أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب
وقول ابن المعتز: (الكامل -ق- المتدارك)
وكأن حمرة لونها من خده ... وكأن طيب نسيمها من نشره
حتى إذا صب المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبته من ثغره
ما زال ينجز لي مواعيد عينه ... فمه، وأحسب ريقه من خمره
وقول الصنوبري: (الكامل -ق- المتدارك)
ما أخطأت نوناته من صدغه ... شبها، ولا ألفاته من قده
فكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من جلده
١- إضاءة: وكل معنى فرع عن معنى فقد يكون واقعا معه في حيز واحد، وقد يكون بينهما تباين في ذلك، وقد يكون المأخذ فيهما واحدا، وقد يكون متخالفا، وقد يكون أحدهما موجها من بعض جهات التوجيه نحو النسب الإسنادية على ما وجه غليه الآخر، وقد يكون أحدهما موجها إلى غير ما وجه إليه الآخر، ومن ذلك قول محمد بن وهيب: (الكامل -ق- المتراكب)
طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا نضد
لبسا البلى، فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد
٢- تنوير: وينبغي أن يكون النقلة من أحد المعنيين على الآخر فيما قصد فيه التفريع متناسبة، وأن يكون المعنى الثاني مما يحسن اقترانه بالأول ويفيد الكلام حسن موقع من النفس. وما وقع من التفريع غير متناسب الوضع ولا متشاكل الاقتران لم يحس، وكان من قبيل التذييل والحشو الذي لا يحسن.
٣- إضاءة: ولا ينبغي أن يذهب بالمعاني مذهب التفريع في قصيدة بجملتها، ولا أن يتابع ذلك في جملة فصول من القصيد، بل يلمع بذلك في بيت أو فصل غير طويل. وإن وقع ذلك في فصول أو أبيات غير متصلة، بحيث تقع المراوحة بينه وبين غيره من الصناعات، لم يكن مكروها، إذ يتوخى في جميع ذلك تناسب الانتقالات وحسن الاقترانات. وكلما كان الكلام مقتصرا به على فن واحد من الإبداعات، وإن كان حسنا في نفسه، لم يحسن لأن ذلك مؤد على سآمة النفس، فإن شيمتها الضجر مما يتردد والولع بما يتجدد.
المنهج الثالث، في الإبانة عما به تتقوم صنعتا الشعر والخطابة من التخييل والإقناع، والتعريف بأنحاء النظر في كلتا الصنعتين، من جهة ما به تقومت، وما به تعتبر أحوال المعاني في جميع ذلك، من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.
أ؟- معلم دال على طرق العلم بما تتقوم به صناعة الشعر من التخييل، وما به تتقوم صناعة الخطابة من الإقناع، والرفق بين الصناعتين في ذلك.
لما كان كل كلام يحتمل الصدق والكذب غما أن يرد على جهة الإخبار والاقتصاص وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال، وكان اعتماد الصناعة الخطابية في أقاويلها على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين -اللهم إلا أن يعدل الخطيب بأقاويله عن الإقناع إلى التصديق، فإن للخطيب أن يلم بذلك في الحال بين الأحوال من كلامه- واعتماد الصناعة الشعرية على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة، وكان التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن، لأن الشيء قد يخيل على ما هو عليه وقد يخيل على غير ما هو عليه، وجب أن تكون الأقاويل الخطبية -اقتصادية كانت أو احتجاجية- غير صادقة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق، لأن ما يتقوم به وهو الظن مناف لليقين، وأن تكون الأقاويل الشعرية اقتصادية كانت أو استدلالية غير واقعة أبدا في طرف واحد من النقيضين اللذين هما الصدق والكذب، ولكن تقع صادقة وتارة كاذبة، إذ ما تتقوم به الصناعة الشعرية وهو التخييل غير مناقض لواحد من الطرفين. فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل.
1 / 18