الإهداء
الفصل الأول: الترجمة
أولا: الترجمة والمترجمون
ثانيا: الترجمة وثيقة تاريخية أم عمل حضاري؟
ثالثا: الترجمة عمل جماعي
رابعا: الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية
خامسا: دوائر الترجمات
سادسا: الترجمة وثيقة شرعية
سابعا: الترجمة نقل حضاري
ثامنا: الشراح اليونان
تاسعا: الترجمة وروح الحضارة
عاشرا: من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني
حادى عشر: الترجمات اللاطينية والهندية
ثانى عشر: الاحتواء الديني
الفصل الثاني: المصطلح الفلسفي
أولا: الخصوصية اللغوية (العربية واليونانية)
ثانيا: الترجمة والمصطلح
ثالثا: اللغة المتوسطة (السريانية)
رابعا: التعريب والترجمة
خامسا: طرق الترجمة
سادسا: نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره
سابعا: الترجمة ومنطق اللغة
ثامنا: المصطلحات الإسلامية
تاسعا: تدوين المصطلحات
الفصل الثالث: التعليق
أولا: من الترجمة إلى التعليق
ثانيا: وسائل التعليق
ثالثا: طرق التعليق
رابعا: مستويات التعليق
خامسا: مادة التعليق
سادسا: التعليق كنوع أدبي مستقل
سابعا: من التعليق إلى الشرح
الإهداء
الفصل الأول: الترجمة
أولا: الترجمة والمترجمون
ثانيا: الترجمة وثيقة تاريخية أم عمل حضاري؟
ثالثا: الترجمة عمل جماعي
رابعا: الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية
خامسا: دوائر الترجمات
سادسا: الترجمة وثيقة شرعية
سابعا: الترجمة نقل حضاري
ثامنا: الشراح اليونان
تاسعا: الترجمة وروح الحضارة
عاشرا: من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني
حادى عشر: الترجمات اللاطينية والهندية
ثانى عشر: الاحتواء الديني
الفصل الثاني: المصطلح الفلسفي
أولا: الخصوصية اللغوية (العربية واليونانية)
ثانيا: الترجمة والمصطلح
ثالثا: اللغة المتوسطة (السريانية)
رابعا: التعريب والترجمة
خامسا: طرق الترجمة
سادسا: نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره
سابعا: الترجمة ومنطق اللغة
ثامنا: المصطلحات الإسلامية
تاسعا: تدوين المصطلحات
الفصل الثالث: التعليق
أولا: من الترجمة إلى التعليق
ثانيا: وسائل التعليق
ثالثا: طرق التعليق
رابعا: مستويات التعليق
خامسا: مادة التعليق
سادسا: التعليق كنوع أدبي مستقل
سابعا: من التعليق إلى الشرح
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (2) النص
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (2) النص
الترجمة - المصطلح - التعليق
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: الترجمة
أولا: الترجمة والمترجمون
(1) من هم المترجمون؟
هناك فرق بين الحديث عن الترجمة كما يفعل المؤرخون وتحليل النصوص المترجمة كما يفعل العلماء. الموقف الأول «حديث عن» والموقف الثاني «حديث في». الأول من الخارج، والثاني من الداخل.
يذكر البيروني أن اللسان مترجم للسامع عما يريده القائل؛ فالترجمة حفاظ على الفكر في الزمان ونقل له جيلا عن جيل.
1
وتعظيم الأسماء في الهند بالتأنيث وعند العرب بالتصغير. كما يعيب المؤرخون القدماء نوعيات الترجمات والحكم عليها بالجودة أو الرداءة.
2
وعند الشهرزوري أن إحدى روايات سبب ظهور الفلسفة عند المسلمين هو النقل، نقل خالد بن يزيد الديوان من الفارسية إلى العربية، ونقل منصور بن سرجون الديوان في الشام من الرومية، ونقل زمان بني العباس بعد رؤية أرسطو في المنام؛ فالنقل بداية الفلسفة.
3
وعند البيهقي كان المترجمون أقرب إلى الموروث منهم إلى الوافد، ومن الإسلام أكثر منهم إلى النصرانية؛ فحنين بن إسحاق مسلم ثقافة؛ لأنه رفض العظات المسيحية التي لا يجوزها الشرع والعقل؛ فالله منزه عن الصدرة والهيئة.
4
والبغدادي بن مانا بن بهنام عرض عليه الإسلام حتى جاوز المائة، وسمع
أحسب الناس أن يتركوا
فوقف وبكى ورأى الرسول في المنام قائلا: «يا أبا الخير، مثلك مع كمال علمه يقبح أن تنكر نبوتي.» فأسلم على يديه، ثم سمي أبقراط الثاني.
