبول في 10 مارس 1808 «بأن نصف طائفة المماليك قد دخلوا تحت الطاعة، بينما النصف الآخر على وشك أن يحذو حذوهم في هذه الأيام، حتى صار من المتوقع بفضل خطة الباشا الحازمة والحكيمة إنهاء غوائلهم جميعا ودفعها، وأن يستطيع سداد ما عليه من ديون - إن شاء الله - بفتح إقليم الصعيد»، ووعد بالخروج عندئذ إلى الحجاز ضد الوهابيين.
وقد توسط في هذه المفاوضة كذلك «كارلو روشتي»، ويكتب «دروفتي» إلى حكومته في 8 أبريل 1808 تعليقا على هذه الوساطة، وعلى المفاوضات ذاتها: «أن البكوات في الصعيد كانوا قد رجوه التدخل في المفاوضات مع الباشا، كما طلب إليه ذلك محمد علي نفسه، ولكنه اعتذر لعدم وجود تعليمات لديه تتيح له التدخل، فاضطر الجانبان إلى توسيط «روشتي» قنصل النمسا العام، ورحب هذا بما عرض عليه كل الترحيب؛ لأن هذا الدور سوف يمكنه من الاحتفاظ بما يتمتع به من نفوذ كبير وأكثر من اللازم في شئون مصر، وهناك ما يدعوه؛ أي «دروفتي» إلى توقيع عقد الصلح في النهاية، ولكنه يلحظ كثيرا من التحرز من كلا الجانبين، مما يجعل المفاوضات تطول أكثر من الوقت الذي تستدعيه طبيعتها.»
واستطالت المفاوضات فعلا، ومرد ذلك إلى تغالي بكوات الصعيد في مطالبهم؛ حيث تمسكوا ببقاء كل الأقاليم التي يملكونها فعلا بالصعيد في حوزتهم - أي السيطرة على الصعيد بأسره ما عدا بعض المراكز القليلة - كما أنهم نفروا من الحضور إلى القاهرة، ولم يشأ محمد علي قطع المفاوضة، ولم يشأ في الوقت نفسه التسليم بمطالبهم المتطرفة، فراح يمد في أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لعل وكلاءه في المعسكر المملوكي يستطيعون إشاعة الانقسام والفرقة بينهم وزيادة الخلافات الناشئة بين مختلف أحزابهم حدة على حدتها، فيحملهم وهنهم واتضاح عدم جدوى المعارضة لهم على قبول شروطه، فصار يتعلل بضرورة إخضاع العربان وانشغاله بأمرهم، وقد استخدم في ذلك شاهين الألفي على نحو ما مر بنا، فظلت تتجدد الهدنة بين البكوات وبين محمد علي طوال الشهور التالية، حتى حدث أن توفي شاهين بك المرادي بمنفلوط في 11 مايو 1808.
فتهيأ بفضل هذا الحادث لمحمد علي إنهاء المفاوضة على شروطه، وذلك أنه بادر بمجرد ورود الخبر في 15 مايو بموت شاهين المرادي، بتعيين سليم بك المحرمجي رئيسا للمرادية، وقبل هذا شروط الباشا، فيقول «سانت مارسيل» في أول يونيو: إن الصلح قد عقد على أساس أن يظل الصعيد ابتداء من المنيا فقط في أيدي البكوات، وبشريطة أن يدفع هؤلاء الميري عن الأقاليم التي بقيت لهم، وذلك ابتداء من العام المقبل، وأيد أخبار هذا الصلح على القواعد المذكورة «دروفتي» في تقريره الذي رفعه إلى حكومته وقتئذ، وغادر المحرمجي القاهرة إلى الصعيد، وانتظر الباشا تصديق البكوات على هذا الصلح، وقبل البكوات في أول الأمر شروط الباشا وصدقوا على الصلح، وكان الباشا منذ 15 مايو قد قلد مرزوق بك ولاية جرجا وإدارة الصعيد، وألبسه الخلع، وشرط عليه إرسال المال والغلال الميرية، وذلك كما رأى الباشا حتى يزول أي شك لديه في صدق نواياه. وذكر الشيخ الجبرتي الآثار التي ترتبت على عقد الصلح بين الباشا والبكوات، فقال: «وعند ذلك اطمأنت الناس، وسافرت السفار والمنتسبون، ووصل إلى السواحل مراكب الغلال والأشياء التي تجلب من الجهة القبلية»، وذلك من أواخر يونيو إلى أواخر الشهر التالي. وقال «دروفتي»: إن مرزوق بك عند ذهابه إلى الصعيد كان يحمل إنذارا من الباشا لإخوانه، أنه مصمم على شروط الصلح هذه ولا يقبل نقضها. (3) البكوات ينقضون الصلح
وكان الباعث على توجيه هذا الإنذار إلى البكوات، أن هؤلاء بعد موافقتهم الأولى على الصلح، ما لبثوا أن عملوا على نقضه، فقد نجحت مساعي وكلاء الباشا في معسكرهم، فغادره كثيرون من المماليك والأتباع الذين آثروا الاستمتاع بحياة الترف في القاهرة، وأغراهم سخاء الباشا على التسليم له، وعلاوة على ذلك، فقد كان تعيين سليم بك المحرمجي رئيسا على المرادية (بيت مراد والبرديسي) عملا جريئا وخطوة خطيرة؛ لأن البكوات في الصعيد كانوا يسلكون مسلك المستغلين، ويتفاوضون كالأنداد مع الباشا، ولم يحدث قط أن الباشوات الذين تولوا بالقاهرة، أو الباب العالي نفسه في القسطنطينية، رأوا أن من حقهم التدخل في مسألة تعتبرها هذه الطائفة المملوكية العسكرية مسألة عائلية ومن شئونهم وحدهم، فكان معنى تدخل الباشا الآن في هذه المسألة، أنه قد صار لديه من القوة ما يجعله قادرا على هذا التدخل، لا سيما وقد أشار الباشا نفسه إلى هذا المعنى عندما قال وقت تعيينه للمحرمجي رئيسا للمرادية: إن باشويته على الديار المصرية تخوله هذا الحق، بفضل ما تعطيه له هذه الباشوية من سيادة كاملة على البلاد بأسرها، ثم جاء إعطاؤه الحكم في جرجا وإمارة الصعيد لمرزوق بك مؤيدا لهذه السيادة الكاملة، ولم يسع المحرمجي ومرزوق بن إبراهيم الكبير إلا الرضوخ لإرادة الباشا.
وكان واضحا أن غرض محمد علي من خطوته هذه أن يزيد في إشاعة الانقسام والخلاف في صفوف البكوات، وإثارة الأحقاد بينهم حتى يحملهم ضعفهم على قبول الاتفاق معه بشروطه المعروفة، كما أنه أراد أن يعود أعداءه وخصومه، مثلما عود أنصاره، على قبول الأمر الواقع والرضوخ لتلك السلطة التي يمارسها فعلا، ولم يدهش تدخل الباشا في شئون المماليك القاهريين والأهالي عموما، وهم الذين صاروا - على نحو ما أشرنا سابقا - يؤمنون الآن أكثر من أي وقت مضى بسلطان الباشا، وبأن لمصر سيدا واحدا فقط هو محمد علي.
ولكن هذا التدخل أدهش البكوات، بل وأثار في نفوسهم الخوف في الوقت نفسه؛ لأنه كان المرة الأولى التي يحدث فيها هذا التدخل من أجنبي عنهم في شئونهم؛ ولأنه كان يدل على أن السلطة الجديدة قد بلغت درجة عظيمة من الاستقرار والقوة جعلتها تجرؤ وتتجاسر، وهي في مكانها البعيد في القاهرة على اتخاذ هذه الخطوة، وأحدث هذا الخوف أثره، فقد ثار عديدون من البكوات ضد تعيين سليم المحرمجي رئيسا للمرادية، ولكن لم يلبث أن تغلب فريق آخر رأى من الحكمة - تجنبا لاتساع شقة الخلاف بينهم - تلافي الموقف باختيار سليم المحرمجي، والتصديق على تعيينه، ويقول المعاصرون: إن ما وقع بين البكوات يكفي وحده دليلا على مبلغ الضعف الذي صاروا فيه وقتئذ.
ومع ذلك فقد امتنع البكوات عن دفع الميري المطلوب منهم بمقتضى شروط الصلح، لا نقدا ولا عينا؛ أي غلالا، وفسر «دروفتي» عدم وفائهم بوعودهم بقوله في كتابه إلى حكومته في 12 يوليو 1808: «إن شروط الاتفاق الذي تم بينهم وبين محمد علي تتطلب وجود ثقة متبادلة بين الطرفين من المتعذر إنشاؤها؛ لأنه لم يكن في مقدور المماليك البكوات أن يجمعوا أمرهم على دفع الميري المطلوب منهم، فبالرغم من ضعفهم والانحلال الذين هم فيه، والذي يمكن القول بأنه يتفاقم يوما بعد يوم، فإنهم عاجزون عن التخلي عن فكرة التنازل عن امتلاك مصر لصالح العثمانلي.»
وكرر محمد علي مطالبتهم بدفع الميري، ولكن دون جدوى، وظل الحال على ذلك حتى شهر سبتمبر، فيذكر «سانت مارسيل» في 21 سبتمبر «أن الصلح مع البكوات لم يتم دعمه وتأييده، ومع ذلك فكل شيء هادئ في الصعيد، ولو أن البكوات يرفضون دفع الميري عن إقطاعاتهم، ودفع الميري كما هو معلوم الشرط الأساسي لهذا الصلح»، فلم يكن في وسع البكوات بالرغم من عدم إذعانهم أن يقاوموا حكومة محمد علي أو أن يجبروه على تركهم وشأنهم، والعلة في ذلك انقساماتهم وخلافاتهم، حتى إن المرادية طردوا سليمان كاشف البواب وأربعة من الكشاف من الصعيد، فحضر هؤلاء إلى القاهرة في ديسمبر لاجئين إلى الباشا، فرحب هذا بهم، وخلع على سليمان وأعد له دارا لسكناه.
وكان واضحا أن استمرار الحال على هذا المنوال متعذر، ولا معدى عن لجوء الباشا إلى وسائل أخرى لإرغام البكوات على تنفيذ شروط الصلح الذي سبق أن وافقوا عليه ثم راحوا ينقضونه، وكان محمد علي قد أمهلهم مرة أخرى، وآخرها إبان جولته في الوجه البحري في رحلته التي سبق ذكرها، والتي استغرقت من أواخر أغسطس إلى أواخر سبتمبر 1808، وكانت عودته منها يوم 22 منه، فلما علم يوم وصوله أن البكوات لا يزالون ممتنعين عن دفع المال والغلال (الميري) بالرغم من تكرار الطلب عليهم أن يفعلوا، أمر بتجهيز حملة ضدهم، وشرع يستعد لها.
وسبب إصرار الباشا على إلزام البكوات الوفاء بعهودهم ودفع الميري نقدا أو عينا أن الباب العالي استمر يطالبه بإنفاذ الإمدادات المطلوبة لحرب الوهابيين، وقد تقدم كيف أن محمد نجيب كتخدا الباشا في القسطنطينية كتب إليه منذ 17 ديسمبر 1808، أن ترتيبات الحملة المرسلة ضد الوهابيين قد انتهت، وذلك بإسناد سر عسكرية الحجاز أو قيادة الحملة العامة مع إيالة الحبشة إلى الصدر الأعظم الأسبق يوسف ضيا باشا، وأنه عند تحرك محمد علي من مصر عندما يتحدد موعد تحرك يوسف ضيا المنتظر حدوثه قريبا في السنة القادمة (1809) يجري حينئذ ما يلزم اتخاذه من إجراءات لإحالة إيالة أو ولاية جدة إلى محمد علي، فكان لزاما على الباشا أن يصر على تحصيل الميري من البكوات حتى يتسنى له الاستعداد للخروج إلى الحجاز. (4) البكوات يطلبون الصلح
ولكن حتى شهر مارس 1809، لم يكن البكوات قد أوفوا بعهودهم، بل استمروا يسعون للتنصل من التزاماتهم، وخيل إليهم أن في استطاعتهم التأثير على الباشا بالهدايا وبذل الوعود الطيبة فحسب حتى يعدل عن تشدده، فأوفدوا إليه رضوان كتخدا البرديسي، ومعه أجوبة وهدية وفيها خيول وجوار وعبيد وسكر وخصيان، وكان الباشا حينئذ عند الترعة الفرعونية منهمكا في سدها منذ منتصف شهر فبراير، فقابله رضوان كتخدا البرديسي هناك، ولكن بدلا من نزوله عن عزمه «اغتاظ الباشا وقال: أنا لست أطلب إحسانهم وصدقاتهم، حتى إنهم يضحكون على ذقني بهذه الأمور، وحيث إنهم لا يرجعون عن الكامن في رءوسهم فلا بد من خروجي إليهم ومحاربتهم، وأرسل إلى من بمصر من الأكابر يأمرهم بالبراز والخروج، فخرج حسن باشا وصالح آغا قوج وطاهر باشا وأحمد بك والكثير من أعيانهم بعساكرهم، وعدوا إلى بر الجيزة ونصبوا وطاقهم وخيامهم، وحضر أيضا نعمان سراج باشا من عند إبراهيم بك، وقابل الباشا على الترعة، فلم ينفع حضوره أيضا، فلم يسمع له قول، ورجع مزيفا.
وعندئذ لم يزل رضوان كتخدا يلاطفه حتى توافق معه على وعد، مقدار مسافة ذهاب الجواب ورجوعه أياما معدودة.»
ورجع الباشا بعد ذلك إلى القاهرة، وفي 18 مارس 1809، اهتم بإخراج التجريدة إلى الصعيد، «فأخذ في التشهيل والخروج، واستمر انتقال العساكر إلى البر الغربي، وأخذ يستحث في المطلوبات وخروج الخيام وجمع المراكب، وسافر قبودان بولاق إلى جهة بحري لجمع المراكب، وفرضوا على القرى غلالا وجمالا.»
وأزعجت هذه الاستعدادات بكوات الصعيد أيما إزعاج، وحاولوا إثناء الباشا عن عزمه على محاربتهم، وسؤاله أن يمهلهم بعض الوقت للوفاء بالتزاماتهم، فأوفدوا إليه علي بك أيوب ورضوان بك البرديسي (وهو غير رضوان كتخدا البرديسي) فحضرا إلى القاهرة يوم 22 مارس، «وطلعا إلى القلعة، وتقابلا مع الباشا، وانخضع له علي بك أيوب، وقبل رجله وترجى عنده في عدم خروج التجريدة، وكلمه في أمر الغلال المنكسرة والجديدة وعلى أنهم يقومون بدفع الغلال القديمة بالثمن، والجديدة بالكيل، وليس عندهم مخالفة والقصد الإمهال إلى حصاد الغلال، فقال الباشا: إنهم إذا حصدوا الغلال أخذوها وفروا إلى الجبال.»
واستمر المندوبان يتوسلان للصلح وعدم خروج الحملة إلى الصعيد، مدة أربعة أيام بتمامها، وراقب القاهريون باهتمام زائد سير المفاوضات وقد تاقت نفوسهم لنجاحها وإتمام الصلح؛ «لما يترتب على استمرار العداء بين الباشا والبكوات وما يحصل من الفساد وأكل الزروعات وخراب البلدان، فإن الجند أكلوا في الأربعة أيام التي ترددوا فيها بالجيزة نيفا وخمسمائة فدان، ولما أشيع بالجهة القبلية خروج العساكر للتجريدة انزعج الناس وألسوا من زروعاتهم، وخرجوا من أوطانهم على وجوههم لا يدرون أين يذهبون بأولادهم ونسائهم وقصاعهم، وتفرقوا في مصر (القاهرة والبلاد البحرية)؛ ولذلك فإنه عندما أشيع الصلح في 25 مارس فرح الناس واستبشروا بذلك، وعندما تبين لهم كذب ذلك في اليوم التالي وأشيع خروج العساكر ثانيا انقبضت النفوس ثانيا وبات الناس في نكد، وطلبت السلف من المساتير والملتزمين وكتبت الدفاتر وحولت الأكياس، وانبث المعنيون للطلب.»
على أن الطمأنينة عادت إلى النفوس عندما بطل أمر التجريدة يوم 27 مارس، وتوصل المندوبان إلى عقد الصلح مع الباشا على شروط، وهي: أنهم؛ أي البكوات التزموا بتأدية ثلث ما عليهم من غلال الميري، وقدره مائة ألف إردب وسبعة آلاف إردب، بعد مناقشات ومحققات، والذي تولى المناقشات معهم مساعد الباشا: شاهين بك الألفي، وعلى أن يدفع البكوات الميري سنويا وقدره ثلاثمائة ألف قرش عثماني، وأعطوا مهلة واحدا وثلاثين يوما، وغادر القاهرة إلى الصعيد علي بك أيوب ورضوان بك البرديسي بعد أن أكرمهما الباشا وخلع عليهما، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته من الإسكندرية في 13 أبريل، أن بكوات الصعيد وقد تفاوضوا من جديد مع الباشا، فإن التفاهم لا يزال قائما بين الطرفين.
ولكن منذ 29 أبريل راح «دروفتي» يكتب من القاهرة: «أن موعد انتهاء الهدنة قد قرب ولم يبق سوى أيام قليلة على انتهائها، ومع أن كلا الطرفين (الباشا والبكوات) يجدان في التسلح، ففي وسع المرء الاعتقاد بأن تقرير الصلح لا يزال ممكنا»، وأن «دروفتي» كان لا يؤمن في قرارة نفسه بأن السلام سوف يسود بين الفريقين، ولكن كان مبعث تفاؤله ما أظهره الباشا من تساهل، وموافقته على مد أجل الهدنة.
وحقيقة الأمر أن الباشا أمهل البكوات ثلاثة شهور، ودأب البكوات على المراوغة، ونفذوا من الاتفاق شطره المناسب لهم، فحضر في 23 مايو إلى القاهرة مرزوق بك بن إبراهيم بك وقاسم بك سلحدار مراد بك وعلي بك أيوب، وحضر معهم سليما آغا مستحفظان، ولو أن هذا الأخير مذكور في الحضور، بل كان منجمعا وممتنعا عن التداخل في هذه الأحوال، وكان سبب حضوره أن زوجته توفيت وأراد أخذ تركتها ومتاعها ومتاعه الذي عندها وحصصها، ولكنه وجد الباشا استولى على ذلك وأخذ المتاع والمصاغ والجواهر والعقار وأخذ الحصص وحلوانها، وذلك بيد محمود بك الديودار، فلما حضر سليم آغا لم يجد شيئا، لا دارا ولا عقارا ولا نافخ نار فحضر إليه محمود بك الديودار والترجمان وأخذا بخاطره وطمناه وأخبراه أن الباشا سيعوض عليه ما ذهب منه وزيادة وزرعا له فوق السطوح، فلم يسعه إلا التسليم.
ومضى شهر يونيو، ولم يوف البكوات بعهودهم، وفي 28 يونيو غادر القاهرة إلى الصعيد علي بك أيوب وسليم آغا مستحفظان، وبقي مرزوق بك وقاسم بك المرادي. (5) البكوات ينقضون الصلح مرة ثانية
ثم انقضى شهر يوليو والنصف الأول من شهر أغسطس، دون أن يفي البكوات بعهودهم، فهم لم يدفعوا المطلوب منهم عن السنة التي تم الاتفاق عليها، وقاربت السنة التالية الانتهاء كذلك دون أن يبدو منهم ما يدل على رغبتهم في الدفع؛ ولذلك فقد قرر الباشا مناجزتهم، وكتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في 21 أغسطس أن المفاوضات بين محمد علي والبكوات لم تثمر الثمرة المنشودة، ويعتزم الباشا الآن إرسال جيش للاستيلاء على القرى والمدن الواقعة على ضفتي النيل، ولا يرى «دروفتي» في هذه العملية أية صعوبة؛ نظرا لارتفاع مياه النهر الذي يحرم المماليك من استخدام فرسانهم، ويستعد كذلك البكوات للذهاب إلى القرى المجاورة للصحراء، وسوف يكون وقت اشتباك القوتين عند انخفاض مياه النهر وانحسارها عن الأراضي القريبة منه.
والواقع أن عديدين وقت إبرام الاتفاق اعتقدوا أن البكوات لن يوفوا بالتزاماتهم بالرغم من الاعتدال الذي أظهره الباشا وعدم تعنته معهم، فقد كتب «دروفتي» نفسه من القاهرة في 9 أبريل: «إن هذا الاتفاق المبرم بين الباشا والبكوات شأنه - كما سبق أن أوضح ذلك في تقرير لحكومته بتاريخ 10 يناير 1809 - شأن كل ترتيب مثالي لا يستند على أساس أو نظام معين، ولا يوجد أي ضمان لتنفيذه، وصفوة القول هو مثال لذلك الفشل الذريع الذي لا مناص من ترتبه على كل مفاوضات لا تقوم على شيء من المنطق والواقع؛ ولذلك فإن البكوات عند كتابة هذا التقرير قد خرقوا المعاهدة ولم يوفوا بأي عهد من عهودهم بدعاوى لا يرى من المفيد ذكرها.»
ولقد استطرد «دروفتي» وقتئذ فقال: «إن مفاوضات جديدة قد بدأت، وانتهت منذ شهر إلى تقرير هدنة مدتها شهر واحد، ويعتقد الباشا في احتمال الوصول إلى تفاهم مع البكوات، ومركزه يوجب عليه الرغبة في الوصول إلى هذا التفاهم، والباشا يرجو أن يقبل البكوات مقترحاته الأخيرة.» وسرد «دروفتي» تفاصيل هذه المقترحات فيما لا يختلف عما ذكرناه عنها، ثم أنشأ يقول: «وما طلبه الباشا من البكوات كان معقولا وفي حدود الاعتدال تماما، ولكن البكوات إذا قبلوا هذه التضحية الصغيرة فعلا، فإنهم يكونون قد فعلوا ذلك بأسى وألم بالغ؛ لأن هذا الاتفاق يضعهم موضع الخاضعين لسلطان الباشا، في الظاهر على الأقل، وزيادة على ذلك فإنهم لن يقبلوا هذا الاتفاق إلا بتحفظ ذهني دائما؛ أي مع التصميم على انتهاز أول فرصة سانحة لنبذه ظهريا والتحلل منه، ولكن أعداد المماليك - لسوء حظهم - لا تزال تقل وتنقص باضطراد يوما بعد آخر، وليس لديهم زعماء في قدرتهم اتخاذ قرارات من النوع الحاسم الخطير، ويفقد إبراهيم بك باستمرار منزلته عند أتباعه وصغار البكوات بسبب شيخوخته، ويقل اعتباره في أعينهم بدرجة تقدمه في السن، وبيت مراد والبرديسي منقسم إلى أحزاب بدرجة عدد صناجقه - وهؤلاء الأخيرون كثيرون - حتى إن الواحد منهم لا يتجاوز عدد مماليكه الستة، وبمعسكر شاهين بك الألفي، خليفة الألفي الكبير حوالي الاثني عشر من البكوات، زد على ذلك ما يشاع من أن المماليك في هذه الظروف يستمعون لنصح أشخاص يهمهم في واقع الأمر أن تشل حركتهم.»
ولقد أخطأ البكوات بعدم الوفاء بعهودهم خطأ كبيرا، ليس فقط لأنهم كانوا بسبب انقساماتهم وخلافاتهم ضعافا، ولا قدرة لهم في ظروفهم التي ذكرها «دروفتي» على مقاومة محمد علي، بل ولأن الباشا في أبريل 1809 والشهور القليلة التالية، كان قد بسط سلطانه تماما على القاهرة، وعلى الوجه البحري بأجمعه، حتى إن ما حدث من ازدياد استقرار حكومته لم يلبث أن ظهر أثره في إنعامه بسلطته الخاصة على ولديه إبراهيم وطوسون برتبة الباشوية، وخصص لكل منهما عددا من الجند والحرس يتناسب مع مركزه، واستقدم سائر أفراد أسرته من «قولة» وأسرات أعوانه - مما سبق تفصيله كله - الأمر الذي دل على اطمئنان محمد علي لنفوذه وسلطانه في باشويته من جهة ، وحرصه على اتخاذ الوسائل التي تكفل تأكيد هذا النفوذ والسلطان من جهة أخرى، لما تنطوي عليه هذه الخطوات من إظهار أن أسرته صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، وتعويد الأهلين على انتظار استقرار حكومته في مصر، وحتى يقتنع البكوات المماليك أنفسهم بأن الحكم باق في يده.
