أقم حيث أنت يا سيدي، إن كنت تريد العافية، وتحرص على السلامة، فإن مجالسك تلك ما زالت قائمة حافلة بما ألفت فيها من اللهو، والتبطل، والفراغ، ولكن من وراء ما تحفل به من هذا السخف خوفا يملأ القلوب، ويفرق النفوس، وفيها من وراء هذا الخوف تلك الحسرة الضئيلة، الضئيلة التي استقرت من الضمائر في أعماقها، والتي تثيرها تلك الأصوات التي تبلغ النفوس من طريق الحواس كلها، فتنقل إليها أن في مصر جحيما من الوباء، والموت، والفقر، والجهل، والمرض، وجحيما آخر من الحسد، والحقد، والبغض، والموجدة.
أقم حيث أنت ... لعلك أن تأمن هذين الجحيمين، وإن استطعت أن تمد أسباب الهرب، والنجاة لجماعة من أمثالك فافعل، فإنهم ليتمنون الهرب إن وجدوا إلى الهرب سبيلا. فإذا خمدت جذوة الوباء، وانكسرت حدة الشر، فقد تستطيع أن تعود إلى مصر، وأن تستأنف فيها حياة اللهو، والتبطل، والفراغ. فأما الآن فليس إلى شيء من ذلك سبيل.
الحرية أولا
تريد أن تنشئ الذوق الفني المصفى في نفوس الشباب المصريين ليحبوا الجمال، ويذوقوه، ثم لينشئوا الجمال ويبتكروه، ثم ليضيفوا إلى فنهم القديم فنا حديثا، ثم ليشاركوا في تنمية هذا الترف الفني العالمي الذي يجعل الإنسان إنسانا، ويحببوا الحياة إلى النفوس، ويجعلوا الدنيا شيئا ذا خطر على رغم ما يحيط بها من هذه الظروف البشعة، التي تجعلها أهون على الرجل الكريم من جناح بعوضة، لولا أن فيها أشياء تتصل بالذوق فتجعل لها قيمة، وشأنا ...
تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب، ليستقبلوا الحياة راغبين فيها، محبين لها، مؤمنين بها، لا ليقنعوا بما تتيح لهم من إرضاء الغرائز، وقضاء المآرب القريبة، وتحقيق الآمال الوضيعة، بل ليتجاوزوا الحياة إلى ما هو أرفع منها شأنا، وأجل منها خطرا، وأسمى منها منزلا، وهو الاستمتاع، والإمتاع بهذه الثمرات الحلوة التى تجد فيها القلوب راحة، وتجد إليها النفوس روحا، والتى تسمو بالناس إلى حيث ينظرون إلى الحياة مزدرين لها، ساخرين منها، زاهدين فيها، بعد أن كانوا يحبونها أشد الحب، ويكلفون بها أعظم الكلف؛ لأنهم يرونها قد انتهت بهم إلى الغاية، وبلغت بهم آخر الشوط، فلا عليهم من أن يتركوها، ولا عليهم من أن تتركهم، بعد أن أتاحت لهم أن يستمتعوا، ويمتعوا لحظة قصيرة أو طويلة بهذا الجمال الذي لا تؤدي وصفه الألفاظ، وإنما تجد روعته القلوب فتنسى في ذاته كل شيء ...
ثم تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب ليعرفوا أنفسهم، وليقدروا وجودهم، وليلقوا من يلقون من الأوروبيين والأمريكيين فيتاح لهم أن يتحدثوا إليهم، ويسمعوا منهم، وأن يفهموهم ما يريدون أن يقولوا، ويفهموا عنهم ما يقولون، لا يجدون في ذلك مشقة، ولا عناء، وإنما يجدون فيه راحة، ومتاعا، ولا يشعرون في أثناء ذلك بما يغض منهم في أنفسهم، ويخيل إليهم، أو يحقق لهم أنهم أقل من الأجنبي الأوروبي والأمريكي؛ علما بما يجب أن يعلم الناس، وشعورا بما يجب أن يشعر به الناس، وتقديرا بما يجب أن يقدره الناس ...
تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب لتبلغ بهم هذه المنازل كلها، ولتشعرهم بأن من حقهم أن يعتدوا بأنفسهم، ويعتزوا بقديمهم وحديثهم، ويطمحوا إلى ما يطمح إليه أترابهم من الشباب في الأمم الراقية الآخرى، وهو أن يتلقوا عن آبائهم تراثا كريما، وأن ينموه، ويزيدوا فيه، ويدفعوه إلى أبنائهم تراثا كريما، لينموه، ويزيدوا فيه، وأن يحققوا بذلك لوطنهم ما ينبغي أن يتحقق للوطن الكريم من هذه الحياة التي تنمو على مر الزمن، وتربو على تعاقب الأيام، وأن يحققوا للإنسانية ما ينبغي أن يتحقق للإنسانية من هذا الرقي المتصل، والسمو الممتاز.
تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب، وأنا أيضا أريد أن أنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب لأني أعلم كما تعلم أن مهمتنا في الحياة إنما هي تنشيء الذوق الفني في نفوس الشباب ... على هذه المهمة وقفنا جهودنا، وفي هذه المهمة أنفقنا حياتنا، ولهذه المهمة خصصنا ما بقي لنا من حياة. ولكنك تعلم كما أعلم أن شأننا في ذلك كشأن أبي العلاء حين تقطعت به الأسباب في بغداد فقال هذا البيت الذي يراه النقاد قريبا غاية القرب، وتراه أنت، وأراه أنا بعيدا غاية البعد:
فيا دارها بالكرخ إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
Bilinmeyen sayfa