وأما العقل المكتسب؛ فهو نتيجة العقل الغريزي، وهو نهاية المعرفة، وأصله الفكر، وليس له حد ينتهي إليه لأنه ينمي؛ إن استعمل، ويقصر؛ إن أهمل، ونماؤه يكون عند شباب الطفل يقارنه ذكاء، وحسن فطنة، ينشأ ذلك معه، أو يكون لذوى التجارب بطول ممارسة الأمور، وكثرة التجارب، ومرور التغير على مسامع ذوي العقول، ومشاهدة عيوبهم، وتقلب الأيام، وتصرف الحوادث، وقال بعض الحكماء: كفي بالتجارب تأديبا، وبتقلب الأيام عظة.
وقيل: التجربة مرآة العقل؛ ولذلك حمدت آراء الشيوخ؛ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار، وينابيع الأخيار؛ لا يطيش لهم سهم، ولا يسقط لهم وهم؛ ولو عدموا ذكاء الطباع؛ فقد أفادتهم الأيام تجربة.
وللعقل آفات لا يسلم منها إلا من عصمه الله تعالي، وهي: الهوى والشهوة اللذان تننبه فيهما حيلة الحازم، وهما أغمض مسلك في الإنسان من الروح في الجمان؛ فيمن أراد أن يكون حرا، فلا يهوى، وإلا صار عبدا.
وقيل: قال الأصمعي لغلام صغير من أولاد العرب: أيسرك أن تكون لك مائة ألف درهم، وأنك أحمق؛ قال الصبي: لا والله، قال له: ولم؟ قال: أخاف أن يجني على حمقي جناية تذهب بمالي، ويبقي على حمقي؛ فعجب الأصمعي من ذكاء الصبي! ؛ لأنه استخرج بعقله معني لا يدركه من هو أكبر منه سنا. وقيل: وقعت فتنة؛ ودهاة العرب ستة:
معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد ابن أبيه، وقيس بن سعيد(1) بن عبادة، وعبد الله بن يزيد بن ورقا.
وكان معاوية: للأناة في الأمور، وعمرو: للبديهة، وزياد: للصغار والكبار، والمغيرة: للأمور العظام وقال: ما رأيت أطول إناءة، ولا أثقل حلما من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال وأقواهم حين يجتمعون من عمرو ابن العاص، ولا أشبه سرا لعلانية من زياد بن أبيه؛ ولو أن المغيرة بن شعبة؛ كان في مدينة لها ثمانية أبواب؛ لا يخرج من باب منها إلا بالمكر- لخرج من أبوابها كلها!!.
Sayfa 51