وما زلنا إلى الآن نحتفل بمرور أربعين يوما على وفاة الميت، وهذه الأيام هي التي كانت الجثة تقضيها وهي مغمورة في الماء والملح ثم تخرج بعدها لكي تعالج وتحنط بأنواع أخرى من العقاقير والأفاويه والراتينجات وتلفف بالأقمشة قبل أن تدفن، ولكن حتى مع هذا التحنيط لم يثق المصريون كل الثقة بأن الروح ستعرف الجثة فصنعوا لها تمثالا لكي لا تضل، فإنهم رأوا أنهم مهما أتقنوا التحنيط فإن الوجه تتغير ملامحه فصنعوا أولا صورة فوق لفائف المومياء تشبه الأصل، ولكن هذه الصورة لم تكف فصنعوا التمثال.
وجه مومياء من العصر المسيحي في الفيوم.
وربما يكون من المبالغة أن نقول إن الرسم والنحت قد نشأ كلاهما من العناية بالميت؛ فإن الطبيعة الإنسانية أكبر من ذلك، وللفنون لذة تتجاوز حدود المنفعة، وقد ترك الإنسان البدائي رسوما لا يمكن أن تفسر بالغاية النفعية؛ إذ إن الروح الفني واضح فيها، ولكن يجب أن نعترف بأن القبر المصري كان أحد الأصول - أو على الأقل الوسائل - للنحت والرسم، فكان التمثال يصنع من الخشب أو الحجر ووجه المومياء يرسم بالألوان.
وقبل أسابيع ذكرت الصحف خبرا غريبا هو أن بعض اللصوص سرقوا جثة وجيه من وجهاء المنيا، ولا بد أن هؤلاء اللصوص هم من سلالة أولئك اللصوص الذين كانوا يسرقون قبور الفراعنة وكبار رجال الدولة، والإغراء بالسرقة في الأزمنة القديمة كان أكبر مما هو الآن؛ وذلك لأن أسلافنا كانوا يضعون مع الميت مقدارا من الذهب اعتقادا بأن هذا المعدن يطيل الحياة ويمنع عنه الفساد؛ ولذلك فكر المصريون كثيرا في بناء القبر بحيث يضل الباحث سواء أكان لصا سافلا أو عالما مصرلوجيا عن الوصول إليه، وهذا التفكير جعلهم يتقنون صناعة البناء بالحجر، ولكن هذا الإتقان لأجل الميت فقط لأن فرعون نفسه كان يعيش في قصر من الطوب النيئ كما يفعل فلاحونا إلى الآن.
ثم اعتقدوا أن الميت يحتاج إلى الطعام فبنيت منصة أمام القبر ليوضع عليها، ومن هذه المنصة وبناء القبر نشأ المعبد والقربان، ويجب أن نذكر أن فرعون كان إلها في حياته، وكذلك كان بعد وفاته، ومن هنا يسهل علينا كيف تطور القبر إلى المعبد المصري القديم.
وهذا القبر المصري لا نراه في مصر فقط، بل ما زلنا نجده في أقطار العالم النائية في جزيرة العرب وفرنسا وبريطانيا وأقطار آسيا وأفريقيا؛ وذلك لأن المصريين الذين خرجوا من مصر للبحث عن الذهب والعقاقير والخشب وسائر ما يلزم للميت، كانوا أحيانا يموتون قبل أن تتاح لهم العودة إلى بلادهم فكانوا يبنون قبورهم حيث هم في جزيرة العرب أو في السودان أو في فرنسا، ولكنهم كانوا يبنونها وهم يجهلون الدقة في الصناعة، فكان القبر يبنى وكأنه الرسم الكروكي للأصل، فقد كانوا مثلا يصلون بين منصة الطعام وبين التمثال الذي ينحت على هيئة الميت بطاق مفتوح لكي يستطيع التمثال أن يأكل ما يقدم له.
هذا في الأصل أي في مصر، ولكنهم في الهند مثلا فتحوا الطاق ولم يستطيعوا صنع التمثال، أو أقاموا الأعمدة وحفروا السراديب ولكنهم عجزوا عن تحقيق سائر الملحقات، وهذه القبور أو الأطلال التي تدل على أن المصريين هم الذين بنوها لا يكاد يخلو منها قطر في العالم، وهي تسمى عند العرب أرام، وفي اللغة الإنجليزية «دولمن».
وعندما نتتبع الأماكن التي لا تزال فيها هذه الأطلال قائمة نجد أنها قريبة من مناجم الذهب أو أي معدن آخر يشبه الذهب مثل النحاس أو غيره، وكما أننا نجد أن الهرم قد انتقل إلى أمريكا على أيدي أناس تثقفوا بالثقافة المصرية، كذلك نجد القبر المصري منتشرا في كل مكان والقبور أسهل بناء من الأهرام؛ ولذلك هي أكثر عددا وانتشارا منها.
وقيام هذه الآرام إلى جنب المناجم أو بالقرب منها يدل على أن الذين بنوها كانوا يقصدون من رحلتهم إلى الأقطار النائية إلى جلب الذهب، وقد بقيت هذه الحال إلى عصرنا الحديث؛ فإن الفينيقيين رحلوا إلى إنجلترا لجلب المعادن، بل عندما نتأمل الباعث الرحلات القديمة نجد أنها تكاد تنحصر في جلب المعادن والأفاويه ولكليهما علاقة بالتحنيط.
وكما انتقل بناء القبر المصري وتفشى في أنحاء العالم كذلك انتقل فن التحنيط حتى بلغ القارة الأمريكية، وهناك شواهد تشريحية تدل على أن التحنيط في أمريكا قد صار على الطريقة التي اتبعت في مصر حتى إن بعض الأعضاء التي عولجت بطريقة خاصة في مصر نراها هي نفسها قد عولجت أيضا في القارة الأمريكية؛ لأنها تتعلق بشعائر وعادات أبناء الشمس أي المصريين.
Bilinmeyen sayfa