وفضلا عن ذلك، فقد فرغ الباب العالي أخيرا من وضع الخطة اللازمة لمحاربة الوهابيين، وقد شاهدنا كيف أبلغ محمد علي في 6 مايو 1809 نبأ تعيين يوسف ضيا نهائيا قائدا عاما لعسكر الحجاز، على أن يتحرك سليمان باشا والي بغداد من جهة الحسا والدرعية، وأن يتحرك محمد علي للهجوم على جدة وينبع، فيسرع يوسف ضيا بالزحف عند حركتهما، وأمام هذه التبليغات وخروج مشروع حملة الباب العالي ضد الوهابيين إلى حيز الوجود لم يعد هناك مناص من إرغام البكوات على الخضوع والوفاء بالتزاماتهم عندما توقع الباشا أنه سوف يضطر بدوره إلى إرسال جيشه إلى الحجاز عاجلا أو آجلا، وكان الباشا علاوة على ذلك يعتمد على استطاعته إذا تم الصلح مع البكوات أن يلحق فرسانهم بجيشه الخارج إلى الحجاز.
أضف إلى هذا أن محمد علي كان يتوقع انتهاء الحرب قريبا بين فرنسا والنمسا في صالح فرنسا (وقد وقعت النمسا - كما عرفنا - صلحا منفردا مع الإمبراطور نابليون في شونبرون
Schönbrünn - صلح فينا - في 14 أكتوبر 1809)، فكان من رأي محمد علي أن خروج النمسا من الميدان وترك إنجلترة تتحمل العبء الأكبر من النضال وحدها ضد فرنسا سوف يزيد من مكانة ونفوذ فرنسا في القسطنطينية ويمكنها من استمالة الباب العالي لإعلان الحرب على إنجلترة، ومع أن هذه ظلت تبذل جهدها للحيلولة دون ذلك ولعقد محالفة بين تركيا والنمسا وإنجلترة ضد فرنسا على النحو الذي سبق لنا توضيحه، فقد ظل محمد علي في شهري أغسطس وسبتمبر 1809 يتوقع فشل المفاوضات بين إنجلترة وتركيا لعقد المحالفة المنشودة بسبب انتصارات الإمبراطور في معركتي «إكموهل»
Echmühl
في 22 أبريل 1809، و«واجرام»
Wagram
في 9 يوليو 1809، بل توقع أن تعلن تركيا الحرب على إنجلترة، واعتقد أن الإنجليز عند قيام الحرب سوف يبادرون باحتلال مصر تأمينا لممتلكاتهم في الهند ضد فرنسا، وكان من المنتظر في هذه الحالة أن يحاول الإنجليز الاعتماد على البكوات المماليك في تأييد حملتهم على مصر، وفي هذه المرة سوف يبذلون قصارى جهدهم لإقناع البكوات بالتعاون الفعلي معهم، وعدم الاكتفاء بموقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر»، ولما كان البكوات قد أخلوا بعهودهم مع الباشا ولم ينفذوا اتفاقهم معه، وظلوا معتصمين بالصعيد، فقد توقع محمد علي أن يتعاونوا في هذه المرة مع الإنجليز، ووجب عليه - لذلك - أن يفرغ من إخضاعهم لسلطانه قبل تحقق هذه الأخطار التي توقعها، وذلك إما سلما بالاتفاق معهم واستمالتهم إلى الحضور للقاهرة والإقامة بها تحت إشرافه ومراقبته، وإما حربا بقتالهم وهزيمتهم وسحق قواتهم تماما، وإرغامهم بذلك إرغاما على الخضوع له والإذعان لطاعته.
وعلى ذلك فقد شرع منذ منتصف شهر أغسطس 1809 يرسل قواته إلى الصعيد، فخلع في 14 منه على ثلاثة من الأجناد المصرية (المماليك) المنسوبين لسليمان بك البواب، وقلدهم صناجق وأمراء وضم إليهم عساكر أتراك وأرنئود ليسافر الجميع إلى الجهة القبلية، ثم إنه عين للسفر أيضا أحمد آغا لاظ، وصالح قوج، وبونابرتة (الخازندار) وحسن باشا وعابدين بك، فارتجت البلد، وطلبوا المراكب، وفي 21 أغسطس غادر القاهرة أحمد آغا لاظ وصالح قوج، خرجوا بعساكرهم ونزلوا في المراكب، وذهبوا إلى قبلي، وفي 30 أغسطس سافر من كان متأخرا إلى الجهة القبلية، ولم يبق منهم أحد.
وتقدم الجيش الزاحف على الصعيد، في الأيام الأولى من شهر سبتمبر، وعجز البكوات عن المقاومة، فصار المماليك يفرون، في كل مكان يظهر فيه جنده، تاركين شاطئ النيل، ملتجئين إلى الجبال في جرجا وأسيوط للتحصن بها، ورأى الباشا في تقهقر البكوات المستمر دليلا على ضعفهم وخوفهم، أو رغبتهم في حقن دمائهم، وتأكد لديه أن وجوده على رأس جيشه سوف يفضي إلى تسليمهم وخضوعهم السريع معتمدا على قدرته أثناء وجوده بالصعيد على إشاعة الفوضى في صفوفهم، وزيادتها حدة على حدتها، فيتسنى له بفضل ذلك حملهم على الاتفاق معه، أو على الأقل إضعافهم بسبب زيادة هذا الانقسام والحيلولة دون تكتلهم ضده ، فقرر اللحاق بجيشه، ثم إنه اعتزم أن يصحب معه في هذه الحملة الكبيرة ولديه إبراهيم وطوسون، ثم شاهين بك الألفي، حتى يوسطه في المفاوضة مع البكوات عندما يجد هؤلاء أن لا مناص لهم من قبول الاتفاق معه والوفاء بعهودهم.
وأطلع الباشا «دروفتي» على أسباب تجهيز هذه الحملة والغرض من إرسالها وذهابه لقيادتها بنفسه، فكتب القنصل الفرنسي إلى حكومته في 9 سبتمبر 1809: «أنه لما كان محمد علي يعتقد أن الحرب بين فرنسا والنمسا تقترب من نهايتها، ويتوقع أن يعلن الباب العالي الحرب على إنجلترة، فتعمد هذه حينئذ - كي تحول دون وقوع تهديد قد تتعرض له ممتلكاتها في الهند من جانب فرنسا - إلى محاولة الاستيلاء على مصر حتى تكون قريبة من ممتلكاتها هذه، فقد صار ضروريا أن يحطم الباشا قوة البكوات المماليك إذا أخفق في الوصول إلى اتفاق معهم، يضمن مؤازرة هؤلاء لجيشه ضد الإنجليز عند نزول حملتهم في مصر؛ وذلك لأن الباشا يخشى أن يترك البكوات في هذه المرة موقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر»، وأما الضمان لذلك فهو حضورهم للإقامة في القاهرة تحت ملاحظته.»
ولعل هذا الاهتمام البالغ الذي ظهر من ناحية الباشا بأمر هذه التجريدة، هو الذي حدا بالشيخ الجبرتي أن يعزو خروج الباشا نفسه وولديه وكبار قواده إلى «وصول أخبار عن التجريدة التي خرجت منذ أواخر أغسطس أزعجت الباشا فاهتم اهتماما عظيما وقصد الذهاب بنفسه، ونبه في جميع كبراء العساكر بالخروج، وألا يتخلف منهم أحد، حتى أولاده إبراهيم بك الدفتردار وطوسون بك، وأنه هو المتقدم عنهم في الخروج يوم الخميس (13 سبتمبر)، واستعجل التشهيل والطلب.»
وفي 13 سبتمبر سافر الباشا إلى الجهة القبلية فعلا، وتبعه العساكر وأقام كتخدا بك محمد آغا لاظ، قائممقامه، واستقر هذا بالقلعة، وفي 23 سبتمبر سافر حسن باشا وعساكر الأرنئود، وبعد يومين خرجت الدلاة والأرنئود وباقي الأجناد والعسكر وبلغ جيشه حوالي الستة آلاف مقاتل، فلم يلبث أن ظهر التردد والانقسام في صفوف البكوات.
وكان هؤلاء قد اعتقدوا أن الباشا لن يستطيع تجهيز هذه الحملة الكبيرة ضدهم، والخروج بنفسه لقيادتها؛ لما يعرفونه من حاجته الملحة إلى المال، ولتوالي فرار الجند من جيشه بسبب عدم دفع مرتباتهم المتأخرة لهم، ولكن سرعان ما تبينوا خطأهم وانقسموا في ترددهم إلى فريقين: أحدهما أراد الاتفاق، والآخر صمم على القتال، ولكن هذا التردد والانقسام كانا كافيين وحدهما لأن يجعلا إقدامهم على الحرب مستحيلا. (6) البكوات يقبلون الصلح ويضمرون العداء
وعلى ذلك ما إن وصل الباشا إلى أسيوط، حتى عرض على كل واحد من البكوات مقترحات منفصلة للصلح، وتعذر على هؤلاء أن يجمعوا كلمتهم على أمر، فطلب عثمان بك حسن وإبراهيم بك - وهما أكبر مناوئي الباشا إصرارا على عدم الصلح - الاتفاق معه، وكان عثمان حسن البادئ في توقيع اتفاق يوائم بين رغباته ومصلحة محمد علي وحذا حذوه آخرون، وقبل إبراهيم الصلح، وأوفد ابنه مرزوق إلى معسكر الباشا، وكان هذا تسليما سريعا بلغت أخباره القاهرة حثيثا، فتحدث الناس بروايات عن الباشا والأمراء المصريين وصلحه معهم، وأن عثمان بك حسن ومحمد بك المنفوخ ومحمد بك الإبراهيمي وصلوا عند الباشا وقابلوه، وأنه أرسل إلى إبراهيم بك الكبير ولده طوسون باشا، فتلقاه وأكرمه، وأرسل هو أيضا ولده الصغير إلى الباشا فأكرمه.
وفي هذه المرة لم يعرض الباشا على البكوات اتفاقا يترك لهم التمتع بإيرادات مديريات بأكملها كما كان يحدث في السابق، بل أصر على مطالبتهم بدفع الميري، بل وكل الإتاوات والفرض الاستثنائية كذلك، شأنهم شأن سائر الرعايا في باشويته، وتشبث بوجوب تركهم الصعيد والحضور إلى القاهرة للإقامة بها، وظهر إلحاح محمد علي في التمسك بهذا الشرط الأخير؛ لأن بدونه لم تكن هناك فائدة ما من الاتفاق مع البكوات الذين أبوا وهم بعيدون عن القاهرة على نكث عهودهم معه - نقول ظهر إلحاحه هذا لدرجة أثارت معارضتهم له - ولكنهم أرغموا في النهاية على قبوله كرها منهم (في 5 نوفمبر 1809) وطلبوا إمهالهم لتنفيذه ثلاثة شهور؛ لتسوية شئونهم في الصعيد فأجابهم الباشا إلى ما طلبوا.
وغادر محمد علي أسيوط فوصل القاهرة في 2 ديسمبر، قال الشيخ الجبرتي إنه وصلها في تطريدة فقطع المسافة من أسيوط إلى ناحية مصر القديمة في ثلاثين ساعة، وصحبه في هذه التطريدة ابنه طوسون وبونابرتة الخازندار وسليمان آغا وكيل دار السعادة سابقا، ثم بعد وصول الباشا بثلاثة أيام، وصلت طوائف العسكر وعظائمهم، وفي 8 ديسمبر، وصل حسن باشا وطوائف الأرنئود وصالح قوج والدلاة والترك، ووصل القاهرة كذلك شاهين بك الألفي، وصحبته محمد بك المنفوخ المرادي ومحمد بك الإبراهيمي، وهما اللذان حضرا في هذه المرة من المخالفين وتناقل الناس أن البواقي أخذوا مهلة لبعد التحضير. وحضر إبراهيم بن محمد علي وباقي العسكر في اليوم التالي.
وارتاح محمد علي للاتفاق الذي عقده مع البكوات في الصعيد، فكان أمله عظيما في أن البكوات سوف يوفون بعهودهم هذه المرة وسوف يحضرون إلى القاهرة فتنتهي بفضل ذلك مشاغله من ناحيتهم، وبعد يومين من وصوله كتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في 4 ديسمبر 1809، «أن الباشا قد أطلعه بعد عودته على نتائج حملته في الصعيد، ويبدو له مما وقف عليه من الباشا نفسه أن القسم الأكبر من البكوات قد قبلوا الحضور للإقامة إما بالجيزة وإما بالقاهرة، وأنهم قد خضعوا لدفع الميري والإتاوات الأخرى الاستثنائية التي يريد الباشا أن يفرضها على أملاكهم بالصعيد، مما ينهض دليلا على أن الباشا قد استطاع أن يحقق - على الأقل - جزءا من أغراضه التي سعى إليها عندما أرسل جيشه ضدهم، فقد أحضر محمد علي معه محمد بك المنفوخ، وهو من أكبر بكوات بيت مراد نفوذا، ويقول هذا الصنجق: إن إبراهيم بك وعثمان بك حسن وزملاءهما سوف يحضرون جميعا إلى القاهرة بعد ثلاثة شهور، وهي المدة التي أمهلهم بها الباشا حتى ينظموا شئونهم في الصعيد.»
ولكن «دروفتي » في هذه المرة أيضا كالمرات السابقة استمر يشك كثيرا في إمكان نجاح هذا الاتفاق، فقال في نفس رسالته هذه: «ومن المتعذر على المرء التسليم بقيمة هذه الاتفاقات والاعتماد عليها، ولو أنه من المحقق أن الباشا لم ينجح في استمالة محمد بك المنفوخ إلا بعد أن بذل له الوعود السخية ومناه الأماني العريضة؛ ولذلك فالوقت وحده كفيل بإعطاء فكرة صحيحة على هذا الترتيب (أو الاتفاق أو التسوية) الذي لا يجب أن ينظر إليه المرء على أنه معاهدة سلام أو عقود صفح شامل - على نحو ما يريد الباشا أن يصفه به - يفغر ما سلف بين الفريقين.»
ولقد صح ما توقعه «دروفتي».
ذلك أن البكوات عندما قبلوا صلح أسيوط لم يكونوا خالصي النية في قبوله، بل أجبروا عليه إجبارا لاقتناعهم بأنهم عاجزون عن معارضة الباشا ومقاومة جيشه، فوافقوا على شروط الباشا بنفس ذلك التحفظ الذهني الذي ألمع إليه «دروفتي» في رسالة 9 أبريل السالفة الذكر، وعقدوا العزم على التنصل من التزاماتهم، وحملهم انشغال الباشا المستمر بمسألة الحرب الوهابية، وتدبير المال وإنجاز الاستعدادات اللازمة للحملة المزمع إرسالها إلى الحجاز عاجلا أو آجلا، على الظن بأنه وقد قفل جيشه راجعا إلى القاهرة الآن، وتحمل الباشا نفقات جسيمة في إعداد التجريدة التي جاءتهم إلى الصعيد، لن يستطيع إرسال حملة جديدة عليهم، وأن بوسعهم في هذه الظروف المواتية إذا أن ينكثوا بعهودهم، لا سيما وأنهم ما كانوا يريدون بتاتا الحضور إلى القاهرة ووضع أنفسهم تحت رقابة الباشا وإشرافه.
فلم يحضر إلى القاهرة - بعد الفوج الأول الذي جاء مع محمد علي وقواده - إلا نفر قليل من المماليك، ولم يتحرك أحد من البكوات، بل ظلوا قابعين في أماكنهم، بينما شرع البكوات الذين جاءوا إلى القاهرة يتذمرون من شروط الصلح المجحفة - في نظرهم - ولو أنهم لم يجرءوا على إعلان تذمرهم وسخطهم، وتزايد تذمرهم وشعورهم بالسخط على الصلح الذي قبلوه مرغمين، حتى إنهم صاروا يتآمرون على حياة محمد علي، ولم يكن خافيا على الباشا حالهم بفضل الأرصاد والعيون التي بثها حولهم، ولكنه آثر التريث والاصطبار عليهم، لعل زملاءهم الذين لا يزالون بالصعيد ينفذون ما التزموا به ويحضرون إلى القاهرة، ويلقون جميعا من معاملة الباشا الطيبة ما يخمد أحقادهم، وينهي هذه المؤامرات.
وكان أثناء وجود الباشا بالسويس، التي سافر إليها في 25 ديسمبر 1809؛ ليكشف على قلاع القلزم أن نمى إليه أن البكوات المقيمين بالقاهرة والجيزة يكيدون له وينتوون القبض عليه واختطافه في طريق الصحراء عند عودته من السويس، فقطع زيارته فجأة وحمله هجين إلى القاهرة في سرعة كبيرة، ولا أحد معه غير خادم واحد، فبلغ القاهرة في ليلة 31 ديسمبر، وأفسد على المتآمرين بعودته المفاجئة والسريعة خطتهم، ولم يبح الباشا بالسر الذي عرفه، ولم يغير مسلكه مع البكوات بل ظل مبتسما، ثم تعرض لخطر مؤامراتهم مرة أخرى، فأطلقت عليه ذات يوم رصاصة أخطأته وقضت على أحد ضباطه، ولكنه آثر الصمت على هذا الحادث أيضا وأوصى بالسكوت وصار يحتاط لنفسه، وكان من ضروب الاحتياط أنه اهتم بشق طريق بين القلعة وجبل المقطم، اعتزم أن يقيم في نهايته حصنا صغيرا يستطيع منه عند الحاجة إبقاء المواصلات مفتوحة بينه وبين الأرض الممتدة في الصحراء خلفه، حتى يسهل عليه الانسحاب إلى السويس.
وكثرت المراسلات بينه وبين بكوات الصعيد، وأوفد إليهم ديوان أفندي وغيره يطلب منهم تنفيذ الاتفاق، والحضور إلى القاهرة، والبكوات يطلبون إمهالهم في الحضور فترة أخرى، واستمر الحال على ذلك طوال شهري يناير وفبراير من عام 1810، وفي 10 فبراير رجع ديوان أفندي من ناحية قبلي، وصحبته أحمد آغا شويكار، فأقاما بمصر أياما، ثم رجع «ديوان أفندي» بجواب إلى الأمراء القبالى، وحتى أواسط مارس، لم تسفر هذه المحاولات عن شيء، فأبلغ «دروفتي» حكومته في 12 مارس 1810 «أن البكوات لم ينزلوا بعد من الصعيد، بل طلبوا من الباشا مهلة جديدة بدعوى انشغالهم بالحصاد لوفرة المحصول وفرة كبيرة؛ ولأنهم لو تركوه وحضروا إلى القاهرة الآن لتلف»، الأمر الذي يدل في نظر «دروفتي» على أن المفاوضة الراهنة ليست أمينة وصادقة كسابقتها.
ولكن الباشا أجابهم إلى رغبتهم، فأعطاهم مهلة شهرا آخر، ثم عاد البكوات يطلبون مهلة أخرى، ولكن في هذه المرة كانت قد عظمت شكوك الباشا في أمرهم، وكان لذلك أسباب عدة، منها حادث الرسول الفرنسي «كادر» الذي أبلغ الوكلاء الإنجليز الباشا عنه أنه يحمل خطابات من الحكومة الفرنسية إلى البكوات، وقد ذكرنا كيف وقعت مشادة عنيفة في 19 أبريل 1810 بسبب ذلك بين محمد علي و«دروفتي»، أضف إلى هذا أن العملاء الإنجليز جددوا الآن مسعاهم بنشاط زائد مع شاهين بك الألفي.
وقد بسط «دروفتي» قصة هذه المساعي، وتآمر شاهين مع عملاء الإنجليز منذ وصوله إلى القاهرة مستأمنا، وذلك في رسالة له إلى حكومته في 12 مارس 1810، فكان مما قاله «دروفتي»: إنه بلغه من مصدر موثوق به، ومتصل بالباشا وشاهين الألفي، أن «بتروتشي» منذ أن حضر شاهين إلى القاهرة، صار يجد في المسعى لتستأنف العلاقات القديمة بين شاهين الألفي وبين الحكومة الإنجليزية وقد نجحت هذه المساعي لدى شاهين، فراح هذا في أواخر عام 1808 يطلب من الإنجليز إنفاذ جيش إلى مصر يفوق في عدده وعدته جيش الجنرال فريزر السابق، ويعد بالانضمام فورا إلى هذا الجيش بمجرد نزوله إلى الإسكندرية، جالبا معه قبائل العربان وسائر أعوانه، وإذا تعذر مجيء حملة بريطانية فهو يطلب ثمانية ملايين قرش تركية يستخدمها في إغراء جند الباشا على تركه والانحياز إليه، ثم في تحريض الأهلين على الثورة، حتى إذا نجح في ذلك، استولى على حكومة القاهرة، وأبقوا على مظاهر الولاء والخضوع للباب العالي، بينما تصبح الحكومة تابعة فعلا وحقيقة لإنجلترة وتحت إشرافها.
وانخدع شاهين بوعود «بتروتشي»، وكان تحت تأثيره أن كتب في 9 أغسطس 1809 رسالة إلى «كولنجوود» - أمير البحر الإنجليزي للقوات البريطانية في البحر الأبيض - وهي رسالة طويلة تدل على أن المستأمنين من البكوات، والذين كانوا في طليعة من اصطلحوا مع محمد علي، وقبلوا العيش في كنفه وتحت رعايته، وبالغ هذا في إكرامهم، كانوا يتآمرون على ملكه، ويعتمدون على مساعدة الأجنبي في تمكينهم من طرده من باشويته، وأن البكوات سواء منهم الذين تطلعوا لمؤازرة الإنجليز كشاهين والألفية، أو الذين صادقوا الفرنسيين ونشدوا مساعدتهم له، كانوا بعيدين كل البعد عن التفكير في إنشاء حكومة مصرية أو أن الاستقلال هو ما اعتزموا بلوغه وتأسيسه، بل إن كل ما دار في أذهانهم كان لا يعدو الاستئثار بالنفوذ المطلق في البلاد واسترجاع ذلك السلطان القديم الذي أتاح لهم في العهد الغابر الطغيان والاستبداد بالأهلين، واستنزاف موارد البلاد لإنفاقها على شئونهم ومتعهم الخاصة، الأمر الذي رسخ في أذهانهم أن لا سبيل إلى تحقيقه طالما بقي محمد علي في الولاية.
استهل شاهين كتابه إلى «كولنجوود» بذكر مظاهر الشرف والمزايا التي أغدقتها الحكومة الإنجليزية على سلفه محمد بك الألفي، ثم طفق يقول: إن الرغبة التي يمني نفسه ببلوغها، والتي تجعله يرتسم خطوات الألفي الكبير، وتحدوه إلى تسطير رسالته هذه حتى ينقلها السيد «فرنسيسكو بتروتشي» الوكيل البريطاني إلى «كولنجوود»، إنما هي الظفر بحماية إنجلترة القوية، وأنه لذلك سوف يبسط عددا من المقترحات التي يوائم العمل بها بين بسط هذه الحماية وتحقيق مصالحه، ثم أخذ يذكر مقترحاته قائلا:
إنه لطبيعي أن يبغي كل إنسان استرجاع أملاكه التي نهبت منه، وتعلمون أن المماليك يحكمون مصر من أزمان بعيدة، وأعتقد بوصفي خليفة شرعيا لهؤلاء أن من حقي طلب الحكم والاستيلاء على حكومة هذه البلاد، ولكني عاجز عن ذلك إلا إذا لقيت تأييدا من حكومة بريطانيا التي أضع نفسي تحت حمايتها، وبالشروط التي تمليها إنجلترة نفسها، والشعب معي، وأما المماليك من حزب البرديسي المنحاز إلى فرنسا، فلا يقدرون منذ وفاة رئيسهم عثمان البرديسي على معارضتي، بل على العكس من ذلك هم مستعدون للانضمام إلي، وينطبق هذا - أي الاستعداد للانحياز إلى جانبي - على جميع الأرنئود تقريبا والعثمانلي بشريطة أن أستطيع دفع ما لهم من مرتبات متأخرة، وهم الذين كانت أمنيتهم إشباع نهمهم المألوف، فوجدوا نهما أشد عنفا وقوة يحطم هذه الأمنية، هو نهم الباشا الحالي محمد علي الذي يحظى بمعاضدة وحماية الفرنسيين.
