إن المعاني وإن كانت أكثر مقاصد الكلام ومواطن القول تقتضي الإعراب عنها والتصريح عن مفهوماتها فقد يقصد في كثير من المواضع إغماضها وإغلاق أبواب الكلام دونها. وكذلك أيضًا قد نقصد تأدية المعنى في عبارتين: إحداهما واضحة الدلالة عليه، والأخرى غير واضحة الدلالة لضروب من المقاصد. فالدلالة على المعاني إذن على ثلاثة أضرب: دلالة إيضاح، ودلالة إبهام، ودلالة إيضاح وإبهام معا.
١- إضاءة: وقد تقدم التعريف بكثير من الوجوه التي بها يكون إيضاح الدلالات على المعاني في مواضع كثيرة من هذا الكتاب. وبقي أن نذكر الآن ما يتيسر لنا ذكره من الوجوه التي يكون في المعاني بوجودها فيها أو في عباراتها إغماض لها وبعد بها عن البيان ليعتمد الشاعر ما يليق بكلامه من تك الوجوه حيث يقصد كناية أو إلغازا وما شابه ذلك مما لا يقصد في الدلالة عليه التصريح، ولتجتنب تلك الوجوه حيث يقصد التصريح عن المعاني والإبانة عنها حتى يأتي في كل موضع بما يليق به.
٢- تنوير: ووجوه الإغماض في المعاني: منها ما يرجع إلى المعاني أنفسها ومنها ما يرجع إلى الألفاظ والعبارات المدلول بها على المعنى، ومنها ما يرجع على المعاني والألفاظ معا.
٣- إضاءة: فأما ما يرجع إلى المعاني أنفسها فمن ذلك أن يكون المعنى في نفسه دقيقا ويكون الغور فيه بعيدا، أو يكون المعنى مبنيا على مقدمة في الكلام قد صرف الفهم عن التفاتها بعد حيزها من حيز ما بني عليها أو تشاغله بمستأنف الكلام عن فارطه أو غير ذلك مما شأنه أن يثني غروب الأفهام كليلة قاصرة عن تحقق مفهومات الكلام، أو يكون مضمنا معنى علميا أو خبرا تاريخيا أو محالا به على ذلك ومشارا به غليه فيكون فهم المعنى متوقفا على العلم بذلك المضمن العلمي أو الخبري، أو يكون المعنى مضمنا إشارة إلى مثل أو بيت أو كلام سالف بالجملة يجعل بعض ذلك المثل أو البيت جزءا من أجزاء المعنى أو غير ذلك من أنحاء التضمني، أو يكون المعنى قد قصد به الدلالة على بعض ما يلتزمه من المعاني ويكون منه بسبب على جهة الإرداف أو الكناية به عنه أو التلويح به إليه أو غير ذلك - وكلما كان الملتزم بعيدا كان المعنى بعيدا من الفهم- أو يكون المعنى قد وضعت صور التركيب الذهني في أجزائه على غير ما يجب فتنكره الأفهام لذلك، فقد لا تفهمه على وجهه وقد لا تهدى آلى إلى فهمه بالجملة، أو يكون بعض ما يشتمل عليه المعنى مظنة لانصراف الخواطر في فهمه على أنحاء من الاحتمالات، أو يكون المعنى قد اقتصر في تعريف بعض أجزائه أو تخييلها على الإشارة إليه بأوصاف تشترك فيها معه أشياء غير أنها لا توجد مجتمعة غلا فيه. وكلما كانت الأوصاف في مثل هذا مؤتلفة من أعراض الشيء البعيدة لم تتهد الأفكار إلى فهمه إلا بعد بطء.
٤- تنوير: فأما ما يرجع إلى الألفاظ والعبارات من تلك الوجوه فمثل أن يكون اللفظ حوشيا أو غريبا أو مشتركا فيعرض من ذلك ألا يعلم ما يدل عليه اللفظ أو أن يتخيل أنه دل في الموضع الذي وقع فهي من الكلام على غير ما جيء به للدلالة عليه فيتعذر فهم المعنى لذلك. وقد يتفق مثل هذا بأن يعرض في تركيب اللفظ اشتباه يصير به بمنزلة اللفظ المشترك نحو قول امرئ القيس: (البسيط -ق- المتدارك) =لفتك لأمين على نابل ومن ذلك أن يقع في الكلام تقديم وتأخير، أو يتخالف وضع الإسناد فيصير الكلام مقلوبا، ا، يقع بين بعض العبارة وما يرجع إليها فصل بقافية أو سجع فتخفى جهة التطالب بين الكلامين، أو بأن تفرط العبارة في الطول فيتراخى بعض أجزائها عما يستند إليه وما هو منه بسبب فلا يشعر باستناده إليه واقتضائه له لاسيما إذا وقع في الكلام اعتراضات وفصول وكان مشتملا على أشياء يمكن أن ترجع إلى كل واحد منها ذلك الشيء. ومما يبعد به الشيء عما يستند غليه الصلات والاعتراضات. ومن ذلك أن ترد العبارة التي يقصد انفصال بعض أجزائها عن بعض في صورة المتصلة وأن يرد المتصل في صورة المنفصل، ومن ذلك فرط الإيجاز الذي يكون بقصر أو حذف، وقد تقدم ذكر ذلك.
1 / 55