مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
تصنيف
شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قز أوغلي بن عبد الله
المعروف بـ «سبط ابن الجوزي» (٥٨١ هـ - ٦٥٤ هـ)
حقق هذا الجزء وعلق عليه
محمد بركات
كامل الخراط
عمار ريحاوي
الرسالة العالمية
Bilinmeyen sayfa
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
دار الرسالة العالمية
جميع الحقوق محفوظة
يمنع طبع هذا الكتاب أو أي جزء منه بجميع طرق الطبع والتطوير والنقل والترجمة والتسجيل المرئي والمسموع والحاسوبي وغيرها إلا بإذن خطي من: شركة الرسالة العالمية م. م.
الإدارة العامة
دمشق - الحجاز
شارع مسلم البارودي
بناء خولي وصلاحي
بريد: ٢٦٢٥
تليفون: ٢٢١٢٧٧٣ - ١١ (٩٦٣)
فاكس: ٢٢٣٤٣٠٥ - ١١ (٩٦٣)
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
مقدمة / 4
كلمة الناشر
"مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي كتاب كنت أحلم بتحقيقه منذ أمد بعيد؛ لأنه مرجع مهم من كتب التاريخ يسعى إليه المؤرخون ليوثِّقوا ما يكتبون.
ولما عَرض عليَّ الأخ (أبو منصور الحافظ) صورًا لبعض مخطوطات الكتاب صوَّرها من مكتبات إستانبول، تعزَّزت لديَّ أهمية الكتاب فسارعت للعمل على تحقيقه.
تعاقدتُ مع المرحوم الدكتور إحسان عباس لهذا الغرض، وبدأ العمل فيه لكنه توقف بعد سنة وثمانية أشهر لمشاغل كثيرة أحاطت به؛ لذا عقدت العزم على أن يقوم مكتب تحقيق مؤسستنا في دمشق بتحقيق الكتاب.
فاستكملنا المخطوطات، ووضعنا منهج التحقيق، ثم انطلقت المسيرة فأمضينا في تحقيقه سنين طويلة نيَّفتْ على العشرين عامًا حتى رأى النور، وبذلنا في سبيل ذلك من المال ما الله به عليم.
كان العمل شاقًّا؛ لأن هدفنا إصدار الكتاب بأفضل صورة على عِلَّات النسخ الخطية الكثيرة؛ من نُدْرةٍ ونقص واختصار وتحريف وتصحيف.
ولكنْ ذَلَّلَ الصعاب عزمٌ صادق من محققين حملوا المسؤولية، وصدقوا العزم مما جعل الكتاب -بعد لَأْيٍ- يرى النور.
فللمحققين الأفاضل الأساتذة: إبراهيم الزيبق، محمد رضوان عرقسوسي، عمار ريحاوي، محمد بركات، معتز كريم الدين، فادي المغربي، محمد أنس الخن أقدم خالص شكري، وكذلك للأستاذ كامل محمد الخراط الذي بذل جهدًا كبيرًا في مراجعة كثير من أجزاء الكتاب.
مقدمة / 5
ولكل من معدات الفهارس الآنسات: ندا العسلي، زينة العوا، رشا المكاري، رزان الفحام.
وفي الختام .... أشكر الأستاذ خير الدين حبِّي على ما أبداه من ملاحظات قيمة حول التحقيق في بعض الأجزاء، وعلى الدور الذي قام به من حيث الإشراف العام والتنسيق بين العاملين في هذا المشروع العلمي الكبير من محققين ومنضدين ومقابلين ومخرجين.
إنها مسؤولية نحملها جميعًا نأمل أن نكون قد أديناها بأحسن صورة، بوضعنا هذا السفر الجليل بين أيدي الباحثين في التاريخ، ليكون منارًا للعاملين في تحقيق تراثنا التاريخي، كما كان منهلًا لكثير من مؤرخي الأيام الخوالي: كابن كثير، وابن رجب الحنبلي، وابن تغري بردي.
والله الموفق
رضوان دعبول
* * *
مقدمة / 6
مقدمة التحقيق
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على نبينا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فقد حَرصَت مؤسسةُ الرسالة خلال مسيرتها الطويلة في عالم الطباعة والنشر على التصدي لتحقيق ونَشر كتب التراث الضخمة التي تزخَرُ بها مكتبتُنا الإسلاميةُ العامرة، إيمانًا منها بأهمية نَشر العلم النافع، وطلبًا لما وراء ذلك من الأجر والمثوبة من الله ﷿.
وهي اليوم تُقدم إلى كل طالب علمٍ كتابًا من أمهات كتب التراث، طالما تمنى طلابُ العلم أن تكتحلَ عيونُهم برؤيته، فقد كانوا يرون في كتب التاريخ التي بين أيديهم نقولاتٍ كثيرة عنه، دون أن يَقفوا له على أثر، فلذلك هَفَتْ نفوسُهم إليه، وتَلهَّفَت قرائحهم للاطلاع عليه، ألا وهو كتابُ (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان) لأبي المُظفَّر يوسف بن قُز أوغلي بن عبد الله، المعروف بسبطِ ابن الجوزي، المتوفى سنة (٦٥٤ هـ). هذا الكتاب الذي أرادَ مصنفُه ﵀ أن يكون له مِن اسمِه نصيب، حيث قال في مُقدمته: "وسمَّيتُه: (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان) ليكون اسمًا يوافق مُسمًّى، ولفظًا يُطابق معنًى". ولعَمري لقد كان له ما أراد، فالناظر في هذا الكتاب كأنما ينظر من خلال مرآةٍ زمانيةٍ تعكسُ له مُجرياتِ أحداثِ الأمم السالفة، ووقائعَ العصورِ الغابرة، فكأنه يرأها رأيَ العين، وقد غَبطَه الإمام الصلاحُ الصفدي المتوفى سنة (٧٦٤) هـ على هذه التسمية، فقال: "وأنا ممَّن حَسَدهُ على تَسميته، فإنها لائقةٌ بالتاريخ، كأنَّ الناظر فيها يُعاينُ من ذُكِرَ فيه".
