والملم بتاريخ المكتشفات قبل زماننا الحالي، يعلم أن أكثر من أوجدوها كانوا صناعا مهرة لا يعلمون علما، والأقل كانوا علماء كان لهم ولع بالصناعة؛ منهم الحاذق، ومنهم الذي يستطيع أن يشرف على عمل الصانع اليدوي.
ولهذه الحقيقة سر، سرها أن قوانين العلم في تلك الأزمنة يشوبها الكثير من الوهم أو من الرجاء الكاذب أو الخوف، وكلما خلا عقل الصانع من التربية العلمية المشوبة على هذا النحو، كلما كان أقدر على الانتفاع من دروس الملاحظة والتجربة، كلما صنع شيئا ينفع الناس.
ومن رجع إلى طبقات الحكماء والأطباء قل أن يجد رجلا منهم لم ينسب إليه المترجم صناعة آلة أو أداة، بل لم نذهب بعيدا؟ التراجم التي أوردها الجبرتي للرياضيين والفلكيين والمهندسين والكيميائيين، قل أن تجد فيها ترجمة لم يستحدث صاحبها آلة أو ما أشبه أو أشربة أو عقاقير، بما فيهم أبوه هو نفسه.
وفي كتاب وصف مصر بحث مفصل مصحوب بالرسم والمقاييس لكل ما استخدمه أهل البلاد في آخر القرن الثامن عشر من أدوات وآلات، ودرسها يدلنا على مقدار العلم التطبيقي الذي أقيم عليه المجتمع في الجانب المادي من حياته.
جانب مادي آخر نختاره من مصر، الحياة الطبية فيها لا تقوم إلا على أساس من العلم، عرف العرب هذا تمام المعرفة، نصح أحد الحكماء ولي الأمر في زمنه بقوله: «وعليك بحفظ أهل الكيميا العظمى وهم الفلاحون.» الذي يصف الفلاحين بأنهم أهل الكيمياء العظمى يدرك تمام الإدراك سر الفلاحة.
وعرف العرب أيضا الأساس العلمي للحياة المصرية عندما نسبوا إلى أحد الحكماء الأقدمين أنه هو الذي أردم أراضي أكثر قرى مصر، وأسس الجسور المتوصل بها من قرية إلى قرية في زمن النيل، وسبب ذلك أن أكثر القرى بمصر كان أهلها إذا جاء النيل تركوها وصعدوا إلى الجبال المقابلة لها، فأقاموا بها إلى أن يذهب النيل خوفا من الغرق، فيذهب بذلك مغل كثير، ولما علم الحكيم بذلك قاس أراضي أكثر القرى على أعلى ما يكون من النيل، وأردم ردوما وبنى عليها القرى، وعمل بها بجسورة ما بين القرى، وفي أوساط الجسورة قناطر ينفذ الماء فيها من أرض قريبة إلى أخرى، فزرع كل واحد منهم الزرع في وقته من غير فوات، ووقف من كل ضيعة أرضا معينة يصرف مغلها في كل سنة إلى إصلاح هذه الجسورة، وفي العهد العربي بقيت العناية بهذا، بهذا الأساس العلمي للحياة المصرية، ويذكر القفطي صاحب أخبار الحكماء أن أباه عهد إليه بديوان فدن الجسورة (كما كان يعرف) وكان له نواب وضمان ومشدون، وكان العمل فيها أتعب من جميع الأعمال، ويذكرون أن العالم المشهور «ابن الهيثم» أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، وقيل: إن الخليفة الحاكم استدعاه لينفذ ما وعد، وقيل: إنه عجز، وقيل: إنه تظاهر بالجنون ليتقي شر الحاكم، ولما أمن انصرف إلى عمله العلمي على النحو الرائع الذي أرخه الأستاذ مصطفى نظيف.
هذا كله قليل عن البيئة المادية - أما البيئة المعنوية فشأن العلم فيها جد خطير - تكفي الإشارة إلى الأسس العلمية من منطقية ولغوية ونفسانية وفقهية لضبط عمليات الفكر والبيان والنقد، والروابط المدنية بين الأفراد والجماعات، والحقوق والواجبات، وأخيرا وليس آخرا التهجد والتعبد ومجاهدة النفس، فالنظرة العربية كانت محيطة نافذة، والعلم واحد متعدد الجوانب، قالوا: إن دعائمه ثلاث: المجسطى في علم هيئة الفلك وحركات النجوم لبطليموس القلوذي، وصناعة المنطق لأرسطاطاليس، وكتاب سيبويه البصرى في علم النحو العربي.
وننتقل لسؤالنا الثاني: هل استخدم العلم في تعليل وتفسير ووصف العالم أو الكون؟ كان من العرب من تحدث حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك، ومن تحدث حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل وما المنفعل منها، وكيفية تمازجها وتنافرها، ومن تحدث حديث المهندس الباحث عن مقادير الأنباء ولوازمها، ومن تحدث حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ومناسب الأسماء والحروف والأفعال.
ومن هذه الأحاديث وما إليها كان الخوض في الشئون الكونية خوضا لا يرجع إليه الآن لذاته، إنما يرجع إليه من يحب أن يعرف تعبير العلم عن الشخصية العربية في مختلف عصور التاريخ العربي، وهو تعبير إذا أضفنا إليه تعبير الفن وتعبير الأدب، كانت لدينا الصورة الكاملة بالقدر المستطاع.
يقابل هذه الصورة للحياة العلمية العربية صورة الحياة العلمية في أوربا، ثم جد مع هذه الحياة الأوربية فصل لم يجد على حياتنا العلمية، ألا وهو النهضة العلمية التي تسيطر على عصرنا الحاضر، لم لم يجد هذا الفصل على مجتمعنا؟
Bilinmeyen sayfa