وإذا كان فصل «التاريخ» قد تم عن طريق استعراض كتب التاريخ طوليا بعد تصنيفها في أنواع أدبية، فإن فصل الترجمة قد تمت كتابته عرضيا لمعرفة منطق النقل الحضاري، باستثناء النماذج المترجمة وتحليلها لإعطاء الشواهد التفصيلية على المنطق العام.
ويذكر معظم المؤرخين للحضارات أو للعلوم أو للأعلام أسماء المترجمين وترجماتهم، فيتساءل صاعد هل ترجم ابن المقفع كتب أرسطو المنطقية؟ هل كان يعرف اليونانية؟ ويذكر باقي الأعلام لا فرق بين مترجمين وشراح ومؤلفين أو ترجمات عن اليونان أو فارس أو الهند؛ فالمترجمون كانوا أصحاب مواقف ومذاهب، كما يذكر صاعد المترجمين عن البابلية مثل تنكلوش.
5
وقد لاحظ المؤرخون هذه المراحل المختلفة في التحول من النقل إلى الإبداع، ابتداء من الترجمة حتى الشرح والتأليف. ويصف طاش كبرى زادة هذه المراحل، ابتداء من رغبة الخليفة المأمون ترجمة علوم الأوائل وإلا فالحرب إذا امتنع، وقبول ملك الروم إرسالها إليه لتفتيت المسلمين والشك في دينهم، ثم أتى الفارابي ولخصها وهذبها؛ ونظرا لأنه كان كثير الأسفار تركها غير مجمعة، ثم ألف ابن سينا بينها وجمعها وعرضها.
6
والمترجمون هم نصارى الشام، عرب مزدوجو اللغة والثقافة، تنصروا لقربهم من ديار النصرانية، وعرفوا لغة الأناجيل وهي اليونانية، بالإضافة إلى لغتهم الدينية، لغة الأديرة وهي السريانية، واللغة العربية وهي لغتهم الوطنية. قاموا بنقل الكتب المقدسة والتراث المسيحي من اليونانية، لغة الإنجيل، إلى السريانية، لغتهم الوطنية، وكما قام لوثر بنقل الكتاب المقدس إبان الإصلاح إلى الألمانية لغته القومية، وكما قام المشايخ السبعون بنقل العهد القديم في الإسكندرية إلى لغتهم الوطنية، من العبرية إلى اليونانية في «السبعينية»، وكما قام القديس جيروم بنقله إلى لغته الوطنية، لغة الشعب اللاتينية في «الفولجات». ولاؤهم للثقافة المحلية الموروثة وهي الثقافة العربية، نقلوا إليها الثقافة الوافدة وهي اليونانية عبر السريانية لشئون العبادة، فلما جاء الفتح، وأصبح للعرب دولة وسيادة، واستقلوا عن الفرس شرقا والروم غربا، عبر الدين الجديد الذي مكنهم في الأرض واستعمرهم فيها، خرج نصارى الشام من عزلتهم وانضموا إلى مجموعة عرب الشام، وخرج الرهبان عن صمتهم انتماء لمجموع العرب، بعد أن حرر العرب القادمون من الجنوب عرب الشمال من اضطهاد الرومان، ورغبة من العرب الفاتحين في التعرف على ثقافة عرب الشمال، خاصة وأن الدين الجديد يدعو إلى العلم والتعرف على ثقافات الشعوب، ورغبة من نصارى الشام بتقديم أنفس ما لديهم من ثقافة لإخوتهم الفاتحين من الجنوب المحررين للشمال. لم يكن نصارى الشام من اليونان أو الروم، بل كانوا عربا آمنوا بدين نشأ في بلاد العرب، وعرفوا لغة هذا الدين، اليونانية، ونقلوا الإنجيل إلى لغتهم السريانية إحدى اللهجات العربية، كما أن الآرامية إحدى اللهجات العبرية. وبعد نمو الروح الوطني بعد الفتح وانضمام عرب الجنوب إلى عرب الشمال، ظهر ولاء الشام للعروبة لغة وثقافة، كما بلور الإسلام عروبة الجنوب في دولة عربية موحدة، بلغة عربية موحدة. التقى الجنوب مع الشمال على العروبة لغة وثقافة، فقدم نصارى الشام ما