وأكَّدَ هذا المعنى العلامةُ قطب الدين اليونيني المتوفى سنة (٧٣٦) هـ، وهو قد اختصر كتابَ المرآة وذيَّلَ عليه، فأوضح سبب اختصاره قائلًا: " ... وصنَّفَ الناسُ في ذلكَ كُتبًا،
مقدمة / 7
وساروا بأفكارهم، فجلَبوا من أخبار الأُمم حَطبًا وذَهبًا، ولما وقفتُ على بعضِ ما نَصُّوه، وتأمَّلت ما أَنبأوا به عن السالفين وقَصُّوه، رأيت أجمَعها مَقصدًا، وأعذَبها مَوردًا، وأحسنَها بيانًا، وأصحَّها روايةً، يكادُ خَبَرُها يكون عِيانًا؛ الكتابَ المعروف بمرآة الزمان، تأليف الشيخ الإمام شمسِ الدين أبي المظفر يوسف سبط الإمام ابن الجوزي ﵀، الذي ضمنه ما علا قَدرُه على كلِّ نَبيه، وفاقَ به على مَن يُناويه ... ".
ويَعجَبُ المرءُ كيف يبقى مثلُ هذا الكتاب القَيِّم حَبيسَ أَرْفُفِ مكتبات المخطوطات ردحًا طويلًا من الزمن، حيث لم يصدر منه غير جزءٍ واحد من أوله بتحقيق الدكتور إحسان عباس طبع بدار الشروق سنة (١٩٨٥) م، وجزء وحيدٍ من آخره طبع بحيدر آباد الدكن سنة (١٩٥٢) م، ولكن هذا العجبَ يتلاشى أمامَ معرفة المشاق والصِّعاب التي تَقفُ دون الحصولِ على نُسَخهِ الخطية، إذ ليس للكتابِ نسخةٌ خطيةٌ كاملةٌ وسَليمة، وإنما هي أجزاء متفرقة من نُسخٍ متعددة لم تَخلُ من السقوطات والتصحيفات، وأصاب بَعضَها خَرمٌ في أولها أو في آخرها أو في أثنائها، وبَعضُها فيه الكثير من الصفحات المطموسة، وبعضها مختصر -كما سنُبيِّن ذلك بعد قليل- ولهذا بذلَ الإخوةُ المحققون -جزاهم اللهُ خيرًا- جُهدًا مُضنيًا في التوفيق بين هذه النسخ والمؤالفة بينها، لاستخراج النصِّ الصحيح واستكماله، وإثباتِه على الوجه الأكمل الذي أراد المصنف أن يكون عليه، وهذا الجهد لا يُقَدِّرُ قَدرَهُ، ولا يعَرفُ مبَلْغَه إلامن عانىَ مِهنةَ التحقيق وخاضَ غِمارَها.
ولا بد لي هنا من قَولةِ حَقٍّ أقولُها، وهي: إنه لولا جهودُ الأستاذ رضوان إبراهيم دعبول -صاحب المؤسسة ومديرها- وإصرارُه ودَأبُه المتواصل في سبيل إخراج هذا الكتاب لما خرج إلى النور، فهو منذ عام ١٩٩٢ م حينما وصلت إلى يدِه بعضُ مخطوطات الكتاب أَوْكَلَ إلى الأستاذ عمر القيّام مهمةَ البدء بتحقيقه بإشراف الدكتور إحسان عباس، ولكنه بعد عام ونصف اعتذرَ عنه، لما يحتاجه هذا العمل من جهدٍ ووقتٍ كبيرين، فلم يَكِلَّ ولم يَمَلَّ، ولكنه بَذلَ الغالي والنفيسَ وضاعفَ الجهدَ في البحثٍ عن بقيةِ نسخ الكتاب الخطية، والسَّعي في تحصيلها سعيًا حثيثًا، حتى تكامل
مقدمة / 8
منها ما يوفي بالغرض، عندها بدأت عملية المقابلة، ثم وُزِّعت الأجزاءُ على الإخوة المحققين الأكارم الذين مارسوا تحقيقَ كتبِ التراث منذ أمدٍ بعيدٍ أنجزوا خلاله الكثيرَ من الكتب التي أشادَ بها أهلُ العلم والفضل، فَصبّوا كلَّ جهدهم في تحقيق الكتاب، وعانوا في سبيل ذلك ما عانوه، فكم من ساعةٍ أمضَوها في استكمال نصٍ لم يجدوا بقيته فيما بين أيديهم من مخطوطات، أو في البحث عن رَسْمِ كلمةٍ محرفةٍ لا تستقيم بها العبارة. وغيرِ ذلك من عقباتٍ كثيرةٍ واجهتهم في تحقيق هذا الكتاب أعانهم اللهُ على تَخَطِّيها.
وقد أَوكلَ إليَّ الأستاذ رضوان دعبول مدير المؤسسة مهمةَ مراجعة عددٍ من أجزاء الكتاب التي تبيَّن أنها تحتاج إلى مراجعة، فبذلتُ الوُسْعَ واستفرغتُ الجهدَ، وأعانني المولى ﵎ بمَنٍّ منه وفضل، فاستدركتُ بعض سُقوطاتٍ نَدَّت هنا وهناك، وصححت عددًا من الكلمات المصحَّفَة والمحرَّفَة، وأفدتُ من قراءتي المتوالية ربطَ العديد من المَواطن في الكتاب وإحالةَ بعضها على بعض.
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى عددٍ من الأمور التي تَبدَّت من خلال العمل في هذا الكتاب:
أولًا: أن كتابَ (مرآةِ الزمان) يُعدُّ -وبحق- موسوعةً تاريخيةً كبيرةً لاشتماله على أحداثِ فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ تمتد من ذكر بدْءِ الخَلق إلى أحداث ووفيات سنة (٦٥٤) هـ، وهي سنة وفاةِ مصنِّفه ﵀، فهو بهذا من المراجع المهمة التي لا غِنى عنها لكل باحث لما يتضمنه من أحداثٍ موثقةٍ وأخبارٍ موسعةٍ لا توجد في غيره من المصادر.