وسوف يكون من الممكن جدا تنفيذ المشروع الذي تم وضعه بالاتفاق مع السيد البطروشي «بتروتشي» وكيل جلالة ملك بريطانيا في هذه الديار، عندما أتسلم مبلغا من المال في حدود الخمسة عشر ألف كيس تقريبا، ولا يجب الاعتقاد بأن هذا مبلغ جسيم، تستكثر إنفاقه بريطانيا العظمى، وإعطاءه لي؛ لأني ما تقدمت بطلب هذا المال الآن عن طريق سعادتكم، إلا وفي عزمي قطعا وبكل تأكيد أن أقوم بسداده في صورة سلع من نتاج البلاد، وفي نظير أن أخضع خضوعا تاما أنا وكل ما لدي من قوات لأوامر الحكومة البريطانية ونواهيها، حتى ولو اقتضى ذلك حياتي ثمنا له، فلن أتردد ولن أتوانى لحظة في التضحية بها من أجل تأييد الحكومة البريطانية ومعاونتها على كل أعدائها مهما كانوا، وضد كل دولة مهما كانت، لا سيما ذلك العدو المنافس للإنجليز، والذي سوف يظهر بكل تأكيد عاجلا أو آجلا على شواطئ هذه البلاد بجحافله.
أما إذا لقيت تأييدا من بريطانيا العظمى، فأعطتني النجدات التي أطلبها، فسوف يتسنى لي أن أصبح في وضع يمكنني من مقاومة أعدائي بالقوة والاقتدار المعروفين عن المماليك الذين يكونون عندئذ من جماعتي وحزبي، وفضلا عن ذلك فإني سوف أستطيع جذب كل ما يمكن أن يجذبه المال من أجناد الأرنئود والعثمانلي، وجلب أجناد آخرين من الحبشة ودارفور وسنار، ثم جذب العربان الذين في مصر أيضا.
أضف إلى هذا كله، أن الباب العالي سوف يسعده - ولا ريب - أن يرى مصر قد دانت لرجل سوف يدفع له الخراج المعروف بالميري، ثم إن هذا العمل سوف يكفل إعادة تسيير قوافل الحج إلى مكة المكرمة، ومن بواعث ارتياح الباب العالي - بلا شك - سوف يكون ذلك العطف الذي تخصني به بريطانيا العظمى، وحمايتها التي أتمتع بها، ثم إني متمتع بحماية ورعاية الوزراء العثمانيين جميعهم في ديوان القسطنطينية، ومن بين هؤلاء أحد صنائع سلفي محمد بك الألفي، الذي لدي ما يجعلني أشيد بمقدار الثقة التي يتمتع بها حاليا في الديوان، وهذا الإنسان يشغل منصب الطواشي الأول (الآغا) في الحريم السلطاني.
وأجرؤ على القول بأن توفر المال لدي سوف يجعل سهلا ميسرا شراء مماليك جددا يعاد بواسطتهم تأسيس طائفتنا على القواعد القديمة.
ومع ما ذكرته كله ، فإني أعود فأكرر أني قد اعتزمت قطعا خدمة الحكومة البريطانية دائما، وبناء عليه، فإذا أرادت بريطانيا العظمى أن يظهر أسطولها وجيشها في بلادنا مرة أخرى، فلسعادتكم أن تؤكدوا لحكومتها أني قد قطعت على نفسي عهدا من الآن في نظير إنفاقها هذا المبلغ المؤقت والمطلوب سلفا، بأن أخف طائرا بكل جماعتي وعربان القبائل المختلفة لنجدتها، وبأن أضع نفسي مع هؤلاء تحت أمر قائد القوات البريطانية، فنبذل دماءنا وأرواحنا، برضانا واختيارا في سبيل إعلاء شأن الأمة البريطانية وزيادة مجدها.
وأنه لما يبدو لي ألا غنى - لتحقيق مصلحة إنجلترة ذاتها - عن الأخذ - على الأقل - بواحد من الاقتراحين اللذين عرضتهما، وأما إذا شاءت بريطانيا العظمى أن تسلك طريقا آخر، أو أن تأتي عملا غير ما ذكرت، فالواجب يقتضيها حينئذ أن تسلم بفقدان كل نفوذ لها نهائيا في هذه المملكة.
وإذا أتيح لهؤلاء الظلمة (الفرنسيين) الذين أثقلوا بظلمهم كواهل العالم أن يضعوا أقدامهم في مصر، وأن يستولوا عليها، فلن يستعصي ذلك عليهم؛ لأن الشعب - وقد أنهكت قواه المظالم - سوف يخضع في يأسه لأي سلطان يفرض عليه ما دام هذا السلطان أخف وطأة عليه من ذلك الذي يبهظ كاهله اليوم، والذي لا سبيل إلى الانفكاك منه ...
هذه الرسالة الخطيرة، سلم شاهين الألفي صورة منها بعد الحوادث التي نحن بصددها بأكثر من عام إلى «دروفتي»، وفي مارس 1810، كان لا يزال «بتروتشي» وعملاء الإنجليز يترددون على شاهين، وصاروا يؤكدون له أن الباب العالي على وشك إعلان الحرب على بريطانيا، وأن هذه لديها حملة معدة للحضور إلى مصر، وكتب «دروفتي» في رسالته التي سبقت الإشارة إليها (في 12 مارس) «أن شاهين الألفي، إما لأنه لا يستطيع الاعتماد على وعود الإنجليز - التي هي دائما وعود عرقوبية ومزيفة - وإما لأنه يخشى أن يقع هو نفسه فريسة هذه المؤامرات ويذهب ضحية لها، عندما كان من المحتمل بلوغ أخبارها إلى محمد علي، لم يلبث أن أجاب هؤلاء الوكلاء الإنجليز، أنه عاجز في هذه اللحظة عن اتخاذ قرار بصدد ما يعرضونه عليه، وأنه يعد قطعا بالوصول إلى القرار إذا تطورت الظروف، التي يراد المفاوضة بشأنها بصورة حاسمة، لا سيما وأن ليس لديه ما يقوله عن محمد علي سوى الثناء عليه وإطرائه.»
فكان بسبب مخاوفه وبسبب الشكوك التي ساورته من ناحية البكوات أن بعث محمد علي إلى بكوات الصعيد يهدد بإرسال جيشه عليهم إذا هم امتنعوا عن الحضور فورا إلى القاهرة، وكان هؤلاء حتى آخر مارس لا يزالون في الصعيد، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته من الإسكندرية في 30 مارس: «أن البكوات من جماعة محمد بك المنفوخ مقيمون دائما بالوجه القبلي، ولو أنهم ملتزمون الهدوء والسكينة رغم رفضهم الحضور إلى الجيزة بالقرب من القاهرة حسب اتفاقهم القديم مع محمد علي، فلا شيء بسبب هدوئهم هذا يعكر صفو السلام الآن.» وفي 25 أبريل كتب «سانت مارسيل» مرة أخرى: «أن البكوات مقيمون دائما بالصعيد، والهدوء شامل في مصر والسلام مستتب، ولو أنه كان ينبغي عليهم أن يكونوا مقيمين الآن بالجيزة والجهات المجاورة لها حسب اتفاقهم مع محمد علي.»
ولم يجد البكوات بدا في النهاية من النزول من الصعيد إزاء تهديد محمد علي، ولا جدال في أنهم لم يمتثلوا لأمر محمد علي برضاء منهم، بل كانوا يضمرون الشر ويبغون الكيد له، وبدأت الأخبار تترا على القاهرة بأنه «قد تحركت همم الأمراء المصريين القبليين إلى الحضور إلى ناحية مصر (القاهرة) بعد ترداد الرسل والمكاتبات، وحضور ديوان أفندي ورجوعه، وحضور محمد بك المنفوخ أيضا، وبعد أن صار الباشا ينعم على كل من حضر منهم ويلبسه الخلع، ويقدم له التقادم ويعطيه المقادير العظيمة من الأكياس، حتى إنه كان أنعم على محمد بك المنفوخ بالتزام جمرك ديوان بولاق، ثم عوضه عنه ستمائة كيس، وغير ذلك.»
وفي 6 أبريل عرفت القاهرة أن البكوات وصلوا إلى ناحية بني سويف، ووصل في هذا اليوم القاهرة ذاتها كثير من أجنادهم المماليك، ولكن البكوات أنفسهم ظلوا متباطئين، وترددت الرسل بينهم وبين الباشا وحضر ديوان أفندي (إلى القاهرة) ثم رجع ثانيا إليهم، وذكر «دروفتي» في رسالته إلى حكومته من القاهرة في 28 أبريل ، «أنه عرف أن البكوات قد وصلوا إلى بني سويف، ومن المنتظر وصولهم إلى الجيزة حوالي منتصف شهر مايو، وقد جاءوا جميعهم، ما عدا عثمان بك حسن الذي بقي بالصعيد - كما يقولون - لمراقبة جيش يتألف من أربعة إلى خمسة آلاف رجل تركه الباشا من وقت رحلته الأخيرة، في قنا لتعزيز حاميتها وفي ميناء القصير.»
وأخيرا وصل البكوات إلى ناحية الرقق في 6 مايو، وأوائلهم وصلوا إلى دهشور، وخرج إليهم الأتباع بالملاقاة من بيوتهم وأحبابهم.
ولقي إبراهيم بك ترحيبا كبيرا، فذهب إليه مصطفى آغا الوكيل، وعلي كاشف الصابونجي وديوان أفندي، ثم الباشا، ثم في أثرهم طوسون ابن الباشا، وقدم له إبراهيم بك تقادم.
ولكن حتى هذا الوقت، لم يكن البكوات - وعلى رأسهم إبراهيم بك - قد رضوا بتنفيذ شروط الصلح الذي قبلوه في أسيوط، فبقي إبراهيم مقيما بوطاقه أياما وكثر ترداد المراسلات والاختلافات في الشروط. وفي 10 مايو حضر من قبله عثمان بك يوسف وصحبته صنجق آخر، فطلعا إلى القلعة وقابلا الباشا، ثم رجعا، وحضرا في ثاني يوم كذلك؛ 11 مايو، وفي هذه المرة وافق البكوات على الحضور إلى الجيزة، فخلع الباشا على مندوبيهما هذين خلعا وأعطاهما أكياسا، وأرسل إلى إبراهيم بك هدايا وإلى سليم بك المحرمجي المرادي أيضا. وفي 16 مايو 1810 وصل الجميع إلى الجيزة، ونصبوا وطاقهم خارج الجيزة. (7) البكوات ينقضون الصلح مرة ثالثة
ولقد تبين للباشا، منذ وصول إبراهيم بك وزملائه إلى دهشور، وكثرت الاتصالات بينهم وبين ديوان أفندي وسائر رجال الباشا - على النحو الذي أشرنا إليه - أن البكوات يضمرون سوءا، وأن لا ثقة لهم في محمد علي، وأنهم سوف يتحينون الفرص لنبذ التزاماتهم، فزاده هذا يقينا بضرورة الاحتياط منهم، وكان من بواعث قلقه أن كان بصحبتهم عربان كثيرون من الهوارة، وأنهم يستخدمون نفرا من هؤلاء عيونا لهم وأرصادا تتجسس على معسكر الباشا الذي كان منصوبا وقتئذ في شبرا، وقد جمع الباشا في هذا المعسكر جيشا من المشاة والفرسان، لم يلبث أن اضطر بسبب مخاوفه من البكوات إلى جلب قوات أخرى إليه، مما جعل بدوره البكوات - ولا سيما إبراهيم بك - يمعنون في عدم الثقة به، ويستولي عليهم القلق والانزعاج من احتياطاته هذه.
بل إن إبراهيم لم يلبث أن اتخذ من هذا القلق والانزعاج السائدين في معسكر البكوات، ذريعة لتحريك مخاوفهم من نوايا الباشا، وأخطر من ذلك، الكيد لمحمد علي، بمحاولة إغراء شاهين الألفي على نكث عهده مع محمد علي، وإغراء كبار رجال محمد علي نفسه بالتخلي عنه ومؤازرة البكوات ضده.
وكان الباشا منذ وصول البكوات إلى الجيزة قد استأنف سعيه لديهم وراح يبذل قصارى جهده لإقناعهم بالإقامة في القاهرة، وعرض عليهم أن يترك كل واحد منهم وكيلا عنه في الأقاليم التي كانت للبكوات بالصعيد، وأن يدفعوا العوائد الأميرية في أوقاتها، ويقدموا الغلال المطلوبة منهم، وذلك عن البلاد التي في عهدتهم، كما اشترط الباشا أن ينضم فرسانهم إلى فرسان جيشه الذاهب إلى الحجاز لاستخلاص الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، فكثرت الاتصالات بين البكوات وبين محمد علي، ولكن دون الوصول إلى نتيجة، وسبب هذا الفشل أن إبراهيم بك لم يكن يطمئن إلى أي اتفاق يعقد مع محمد علي ولا يريد اتفاقا معه.
وبدأ إبراهيم بك في إظهار مكنون نفسه، من اللحظة التي وصل فيها إلى الجيزة، فانتقد محمد علي، وشكا بمرارة من أنه لم يحتفل بإطلاق المدافع تحية لقدومهم، واعتبر ذلك تهوينا لأمره وتحقيرا لشأنه، فصار يقول: «سبحان الله! ما هذا الاحتقار؟ ألم أكن أمير مصر نيفا وأربعين سنة، وتقلدت قائممقامية ولايتها ووزاراتها مرارا وبأخرة صار محمد علي نفسه من أتباعي وأعطيه خرجه من كيلاري (مشيرا إلى عهد الحكومة الثلاثية في غضون 1803-1804) ثم أحضر أنا وباقي الأمراء على صورة الصلح فلا يضرب لنا مدافع، كما يفعل لحضور بعض الإفرنج.»
وانتهز إبراهيم فرصة وجوده بالقرب من شاهين بك الألفي، وقصر الأخير بالجيزة، فصار يسعى للتأثير عليه حتى يترك الباشا وينقض عهده معه، واستخدم إبراهيم في هذا المسعى عبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي المعروف بالطنبرجي، فزار شاهين الألفي، وأفلح المسعى عندما وعد إبراهيم بك شاهين بالرئاسة على بيت مراد مدى الحياة إذا هو انضم بفرسانه إلى فرسان البكوات الآخرين حتى يستطيعوا جميعا مقاومة محمد علي، وكان الظفر بالرئاسة على البكوات جميعهم سواء من بيت الألفي، وهو البيت الذي ينتمي إليه شاهين، أم من بيت مراد الذي يتزعمه عثمان بك حسن وإبراهيم بك نفسه من قديم، ثم عين محمد علي لرئاسته في الظروف التي ذكرناها سليم بك المحرمجي إغراء قويا لم يستطع شاهين مقاومته، كما صار إبراهيم يؤكد له أن محمد علي لا يبغي سوى القضاء على كل سلطة لهم والكيد لهم جميعا، ولا يسعى للصلح معهم إلا للغدر بهم، وهكذا أفلح رسول إبراهيم بك، عبد الرحمن الطنبرجي «وحول دماغه، واتفق معه على الانضمام إليهم والخروج عن الباشا.» ولا يشك «دروفتي» في أنه كان للوكلاء الإنجليز يد في انشقاق شاهين على الباشا؛ فقد ثابر هؤلاء - كما ذكر في كتابه إلى حكومته في 19 مايو 1810 - على تحريض شاهين، لإثارة الحرب الأهلية في البلاد كما هو شأنهم دائما، والدليل على أن أحد وكلائهم أكد لشاهين منذ حوالي أسبوعين فقط أن «السير روبرت أدير»
Adair
السفير الإنجليزي في تركيا، على وشك مغادرة القسطنطينية، وأن إنجلترة عند انفصام علاقاتها مع الدولة سوف تبعث بجيشها إلى مصر، كما صار هؤلاء الوكلاء يروجون الإشاعات عن انتصار البحرية البريطانية في البحر الأحمر واستيلاء الإنجليز على إحدى الجزر الهامة تجاه الشاطئ الحبشي.
ونمى إلى الباشا خبر هذه المؤامرة، فعدل عن الذهاب إلى إبراهيم بك، وكان قد أشيع في الناس يوم وصول إبراهيم بك إلى الجيزة في 16 مايو تعدية الباشا من الغد للسلام على إبراهيم بك، فلم يثبت، وظهر أنه لم يفعل، فقد أصبح مبكرا (يوم 17 مايو) إلى شبرا وجلس في قصره، وحضر إليه شاهين بك الألفي في سفينته وتناقش معه محمد علي، ووقع بينهما مكالمات، ورجع من عنده شاهين عائدا إلى الجيزة منفعل الخاطر، ثم إن الباشا عرض عساكره فاجتمع إليه الجميع، وبدأ اللغط وكثرت اللقلقة.
وما إن وصل شاهين إلى الجيزة، حتى «أزر حريمه وأركبهن وأرسلهن إلى الفيوم ونقل متاعه وفرشه من قصر الجيزة في بقية اليوم، وكسر المرايات وزجاج الشبابيك التي في مجالسه الخاصة، ثم ركب في طوائفه وأتباعه وخشداشينه ومماليكه، وذهب إلى عرضي إخوانه وقبيلته، ونصب خيامه ووطاقه بحذائهم، واجتمع بهم وتصافى معهم، ونال شاهين جزاءه، فنصبه إبراهيم بك وسائر البكوات رئيسا على الأمراء المرادية»، وكان خروج شاهين الألفي من الجيزة بمثابة الإشارة للمماليك المقيمين بالقاهرة حتى يغادروها، وعدد هؤلاء حوالي الستين، فما لبثوا أن تركوها قاصدين إلى معسكر البكوات.
وكان هذا الحادث أمرا خطيرا؛ لأنه لم يسبق بتاتا ومن زمن طويل - كما كتب «دروفتي» في رسالته السالفة الذكر - أن صار يضم جميع المماليك معسكر واحد.
وكان طبيعيا أن يتخوف الباشا من اجتماع كلمة المماليك بهذه الصورة، فبادر من فوره (في اليوم نفسه؛ أي في 17 مايو) بإيفاد حسن باشا وصالح آغا قوج إلى البكوات ببر الجيزة فقصدا إلى عرضي الأمراء وسلما عليهم، ثم اجتمعا بشاهين الألفي وتغديا عنده، وحاولا إثناءه عن موقفه ولكن دون طائل، ثم قصدا إلى إبراهيم بك، وجرى بينهما وبينه كلام كثير، حاول حسن باشا تذكير إبراهيم بعهده الذي قطعه على نفسه بقبوله الصلح في أسيوط، وحاول إبراهيم تحريض حسن باشا على الانتقاض على محمد علي، فنشأت بين الرجلين محاورة تكشف عن بواعث الحقد الذي كان يغلي في صدر إبراهيم على محمد علي، وعدم ثقته به، وإصراره على مناوأته، وإمعانه في العداوة له، وتقيم الدليل على أن إبراهيم بك وسائر البكوات من حزبه أو جماعته كانوا يضمرون غير ما يظهرون منذ أن بدأت مفاوضات الصلح معهم إطلاقا من أواخر عام 1807 وأوائل العام التالي إلى وقت قبولهم صلح أسيوط في سبتمبر وأكتوبر 1809، وحضورهم إلى الجيزة في مايو 1810.
وقد سجل الشيخ الجبرتي وسائر المعاصرين الحديث الذي دار بين حسن باشا وإبراهيم بك في خيمة هذا الأخير أمام الجيزة، ولا خلاف فيما ذكره هؤلاء عن الكلام الذي دار بين الرجلين، ولو أن رواية الشيخ الجبرتي تحوي تفاصيل أدق وأوفى.
قال حسن باشا لإبراهيم: إنكم وصلتم إلى هنا لتمام الصلح على الشروط التي حصلت بينكم وبين الباشا، والاتفاق الذي جرى بأسيوط، ويكون تمامه عند وصولكم إلى الجيزة واجتماعكم، وقد حصل.
فقال له إبراهيم بك: وما هي الشروط؟
قال: هي أن تدخلوا تحت حكمه وطاعته، وهو يوليكم المناصب التي تريدونها بشرط أن تقوموا بدفع الفرض التي يقررها على النواحي، والغلال الميرية، والخراج، وتعيين من يريده منكم صحبة العساكر الموجهة إلى البلاد الحجازية لفتح الحرمين، وتكونوا معه أمراء مطيعين، وهو يعطيكم الأمريات والإنعامات الجزيلة، ويعمر لكم ما تريدون من الدور والقصور التي لكم ولأتباعكم على طرفه، ولا يكلفكم بشيء من الأشياء، وقد رأيتم وسمعتم ما فعله من الإكرام والإنعام على شاهين بك، وما أعطاه من المماليك والجواري الحسان، وشفعاته عنده لا ترد، وأطلق له التصرف في البر الغربي من رشيد إلى بني سويف والبهنسا، مما هو تحت حكمه، ويراعي جانبه إلى الغاية.
فقال له إبراهيم بك: نعم إنه فعل مع شاهين بك ما لا تفعله الملوك، فضلا عن الوزراء، وليس ذلك لسابق معروف فعله شاهين بك معه ليستحق به ذلك، بل هو لغرض سوء يكتمه في نفسه، وشبكة يصطاد بها غيره، فإننا سبرنا أحواله وخيانته، وشاهدنا ذلك في كثير ممن خدموه، ونصحوا معه حتى ملكوه هذه المملكة.
قال: ومن هم؟
قال: أولهم مخدومه محمد باشا خسرو، ثم كتخداه وخازنداره عثمان آغا جنج الذي خامر معه، وملك مع أخيه المرحوم طاهر باشا القلعة، وأحرق سرايته، ثم سلط الأتراك على طاهر باشا حتى قتلوه في داره، وأظهر موالاتنا وصداقتنا ومساعدتنا، وصير نفسه من عسكرنا، واتحد بعثمان بك البرديسي، وأظهر له خلوص الصداقة والأخوة، وعاهده بالأيمان حتى أغراه على علي باشا الطرابلسي، وجرى ما جرى عليه من القتل، ونسب ذلك إلينا، ثم اشتغل معه على خيانته لأخيه الألفي وأتباعه، ثم سلط علينا العساكر بطلب العلوفة، وأشار على عثمان بك بطلب المال من الرعية، حتى وقع لنا ما وقع، وخرجنا من مصر على الصورة التي خرجنا عليها، ثم أحضر أحمد باشا خورشيد ، وولاه وزيرا، وخرج هو لمحاربتنا، ثم اتضح أمره لأحمد باشا، وأراد الإيقاع به، فعجل العود إلى مصر، وأوقع بينه وبين جنده حتى نفروا منه ونابذوه، وألقى إلى السيد عمر مكرم والقاضي والمشايخ أن أحمد باشا يريد الفتك بهم، فهيجوا العامة والخاصة، وجرى ما جرى من الحروب وحرق الدور، وبذل السيد عمر جهده في النصح معه بما يظهره له من الحب والصداقة، وراجت عليه أحواله، حتى تمكن أمره وبلغ مراده، وأوقع به ما أوقع، وأخرجه من مصر (القاهرة) وغربه عن وطنه، ونقض العهود والمواثيق التي كانت بينه وبينه، كما فعل مع عمر بك (الأرنئودي) وغيره، وكل ذلك معلوم، ومشاهد لكم ولغيركم، فمن يأمن لهذا ويعقد معه صلحا؟
واعلم يا ولدي أننا كنا بمصر نحو العشرة آلاف أو أقل أو أكثر بين مقدمي ألوف وأمراء وكشاف وأكابر وجاقات ومماليك وأجناد وطوائف وخدم وأتباع، مرفهي المعاش بأنواع الملاذ، كل أمير مختص ومعتكف بإقطاعه، مع كثرة مصارفنا وإنعاماتنا على أتباعنا ومن ينتسب إلينا، وأسمطة الجميع ممدودة في الأوقات المعهودة، ولا نعرف عسكرا ولا علوفة عسكر، والقرى والبلاد مطمئنة، والفلاحون ومشايخ البلاد مرتاحون في أوطانهم، ومضايفهم مفتوحة للواردين والضيفان، مع ما كان يلتزم علينا من المصارف الميرية، ومرتبات الفقراء، وخزينة السلطان، وصرة الحرمين، والحجاج، وعوائد العربان، وكلف الوزراء المتولين، والأغوات، والقبالجية المعينين، وخدمهم، والهدايا السلطانية، وغير ذلك، وأفندينا محمد علي ما كفاه إيراد الإقليم، وما أحدثه من الجمارك والمكوس، وما قرره على القرى والبلدان من فرض المال والغلال والجمال والخيول، والتعدي على الملتزمين، ومقاسمتهم في فائظهم ومعاشهم، وذلك خلاف مصادرات الناس والتجار في مصر وقراها، والدعاوى والشكاوى، والتزايد في الجمارك، وما أحدثه في الضربخانة من ضرب القروش النحاس، واستغراقها أموال الناس، بحيث صار إيراد كل قلم من أقلام المكوس بإيراد إقليم من الأقاليم، ويبخل علينا بما نتعيش به نحن وعيالنا، ومن بقي معنا من أتباعنا ومماليكنا، وقصده صيدنا وهلاكنا عن آخرنا.
