ولفيلسوفنا رسل نظرية في المعرفة يبني عليها كثيرا من أركان فلسفته؛ فالمعرفة عنده نوعان: نوع يسميه المعرفة بالاتصال المباشر، ونوع آخر يسميه المعرفة بالوصف. وأما الأولى فهي تلك المعرفة التي نحصلها بلمسنا للأشياء لمسا مباشرا؛ فبياض الورقة التي أمامي الآن يأتيني بالرؤية المباشرة، وصلابة القلم في يدي تأتيني باللمسة المباشرة، وطعم الحلوى في فمي يأتيني بالذوق المباشر، وصوت العربات في الطريق الآن يطرق سمعي بطريق مباشر وهكذا. هذه كلها شذرات من معرفة مباشرة، أو معرفة بالاتصال المباشر بيني وبين الأشياء التي أحسها بحواسي، فإذا تناولت هذه المعطيات الحسية وركبت منها أشياء في ذهني. كان هذا التركيب الناشئ معرفة بالوصف، فأنا أقول «ورقة» لكنني في الحقيقة لا أرى ورقا ولا ألمس ورقا، إنما أرى لمعة بيضاء، وألمس ملمسا لينا، فإذا أضفت هذه اللمعة الضوئية المعينة إلى هذا الملمس اللين إلى غير ذلك من سائر المعطيات الحسية التي تأتيني من مصدر خارجي معين، ثم أطلقت على التركيبة التي ركبتها اسم «ورقة»، كان هذا الاسم في الحقيقة إنما يسمى تصورا أنا الذي أنشأته لنفسي من المادة الخامة التي جاءتني متناثرة في معطيات حسية مباشرة، وإذن فهي معرفة يدخلها استدلال، وليست هي بالمعرفة المباشرة، فكل معرفة مباشرة هي من قبيل المعرفة الجزئية، لأن حواسنا - بالبداهة - لا تمس إلا موجودا مفردا فريدا ماثلا أمام الحواس؛ وأما المعرفة الكلية بشتى درجاتها فمعرفة من الضرب الثاني، وهي المعرفة بالوصف، فليس في وسعك أن تكون كلمة كلية مثل «ورقة» أو «شجرة» إلا إذا كان لديك قبل ذلك حصيلة من معرفة جزئية حسية مباشرة، ثم بنيت منها تركيبات في ذهنك، أسميت تركيبة منها «ورقة» وتركيبة أخرى «شجرة» وهلم جرا.
ويؤدي هذا التحليل بنا إلى نتيجة خطيرة، وهي أن الكلمة الكلية ليست في الحقيقة اسما واحدا يطلق على شيء بعينه كما قد يتبادر إلى الذهن، بل هي رمز تكون في الداخل ولا يقابله شيء قط في الخارج؛ فليس في الخارج شيء معين قائم في نقطة مكانية معينة وفي لحظة زمانية معينة، اسمه «شجرة» على سبيل الإطلاق والتعميم، بل الذي في الخارج هو هذه الشجرة المفردة المعينة وتلك الشجرة المفردة المعينة، وأما الكليات والتعميمات فمقامهما في الذهن ولا وجود لها في الخارج؛ ومعنى ذلك أن كل كلمة كلية تظل تركيبة صورية معلقة بغير مدلول حتى نعثر لها على الفرد الجزئي الذي ندركه بالحس المباشر، فيحول الوجود الذهني الصوري إلى وجود فعلي واقعي.
الكلمة الكلية ليست اسما واحدا يطلق على شيء بعينه، بل هي عبارة وصفية بأكملها ضغطت في كلمة واحدة، فقولك «إنسان» مساو لقولك: «كائن ما يتصف بكذا وكذا من الصفات.» وهذه العبارة الوصفية قد تجد الفرد الذي يتمثلها ويجسدها، فتتحول من مجرد ثوب خال بغير لابس إلى أمر واقع ملموس، أو إلى فرد معين يلبس ذلك الثوب ويجسده. وهكذا يصبح المدار في مدلول الكلمات ومعنى العبارات كلها هو عالم الحس وما فيه من أشياء ومن أفراد، فإن وجدت هذه؛ كان للكلمات والعبارات مدلول ومعنى، وإلا فهي تظل صورة خالية معلقة، وهذا هو معنى قول رسل: إن الكلمات الكلية رموز ناقصة؛ لأنها في ذاتها لا ترمز إلى شيء، ولا بد لها أن تكمل بفرد نصادفه في عالم الأفراد المحسوسة ليكمل معنى الرمز الناقص.
4
قلنا إنك إذا ما ركنت إلى حواسك في إدراك العالم من حولك، ألفيتك - في حقيقة الأمر - لا تدرك «أشياء» مجسدة بل تدرك أحداثا متلازمة أو متتابعة؛ فأنت لا تدرك «منضدة» و«مقعدا» و«ورقة» و«قلما» بل تدرك لمعات من الضوء ونبرات من الصوت ولمسات من الصلابة أو الليونة وهكذا. أما المنضدة بكتلتها وجسمها، والمقعد بكتلته وجسمه وهكذا، فكما أسلفنا، تركيبات ذهنية نركبها في الداخل من تلك المعطيات الحسية الآتية من الخارج، فما لمعات الضوء ونبرات الصوت ولمسات الصلابة «بأشياء» بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، بل هي أحداث، ومن هذه الأحداث يتكون العالم كما نعرفه.