ثانيًا: أن الاعتقادَ السائد بأن السِّبطَ ضَمَّنَ كتابَه كتابَ جَدِّه (المنتظم) وبنى عليه بعد انتهائه، اعتقادٌ غير صحيح، ويتلاشى بمقارنةٍ سريعةٍ لأي سنةٍ من السنوات المشتركة بينهما، ليظهر الفرقُ الشاسعُ والبَونُ الواسع بين الكتابين من حيثُ الأحداثُ الواردةُ والتراجمُ المذكورة، صحيحٌ أن السِّبط أفادَ من كتاب جَدِّه، ولكنه لم يقتصر على ما فيه، بل جمع إليه من المصادر الكثيرة التي بين يديه الشيء الكثير.
مقدمة / 9
ثالثًا: لم يقتصر أبو المظفَّر على النَّقل فحسب، ولكنه كان يدلي بآرائِه ووجهةِ نظره، وتَجلّى ذلك من خلالِ تَنقيداتٍ لطيفةٍ انتقدَ بها سابِقيه، أو تعليقاتٍ طريفةٍ علَّق بها على بعض الأخبار، أو إضافاتٍ سديدةٍ كان يضيفها إذا ما رأى حاجةً تدعو إلى ذلك، فعلى سبيل المثال؛ عندما ذكرَ قصة سُليمان ﵇ (٢/ ٢٢٢) ووردَ فيها أن بلقيس أرسلت إليه بخمس مئة غلام، وخمس مئةٍ جارية، وألبست الغلمان ثيابَ الجواري، والجواري ثيابَ الغِلمان لكي تختبره، مَيَّزَ سليمان ﵇ بينهم من طريقتهم في الوضوء، فعلَّقَ أبو المظفَّر قائلًا: "والعجبُ من حكاية مثلِ هذا، وقد اتفقوا أن القوم كانوا يعبدونَ الشمس، وأخبرهم اللهُ على لسان الهُدهدِ بذلك، فمن أينَ كانوا يعرفونَ الوضوء؟ وإنما ميَّز بينهم بالوحي جبريل".
وكذلك في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن (١٢/ ١٤٢) ذُكرَ أنه خرَجَ هو وأخوه محمد على أبي جعفرٍ المنصور، فطلبهما أشدَّ الطلب، ثم أُتِيَ بمرآةٍ كانت لآدم ﵇ ينظر فيها فيرى عدوَّه، فنظر فيها أبو جعفر فعرف مكانهما، فأرسل في طلبهما، عندها قال أبو المظفَّر: "وليس العجبُ من الطبري، فإن من عادته أن يأتي بالعجائب والغرائب، وإنما العجبُ من جَدّي أن يحكيَ مثلَ هذا في المنتظم، وهذا شيءٌ تأباه العقولُ السليمةُ والأذهانُ الصحيحةُ.
وفي ترجمةِ المهتدي بالله (١٥/ ٣٤٥) أورد قولَ الخطيب والصولي فيه أنه كان كثيرَ العبادةِ والورع، ثم علَّق قائلًا: "مِن أينَ وصفُ الخطيب والصوليِّ وغيرِهما له بالورع، وقد واطأَ على قتل ابن عمه المعتزِّ من غير سببٍ إلا حبُّ الدنيا، وقد كان قادرًا على منع الأتراكِ من قَتله، وهل يَفي دمُ مسلمٍ بعبادة الثَّقَلين؟ ".
وفي ترجمةِ أبي داود السِّجستاني صاحب "السُّنَن" ١٦/ ١٢٤) ذكر أنه ضَمَّنَ كتابه "السُّنَن" أربعةَ آلاف وثمان مئة حديث، ويكفي الإنسانَ لدينه من ذلك أربعةُ أحاديث؛ أحدها: قوله ﷺ: "الأعمالُ بالنِّيات"، والثاني: قوله ﷺ: "مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ
مقدمة / 10
تركه ما لا يَعنيه"، والثالث: قوله ﷺ: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه"، والرابع: قوله ﷺ: "الحلالُ بَيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات" فأضاف أبو المظفر قائلًا: ولو أخرج الخامسَ كان أبلغ، وهو قولُه ﵊: "المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ من لسانه ويده".
وابعًا: استطرد المصنفُ استطراداتٍ كثيرة، أَضْفَتْ غالبيتُها العظمى على الكتابِ رونقًا وبَهاءً، وأخرجته من عباءَتهِ التاريخية، وألبَستْهُ حُلَّة أدبيةً رائعةَ الجمال، والمصنف باستطراداته هذه خالف شرطَه الذي ذكره في مقدمته حينما قال: "ولو مَددتُ فيه أطنابَ الإطناب، وأسبابَ الإسهاب، لانقطعَ سَيرُ السُّرَى وكَلَّ كلُّ الرِّكاب، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودَلَّ، ولم يطل فيُمَلّ".
غيرَ أنَّ النَّزْرَ اليَسيرَ من هذه الاستطرادات لم يكن في محله، فمثلًا حينما ذَكرَ حِكَمَ أرسطاطاليس (٢/ ٣٩٧) سَردَ مُعظَمها، وذكرَ أخذَ المتنبي لها وصياغَتها في شعره واحدةً واحدة، وكذلك في ترجمة الخرائطي (١٧/ ١٥٢) قال: "روينا كتابه (اعتلال القلوب) وفي آخره لأبي بكر الصنوبري ... " وذكر له بيتين من الشعر، ثم نبذةً عنه، وأتبعها بأشعارٍ كثيرةٍ، وفي ترجمة الحاكم النَّيسابوري المحدِّث (١٨/ ٢٣٦) ذكر مصنَّفاته ومنها كتاب (المدخل)، ونقل منه أقسامَ الحديث الصحيح، وأقسام الحديث المختلف في صحتها بالتفصيل، حتى ليُخيَّل للقارئ أنه يقرأ كتابًا في مصطلح الحديث، لا كتابًا في التاريخ والتراجم.