لديهم من لغة وثقافة لخدمة عرب الجنوب لغة وثقافة، فنشأت حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية عبر السريانية أولا بواسطة نصارى الشام، الذين كانوا قد ترجموا من قبل بعض تراثهم الديني إلى السريانية ثم من اليونانية إلى العربية مباشرة تفاديا لأخطاء النقل المزدوج. وكان ولاء نصارى الشام للعروبة لغة وثقافة وليس لليونان أو الرومان لغة وثقافة. ولم ينشأ لديهم صراع ديني؛ فالإسلام ينهل من نفس النبع الذي خرجت منه النصرانية، دين إبراهيم، مؤسس الحنيفية السمحة، الدين الطبيعي الذي تلتقي عليه كل ديانات الوحي. والإسلام تأكيد للرسالات السماوية السابقة، اليهودية والمسيحية اللتين عرفهما العرب وآمن البعض بهما. اليهودية والمسيحية والإسلام مراحل متتالية لوحي واحد، وقد دعا الأنبياء جميعا منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى محمد إلى رسالة واحدة، رسالة التوحيد، بالإيمان والعمل الصالح؛ ومن ثم قدموا ما لديهم من إمكانيات لغوية وثقافية للإخوة الجدد، تحديثا لهم ومساعدة لهم على فهم الدين الجديد، والتعرف على ثقافات الأمم المجاورة وفلسفة العصر. كان ولاؤهم للداخل وليس للخارج، أعطوا ما لديهم كعلوم وسائل وليس كعلوم غايات، وأبقوا على علوم العرب الجديدة كعلوم غايات لا كعلوم وسائل.
المترجمون في النهاية عرب نصارى، سريان الشام عرب وليسوا أجانب، نصارى من أهل الكتاب الذين بينهم وبين المسلمين مودة ورحمة. عاشوا في الأراضي المفتوحة في كنف الحكم الإسلامي، وفي حضارة تعترف بقيمة العلم وحرية الفكر. وجدوا كل رعاية من الخلفاء، وكل احترام لعقيدتهم؛ فالذين قاموا بالترجمة من الداخل وليسوا من الخارج، وطنيون وليسوا أجانب. كانوا عربا ذوي ثقافتين، يدينون بالولاء لنصرانيتهم كدين ولعروبتهم كلغة، وهنا تأتي أهمية أصحاب الثقافتين في إثراء الحضارة وإغناء الأمة. نقلوا ثقافات الأمم المجاورة إلى داخل العالم الإسلامي، الذي يعيشون فيه مع إخوتهم العرب المسلمين، ولم يذهبوا إلى روما أو إلى القسطنطينية، كما يفعل نصارى العرب اليوم في العيش في عواصم الغرب، وعملوا كفريق، يؤدي كل منهم دوره في النص؛ إحساسا بالمسئولية، وتحقيقا للرسالة الثقافية.
أصبح السريان بعد الفتح الإسلامي جزءا من الأمة، فنقلوا ثقافتهم السريانية بما
ثقافة الغير اليونانية بل تطوير ثقافة الأنا الحضاري العربي العام، عبر الثقافات السريانية المحلية المتوسطة؛ لم يكن الهدف نشر ثقافة الغير في ثقافة الأنا، وتغريب ثقافة الأنا في ثقافة الغير، في بيئة تسمح بالحرية الثقافية وتحترم ثقافات الشعوب. ولم تذب الثقافة السريانية في الثقافة العربية بعد الفتح، كما ذابت ثقافة الفرس الذين اندمجوا على طريق الدين. ظل السريان محتفظين بنظمهم التعليمية بعد الإسلام، ولم يتصلوا بالثقافة العربية باستثناء حنين بن إسحاق، الذي تلقى العربية على يد الخليل بن أحمد. بالرغم من أن الشراح كانوا نصارى دينا وعربا لغة، إلا أنهم كانوا مسلمين حضارة وثقافة، كما كانوا مسلمين بواقع نصرانيتهم؛ فكل الرسالات السماوية قبل الإسلام، إنما كانت تبليغا لرسالة الإسلام في صور مختلفة، فكان الأنبياء جميعا مسلمين.
