ولنا أن نتصور نوعين من التغير كانا يحدثان في نطاق ذلك الملتقى: أحدهما: ما كان يحدث داخل كل وحدة من وحداته، كانتقال الحكم في مصر الفرعونية مثلا، من أسرة إلى أسرة، وما إلى ذلك، أما النوع الآخر فتأثيره أعم، وكان مما يترتب على حركات الشعوب والجماعات المتصلة بملتقى الحضارات، هذا على وجه أو أكثر من أوجه الاتصال، دون أن ينتهي بها الاتصال به إلى الاندماج فيه - وكان من هذه الشعوب اليونان والفينيقيون وعرب الجزيرة وامتداداتها في البحار العربية وما يليها وفي بادية الشام - وقد مارس اليونان تجارتهم ومغامراتهم ونشاطهم الاستعماري في مختلف مواطن هذه الحضارة، وفي خارج مواطنها، وتعلموا من أصحابها ما تعلموا، وصاغوا ما تعلموا في الأسلوب الذي شاءته شخصيتهم، وكذلك الفينيقيون - وكذلك العرب - أثروا كثيرا وتأثروا كثيرا بأمم الحضارة، إلا أن شخصية الجزيرة في بداوتها وحضرها، في علاقاتها بجيرانها الأقربين، في وساطاتها التجارية الممتدة في مسالك البحار بقيت على ما هي عليه، إلى أن كان ما قدر الله للإنسانية والعرب: الدعوة للإسلام.
وبالدعوة - وبإنشاء الدولة العربية جد معنى آخر للعرب والعروبة، وجد طور آخر لمقام العرب بين الأمم - على أن هذا الطور الجديد لا يفهم على وجهه الحق إلا إذا بينا ما سبق إنشاء دولة العرب من أحداث خطيرة، فإن هذه الأحداث وما ترتب عليها من نتائج شكلت البيئة التي قامت فيها الدولة العربية، والتي أدى فيها العرب رسالتهم للحضارة.
لقد سبق قيام الدولة العربية أن خضعت مواطن الحضارة العراقية السورية المصرية لفارس، وأكسبها ذلك ما انتقل إليها عن طريق فارس من عناصر هندية، فزادها هذا غنى، بل وحاول الفرس مزج العناصر المختلفة في نتاج مشترك، إلا أن انعدام التوحيد الديني حال دون إيجاد ذلك النتاج المشترك، مثل هذا يقال عن محاولة الإسكندر لما غزا الولايات الفارسية وبلغ السند وأنشأ دولته المشهورة، ولما خلفه الرومان وضموا من ممالك الإسكندر، جدت ظروف جديدة، فاستطاعت فارس أن تستقل بحياتها القومية، كما أن الرومان أدخلوا في نطاق الحضارة جزءا كبيرا من أواسط أوربا وغربيها، وانصرف هم الرومان لتدبير رغد العيش أكثر من انصرافه للحياة العقلية، وعلى الرغم من الاضطهاد الحكومي الرسمي فقد تمكنت الدعوة المسيحية من الانتشار والانتصار على العبادات الوثنية، وأصبحت في القرن الرابع الدين الرسمي للقياصرة، ثم حدث انقسام الدولة الرومانية إلى غربية وشرقية، ثم وقوع أكثر الولايات الغربية في حكم الشعوب المتبربرة الأوربية، كما حدث أيضا ظهور الفرق المسيحية، وما كان بينها من مجادلات.
وقد قامت الدولة العربية فيما كان لفارس، وفيما كان للروم المتبربرين من ممالك، ومع الزمن كانت الدولة العربية تواجه ملك الروم في البلقان والأناضول، وممالك الأوربيين في شمال البحر المتوسط، ثم تواجه ما كانت تواجهه فارس في الهند والصين وأواسط آسيا، ويمتد نفوذها عبر الصحراء الكبرى وعبر البحار الإفريقية الآسيوية إلى ما يقع وراءها من قبائل وشعوب ومجتمعات، ومع الزمن أيضا انتشر الإسلام، وانتشرت اللغة العربية، فكانت الأمة العربية الكبرى، واللغة العربية فيها ضربان، لغة حضارة الدولة كلها، يستخدمها أبناؤها جميعا لأغراض الحضارة، وإن احتفظ منهم من احتفظ بلغته أو بلهجته لأغراض المعيشة المنزلية، أو للتقاليد القومية الخاصة، أو للطقوس الدينية، ويستخدمها أكثر أبنائها لكافة الأغراض، فلم تكن لهؤلاء لغة أخرى، وفي تاريخ المجتمع العربي تلتقي تواريخ الشعوب التي تتكون منها، والحضارة التي ازدهرت في ذلك المجتمع تجمع بين القديم الذي ورث والجديد الذي أوجد، والعلاقات بين ذلك المجتمع وما حوله من الأمم تتكون من معاملات يومية سلمية دائمة ، يتخللها قدر من الحرب يرمي في حقيقة الأمر إلى أن يحافظ كل فريق على ما بيده، فنشأ بذلك نوع من توازن القوى.
