قبل 35 سنة كان في «مدرسة» الطب بقصر العيني معلم إنجليزي يدعى الدكتور إليوت سمث، وكانت حرفته التي يعيش منها ويؤديها على الوجه الكامل هي تعليم الطلبة مبادئ الطب، ولكن يحدث أحيانا كثيرة أنه يكون إلى جانب عملنا الرسمي شيء نهواه ونمارسه للذة، فلا تكون له علاقة بالحرفة أو الكسب، وكان هذا الهوى عند إليوت سمث درس الفراعنة.
وكما هو الشأن في الهوى، كان درس الفراعنة يستغرق فراغه بل يستهلك كسبه، فكان كلما سنحت له الفرصة يرحل إلى الصعيد لدرس الآثار وجمع الجماجم والمومياءات، وكان إذا خلا إلى نفسه في قصر العيني أو في بيته يقعد إلى هذه الجماجم يقيسها أو يحلل قسما من جسم المومياء أو يقرأ واحدا من مئات الكتب التي جمعها عن ثقافة الفراعنة، وكان يقرأ ويقابل وينتقد.
عالم في الطب والأنثربولوجية يبحث في التاريخ، قد ملئت نفسي بروح النزاهة العلمية، وقد نضج ذهنه بدرس الأساطير وعادات المتوحشين وأصول المدنية الحديثة في القارات الخمس، فكانت دهشته عظيمة كلما وجد عادة من العادات التي تخالف المنطق، بل التي قد تكون مضرة بمن يمارسونها في الصين أو أمريكا الجنوبية أو عند سكان أوغندا، إذا هو حاول تفسيرها بظروف البيئة التي نبتت فيها لم يستطع، ولكن هذا التفسير ممكن إذا هو ردها إلى مصر أيام الفراعنة.
وعندئذ انبسط أمامه العالم القديم، فرأي أن هذا العالم إنما كان أمة واحدة هي مصر اخترعت المدنية الأولى ثم تفشت هذه المدنية في أنحاء العالم، وإنه إلى الآن نستطيع أن نرجع بعادات العالم في نظام الحكومة والقضاء والزواج والنقد وتقاليد الموت والدفن بل في قصص الأطفال إلى الفراعنة. •••
ولو أن عالما مصريا هو الذي ارتأى هذا الرأي لاتهم فيه لوطنيته، ولكن إليوت سمث إنجليزي، وهو ليس أديبا افتتن بجمال الأدب الإغريقي مثلا فدافع عنه وقال بسموه على سائر الآداب، وإنما هو عالم قد اعتاد التمحيص والشك؛ ولذلك لا نجد في كتبه لفظة حماسية أو عبارة إعجاب، وإنما نجد أسلوب العالم النزيه الذي يقرر الحقائق ويخشى من التورط في الاستنتاج فيتراجع عن كل ما يوهم المبالغة أو الإسراف.
وقد أقيمت المقارنة بين تشارلس داروين وإليوت سمث؛ فإن الأول عزا نشوء الأحياء إلى أصل أو أصول قليلة، والثاني يعزو نشوء المدنية إلى أصل واحد هو مصر.
والمقارنة صحيحة والشبه واضح، فقد كان الاعتقاد السائد قبل داروين أن كل نوع من الحيوان قد نشأ على حدة لا يضم الأنواع أصل مشترك، وكان الاعتقاد قبل إليوت سمث أن المدنيات القديمة نشأت مستقلة في أنحاء مختلفة في العالم، وقد جعلت الشواهد التي حشدها إليوت سمث المؤرخين يؤمنون بنظريته. •••
والآن ما هي هذه النظرية؟
هي أن الإنسان كان يعيش قبل نحو عشرة آلاف سنة وهو لا يعرف الزراعة، فلم يكن يستنتج الطعام بالزراعة وإنما كان يجمعه بالصيد واقتلاع الجذور وجني الأثمار البرية.
وفرق عظيم بين جمع الطعام وبين استنتاجه.
Bilinmeyen sayfa