كان مدار السريان تاريخ الثقافة السريانية المختلف عن تاريخ الثقافة العربية؛ فقد اعتنى الأدب السرياني في جميع عصوره بالترجمة عن اليونانية منذ العصر الوثني. واستمرت الترجمة في العصر المسيحي في بلاد ما بين النهرين لنشر الدين الجديد، فترجمت الأناجيل الأربعة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي. وعند البعض الآخر تمت ترجمة العهد الجديد منذ أواخر القرن الأول؛ فالنظريات المتحررة تأخذ بالتاريخ المتأخر، والنظريات المحافظة تأخذ بالتاريخ المبكر، كما هو الحال في تاريخ كتابة الأناجيل. وكان السريان حتى القرن السابع يستكملون ترجمة الكتاب المقدس ويراجعونه؛ توخيا لمزيد من الدقة، وأضافوا إليه كثيرا من شروح آباء الكنيسة اليونانية وشيئا من خطبهم ومواعظهم. وكانت الفرقة المسيحية منهم قد استعانت بالفلسفة اليونانية من قبل وبخاصة منطق أرسطو، فنقلوا هذه الكتب إلى لغتهم، وألفوا لها الشروح والمسائل.
7
كان التعليم الديني إذن هو العامل الأول في ارتقاء اللغة، ونشأة المصطلحات، وتحسين الأسلوب، وإبداع التراكيب. كان لكل مترجم ثقافة، فكانت الثقافة السريانية ثقافة المترجم السرياني، وكان الأدب السرياني قد تفرع عن الأدب الفلسطيني الديني ومطعما باليونانية، قد تنقصه الأصالة؛ لأن السريان لم يكونوا أمة ذات مشروع حضاري كاليونان أو العرب أو الفرس. كان الشعر السرياني كنسيا خالصا، نماذج من الشعر البيزنطي، أبدع ملحمة واحدة، وتنقصه القصة، باستثناء قصة مترجمة عن الهندية في ثوب مسيحي، لم يجد العرب إلا نماذج سلامان وأبسال في حي بن يقظان. كما غاب عنه الشعر التمثيلي؛ فالتمثيل لا يتفق مع الدين، ويستوجب حنق الله والروح القدس عند صنع وجه الإنسان. أما شعر الملاحم فلم يتم تقديره حق قدره؛ فهوميروس هو أحد شعراء العرب يمدح ويهجو. الشعر جزء من المنطق، أما الفلسفة فكانت لها غاية خاصة لامتزاجها بالدين. وكان الطب محط تقدير خاص لنفعه في الدنيا، وهو ما تبناه الموقف الحضاري الإسلامي بعد ذلك.
ولقد وصف الاستشراق المترجمين بأنهم عرب غير مسلمين؛ لأنهم قوميون طائفيون، دون الإشارة إلى انتسابهم إلى العروبة لغة، وإلى النصرانية دينا، وإلى الإسلام ثقافة، دون أن يكون هناك تعارض بين اللغة والدين والثقافة، ثلاث دوائر متداخلة في الوعي العربي.
وكان للمترجمين أسماء يونانية نقلت من السرياني إلى اليوناني، اعتزازا بالمسيحية مثل أتانس، ثاوفيل، باسيل. وكانت لهم أيضا أسماء عربية نقلت من السريانية إلى العربية، مثل يحيى بن عدي، حنين بن إسحاق، إسحاق بن حنين؛ فكلما كانوا مزدوجي الثقافة، يونانية وعربية، كانوا مزدوجي الأسماء، اليونانية حفاظا على الدين، والعربية حفاظا على العروبة؛ ومن ثم التقوا مع إخوتهم عرب الجنوب على العروبة وإن لم يلتقوا على الدين.
لم تكن اليونان جزيرة منعزلة عن الحضارات القديمة، بل كانت في علاقات متبادلة، بابل وكنعان شرقا وفارس والهند ومصر جنوبا؛ لذلك تظهر ألفاظ الهند وفارس ومصر في نصوص أرسطو. لم يدع اليونان أنفسهم معجزة يونانية، بل هي من خلق الغرب الحديث، النموذج الآري في مقابل النموذج السامي.
8
وكان المترجمون خارج اليونان في الشام مثل ديسقوريدس، وفي مصر مثل الإسكندرانيين.
وتكشف مقدمة كتاب ديسقوريدس عن تطور العلم والانتقال من القدماء إلى المحدثين، وضرورة جمع السمع بالعيان، والنقل بالتجربة. وهي نفس السنة التي سار عليها الأطباء العرب يونانا وسريانا ومسلمين ويهودا ونصارى.
9
ترجم مهران بن منصور كتاب الحشائش لديسقوريدس من السريانية إلى العربية. ويذكر المترجم في المقدمة جالينوس فاضل الأطباء، وحنين الفاضل الربان الذي نقل كتاب الحشائش لديسقوريدس من اليونانية إلى السريانية لرئيس الأطباء بختيشوع بن جبريل، ثم نقله المترجم من السريانية إلى العربية، وكان أحد أقرباء الأمير قد طلب نقل الكتاب. وكانت ترجمة ابن سالم الملطي قليلة الفصاحة، ولا وضوح للألفاظ العربية حتى لا تفيد أضدادها؛ لأن نقل اللغات يقتضي تغير العبارات والحركات، والتقديم والتأخير، والإضافة والحذف، فقام مهران بن منصور بترجمته من جديد.