فقال حسن باشا: حاشا لله، لم يكن ذلك، ودائما يقول والدنا إبراهيم بك، ولكن لا يخفاكم أن الله أعطاه ولاية هذا القطر، وهو يؤتي الملك من يشاء، ولا ترضى نفسه من يخالف عليه، أو يشاركه بالقهر والاستيلاء، فإذا صار الصلح ووقع الصفا أعطاكم فوق مأمولكم.
فهز إبراهيم بك رأسه وقال: صحيح يكون خيرا.
ويزيد غير الشيخ الجبرتي على هذا الحديث، أن إبراهيم بك اختتم كلامه متسائلا بعد أن سرد خيانات الباشا وعددها، وأوضح أن غرضه الفتك بالبكوات فحسب: والآن أية ثقة تلك التي تريد (مخاطبا حسن باشا) أن تكون لنا في رجل كهذا الرجل؟ لقد كنا سادة البلاد، ولكنه أفقدنا كل شيء! ثم ماذا يعرض علينا في نظير ذلك؟ كلمته ووعوده؟ لا شك أن هذا قليل! وعقد محالفة صادقة مع محمد علي أمر غير ممكن؛ لأن ما جرى من دم بيننا كثير!
وهكذا انفض المجلس، ورجع حسن باشا وصالح قوج، وعديا إلى بر مصر.
وكان ما سمعه حسن باشا كلاما خطيرا ترك أثره العميق في نفسه، فخرج من عند إبراهيم وهو يعتقد تماما أن لا جدوى مطلقا من أي اتفاق يبرمه الباشا مع المماليك، لا لأن محمد علي - كما يزعم إبراهيم - يريد الغدر بهم، ولكن لأن البكوات أنفسهم لا يريدون هذا الاتفاق الذي إذا حدث وأرغموا على قبوله اليوم، فهم حتما سوف ينقضونه غدا عند سنوح أول فرصة، واعتقد حسن باشا أن السيف وحده الكفيل بإنهاء هذا الخلاف المستحكم بين البكوات ومحمد علي، وأبلغ حسن باشا هذا الكلام لمحمد علي.
وفي تلك الليلة (17 مايو 1810) خرج جميع من كان بالقاهرة من البكوات والمماليك وهجنهم ومتاعهم، وعدوا إلى بر الجيزة، ولم يبق منهم إلا القليل، واجتمعوا مع بعضهم، وقسموا الأمر بينهم ثلاثة أقسام: قسم للمرادية وكبيرهم شاهين بك الألفي، وقسم للمحمدية وكبيرهم علي بك أيوب، وقسم للإبراهيمية وكبيرهم عثمان بك حسن، وكتبوا مكاتبات وأرسلوها إلى مشايخ العربان.
وتجمعت نذر الحرب.
فأوقف الجند على أبواب القاهرة منذ 19 مايو يمنعون الخارجين من البلد حتى الخدم، ثم منعوا التعدية إلى البر الغربي، وجمعوا المراكب والمعادي إلى البر الشرقي، ونقلوا البضائع إلى مراكب التجار المعدة لسفر رشيد ودمياط، المعروفة بالرواحل، وأخذوها إليهم، وشرع الجند في التعدية طوال يومي 19، 20 مايو، وعدى الباشا آخر النهار ودخل إلى قصر الجيزة الذي كان به شاهين بك واتخذه مقرا لقيادته العامة، وكذلك عدوا بالخيام والمدافع والعربان والأثقال، واجتمعت طوائف العسكر من الأتراك والأرنئود والدلاة والسجمان (أو السكبان: نوع من الفرق العسكرية يقصد به على عهد الإنكشارية الفرق التي تتألف من القرويين وقت التجنيد العام) بالجيزة، وتحققت المفاقمة، والأمراء المصرية خلف السور في مقابلتهم، واستمروا على ذلك إلى ثاني يوم (21 مايو) والناس متوقعون حصول الحرب بين الفريقين، ولم يحصل، وانتقل المصرية وترفعوا إلى قبلي الجيزة بناحية دهشور وزنين. وفي يومي 22 و23 مايو دفع محمد علي للجند مرتباتهم المتأخرة وأنفق عليهم وكان لهم مدة شهور لم ينفق عليهم. وفي اليوم الأخير خرج ليلا إلى ناحية كرداسة ليمنع بعض العربان الذين بلغه أنهم يريدون اللحاق بالبكوات، من الذهاب إليهم، ولكنه لم يعثر بأحد، فقفل راجعا (24 مايو). وفي 27 مايو ارتحل المصرية وترفعوا إلى ناحية جزر الهوى بالقرب من الرقق، وفي اليوم التالي عدى الباشا إلى بر مصر وذهب إلى بيته بالأزبكية، فبات ليلتين به، ثم طلع (يوم 30 مايو) إلى القلعة. ويعلق الشيخ الجبرتي على ما حصل بقوله: إن الباشا قد تكدر طبعه من هذه الحادثة بعد أن حصلوا؛ أي حضر البكوات إلى الجيزة، وكاد يتم قصده فيهم، وخصوصا ما فعله شاهين بك الذي أنفق عليه ألوفا من الأموال ذهبت جميعها في الفارغ البطال.
غير أن عدم وقوع الحرب آنئذ لم يكن معناه أن الباشا سوف يترك البكوات وشأنهم، فقد كتب «دروفتي» منذ 19 مايو: «أن البكوات على ما يبدو له يريدون الالتحام مع الباشا في معركة فاصلة، ولكن الخوض معهم في معركة من هذا القبيل لا تجيزه مصلحة محمد علي نفسه؛ لأن فرسان المماليك ولو كانوا أقل عددا من فرسانه، إلا أنهم قوة مرعبة ولا شك إذا أتيح لهم الاشتباك في معركة تدور رحاها في ميدان منبسط؛ ولذلك يعمل الباشا على كسب الوقت حتى مجيء الفيضان الذي سوف يرغم البكوات على ترك السهل»، فتضيع ميزة فرسانهم، وعندئذ تشتعل الحرب بين الفريقين، وأما الوسيلة التي سوف يلجأ إليها الباشا لكسب الوقت فهي استئناف المفاوضة معهم من جديد على أساس شروط تكون أكثر ملاءمة لهم، بغية تفرقهم ونشر الانقسامات بينهم وإنهاء تكتلهم ضده.
بيد أن الباشا وإن انتظر فيضان النيل قبل الالتحام مع البكوات في معركة حاسمة، فقد شرع من فوره يتهيأ لقتالهم، وأنفذ فعلا لمطاردتهم حسن باشا، فكان في ذلك بداية تلك الحملة الكبيرة التي انتهت بإنزال الهزيمة الساحقة بالمماليك وتشتيت شملهم في معركتي اللاهون والبهنسا. (8) حملة 1810
ولقد كانت الصعوبات آنئذ تكتنف موقف محمد علي من كل جانب، فهو قد آلمه وحز في نفسه أن ينكث البكوات بعهودهم، وأن يخونه شاهين بك الألفي؛ لأن تلك كانت المرة الأولى التي صار يواجه فيها المماليك وقد اتحدت قواتهم، وصاروا يطيعون أوامر قيادة عسكرية واحدة، الأمر الذي أشاع كذلك التردد في صفوف الأهلين إلى جانب إزعاجه لجنده، فصار الفلاحون وأهل المدن في المناطق التي سادت فيها الفوضى خصوصا بسبب العمليات العسكرية يتوقعون حدوث تغيير كبير عاجل في الموقف، فامتنعوا عن دفع الميري والضرائب الأخرى.
وقد نقض المماليك العهد في وقت كان الباشا يرجو فيه الوصول إلى اتفاق معهم يمكنه بفضل دفعهم الميري والغلال من تجهيز الحملة المنتظرة، والتي يلح الباب العالي في ضرورة خروجها إلى الحجاز سريعا لحرب الوهابيين، ثم إرضاء الباب العالي بإرسال بعض الغلال التي كانت القسطنطينية في حاجة شديدة إليها وقتئذ، ويلح الباب العالي في إرسالها ولا يستطيع الباشا مرغما إرسال شيء من ذلك إلى القسطنطينية؛ لأن القاهرة ذاتها كانت تنقصها المؤن؛ لأن استكفاء القاهرة أولا كان لا مناص منه، كما ذكر «سانت مارسيل» لحكومته في 20 يونيو (1810)، والأمر المفضل على كل اعتبار آخر، زد على ذلك أن محمد علي ما كان يطمئن إلى خروج جيشه إلى الحجاز قبل أن يتم الاتفاق مع المماليك ويرضى هؤلاء بالحضور إلى القاهرة حتى يتمكن من مراقبتهم.
وفي يونيو 1810 كتب الباشا للباب العالي يعتذر عن تأخره في إنفاذ الجيش المطلوب إلى الحجاز، وحاول في الوقت نفسه أن يبرر مسلكه مع البكوات ومسعاه في مصالحتهم، وهو الذي يعلم مقدار بغض الباب العالي لهم ورغبته في التخلص منهم والقضاء عليهم، فاستند في تبرير ذلك إلى ما وصل إليه البكوات من مذلة وهوان، وما تحملوه من تعب ومشقة من زمن طويل جعله يشفق عليهم، حتى أسكنهم قصرا بالجيزة وضمن لهم سبل الراحة والعيش في رفاهية لا يطلب منهم سوى دفع الميري والغلال، ومرافقة فرسانهم لفرسان جيشه الذاهب إلى الحجاز، ولكنهم ما لبثوا أن غدروا وخانوا العهد، ففروا من الجيزة، وصار لزاما عليه الآن أن يدفع غوائلهم، ولكن الباب العالي الذي لم يدهشه غدر البكوات ونقضهم لعهودهم؛ لأن هؤلاء - كما كتب سليم ثابت قبو كتخدا محمد علي في الآستانة في 28 يونيو - معلوم أنهم قوم خونة لم ينالوا رضاء الدولة العلية من زمن قديم، عاد فأصر على خروج الجيش إلى الحجاز؛ لأنه لا ينبغي أن تتأخر مسألة تخليص الحرمين الشريفين بدعوى دفع غائلة البكوات المماليك، فكان لا مفر حينئذ من مناجزتهم.
ولم يجد محمد علي من الحكمة أن يشتبك في معركة فاصلة مع المماليك للانتهاء من أمرهم سريعا قبل أن يصله فرسان الدلاة الذين بعث يطلبهم من الشام لتعزيز جيشه عقب انفصال شاهين بك الألفي والمماليك الذين أقاموا بالقاهرة، ثم إن البكوات عندما شاهدوا محمد علي ينقل جنوده إلى الجيزة ويجعل هذه مقر قيادته، اعتقدوا أن النصر لا بد من نصيبهم؛ لأن خطتهم كانت استدراج الباشا وجيشه للالتحام معهم في معركة ميدانها الأرض المنبسطة المغطاة بالرمال والمكشوفة حول الجيزة أو في جزء آخر من شاطئ النهر قريب منها، فيكفل لهم تفوق فرسانهم الانتصار في المعركة، ولكن هذا الاعتبار ذاته جعل محمد علي يمتنع عن الالتحام معهم، حتى انسحب البكوات يوم 27 مايو من دهشور وزنين، ثم بعث بحسن باشا لمطاردتهم، وآثر التريث قبل الالتحام الجدي معهم حتى ترتفع مياه النهر، وكان للفيضان أهمية كبيرة في نظره؛ لأن الفيضان سوف يرغم البكوات على الانسحاب من مراكزهم الأمامية والابتعاد صوب الصعيد، ثم إن الفيضان يمكن الباشا من اتقاء شر المماليك، إذا حدث أن لحقت به الهزيمة في المعركة المقبلة، فيصبح النهر الممتلئ بمياه الفيضان بمثابة الحاجز الذي يحول دون مطاردة فرسان المماليك لجيشه، فكان هذا التريث مبعث ما صار الباشا يعرضه على البكوات من شروط للصلح جديدة كانت أكثر موافقة لمصالحهم، شفعها بتهديده، إذا رفضوها، بقتالهم في معركة كبيرة، وقصد الباشا كسب الوقت حتى تصله نجدات الدلاة، وحتى يبدأ فيضان النيل من جهة، وحتى يشيع الفرقة والانقسام في صفوف البكوات من جهة أخرى؛ ولذلك فقد كانت «حملة 1810» عسكرية وسياسية في وقت واحد.
وانحصرت خطة الحملة العسكرية، في محاولة تجميع حشود البكوات المماليك في مكان واحد للاشتباك معهم في معركة تكون الفاصلة، وذلك بأن يزحف قسم من جيش محمد علي على الصعيد للاستيلاء على المواقع الهامة، وإجلاء البكوات وقواتهم عنها، وإرغامهم على الارتداد والانسحاب إلى الشمال للانضمام إلى سائر إخوانهم، بينما يشغل قسم الجيش الآخر جماعة إبراهيم وشاهين الألفي، فلا يذهبون لنجدة البكوات والمماليك الذين هم ببني سويف أو الأقاليم التي تليها في أعلى الصعيد، فإذا انحصر البكوات عند حدود الصعيد في بني سويف أو الفيوم، وقطع الباشا عليهم خط رجعتهم إلى الجنوب، شن عليهم هجوما كبيرا، في وقت تكون قد أخذت ترتفع فيه مياه النيل، فيتعذر عليهم إذا انهزموا الفرار، أو جمع شملهم من جديد، ولا يستطيعون إذا حلت الهزيمة بالباشا نفسه مطاردته.
وأما عن خطة الحملة السياسية، فقد استند الباشا على مهارة وكلائه الذين يوفدهم إلى معسكر البكوات يحملون عروضه الجديدة، في إيقاع الشقاق بينهم، وجذب فريق منهم إلى الصلح معه، ثم اعتمد على نجاح عملياته العسكرية - إذا قدر لها النجاح - في تطويع فريق آخر منهم، وحملهم على الحضور إلى القاهرة مستأمنين تحت رعايته في هدوء وسلام.
ومنذ أواخر مايو 1810 بدأ وضع هذه الخطة المزدوجة موضع التنفيذ، فقد صدر الأمر للجند في 4 يونيو بالخروج، فسعى هؤلاء بالجد والعجلة في قضاء أشغالهم ولوازمهم، وفي 8 يونيو أقام حسن باشا معسكره بناحية الآثار (أثر النبي)، «وخرج أيضا محو بك بعسكره وطوائفه ومعهم بيارق، وسافر جملة عساكر في المراكب ليرابطوا في البنادر، وكانت هذه خالية ليس بها أحد من أجناد البكوات، واستمر خروج الجند في الأيام التالية، وأشرف الباشا على الحركة، فصار يحضر من الجيزة إلى القاهرة لمراقبة خروج الجند، ولملاحظة الأمن بها؛ خوفا من أن يتصل البكوات بأنصار لهم فيها، وللحيلولة دون تهريب الأسلحة والذخائر والعتاد إليهم، وكاد يقع تحت طائلة العقوبة بتهمة إمداد البكوات بالأسلحة وما إليها أحد تجار القاهرة المعروفين السيد سلامة البخاري وأخوه وابن أخيه، لولا اتضاح براءتهم للباشا مما نسب إليهم.»
ولما استكمل حسن باشا استعداداته نزل مع جنده في النهر وبدأ زحفه صوب الصعيد، وانسحب البكوات من دهشور إلى الرقق، ثم إلى ناحية صول والبرنبل؛ حيث أقاموا أمام «صول» خطا طويلا من التحصينات (أو المتاريس)، ونصبوا بطارية من ستة مدافع، لوقف تقدم الجيش الزاحف، وكان على قيادة هذا الجيش كذلك صالح قوج، وعابدين بك، وطبوز أوغلي، ولم يكن في تعليمات حسن باشا ما يجيز له الالتحام مع البكوات في معركة كبيرة، بل الاكتفاء بمناوشتهم ومطاردتهم، على ألا يصرفه هذا عن تحقيق الهدف الرئيسي من حملته، وهو الاستيلاء على المراكز المنيعة بالصعيد، ولكن مقاومة البكوات الشديدة لزحفه عند صول والبرنبل، اضطرته إلى إنزال جنده الأرنئود إلى البر لمناجزتهم، فكانت أول معركة كبيرة بين جيشي محمد علي والبكوات.
فقد شن عليهم حسن باشا هجوما كبيرا يوم 17 يونيو، وأجلى المماليك عن المتاريس، وملكها وانتصر عليهم، وقتل رجل من الأجناد (في جيش البكوات) وهو الذي كان محافظا على المتاريس، يقال له إبراهيم آغا، سقط به الجرف إلى البحر، فأخذوه؛ أي جند حسن باشا إليهم، ومعه آخر وقتلوهما، وقطعوا رءوسهما وأرسلوهما صحبة المبشرين إلى محمد علي، فعلقوا الرأسين بباب زويلة.
ولكن لم يلبث أن انقلب هذا النصر إلى هزيمة، عندما باغت البكوات جند حسن باشا مكمنين وكاتمين أمرهم في أول الليل (17 يونيو)، فدهموا الأرنئود من كل ناحية، فوقع بينهم مقتلة عظيمة، وأخذوا منهم عدة بالحياة، وأخذوا منهم أشياء، فانسحب الأرنئود لاجئين إلى السفن مخلفين وراءهم جثث قتلاهم التي ألقاها المماليك في النيل فحملها التيار إلى القاهرة، منبئة بالهزيمة.
وساعدت الريح السفن، فاستأنف حسن باشا سيره إلى بني سويف، وأما البكوات، فقد عبر النهر منهم طائفة إلى شرق أطفيح، وانتقل بواقيهم راجعين إلى ناحية الجيزة قريبا من عرضى الباشا.
وفي 22 يونيو وصل طائفة من المماليك إلى المرابطين لخفارة عرضى الباشا، واحتاطوا بهم، وساقوهم إليهم، فانزعج العرضى، وحصل فيهم غاغة، وسادت الفوضى، وترك الجند خيامهم للتحصين بالجيزة (البلد)، ولكن المهاجمين لم يستطيعوا التقدم، وكان الذي أوقف هجومهم وأبطله حدوث الانقسام في صفوفهم.
فقد أخذ فريق من البكوات يشكون ويتذمرون من غطرسة شاهين بك الألفي الذي زاد صلفا وغرورا منذ أن صارت له الرئاسة على المماليك المرادية واقتسم السلطة مع إبراهيم بك، فأساء معاملة كثيرين من البكوات ومماليك بيت الألفي الذي ينتسب إليه شاهين نفسه، وأفلح وكلاء الباشا في تزكية هذا التذمر وزيادته اشتعالا، وراح الباشا بواسطة هؤلاء الوكلاء - وكان أهمهم مصطفى كاشف المورلي، وهو معدود من طوائف المماليك سابقا، وملتحق الآن بخدمة كتخدا بك محمد آغا لاظ - يبذل لهم الوعود السخية، فانشق ثلاثة من البكوات مع حوالي الستة عشر كاشفا، ونحو المائتي مملوك من فرسانهم، على شاهين، وكان رفضهم الاشتراك في العمليات العسكرية المهيأة للهجوم على الجيزة السبب في إبطال هذا الهجوم (في 22 يونيو)، ولم يلبث البكوات المنشقون أن غادروا معسكرهم في ليل 22 يونيو، وعبروا النيل قاصدين تسليم أنفسهم إلى الباشا، وانتهى الأمر بصلحهم معه وانضمامهم إليه هم والكشاف والفرسان المماليك الذين ذكرناهم
وقد صادف أثناء عبورهم النيل في سواد الليل إلى القاهرة، أن كان الباشا نفسه يعبر النهر في طريقه إلى الجيزة؛ لأن ولده طوسون عند هجوم المماليك الأول على مخافر معسكره الأمامية وتوقعه حدوث هجوم كبير على الجيزة، كان قد أرسل إلى والده بالقلعة يستدعيه على عجل إلى المعسكر، فنزل الباشا وعدى إلى البر الغربي، وسمع الباشا أثناء التعدية واحدا يقول للآخر: قدم حتى نقتل المصريين (البكوات المماليك) ونبدد شملهم، ويكرر ذلك، فأرسل الباشا مركبا، وأرسل بعض أتباعه لينظروا هذين الشخصين، ولأي شيء نزلا البحر في هذا الوقت، فلما ذهبوا إلى الجهة التي سمع منها الصوت لم يجدوا أحدا، وتفحصوا عنهما فلم يجدوهما، فاعتقد من له اعتقاد منهم، أنهما من الأولياء، وأن الباشا مساعد بأهل الباطن.
ولكن اتضح ثاني يوم (23 يونيو) أن الذين عدوا إلى البر الشرقي في الليل كانوا البكوات المنشقين، وهم ثلاثة من الأمراء الألفية: نعمان بك وأمين بك ويحيى بك.
وكان لانشقاق هؤلاء - ومن تبعهم من الكشاف والفرسان المماليك - آثار كبيرة، من حيث إن هذه الحركة، زيادة على إحباطها خطة الهجوم الذي كان البكوات قد اعتزموا القيام به، قد أضعفت مركز شاهين الألفي، الذي أخذ يفقد احترامه بين جماعته وبين سائر زملائه البكوات، وضاع نفوذه رويدا رويدا بينهم، وتشجع آخرون على مغادرة معسكر البكوات والانضمام إلى محمد علي، وأتيحت الفرصة للباشا لإشاعة الانقسام مرة أخرى في صفوفهم، وهو على وشك الالتحام معهم في معركة اللاهون الفاصلة، وآثر شاهين الألفي نفسه في آخر الأمر التسليم لمحمد علي والصلح معه، على نحو ما سيأتي ذكره كله.
ولقد كان بسبب خطورة حادث الانشقاق هذا، وما يكشفه من مدى ما وصل إليه تخاذل البكوات وتفاشلهم من ناحية، وبراعة محمد علي في توسيع شقة الخلاف بينهم، أن سجل الشيخ الجبرتي تفاصيله، وغني عن البيان أن الشيخ وإن كان أمينا في نقله ما حدث بدقة بالغة، وتتفق روايته جملة وتفصيلا ما ذكره المعاصرون، وضمنه الوكلاء الفرنسيون تقاريرهم، فإنه كان بعيدا كل البعد عن الاغتباط لما حدث، بل وآلمه أن يفشل البكوات في حزم أمرهم في ساعتهم العصيبة، وأن تغتر فئة منهم بوعود محمد علي الخلابة والكاذبة في نظر الشيخ، وهو الذي لم يكن قصده - كما اعتقد الشيخ أيضا - من مسعى الصلح مع البكوات واستمالتهم إلى العيش في كنفه بالقاهرة إلا كسر شوكتهم ثم الإجهاز عليهم عند سنوح أول بادرة والفتك بهم، ويتفق الشيخ في عدم الثقة بمحمد علي أصلا وإطلاقا مع إبراهيم بك الكبير خصوصا.
