والقوى الصانعة هي القوى التي تتولى العمل في ضم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض والتدرج من بعضها إلى بعض، وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتئم به كليات هذه الصناعة.
وهذه القوى التي هي الحافظة والمميزة والملاحظة والصانعة وما جرى مجراها، في احتياج الشاعر أن تكون موجودة في طبعه على ما سنفصله في القسم الثالث إن شاء الله، هي المعبر عنها بالطبع الجيد في هذه الصناعة
ز- معلم دال على طرق العلم بالمناسبة بين بعض المعاني وبعض والمقارنة بين ما تناظر منها.
إن المعاني منها ما يتطالب بحسب الإسناد خاصة، ومنها ما يتطالب بحسب الإسناد وبحسب انتساب بعض المعاني إلى بعض في أنفسها بكونها أمثالا أو أشباها أو أضدادا أو متقاربات من الأمثال أو الأضداد.
فالنسب الإسنادية تلاحظ الأفكار فيها أربعة أشياء وهي: البيان والمبالغة والمناسبة والمشاكلة التي يكون سببها من الخفاء بحيث قد يتعذر عرفان كنهه.
١- إضاءة: فأما ما التطالب فيه بحسب انتساب بعض المعاني إلى بعض فلا تخلو النسبة فيه من أن تقع بين المعنيين بواسطة أو بغير واسطة، فأما ما وقعت فيه بغير واسطة فيمكن حصر أنواعه وصوره، وأما ما يقع فيه النسب بواسطة فعزيز حصرها فيه لكون كل معنى يمكن أن يكون جهة للتطالب بين معنيين بتوسطه، وجهة التطالب هي النسبة. ولقوى النفوس تفاضل في ملاحظة الجهة النبيهة في نسبة معنى إلى معنى والتنبه إليها، ومبحثها في ذلك علة الجهات التي تفيد معاني كالتشبيهات والتتميمات والمبالغات والتعليلات وغير ذلك من ضروب الوجوه التي تكسب الكلام حسنا وإبداعا.
٢- تنوير: واعلم أن النسب الفائقة إذا وقعت بين هذه المعاني المتطالبة بأنفسها على الصور المختارة التي تقدم ذكرها في القسم الأول في الكلام على ما تناظر من الكلم من حيث إن المعاني متناظرة كان ذلك من أحسن ما يقع في الشعر. فإن للنفوس في تقارن المتماثلات وتشافعها والمتشابهات والمتضادات وما جرى مجراها تحريكا وإيلاعا بالانفعال إلى مقتضى الكلام لأن تناصر الحسن في المستحسنين المتماثلين والمتشابهين أمكن من النفس موقعا من سنوح ذلك لها في شيء واحد. وكذلك حال القبح. وما كان أمللك للنفس وأمكن منها فهو أشد تحريكا لها. وكذلك أيضًا مثول الحسن إزاء القبيح أو القبيح إزاء الحسن مما يزيد غبطة بالواحد وتخليا عن الآخر لتبين حال بالمثول إزاء ضده. فلذلك كان موقع المعاني المتقابلات من النفس عجيبا.
٣- إضاءة: وإذا كان في كل صورة من هذه المتقابلات زيادة معنى على التقابل المفرد زادت الصيغة حسنا كالقلب الذي يعرض في المتماثلات وذلك كقول بعضهم: (البسيط -ق- المتراكب)
فليعجب الناس مني أن لي بدنا ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن
وكإيراد المتشابهات بلفظ التماثل، كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)
دمن طالما التقت أدمع ألمز ... ن عليها، وأدمع العشاق
٤- تنوير: واعلم أن التماثل والتشابه والتخالف قد يقع في أشياء كثيرة الوجود، وقد لا تقع هذه النسب إلا في أشياء قليلة، وقد لا توجد واقعة في أكثر من شيئين. فربما وجد متماثلان لا يوجد لهما مماثل ثالث بالجملة، أو بالنسبة على مثل حالهما في الوجود. وكذلك قد يوجد المتشابهان والمتخالفان على مثل هذه الحال.
٥- إضاءة: وكلما كانت المتماثلات أو المتشابهات أو المتخالفات قليلا وجودها وأمكن استيعابها مع ذلك أو استيعاب أشرفها وأشدها تقدما في الغرض الذي ذكرت من أجله كانت النفوس بذلك أشد إعجابا وأكثر له تحركا. فإن كانت الأمثال أو الأشباه عتيدة الوجود لم يحسن الاستيعاب، ووجب التخطي فيها من الأشرف إلى الأشرف، وكان جديرا ألا يناسب منها إلا بين ذوات الشهرة والمناسبة لغرض الكلام. ولا تجد النفس للمناسبة بين ما كثر وجوده ما تجد لما قل، من الهزة وحسن الموقع، لكونها لا تستغرب جلب العتيد استغرابها لجلب ما عز.
1 / 14