10 (2) دوافع الترجمة
ليست القضية إذن نقل التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي؛ فهذا تصور غير مطابق لطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث عندما تلتقي حضارتان: حضارة ناشئة مثل الحضارة الإسلامية، وحضارة وافدة مثل الحضارة اليونانية؛ هذا التصور يجعل الحضارة اليونانية هي الأصل، والحضارة الإسلامية هي التابع، مثل علاقة المركز بالمحيط، وهو تصور غير صحيح؛ فالحضارة الإسلامية هي الأصل، هي المتلقي، والحضارة الوافدة هي الفرع، الموروث هو المركز والوافد هو المحيط. كما أنه يجعل الغاية من نقل الأصل هو المحافظة عليه بلا تغيير أو تبديل، وكأنه جوهر لا تاريخي، لا يتبدل أو يتغير، لم ينشأ في الأصل كتاريخ، ولم ينقل بعد ذلك كتاريخ، ولم يحدث تفاعل بينه وبين البيئة الجديدة التي نقل إليها إلا كما يأتي الرجل الأبيض في مناطق مكتشفة، لا سكان فيه ولا أصحاب، لا ثقافة ولا دور، لا موروث فيها ولا فكر، وإن دورها يقتصر على مجرد النقل دون الإبداع، التلقي دون العطاء، الاستهلاك دون الإنتاج، ثم تقوم بدورها بنقله للآخرين كجوهرة ثمينة تم حفظها بلا ضياع، وكل تغيير أو تبديل فيها ضد مهمة النقل الأمين، والحفظ المصون، سوء فهم وتفسير وخلط. وهذا ما تم عندما بدأ نقل آخر من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الأوروبية في نهاية العصر الوسيط، من العربية إلى اللاتينية، مباشرة أو عبر العبرية، فاكتشفوا أن الناقل، وهو الحضارة الإسلامية، لم يكن أمينا، أضاف وحذف، أول وفسر، استخدم لصالحه، خلط بين أفلاطون وأرسطو، ونسب إلى أرسطو جزءا من تاسوعات أفلوطين، واعتمد على المنحول، فلما جاءت العصور الحديثة في الغرب، اكتشفت ذلك كله وقامت بالتصحيح، ورفضت هذا النقل، وعادت إلى الأصل اليوناني تعيد نشره وتحقيقه كي تنهل منه من جديد، وكأن الحضارة الأوروبية الحديثة في الفلسفة والفن والأدب لم تتمثل ولم تفسر ولم تؤول كما فعلت الحضارة الإسلامية، وكأن النقل عن المسلمين لم يكن له أدنى دور في نشأة التيارات العقلانية العلمية في العصر الوسيط المتأخر وبداية النهضة الأوروبية الحديثة.
البحث إذن عن «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية» خطأ في الوعي بالموقف الحضاري؛ فليس المطلوب هو معرفة انتقال التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي، انتقالا للمركز إلى الطرف، ومن الأصل إلى الفرع، كما يفعل المستشرقون وأتباعهم من الباحثين العرب، بل تمثل الحضارة الإسلامية للتراث اليوناني، تمثل المركز الإسلامي للطرف اليوناني.
11
وبالتالي كانت العناوين مثل «أرسطو عند العرب»، «أفلوطين عند العرب»، «الأفلاطونية المحدثة عند العرب» توحي بأن الأصل هو الوافد والفرع هو الموروث، والأصل هو الذي يجب المحافظة عليه في الفرع، وهو وضع مغلوط؛ فالأصل هو الموروث والفرع هو الوافد. ليس العرب أي المسلمون مجرد نقلة مستقبلين، بل النقل لديهم نقل الأطراف إلى المركز، الطرف اليوناني إلى القلب الإسلامي وليس إشعاع المركز اليوناني في الأطراف الإسلامية. أرسطو وأفلاطون وأفلوطين هم أقرب إلى المنبه، والترجمة والتمثيل والاحتواء ثم التأليف والإبداع هي الاستجابة.