خامسًا: إن كثرةَ النُّقول التي أوردها أبو المظفَّر في كتابه هذا، واتساعَها وتَنوعَها يَدلُّ أولًا على سَعَةِ اطّلاعه وتبَحُّرِهِ وتَفنُّنهِ في كثير من العلوم، ويَدلُّ ثانيًا على ضَخامةِ المكتبةِ التي استند إليها في تصنيفه، وتنوُّعِ أبوابها، واشتمالها على فنونٍ كثيرةٍ من العلم، كالتفسيرِ، والحديثِ، والفقهِ، والسيرةِ، والتاريخِ، والجغرافيا، والفلكِ، والطِّبِّ، والأدبِ، واللُّغةِ، والشِّعر، ولا أدلَّ على كثرة مصادره من بعض أخبارٍ
مقدمة / 11
أوردها لم نقف لها على مصدر واحدٍ على كثرة ما بين أيدينا من مصادر، ونقولاتٍ من كُتبٍ مفقودة لم تصل إلينا، كما في ٢١/ ٣٠٩، و٢٢/ ٢٧٩ حيث نقل عن كتاب ذيل المنتظم لمحمد بن أحمد بن محمد القادسي المتوفى سنة (٦٣٢ هـ)، وهو من الكتب التي لم تصل إلينا حتى الآن.
ولا غَرْوَ إذن أمامَ هذا التنوعِ في المصادر، والاستقصاءِ في إيراد الأخبار أن يكون كتابُ (مرآة الزمان) مَعينًا ثَرًّا، ومنهلًا عذبًا، نَهل منه عددٌ غيرُ قليلٍ من العلماء والمؤرخين من مُعاصِري سبطِ ابن الجوزي أو ممن جاء بعده، فقد أفاد منه العلامةُ أبو شامة المقدسي (٦٦٥ هـ) في المُذَيَّل على الروضتين، وابنُ خَلِّكان (٦٨١ هـ) في وفيات الأعيان، والإمامُ الذهبي (٧٤٨ هـ) في سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام، وصلاحُ الدين الصفدي (٧٦٤ هـ) في الوافي بالوفيات، وابن شاكر الكتبي (٧٦٤ هـ) في فوات الوفيات، واليافعي (٧٦٨ هـ) في مرآة الجَنان، والتاجُ السبكي (٧٧١ هـ) في طبقات الشافعية، وابنُ كثير (٧٧٤ هـ) في البدايةِ والنهاية، وابن رجب الحنبلي (٧٩٥ هـ) في ذيل طبقات الحنابلة، وبدرُ الدين العيني (٨٥٥ هـ) في عقد الجمان، وابنُ تَغري بَردي (٨٧٤ هـ) في النجوم الزاهرة، وفي المنهل الصافي، والسيوطي (٩١١ هـ) في تاريخ الخلفاء، والنعيمي (٩٢٧ هـ) في الدارس في تاريخ المدارس، والعِصامي في (١١١١ هـ) في سمط النجوم العوالي وغيرهم، والجميع صرَّح بالنقل عنه إما بقوله: "قال سبط ابن الجوزي"، وإما بقوله: "قال صاحب مرآة الزمان"، بل قد صرَّح ابنُ تغري بردي في النجوم الزاهرة باعتماده اعتمادًا كبيرًا على المرآة حيث قال ضمن ترجمته لأبي المظفر ٧/ ٣٩: "وله مصنفاتٌ مفيدة، منها تاريخه المسمى مرآة الزمان، وهو من أجلِّ الكتب في معناها، ونقلتُ منه في هذا الكتاب مُعظمَ حوادثه".
سادسًا: لم يخلُ الكتاب من أوهام وقعت للمصنف، أو تصحيفات وقعت من نُسّاخ الكتاب، فمن الأوهام التي وقعت للمصنف أحيانًا: نسبةُ حديثٍ إلى غير مُخرِّجه، أو خطأ في إسناده، أو ذكر ترجمة في غير موضعها من السنة الموافقة لوفاة المترجم، أو
مقدمة / 12
خطأ في اسم مترجم، سواء أكان ذلك منه أم من مصادره، إلى غير ذلك من أوهام أشيرَ إليها في مواضعها، وكل ذلك لا يُنقص من مكانه هذا السفر الكبير وقدره، نظرًا إلى حجمه وسعته وتنوعه وكثرة موارده.
منهج التحقيق: لقد كان جُلُّ الاهتمام متوجهًا إلى إخراجِ النص أقربَ ما يكون إلى ما أثبتَه عليه المصنف، وكان دونَ ذلك ما دونه من صِعابٍ ومَشاقّ، وما ذلك إلا لعدم وجود نسخةٍ خطية كاملة -كما أسلفنا- ولأن الأجزاء المتوافرة في بعضها خرومٌ عديدة، أو طمسٌ أتى على أسطرٍ أو كلمات، أو بعضها كان أجزاء من مختصر اليونيني، ولا أدلَّ على ذلك مما ورد في آخر ترجمة المتنبي (١٧/ ٣٧١) وهو: "قلتُ: وقد أثبتَ المصنفُ ﵀ في هذه الترجمة جملة وافرةً من شعرِ المتنبي، وشرحَ فيها من الغريب، وهي على حروف المعجم، فأضربتُ عن ذكرِ شيءٍ منها، وذلك لاشتهارِ شعر المتنبي بين الناس، والله أعلم".
فكان الشغلُ الشاغل -بعد المقابلة على النسخ الخطية- هو الغوصَ بين فَوارقها لإثبات ما يُوافقُ المعنى ويُناسبُ السِّياق، فإذا ما قَصَّرت النُّسخُ في الإسعاف بإيجادِ البُغيَة، والإنْجادِ بالوصول إلى الغاية، كان لا بد من الرجوع إلى المصدر الذي صرَّح المصنفُ بالنقل عنه، فإن وقَفنا فيه على طَلِبَتنا فبها ونِعْمَت، وإلا وسَّعنا مجال البحث حتى نقف على مصدرٍ يُعينُ على استدراكِ نقصٍ، أو تحرير تحريفٍ، أو تصحيحٍ تَصحيف، وتمَّ وضعُ جميع الزيادات بين حاصرتين، والإشارةُ إلى مصادرها في الحواشي.
