هنالك التمست مصر لهذه الآفات الطارئة أسبابها، وبحثت عن مصادرها، فلم تجد لها سببا ولا مصدرا إلا هذه المعرفة التي تنسل من الجامعات ومعاهد العلم ... فتلم بالأندية والدور، وقد تتسكع في الشوارع والحقول، فتصادف عقولا خلقت للجهل والغفلة، وقلوبا خلقت للجمود والهمود، فتفسد على الناس أمورهم كلها. وليس أحب إلى مصر من أن يكون أهلها أحرارا، وليس أحب إلى مصر من أن يكون أهلها علماء، ولكن الحرية والعلم من هذه الأشياء الخطرة التي لا ينبغي أن تعطى للناس بغير حساب، وإنما يجب أن تقطر لهم تقطيرا، وتقدر لهم تقديرا، ويقتر عليهم فيها تقتيرا. من أجل ذلك، ومن أجل ذلك وحده آثرت مصر سلامة أبنائها من أن يسرفوا على أنفسهم في العلم، وما يستتبع من الحرية وتنبه الشعوب، فندبت شرطتها وجيشها لحمايتهم من هذا الخطب الملم والوباء المبيد.
ولهذا، ولهذا وحده ضرب حول الجامعات، ومعاهد العلم بهذه الأسوار الكثاف الصفاق من قوة الشرطة والجند حماية للجاهلين من علم العلماء، وحماية للعالمين من جهل الجهلاء، فمخالطة الجهلاء خطر على المتعلمين، ومخالطة العلماء خطر على الجاهلين، والدولة الرشيدة الحازمة خليقة أن تفرق بين أولئك وهؤلاء، وألا تصل بينهم الأسباب إلا بمقدار. •••
وقد لاحظت مصر أن هذه القصة ستثير لها مشكلة من أشد المشكلات عنفا، وأعظمها تعقيدا، فشرطتها محدودة، وجيشها معدود قليل العدد، وهما لا يكفيان لحماية الناس من علم العلماء، وعدوان المعتدين، وإنما يكفيان لحمايتهم من أحد هذين الشرين لا منهما جميعا. ففكرت، وقدرت، ودبرت، ورأت أن شر العلم أشد خطرا من شر العدوان، فالمجرم الواحد أو المجرمون الكثيرون يصيبون الشخص الواحد أو الأشخاص في الأماكن النائية والمواطن المتباعدة على حين تفسد القطرة الضئيلة من العلم والمعرفة عقولا وقلوبا كثيرة لا يبلغها العدد. من أجل ذلك نقلت إليك الصحف، وقال لك القائلون إن أمور الأمن تضطرب في مصر بين حين وحين، فيصرع هنا قاض، ويخطف هناك معلم، وتسرق دار في هذه المدينة أو تلك، وتقع موقعة في قرية من قرى الشمال أو من قرى الجنوب ... لا ينشأ هذا عن تقصير من أولي الأمر، ولا عن تفريط في جنب الأمن، وإنما ينشأ هذا عن موازنة بين ألوان البشر، واختيار لأخف الضررين، وإذعان لأحكام الضرورات الملجئة، والناس ساخطون دائما ناقدون دائما، تطول ألسنتهم فتسرف في الطول، وتجمح أقلامهم فتغلو في الجموح، وتحميهم الدولة من العدوان فيشكون من انتشار العلم، وتحميهم الدولة من انتشار العلم فيشكون من انتشار الإجرام، وينسون قول الشاعر القديم:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فلا أرى للمضطر إلا ركوبها
هذه يا سيدي هي بعض الأنباء الصحائح التي أشار إليها أبو العلاء، وما أكثر الأنباء الصحائح في هذه الأيام، وما أقل فهم الناس لها، وتعمقهم لحقائقها، وما أجدرني بأن أحدثك بألوان منها؛ لتعلم أين نحن وأين أنت، ولتوازن بين حياتك المطردة وحياتنا المضطربة. ولكن أعلم أنك لا تريد أن توازن، ولا أن تقيس على أن تعرف من أمرنا شيئا، وما أنت وحياتنا هذه الخصبة التي تتعب وتشق لكثرة ما فيها من الخصب الذي يغزو القلوب والعقول.
ألم تحدثني في آخر كتبك إلي بأنك تؤثر نعمة الجهل على شقاء العقل ... فانعم بجهلك حيث أنت، ودع لنا ما نحن فيه، وتقبل تحية كلها رثاء لك، وإشفاق عليك.
إخوان الصفاء
لم أضق بكتابك حين تلقيته، ولا حين قرأته لأني تعودت في هذه الأعوام الأخيرة أن أتلقى أمثاله في غير ضيق، وأن أقرأها في غير ملل، وأن أنشد بعد قراءتها قول أبي العلاء رحمة الله:
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
Bilinmeyen sayfa