12
والدوافع على الترجمة ليست نقل النص المترجم، بل إثراء الثقافة المترجم إليها نظرا للاتفاق النسبي بين الرؤيتين؛ فقد أقام أرسطو طبيعته على مبدأين: الأول أن الطبيعة لا تصنع شيئا عبثا، بل دائما تفعل من أجل غاية، وهو ما يتفق مع وصف الطبيعيات في القرآن
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ، والثاني أن الوظيفة تخلق العضو وليس العكس، والنظرة الوظيفية أيضا تعبر عن روح القرآن في عدة آيات
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ،
13
الطبيعة واسعة الحيلة، محدثة النظام ، صانعة فاعلة، لها قصد وغاية تريدها وتنظر إليها، وهي غاية باطنة، وتعني الأجزاء الأعضاء، وتقوم علاقاتها على التشابه وعدم التشابه، والوصف من أعلى إلى أدنى، من الأكثر كمالا إلى الأقل كمالا، ومن الأقل نقصا إلى الأكثر نقصا طبقا للتطور الرأسي للعالم، الفيض الطبيعي، فإذا ما اصطدم هذا التصور بالنص المترجم، تم تعديل الترجمة وتصبح تأليفا غير مباشر، فإذا قال أرسطو بامتياز الإنسان على سائر الحيوانات بالرغم الشركة بينهما فيما هو إلهي تصرف المترجم؛ فالإنسان لا يشارك الحيوان فيما هو إلهي، وأسقط الشركة مع الله لاعتبارات الوحيد.
لم يكن الدافع على النقل دافعا نظريا خالصا، مجرد حب الاستطلاع والتعرف على ثقافات الشعوب المغلوبة، بل كان أولا دافعا عمليا لنقل علوم الطب لمداواة الجند في مجتمع الفتح، وعلوم الكيمياء لصناعة السلاح في مجتمع الشريعة الجديدة. ولقد استطاع الشراح المسلمون فهم هذا الفكر، وهم أصحاب الدين والعقيدة، وهم أميون مسبقا وليس لهم رصيد سابق، كشفوا عن ولع بالحضارة واحترام لفكر الآخرين، بالرغم من خطورة الغزو الثقافي الطبيعي أثناء انتشار الحضارات. (3) المترجمون مؤلفون
وقد بدأت الترجمة في النصف الثاني من القرن الهجري، وبلغت الذروة في القرن الثالث، عصر كبار المترجمين، واستمرت حتى القرن الرابع ولم تتوقف حتى السادس والسابع، ثم تحولت حركة الترجمة إلى حركة شرح وتلخيص في القرنين الخامس والسادس، بل وحتى السابع. كانت الترجمة إذن مواكبة لحركة التأليف، تمدها بالوافد الجديد، وبالمادة الخصبة حتى يزدهر التأليف بدم جديد.
14
ولم يكن المترجمون مجرد نقلة بل كانوا معلقين وشراحا وملخصين. وكانوا مؤلفين لهم إبداعاتهم الخاصة، وكانوا يتتلمذون على الفلاسفة، ينقلون عنهم ولا يتتلمذ الفلاسفة عليهم ينقلون منهم؛ كانت لهم مذاهبهم التي ينتسبون إليها.
15
وكان الشرح أحيانا يسبق الترجمة، وكان الشارح أستاذا للمترجم، والمترجم يتعلم من الشارح؛ فالمعنى يسبق اللفظ، والفكر يسبق النقل؛ هذه كانت صورتهم داخل الحضارة الإسلامية، بدليل الرد عليهم وتفنيد آرائهم. كان السريان مؤلفين كما كانوا مترجمين، وكما حدث لأبي نصر وباقي الفلاسفة المسلمين.
16
لم يكن النقل منذ البداية مستقلا عن الإبداع ، بل كان كلاهما حركتين متوازيتين، لم يبدأ النقل أولا ثم الإبداع ثانيا كمرحلتين آليتين، تتلو إحداهما الأخرى، بل كان النقل منذ البداية إبداع عن طريق نشأة المصطلح الفلسفي والتعليق والشرح والتلخيص الذي يقوم به المترجمون، كما كان النقلة يتعاملون مع المبدعين،
17
وكانوا هم أنفسهم مبدعين، لهم مؤلفاتهم الإبداعية بالإضافة إلى ترجماتهم، ثم استمر النقل حتى تتلمذ النقلة على أيدي المبدعين، بعد أن فاق الإبداع النقل وتجاوزه؛
18
ومن ثم يمكن التمييز بين ثلاث مراحل متداخلة: الأولى أولوية النقل على الإبداع، عندما كان النقل هو الأساس، وكان نقل المصطلح الفلسفي والتعليق والشرح والتلخيص هي نواحي الإبداع القائمة على النقل (حنين). والثانية توازي النقل والإبداع عندما كان المترجمون يؤلفون تأليفا مستقلا، ويبدءون حركة التأليف قبل ظهور المؤلفين الخلص (الكندي). والثالثة أولوية الإبداع على النقل، عندما كثر التأليف على يد مؤلفين غير ناقلين، وكان النقل ملحقا بالإبداع وأحد روافده، فكان التأليف هو الأصل والنقل هو الفرع (ابن سينا).
