إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
ماذا تكون «الأمانة» التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان؟ لا بد أن تكون شيئا مما يميز الإنسان من سائر أجزاء الكون في أرض أو سماء. وأول ما يرد إلى الخاطر من هذه المميزات التي يجوز أن يقال عنها: إنها أمانة وكلت إلى الإنسان فحملها، الإرادة الحرة التي إن يكن صاحبها معرضا للخطأ فيما يختار وما يدع، فهو كذلك قادر على اختيار الصواب، بل هو قادر على أن يبتدع هذا الصواب ابتداعا، وعليه تقع التبعة في حالة الخطأ، وإليه يتجه الثواب في حالة الصواب. •••
فظواهر الطبيعة تحدث في اطراد، هو القانون الذي إذا ما استخلصه الإنسان الباحث بما يشاهده منها وما يجريه من تجارب عليها، كان في مستطاعه أن يتنبأ على وجه الدقة ماذا عساه أن يحدث في المكان الفلاني وفي اللحظة الفلانية لو أن كذا وكذا من الظروف قد وقع؟
فمثلا أين يقع هذا الحجر الملقى بقوة مقدارها كذا؟ ومتى يسقط المطر، ما دمنا قد علمنا اتجاه الريح ومقدار الضغط وهكذا؟ ومتى تنكسف الشمس أو ينخسف القمر؟ فليس لهذه الظواهر كلها مناص من الحدوث في مستقبلها على نحو ما قد حدثت في ماضيها، لا أنها «تريد» شيئا وقد أرغمت على سواه، بل لأن «طبيعتها» هي أن تقع على نحو ما قد شاهدناه منها، ولن يتاح لها أن تقف من نفسها موقف الناقد الذي قد يعدل من مجرى حياته المقبلة على ضوء ما قد مر منها في تاريخه السالف.
نعم إن الطبيعة لا تخطئ لأن طريقها قد رسم لها رسما لا انحراف فيه ولا شذوذ هناك، لكنها كذلك لا فضل لها في صوابها، فلقد أعفيت من حمل الأمانة؛ أمانة الاختيار الحر الذي يتعرض للخطأ في محاولة فعل الصواب، فأراحت نفسها، وضمنت سداد خطاها، ودقة سيرها، لكن فضل ذلك كله لسواها. وأما الإنسان، فهو وحده دون سائر الكائنات جميعا، قد كتب له - أو كتب عليه - أن توضع الأمانة الكبرى بين يديه - أمانة الحرية - وعليه تقع التبعة بعد ذلك. ولو سلب واحد من الناس هذه الأمانة التي وكلت إلى نوعه، لارتد من فوره «شيئا» من الأشياء بعد أن كان إنسانا ، وذلك هو بعينه الفرق بين الحر والعبد، فالعبد المملوك لسواه لا يملك تصريف أموره بنفسه، ولذلك فلا تبعة عليه إذا أخطأ ولا فضل له إذا أصاب، إنما التبعة والفضل لسيده الذي يملكه ويحركه كما يملك ويحرك سائر أدواته الأخرى.
وظواهر الطبيعة في الأرض أو في السماء، تتبع دائما أيسر الطرق وأسهلها وأخلاها من الحوائل والعقبات؛ لأن الأهداف ليست أهدافها، فانظر إلى مجرى الماء كيف ينحدر في طريقه، حتى إذا ما صادفه في الطريق حائل، دار حوله لينصرف إلى حال سبيله بغير عناء، وهو لا يتصدى لهذا الحائل بالمقاومة إلا إذا لم يكن أمامه سبيل آخر، فمحال عليه أن يختار المقاومة إذا كان له منها مناص، وما هكذا الإنسان، لأنه مؤتمن على الوديعة النفيسة - وديعة الحرية - فله - إذا شاء - أن يختار طريق الصعاب حتى إن يسرت أمامه سبل أخرى.
وكثيرا ما يكون في اختياره للمشقة دون الحياة الهينة اللينة سر كفاحه وسر عظمته معا، فالإنسان وحده هو من في قدرته الطموح؛ لأنه وحده المستطيع أن يقول «لا»، وأما سائر أجزاء الطبيعة فلا جواب لديها إلا «نعم». للإنسان أن يهبط من قمة الجبل إلى أسفل الوادي، أو أن يصعد من أسفل الوادي إلى قمة الجبل، لأنه يستطيع - إذا ناداه قانون الجاذبية - أن يمتنع عن تلبية النداء، وأما الحجر فذو طريق واحد مخطط مرسوم.
