5 •••
لكن هذا الموقف «المعتدل» الذي لا يريد أن يمضي مع الحسيين إلى آخر شوطهم ولا مع العقليين إلى آخر شوطهم، لا يقنع من كان مزاجه البت الحاسم في الأمور، فلئن كانت الرءوس - كما قال وليم جيمس - صنفين: رءوس لينة ورءوس يابسة، الأولى تلاين وتداور وتأخذ الأمور على هوادة وفي شيء من الاستسلام للعاطفة القلبية، على حين أن الثانية تتصلب عند الحقائق، ولا يهمها إلا أن يرضى العقل بمثل الرضا الذي يرضاه وهو يتناول مسائله العلمية المعملية، أقول: لئن كانت الرءوس تنقسم هذين القسمين، كان الآخذون بالمذهب العقلي المعتدل هم من الصنف الأول، وكان إلى جانبهم في حياتنا الفكرية نفر من الصنف الثاني، وبين من يمثلونه في تاريخنا الفلسفي المعاصر كاتب هذا المقال. فهو في كتابه «نحو فلسفة علمية» (وقد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية لسنة 1960م) وفي كتاب له آخر «خرافة الميتافيزيقا» (1953م)
6
يدعو دعوة صريحة إلى أن تتشبه الفلسفة بالعلم، لا بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء في موضوعاتهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطور الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إنه - على نقيض ذلك - يحرم على الفيلسوف - من حيث هو فيلسوف - أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأي وجه من الوجوه لأنه لا يملك أدوات البحث التي تمكنه من ذلك، فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكام إخبارية عن العالم. ولقد كان من مزالق فلاسفة التأمل أن ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم، إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده في وسعه أن يصف الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال.
ففيم - إذن - يريد صاحب هذه الدعوة أن تتشبه الفلسفة بالعلم؟ إنه يريد لها ذلك بعدة معان أخر، أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، فإذا كان العالم يحدد على وجه الدقة مصطلحاته العلمية، حين يتحدث عن «الجاذبية» و«الضوء» و«الصوت» إلخ فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الدقة نفسها حين يتحدث - مثلا - عن «النفس» و«العقل» و«الخير» ... إلخ. نعم إن الفلاسفة الذين يستخدمون ألفاظا كهذه، يحددونها بتعريفات يشترطونها لها، لتفهم على ضوئها، ثم يستنبطون من تلك التعريفات ما يجوز لهم بحكم مبادئ الاستنباط أن يستنبطوه، ولا غبار على ذلك، لو كانوا على وعي كامل بأن نتائجهم التي ينتهون إليها مستندة في صدقها إلى التعريفات التي اشترطوها بادئ ذي بدء؛ أي أن النسق الفلسفي عندئذ إن كان صادقا، فصدقه رياضي بحت، معناه أن أوله متسق مع آخره، وأنه لا تناقض بين أجزائه، لكن ليس من حقنا أن نخرج من حدود هذا النسق لنقول إنه يصور العالم الخارجي كما يقول أصحاب الفلسفة التأملية عن بناءاتهم الميتافيزيقية، فإما أن يجعل الباحث خطوته الأولى محققة على الواقع، وعندئذ يكون من حقه أن يزعم لأي نتيجة تلزم عن تلك الخطوة الأولى بأنها مطابقة لما هو واقع، وإما أن تكون تلك الخطوة الأولى تعريفا من عند المفكر لمفهومات يريد استخدامها، أو أن يكون مسلمات أخرى يضعها المفكر بادئ ذي بدء، فلا يصبح من حقه بعد ذلك أن يزعم لأي نتيجة تلزم عن تلك الخطوة الأولى بأنها تحمل عن العالم خبرا أو أنها تصوره بأي وجه من وجوه التصوير.
ولكن ماذا يكون موضوع البحث الفلسفي الذي يراد للفيلسوف أن يتناوله بهذه الدقة العلمية؟
إنه - كما أسفلنا - لا يكون موضوعا مما تبحث فيه العلوم، بل يكون هو التشكيلات الرمزية - من عبارات لغوية ورموز رياضية وغيرها - التي يستخدمها العلماء في صياغة علومهم، فيحللوها تحليلا يخرج مضمراتها من الكمون إلى العلن الصريح، وهاهنا يظهر في وضوح إن كانت منطوية على تناقض أو على عناصر من شأنها أن تجعل العبارة بغير معنى علمي، أم كانت سليمة البنية المنطقية فيكون العلم كله سائرا على هدى. وبهذا تصبح الفلسفة هي التحليل المنطقي، بدل أن يكون التحليل المنطقي جزءا من الفلسفة.
وإذن فهذه «التجريبية العلمية» إنما هي دعوة إلى الأخذ بأحكام العقل الصارم في فهم العبارات التي يجريها الكاتبون على أقلامهم، حتى يأخذهم سحر الألفاظ فيستعملوها لأسباب أخرى غير قوتها الدلالية. على أن اللفظة في هذه الدعوة الجديدة لا تكون لها قوة دلالية إلا إذا أشارت في نهاية التحليل إلى معطيات حسية أعطتها إيانا كائنات فعلية في العالم الخارجي، اللهم إلا أن تكون اللفظة مستخدمة بتعريف اشتراطي يعفيها من الوظيفة الإشارية، لكن التفكير عندئذ يكون مفهوما على أنه منحصر في نسقه الداخلي ولا شأن له بدنيا الواقع. •••
وإلى جانب هذه الدعوة إلى تحكيم العقل وحده - دون العاطفة - فيما يكون له صلة بالوقائع الخارجية، وصلة بالتقريرات الموضوعية العلمية التي تقال عن تلك الوقائع، تقوم في مجالنا الفلسفي دعوة إلى حرية الفرد، يقيمها صاحبها وهو الدكتور عبد الرحمن بدوي على أساس من الفلسفة الوجودية. فلئن كانت التجريبية العلمية دعوة إلى «الفهم» العقلي الواضح، فإن دعوة الدكتور بدوي هي إلى الإرادة الحرة التي لا تكتفي بمجرد الفهم العقلي، بل تضيف إليه الفاعلية المنتجة النشيطة.
ففي كتابه «الزمان الوجودي»
Bilinmeyen sayfa