لم يكن المترجمون مترجمين وشراحا فحسب، بل كانوا أيضا مؤلفين؛ فلا يوجد فصل بين الترجمة والشرح والتأليف، بل هو عمل حضاري واحد متصل،
19
بل كان بعض المترجمين مؤلفين أكثر منهم مترجمين، وكانوا علماء أكثر منهم نقلة، كما هو الحال عند قسطا بن لوقا البعلبكي (220-300ه).
20
ولا يعرض اليونان إلا في رسالتين من ثلاث وعشرين رسالة؛
21
لذلك دخلت مؤلفات المترجمين كأول محاولة في التأليف لتمثل الوافد.
22
وكما كان للمترجمين أعمالهم الإبداعية الخالصة، كان للحكماء المبدعين ترجماتهم؛ فالفصل بين المترجم وبين المؤلف وبين الناقل والمبدع فصل لا وجود له؛ فكما أن يحيى بن عدي وثابت بن قرة وأبو بشر متى بن يونس لهم مؤلفاتهم الإبداعية بالإضافة إلى ترجماتهم، كذلك الكندي له ترجماته المنسوبة إليه، والفارابي له مساهمته في الترجمة بقدر ما له من إبداع؛ فقد شارك في أعمال النسخ والترجمة.
23
كان يحيى النحوي معاصرا للفارابي ودخلا معا في حوار وردود، ولحنين بن إسحاق في موضوع «السماء والعالم» لأرسطو المسائل الست عشرة؛ فالمترجمون شراح، ولا يوجد فصل بين الترجمة والشرح ، ولا فرق بين المترجم والشارح؛ لا فرق بين الشارح المترجم، والشارح المؤلف. وكان المترجمون يشرحون بطريقة ابن رشد في التفسير الكبير، النص أولا ثم التفسير ثانيا، وذكر أرسطو جزئيا في ثنايا الشرح.
24
هذه الترجمات لا تمثل فلسفة كاملة، بل بداية الفكر الفلسفي، نشوء التفلسف وبزوغه، تفكير الذات على تفكير الآخر، هدفها التعرف على إنتاج الآخر، والتعلم منه، مادة للعلم، كراسة فصل. أما العلم فإنه ما تبدعه الذات بعد ذلك في مرحلة الخلق المستقل على مستوى الآخر، وتعبيرا عن منظور أشمل يعبر عن الموروث بلغة الوافد.
ثانيا: الترجمة وثيقة تاريخية أم عمل حضاري؟
(1) هل الترجمة نظرية في المطابقة؟
ليس النص وثيقة تاريخية يتم الحفاظ عليها طبق الأصل بلا زيادة أو نقصان فهذا نص القرآن. أما النص الحضاري فهو عمل مشترك بين المؤلف والناقل والقارئ والمعلق والشارح، حتى يتم الاستغناء عنه كليا بعد استنفاذ أغراضه، قضمه ومضغه وابتلاعه وهضمه وتمثله وإخراجه. لا يهم النص المنقول كوثيقة تاريخية، بل الذي يهم هو كل تعليق زيادة أو نقصانا، سواء بالنسبة للنص اليوناني أو النص السرياني، سواء كان من المترجم الثاني أو الثالث أو الرابع أو حتى من الناسخ الأول أو الثاني، أو كان من صاحب المخطوط أو قارئه. النص سجل يكشف عن الموقف الحضاري الشامل، الذي يكون النص مجرد حامل له، والزيادة التي يعطيها الناشر الحديث على النص العربي القديم الذي حذفها، إنما هو تشويه للنص القديم كعمل حضاري وليس دقة علمية. تاريخيا النص اليوناني هو الأصل والنص العربي هو الفرع، وحضاريا النص العربي هو الأصل والنص اليوناني أو السرياني هو الفرع.
1
لا يهم في الترجمة ونشرها دقة معرفة العرب بالتراث اليوناني والعناية التي أحاطوا بها هذه النصوص؛ بحيث تكون لديهم أدق صورة عن الأصل. ليس نقل الأصل هو الغاية بل تمثله واحتواؤه، وتحويله إلى حامل حضاري لعمليات إبداعية تالية.
