هنا كثر بيننا الخلاف وتشعب الرأي - فكان منا فريق يعلي من شأن الطابع القومي الأصيل، على حساب الجوانب الأخرى جميعا إذا اقتضى الأمر ذلك؛ أي إنه يلوذ بالثقافة الموروثة ليضمن لنفسه مقومات الشخصية المميزة الفريدة التي هي في ظنه درع واقية من المعتدين. وفريق آخر كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما أعوزنا من العلم والصناعة، ولم نكن لنفلح في صده - بغير هذين العاملين - حتى وإن تجمعت لدينا كل ثقافات الغابرين. لكن أيكون الصواب إما مع أنصار التراث وحدهم، وإما مع أنصار الثقافة العصرية وحدهم؟ ألا يجوز أن يكون بين الطرفين وسط يجمعهما في تركيبة جديدة؟ تلك وقفات ثلاث؛ طرفان ووسط بينهما، وهي الوقفات التي على أساسها تفرق رجال الفكر الفلسفي عندنا منذ منتصف القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، حتى لنوشك أن نتعقب سير الحركة الفكرية خلال هذه الفترة في مراحل ثلاثية الجوانب؛ فمن طرف إلى نقيضه إلى وسط يؤلف بينهما، على أن النقيض والوسط كانا دائما يتخذان موقف المدافع عن الدين مما يظن أنه خطر عليه، سواء كان هذا الخطر حقيقيا أو موهوما، وسواء كان آتيا من مفكر غربي يتحدث عن الإسلام مباشرة، أو من فكر غربي عام يوصف بالمادية فيخشى خطره على العقيدة، أو حتى من مفكر عربي ينهج نهج الغربيين في تفكيره، فينظر إليه بعين الريبة والحذر.
فأولى المعارك الفكرية معركة كان أحد طرفيها أنصار نظرية التطور والمذهب المادي في القرن التاسع عشر، والطرف النقيض هو الرد على هؤلاء تفنيدا لدعواهم، ويتوسط بين الطرفين وسط يحاول أن يبين ألا خوف على عقائدنا الموروثة من الفكر الجديد الوافد.
وكانت المعركة الثانية أجلى وأوضح، لأن أحد طرفيها هجوم صريح على الإسلام من مفكر غربي، وطرفها الثاني دفاع صريح، لكنه دفاع من يبدأ بالتسليم بصحة عقيدته، فيقع إقناعه على المؤمن بها قبل المنكر لها. وأما الوسط فهو دفاع صريح كذلك عن الإسلام، ولكنه هذه المرة دفاع الفيلسوف الذي يوجه إقناعه نحو المنكرين قبل أن يوجهه نحو المؤمنين، لأنه اختار نقطة ابتداء محايدة، ثم أخرج منها النتائج.
وكانت المعركة الثالثة أوغل في الفلسفة بمعناها الاحترافي؛ لأنها معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ أتكون هي الحواس والتجربة بحيث نغفل في ميدان العلم ما لم ندركه عن طريق المشاهدة الحسية والتجارب المعملية، أم تكون وسيلة المعرفة هي الحدس، أي العيان الوجداني المباشر ؟ وإنا لنلاحظ أن الفريق الأول يصب اهتمامه على العلم، وأن الفريق الثاني يصب اهتمامه على الدين. الفريق الأول يوجه بصره نحو ثقافة العصر، والفريق الثاني يوجه انتباهه نحو صيانة التراث. فهل يمكن أن نوفق إلى موقف وسط يعطينا علم الغرب دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة الموروثة؟
وكانت المعركة الرابعة بين فريقين: أولهما يجعل للوجود الفردي في المكان والزمان الأصالة والأولوية، وثانيهما يجعل الأصالة والأولوية للفكرة التي تسبق خلق الأفراد. وتلك هي نفسها المعركة بين أنصار الفكر الحديث الذي يصاحب التفكير العلمي المعاصر وأنصار الفكر الموروث. ومرة أخرى كذلك ينشأ السؤال: أليس هناك موقف وسط يصون فردية الأفراد لكنه كذلك لا يضحي بالفكرة المطلقة السابقة على هؤلاء الأفراد؟
ذلك موجز وسبيلنا إلى تفصيله.
