رجال غيروا وجه التاريخ
سقراط ... حياته وموته
لنا في حياة سقراط عظات وهو - ميتا - أوعظ منه حيا، هذا الرجل الدميم الفقير ابن البناء والقابلة غير التاريخ دون أن يعمد إلى شيء من ذلك، ودون أن يخطر على عقله أنه يفعل ما يؤدي إلى ذلك، كان كل ما فعل أن يسأل الناس أسئلة معدودات، ويسألها صباح مساء، ويوجهها لرجل السياسة وللصانع وللمتصدي للتعليم، ولا يثنيه عن توجيهها شيء يهمل شأنه ويهمل ذويه، سخرية المرحين لا تزعجه كثيرا، وغضب الذين يكشف عن جهلهم أو سوء رأيهم أو ارتباك تفكيرهم أو مغالطاتهم لا يخيفه، وكيف يخاف من لا يخشى الموت؟ وكيف يخشى الموت من يؤمن بأن الله آتاه الحكمة، وأنه أمره أن يحث قومه صغيرهم وكبيرهم على أن يعرفوا أنفسهم، على ألا يهتموا إلا بما هو جدير بالاهتمام، وأي دليل يجب على الإنسان أن يستصحب في سفره الطويل، أيسترشد بإلهام من ضميره، أو عليه أن يبحث عن المرشد فيما حوله؟ والكمال أين يطلبه الإنسان، أيطلبه بمجاراة نفسه يترك لها العنان لتبلغ به ما شاء لها هواها؟ أم يكون الكمال بكبح جماح النفس والعمل الطيب؟ أهو مما يمليه العقل أو هو مما يفرضه سلطان خارجي؟
إن الفضيلة وحدها هي الجديرة بالطلب، وهي التي تؤتي جميع الخيرات، لقد كان سقراط في حياته وفي موته حدثا فريدا في تاريخ الإنسانية، كان مواطنا أثينيا يؤدي ما يفرضه نظام المدينة، خدم في الجيش وفي هيئات الحكم المختلفة، ولكنه كان أيضا وفي نفس الوقت مثال الإنسان المتحلي بالسمو الخلقي المنجذب نحو الكمال، وبين المواطن والحكيم تنازع وتجاذب تولدت فيهما فكرته الأخلاقية السياسية، والفكرة في مبتدئها ثابتة الأصل فيما هو واقع، وهي في منتهاها تتجه نحو أسمى ما يكون - وقد تمثل التنازع بين المبتدأ والمنتهى في حياته، وتمثل أيضا في موته - فهو شهيد التنازع بين ما يجب على المواطن من إطاعة لقانون المدينة الوضعي، وما يجب على الإنسان من طاعة الله.
قال سقراط: في مستهل حياتي أولعت ولعا شديدا بذلك الفرع من فروع المعرفة، الذي نعرفه باسم العلم الطبيعي، فعددت حينذاك علما ساميا أن أتعرف على الظواهر، وأن أتحرى علة وجود كل واحدة منها، وعلة انحلالها، وكنت أجهد عقلي باحثا في صدق النظرية القائلة بأن الكائنات الحية تنشأ عن تفاعل الحرارة والبرودة تفاعلا من نوع التخمر، أو في القول بأن أداة الفكر هي الدم أو الهواء أو النار، أو في القول الآخر بأن المخ هو الذي يمكننا من السمع والبصر والشم، كما أني كنت كثير التفكير في التاريخ الطبيعي للمجموعة الشمسية ولكوكبنا بالذات، وقد انتهى بي كل هذا إلى اليقين بأني لا أحسن هذه البحوث وأمثالها، بل إني أقل الناس جميعا إحسانا لها، ثم حدث في يوم من الأيام أني سمعت الفيلسوف أناكسا جوراس يقرأ من كتاب له قوله: إن العقل هو مدبر الكون، وأنه علة كل شيء، فقبلت هذا وفرحت به، وبدا لي أنه الحق، وبدا لي أن نظام الكون يدل على أن عقلا يدبره نحو أسمى غاية ممكنة.
وهكذا عرف سقراط أن العلم الطبيعي لا يفسر كل شيء، بل عرف أن أهم الأشياء لا يعرض لها هذا العلم بالمرة، وهكذا انتقل من البحث الطبيعي للبحث الروحي، للبحث عن الخير والحق.
واضطرب الأمر في أثينا، انقطع ما سادها زمنا من وئام بين السياسة والثقافة، وغلب على أهلها حب التغلب، فحاولوا الاستبداد بالمدن الأخرى، وأخفقوا في ذلك آخر الأمر إخفاقا شديدا، وأفسدت الهزيمة على الناس أصالة الرأي وسداد النظر، فمنهم من خشي التعرض للقديم، واستنكر جميع الدعوات صالحها وطالحها، من ذلك ما فعله أريستوفانين في مسرحيته المشهورة «السحب» من الجمع بين سقراط والسفسطائيين في كفة واحدة، وقد صور الكاتب سقراط في تلك المسرحية رجلا غريب الأطوار، سخيف التصرف، مهملا لشأنه، مبشرا بالتقدم، جاحدا بوجود الآلهة، ومنهم - وهذه كثرتهم - اندفعوا في تيار الخصومات السياسية، وكان سقراط ضحية هؤلاء وأولئك.
وهذه الحال التي آلت إليها الديمقراطية الأثينية هي ما حمل أفلاطون وأرسطاطاليس على أن يقفا منها الموقف المشهور في فلسفتهما السياسية، كرها منها موقفها المعادي للثقافة، وكرها منها تفضيلها التسلط على المدن الأخرى على انتشار آدابها وفنونها ومثلها العليا، وكرها هزيمتها في حربها، وكرها - أخيرا - إعدام سقراط.
حمل هذا كله الفيلسوفين على التبرؤ من كل ما أدى في القرنين الماضيين إلى عظمة أثينا الاقتصادية والسياسية، وأخذا يدعوان إلى أن السبيل الوحيد لبقاء المدن اليونانية هو تعاون خصمي الديمقراطية الأثينية اللدودين: الفلسفة الأثينية من جهة، والنظام الاجتماعي الأسبرطي من جهة أخرى.
واتهم سقراط بأنه يخوض في كل شيء، يخوض في كل ما هو فوق الثرى وما تحت الثرى، ولا يؤمن بآلهة المدينة، ويلبس الحق بالباطل، ويضلل الشباب، وقدم للمحاكمة، وقضاته مئات يختارون بالقرعة طبقا لنظام المدينة.
Bilinmeyen sayfa