كما تمَّ ضبطُ النص وترقيمُه وتفصيلُه، وتخريجُ الآيات والأحاديثِ والآثار، وعَزوُ الأخبار والوقائع إلى مصادرها قدر الإمكان، والتعريفُ بالأماكن والمصطلحات التاريخية -على كَثرتها- والترجمةُ الموجزةُ لبعضِ الأعلام، وذكرُ مصادر الأعلام المترجَمين، وتخريجُ الأبيات الشعرية مع ذكر البَحر العَروضي قبلها، ونسبتُها إلى
مقدمة / 13
قائلها إن لم يُذكَر، وشرحُ الغريب من الألفاظ، والتنبيهُ على بعض الأوهام التي وقع فيها المصنف أو تابع فيها مَن سَبقَه، ثم تمَّ إعدادُ الفهارسِ العامة اللازمة لهذا الكتاب، والتي تُسهل الاستفادةَ منه، وتجعله قَريبَ المَأْخَذِ سَهْل المُجتَنَى لكل طالب علم.
وخشيةَ الإطالة أفردنا للمصنف ترجمةً موجزةً تليقُ به، وأتبعناها بوصفٍ مفصلٍ للنسخ الخطية المعتمدة مع سَردِ نماذج من بداياتها.
وفي الختام؛ نحمدُ اللهَ العليَّ العليم، الذي وفَّقَ وأعانَ على إنجاز هذا السِّفرِ العظيم، وَيَسَّر سُبُلَ تحقيقه وطباعته، لكي يخرجَ إلى النور بطبعته الكاملةِ وحُلَّتهِ القَشيبة، فيأخذَ مكانَه اللائقَ به بين أمّهات كتب التراث.
نسألُ اللهَ تعالى أن ينفعَ به، وأن يجعل عملَنا فيه خالصًا لوجهه الكريم، إنه خيرُ مأمولٍ وأكرمُ مسؤول.
والحمد لله رب العالمين
كتبه
كامل محمد الخراط
دمشق في غُرة رمضان ١٤٣٣ هـ
الموافق ١٩ تموز ٢٠١٢ م
مقدمة / 14
ترجمة المصنف (*)
اسمه ونسبه: هو الشيخُ العالم المُتَفَنِّنُ المؤرّخ الأخباريُّ واعظُ الشامِ شمسُ الدين أبو المظفَّر يوسف ابنُ الأمير حسام الدين قُز أوغلي (١) بن عبد الله التركيُّ العَونيُّ الهُبَيريُّ (٢)، البغداديّ ثم الدمشقيُّ، الحنبليُّ ثم الحنفيُّ، سبطُ الإمام أبي الفرج ابن الجوزي.
كان والده حسام الدين من مماليك الوزير يحيى بن هُبيرة، وكان عنده بمنزلة الولد، فأعتقه.
وأمه رابعةُ هي إحدى بنات الإمام أبي الفرج ابن الجوزي.
ولادته ونشأته: وُلد أبو المظفَّر في بغداد سنة (٥٨١ هـ) (٣)، لأبٍ هو أميرٌ من أمراء الوزير ابن هُبَيرة، ولأُم هي إحدى بنات الشيخ الجليل أبي الفرج ابن الجوزي، ونشأ في بيتٍ أهلُه أهلُ علم وفضل، فَجدُّه العلامةُ ابن الجوزي وحيدُ دَهره وفريد عصره، وهو غنيٌّ عن التعريف، وأخواله أبو بكر عبد العزيز، وأبو القاسم علي، وأبو محمد يوسف، كلٌّ أخذ من العلم بنصيب وافر، ووالدته وخالاته أيضًا كُنَّ على درجةٍ من العلم، فقد قال السِّبطُ في آخر ترجمةِ جَدِّه: "وكان لجدِّي عدة بنات منهنَّ والدتي
_________
(*) المذيل على الروضتين ٢/ ١١٧، وفيات الأعيان ٣/ ١٤٢، ذيل مرآة الزمان ١/ ٣٩ - ٤٣، العبر ٥/ ٢٢٠، سير أعلام النبلاء ٢٣/ ٢٩٦، تاريخ الإسلام (وفيات سنة ٦٥٤ هـ)، ميزان الاعتدال ٤/ ٤٧١، الوافي بالوفيات ٢٩/ ٢٧٦، عيون التواريخ ٢٠/ ١٠٣، فوات الوفيات ٤/ ٣٥٦ ومرآة الجنان ٤/ ١٣٦، البداية والنهاية ١٣/ ١٩٤، الجواهر المضية ٣/ ٦٣٣، نزهة الأنام: ٢٢٩، السلوك لمعرفة دول الملوك ١/ ١٣٢، عقد الجمان ١/ ٣٠، النجوم الزاهرة ٧/ ٣٩ لسان الميزان ٨/ ٥٦٥، الدارس في تاريخ المدارس ١/ ٤٧٨، شذرات الذهب ٥/ ٢٦٦ الفوائد البهية: ٢٣٠، الأعلام للزركلي ٨/ ٢٤٦، معجم المؤلفين ١٣/ ٣٢٤، طبقات المفسرين للأدنروي ١/ ٢٣٩، فهرس الفهارس ٢/ ١١٣٨، أبجد العلوم ٣/ ٩٣.
(١) معظم المصادر ذكرت اسم أبيه هكذا، وبعضُها ذكره: "قُز أغلي"، وبعضها "قُزُغْلي" كما ضبطه بالحرف العلامة الكتبي في فوات الوفيات فقال: "بالقاف والزاي والغَين المعجمة واللام"، وممكن أن تحذف القاف من أوله فيقال: "زُغْلي" كما ذكر الذهي في تاريخ الإسلام، وهي لفظة تركية معناها: ابن البنت.
(٢) نسبةً إلى الوزير عون الدين يحيى بن هُبيرة، مولى أبيه.
(٣) وثمة إشارة إلى أن ولادته كانت سنة (٥٨٢) هـ، وأن أمه أخبرته بذلك. وفيات الأعيان ٣/ ١٤٢.