2
إن حديثنا عن الصراع الفكري بين رجال الفلسفة في الأمة العربية إبان المرحلة الأخيرة من تاريخها الحديث لتتعذر فيه الدقة لاختلافنا ابتداء على ماذا تكون الفلسفة ومن هم رجالها؟ فلقد جرى العرف بيننا أن نسلك في جماعة المشتغلين بالفلسفة رجالا من طرازين يختلفان جوهرا «اختلافا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيين تفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب، فالفلسفة بالمعني الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعني الثاني هي «فلسفة تجريد نظري»، وبالمعني الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعني الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية» (راجع للكاتب «فلسفة وفن» ص6). ومن ثم فقد يصطرع رجلان على فكرة بعينها، ولكن من زاويتين مختلفتين، إذ قد يكون أحدهما منصرفا إلى مجرد تحليل الفكرة وردها إلى عناصرها الأولية، على حين يكون الثاني منصرفا إلى وزن هذه الفكرة واتساقها مع بقية الأفكار السائدة في المجتمع، فيراها من هذه الناحية ضارة أو نافعة. وفي مثل هذه الحالة لا يكون في الموقف صراع حقيقي بين الرجلين، بل ربما كان ما بينهما أقرب إلى التعاون على أن يكمل أحدهما عمل الآخر، فالأول يلقي الأضواء على معنى الفكرة ومحتواها، والثاني يصدر الحكم على صلاحيتها أو فسادها بالنسبة إلى حياتنا العملية وإلى سائر معتقداتنا.
لقد كتب أستاذ جليل - هو في مقدمة المشتغلين بالفلسفة عندنا - كتابا بالغ الأهمية في هذا الميدان، ذهب فيه إلى أن «الفقه» هو «فلسفة» إسلامية أصيلة، وقرأ الكتاب كاتب هذه السطور حين صدوره منذ عشرين عاما، فأذهلته الفجوة العميقة بينه وبين المؤلف في تصورهما للفلسفة ماذا تكون وكيف تكون، لكنه لم يجرؤ على المعارضة العلنية لمكانة المؤلف في النفوس، فلجأ إلى مقال رمزي، لا أظن قارئا واحدا قد التفت إلى مرماه، ولكن الكاتب في مقاله الرمزي ذاك - وكان عنوانه «نملتان في الفلفل» (منشور في كتاب «شروق من الغرب») - قد عبر عن فكرته واستراح، إذ أخذ يقص قصة نملتين تعلمتا القراءة، لتهتديا «بالعلم» إلى ما ليست تهدي إليه الغريزة، وكان أن قرأتا على علبة بطاقة تقول إنه «سكر»، (كما قرأ صاحبنا على غلاف الكتاب عنوانا يقول إنه «فلسفة») فدخلتا على هذا الزعم، وإذا بهما تعانيان مما وجدتاه، أما إحداهما فقد وثقت ثقة - لا يأتيها الشك - فيما كتبه البقال على جدار العلبة، وأما الأخرى فقد شكت على أساس ما رأته بعينيها وما طعمته بلسانها، ودار بينهما حوار، لو زال عنه الرمز، لكان هو نفسه الحوار الذي يدور بين أي رجلين من رجال الفلسفة عندنا عما يكتبان. أيكون فلسفة أم لا يكون؟
لكننا في تعقب مواضع الصراع بين رجال الفلسفة في تاريخنا الحديث، سنجري مع العرف المألوف، فنعد شبلي مشيل فيلسوفا، مع أنه هو نفسه - فيما أظن - يأبى على نفسه أن يوصف بهذه الصفة، لأنه مؤمن بالعلم وحده، وأما الفلسفة «فإن كان لها بعض معنى اليوم» - كما قال - «فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام، فالمستقبل اليوم للعلم، وللعلم العملي وحده.» وسنعد الأفغاني فيلسوفا، كما نعد محمد عبده، وعباس محمود العقاد، برغم اعتقادنا بأنه توسع في المعنى شديد، ذلك الذي يجيز أن نسلك هؤلاء جميعا في زمرة «الفلاسفة» بالمعنى الذي تكتب به مؤلفات المؤرخين للفلسفة كما تدرس في أقسامها بالجامعات.
Bilinmeyen sayfa