يوازي ذلك التوازن بين المجتمع العربي وغيره من المجتمعات توازن داخلي في المجتمع نفسه، ثم حدث أن اختل ذلك التوازن الداخلي، وتعرض المجتمع بذلك لعوامل التفرق بين وحداته وأقاليمه - القديمة التاريخية - كيف حدث هذا؟ كان من أسبابه تعدد الفرق الدينية، وكان من أسبابه أيضا أن الوحدات والأقاليم القديمة التاريخية استعادت في ظل الدولة العربية حيويتها، وهذه الحيويات الإقليمية نزعت نحو اكتمال الاستقلال الإقليمي، يضاف إلى هذا ما تعرضت له الدولة العربية من حركات الجماعات البدوية الآسيوية من أتراك وتتار ومن إليهم، ولا بد أن نلاحظ أخيرا أن المجتمع العربي في تلك الأيام لم يتح له ما بلغته المجتمعات في أنحاء العالم، منذ ذلك العهد من خبرة في شئون التنظيم الدستوري، الذي يوفق بين النزعات الإقليمية المشروعة ومقتضيات الوحدة السلمية، على أن ذلك العهد من التاريخ العربي، وهو يستغرق القرون من الثالث عشر للسادس عشر، كانت له مفاخرة، فيه تألفت الجبهة المصرية السورية اليمنية، فيه تألفت ما يصح أن أطلق عليه دولة البرين والبحرين (البر المصرية والبر الشامي والبحر المتوسط والبحر الأحمر)، قلب العروبة، وفيه ردت هذه الدولة التتار والصليبيين على أعقابهم خاسرين، وقد حفظ أهلوها التراث العربي سليما حيا.
هذا على الرغم مما كان من محو الكثير من معالم الثقافة العربية في فارس وما يتصل به، وعلى الرغم أيضا من جلاء العرب عن الأندلس، فقد كان للعرب من أهل الجزيرة فخر بناء مجتمع عربي حر في جزائر البحار الآسيوية الإفريقية وسواحلها، وفيما يلي الصحراء من الأقطار الإفريقية.
وفي القرن السادس عشر يبدأ للعرب عهد جديد، اجتمع فيه عليهم التغلغل الأوربي من جهة، والسيادة التركية العثمانية من جهة أخرى، إلا أنهم استطاعوا متفرقين أن يحتفظوا بمقومات شخصيتهم حية، وإن خفيت مظاهرها، ثم اشتد التغلغل الأوربي في القرنين التاسع عشر والعشرين متخذا أشكالا شتى من الهيمنة السياسية، والتوجيه الاقتصادي، والعرقلة الاجتماعية، وتضييق الآفاق العلمية، وبعث هذا في العرب روح الكفاح من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي، وبالجملة من أجل حرية بناء مجتمعهم على النحو الذي يشتهون، ونصب أعينهم الآن تحرر كامل ووحدة كاملة، ومهمتهم في عالم اليوم، أن يكونوا أولا أقوياء، فالقوي لا ينفع نفسه فحسب، ولكنه ينفع الناس جميعا بقوته، وأن يحيلوا، ثانيا، كما كان يفعل آباؤهم والعناصر المتباينة، أن يحيلوها نتاجا إنسانيا مثمرا، نتاجا خير نتاج،
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .
تعبير الفن عن الشخصية العربية
إذا شاء أحدنا أن يبحث عن مظهر تتجلى فيه الشخصية العربية - شخصية الفرد وشخصية الجماعة - فأظنه لن يجد خيرا من فنون العرب وصناعاتهم، في تلك الفنون وفي تلك الصناعات تلاقت فنون الشعوب التي كونت الأمة العربية، تلاقت لتكون فنونا جديدة قديمة؛ لما فيها من محافظة على تراث منتقل من سلف لخلف، وجديدة لما طرأ عليها من تحوير اقتضاه الانتقال إلى الطور الإسلامي من التاريخ، ففي الفن العربي إذن ملتقى فنون، وفي الصناعة العربية ملتقى صناعات، وتاريخ الفن العربي وتاريخ الصناعات العربية يجمعان القضايا والمسائل التي ترد في التاريخ العربي عموما - وإذن كان الفن العربي مرآة المجتمع العربي - وكان مرآة جلية؛ لأن المؤرخين لم يهتموا بأمره، ولم يخشوا دلالاته فتركوه أو نسوه، ولذا نستطيع أن نبدأ استخدامه في فهم الماضي العربي دون أن نبدأ بتقدير الاعتبارات النقدية، والتوجيهات الاجتماعية النظرية التي شكلت التعبير الأدبي العربي.
Bilinmeyen sayfa