١٣- إضاءة: وأنت تجيد الآن الحريص على أن يكون من أهل الأدب المتصرفين في صوغ قافية أو فقرة من أهل زماننا يرى وصمة على نفسه أن يحتاج مع طبعه إلى تعليم معلم أو تبصير مبصر. فإذا تأتى له تأليف كلام مقفى موزون، وله القليل الغث منه، بالكثير من الصعوبة، بأى وشمخ، وظن أنه قد سامى الفحول وشاركهم، رعونة منه وجهلا، من حيث ظن أن كل كلام مقفى موزون شعر. وإن مثله في ذلك مثل أعمى أنس قوما يلقطون درا في موضع تشبه حصباؤء الدر في المقدار والهيئة والملمس، فوقع بيده بعض ما يلقطون من ذلك فأدرك هيأته ومقداره وملمسه بحاسة لمسه، فجعل يعني نفسه في لقط الحصباء على أنها در، ولم يدر أن ميزة الجوهر وشرفه إنما هو بصفة أخرى غير التي أدرك. وكذلك ظن هذا أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق كيف اتفق نظمه وتضمينه أي غرض اتفق على أي صفة اتفق، لا يعتبر عنده في ذلك قانون ولا رسم موضوع. وإنما المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى قافية. فلا يزيد بما يصنعه من ذلك على أن يبدي عن عواره، ويعرب عن قبح مذاهبه في الكلام وسوء اختياره.
١٤- تنوير: وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد المستحسنة في الشعر والمستقبحة وترديد القول في إيضاح الجهات التي تقبح وإلى ذكر غلط أكثر الناس في هذه الصناعة لأرشد من لعل كلامي يحل منه محل القبول من الناظرين في هذه الصناعة إلى اقتباس القوانين الصحيحة في هذه الصناعة، وأزع كل ذي حجر عما يتعب به فكره ويصم شعره.
١٥- إضاءة: واعلم أن من المعاني المعروفة عند الجمهور ما لا يحسن إيراده في الشعر. وذلك نحو المعني المتعلقة بصنائع أهل المهن لضعتها. (فإن غالب) عباراتهم لا يحسن أن تستعار ويعبر بها عن معان تشبهها لأنها مزيلة لطلاوة الكلام وحسن موقعه من النفس.
١٦- تنوير: ومن المعاني التي ليست بمعروفة عند الجمهور ما يستحسن إيراده في الشعر، وذلك إذا كان مما فطرت النفوس على الحنين إليه أو التألم منه، وبالجملة على ما تتأثر له النفس تأثر ارتياح أو اكتراث بحسب ما يليق بغرض من ذلك، وكان من أوائلها الأصلية أو ما يناسبها مما هو بها شديد التعلق، ومن شأنه أن يستطرد منه إليها أبدا كأوصاف البروق. هذا إذا كان في قوة جميع الجمهور أن يعرف المعنى الذي بهذه الصفة إذا ألقي إليه كيفية وقوعه في الوجود ويستحسنه بعد المعرفة، وذلك كالإحالات على الأخبار القديمة المستحسنة وطرف التواريخ المستغربة. فإنها حسنة الموقع من النفوس وفي الشعر ما اشتهر من هذا القبيل، ويعبر عنه بحسان العبارات حتى يعرف الخبر منه مفصلا. ومن قصر عن تفهم شيء من ذلك لم يعوزه وجدان من يفهمه إياه، كما أن اللفظ المستعذب وإن كان لا يعرفه جميع الجمهور مستحسن إيراده في الشعر لأنه مع استعذابه قد يفسر معناه، لمن لا يفهمه، ما يتصل به من سائر العبارة. وإن لم يكن في الكلام ما يفسره لم يعوز أيضًا وجدان مفسره لكونه مما يعرفه خاصة الجمهور أو كثير منهم. والإتيان بما يعرف أحسن.
1 / 8