وها هي ذي روايته عن حادث انشقاق نعمان بك ويحيى بك وأمين بك الألفي. «وفي عشرينه؛ أي 20 جمادى الأولى 1225 / 23 يونيو 1810، ظهر التفاشل بين الأمراء المصريين، وتبين أن الذين كانوا عدوا إلى البر الشرقي هم ثلاثة أمراء من الألفية وهم نعمان بك وأمين بك ويحيى بك، وذلك أنهم لما تصالحوا مع الباشا، وأميرهم شاهين بك وهو الرئيس المنظور إليه ومطلق التصرف في معظم البر الغربي والفيوم، ويتحكم فيهم وفي طوائف العربان وأهالي البلاد والفلاحين بما يريد، وكذلك أموال المعادي بناحية الأخصاص وإنبابة والخبيري (المعادي) وغير ذلك، وهو شيء له قدر كبير، زاد فيهم أيضا أضعاف المعتاد، فيأخذ جميع ذلك ويختص به، وذلك خلاف إنعامات الباشا عليه بالمئين من الأكياس، ويشتري المماليك والجواري الحسان، ولا يدفع لهم ثمنا، فيشكون إلى الباشا فيدفعه إلى اليسرجية من خزينته وهو منشرح الخاطر، وإخوانه يتأثرون لذلك، وتأخذهم الغيرة ويطمعون في جانبه، وهو يقصر في حقهم ولا يعطيهم إلا النزر من المن والتضجر، وفيهم من هو أقدم منه هجرة، ويرى في نفسه أنه أحق بالتقدم منه، ولما دنت وفاة أستاذهم (محمد الألفي الكبير) أحضر شاهين بك وسلمه خزينته، وأوصاه بأن يعطي لكل أمير من خشداشينه سبعة آلاف مشخص، ولم يعطهم، وطفق كلما أعطاهم شيئا حسبه عليهم من الوصية، حتى إذا أعطى البلك والبنش لنعمان بك مثلا يعطيه له أنقص من بنش أمين بك نصف ذراع، ويقول هو قصير القامة، ونحو ذلك، فيحقدون ذلك عليه، ويشتكون من خسته وتقصيره، ويعلم الباشا ذلك.
فلما نقض شاهين بك عهده، وانضم إلى المخالفين (وترك الباشا)، وخشداشينه المذكورون معه بالتنافر القلبي، راسلهم الباشا سرا ووعدهم ومناهم بأنهم إذا حضروا إليه وفارقوا شاهين بك الخائن المقصر في حقهم، أنزلهم منزلة شاهين بك وزيادة، واختص بهم اختصاصا كبيرا، فمالت نفوسهم لذلك القول، واعتقدوا بخسافة عقولهم صحته ، وأنهم إذا رجعوا إليه هذه المرة ونبذوا المخالفين، اعتقد صداقتهم وخلوصهم، وزاد قدرهم ومنزلتهم عنده.
وتذاكروا عند ذلك ما كانوا فيه مدة إقامتهم بمصر من التنعم والراحة في القصور التي عمروها بالجيزة، والبيوت التي اتخذوها بداخل المدينة (القاهرة)، والرفاهية والفرش الوطيئة، وتحركت غلمتهم للنساء والسراري التي أنعم عليهم الباشا بها، وقالوا: ما لنا والغربة وتعب الجسم والخاطر والانزعاج والحروب والإلقاء بنفوسنا في المهالك، وعدم الراحة في النوم واليقظة، فردوا الجواب بالإجابة، وتمنوا عليه أيضا ما حاك في نفوسهم بشرط طرح المؤاخذة، والعفو الكامل بواسطة من يعتمد صدقه.
فأجابهم الباشا لكل ما سألوه وتمنوه بواسطة مصطفى كاشف المورلي، وهو معدود سابقا منهم، وانفصل عنهم وانتمى إلى كتخدا بك وصار من أتباعه.
فعند ذلك شرعوا في مناكدة أخيهم شاهين بك ومفارقته، وعقدوا معه مجلسا، وقالوا له: قاسمنا في ربع المملكة التي خصونا بها في القسمة التي شرطوها، فإننا شركاؤك، فإن إبراهيم بك قسم مع جماعته، وكذلك عثمان بك حسن وعلي بك أيوب، فقال لهم: وما هو الذي ملكناه حتى أقاسمكم فيه؟ فقالوا: أنت تجحف علينا، وتختص بالشيء دوننا، فإننا لما اصطلحنا معك مع الباشا، وصرفك في البر الغربي اختصيت بإيراده، وهو كذا وكذا دوننا، ولم تشركنا معك في شيء، ولولا أن الباشا كان يراعينا ويواسينا من عنده لمتنا جوعا، فنحن لا نرافقك ولا نصحبك ولا نحارب معك حتى تظهر لنا ما نقاتل معك عليه، وتزايدوا معه في المكالمة والمعاتبة والمفاقمة، ثم انفصلوا عنه، ونقلوا خيامهم إلى ناحية البحر، واعتزلوه وفارقوا عرضى الجميع.
فلما علم بذلك إبراهيم بك الكبير تنكد خاطره وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ أي شيء هذا الفشل وخسافة العقل والتفرق بعد الالتئام والاجتماع! وذهب إليهم ليصالحهم، ويضمن لهم كل ما طلبوه وطمعوا فيه عند تملكهم، وقال لهم: إن كنتم محتاجين في هذا الوقت لمصرف، أنا أعطيكم من عندي عشرين ألف ريال، اقسموها بينكم وعودوا لمضربكم معنا، فامتنعوا من صلحهم مع شاهين بك، فرجع إبراهيم بك يريد أخذ شاهين بك إليهم، فامتنع من ذهابه إليهم، وقال: أنا لست محتاجا إليهم، وإن ذهبوا قلدت أمراء خلافهم، وعندي من يصلح لذلك ويكون مطيعا لي دونهم، فإن هؤلاء يرون أنهم أحق مني بالرياسة.
والجماعة شرعوا في التعدية، وانتقلوا إلى البر الشرقي، وحال البحر بين الفريقين، ووصل إليهم مصطفى كاشف المورلي بمرسوم الباشا، واجتمعوا معه عند عبد الله آغا المقيم بناحية بني سويف، وضرب لهم شنكا ومدافع، ثم إنهم عزموا على الحضور إلى مصر (القاهرة)، فوصلوا في يوم الخميس (25 جمادى الأولى و28 يونيو) وخلع عليهم وأعطاهم تقادم، ورجعوا إلى مضربهم بناحية الآثار، وصحبتهم ستة عشر من كشافهم، والجميع يزيدون عن المائتين، وأنعم عليهم الباشا بمائتي كيس، لكل كبير من الأربعة (والمتواتر أنهم أربعة ولم نعرف هوية الرابع على وجه التحقيق) عشرون كيسا، ومائة وعشرون كيسا لبقيتهم.
واشتروا دورا واسعة، وشرعوا في تعميرها وزخرفتها على طرف الباشا، فاشترى أمين بك دار عثمان كتخدا المنفوخ بدرب سعادة، من عتقائه، ودفع له الباشا ثمنها، وأمر لكل أمير منهم بسبعة آلاف ريال ليصرفها فيما يحتاج إليه في العمارة واللوازم، وحولهم بذلك على المعلم غالي، ولما تحقق شاهين بك انفصالهم قلد أربعة من أتباعه أمرياتهم، وأعطاهم بيرقا وخيولا، وضم لهم مماليك وطوائف.
وتمت حيلة الباشا التي أحكمها بمكره.»
ثم ذكر الشيخ الجبرتي الآثار المباشرة التي ترتبت على نجاح هذه الحيلة، فقال: «وعند ذلك أشيع في الإقليم القبلي والبحري تفرقهم وتفاشلهم، ورجع من كان عازما من القبائل والعربان عن الانضمام إليهم، وطلبوا الأمان من الباشا، وحضروا إليه ودخلوا في طاعته، وأنعم عليهم وكساهم.
وكانت أهالي البلاد عندما حصلت هذه الحادثة عصت عن دفع الفرض والمغارم، وطردوا المعينين وتعطل الحال، خصوصا عندما شاع غلبة المصريين على الأرنئود (في صول والبرنبل)، وتفرقت عنهم العربان الذين كانوا انضموا إليهم وأطاع المخالف والعاصي والممانع.
وكلها أسباب لبروز المقدور والمستور في غيبه سبحانه وتعالى.»
وكان لهذا الحادث نتائج أخرى خطيرة؛ فقد كتب كل من «دروفتي» من القاهرة و«سانت مارسيل» من الإسكندرية في 4 يوليو: أن البكوات بسبب تخاذلهم وتفاشلهم بعد (حادث الجيزة) قد اضطروا إلى التقهقر منسحبين نحو مدخل الفيوم قريبا من قنطرة أو جسر اللاهون، وأن أعداد المنفصلين من المماليك عن شاهين الألفي في زيادة مضطردة، حتى صار هذا يعض بنان الندم على إصغائه لتحريض إبراهيم بك، ويأسف عظيم الأسف لمغادرته القاهرة والخروج على سلطان الباشا، وأن محمد علي لا يزال يدأب على كسب الوقت حتى تصله نجدات الدلاة وحتى يأتي الفيضان، ويثابر لذلك على اتصالاته السرية بالمماليك لإغراء فريق آخر من بكواتهم وأجنادهم على الانفصال عنهم، حتى إنه ليعتمد على نجاح مؤامراته في الغلبة عليهم أكثر من اعتماده على قوة جيشه، والأهم من هذا كله أن قواده في الصعيد قد نجحوا في تنفيذ الخطة الموضوعة.
والواقع أن حسن باشا وسائر القواد في حملة الصعيد، استولوا على بني سويف والمنيا ومنفلوط وأسيوط، ومع أن الجيش الزاحف انهزم عند شطب، جنوب أسيوط، فقد كانت هذه هي الهزيمة الوحيدة التي لحقت به، فكتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في 28 يوليو: إن حسن باشا قائد الأرنئود المرسلين لأخذ البلاد الواقعة على جانبي النيل، قد برر تماما الثقة التي وضعها الباشا فيه، فدانت له الأقاليم بين بني سويف وإسنا، ومنذ أواسط الشهر نفسه، كان صالح قوج صاحب الحكم والسلطة في أسيوط، وطبوز أوغلي في المنيا، وحسن باشا نفسه في جرجا، ولم يجد مماليك وبكوات الصعيد بدا من التقهقر والانسحاب صوب الفيوم للانضمام إلى إخوانهم، فنجحت خطة الباشا التي هدفت إلى تجمع البكوات في مكان واحد لمناجزتهم دفعة واحدة.
وعلاوة على ذلك فقد وصلت في أوائل يوليو قوات الدلاة التي طلبها الباشا، فحضر كثير (من هؤلاء الفرسان) من الجهة الشامية، وكذلك حضر أتراك من على ظهر البحر كثيرون، من قولة ومقدونيا. وكتب «سانت مارسيل» في 21 يوليو: إن النجدات لا تصله من الشام يوميا، ثم إن مياه النهر قد بدأت تعلو وترتفع، وقرب موعد الفيضان، فتهيأت الأسباب إذا لخروج الباشا ومناجزة البكوات في معركة فاصلة، وكان هؤلاء محتشدين. (9) معارك اللاهون والبهنسا
وبدأ الاستعداد جديا للخروج لقتال البكوات يوم 4 يوليو، فقلد الباشا في هذا اليوم ديوان أفندي نظر مهمات الحرمين الشريفين والتأهب لسفر الحجاز لمحاربة الوهابية. وفي 7 يوليو ارتحل الباشا بعسكره من الجيزة وانتقل إلى جزيرة الذهب، ونودي في المدينة بخروج العساكر المقيمين بمصر، ولا يتخلف منهم أحد، وعمد الباشا إلى جمع الدواب والسفن والرجال الفلاحين بكل الوسائل، فزاد تعدي رجاله وخطفهم الحمير والجمال والرجال الفلاحين وغيرهم، لتسخيرهم في خدمتهم، وفي المراكب عوضا عن النوتية والملاحين الذين هربوا وتركوا سفائنهم، ثم انحدر قبطان بولاق وأعوانه في طلب المراكب من بحر النيل.
وفي 12 يوليو غادر الباشا جزيرة الذهب قاصدا إلى مدخل الفيوم؛ حيث وقف البكوات بجيشهم، وكان جيش الباشا يتألف من ثلاثة آلاف فارس وألفين من المشاة، وحرص محمد علي في أثناء زحفه على توقي أي هجوم قد يأتيه من ناحية المماليك، فسار بمحاذاة النهر متنقلا من قرية إلى أخرى بمهارة فائقة مكنته في النهاية من قطع خطوط مواصلات المماليك مع النهر، وارتد هؤلاء على قناة بحر يوسف واتخذوا مواقعهم عند قنطرة اللاهون، واتخذ الباشا مواقعه أمامهم.
وعبثا حاول المماليك استفزاز جند الباشا للالتحام معهم، فقد قضت تعليمات محمد علي أن يقتصر جنده على مناوشتهم لإرهاقهم قبل تخير الوقت المناسب لشن هجومه عليهم؛ ولأن المماليك الذين لا يعرفون من فنون القتال إلا الهجوم الشديد، سوف تربكهم المناورات والمناوشات الجزئية، التي يجهلون فنونها، وقد أفاد الباشا فعلا من خطته هذه، وأنزل في كل مرة ناوشهم فيها خسائر اضطرت المماليك إلى التقهقر والابتعاد عن النهر تدريجيا، حتى انقطعت مواصلاتهم مع النيل - كما ألمعنا - وتجمعوا عند قناة أو بحر يوسف فضربوا وطاقهم على جزء القناة؛ حيث توجد قنطرة أو جسر اللاهون، وهو جسر يقع بين الوادي والصحراء، وأنشئوا متاريس، كتحصينات أمامية لمعسكرهم.
وثمة سبب آخر منع الباشا من الاشتباك معهم في التو والساعة، فقد كان الباشا لا يزال يعمل لاستمالة عدد آخر من البكوات والمماليك، وإحداث انقسام جديد في صفوفهم يزيد من إضعافهم ووهن عزائمهم، وقد تم له ما أراد في هذه المرة أيضا.
ذلك أن مساعيه لقيت نجاحا لدى أحد البكوات الألفية، حسين بك تابع حسين بك المعروف بالوشاش الألفي، فحاول الهروب والمجيء إلى الباشا، ومع أن شاهين الألفي تنبه للأمر وقبض عليه وأهانه وسلب نعمته وكتفه وأركبه على جمل مغطى الرأس، وأرسله إلى الواحات، ولكن حسين بك لم يزل حتى احتال وهرب وحضر إلى عرضى الباشا، فأكرمه وأنعم عليه وأعطاه خمسين كيسا، واستمر عنده، وحذا حذو حسين بك، عدد من الكشاف، وحوالي العشرين من المماليك، ففروا إلى معسكر الباشا، وراحوا يؤكدون له - على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته من القاهرة بتاريخ 28 يوليو - أن شاهين الألفي نفسه منذ أن تركه البكوات الأربعة، والكشاف والفرسان المماليك الذين سلموا إلى الباشا (في 28 يونيو) قد فقد كل اعتبار له عند زملائه، حتى صار يشكو بمرارة من إبراهيم بك وعثمان بك حسن، والبكوات الآخرين من بيت مراد، ويلعن اليوم الذي انضم فيه إليهم، ويريد أن يتركهم إذا صفح الباشا عنه وأعطاه إيرادات مديرية الفيوم.
فكان لهذه الأخبار التي أظهرت انقسام البكوات وأكدت أنهم ما زالوا على منافساتهم وخلافاتهم القديمة ولا يخشى لذلك من بأسهم، أعظم الأثر في تقرير محمد علي التعجيل بالهجوم عليهم، فبعث أولا برسله إلى شاهين بك يتفاوضون معه حتى يضمن شل حركته في المعركة المقبلة، وفي ليل 20 يوليو 1810 شن محمد علي هجوما عنيفا مفاجئا على المماليك في قنطرة اللاهون وانتصر عليهم.
وكان سبب هزيمة البكوات أنهم انخدعوا بما لاحظوه من حذر في عمليات الباشا منذ وصوله إلى الفيوم، فتهاونوا ولم يستعدوا الاستعداد اللازم، فعجزوا عن المقاومة عند مباغتتهم، وعقدوا العزم على إنقاذ عتادهم الحربي ومدافعهم، ولكنهم فشلوا حتى في هذا، فتقهقروا مسرعين إلى البهنسا - وهي قرية على بحر يوسف بالشاطئ الغربي - تاركين وراءهم عشر مدافع وقسما كبيرا من عتادهم، فكانت هزيمة كبيرة، وصلت أخبارها إلى القاهرة في 28 يوليو، فبادر «دروفتي» بالكتابة عن تفاصيلها إلى حكومته في اليوم نفسه، كما تحدث عن آثارها فقال: «إن معركة قنطرة اللاهون قد ملكت الباشا مديرية الفيوم بأسرها، الإقليم الغني بغلاته الوفيرة، فاستولى الباشا على كل ما وجده من مؤن بها، ثم إن هذا النصر قد حرم كذلك شاهين بك من الغلال وغيرها مما كان يأخذه من القرى بمديريتي الجيزة والفيوم، فزاد تذمره، وقوي سوء التفاهم بينه وبين إبراهيم بك، وفضلا عن ذلك فقد أكسب هذا النصر جند الباشا ثقة في قوتهم لم تكن لديهم قبل هذه المعركة.»
ولم يفرح الشيخ الجبرتي لهذا النصر، ولم يستبشر به خيرا، فاكتفى بأن سجل عن هذه المعركة الكبيرة في حوادث 28 يوليو، أن الأخبار قد وصلت «بأن الباشا ملك قناطر اللاهون، وأن المصريين ارتحلوا إلى ناحية البهنسا، ولم يقع بينهم كبير محاربة، وأن الباشا استولى على الفيوم، وأرسل الباشا هدايا لمن في سرايته، ولكتخدا بك، من ظرائف الفيوم مثل ماء الورد والعنب والفاكهة وغير ذلك، واستولى على ما كان مودعا للمصريين من غلال بالفيوم.»
وأما البكوات فقد ادعوا أنهم لم ينهزموا في معركة قنطرة اللاهون، وراحوا يذيعون أنهم لم ينهزموا، ولم يكن تقهقرهم إلا عن خطة موضوعة؛ لأنهم لم يشاءوا التعرض لنيران مدفعية الباشا دون فائدة؛ حيث إنهم قد قرروا أن يتخيروا هم الظرف المناسب حتى يكون سبق المبادأة في أيديهم، وأنهم قصدوا بتقهقرهم المتعمد، استدراج الباشا إلى حافة الصحراء؛ حيث يستطيعون في الأرض المنبسطة إطلاق فرسانهم على جيش الباشا وإنزال هزيمة ساحقة به في مكان بعيد عن النهر، ويتعذر على فلول جيشه التقهقر إلى النيل، على أن هذه الدعاوى، كانت إيهامات كاذبة.
وانتشى محمد علي بخمرة هذا الانتصار، فبادر بالكتابة إلى الباب العالي في آخر يوليو يزف إليه بشرى هذا الانتصار على البكوات، وهو الانتصار الذي تفاءل به محمد علي واعتبره مبشرا بقرب زوال غوائلهم.
وفي الواقع استمر البكوات في تقهقرهم بعد هذه المعركة حتى وصلوا إلى كفر بهنسا، قرية على مسافة أربع عشرة مرحلة فوق جسر اللاهون، وتقع على حافة الصحراء الليبية، بدا للبكوات أنها أصلح مكان للصمود في وجه المشاة الأرنئود وقتالهم؛ حيث إن انبساط الأرض وخلوها من العقبات التي قد يجد فيها الأرنئود درعا لحمايتهم سوف يعرضهم لهجوم فرسان المماليك المتصل عليهم، ثم لنيران مدفعيتهم التي اعتمدوا عليها في المعركة المقبلة.
وعلى ذلك، فإنه ما إن ظهرت طلائع جيش محمد علي - وكان قد استأنف الزحف بعد راحة قصيرة، والجنود مشتعلون حماسا بسبب انتصارهم الأخير - حتى بادرهم المماليك بالهجوم عليهم، فدارت رحى الحرب في معارك متصلة، كل يوم تقريبا، أبدى فيها الفريقان بسالة فائقة، ووقعت أشد هذه المعارك وأحماها وطيسا في أيام 11، 18، 24 أغسطس 1810، ولكن كان لدى الباشا مدفعية متفوقة على مدفعية البكوات، ومشاته أكثر مرانا على فنون القتال من مشاتهم، وقبل كل شيء محمد علي نفسه هو الذي يختار ميدان هذه المعارك بما يكفل له تجريد خصومه من الميزة التي لهم في دربة فرسانهم وتفوقهم، فخاب فأل البكوات في هذه المرة كسابقتها، وحلت بهم الهزيمة، فقتل وأسر منهم كثيرون، وتشتت شمل جيشهم، وكان يوم 24 أغسطس هو يوم (معركة البهنسا) الفاصلة، ولاذ إبراهيم بك وعثمان بك وفلول المماليك بالفرار إلى أعالي الصعيد صوب الشلالات.
وللمرة الأولى في تاريخ جيش محمد علي، صدر بلاغ عسكري سجل هذا النصر، نقل «دروفتي» ترجمته في رسالته إلى حكومته في أول سبتمبر 1810، كما أثبت هذه الترجمة غيره من المعاصرين، ونص البلاغ ما يأتي:
من المعسكر بين بني عدي ومنفلوط في 25 رجب 1225/24 أغسطس 1810
ما كدنا نرى طلائع فرسان المماليك حتى هاجمناهم على رأس فرساننا تعزز المدفعية هجومنا، وكان معنا (ومحمد علي هو المتحدث) ولدنا العزيز إبراهيم بك دفتردار مصر، فحملنا على العدو، وقد أطلقنا العنان لخيولنا حتى اخترقنا صفوفه من أول هجمة عليه، فشتتنا صفوفه وألحقنا به الهزيمة الساحقة، ثم طاردنا بعنف أولئك الذين لجئوا (من العدو) إلى الجبال في هذا المكان، حتى عقبة بني عدي، فبلغ عدد القتلى والأسرى أكثر من ستمائة، بينما طلب النجاة حوالي الألف في الفرار، فانسحبوا إلى منفلوط وأسيوط وأماكن أخرى، وعقب المعركة دخل ثلاثة من بكوات عثمان بك حسن، وآخر من بكوات الجماعة الأخرى إلى منفلوط مستسلمين، ثم طلب الأمان ستة من البكوات وعدد من الكشاف وفرسان المماليك العاديين، وأما إبراهيم بك العجوز وسليم بك الأعور (المحرمجي) وعثمان بك حسن وشاهين بك الألفي - وهم الذين جبلوا على الهرب والفرار - فقد اتجهوا بعد أن أثخنتهم الجراح صوب إبريم وبلاد السودان، ومعهم فلول جيشهم المحطم، فحمدا لله وشكرا على نعمائه، الذي أنهى طغيان البكوات وحطمهم تحطيما.
ثم بادر محمد علي بالكتابة إلى القسطنطينية ينقل إليها خبر تمكنه من حرق طوائف البكوات الأشقياء الذين شقوا عصا الطاعة من جديد، ورفعوا راية الثورة والعصيان.
وأما الشيخ الجبرتي الذي لم يسجل هذا (البلاغ العسكري) في تاريخه، فقد اكتفى بأن ذكر في حوادث يوم 31 أغسطس: «وردت أخبار بوقوع حرابة بين الباشا والمصريين، وقتل بين الفريقين مقتلة عظيمة عند دلجة والبدرمان، وكانت الغلبة للباشا على المصريين، وأخذوا منهم أسرى، وحضر إلى الباشا جماعة من الأمراء الألفية بأمان، وهرب الباقون وصعدوا إلى قبلي، فعملوا؛ أي حكومة القاهرة، بذلك شنكا ومدافع ثلاثة أيام، كل يوم ثلاث مرات.»
