فكيف يكون لم يصب وقد خضب بدمه أكناف سرجه ولجامه. فأما قولهم: إنه أراد من دمي أي من دماء قومي وبني عمي فمبالغة منهم في التعسف والعدول عن وجه الكلام ليستمر لهم أن يكون الكلام فاسدا غير صحيح) .
ثم قال الخفاجي: (وهذا الذي ذكره أبو العلاء وسبق له وجه يجب تقبله وإتباعه فيه. وفحوى كلام قطري تدل على أنه أراد أنه جرح ولم يمت إعلاما أن الإقدام غير علة فيا لحمام وحضا على الشجاعة وبغض الفرار.
وقد حمل قوم قوله سبحانه: (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة)، وقوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) على القلب. وحمل الكلام على القلب في غير القرآن إذا أمكن حمله على الاستقامة تعسف شديد، فكيف في الكتاب العزيز والواجب أن تجعل الباء في قوله تعالى بالعصبة للتعدية ويكون المراد - والله أعلم - أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها، وهو قولا لقراء، وأن يكون قوله تعالى لشديد بمعنى بخيل، أي أنه لحب المال لبخيل والخير المال) .
١٠- تنوير: فكل كلام يمكن حمله على غير القلب بتأويل لا يبعد معناه، فليس يجب حمله على القلب.
وأما ما لا يمكن فيه التأويل فواجب ألا يعمل عليه وأن يوقف عنده. ومنه عقول عروة بن الورد: (الوافر -ق- المترادف)
فلو أني شهدت أبا معاذ ... بمهجته غداتئذ يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي ... فما آلوك إلا ما أطيق
يريد فديت بنفسي، فهذا وأمثاله لا يجب أن يعمل عليه لأنه كلام خطأ على ما قدمناه. ويحتمل أن يكون هذا وما أشبهه مما غيره بعض الرواة لتقارب العبارات واشتباه بعضها ببعض. فقد ينحرف محفوظ الراوي عن أصل وضعه قليلا فلا يشعر بذلك: ألا ترى أن هذا البيت يتأتى تغيير العبارة الواقعة في صدره إلى وضع يدل على مفهوم صحيح فيقال فيه: جعلت فداءه نفسي ومالي. وبدل فديت بنفسه.
١١- إضاءة: وأما ما يرجع إلى اللفظ مما يوقع في المعاني غموضا واشتكالا فمن ذلك أن تكون الألفاظ الدالة على المعنى أو اللفظة الواحدة.
منها حوشية أو غريبة فيتوقف فهم المعنى عليها. والواجب على الشاعر أن يجتنب من هذا ما توغل فيا لحوشية والغرابة ما استطاع حتى تكون دلالته على المعاني واضحة وعبارته مستعذبة. ومتى لزه إلى شيء من ذلك اضطرار وأمكنه أن يقرن باللفظة ما يهتدى به إلى معناها من غير أن يكون ذلك حشوا كان الأمر في ذلك أشبه.
١٢- تنوير: ومن ذلك أن تكون اللفظة أو الألفاظ مشتركة فتدل على معنيين أو أكثر لا في حال واحدة، فيجب للناظم أن ينوط باللفظة أو الألفاظ التي بهذه الصفة من القرائن ما يخلص معناها إلى المفهوم الذي قصده حتى يكون المعنى مستبينا، وذلك حيث يقصد البيان. وينبغي ألا يكثر من هذا النوع حيث يقصد الإبانة عن المعاني.
ومما ورد من ذلك فاضطرب الناس في تأويله قول الحارث بن حلزة: (الخفيف -ق- المترادف)
زعموا أن كل من ضرب العير ... موال لنا وأنى الولاء
فقيل أراد بالعير الوتد وأراد بالضاربين العرب لأنهم كانوا أصحاب عمد، وقيل أراد عير العين وهو ما نتأ منها أي كل من ضرب عير عينه بجفنه، وقيل أراد بالعير ما يطفو على الحوض من الأقذاء وأصله التشديد وهو العاثر والعير، فخفف كما قيل هين وهين، وقيل فيه وجوه أخر غير هذه.
١٣- إضاءة: ومن ذلك أن تكون كلمة قد وصلت بحرف أو حذف منها حرف فتتصل بكلمة يحتمل لفظها أن يكون الحرف الموصول بالأول داخلا عليها أو من جملة حروفها أو يكون قد دخل على الثانية حرف يخيل لك أنه صلة للأولى أو تتمة لما نقص منها فيعرض من هذا فهم الكلام على غير وجهه.
ومن هذا قول امرئ القيس: (البسيط -ق- المتدارك)
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... لفتك لأمين على نابل
لأن الكاف محتملة أن كون ضميرا مضافا إليها ما قبلها، وأن تكون حرفا جارا لما بعدها.
ومن هذا ما روي من أن الأصمعي أنشد يوما: (الخفيف -ق- المترادف)
لم ينالوا مثل الذي نلت منهم ... وسواء ما نلت منهم ونالوا
ثم قال لأصحابه: كيف أوجب في آخر البيت ما نفى في أوله؟. فقالوا: لا ندري، قال: قد أجلتكم فيه شهرا. قالوا: لو أجلتنا فيه سنة ما علمناه، فقال: إنما هي لمي ترخيم لمياء ثم قال: نالوا مثل الذي نلت منهم، فهذا إيجاب أنهم نالوا وليس بنفي على ما يتوهم سامعه.
1 / 59