ويشرح مور وجهة نظره هذه في بحث عنوانه «دفاع عن الذوق الفطري» يقول فيه إنه بالإدراك الفطري موقن بأن ثمة الآن جسدا بشريا - هو جسده - وأن هذا الجسد قد ولد في لحظة معينة من الزمن الماضي، وأنه لم يزل منذ تلك اللحظة موجودا وجودا متصلا، رغم تعرضه للتغير، فمثلا كان لحظة ولادته أصغر جدا مما هو الآن؛ ولقد ظل هذا الجسد منذ ولادته حتى الآن إما لصيقا بالأرض أو مفارقا لها على مسافة ليست بعيدة عنها؛ ولقد كانت هنالك منذ ولد هذا الجسد، أشياء أخرى كثيرة، ذوات شكل وحجم في أبعاد ثلاثة، وأن هذا الجسد قد كان على مسافات متفاوتة من هذه الأشياء، فبعضها أقرب إليه من بعض. ومن بين الأشياء التي كانت تحيط به منذ ولادته فتكون بيئته، عدد كبير من الكائنات البشرية، كل منها شبيه به في أنه (أ) قد ولد في لحظة معينة من الزمن الماضي، (ب) وأنه قد لبث موجودا فترة ما بعد ولادته، وأنه (ج) كان في لحظة زمنية منذ ولادته إما لصيقا بالأرض أو مفارقا لها مسافة ليست بعيدة عنها، وأعلم كذلك بإدراكي الفطري أن كثيرين من هؤلاء الناس قد ماتوا واختفوا من الوجود، كما أعلم أن الأرض التي نعيش عليها كانت موجودة قبل ولادتي بزمن طويل؛ وأنها شهدت ناسا غيري ولدوا وماتوا قبل أن يولد جسدي، وأخيرا فإني أعلم أنني كائن بشري أخذت تمر به الخبرات منذ ولادته، فيدرك بحواسه أشياء وما بينها من علاقات.
هذه كلها أشياء عرفناها بالإدراك الفطري، معرفة لا يجوز أن تكون موضع تساؤل، وإنما الذي يجوز - بل يجب - إزاءها، هو أن نوضح بالتحليل ما هو متضمن فيها، ابتغاء الفهم الكامل لمدلولاتها. إن عبارة مثل قولنا: «لقد كانت الأرض موجودة لعدة أعوام مضت.» حقيقة يشهد الذوق الفطري بصدقها، وليس وراء شهادته شهادة، لكننا لو سألنا فلاسفة كثيرين: هل صحيح أن الأرض كانت موجودة لعدة أعوام مضت؛ لما عدوه سؤالا بسيطا يجاب عليه بنعم أو بلا، أو يجاب عليه بقولنا إننا لا نعرف الجواب الصحيح، بل تراهم يقولون: إن الإجابة تتوقف على معنى الكلمات التي وردت فيه، مثل كلمة «الأرض» وكلمة «موجودة» وكلمة «سنين» فإذا كانت معاني هذه الكلمات هي كذا وكذا فالجواب هو كذا، وأما إذا كانت معانيها هي كيت وكيت فالجواب هو كيت. لكن مور - على خلاف أمثال فلاسفة كهؤلاء - يؤكد أن عبارة كهذه هي نموذج الوضوح، لأنها مفهومة عند الإدراك الفطري، وهذا وحده فيه ما يكفي؛ وكل من ساورته النفس بأن يتشكك في فهمه لعبارة كهذه، هو في الحقيقة شخص يخلط بين مسألتين مختلفتين؛ الأولى هي: هل نفهم العبارة؟ والثانية هي هل نعرف تحليل هذا الذي فهمناه؟ أي أنه هو الفرق بين إدراك المعني من جهة وإدراك عناصره التي ينحل إليها من جهة أخرى، وهي تفرقة بالغة الأهمية؛ لأنه بينما يجعل فلاسفة كثيرون الأمر الأول موضوع اهتمامهم، ترى مور ينقل مركز الاهتمام إلى الأمر الثاني؛ فهو - مثلا - لا يسأل كما سأل ديكارت: هل حقا أنا موجود؟ بل هو يسأل بدل ذلك: ما تحليل العبارة التي أقول بها إنني موجود؟
والفرق - كما ترى - بعيد بين الوقفتين، فالذي يتشكك فيه الفلاسفة الآخرون يجعله مور موضع تصديق لا شك فيه، والذي يؤمن بصدقه الفلاسفة الآخرون هو الذي يجعله مور موضع شك وحافزا على البحث؛ فقد يتشكك الآخرون في صدق عبارة كهذه: «قد ظلت هذه الأرض موجودة لأعوام كثيرة مضت.» ويتساءلون ما برهاننا على صوابها؟ وهم في الوقت نفسه يطمئنون إلى الطريقة التي يحللون بها معناها كأنما هم على فهم دقيق لعناصرها. أما مور فيعكس الوضع: فهو لا يشك في صدق العبارة لكنه في الوقت نفسه لا يطمئن أبدا إلى تحليلها الصحيح كيف يكون وماذا عساه أن يكون.