الإنسان وحده هو المغامر المخاطر ، وأما الطبيعة فلا مغامرة فيها ولا مخاطرة ولولا مغامرة الإنسان في عالم المجهول لما كان له الذي كان من ثقافة وحضارة. ولا تكون المغامرة مغامرة إلا إذا تضمنت إمكان الخطأ وترجيح الصواب. فالرحالة الذي يخاطر في محيط مجهول لم يسبقه إلى عبوره سواه، مغامر؛ لأنه وإن يكن يتوقع لنفسه التوفيق، فهو أيضا يحتمل الهلاك. وهكذا قل في كل محاولات الإنسان توسعة آفاق علمه، بما في ذلك الكشوف العلمية؛ لأن كل كشف علمي هو في الحقيقة مغامرة صغيرة أو كبيرة انتهت بصاحبها إلى نتيجة موفقة، وكان يمكن أن يضل طريقه فيها فيخسر الوقت والجهد والمال بغير جزاء، فلئن أملت على الإنسان طبيعته أو طبيعة العالم من حوله أن يسلك على صورة معينة، فله أن يقول: وماذا لو سلكت على صورة أخرى؟ فلأفعل لأرى نتائج فعلتي. ولكن، هل تقول كواكب السماء في أفلاكها: ماذا لو انحرفت بطريقي هنا أو هناك؟ هل يقول مثل ذلك، النهر الدافق أو السحابة المزجاة أو الريح العاصفة؟ إن هذه كلها قد أبت حمل الأمانة فاستراحت لكنها في الوقت نفسه لا تملك لنفسها زماما.
ولا تحسبن الناس في حمل هذه الأمانة سواء، بل إن منهم من يكاد يقف منها موقف الطبيعة، فيأبى حملها ويشفق على نفسه منها، لكن منهم أيضا أولئك الذين يحملونها على عواتقهم حمل الأبطال، فلا يفرطون في حريتهم مثقال ذرة، ولهم بعدئذ الثمرات وعليهم الأخطاء. وكما يتفاوت الأفراد في مدى استعدادهم لحمل الأمانة، فكذلك تتفاوت الأمم، ثم تتفاوت العصور، فمن الأمم من يغلب بين أفرادها إيثار السلامة والعافية على ركوب المخاطر، وكذلك من عصور التاريخ ما سادته روح الاستسلام ومنها ما غلبت عليه المغامرة في شتى ضروبها وصورها. وإذا قلنا ركوب المخاطر والمغامرة فقد قلنا التصدي لحمل أمانة الحرية التي عرضت على أشياء الطبيعة وظواهرها - كما عرضت على جماعات الناس الذين أرادوا لأنفسهم أن يكونوا أقرب إلى تلك الأشياء والظواهر - فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
كان الإنسان في عصوره القديمة والوسطى قد اصطنع لنفسه منهجا فكريا - هو الذي صاغه أرسطو في منطقه - راعي فيه أن يضمن عدم الوقوع في الخطأ تحت أي ظرف وبأية حال، فهو لا يتصدى للأخذ بنتيجة ما إلا إذا كانت هنالك المقدمات قد سبقتها لتسوغ قبولها، وكانت النتيجة المعينة لا تقبل إلا إذا انتزعت من جوف تلك المقدمات. وهكذا كان التفكير إبان العصور كلها. حقائق تؤخذ مأخذ التسليم، ثم تستخرج منها نتائج، فتكون هذه النتائج بدورها جديرة بالتسليم أيضا؛ لأنها هي هي نفسها تلك المقدمات وضعت في صورة أخرى. لكن مثل هذا المنهج، إذا كان هو وحده وسيلتنا إلى العلم، فمؤداه أن الإنسان قد استغنى به عن «الأمانة» التي كان قد تصدى لحملها، فلا علم في هذه الحالة إلا في الظاهر وحده، وأما حقيقة الأمر فتكرار للمقدمة في النتيجة تكرارا يدور به صاحبه في دائرة مغلقة لا تنتهي به إلى شيء جديد.
Bilinmeyen sayfa