فموضوع هذا الكتاب يقتصر على الدولة الحادية عشرة من الدول الإسلامية التي دخلت مصر في حوزتها؛ نعني الدولة العثمانية بعد إخراج المدة التي كانت مصر في أثنائها تحت سيطرة الفرنساوي، على أثر الحملة الفرنساوية من سنة 1798-1801 فيكون موضوع هذا الكتاب، تاريخ مصر العثمانية من الفتح العثماني سنة 923-1213ه أو من 1517-1798م وهو أظلم أقسام التاريخ المصري الحديث؛ لأن مصر كانت في أثنائه مضطربة. وقد استبد بها المماليك وفسدت حكومتها، وقل من كتب في تاريخها من المحققين. على أننا سنبذل الجهد في إيضاح ذلك التاريخ.
ولا بد لنا قبل التقدم إلى الكلام فيه من أن نقدم القول بمقدمات تمهيدية لزيادة الإيضاح فنقول: (1) ما كانت عليه مصر عند الفتح العثماني
ويقتضي بيان ذلك أن نأتي بفذلكة تاريخ السلاطين المماليك الذين انتقلت مصر من أيديهم إلى العثمانيين على يد السلطان سليم الفاتح. (1-1) السلاطين المماليك
ويراد بالسلاطين المماليك؛ الدولة التي أنشأها مماليك الدولة الأيوبية بعد انقضائها.
حكمت الدولة الأيوبية من سنة 567-648ه، وهي كردية؛ لأن مؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي، كردي. وهو من أعظم رجال الإسلام تعقلا وسياسة وبسالة وتدبيرا، أنشأ دولته على أنقاض الدولة الفاطمية بمصر، وبايع فيها للخلفاء العباسيين، وحارب الصليبيين وردهم عن سوريا، وأنقذ بيت المقدس من أيديهم. ومآثره أشهر من أن تذكر، وارتفع شأن الأكراد في أيام دولته، وتولوا الإمارات والولايات في مصر والشام وكردستان واليمن وخراسان.
ولما مات اقتسم مملكته، إخوته وأولاده وأولاد إخوته؛ ولذلك لم يطل حكمها، فغلبهم على معظمها مماليكهم الأتراك، كما غلبت الأتابكة ملوكهم السلاجقة قبلهم، فكان المماليك في مصر دولتان تعرفان بالسلاطين المماليك. (1-2) أصل السلاطين المماليك
يدل اسم المماليك على أصلهم فقد كانوا أرقاء مملوكين، ثم صار الحكم إليهم. وهم من الأتراك، كانوا في الأصل جندا مأجورا أو مبتاعا، بدأ استخدام الأتراك في الجندية على هذه الصورة في أيام المعتصم العباسي في أوائل القرن الثالث للهجرة. فإنه استقدم منهم جماعة من تركستان ابتاعهم أو استرضاهم أو استأجرهم لتعزيز حاشيته خوفا من تغلب أحد الحزبين اللذين استفحل شأنهما يومئذ في أثناء الفتنة بين أخويه الأمين والمأمون؛ إذ قام العرب مع الأمين، والفرس مع المأمون. وكان الشأن الأكبر في أول الدولة العباسية للجند الخراساني (الفرس) وهم الذين نقلوا الدولة الإسلامية من بني أمية إلى العباسيين. وكان العرب أقوياء لأنهم قوام الدولة، ومنهم الخلفاء وهم مادة الإسلام وأصله. وكان الفرس من حزب البرامكة. وكان الرشيد ذا عصبية للعرب ويخاف الفرس؛ لأنهم أنصار الشيعة العلوية فنكب البرامكة خوفا.
ولما اختلف الأمين والمأمون وتنازعا على الخلافة بعد الرشيد. كان العرب مع الأمين، والفرس مع المأمون، لأن أمه فارسية ، والأمين أمه عربية هاشمية «زبيدة». وكان الفوز للمأمون وقتل الأمين، فانحط شأن العرب، وصارت السيادة إلى الفارسيين أنصار المأمون واستبدوا في الدولة.
وكانت الحضارة قد أضرت بالمسلمين وأذهبت منهم قوة التغلب والفتح. ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية، وفيه كثير من طبائع الأتراك مع الميل إليهم؛ لأنهم أخواله. كما كان يميل المأمون إلى الفرس لنفس هذا السبب.
وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه. ولم تكن له ثقة العرب وقد ذهبت عصبتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش مع الجرأة على الجر والصبر على شظف العيش فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم في العراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها. فاجتمع عنده عدة آلاف منهم. وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود. (1-3) دولة المماليك الأولى
Bilinmeyen sayfa