وفي أول سبتمبر وصل محمد علي القاهرة، وفي 13 سبتمبر 1810 «حضرت العساكر والتجريدة إلى نواحي الآثار والبساتين، ودخلوا (القاهرة) في صبيحة (14 سبتمبر) بطموشهم وحملاتهم، حتى ضاقت بهم الأرض، وحضر صحبتهم الكثير من الأجناد المصرية أسرى ومستأمنين.»
وبذلك اختتمت حملة 1810. (10) شاهين الألفي ... مستأمنا
وتحدث «سانت مارسيل» - في كتابه إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 11 أكتوبر 1810 - عن نتائج معركة البهنسا، فقال: «إن عددا كبيرا من المماليك قتلوا أو أسروا، وإن آخرين فروا من جيش البكوات، لينضموا إلى الباشا، وإن من بين الجرحى شاهين بك الألفي وإبراهيم بك، وإن هناك بكوات آخرين يريدون الوصول إلى اتفاق جديد مع الباشا، يبدو من الصعب أن يقبله الباشا، والبكوات المنهزمون يضربون صوب إسنا ومن المنتظر أن يستأنفوا زحفهم منها (ضد قوات الباشا المرابطة في جهات الصعيد) عند انخفاض الماء في النيل، لا ريب في ذلك.
ولم يكن شاهين الألفي من بين البكوات الضاربين صوب إسنا.
فقد اتسعت شقة الخلاف بينه وبين إبراهيم وعثمان بك حسن، بعد الهزيمة الأخيرة خصوصا، ورسخ في ذهنه أن المطاولة في معاداة الباشا لا جدوى منها ولا طائل تحتها غير تحمل مشاق التشريد والحرمان، وتاقت نفسه لاستئناف حياة الرخاء والدعة التي عاشها سابقا في كنف محمد علي، مغمورا بنعمائه، وأبلغ رغبته في الصلح مع الباشا، والاعتراف بسيادته وسلطانه، وأمل الباشا خيرا من رغبة شاهين في الخضوع والاستسلام، ونسى غدره وخيانته السابقة، فأوفد إليه منذ أواخر سبتمبر، سليمان بك البواب لمصالحته على يد حسن باشا الذي تولى القيادة العامة الآن على الجند الباقين بالصعيد لتعقب فلول جيش المماليك.
فحضر شاهين بك ومن معه إلى مصر مستأمنا في 8 نوفمبر 1810، ونصب وطاقه بناحية البساتين، فلما استقر بخيامه وعرضيه ببر مصر، حضر مع رفقائه، وقابل الباشا وهو ببيت الأزبكية، فبش في وجهه، فقال شاهين بك: نرجو سماح أفندينا وعفوه عما أذنبناه، فقال الباشا: نعم، من قبل مجيئكم بزمان، وأخلى له بيت محمد كتخدا الأشقر بجوار طاهر باشا بالأزبكية، وفرشوه، ونظموه، ووعده برجوعه إلى الجيزة في مناصبه كما كان، حتى يتحول منها محرم بك صهر الباشا؛ لأنه عند انتقال شاهين بك من الجيزة عدى إليها محرم بك بحريمه، وهي ابنة الباشا، وسكن القصر بعسكره، وكذلك أسكن كبار أتباعه وخواصه القصور التي يسكنها الألفية وكذلك البيوت والدور، فوعدوا شاهين بك بالرجوع إلى محله.»
ووجد الشيخ الجبرتي في استئمان شاهين وتصديقه لوعود الباشا، دليلا على خسافة عقله؛ لأن الباشا وهو يبش في وجهه ووجوه أتباعه إنما كان يفعل ذلك وهو مصر لهم على كل كريهة، ولم يكن من المعقول في نظر الشيخ - أن يخلي محمد علي قصر الجيزة من صهره، زوج ابنته، ليسكنه شاهين.
بيد أنه وقت استئمان شاهين، كان لم يطرأ أي تغيير على موقف محمد علي من البكوات المماليك، فهو لا يزال يرحب بالذين ينفصلون عن إخوانهم، ويقبلون الحضور إلى القاهرة معترفين بسلطان باشويته، فيعيشون بها في هدوء وسلام تحت إشرافه ومراقبته، يعاملهم نفس المعاملة التي يلقاها قواده منها، ويلحقون فرسانهم بجيشه المزمع إرساله إلى الحجاز، وهو لا يزال عاقدا العزم على تعقب البكوات المخالفين والإمعان في تشريدهم، فموقف محمد علي إذا من البكوات بعد انتصارات اللاهون والبهنسا هو نفس موقفهم منهم عندما بدأت حملة 1810.
ولقد كان ترحيبه بالبكوات الذين انشقوا على إخوانهم أثناء هذه الحملة وإسكانهم الدور وإغداق العطايا عليهم، مبعث اعتقاد كثيرين بأن الباب العالي نفسه يريد من الباشا إنهاء خصومته مع البكوات، والتقرب منهم والصلح معهم بدلا من قتالهم؛ حتى يمكنه التفرغ لمسألة الحرمين الشريفين، وإنفاذ جيشه إلى الحجاز لاستنقاذهما، عبر عن هذا الرأي القنصل الفرنسي بالإسكندرية «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في 24 أغسطس 1810.
وأما إصراره على مناجزة البكوات المخالفين الذين تشردوا في أعالي الصعيد عقب معارك البهنسا، فلأن هؤلاء لم يرضوا بالهزيمة، فراحوا يجمعون فلولهم، وتقدموا من أسوان وإسنا، ثم اتخذوا من جهات قنا وقوص قاعدة يغيرون منها على الإقليم الممتد من قنا إلى أسيوط وما بعدها، فالتحم قواد الباشا معهم مرات عدة، حتى انتصر عليهم أحمد آغا لاظ وأرغمهم على الارتداد إلى قنا وقوص (يناير وفبراير 1811).
وعمد بكوات الصعيد، وقد حلت بهم الهزيمة، وضاع كل أمل لديهم بتاتا منذ معارك اللاهون والبهنسا في مقاومة الباشا دون الاستعانة بحليف قوي، وعمدوا إلى التآمر ضد باشويته مع ألد خصومه وأعدائه، سليمان باشا الكرجي، ولقد تقدم في فصل سابق عند الكلام عن سياسة محمد علي أنه كان بين البكوات وسليمان باشا صداقة مشهورة معروفة، كما تبادل الفريقان المكاتبات، وشكا محمد علي مر الشكوى من هذه العلاقات للباب العالي؛ لأن وجود هذه العلاقات إلى جانب أنه يمنع الباشا من الخروج لحرب الوهابيين - وكان قد صح عزمه على تلبية رغبات الباب العالي لمواءمة ذلك لمصلحته، للأسباب التي سبق أن عرفناها - فقد كانت لحمتها وسداها التآمر على باشويته وتقويض ملكه، بل ويتهم محمد علي سليمان باشا بأنه مدبر الفتنة ومحرض البكوات على العصيان والثورة، ولقد سبق أن ذكرنا رسالة محمد علي إلى الباب العالي في 3 نوفمبر 1810، التي بسط فيها مشاريع البكوات الذين بالصعيد، وهدد في الوقت نفسه بأنهم إذا اعتزموا الذهاب إلى سليمان باشا، ليبعثن بجيشه إلى العريش وغزة لقطع السبيل على المماليك بما في ذلك من اعتداء على أقاليم من باشوية سليمان الكرجي، وظل محمد علي يطلب بإلحاح تنحية سليمان باشا عن ولاية الشام، حتى يتسنى له إرسال الجيش إلى الحجاز، بل وطالب محمد علي - كما عرفنا - بإسناد ولاية الشام ذاتها إلى ابنه طوسون، وراح «دروفتي» يعلل هذه المطالب - في رسالته إلى حكومته في 11 نوفمبر 1810 - بأن الباشا يسوغ هذه (المشروعات الاستقلالية) بالأثر الذي أحدثه في نفسه مصادرته لكتاب كان قد بعث به سليمان باشا والي الشام حاليا إلى البكوات المماليك وقت محاربة هؤلاء لمحمد علي، واستمر محمد علي مصرا على مطالبته بعزل سليمان الكرجي حتى الشهور الأولى من عام 1811.
وأما المستأمنون من البكوات الذين يعيشون في القاهرة، وعلى رأسهم شاهين الألفي، فإنهم بالرغم من استئمانهم، وتمتعهم بالعيش الرغيد في القاهرة، فقد اختاروا في هذه المرة أيضا نقض عهودهم، فاستأنفوا مؤامرتهم ضد الباشا، وصاروا يتراسلون مع إبراهيم بك وعثمان بك حسن وسائر البكوات بالصعيد، واستطاعوا بواسطة هؤلاء إنشاء الصلات مع سليمان باشا، وعلاوة على ذلك، فقد استأنف شاهين صلاته مع «بتروتشي» وعملاء الإنجليز، وبلغت به الحماقة أن أطلع «دروفتي» على صورة من كتابه إلى «كولنجوود» بتاريخ 9 أغسطس 1809، وهو الكتاب الذي سطره له تحت تأثير «بتروتشي»، وقد بعث «دروفتي» بصورة هذا الكتاب إلى حكومته طي رسالة مؤرخة في 11 نوفمبر 1811، تحدث فيها عن حسن المعاملة التي لقيها من محمد علي، الذي أعاد إليه قسما كبيرا من الأملاك التي كان قد أعطاها له قبل خروجه على سلطانه في حادث 17 مايو 1810، وخشي محمد علي عندما شاهد تردد «بتروتشي» على شاهين، عودة هذا إلى التآمر عليه، لا سيما وأن الوكلاء الإنجليز عظم نشاطهم منذ عودة «بريجز» إلى الإسكندرية منذ مارس 1810، بعد أن كان قد غادرها - كما تقدم - وقت انسحاب حملة فريزر فعادت المؤامرات والمكائد إلى مصر بعودته، كما أكد «دروفتي» لحكومته منذ 12 مارس من العام نفسه.
وسواء أكان الوكلاء الإنجليز يتآمرون على محمد علي بالتعاون مع شاهين الألفي وزملائه، أم إنهم ما كانوا يبغون شيئا من ذلك، فقد كفت زيارات «بتروتشي» الكثيرة لشاهين؛ لإثارة شكوك محمد علي ومخاوفه من ناحية شاهين، وبخاصة عندما تبين له أن شاهين وزملاءه متصلون عن طريق بكوات الصعيد المخالفين بسليمان باشا، بل وصادر بعض المكاتبات المتبادلة بين سليمان باشا وبين هؤلاء، والتي تدين شاهين الألفي بتهمة الاشتراك في هذا التآمر. (11) مذبحة القلعة
وتضافرت عوامل عدة خلال شهري يناير وفبراير 1811 خصوصا، لإقناع محمد علي بضرورة إنهاء مشاغله من ناحية البكوات المماليك، بإنزال ضربة ساحقة ماحقة بهم، لا تقوم لهم قيامة بعدها، وكان أهم هذه العوامل - بلا شك - عدا اتضاح غدر مستأمني البكوات، ومثابرتهم مع سائر إخوانهم على الكيد له لهدم سلطانه، بل والقضاء على حياته هو نفسه، أن الباب العالي وعد بجعل باشوية مصر وراثية في أسرته في وضع مشابه لوضع وجاقات الغرب، إذا أنفذ محمد علي جيشه إلى الحجاز لقتال الوهابيين، أي إن الباشا صار يرى قاب قوسين أو أدنى، تحقيق ذلك المشروع الكبير الذي أخذ يعمل جادا لإخراجه إلى حيز الوجود، من أيام حملة «فريزر»، ودل وعد الباب العالي هذا على أن سياسة الباشا التي ارتكزت في تطورها الأخير، وعند رفض كل من إنجلترة وفرنسا لمشروع استقلاله، على الاتجاه صوب تركيا، مع ما يستتبع ذلك حتما - كما سبق أن أوضحنا - من الخروج إلى حرب الوهابيين - دل هذا الوعد على أن هذه السياسة قد أثمرت ثمرتها النافعة، وأن الجهود المضنية التي بذلها محمد علي لإنجاح هذه السياسة لم تذهب سدى؛ ولذلك فقد صار لزاما عليه اتخاذ كل إجراء يكفل انتصار جيشه في الحملة المقبلة في بلاد العرب، ومن أولى الإجراءات اللازمة، اطمئنانه إلى باشويته ذاتها، وعدم تعريضها لخطر هجوم أعدائه عليها أثناء وجود جيشه بالحجاز، ومعنى هذا الاطمئنان أن تكون حكومته موطدة الدعائم داخليا، وهذا ما كفله انفراده بالسلطة، وأن ينبسط سلطانها على أرجاء الباشوية، وهذا ما جعله يشن الحرب على المماليك عندما أعيته الحيل في إلزامهم الوفاء بعهودهم المتكررة معه، ثم ما صار يعتزمه من الفتك بهم للتخلص من شرهم نهائيا، حينما ثبت لديه تآمرهم عليه، واتضح له أن المستأمنين منهم أنفسهم ضالعون في هذه المؤامرة.
وكان أول ما لفت انتباهه إلى ضرورة اتخاذ إجراء حاسم مع البكوات، إلحاح قبو كتخداه في الآستانة وسائر وكلائه بها في ضرورة إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ثم تأكيدهم له بأن الباشوية الوراثية موعود بها إذا حقق رجاء الباب العالي فيه، وتعتبر رسالة محمد نجيب أفندي المؤرخة في 20 ديسمبر 1810 - وقد سبق إثباتها بنصها - من أهم الكتب في هذا الصدد.
ومنذ ذلك التاريخ، ظلت تترى في هذا المعنى رسائل وكلائه لدى الباب العالي، كما حلت مشكلة هامة أخرى ارتبطت بمسألة الخروج إلى حرب الوهابيين، هي مشكلة يوسف باشا كنج، من ذلك كتاب محمد نجيب في 9 يناير 1811، وكتابا أحمد شاكر في 27، 28 يناير، ومحمد نجيب مرة أخرى في 28 يناير، وهي التي تتضمن جعل إيالة مصر منحصرة في أولاد محمد علي وسلالته الطاهرة، مع توجيه رتبة الخان الرفيعة له.
هذه الرسالة وصلت محمد علي في أوائل فبراير 1811، وفي أوائل الشهر التالي وصلته من القسطنطينية رسالة أخرى من محمد عارف أفندي الذي قال: إنه يعمل يدا واحدة مع محمد نجيب أفندي، وفي هذه الرسالة المؤرخة في 24 فبراير 1811، ألح محمد عارف أفندي في ضرورة إنفاذ الجيش إلى الحجاز، وراح يؤكد للباشا أنه ما إن يصل القسطنطينية الخبر بقيام طوسون باشا، حتى تجاب جميع مطالب محمد علي من الباب العالي.
وكان أن راح البكوات يسعون لتضليل محمد علي من ناحية، ثم للفتك بحياته من ناحية أخرى، فمع أن بكوات الصعيد كانوا يتراسلون مع سليمان باشا - كما كان يتراسل معه كذلك شاهين الألفي - فقد بعثوا بمندوب عنهم لمفاوضة الباشا حتى يشغلوه عن أغراضهم الحقيقية، فطلبوا الاستئثار بالصعيد بأسره؛ أي العودة إلى ما كانوا عليه قبل هزيمتهم بقنطرة اللاهون والبهنسا، وهم يعرفون جيد المعرفة أن الباشا الذي اضطر إلى خوض غمار الحرب معهم وألحق بهم الهزيمة الساحقة، لم يقبل بحال هذه العروض، ولن يتم أي صلح بينه وبينهم إلا على أساس الاعتراف - دون التواء - بسيادته وسلطانه الكامل على باشويته، وأن لا مفر من حضورهم إلى القاهرة والإقامة بها، فكتب «دروفتي» إلى حكومته في 16 يناير 1811 «أن البكوات يريدون عقد الصلح مع الباشا على أساس الاعتراف بسيادته، في نظير إعطائهم الصعيد إقطاعية لهم، فلم تسفر المفاوضة عن أية نتيجة؛ لأن الباشا ظل مصمما على حضورهم إلى القاهرة والإقامة بها، ووعد إذا هم فعلوا ذلك أن يعطيهم من الأملاك ما يكفيهم إيرادها أن يعيشوا حسب مراتبهم، كما يفعل الباشا مع رؤساء جيشه.»
على أن الذي أقنع الباشا نهائيا أنه لا يمكن أمن جانب البكوات إطلاقا أن راح البكوات المستأمنون بالقاهرة يتآمرون على الغدر به، ذلك أن محمد علي كان قد ذهب إلى السويس في أول فبراير 1811، للإشراف على إعداد السفن اللازمة لنقل جيشه إلى الحجاز، فبلغه وهو هناك أن البكوات قد بيتوا النية على خطفه والفتك به أثناء عودته بطريق الصحراء إلى القاهرة، على غرار ما كانوا دبروه في ديسمبر 1809، فبادر بالعودة سريعا من السويس، وكتب الشيخ الجبرتي أن الباشا وصل القاهرة يوم 26 فبراير 1811 من السويس في سادس ساعة من الليل وقد حضر على هجين بمفرده، ولم يصحبه إلا رجل بدوي على هجين أيضا ليدله على الطريق، وقطع المسافة في إحدى عشر ساعة، وهي المسافة التي تقطع عادة في ثلاثة أيام.
فكانت هذه المؤامرة من العوامل الحاسمة في تعجيل الباشا الإجهاز على البكوات المماليك.
وفي اليوم نفسه وصل صالح قوج حاكم أسيوط إلى القاهرة، وكان موجودا بها قبله حسن باشا، فبدأ من ثم تدبير تفاصيل المكيدة التي أودت بالبكوات في مذبحة القلعة، اشترك في تدبيرها رجال محمد علي الذين وثق بهم، عدا حسن باشا وصالح قوش، كتخدا بك محمد آغا لاظ (لاظ أوغلي)، وسليمان آغا السلحدار، وفي صباح اليوم المتفق عليه لتنفيذ المذبحة اطلع على السر إبراهيم آغا المكلف بحراسة باب العزب، وكان قد تم الاتفاق على اتخاذ الاحتفال بتقليد طوسون قيادة حملة الحجاز ذريعة لدعوة البكوات وأتباعهم إلى القلعة للاشتراك في الموكب الذي رتب خروجه من القلعة، من باب العزب إلى ميدان الرميلة.
ففي يوم 26 فبراير قلد الباشا ابنه طوسون باشا صاري عسكر الركب الموجه إلى الحجاز، وأخرجوا جيشهم إلى ناحية قبة العزب (القبة)، ونصبوا عرضيا وخياما، وأظهر الباشا الاجتهاد الزائد والعجلة وعدم التواني في إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ونوه بتسفير عساكر لناحية الشام لتمليك يوسف باشا (كنج) لمحله، وصاري عسكرهم شاهين بك الألفي.
وسبك الباشا الحيلة، فطلب من المنجمين أن يختاروا وقتا صالحا لإلباس ابنه خلعة السفر، فاختاروا له الساعة الرابعة من يوم الجمعة، أول مارس 1811.
وفي 28 فبراير، وزعت التنابيه أو أوراق الدعوة لحضور الاحتفال على كبار العسكر والأعيان، وكل ذي حيثية، وبطبيعة الحال الأمراء المصرية الألفية وغيرهم يطلبونهم جميعا للحضور في باكر النهار إلى القلعة ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب، وجرى توزيع رقاع الدعوة هذه بصورة لفتت أنظار العامة وسائر الناس، عرف الجميع أن موكبا فخما سوف يخرج بصورة رائعة من القلعة صبيحة اليوم التالي، وكان الغرض من هذه الجلبة أن يرسخ الاعتقاد في أذهان البكوات وأتباعهم أن دعوتهم للاشتراك في الاحتفال المزمع بريئة، فلا يحتاطون ولا يأخذون حذرهم.
وفي اليوم التالي - أول مارس - وقعت المذبحة.
وتتفق روايات المعاصرين عن هذه المذبحة وما تلاها، ولو أن رواية الشيخ الجبرتي أوفى في تفاصيلها عن سواها، ليس لاهتمامه بتسجيل ما يجري في إسهاب دائما - وهو الذي لزم في المدة الأخيرة الإيجاز في أكثر ما يكتب، إلا فيما اتصل بأخبار البكوات وأساليب الباشا المالية والغلاء، واعتداءات الجند على الأهلين - ولكن لأن ما جرى في ذلك اليوم كان حدثا مدويا حقا، ولأن المذبحة أجهزت على البكوات الذين اعتبرهم الشيخ دائما مصريين، وكان يود لو أنهم استطاعوا الانتصار على الباشا وزحزحة الطاغية - في نظره - عن عرشه، فقضت خاتمتهم المروعة هذه على كل أمل لدى الشيخ في إنهاء حكم محمد علي.
ورواية الشيخ الجبرتي إلى جانب أنها وافية، فهي ترسم صورة تبرز وقائع هذا اليوم الرهيب، وكأنها تجري متلاحقة في أثر بعضها بعضا أمام أعيننا، قال: «فلما كان يوم الخميس رابعه (4 صفر 1226 / 28 فبراير 1811) طاف ألاي جاويش بالأسواق على صورة الهيئة القديمة في المناداة على المواكب العظيمة، وهو لابس الضلمة والطبق على رأسه، وراكبا حمارا عاليا، وأمامه مقدم بعكاز، وحوله قابجية ينادون بقولهم: يارن ألاي، ويكررون ذلك في أخطاط المدينة، وطافوا بأوراق التنابيه على كبار العسكر والبينيات والأمراء المصرية الألفية وغيرهم، يطلبونهم للحضور في باكر النهار إلى القلعة؛ ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب.
فلما أصبح يوم الجمعة (5 صفر/أول مارس)، ركب الجميع وطلعوا إلى القلعة، وطلع المصرية بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم، فدخل الأمراء عند الباشا، وصبحوا عليه، وجلسوا معه حصة وشربوا القهوة، وتضاحك معهم، ثم انجر الموكب على الوضع الذي رتبوه.
فانجر طائفة الدلاة وأميرهم أزون علي، ومن خلفهم الوالي والمحتسب والآغا والوجاقلية والألدشات المصرية ومن تزيا بزيهم، ومن خلفهم طوائف العسكر الرجالة والخيالة والبيكباشيات وأرباب المناصب منهم، وإبراهيم آغا آغات الباب، وسليمان بك البواب يذهب ويجيء ويرتب الموكب.
وكان الباشا قد بيت مع حسن باشا وصالح قوج والكتخدا فقط غدر المصرية وقتلهم، وأسر بذلك في صبحها إبراهيم آغا آغات الباب.
فلما انجر الموكب وفرغ طائفة الدلاة، ومن خلفهم من الوجاقلية والألداشات المصرية، وانفصلوا من باب العزب، فعند ذلك أمر صالح قوج بغلق الباب، وعرف طائفته بالمراد، فالتفتوا ضاربين بالمصرية، وقد انحصروا بأجمعهم في المضيق المنحدر المقطوع في أعلى باب العزب، مسافة ما بين الباب الأعلى الذي يتوصل منه إلى رحبة سوى القلعة، إلى الباب الأسفل، وقد أعدوا عدة من العساكر أوقفوهم على علاوي النقر والحجر والحيطان التي به، فلما حصل الضرب من التحتانيين، أراد الأمراء الرجوع القهقرى، فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول في مضيق النقر، وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضا، وعلم العساكر الواقفون بالأعالي المراد، فضربوا أيضا.
فلما نظروا؛ أي المماليك، ما حل بهم سقط في أيديهم، وارتبكوا في أنفسهم، وتحيروا في أمرهم، ووقع منهم أشخاص كثيرة، فنزلوا عن الخيول، واقتحم شاهين بك الألفي وسليمان بك البواب وآخرون في عدة من مماليكهم راجعين إلى فوق، والرصاص نازل عليهم من كل ناحية، ونزعوا ما كان عليهم من الفراوي والثياب الثقيلة، ولم يزالوا سائرين وشاهرين سيوفهم، حتى وصلوا إلى الرحبة الوسطى المواجهة لقاعدة الأعمدة، وقد سقط أكثرهم، وأصيب شاهين بك وسقط إلى الأرض، فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا عليها البقشيش.
وكان الباشا عندما ساروا بالموكب ركب من ديوان السراية، وذهب إلى البيت الذي به الحريم، وهو بيت إسماعيل أفندي الضربخانة.
