كتاب
منحة القريب المجيب
في الرد على عباد الصليب
[محققا]
تأليف
العلامة الشيخ
عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر
١٢٠٣ هـ - ١٢٤٤ هـ
1 / 135
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، فصدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وبددهم تبديدا: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ .
تفرد بالخلق والتصوير، ويبده الأمر والتدبير، وإليه القضاء والتقدير، فلا يملك أحد من دونه قطميرا: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، تعالى الملك الجبار: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ .
تفرد بالربوبية في قدمه، وظهرت سمات العبودية على من سوى ذي الجلال والإكرام: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ .
1 / 137
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس السبل، وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي والارتياب، ففتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فاستنارت لها الطرق، وانفتحت الأبواب، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، ففتح القلوب بالإيمان والقرآن.
وجاهد أعداء الله باليد والقلب واللسان، ودعا إلى الله على بصيرة جميع العباد إلى أن أشرقت برسالته الأرض بعد ظلامها أي إشراق، وتألفت به القلوب بعد شتاتها والافتراق، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار، واستجابت القلوب لدعوته الحق طوعا وإذعانا، وامتلأت بعد خوفها وكفرها أمنا وإيمانا، فجزاه الله عن أمته خير الجزاء، وصلى الله عليه صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء، وعلى إخوانه من الرسل والأنبياء وعلى آل كل، وأصحاب كل والأولياء.
وبعد: فقد سألني بعض الإخوان -أيدهم الله تعالى بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان والفهم عنه- أن أكتب جوابا عن أباطيل
1 / 138
الكتاب الذي صنفه بعض الضالين من النصارى الجهلة المغالين، وسماه " مفتاح الخزائن ومصباح الدفائن "، وضمن بعض فصوله الرد على المسلمين والاعتراض على نبوة سيد المرسلين، وقد بث منه النصارى نسخا كثيرة، ليلبسوا الأمر على ضعفاء البصيرة، ويلقوا عليهم الشكوك والشبهات بما لفقوه من أباطيل الترهات: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ .
وقد وفى -سبحانه- بما وعد، وأظهر دينه على رغم من كفر وجحد، فأظهره بالحجة والبيان، ونصره بالسيف والسنان، وأيد أهله على سواهم، ونصرهم بالحجة على من ناوأهم، كما أظهرهم بالسيف على من كانوا له يحاربون، وذلك مصداق قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ .
1 / 139
وأيد رسوله وأتباعه بالحجج الصحيحة العلمية، والبراهين القاطعة العقلية والنقلية بما لم يبق بعده للمخالف إلا محض العناد، وحينئذ فالدواء الشافي من هذا الداء سيف الجهاد، وكفى لمن جانب جانب الاعتساف، وسلك طريق العدل والإنصاف ما تضمنه القرآن العربي المبين من البينات والحجج والبراهين، فهو الشفاء النافع لمن استشفى، والكفاية التامة لمن به استكفى، وهو الهدى والنور وشفاء وسوسة الصدور، وهو الكفيل بالانتصار على المبطلين لمن كان به خبيرا.
كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما يبطلها ويلقيها من شاهق كما قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ .
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، عن علي بن أبي طالب ﵁ عن النبي ﷺ في
1 / 140
صفة القرآن: «فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» .
ولما كان الله -تعالى- قد أمر رسوله بإقامة الحجة على الكافرين بطريق الجدال، وشرع ذلك في السور المكية والمدنية حتى بعد فرض القتال.
كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ .
وقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ .
1 / 141
وأمره بعد إقامة الحجة على النصارى بالمجادلة، أن يدعوهم إلى الملاعنة والمباهلة، فقال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ .
فلم يزل ﷺ في جدال الكفار على اختلاف مللهم، وتباين نحلهم، إلى حين وفاته، وكذلك أصحابه من بعده ومن تبعهم من أئمة الدين وحماته، وبهذا الأمر قام الدين واتضح منهاجه للعابدين، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة والبرهان مسهلا طريق البلاغ إلى المكلفين بالسنة والقرآن، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباعه الذين بذلوا نفوسهم لله ابتغاء مرضاته.
فعند ذلك رأيت الإجابة إلى الجواب أولى، فاستعنت بالله، فنعم المعين، ونعم المولى، رجاء الدخول في زمرة المجاهدين والانتظام في مسلك أنصار الدين.
1 / 142
واعلم أن الكتاب الذي قصدنا الرد لباطله يشتمل على مقالتين:
المقالة الأولى منها تنقسم إلى قسمين:
الأول: في صحة الشريعة المسيحية.