مقدمة / 15
رابعة، وشرف النساء، وزينب، وجوهرة، وست العلماء الكبرى، وست العلماء الصغرى، وكلُّهنَّ سمعنَ الحديثَ من جدي وغيره" (١).
في كنفِ هذه الأسرة العلمية كانت نشأةُ أبي المظفَّر، ويبدو أنَّ جدَّه تلفَحَ فيه مَخايلَ الذكاء والنبوغ منذ صغره، فأولاه رعايةً واهتمامًا كبيرين، وأحضره دروسَه ومجالسَه، فنهلَ أبو المظفَّر من مَعينِ جَدِّه الَّثرّ، واستقى من مَنهلِه العذب، وأفادَ إفادةً كبيرةً من علومه المختلفة، حيث أخذ عنه الفقه، وسمع منه الحديث، وقرأ عليه القرآن، وسَهَّلَ له جَدُّه سُبُلَ أخذ العلم عن عددٍ من شيوخ بغداد المشهورين في ذلك الوقت.
رحلته إلى دمشق: بعد وفاة جَدِّه عزمَ أبو المظفَّر على النُّقْلَةِ إلى دمشق، فخرج في بداية سنة (٦٠٠ هـ) تاركًا بغداد وراءه، مُيَمِّمًا وَجهه شطرَ دمشق، فمرَّ خلال رحلته بدَقوقا، وإربل، والموصل، وحرَّان، وأخذ عن عددٍ من شيوخ تلك البلدان، وحطَّ رحاله في دمشق، ونزل بسفح قاسيون بين المقادِسَة من بني قُدامة، فوجد بصحبتهم الأُنسَ والحبور، وبموطن إقامته الجديد الراحةَ والسرور، وأشبع نَهَمَه العلميَّ بالأخذ عن شيوخ دمشق -ممن سنَسرُد أسماءهم عند ذكر شيوخه- ...
وخلال فترةٍ وجيزةٍ لمعَ نَجمُه وذاعَ صيتُه، وصار يُلقب بواعظ الشام، وجذبَ إليه بحلاوة وَعظِه وطلاوةِ لفظِه قلوبَ الملوكِ والأمراءِ والولاةِ قبل قلوب العامة، وأصبح على اتصالٍ بالملك الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب، وإخوتهِ الملكِ المعظَّم عيسى، والملكِ الأشرف موسى، والملكِ الصالح إسماعيل، وبالملك الناصر داود بن المعظَّم، وبعددِ من الولاة والأمراء، وكوالي الشام المعتمد إبراهيم بن موسى، والأميرِ مبارز الدين سنقر الحلبي الصلاحي وغيرِهم، وكانوا يزورونه في بيته لاستماع مواعظه وكلامه على ما كان يُسمعهم من الإنكار عليهم في بعض الأمور، قال اليونيني: "وكان له الحُرمةُ الوافرةُ، والوجاهةُ العظيمةُ عند الملوكِ وغيرهم من الأمراء والأكابر، ولا ينقطعون عن التردُّدِ إليه، وهو يعاملهم بالفراغِ منهم ومما في أيديهم،
_________
(١) مرآة الزمان ٢٢/ ١١٨.
مقدمة / 16
ويُنكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعيَّن فيها الإنكار، وهم يتطفَّلونَ عليه" (١). وليس كلام اليونيني من قبيل المجازفة، بل هو صحيح، وربما أخذه من كلام أبي المظفر نفسه عندما ترجمَ لزوجته زينب بنت أبي القاسم قاضي حماة، فقال: "كانت صالحةً ديِّنةً مُتفقهةً، تعمل ألوانَ الطَّبايخ والحلاوات، وكان الملوك يرغبونَ في صنعتها، ويُعجبهم طعامُها" (٢)، وهذا يؤكّدُ زيارة الملوك والأمراء له في منزله.
وكان أبو المظفَّر يُسخِّرُ صلته بتلك الطبقة لقضاء حوائج الناس ونَفعهم قدر المستطاع، فقد زارهُ العلامةُ ابنُ الصلاح ذاتَ يوم في مَسكنهِ على ثورا، ورجاه أن يطلبَ من الملك المعظَّم عيسى أن يولِّيه مدرستَه، مع علمه أن المعظَّم غير راضٍ عنه، فما كان من أبي المظفَّرِ إلا أن بادر إلى الملك المعظَّم يَستعطفه ويُطيِّبُ خاطره على ابنِ الصلاح حتى وَلّاهُ تلك المدرسة، وكذلك سعى عنده للسيف الآمدي حتى فوَّضَ إليه أمرَ المدرسة العزيزية، وكثيرًا ما كان يَسعى في إطلاق مَن سُجنَ ظلمًا كما فعل مع أمةِ اللطيف خادمة ربيعة خاتون (٣).
وقد تولَّى أبو المظفَّر -إلى جانب عقده مجالسَ الوعظِ في الجامع الأموي وجامع جبل قاسيون- التدريسَ في عددٍ من مدارس دمشق، ففي سنة (٦١٥ هـ) فوَّض إليه الملكُ المعظَّمُ تُربةَ بدر الدين حسن -أحدِ أولاد الدَّاية- بسفح جبل قاسيون على نهر ثورا عند جسر كحيل، وكتب بذلك منشورًا، وبعثَ به إليه، فكانت مَسكنَه، ومقرَّ مطالعتِه وتصنيفهِ، يقول العلامة أبو شامة: "وما أكثر ما كنتُ أراهُ جالسًا في شُبّاك التُّربة أو في الصُّفَّةِ الخارجة في النهر، ومعه كتابٌ يُطالع فيه أو يَنسخُ منه" (٤).
وفي سنة (٦٢٣ هـ) فوض إليه المعظَّم التدريسَ بالمدرسة الشِّبليَّة التي أنشأها شِبلُ الدولة كافور الحُسامي قبالةَ البدرية، وكذلك تولَّى التدريس بالمدرسة العِزِّيةِ البَرَّانيَّة
_________
(١) ذيل مرآة الزمان: ١/ ٤٠.
(٢) المرآة ٢٢/ ٤٠٠.