6
ويطبق مور مبدأه في قبول الإدراك الفطري على فكرة الخير فلا يتردد في قبولها إذ يكفي أن الإنسان بإدراكه الفطري يعلم أن الخير موجود.
فإذا سألت عن «الخير» ما تعريفه، فستنتهي إلى أنه شيء بغير تعريف، لأنك لكي تعرف الشيء، فلا بد لك من تحليله إلى عناصره البسيطة، أما إذا كان بسيطا بطبيعته لا ينحل إلى ما هو أبسط، تعذر التعريف؛ فالبسيط يدرك بذاته إدراكا مباشرا ولا يحتاج إلى سواه ليعين على توضيح معناه؛ لهذا يقول مور: إنني إذا سئلت «ما هو الخير؟» لأجبت بقولي: «الخير هو الخير.»
وفي هذا ختام السؤال وختام الإشكال، أو إذا سئلت «كيف تعرف الخير؟ لأجبت بقولي: «إن الخير لا تعريف له؛ لأنه فكرة بسيطة شأنها في ذلك تماما شأن اللون الأصفر، فكيف تعرف اللون الأصفر لمن لم يره؟ إن ذلك محال، لأن اللون الأصفر بسيط غير مركب، ويدرك مباشرة أو لا يدرك على الإطلاق؛ فكذلك الخير؛ فالتعريف محال إلا على الأشياء المركبة، وأما الأشياء البسيطة فواضحة بذاتها وليست بحاجة إلى تعريف».»
إنك تستطيع أن تعرف الحصان، لأن الحصان مؤلف من خصائص مختلفة كثيرة، وتعريفه هو عبارة عن عد هذه الخصائص، أما إذا وصلت إلى الخصائص البسيطة وأردت تعريف إحداها، فلن تجد ذلك مستطاعا، لأنها هي نهاية طريق التحليل والتعريف، فهي أشياء تنظر إليها وتدركها، لا أكثر ولا أقل - وعند مور أن «الخير» هو من قبيل تلك الأفكار البسيطة التي تدرك مباشرة وتدرك بذاتها، وليس وراءها ما هو أبسط منها تنحل إليه وتعرف به؛ وهنا ينبهنا مور إلى غلطة وقع فيها الفلاسفة الأخلاقيون، وهي أنهم إذا رأوا هذه الحقيقة البسيطة مقترنة دائما بصفة أخرى ظنوا أن هذه الصفة الأخرى هي تعريف الخير، مثال ذلك أن يروا الخير مصحوبا دائما بنشوة النفس أو سعادتها، فيقولون إن الخير هو السعادة، على حين أن اقتران الشيئين لا يجعلهما شيئا واحدا.
7
هكذا كان مور نصيرا للذوق الفطري، أو الإدراك الفطري، في قبوله لما يراه الإدراك الفطري حقا ورفضه لما يراه الإدراك الفطري باطلا. فإن قال الإدراك الفطري إن في يدي قلما، كان هنالك يد وقلم على الرغم من كل ما يقوله الميتافزيقيون عن صدق أو عدم صدق هذا القول؛ وكما أسلفنا، ليست الفلسفة عند مور هي أن تسأل إن كان هنالك حقا يد وقلم أو لم يكن، بل مهمتها هي - بعد قبولها لصدق ما يقرره الإدراك الفطري - مهمتها أن تبحث عما عسى أن يعنيه ذلك بالتفصيل. فإن كانت المعطيات الحسية هي التي دلتنا على وجود القلم بين أصابع اليد، سألنا ما طبيعة المعطيات الحسية، وما طبيعة الإدراك الحسي وهكذا.
Bilinmeyen sayfa