الثاني: في إثبات صحة كتب العهد الجديد، يعني: الأناجيل التي يعتمدها أهل النصرانية.
المقالة الثانية تنقسم -أيضا- إلى قسمين:
القسم الأول: في الرد على اليهود المكذبين.
القسم الثاني: في الرد على المسلمين، وهذا القسم -أرشدك الله لما يرضيه- هو الذي قصدنا الرد عليه فيه.
وأما ما قبله من الأقسام فهو إما في صحة رسالة المسيح، وأن دينه دين صحيح، وهذا متفق عليه بين المسلمين قبل التبديل والنسخ بشريعة خاتم النبيين.
وإما في الرد على اليهود في كفرهم بالإنجيل، وقولهم بالزور في المسيح ابن البتول. وهذا -أيضا- على الجملة صحيح مقبول.
1 / 143
لكن تلك الأقسام قد ضمنها النصراني -أيضا- باطلا كثيرا، ومزج بها بهتانا وزورا، وسيمر عليك -إن شاء الله- الرد عليه في ذلك ضمن ما كتبناه.
وذلك القسم الذي نقضناه يشتمل على خمسة فصول من الكلام؛ فجعلنا الرد عليها في خمسة مقامات، لكل فصل منها مقام، وسميته "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب". ومن الله نستمد الإعانة على ما أردناه، والتوفيق لإصابة الغرض بما أوردناه، فهو الذي يهدي إلى سواء السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1 / 144
المقام الأول
قال النصراني:
"فصل في ابتداء ظهور دين الإسلام: معلوم مشهور مما وجد مسطورا في كتب التواريخ، وأخبار أحوال الزمان أن التقوى الصحيحة الخالصة التي شهرت أولا في المسيحيين حين كانوا مبتلين بأشد البلايا، ومظلومين في غاية الظلم، قد أخذت أن تنقص أولا فأول بعد أن كان بواسطة قسطنطين ومن بعده من الملوك، وصار ذلك الاعتقاد ليس أمنا فقط بل ومكرا".
ثم ذكر أن سبب ذلك هو الاختلاف والفتن بين الأساقفة من أجل الرئاسة وعلو المرتبة، إذ قدموا الافتخار بالعلم على تقوى الله، وجعلوا الدين حيلة، وأن ذلك صار سبب اختلاف الأقوال والآراء.
قال: "وإذا رأى عامة الناس ذلك لم يدروا ما يختارون لأنفسهم، يلومون الكتب المقدسة كأنها سبب تلك الفتنة، وينفرون عنها كأنها سم زعاف.
1 / 145
وأما فغالب الأمر قد بدا الدين أن يجعل ليس في طهارة النفس بل في ظاهر السنن، كما صار في اليهودية وفي حفظ الأشياء التي مقصودها تهذيب الأبدان أكثر من صلاح الأنفس بها، وفي السعي في إثبات الدعاوى التي اختاروها.
والذي آل الأمر إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما، وأقل من القليل حقا وفعلا...." إلى آخر كلامه الآتي.
ونقول - وبالله التوفيق -:
حقيقة ما ذكره هو الاعتراف بتبديل النصارى دين المسيح ﵇، وتغييرهم له، وتفريقهم فيه في تلك الأزمان القريبة من زمن المسيح ﵇، فهو من الحجج على صحة نبوة محمد ﷺ، لأنها قد مضت سنة الله في خلقه ببعثة الرسل عند خفاء الحق وظهور الضلال إعذارا وإنذارا: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ .
1 / 146
فأرسل ﵎ الرسل في بني آدم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، كلما درست رسالة رسول وخفيت آثارها بعث رسولا بتجديد الرسالة وإقامة الحجة، إلى أن وصلت النبوة إلى بني إسرائيل، فبعث الله فيهم عبده ورسوله الكريم ونجيه المقرب الكليم موسى بن عمران -عليه الصلاة والتسليم-، وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، فساسهم موسى ﵇ بسياسة النبوة، وشرع لهم شرائع الدين، وحد لهم حدوده.
ثم كانت فيهم الأنبياء بعده تسوسهم بأحكام التوراة وشريعة موسى، ثم حدثت فيهم الأحداث، وتفرقوا في الدين، واتبعوا الأهواء، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، وأفسدوا في الأرض، وتعدوا حدود الله، وغيروا دينه، وقتلوا أنبياءه، فسلط عليهم الأعداء مرة بعد أخرى، فجاسوا خلال ديارهم، وتبروا ما علوا تتبيرا.