(٣) مرآة الزمان ٢٢/ ٣٩١.
(٤) المذيل على الروضتين ١/ ٣٠٧.
مقدمة / 17
التي أنشأها الأمير عز الدين أيبك بالشَّرف الأعلى شمالي ميدان القصر، وبالمدرسة العِزِّية الجوّانية، وبالمدرسة العِزيَّة الحنفيَّة بالجامع الأموي جوار مشهد علي، والتي أوقفها أيضًا عزُّ الدين أيبك ﵀ (١). وفي سنة (٦٤٥ هـ) فوَّضَ إليه الأمير عز الدين أيبك النظر في أوقافه ومدارسه وأبواب البر، وكذلك فوَّضَ إليه الملك الأشرف موسى جميعَ الخَوانِك التي ببلاده شرقًا وغربًا وبعدًا وقربًا.
ولم يتقصر دور أبي المظفر على الوعظ والتدريس والتصنيف، بل تعدى ذلك إلى الجهاد والغزو بنفسه، وتحريض الناس على ذلك، فهاهو يحدثنا بنفسه عن غزوةٍ كانت مع الفِرنج في عكا سنة (٦٠٧ هـ) فيقول: "وفيها جلستُ بجامع دمشق يوم السبت، وكان الناس من باب مشهدِ زين العابدين إلى باب الناطِفانيِّين وإلى باب الساعات، وكان القيامُ في الصحن أكثر، بحيث امتلأ الجامع، وحُزِروا بثلاثين ألفًا، وكان يومًا لم يُرَ بدمشق مثله ... وخرجنا من باب الفَرَج إلى المصلَّى، وجميع من كان بالجامع بين يديَّ، وسرنا إلى الكُسوة من الغد، ومعنا خلق مثل التراب ... والكلُّ خرجوا احتسابًا ... فسِرنا على الجادة إلى نابلُس، ووصلت أخبارنا إلى عكا، وخرج المعظَّمُ فالتقانا وسُرَّ بنا ... وخرجنا نحو بلاد الفرنج فأخربنا وهَدَمنا، وقطَّعنا أشجارهم، وأسرنا جماعةً، وقُتِلَ جماعةٌ، ولم يَتجاسَروا أن يخرجوا من عكا، فأقمنا أيامًا ثم عدنا سالمين غانمين" (٢).
وعَظُه: ليس في تخصيصنا الحديث عن وعظِ أبي المظفَّر انتقاصٌ لبقية فنونه العلمية، والتي ستأتي في سياق الحديث عن مصنَّفاته، ولكنَّ شهرتَه في مجال الوعظ تفرض علينا أن نُسلِّط الضوءَ على هذا الجانب.
وليس بِدْعًا أن يكون للسِّبطِ مثلُ هذه الشهرة في مجال الوعظ، فهو حَفيدُ الفارسِ الذي لا يُشقُّ له غُبار، والفرسِ الذي لا يُجارَى ولا يُبارَى في هذا المضمار، العلامةِ أبي الفرج
_________
(١) الدارس للنعيمي ١/ ٢٠٣ و٢٢٨ و٢٣٦ و٢٤٠.
(٢) مرآة الزمان ٢٢/ ١٧٢ - ١٧٣.
مقدمة / 18
ابن الجوزي، العالمِ والخطيبِ والواعظِ الذي طَبَّقتْ شُهرتُه الآفاق، فلم يكن السِّبطُ ليفَوِّتَ درسًا من دروسِ جدِّه، أو مجلسًا من مجالسِ وَعظهِ، بل كان يحضرها جميعها، ويراقب جَدَّه في كلامه وعباراتِه وحركاته وإشاراته، يظهرُ ذلك في قوله في ترجمة جده: "سمعتُه يقول على المنبر في آخر عمره: كتبتُ بأصبعيَّ هاتين ألفَي مجلَّدة" (١).
ولم يَكدِ السِّبطُ يبلغُ السادسةَ عشرة من العمر حتى شجعه جدُّه على عقدِ أول مجلسٍ له، ربما ليطمئنَّ على مدى قُدرته وتَمكُّنهِ، وليرى بعينه مدى قبول الناس له، وتحدثَ السبطُ عن هذه التجربة الناجحة عند ذكره لحوادث سنة (٥٩٦ هـ)، فقال: "وفيها كان ابتداءُ جلوسي عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل في يوم الأربعاء، ويجتمع خلقٌ عظيم، ويهبُّ على تلك المجالس من القبول نسيم، ويعرف فيها نضرة النعيم، ويَصحبها كل باردٍ من الطِّيب وكلُّ تكريم، وسلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم" (٢). ولم يكن هذا المجلس الناجحُ إلا الخطوة الأولى حيث توالت بعدَه الخطوات، فعندما توفي جده في السنة التالية وهي سنة (٥٩٧ هـ)، قال: "وأصبحنا يومَ السبتِ، وعملنا عزاءَه، وتكلمتُ فيه، وحضر خلقٌ عظيم" (٣).
وعندما غادر بغداد متوجهًا نحو دمشق مرَّ في طريقه بحلب والموصل والرُّها وخِلاط وحَرَّان، وعقد في جميعها مجالس وعظٍ لاقت من أهلها القبول والاستحسان، ولم يكد يصلُ دمشق ويعقدُ مجلسَه في الجامع الأموي بُكرَة كلِّ سبتٍ وفي جامع الجبل، حتى صار مجلسُه حديثَ أهلها وشُغلَهم الشاغل، يُمضون سَحابةَ أسبوعهم ما بينَ حديثٍ عن مجلسه السابق -وما كان فيه من عِبَرٍ وعِظات ونوادر وحكايات، وكم مِن عاصٍ تاب، وكم من ذِميٍّ أسلمَ وأناب- وبين انتظارٍ وتَشوُّقٍ لمجلسه القادم، ولقد وصفَ لنا العلامةُ أبو شامةَ المقدسي مجالسه وتَعلُّقَ أهلِ دمشقَ بها خيرَ وصفٍ، فهو كان ملازمًا لها، فقال: "كانت مجالسُ الوعظِ التي للمذكور من
_________
(١) مرآة الزمان ٢٢/ ٩٤.
