كانت مصر في غاية الاضطراب والتضعضع، وقد فسدت النيات، واستفحل الظلم من عهد الغوري؛ لأن هذا السلطان ارتكب فظائع عديدة، غير قلوب الناس عليه، وهذه شهادة مؤرخ معاصر له نفس ابن إياس صاحب كتاب بدائع الزهور، فقد قال في مساوئ قنصو الغوري ما نصه:
إنه (قنسو) أحدث في أيام دولته من أنواع المظالم ما لم يحدث في سائر الدول من قبله، ومنها أن معاملته في الذهب والفضة والفلوس الجدد أنحس المعاملات جميعها زغل ونحاس وغش لا يحل بها بيع ولا معاملة في ملة من الملل، ومنها ما قرره على الحسبة في كل شهر وهو مبلغ 2700 دينار، وكانت السوقة تبيع البضائع بما يختارونه من الأثمان، ولا يقدر أحد أن يكلمهم فإن كلمهم أحد يقولون علينا مال السلطان فكانت سائر البضائع في أيامه غالية بسبب ذلك، وقرر على دار الضرب مالا له صورة في كل شهر فكانوا يضيفون في الذهب والفضة النحاس والرصاص جهارا فكان الأشرفي الذهبي إذا صفي يظهر فيه ذهب يساوي اثني عشر نصفا. وقد سلم السلطان دار الضرب إلى شخص يسمى جمال الدين، فلعب بأموال المسلمين وأتلف المعاملة وسبك ذهب السلاطين المتقدمة حتى صار لا يلوح لأحد من الناس منها دينار ولا درهم، فلما شنق جمال الدين قرر في دار الضرب المعلم «يعقوب اليهودي» فمشى في طريقة جمال الدين، وقد استباح أموال المسلمين، فكان النصف الفضة ينكشف في ليلته ويصير في جملة الفلوس الحمر، فاستمر الغش في معاملته في مدد دولته إلى أن مات.
ومنها أنه كان يولي الكشاف ومشائخ العربان على بلاد المقطعين والأوقاف فيأخذ منهم المثل أمثالا. فضعف أمر الجند يومئذ وتلاشى حال البلاد الشامية والحلبية. وكان يفرض عليهم الأموال الجزيلة في كل سنة، فيأخذونها من الرعية. وزيادة الظلم والعسف فكان كل واحد من الرعية أصحاب الإقطاع والأوقاف يتمنى الرحيل من بلاده إلى غيرها، من عظم الظلم الذي يصيبهم من النواب، ولا سيما ما حصل لعربان جبل نابلس بسبب المال الذي قرره عليهم لأجل المشاة عند خروج التجريدة فما حصل لأهل البلاد الشامية بسبب ذلك خير، وكان حسين نائب جده يأخذ العشر من تجار الهند، المثل عشرة أمثال، فامتنعت التجار من دخول بندر جده، وترك أمره إلى الخراب، وعز وجود الشاشات بمصر، وعز وجود الأصناف التي كانت تجلب من بلاد الإفرنج والأرز والأنطاع وخرب البندر، وكذلك بندر الإسكندرية، وبندر دمياط، فامتنعت تجار الإفرنج من الدخول إلى تلك البنادر من كثرة الظلم وكان كل أحد من أراذل الناس، يتقرب إلى خاطر السلطان بنوع من أنواع المظالم. فقرر على بيع الغلال قدرا معلوما يؤخذ على كل أردب، ثلاثة أنصاف من البائع ومن المشتري، وكذلك على البطيخ والرمان حتى حرج على بيع الملح.
وجدد في أيامه عدة مكوس من هذا النمط، ولم يفته من أعيان التجار أحد لم يصادره، وصادر أمير المؤمنين المستمسك بالله يعقوب، وأخذ منه مالا له صورة، ودخل في جملة ديون، حتى أورد ما قرره عليه.
وأما من مات تحت عقوبته بسبب المال، فمنهم: «القاضي بدر الدين بن مزهر» كاتب السر، ومنهم: «شمس الدين بن عوض»، و«معين الدين بن شمس الدين»، و«علم الدين» كاتب الخزانة، وغير ذلك، جماعة كثيرة من المباشرين والعمال، ماتوا في سجنه بسبب المال والصادرات.
ومن أفعاله الشنيعة، ما فعل مع أولاد الناس من خروج أقاطيعهم، ورزقهم من غير سبب، وإعطاء ذلك إلى مماليكه الجلبان، ومنها قطع جوامك الضعفاء والأيتام من الرجال والنساء والصغار. وحصل لهم الضرر الشامل بسبب ذلك.
ومنها أنه أرسل فك الرخام الذي بقاعة ناظر الخاص يوسف، التي تسمى نصف الدنيا، ووضع ذلك الرخام في قاعة البيسرية التي في القلعة.
ومنها أنه قطع معتاد الناس في الديوان المقرر من قديم الزمان، وجدد أخذ الحمايات من المقطعين من قبل أن يزيد النيل وتزرع الأراضي.
ثم تزايد حرصه على جمع الدنيا حتى صار يحاسب السواقين، الذين في سواقي القلعة والخولة الذين في سواقي الميدان في الجلة وروث الأبقار، وما يتحصل كل يوم مما يبيعونه وقرر عليهم مبلغا يؤدونه للذخيرة الشريفة.
وكانت أرباب الوظائف من المباشرين والعمال منه في غاية الضيق، لا يغفل عنهم من المصادرات يوما واحدا. وكان من حين توفي الأمير خاير بك الخازندار يباشر ضبط الخزانة بنفسه، ما يدخل إليها، وما يخرج منها، وما يعرضون عليه من الأمور في ذلك جميعه، من الوصولات، وما يصرف من الخزائن في كل يوم.
Bilinmeyen sayfa