وأما سليمان بك البواب فهرب من حلاوة الروح وصعد إلى حائط البرج الكبير، فتابعوه بالضرب حتى سقط وقطعوا رأسه أيضا، وهرب كثير إلى بيت طوسون باشا يظن الالتجاء به والاحتماء فيه، فقتلوهم.
وأسرف العسكر في قتل المصريين وسلب ما عليهم من الثياب ولم يرحموا أحدا، وأظهروا كامن حقدهم، وضبعوا فيهم وفيمن رافقهم متجملا معهم من أولاد الناس وأهالي البلد الذين تزيوا بزيهم لزينة الموكب، وهم يصرخون ويستغيثون، ومنهم من يقول: أنا لست جنديا ولا مملوكا، وآخر يقول: أنا لست من قبيلتهم، فلم يرقوا لصارخ ولا شاك ولا مستغيث، وتتبعوا المشتتين والهربانين في نواحي القلعة وزواياها والذين فروا ودخلوا في البيوت والأماكن، وقبضوا على من أمسك حيا ولم يمت من الرصاص، أو متخلفا عن الموكب، وجالسا مع الكتخدا بك كأحمد بك الكيلارجي ويحيى بك الألفي وعلي كاشف الكبير، فسلبوا ثيابهم وجمعوهم إلى السجن، تحت مجلس كتخدا بك، ثم أحضروا أيضا المشاعلي ليرمي أعناقهم في حوش الديوان واحدا بعد واحد، من ضحوة النهار إلى أن مضى حصة من الليل في المشاعل، حتى امتلأ الحوش من القتلى، ومن مات من المشهورين المعروفين وانصرع في طريق القلعة، قطعوا رأسه، وسحبوا جثته إلى باقي الجثث، حتى إنهم ربطوا في رجلي شاهين بك الألفي ويديه حبالا وسحبوه على الأرض مثل الحمار الميت إلى حوش الديوان، هذا ما حصل بالقلعة.»
هذا، ويذكر المعاصرون أن اختيار طريق باب العزب لنزول الموكب منه ، كان أحد العوامل الحاسمة في نجاح المكيدة؛ لأنه طريق علاوة على انحداره وضيقه الشديدين كان كثير التعاريج، عميق الغور، بحيث صار جانباه من الصخر كحيطان عالية، فتعذر على المماليك ملاحظة ما بدا من نشاط الجند الواقفين على الصخور على جانبي الطريق عندما جاءت الإشارة بإطلاق النار، ثم إن السائرين في الموكب لم يكن في مقدورهم بسبب منعرجات الطريق رؤية زملائهم الأماميين أو الخلفيين؛ ولذلك بينما كان يدق المتقدمون على باب القلعة الضخم المصفح بالحديد (باب العزب) بعد إغلاقه المحكم، وتوقف طليعة أجناد المماليك وبكواتهم عند الباب وقد استولى عليهم الذهول، لم يدر سائر إخوانهم في المؤخرة بشيء مما وقع حتى وجدوا أنفسهم بغتة والرصاص ينهال عليهم.
زد على ذلك أن اطمئنانهم إلى طبيعة الاجتماع - للاحتفال بتقليد طوسون القيادة العامة لحملة الحجاز - جعلهم يغفلون التسلح بالقرابين والبنادق، فلم يكن معهم رصاصة واحدة، ولما كانوا قد تزينوا وتدثروا بأغلى الفراء والملابس الثقيلة، فقد زادت هذه من ارتباكهم، ثم كان من عوامل زيادة الفوضى في صفوفهم أن المتقدمين منهم عندما شاهدوا الضرب عليهم، حاولوا أن يلووا أعنة خيولهم للصعود إلى القلعة، بينما كان إخوانهم نازلين عليهم بخيولهم في المنحدر الشديد ولا يكادون يقدرون على كبح خيولهم.
ويزيد المعاصرون، أن سليمان بك البواب، الذي هرب من حلاوة الروح استطاع الوصول، وهو يكاد يكون عاريا وقد أثخنته الجراح، إلى عتبة باب الحريم، وصار يستغيث قائلا: أنا في عرض الحريم، وكانت هذه الاستغاثة حسب التقاليد، تكفي في ظروف غير هذه الظروف، لإنقاذه من الموت، ولكنهم قطعوا رأسه عند عتبة باب الحريم هذه، وأما طوسون عندما لجأ إليه آخرون، فكان واقفا على باب داره ممتطيا حصانه، وألقى المستنجدون به بأنفسهم على الأرض ركوعا يتوسلون إليه أن يرحمهم، ولكن هذا ظل جامدا ولم تختلج عضلة واحدة في وجهه وهو يرى الجند يقطعون رءوس الراكعين الذين مكنوهم بسبب ركوعهم هذا من أن ينفذوا فيهم القتل في سهولة ويسر.
ومع أن طريق باب العزب، وساحة (أو رحبة) القلعة الداخلية، وسائر أفنيتها عند الحريم والسراي (قلعة الباشا) وقلعة الإنكشارية، وقلعة الوجاقلية، وثكنات (أو قسم) العزب، كانت مغطاة بجثث القتلى، وأرديتهم ومجوهراتهم وأسلحتهم (سيوفهم وخناجرهم ذات المقابض الثمينة) وفرائهم، وسروج خيولهم، فإن أحدا من الجند لم يغادر مكانه من أعلى الصخور، أو أغراه الطمع في هذه الأسلاب؛ لينصرف عن مهمته، فلم يبدأ سلب هذه الغنائم إلا بعد الفراغ من إبادة هؤلاء المماليك.
وكان الباشا عند بدء تنفيذ المذبحة وذهاب صالح قوج، مجتمعا (بقاعة الاستقبال) مع شركائه الآخرين في تدبيرها: حسن باشا وكتخدا بك محمد آغا لاظ وسليمان آغا السلحدار، وقد لاذوا جميعا بالصمت، والباشا يذرع القاعة جيئة وذهابا، وقد استبد به وبزملائه القلق الجسيم، والسكون الرهيب يخيم عليهم، ويفزع حسن باشا وزميليه أقل بادرة أو إشارة مبهمة تبدر من الباشا الذي صار يزداد اصفرار وجهه كلما دنت ساعة التنفيذ، حتى إذا دوت أول رصاصة، علامة بدء المذبحة، وأعقب ذلك على الفور إطلاق الرصاص، توقف الباشا فجأة، ثم جلس على ديوانه، وبهت لونه، ولم يفتح أحد فاه بكلمة واحدة حتى إذا خف دوي الرصاص، وانقطع إطلاقه رويدا رويدا، هدأت نفوس الباشا وزملائه كذلك وزايلهم الفزع رويدا رويدا، ولو أن السكون العميق ظل مخيما عليهم، حتى انفتح باب القاعة فجأة، فإذا بطبيب الباشا الخاص (مندريشي) يدخل عليهم متهللا وهو يقول: «لقد قضي الأمر، واليوم يوم سعيد لسموكم»، فلمع بريق خاطف في عيني الباشا الذي وقف وطلب ماء ليشرب.
وأما في المدينة، فقد بدأ يوم الجمعة - وهو يوم عطلة - والقاهريون في بشر ومرح وسرور، ذلك أن طواف «الألاي جاويش» بالأمس في أسواق المدينة وأخطاطها، جعلهم يعتقدون أن اليوم يوم عيد و«فرجة»، فبكر القاهريون بالخروج من منازلهم، وازدحموا في الميادين والشوارع التي توقعوا مرور الموكب منها، ثم طال انتظارهم حتى بدأ ينفد صبرهم، وراح بعضهم يصيح غاضبا لتأخر الموكب، وراح آخرون يتبادلون النكات في تهكم على أسباب هذا التأخير، ولكن ما إن بدأت تخرج طليعة الموكب من باب العزب، حتى بادر الواقفون باتخاذ أماكنهم (للفرجة ) على طول الشوارع والأزقة وفي الحوانيت، وفي ميدان الرميلة خصوصا، فشاهدوا الدلاة والوجاقلية والألداشات المصرية، ثم انقطع الموكب، وطال انتظار الجماهير في داخل المدينة لرؤية بقيته، وصار الناس يؤولون ما حدث تأويلات شتى، فمنهم من التمس عذرا في أن موكبا كبيرا مثل هذا لا بد أن تعوقه بعض الصعوبات، وهؤلاء هم المتفائلون، ومنهم من صار قلقا جزعا، وخاف أن يكون في الأمر شيء، وهؤلاء هم المتشائمون، والوقت يمر، ويطول الانتظار وإذا بصيحات تدوي فجأة في هذه الشوارع الضيقة والمزدحمة بداخل المدينة: «لقد قتل شاهين بك!» فكان هرج ومرج، وهلع وخوف، وتسابق الناس وهم مفزعون إلى بيوتهم، وأغلقت الحوانيت، وبين طرفة عين وانتباهتها خلت الشوارع والميادين والأسواق من الناس، وتحولت في لحظة إلى مكان قفر، يخيم عليه السكون، بعد أن كانت تموج بالناس، وتسود فيها الحركة والنشاط العظيمان.
ولكن مآسي ذلك اليوم الرهيب لم يكن مقدرا لها أن تنتهي بعد، وقد صور الشيخ عبد الرحمن الجبرتي هذه المآسي في قوله وهو يسرد ما حدث بالمدينة: «وأما أسفل المدينة، فإنه عندما أغلق باب القلعة وسمع من بالرميلة صوت الرصاص، وقعت الكرشة في الناس، وهرب من كان واقفا بالرميلة من الأجناد في انتظار الموكب، وكذلك المتفرجون، واتصلت الكرشة بأسواق المدينة، فانزعجوا وهرب من كان بالحوانيت لانتظار الفرجة، وأغلق الناس حوانيتهم، وليس لأحد علم بما حصل، وظنوا ظنونا.
وعندما تحقق العسكر حصول الواقعة وقتل الأمراء، انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم طالبين النهب والغنيمة، فولجوها بغتة، ونهبوها نهبا ذريعا، وهتكوا الحرائر والحريم، وسحبوا النساء والجواري والخوندات والستات، وسلبوا ما عليهن من الحلي والجواهر والثياب، وأظهروا الكامن في نفوسهم، ولم يجدوا مانعا ولا رادعا، وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار فلم يتمكن من نزعها بسهولة، فقطع يد المرأة.
وحل بالناس في بقية ذلك اليوم من الفزع والخوف وتوقع المكروه ما لا يوصف؛ لأن المماليك والأجناد تداخلوا وسكنوا في جميع الحارات والنواحي، وكل أمير (بك من المماليك) له دار كبيرة فيها عياله وأتباعه ومماليكه وخيوله وجماله، وله دار وداران صغار في داخل العطف، ونواحي الأزهر والمشهد الحسيني يوزعون فيها ما يخافون عليه لظنهم بعدها وحمايتها بحرمة الخطة، وصونها عند وقوع الحوادث، وكثير من كبار العساكر مجاورون لهم في جميع النواحي، ويرمقون أحوالهم، ويطلعون على أكثر حركاتهم وسكناتهم، ويتداخلون فيهم ويباشرونهم ويسامرونهم بالليل، ويظهرون لهم الصداقة والمحبة، وقلوبهم محشوة من الحقد عليهم والكراهة لهم، بل ولجميع أبناء العرب.
فلما حصلت هذه الحادثة، بادروا لتحصيل مأمولهم، وأظهروا جميع ما كان مخفيا في صدورهم، وخصوصا من التشفي في النساء، فإن العظيم منهم كان إذا خطب أدنى امرأة ليتزوج بها فلا ترضى به وتعافه وتأنف قربه، وإن ألح عليها استجارت بمن يحميها منه، وإلا هربت من بيتها واختفت شهورا، وذلك بخلاف إذا ما خطبها أسفل شخص من جيش المماليك، أجابته في الحال.
واتفق أنه لما اصطلح الباشا مع الألفية، وطلبوا البيوت، ظهر كثير من النساء المستترات المخفيات، وتنافسوا في زواجهم وعملوا لهم الكساوي، وقدموا لهم التقادم وصرفوا عليهم لوازم البيوت التي تلزم الأزواج لزوجاتهم، كل ذلك بمرأى من الأتراك، يحقدونه في قلوبهم، وفيهم من حمى جاره وصان دياره ومانع أعلاهم أدناهم، وقليل ما هم، وذلك لغرض يبتغيه، وأمر يرتجيه، فإنه بعد ارتفاع النهب كانوا يقبضون عليهم من البيوت، فيستولي الذي حماه ودافع عنه، على داره وما فيها.
وانتهبت دور كثيرة من المجاورين لهم أو لدور أتباعهم بأدنى شبهة وبغير شبهة، أو يدخلون بحجة التفتيش ويقولون: عندكم مملوك، أو سمعنا أن عندكم وديعة لمملوك، وبات الناس وأصبحوا على ذلك.
ونهب في هذه الحادثة من الأموال والأمتعة ما لا يقدر قدره ويحصيه إلا الله سبحانه وتعالى.
ونهبت دور كثيرة من دور الأعيان الذين ليسوا من الأمراء المقصودين، ومن المتقيدين بخدمة الباشا، مثل ذي الفقار كتخدا المتولي خوليا على بساتين الباشا التي أنشأها بشبرا، وبيت الأمير عثمان آغا الورداني، ومصطفى كاشف المورلي، والأفندية الكتبة، وغيرهم.
وأصبح يوم السبت (2 مارس) والنهب والقتل والقبض على المتوارين والمختفين مستمر، ويدل البعض على البعض أو يغمز عليه.»
فكان بلاء عظيما.
ولكن الباشا لم يلبث أن نزل من القلعة في ضحوة هذا النهار (2 مارس)، لوقف السلب والنهب، وإنزال العقوبة الرادعة بالمعتدين، وإعادة الأمن والنظام في المدينة، كما نزل ابنه طوسون باشا، وقطعت رءوس كثيرين من العسكر الذين ضبطوا متلبسين، وكانوا كما ذكر «دروفتي» حوالي العشرين، وقال الشيخ الجبرتي: «ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر»، وقد قدر عدد الدور التي نهبت هذا اليوم بنيف وخمسمائة بيت، ولو أن «سانت مارسيل» قدر عددها بحوالي عشرين ومائة فحسب، كما أنه قدر قيمة المنهوبات بعشرة ملايين قرش تركي، وكان في أثناء طواف الباشا أن لاقاه من أخبره بأن المشايخ مجتمعون ونيتهم الركوب لملاقاته والسلام عليه والتهنئة بالظفر، فقال: أنا أذهب إليهم، ولم يزل في سيره حتى دخل إلى بيت الشيخ الشرقاوي، وجلس عنده ساعة لطيفة، فعادت الطمأنينة إلى النفوس، ولو أن القبض على المماليك والفتك استمر طوال هذا اليوم وفي الأيام التالية، وساهم حسن باشا (الأرنئودي) وكتخدا بك بقسط وافر في هذه المقتلة.
وجرى في النواحي والأقاليم مثل ما جرى في القاهرة، وفوض الباشا الأمر لكتخدا بك محمد آغا لاظ، وهو يعلم منه شدة الكراهة لجنس المماليك، فقتل عديدون من المماليك في الوجهين البحري والقبلي، وأرسل طبوز أوغلي وحده - حاكم المنيا - خمسة وثلاثين رأسا، وقدر الوكلاء الفرنسيون عدد من قضى من المماليك في مذبحة القلعة وسائر المذابح في الأقاليم، بحوالي الخمسمائة من بينهم 25 بيكا، 60 كاشفا، وقال «دروفتي»: «إن بيت الألفي قد اندثر تماما.»
وكان ممن قتلوا: شاهين بك الألفي، ويحيى بك ونعمان بك وحسين بك الصغير ومراد بك وعلي بك، وكلهم من الألفية، وقتل من كشاف الألفية كذلك: علي كاشف الكبير، وأما من قضي من غير الألفية، فكان منهم مرزوق بك بن إبراهيم بك الكبير، وسليمان بك البواب، ويوسف بك أبو دياب، وقد ورد ذكر كل هؤلاء والأدوار التي قاموا بها في سياق هذه الدراسة.
وأما من نجا من البكوات الألفية، فكانا أحمد بك الألفي زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير، وكان متغيبا بناحية بوش، فإنه ما إن وصله النذير حتى غادر بوش وذهب عند الأمراء القبالى، ثم أمين بك الألفي، ويذكر الشيخ الجبرتي أنه تسلق القلعة، وهرب إلى ناحية الشام، وفي رواية أخرى أنه لم يدخل القلعة أصلا في ذلك اليوم؛ حيث انشغل ببعض الأعمال الهامة في صبيحة ذلك اليوم فتأخر، ولم يصل القلعة إلا بعد أن كان الدلاة قد بدءوا خروجهم من باب الغرب، فاضطر إلى الانتظار، حتى إذا رأى الباب يغلق وسمع دوي الرصاص أطلق لحصانه العنان، ميمما شطر البساتين، وعاونه أحد مشايخ عربان الشرقية على الفرار إلى الشام، فأقام بطرابلس، ثم دخل في خدمة السلطان العثماني برتبة عسكرية.
ثم إن عددا من الكشاف والمماليك استطاع الإفلات والنجاة بنفسه، فقد توارى البعض والتجأ إلى طائفة الدلاة، وتزيا بشكلهم ولبس طرطورا، وأجاروه، وهرب كثير في ذلك اليوم (2 مارس) وخرجوا إلى قبلي، وبعضهم تزيا بزي نساء الفلاحين، وخرج في ضمن الفلاحات اللاتي يبعن الجلة والجبنة، وذهبوا في ضمنهم، وفر من نجا منهم إلى الشام وغيرها. (12) الرأي في مذبحة القلعة
ولقد بوغت المعاصرون مباغتة مذهلة بهذا الحادث المروع الذي استأصل شأفة طغمة المماليك من مصر إلى الأبد، فانبروا يستقصون أسباب المذبحة ويفسرون العوامل التي دفعت الباشا إلى إفنائهم بهذه الصورة.
فكتب «دروفتي» إلى حكومته في 4 مارس 1811، «لقد سبق أن ذكرت في تقريري بتاريخ 16 يناير 1811 أن محمد علي يريد الذهاب إلى السويس، وقد ذهب فعلا إليها منذ بضعة أيام ولم يعد منها إلا يوم 24 فبراير، وفي أثناء غيابه يقول رجال حكومته إنه صادر خطابات جعلته يشك في مسلك البكوات والمماليك المقيمين بالقاهرة، والاعتقاد السائد أن هؤلاء يتراسلون مع البكوات والمماليك الموجودين بالصعيد، ثم بواسطة هؤلاء مع سليمان باشا والي الشام الذي لا يوجد أي تفاهم بينه وبين الباشا ولا يقوم بينهما أية علاقات أو صلات طيبة، وهذه الكارثة التي أدهشت كل الناس وألقت الرعب في قلوب أعداء الباشا، قد سلبت الإنجليز القليل الباقي لهم من أنصارهم في مصر والذين كان في وسعهم أن يعتمدوا عليهم عند وقوع أي حادث في المستقبل.»
وفي 15 مارس 1811، كتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية: «والمعتقد أن الباشا لم يعمد إلى إبادة المماليك إلا بعد أن صودرت خطابات منهم إلى البكوات في الصعيد وإلى سليمان باشا حاكم دمشق حاليا وعدو محمد علي باشا بعد أن لاذ به ولجأ إليه يوسف باشا كنج حاكم دمشق السابق.»
وفي أول مايو 1811، كتب «ستراتفورد كاننج»
Stratford Canning
السفير الإنجليزي في القسطنطينية إلى حكومته: أن الريس أفندي اعترف له بأن هذه المذبحة قد وقعت بناء على أمر من السلطان لمحمد علي.
وفي 8 مايو 1811، كتب «دروفتي» إلى حكومته: «وسوف تدهشون كثيرا - ولا ريب - إذا عرفتم أن الباشا قرر مذبحة البكوات والمماليك الذين كانوا قد حضروا ليضعوا أنفسهم تحت رحمته بإيعاز من الوكلاء الإنجليز، وقد بلغت وقاحة هؤلاء حدا جعلهم يجرءون على المباهاة بفعلتهم هذه قائلين إن محمد علي قد أحرز بفضل هذا النجاح على أعدائه الداخليين نصرا سبق فيه الجيش الفرنسي الحاضر لغزو مصر»، ثم استطرد «دروفتي» يقول: «وفي مقابلة لي مع الباشا للمباحثة في بعض الشئون قبل رحيله إلى الإسكندرية (في أبريل) بدرت من الباشا عبارة تمس هذا الموضوع، عجزت وقتذاك عن إدراك معناها، ولكنه يبدو لي اليوم أنه يجب تفسيرها بنفس هذا المعنى، ومهما يكن من شأن هذه الأمور المنطوية على التهكم والسخرية - ويشير «دروفتي» هنا إلى كلام الوكلاء الإنجليز ومباهاتهم - فقد ثبت على ما يظهر لي أن الإنجليز عندما لم يعودوا يرون في المماليك تلك الأداة الطيعة التي في وسعها تأييد مكائدهم وترويج دسائسهم بالدرجة المنشودة، ولما كان الإنجليز يحقدون عليهم دائما سكونهم وخمود حركتهم وقت نزول جيوشهم بالإسكندرية في عام 1807، فقد اعتقدوا أنهم إذا ضحوا بحلفائهم القدماء استطاعوا أن يدفعوا عن أنفسهم الاتهامات التي كان الباشا على حق في توجيهها لهم عن تواطئهم السابق أو عن علاقاتهم الماضية مع المماليك، كما اعتقدوا أن بوسعهم كذلك توثيق عرى الصداقة التي أنشئوها أخيرا مع الباشا.»
وفي 14 يوليو 1811، راح «مسيت» يؤكد لحكومته أن سبب المذبحة كان اكتشاف مراسلات بين البكوات وبين باشا عكا (سليمان باشا).
وبعد حوالي العام، كتب الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية إلى حكومتهم بتاريخ مايو 1812: «أن الذي عرف الآن عن هذه المذبحة أن طبيب الباشا الخاص (مندريشي) - وهو دعامة من الدعائم التي يستند عليها الإنجليز في تأييد نفوذهم في البلاد - هو الذي أشار على محمد علي بقتل المماليك بدعوى أنهم متصلون بالفرنسيين، بينما الدافع لهذا الطبيب على ذلك في الحقيقة لم يكن سوى الانتقام من البكوات لعدم نجدتهم للحملة الإنجليزية في عام 1807.»
وقال «مانجان» وهو معاصر آخر لهذه الحوادث: «ومع أنه أبعد ما يكون شخصيا عن تبرير الفتك بالمماليك، فإنه يعتبر الفتك بهم من بعض النواحي في صالح مصر ذاتها؛ لأن بقاء المماليك يثير حربا أهلية تؤذي البلاد إيذاء بالغا يتضاءل بجانبه حادث الفتك بهم، وفضلا عن ذلك فإن الضربة الجريئة التي أنزلها بهم محمد علي تنفيذا لأوامر الباب العالي السرية قد قضت على وضع أو نظام كانت تركيا تعمل على التخلص منه تدريجيا، ومن جهة أخرى فإن الدفاع عن سلامته كان يقتضي الباشا أخذ الأمور بوسائل حازمة؛ لأنه كان محاطا بجند فطروا على الشغب والفوضى، وكان مضطرا في الوقت نفسه إلى إنفاذ قسم كبير من قواته إلى بلاد العرب، فوجب عليه حينئذ أن يفكر في إضعاف خصومه الذين سوف يزيدون في هذه الحالة قوة ونفوذا»، ثم استطرد «مانجان» فذكر ما بلغ محمد علي من تآمر المماليك على اختطافه في أثناء عودته من السويس واغتياله، وقال: إنه عندما صار السياح الإفرنج يلومون الباشا في كتب رحلاتهم ومؤلفاتهم على قتله للمماليك ويعدون ذلك عملا منافيا للإنسانية، كان جواب الباشا أنه ينبغي أن ترسم صورة لفتك بونابرت القنصل الأول بالدوق «دانجيان»
D’Enghien
في مارس 1804 بجانب مذبحة المماليك
الحادثين.