(٢) مرآة الزمان ٢٢/ ٨٠.
(٣) مرآة الزمان ٢٢/ ١١٥.
مقدمة / 19
محاسنِ الدُّنيا ولذّاتها، فكأنَّ اللهَ قد جَمع له حُسنَ الصورةِ وطيبَ الصَّوتِ، وظَرافةَ الشمائل في الإيراد والجوابات واللِّباسِ وسائرِ الحَركات، فكان يَزدحمُ في مجلسه ما لا يُحصى من الخلق رجالًا ونساء -والنِّساء بمعزلي عن الرجال- في جامع دمشق وجامع الجبل، حضرتُ مجالسَه في صِغَري وكِبَري في الموضعين مرارًا، وكان لا يُفارقُ أحدٌ مجلسَه إذا انفضَّ إلا وشَوقُه مستمرٌّ إلى عودته في الأسبوع الآخر، فإنه كان يجلس كل سبتٍ، وتُبسَطُ السَّجادات والحُصر والبُسُط في كل المواضع القريبةِ من المنبر ما بينه وبين القُبَّةِ في يوم الجمعة، ويَبيتُ الناسُ ليلةَ كل سبتٍ حِلَقًا يقرؤون القرآنَ بالشموع، كل ذاك فرحًا بالمجلس، ومسابقة إلى الأماكن، وعادةُ الدِّمشقيّين التَّفَرُّجُ في أيام السبت، ويُبَطّلون عن أشغالهم بالمدينة، وينقطعون في بساتينهم، وكانوا لا يُفوِّتونَ حضورَ المجلس، ثم ينصرفون منه إلى فُرَجِهم، فلا ينقضي يومهم إلا بالتَّذاكُرِ لما وقع فيه من المحاسن وإنشادِ الأشعارِ، والتَّحدُّثِ بمن أسلم فيه أو تاب، وإيرادِ ما كان فيه من سؤالٍ وجواب، ولم يزل على ذلك مُدَّة سنين" (١).
ولم يقتصر الحرصُ على حضور مجالسِه وسماع وعظه على العامّةِ فحسب، بل ربما كان حرصُ الملوكِ على ذلك أكثر، فلقد كان الملأ المعظَّم عيسى يُبكِّر إلى الجامع الأموي ويقعد عند المنبر الذي عند باب المشهد، ويجلس بين العامة (٢)، وكذلك أخوه الملكُ الأشرفُ موسى حضر مجلسًا عقده السِّبطُ ليلة عرفةَ في جامع التوبة -وذلك بعد عودته من رحلةٍ إلى القدس ونابلس- فتأثَّر الملك الأشرف كثيرًا وبكى، وأعتق مماليكه وجواريه، وقال للسِّبط: "واللهِ إنَّ دمشق تَغارُ عليكَ أن تكونَ في غيرها" (٣).
وكذلك كان شأن العلماء في الحرص على مجالسه ولزومها، فقد كان العماد إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي (٦١٤ هـ) يحضر مجالسه في جامع دمشق وقاسيون
_________
(١) المذيل على الروضتين ١/ ١٦٠ - ١٦١.
(٢) مرآة الزمان ٢٢/ ٢٩٠.
(٣) مرآة الزمان ٢٢/ ٣٥٤.
مقدمة / 20
ولا ينقطع إلا من عذر، ويقول له بعد مجلسه: "صلاحُ الدين يوسفُ فتحَ الساحل وأظهرَ الإسلامَ، وأنتَ يوسف أحييت السنَّةَ بالشام" (١).
وكان شيخه موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة المقدسي (٦٢٠ هـ) يحضر مجالسه دائمًا، ويفرح به، ويقول له: "قد أحيا اللهُ بك السُّنَّة، وقَمعَ البدعة، وهذه البلاد فتوحُكَ كما فتحَ القدسَ يوسفُ سَمِيُّك" (٢).
وكذلك شيخُه تاج الدين الكندي (٦١٣ هـ)، كان يداوم على حضور مجالسه ويقول له متفكهًا: "أنا قد أصبحتُ من زبون المجلس" (٣).
لقد أُنزلَ أبو المظفَّر -نتيجةَ وَعظهِ المتميز- منزلةً عاليةً عند الخاصة والعامة، مما جعل الكثيرَ من علماء عصره يبتعد عن هذا المجال ولا يقترب منه وحتى من فكَّر في التصدي للوعظ كان يجدُ من يثني عزمه ويُثَبِّطُ همته، يحدثنا الإمامُ الذهبيُّ في تاريخ الإسلام فيقول: "وحدَّثونا أن ابنَ الصلاح ﵀ أراد أن يَعِظ، فقال له الملكُ الأشرفُ: لا تَفعل، فإنك لا تقدرُ أن تكون مثل شمسِ الدين ابن الجوزي، ودونَهُ فما يُرضى لك، فترك الوعظَ بعد أن كان تهيَّأَ له" (٤).
ولم يقتصر إعجابُ الناس بوعظ أبي المظفَّر على أهل بغداد ودمشق فحسب، بل ما زار مدينةً وعقد فيها مجلس وعظٍ إلا نال محبةَ أهلها وثِقَتَهم وتعلُّقَهم به، فقد وعظ في حلب، والموصل، والرُّها، وخِلاط، وحَرّان، والكَرك، والقُدس، ونابلس، والقاهرة والإسكندرية، ولقد حصل له بالإسكندرية قبولٌ عظيم، ذكره ضمن حوادث سنة (٦٤١ هـ)، فقال: "وكنتُ حينئذٍ بديار مصر، فقدمتُ الإسكندرية في هذه السنة، فوجدتها كما قال الله تعالى: ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ معمورةً بالعلماء، مغمورةً بالأولياء،
_________
(١) مرآة الزمان ٢٢/ ٢٢١.
(٢) مرآة الزمان ٢٢/ ٢٦٦.
(٣) مرآة الزمان ٢٢/ ٢٠٨.
(٤) تاريخ الإسلام، وفيات سنة (٦٥٤ هـ).
مقدمة / 21