وحلل المادة مهتديا بالفيزياء الذرية الحديثة، تجدها قد فقدت ما كان يعزى إليها من تماسك وصلابة، لأنها قد ارتدت إلى ذرات، لا بالمعنى القديم الذي كان يجعل الذرة أشبه بكرة صغيرة متصلبة مكتنزة اللحم والعظم، بل بالمعنى الجديد الذي يجعل الذرة كهارب موجبة وكهارب سالبة، أو قل إنه يجعلها إشعاعا ضوئيا يمتد على فترة من الزمن، فكأنما الذرة الواحدة قوامها سلسلة أحداث يتلو بعضها بعضا، فهي بمثابة تاريخ متصل الحلقات متتابع الحوادث، وليست هي بالشيء الذي يوجد كله دفعة واحدة في لحظة واحدة.
وهكذا الأمر في كل شيء: كل شيء هو خط من حوادث، أو هو سيرة وصيرورة، والذي يجعله شيئا واحدا هو ما بين أجزائه المتتابعة من علاقات تتشابك على نحو فريد، فأنت وأنا ونهر النيل والشمس والقمر، كل كائن من هذه الكائنات لا يوجد كله دفعة واحدة؛ فالواحد منا هو سيرته وتاريخ حياته. إنه لم يكن كله قائما ساعة الولادة، ولا هو كله قائم الآن، بل إنه نمو متصل وتطور مستمر، هو تغير دائب هو تيار دافق من حالات وحوادث: هذه الدقات التي يدقها قلبه، وهذه الأنفاس التي تتنفسها رئتاه، هذا الوقوف والجلوس والمشي والجري والكتابة والقراءة، هذا الحزن والفرح والخوف والغضب والحب والكراهية، هذه الصحة وهذا المرض، هذه الألوف من الحالات والحادثات هي أنت وهي أنا، وقل شيئا شبيها بهذا في تاريخ النهر وتاريخ الشمس وتاريخ القمر. الشيء هو الأحداث التي تكون تاريخه، ولهذا التاريخ مبدأ ومنتهى، وبينهما امتداد زمني يقصر أو يطول ، كاللحن الموسيقي نصفه بالواحدية مع أنه لا يكتمل كله دفعة واحدة في لحظة واحدة، بل هو نغمات تتعاقب على فترة من زمن، وأما الذي يجعله لحنا واحدا رغم كثرة حوادثه وطول امتداده، فهو العلاقات المتميزة الفريدة التي تصل تلك الأحداث من أولها إلى آخرها. وكذلك المسرحية تشتمل على ألوف الأحداث، وتمتد في الزمن بضع ساعات ومع ذلك تكون مسرحية واحدة لما بين أجزائها من علاقات توحدها في إدراكنا.
لقد أخطأت الفلسفة التقليدية حين توهمت في الأشياء دواما عنصريا، فظنت أن الكائن هو هو دائما، وله جوهر ثابت، والذي أوهمها هذا الوهم أننا نطلق على الشيء اسما واحدا، فانتقلت واحدية الاسم في تصورهم إلى واحدية المسمى، لكن المسمى - كما رأينا - مهما يكن، ليكن ذرة صغيرة أو ليكن الأرض بأسرها، إن هو إلا مجموعة حوادث، إن كانت لها ذاتية خاصة فبفضل العلاقات الرابطة لهذه الحوادث، لا بفضل جوهر غيبي يكمن داخل الشيء ويكسبه ذاتيته المفروضة.
5
وكون الأشياء مؤلفة من حوادث، فلا عناصر دائمة ولا ذوات ثابتة، قد أدى بفيلسوفنا رسل إلى نظرية ميتافيزيقية فريدة في نوعها؛ فقد كان الفلاسفة فيما مضى لا يعرفون إلا جوهرين، يردون الكون إليهما معا أو إلى واحد منهما، وهما الروح والمادة، أما المثاليون فيعترفون بالروح دون المادة، ويفسرون كل الظواهر المادية على أساس روحاني، إذ يجعلونها حالات من خبرة عقلية لذات عاقلة، أو يجعلونها كيانات مجردة مفارقة لعالم الحس، وأما التجريبيون فيعترفون بالمادة دون الروح، ويترجمون كل الحالات العقلية إلى معطيات حسية، ومعطيات الحس طبعا شيء يتعلق بالجسد وحواسه. وهنالك إلى جانب أولئك وهؤلاء فلاسفة يجمعون بين الجوهر، فيقولون إن الكون روح ومادة معا، كما أن الإنسان عقل وجسم معا.
Bilinmeyen sayfa