ومن المعروف أن الدوق «دانجيان» لم يشترك إطلاقا في المؤامرات التي دبرت وقتذاك لاغتيال القنصل الأول، بل كانت كل جريمته أنه الرجل الذي رفض الرضوخ لسلطان بونابرت، والذي كان له من الكفاءة وبعد الصيت كسليل لأمراء كونديه
Condé
ما يجعل منه المنافس الخطر الوحيد الذي يخشى بأسه نابليون في وقت اعتزم فيه إنشاء الإمبراطورية.
ويرى المستنكرون لمذبحة القلعة أن محمد علي بفتكه بالمماليك في هذه المجزرة التي لم تبق ولم تذر قد أخذ البريء بجريرة المذنب فأهلك المستأمنين الذين جاءوا القاهرة ليعيشوا فيها وفي القرى المجاورة في هدوء وسلام، ويتمتعون بلذائذ الحياة ونعمها تحت مراقبة الباشا وفي كنفه وتحت رعايته، وأنه كان في وسعه أن يقابل أعداءه وخصومه وجها لوجه في ميدان الحرب والسياسة بدلا وخيرا من الغدر بهم، وأنه كان في وسعه استخدامهم في حربه ضد الوهابيين بدلا من الإجهاز عليهم وسفك دمائهم، كما أن فريقا من هؤلاء المستنكرين صاروا يرون فيما بدا من نشاط ضئيل من جانب بكوات أقاصي الصعيد بعد هذه المذبحة خطرا قد يستفحل شره تدريجيا نتيجة لها حتى لا يلبث أن يفضي إلى اشتعال الحرب الأهلية في البلاد، وكان «دروفتي» نفسه من أصحاب هذا الرأي.
ومع ذلك، فقد ناقض كل هؤلاء أنفسهم بأنفسهم عندما قالوا إن القضاء على المماليك كان لخير مصر وصالحها، وأنه لم تكن هناك وسيلة أخرى يمكن بها التخلص من هؤلاء الفسدة أحسن من ذلك، وأنه يشك كثيرا في صحة الوعود والعهود التي يقطعونها على أنفسهم في اتفاقاتهم مع الباشا، وأنه كان من المتعذر - بسبب توزيع قواتهم في جهات مختلفة وفي أقاصي الصعيد - على الباشا أن يشتبك معهم في معارك أخرى فاصلة، وأنه من المتعذر كذلك عمليا على الباشا أن يجمع في جيشه بين فريقي المماليك والأرنئود (الألبانيين) بسبب ما جرى من دم كثير بينهما في معارك عديدة، وأنه وإن كان في وسع الباشا التغلب على المماليك في معركة فاصلة قاضية وإنقاذ البلاد من شرور الحرب الأهلية فإن ذلك يتطلب تضحية قسم لا يستهان به من جيشه عند مواجهته للمماليك وللوهابيين معا وفي وقت واحد، كما أن ذلك سوف يصرفه عن التفرغ لتدبير شئون الحكم، ومن شأنه أن يعطل مشروعاته الكبرى الداخلية والخارجية معا، وأن محمد علي منذ أن أجهز عليهم قد أصبح مرهوب الجانب ويخشاه أعداؤه، حتى إن الباب العالي لم يلبث أن وجد نفسه من ذلك الحين مرغما على النظر إليه كنظره إلى حليف مستقل، ولا يعامله كتابع قوي فحسب، وأن محمد علي أسدى بفتكه بالمماليك خدمة جليلة للباب العالي ولأمته .
واعتقد آخرون من مستنكري مذبحة القلعة أن هذه المذبحة كانت من الناحية القومية ذات أضرار بليغة؛ لأنها ألقت الرعب والفزع في قلوب الأهلين، حتى قضت على كل نزعة ديمقراطية، فتعذرت عودة الطمأنينة والشجاعة إلى النفوس أزمانا طويلة بسببها، حتى إن أحدا من أفراد الشعب ما عاد يتصدى لمعارضة الباشا ومحاسبته ونقد تصرفاته طوال المدة التي قضاها في حكم البلاد بعد ذلك؛ أي حوالي سبع وثلاثين سنة.
ومع ذلك، فقد فات أصحاب هذا الرأي أن هؤلاء المماليك طائفة لا تربطهم بالبلاد وأهلها أية روابط من الجنس واللغة، ولا يعرفون من الدين سوى مظهره، ويعيشون في انفصال طبقتهم العسكرية الأرستقراطية بمعزل عن سائر الناس، لا هم لهم إلا استنزاف موارد البلاد وتسخير أهلها في خدمتهم، وفاتهم كذلك أنه لم يكن للقومية أي أثر بينهم، فهم يطلبون إما حماية الإنجليز وإما حماية الفرنسيين، ولا يدخل الاستقلال في نطاق تفكيرهم، فكان كل ما سعى إليه الألفي والبرديسي وزملاؤهما الاستعانة بالدول الأجنبية لاسترجاع سيطرتهم المفقودة، وقد أوضح ذلك في عبارات لا لبس فيها ولا إبهام، شاهين بك الألفي في كتابه الذي أشرنا إليه مرارا إلى الأميرال «كولنجوود» في أغسطس 1809، فكان ركن الزاوية في مقترحاته على الإنجليز أن يمده هؤلاء بالمال حتى يستطيع البكوات جلب عدد من المماليك من الخارج يكفي لسد الثغرة التي حدثت في صفوفهم حتى يتمكنوا بذلك من الاستيلاء على السلطة الكاملة في مصر، فلا يبقى للباب العالي سوى السيادة الاسمية التي ترمز لها الجزية السنوية فحسب، ويتعهدون في نظير ذلك بأن يمكنوا للإنجليز بسط حمايتهم الفعلية على مصر.
وأما ذلك الرعب والفزع الذي قيل إنه حطم شجاعة الأهلين، فإن أحدا لا يمكنه التسليم بحدوثه، فقد كان للأهلين من الشجاعة ما جعلهم يشقون عصا الطاعة على حكومة محمد علي وهي في أوجها، عندما أثقلتهم الضرائب (مع ضرورتها لتوفير المال)، وأرهقهم التجنيد (مع ضرورته لتعزيز الجيش)، وكان المال والجيش الدعامتين اللتين قام عليهما نظام محمد علي من أجل تحديد وضع البلاد السياسي بالنسبة للباب العالي وبالنسبة للدول الأوروبية، فوقعت سلسلة من الاضطرابات وكان بعضها خطيرا حقا، نذكر منها ما حدث بالقاهرة ذاتها في مارس 1822، وهي الاضطرابات التي اعتقد الباشا أن للسيد عمر مكرم يدا فيها فنفاه إلى طنطا، ثم في منوف في مايو 1823، ثم في منفلوط في مارس 1838، ثم في أسيوط في فبراير ومارس 1839.
وقد قضى الباشا على كل هذه الاضطرابات بسهولة؛ لأنه لم يكن هناك أية زعامة شعبية لا أيام المناداة بولاية محمد علي في سنة 1805 ولا بعدها، ولم يكن السبب في ذلك أن محمد علي قد قضى عليها عامدا كما يذهب أصحاب هذا الرأي، بل للأسباب التي سبق ذكرها عند الكلام عن مسألة إقصاء المشايخ، ولأن أحدا من الأهلين ما كان يهدف إطلاقا إلى مشاركة محمد علي في تدبير شئون الحكم، وذلك في عصر كان لا يزال فيه الشرق يخضع لسلطان المستبد الطاغية أو لسلطان المستبد المستنير، وقد كان محمد علي من الطراز الثاني قطعا، وفي عصر كان فيه الغرب لا يزال يمر في مراحل تجاربه الدستورية الأولى.
وعلى كل الأحوال فالثابت أن البكوات المماليك قد نكثوا بالعهد دائما، وأنهم ظلوا يتآمرون ضد حكومة محمد علي سواء مع الوكلاء الإنجليز أو مع سليمان باشا عدو محمد علي، ويتآمرون كذلك لاغتياله والفتك به، وفعل ذلك أيضا المستأمنون منهم، والثابت أن محمد علي كان يريد حقا وصدقا الاتفاق معهم، وبذل قصارى جهده لتحقيق هذه الغاية حتى أعجزته الحيلة معهم، والثابت أن الفتك بالمماليك لم يكن نتيجة خطة مدبرة أو مرسومة من سنوات عدة سابقة، فقد رأينا أن هذه الفكرة لم تنبت في ذهنه إلا في فبراير أو في يناير 1811 على الأكثر.
وقد كتب محمد علي نفسه إلى الباب العالي في 9 صفر 1722 (الموافق 4 مارس 1811) - أي بعد واقعة المذبحة بثلاثة أيام فحسب - يذكر للباب العالي ما حدث ويرسل إلى مقر سياسة السلطنة العثمانية رءوس المماليك المقطوعة، ويبلغ الباب العالي كذلك خروج ولده طوسون أحمد باشا بالجيش إلى الحجاز، ويجيب على الخط الشريف الصادر إليه بشأن سليمان باشا والي الشام.
في هذه الرسالة قال محمد علي:
إن المصلحة (المأمورية) الخيرية الحجازية كانت قد أحيلت إليه منذ أربع أو خمس سنوات، وقد بذل قصارى جهده للتهيؤ لهذه المهمة وإنجاز ما يلزم من استعدادات لها، ولكن أشقياء المماليك هم الذين حالوا دون حركته وسفره في السنين المذكورة بممانعتهم ومقاومتهم، وكان محمد علي قد أكرم واحترم كل واحد من هؤلاء فوق ما يستحقه من تكريم واحترام، وذلك لمصالحتهم ومداراتهم؛ حيث إنهم كانوا فرسانا مدربين، إذا انحازوا إليه استطاعوا جميعا الخدمة متفقين لإنهاء مصلحة الحرمين الشريفين، وصفوة القول أنه لم يقع أي تقصير منه في جذب قلوبهم واستمالتهم وتأمين إخلاصهم في الخضوع له صورة ومعنى، وقد كتب محمد علي مفصلا إلى الباب العالي عدة مرات في الماضي، يذكر كيف أنهم أبرزوا خصالهم الفرعونية المتركزة في طباعهم وفطرتهم الأصلية، بالرغم من مساعيه في الصلح معهم، ثم كيف هرب منهم مئات عراة مشتتين ناقمين إلى بلاد السودان وهم يقولون: «ليكن ما يكون»، قانطين يائسين من أرواحهم وحياتهم عندما زحف الجيش عليهم ونالوا جزاءهم العادل على خياناتهم السابقة بما حل بهم من هزائم في تلك المعارك التي خاضها جيشه ضدهم، ثم كيف أن من عجزوا عن الفرار واللحاق بهؤلاء قد جاءوا مستأمنين يطلبون الأمان، وكيف استقر هؤلاء في خدمته، وقام هو بالواجب في حقهم وأوفاهم ما يستحقونه، ثم عامل من ألقى القبض عليهم أحياء في أثناء المحاربة واستسلموا من تلقاء أنفسهم بالرفق الزائد حتى يدخل الطمأنينة إلى نفوسهم، ثم صبر محمد علي طويلا يحاول استمالة من كان بالسودان من المماليك الفارين حتى يحضروا إلى مصر وحتى يجمعهم بها بحكمة، ولكنه عندما اقتنع بأن هؤلاء الهاربين يفضلون الهلاك جوعا وعطشا في مأزقهم الحرج الذين هم فيه على الانجذاب إلى خيراته المصطنعة ولا يقعون في الفخ الذي نصبه لهم، فقد تذرع بحجة الموكب الذي أعده بمناسبة إخراج جيش ولده طوسون أحمد باشا إلى بركة الحاج، فجلب جميع من في خدمته ظاهرا حسب الضرورة من البكوات الذين لقنوا آراءهم من زملائهم والبالغ عددهم أربعا وعشرين أميرا، وجميع الكشاف وأعوانهم المعبر عنهم بغلمان الداخل، وأتباع هؤلاء الأمراء أو البكوات الذين كانوا قد جاءوا القاهرة أخيرا وأدخلهم جميعا القلعة وأغلق أبوابها، فقتل عقب ذلك الأشقياء المذكورون بأجمعهم دون أن ينجو واحد منهم، وانتقلوا إلى دار الفناء والعدم، وقد ترك رءوسهم المقطوعة وأجسامهم المنجوسة معرضة ليشهدها أولئك الذين قد يطمعون في التدخل في ميدان السياسة في مصر، وأجاز ثلاثة أيام لقطع رءوس البكوات والمماليك الآخرين، ثم ها هو ذا يبعث بهذه الرءوس عبرة وعظة إلى مقر السلطنة، وبهذه الصورة تم الخلاص والانتهاء من أمر المماليك ولله الحمد، ودفع غوائلهم والتحرر من تكاليفهم.
ثم انتقل محمد علي من ذلك إلى الكلام عن تجهيز السفن اللازمة لنقل جنده من السويس، ثم استطرد بعد ذلك للكلام عن مسألة سليمان باشا والرد على ما نسبه الباب العالي إليه من أنه يتخذ من هذه المسألة ذريعة لتأجيل خروج جيشه إلى الحجاز، فقال: «ولم يكن مغزى شكواه من سليمان باشا ومطالبته بعزله من ولاية الشام التحاشي من المشار إليه أو الحسد، بل إن حضرة المذكور يتظاهر بالطيبة والتوكل على الله في المكان الذي ينام فيه، بينما هو يعمل على إيقاظ الفتن والشرور، لا سيما وأن محمد علي قد صادر الرسائل التي بعث بها كتخداه سليمان باشا بإذنه إلى حشرات المماليك الذين نجوا من القتل، وهي مكاتبات شبيهة بتلك التي أرسلها محمد علي إلى كتخداه محمد نجيب أفندي بالباب العالي، ومع ذلك يقول الباب العالي إن هذه الرسائل لا تنم عن شيء اللهم إلا إظهار الصداقة والإخلاص والود المتبادل بين سليمان باشا والمماليك ولا يستنتج من ذلك حكم! لا شك في أن الباب العالي صادق فيما ذهب إليه، ولكن العبارات المدونة في هذه الرسائل الأخيرة بعد ذكر الود والصداقة والإخلاص تقول بطريق الإضمار والمعاني المستترة ما نصه: «والشأن يكون معلوما لكم أي للبكوات من أمر المرسل سابقا»، مما يستدل منه على مدلولات أخرى خفية، ولو فرض أن ذلك لا يستتبع حكما ولا ينطوي على تعليمات، ألا يكون إظهار الإخلاص بإرسال كتب ورسائل خاصة إلى ولاية السودان لجماعة هم خائنون للسلطان، ومن المسلم بخيانتهم وغدرهم عند العالم أجمع، معناه أن كمال المحبة ليس سوى إسداء المعونة لهم، وعدا ذلك فإن أقرب ما يلاحظه المرء أن حامل هذه الرسائل لا بد أن يكون مزودا كذلك بتقارير خفية لتبليغها إلى البكوات، وعلى كل الأحوال فسواء دافع الباب العالي عن سليمان باشا أو عزا التقصير إلى محمد علي، فها هو ذا؛ أي محمد علي، قد قام متوكلا على الله بإخراج جيشه إلى بركة الحاج، فأوفى بذلك عهده ووعده، وسوف يثبت - إن شاء الله - عند توجه الجيش قريبا إذا كان صادقا حقا أو غير صادق فيما يعد ويفعل.»
ذلك إذا كان تفسير محمد علي نفسه للعوامل التي أدت إلى مذبحة القلعة، وهي عوامل تتلخص في أمرين: نكث المماليك لعهودهم معه، وتآمرهم مع أعدائه على سلامة ملكه أو باشويته. (13) خاتمة المطاف بالمماليك
وأما النتيجة المباشرة لمذبحة القلعة فهي أن أقاليم مصر الوسطى والصعيد قد دخلت الآن في حوزة محمد علي نهائيا.
فقد تبقى من المماليك، بعد مذبحة القلعة، والفتك بهم في الأقاليم حوالي الخمسمائة أو الستمائة فحسب، اجتمعوا حول إبراهيم بك وعثمان بك حسن في أعالي الصعيد، ومع أن هؤلاء ظلوا مثابرين على مناوأتهم للباشا ورجاله الذين تسلموا الحكم في الصعيد، فقد سهل على الباشا إخماد حركتهم تماما وتشتيت ما بقي من فلولهم، ثم إرغامهم في النهاية على التشرد إلى بلاد السودان، وكان مما ساعد على تشريدهم أن الاختلافات ظلت قائمة بينهم ، فلم يستطيعوا حزم أمرهم على شيء، فهناك فئة لا تزال لديها بقية من شجاعة، تبغي النزوح إلى أرض الحجاز والانضمام إلى الوهابيين، والاشتراك معهم في قتال محمد علي في ميدان غير الذي انهزموا فيه، وهناك إبراهيم بك وعثمان بك حسن، وهما شيخان فانيان، ولا قدرة لهما على احتمال مشاق السفر والقتال، ويبغيان البقاء إلى جوار النيل، ويؤثران الانسحاب إذا لزم الأمر إلى بلاد النوبة في السودان، ويتذرعان بأن أسبابا دينية تمنعهما، ويجب أن تمنع سائر البكوات والمماليك من الانضمام إلى الوهابيين، وهناك فريق ثالث لا يرضى بهذا الرأي أو ذاك، ويؤثر التسليم والخضوع لسلطان السيد الجديد، محمد علي، لا يزال يحدوهم الأمل في أن الباشا في هذه المرة، وبالرغم من الدماء التي أريقت، سوف يقبل توبتهم ويصفح عنهم، فلا حاجة للذهاب إلى الحجاز، ولا حاجة للذهاب إلى النوبة، وتغلب رأي هؤلاء بعض الوقت على رأي سائر زملائهم، فأوفد بكوات الصعيد مندوبا، أحد كشافهم، إلى القاهرة لمقابلة الباشا وطلب العفو والصفح عنهم، وأن يعطيهم جهة يتعيشون منها، وقد وصل هذا فعلا ثاني يوم المذبحة (2 مارس)، ولكن الباشا وعده برد الجواب في غير الوقت، فأهمله، ثم انقطعت أخباره، وكتب الشيخ الجبرتي: «وما أدري ما تم له.»
فكان هذا الاختلاف والانقسام منشأ ما حل بهم من نكبات جديدة.
ذلك أن الباشا - وقد كاد للمماليك وأجهز على صفوتهم في مذبحة القلعة - ما كان ليطمئن باله، إلا إذا أعمل السيف في البقية الباقية منهم كذلك، واستأصل شأفتهم تماما.
ولذلك، فقد بادر في ثاني يوم الواقعة - أي في 2 مارس 1811 - بتقليد مصطفى بك ابن أخته قيادة الدلاتية؛ لإنفاذهم معه إلى الصعيد، وقد انتقى محمد علي هؤلاء من بين إخوانهم، بينما ارتحل الباقون الذين كان قد طلبهم للاستعانة بهم في حرب المماليك، فخرج حوالي الخمسمائة من الدلاة في 13 مارس إلى قبة العرب ليسافروا إلى بلادهم، ثم سافروا، وبعد خمسة أيام قصد مصطفى بك بمن معه إلى الصعيد، وفي 4 نوفمبر 1811، أنفذ الباشا جيشا إلى الصعيد لقتال المماليك، وكان هؤلاء مقيمين في إبريم.
وفي أبريل 1812 كتب الوكلاء الفرنسيون: «أن إبراهيم بن محمد علي قد عين حاكما على الصعيد، وأنه اتخذ مقره العام في إسنا، وأن حوالي المائتي مملوك قد جاءوه يريدون العيش في كنفه، وتحت رحمة الظافر المنتصر، ولقد آثروا هذه المجازفة على ما فيها من أخطار جسيمة، على الذهاب إلى النوبة كما يبغي رؤساؤهم، فيعيشون في النوبة في بؤس وتعاسة »، وأضاف هؤلاء الوكلاء: «أن بكوات الصعيد - كما هو مألوف عادتهم - لا يزالون يتناقشون ويتباحثون فيما يجب عليهم أن يفعلوه في ظروفهم السيئة الراهنة»، ففريق يبغي الذهاب إلى الوهابيين، وآخر يريد البقاء على ضفاف النيل وعدم مغادرة البلاد التي خضعت لسلطانهم أزمانا طويلة.
وكان القتل نصيب الذين سلموا لإبراهيم، فكتب الوكلاء الفرنسيون ثانية في نشرتهم الإخبارية بتاريخ مايو 1812 «أن كل المماليك الذين حضروا مستأمنين قد قتلوا جميعهم في إسنا بأمر أصدره الباشا، بينما كان إبراهيم متغيبا عنها ومقيما بالقاهرة بالقرب منه، ومن بين الذين قتلوا جماعة كان إبراهيم نفسه قد أمنهم على حياتهم، ولم ينج من هذه المذبحة حتى الرقيق السود أو الأحباش الذين لا يتجاوز سنهم الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة.»
فكان بعد هذه المذبحة الثانية أن جلا البكوات نهائيا إلى السودان، ومن بينهم إبراهيم بك الكبير، وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي، وأحمد بك الألفي، وعلي بك أيوب ومحمد بك المنفوخ وعثمان بك حسن وأحمد آغا شويكار وعثمان بك يوسف، ومات إبراهيم بك الكبير في دنقلة في فبراير 1816، ثم أحضرت جثته في يوليو 1817 إلى القاهرة؛ حيث دفن بها بالقرافة الصغرى عند ابنه مرزوق بك، وقد ساعد الباشا في إحضارها من دنقلة.
وكان بعد كارثة المماليك بعشر سنوات تقريبا أن كتب «دروفتي» إلى حكومته في 10 يوليو 1822، وهو يستعرض ما مر بمصر من حوادث خلال السنوات العشرين التي قضاها بها، معلقا على ما بلغته مصر من تقدم على يد محمد علي، فقال: «ومن اللحظة التي كان من واجب محمد علي أن يختار فيها بين هلاكه هو نفسه وهلاك المماليك استطاع محمد علي وبقدر ما سمحت به الظروف، أن يقيم بمصر حكومة طيبة، ومن ذلك الحين؛ أي منذ 1812، أصبح لمصر نظام سياسي ثابت المعالم وصار لها مالية وجيش، ومن ذلك الحين استطاع الباشا أن يقهر وأن يقمع العربان البدو، وهو نجاح لم يدركه بتاتا من قبل أي غاز أو فاتح لهذه البلاد، ومن ذلك الحين استطاع محمد علي أن يسترد الحرمين الشريفين، الأماكن الإسلامية المقدسة من يد الوهابيين، وأن يفرض على هؤلاء الخضوع للقانون، كما استطاع أن يحكم أرستقراطية الوجاقلية والمشايخ، وأن يدخل الإصلاحات الواسعة والكثيرة في البلاد.»
وصفوة القول أن القضاء على المماليك، ثم تحطيم أرستقراطية المشايخ الذين تطلعوا - دون استحقاق - إلى الزعامة والتدخل في شئون الحكم عن أنانية ولا غرض لهم سوى رعاية مصالحهم الخاصة وإشباع شهوة فريق منهم في النفوذ على حساب الشعب، ثم ترويض الجند على الطاعة وإخضاعهم لمشيئة الباشا، كل تلك كانت مسائل لا مفر من مجابهتها إذا شاء محمد علي أن يدعم أركان ولايته في مصر.
ولا جدال في أن انفراده بالسلطة وبسط سلطانه الكامل على جميع أنحاء القطر الذي دخل في نطاق باشويته، كان الدعامة الأساسية التي يرتكز عليها استقرار حكومته، والتي يرتكز عليها - لهذا السبب نفسه - برنامج الباشوية الوراثية، أو مشروع ذلك الاستقلال الذي برز إلى عالم الوجود في صورته المحددة المعالم منذ عام 1807، وكان من الممكن - في نظره - تحقيقه، سواء بإحراز الاستقلال التام والانفصال عن جثمان الإمبراطورية العثمانية، أو بالبقاء في نطاق هذه الإمبراطورية في وضع يكفل استقرار الحكم الذاتي أو استقلال البلاد في شئونها الداخلية إذا تعذر الانفصال عن جثمان الإمبراطورية العثمانية.
Bilinmeyen sayfa