وفي كل ذلك يبعث الله فيهم الأنبياء ويجدون لهم ما درس من الدين ويقيمون ما غيروا، إلى أن كان آخر أنبيائهم عبد الله ورسوله وكلمته عيسى ابن مريم ﵉، فجدد لهم الدين، وبين معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من الأحداث والآراء
1 / 147
الباطلة، فعادوه، وكذبوه، ورموه بالعظائم، وراموا قتله وصلبه فطهره الله، ورفعه، فلم يصلوا إليه بسوء. كما سيأتي تفصيل القصة فيما بعد -إن شاء الله تعالى-.
فلما رفع تفرق أتباعه شيعا، فمنهم من آمن بما بعثه الله به، وأنه عبد الله ورسوله، وابن أمته، ومنهم من غلا فيه وتجاوز به حد العبودية إلى منزلة الربوبية والإلهية، وقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر، فقال تعالى:
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ... .
وقال تعالى:
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ ... .
وقال تعالى:
﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ .... .
وقد اختلف العلماء في هذه المقالات الثلاث التي ذكرها الله عن النصارى: هل هي مقالات لثلاث طوائف منهم؟ أو أنها مقالة لجميعهم؟ أعني: كفرت النصارى على قولين. والتحقيق الثاني كما سيأتي إيضاحه -إن شاء الله تعالى-.
1 / 148
واعلم أن النصارى من أجهل الناس بالعلم الصحيح، وأضلهم في أصول دينهم وفروعه، وهم وإن ادعوا أنهم على دين عيسى ﵇، وأنهم أتباعه، وعلى شريعته، فقد كذبوا وضلوا ضلالا بعيدا، بل بدلوا دين عيسى وغيروه، ولم يبق بأيديهم منه شيء، وإنما اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
وسنذكر -بعون الله- ما ذكر علماؤنا الذين هم أهل العلم الصحيح، والعقل الرجيح، والتمييز بين صحيح النقل وسقيمه ومقبوله ومردوده. ما نقل إليهم من أمر هذه الأمة الضالة في ابتداء أمرها، ووصل إليهم علمه من ثقات المخبرين من مؤرخي أهل الكتاب وغيرهم ممن له تمام المعرفة بأيامهم واجتماعهم وافتراقهم.
ونبدأ بذكر حديث في ذلك عن النبي ﷺ تيمنا وتبركا، قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا إسحاق ابن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي قال: حدثنا السري بن عبد ربه، حدثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود ﵁
1 / 149
قال: «قال لي رسول الله ﷺ: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: علمت أن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم ﵇، فدعت إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت وصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة تدعو إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقتلت، وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت، وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله ﷿ بقوله: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾» .
ورواه ابن جرير وأبو يعلى من طريق أخرى.
وقال ابن كثير: روي عن قتادة قال: "اجتمع بنو إسرائيل، فأخرجوا أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع.
1 / 150
فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال الاثنان منهم للثالث: قل أنت، قال: هو ابن الله، وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. فقال الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين.
وذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ .... .
قال قتادة: وهم الذين قال الله فيهم: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ .... .
1 / 151
وروي عن ابن عباس ﵄ وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريبا من ذلك.
قال ابن كثير بعد أن ذكر مقالاتهم الثلاث: فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة.
ثم نبغ فيهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفا، وقيل: جهلا منه. إلا أنه بدل دين المسيح، وحرفه، وزاد فيه ونقص، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة الحقيرة، وصلوا له إلى المشرق،
1 / 152
وصور لهم الصور، وبنى لهم الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين، لأنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، وتبعته طائفته الملكية منهم.
وأخرج النسائي في سننه وابن جرير في تفسيره عن ابن عباس ﵄ قال:
1 / 153
كانت ملوك بعد عيسى ﵇ بدلوا التوراة والإنجيل، وكان بينهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شتما أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ .
مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم، فادعهم، فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما نؤمن. فدعاهم، فعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا فيها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك، دعونا.
فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانا، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم.
وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا.
1 / 154
وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، ولا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا وله فيهم حميم. ففعلوا ذلك، فأنزل الله: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ ... .
وآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي ﷺ ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته، وجاء رجل من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾، يعني: أجرين بإيمانهم بعيسى ﵇ وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد ﷺ وتصديقهم ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ القرآن واتباعهم النبي ﷺ قال - ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ الذين يتشبهون بكم: ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ .
1 / 155