أما الشيخ ضاهر - أمير عكا - فلم يعد يطيب له السكون بعد أن خسر ابنه في سبيل نصرة «علي بك» فثارت في خاطره بواعث الانتقام، ولكن «أبا الذهب» لم يعد يستطع صبرا على ذلك. فاسترحم من الباب العالي أن يسمح له بالمسير لإخضاع «سوريا» ولا سيما «عكا»، واتهم أميرها ضاهرا بالعصيان، وأنه ساع ضد الدولة، فأجابه الباب العالي بفرمان يثبته في مشيخة البلد مع لقب باشا ورتبة والي القاهرة، مكافأة لما أتاه من كسر شوكة «علي» وأحزابه، وأذن له أن يتتبع ذلك الشيخ العاصي.
فلما وصل الفرمان إلى «أبي الذهب» كاد يطير من شدة الفرح وأعد جيشا تحت قيادته واستخلف في مصر إسماعيل بك، وعهد حكومة مدينة القاهرة إلى «إبراهيم بك»، وسار في جيشه إلى «سوريا» ولم تنته سنة 1189 حتى دخل فلسطين، وكان لشدة عجبه بما أوتيه من الألقاب والرتب وما وعده به الباب العالي من المساعدات لا يزيد إلا كبرا حتى جعل خيمته التي يستريح فيها من أثمن ما يكون، وزينها أبدع زينة، فمر «بخان يونس»، «فالرملة»، ولم يلاق مقاومة، أما «يافا» فكان عليها شيخ «كريم» صهر الشيخ «ضاهر» فدافعت قليلا ثم فتحت عنوة، فدخلها رجال أبي الذهب، وقتلوا القسم الأعظم من سكانها رجالا ونساء، وشيوخا وأطفالا.
فبلغت تلك الفواحش مسامع الشيخ «ضاهر» وهو في عكا، فخاف أن يصيبه ما أصابها، ففر بعائلته وبمن هاجر إليه من المصريين، ولم يترك في المدينة إلا ابنه «عليا».
ولما علم باقتراب جيوش أبي الذهب، أخلى القلعة وانسحب منها لاعتقاده أنه إذا حاول الدفاع إنما يحاول عبثا، فوصلها «أبو الذهب» وأبوابها مفتوحة، فدخلها ولم يبق عليها. ففي هذه المدينة انتهت فظائع هذا الرجل؛ لأنه بينما كان عازما على العود إلى مصر، أصبح القوم فوجدوه ميتا في خيمته، ولم يعرفوا القاتل رغم ما اتخذوه من الاحتياطات وما كان لديهم من القرائن الكثيرة، فقال بعضهم إنه أصيب بنقطة - وهي داء السكتة - وقال آخرون إنه مات مقتولا بيد عدو فاتك - والله أعلم.
وبعد موت أبي الذهب، عادت الجيوش المصرية تحت قيادة «مراد بك» إلى مصر ومعهم جثة رئيسهم، فدفنوها بالقرب من مدفن «علي بك»، ومات أبو الذهب بعد موت علي بك بسنتين ولقب بالخائن. (1-2) مشيخة إسماعيل بك
وتولى مشيخة البلد بعده «إسماعيل بك» ولم يبق غيره من رجال «إبراهيم كخيا»، وهو من الذين نالوا البكوية بواسطة علي بك، وكان لا يزال على دعوته، وإنما انضم إلى «أبي الذهب» خوفا، وقلبه لم يفتر لاهجا بالمدافعة عن رئيسه، لأنه لم يأت نحوه إلا ما يستدعي نصرته فضلا عن أنهما من طائفة واحدة.
فلما استلم زمام الأحكام نسج على منوال «علي بك» فبعث إلى رجال حزبه الذين كانوا لا يزالون في سوريا فاستقدمهم إليه، وأقرهم في أماكنهم، وطيب خاطرهم استعدادا لمقاومة «مراد بك» و«إبراهيم بك» مناظريه على مشيخة البلد.
وكانا قد اتحدا على خلع «إسماعيل بك» فطلبا أولا طرد «حسن بك الجداوي» صديق «إسماعيل بك» فلم يفوزا، لكنهما تمكنا من احتلال القلعة، فاتحد «إسماعيل بك» و «حسن بك» وأخرجاهما منها، ففرا إلى الصعيد، ثم جمعا حزبا كبيرا، واستعدا لقتال إسماعيل، فبعث جيوشا لتخمد أنفاسهما، فعادت على أعقابها وفاز الأميران فاضطر «إسماعيل بك» إلى مغادرة القطر المصري فيمم الآستانة.
أما «حسن بك» فقبض عليه ونفي إلى جدة بحرا، فاحتال في أثناء الطريق فأرضى رئيس المركب الذي نقله، فأنزله في القصير على سواحل القلزم، ومن هناك قطع الصحراء غربا حتى أتى الصعيد فاستكن فيه. (1-3) مراد بك وإبراهيم بك
فلما خلا الجو «لمراد بك» و«إبراهيم بك» اقتسما الأحكام فتعين الأول أميرا للحج، والثاني شيخا للبلد ورقيا كثيرون من مماليكهما إلى رتبة البكوية، وقلداهم مصالح البلاد.
Bilinmeyen sayfa