2
ليس الهدف من نشر الترجمات العربية القديمة هو إظهار إمكانيات الناشر اللغوية كما يفعل الاستشراق، بل بناء الموقف الحضاري كما يفعل الباحث الوطني . وإن ترقيم صفحات النص العربي القديم طبقا لنشرة بيكر الحديثة للنص اليوناني، هو جعل النص اليوناني هو الأصل، حتى ولو كان النص والترقيم المعتمدين؛
3
فليست الغاية إعادة نص أرسطو كتاريخ، بل إبراز النص العربي كحضارة. كما أن الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية الحديثة لنص أرسطو هي مجرد ترجمات تاريخية طبق الأصل، وليست عمليات حضارية لنقل النص، وتمثله من أجل إبداع لاحق.
4
وإذا كان الأمر مباراة في المعرفة بالترجمات الحديثة، فأين الترجمات الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والروسية والهندية والصينية واليابانية والعبرية، ومدى مطابقتها للأصل اليوناني؟ هذا هو تصور الاستشراق لصلة الأصل اليوناني بالفرع البربري، صلة المركز بالأطراف. وإن تقسيم النص إلى فصول وعناوين طبقا للعناوين الحديثة المقترحة، هو تبعية للنص اليوناني الحديث وللعناوين الحديثة، في حين أن العناوين العربية القديمة أكثر دلالة من حيث تعبير العنوان عن المعنى؛
5
لذلك لم ندخل في دقيقات الاستشراق العلمية، بالرغم من الاستفادة منها، لا ندعي علما فوق علمهم، بل فهما للموقف الحضاري الذي لا يعيشونه.
6
كان نشر الترجمات العربية القديمة يمثل بداية مشروع فلسفي معاصر، وذلك لمعرفة كيفية الانتقال من النقل إلى الإبداع ووصف العمليات الحضارية التي وراء هذا الانتقال، ولكن تم حصر هذه الترجمة كما يفعل المستشرقون، وكأنها غاية في ذاتها، مادة خام في دراسة أو تعليق، إلا على الترجمات القديمة كوثائق تاريخية.
7
ليس الباحث الوطني مستشرقا، بل هو محلل لإحدى تجاربه الماضية في النقل من التراث اليوناني؛ من أجل قراءة تجربته الحالية من التراث الغربي. وعندما يجعل الناشر العربي من نفسه مستشرقا، فإما أن لديه إحساسا بالنقص ورغبة في المساواة بينه وبينهم، وإما أنه ينظر نظرة دونية للتراث الإسلامي باعتباره خليطا من النصوص المترجمة تحتاج إلى فحص وتمحيص؛ وبالتالي يكون نشر العنوان العربي من باحث عربي لنص عربي باللاتينية تقليدا أعمى للمستشرقين أو زهوا، خاصة إذا كان اسم الناشر بالبنط الثقيل والكبير، أكثر من اسم أرسطو ومن عنوان النص.
8
وبالرغم من نشر معظم الترجمات العربية القديمة من قبل في المجلات العربية والأجنبية المتخصصة ، إلا أن مجرد تجميعها وإعادة نشرها وجعلها ميسورة للقارئ العربي خدمة جليلة، ولولاه لما أمكن قراءتها من جيل ثان لمعرفة دلالتها الحضارية.
9
بل إن الاختلافات بين النساخ في الخطوط وأنواعها، قد تساعد في الكشف على قيمة المخطوط، ولكنها تدل على حرفية النسخ وممارسته كعبادة؛
10
وبالتالي فإن نقل النص من التاريخ إلى الحضارة، ومن النقل إلى الإبداع لا يعني التخلي عن الدقلة العلمية، بل يعني رفض تصور أن النقل هو مطابقة الأصل للترجمة؛ فهذا مستحيل ذهنيا وحضاريا، فرديا واجتماعيا. ومع ذلك يظهر التعليق في الهامش بعض الأخطاء التاريخية، مثل نسبة الأقوال إلى أصحابها، سواء كانوا حقيقيين تاريخيا أم حضاريا.
11
ولا يهم خطأ الترجمة العربية أو صوابها أو عدم إلفها؛ فلا يوجد مقياس موضوعي لذلك، هناك فقط الدلالات الحضارية للنص الجديد؛ فالنقل يحتوي في داخله على إبداع.
12
هل يجوز إذن إصلاح الاضطراب في المخطوط؟ ولم لا يكون هذا الاضطراب مقصودا نتيجة للعمل الحضاري في النص؟
13
لا توجد أخطاء في الترجمة بل نقل حضاري لها،
14
وقد يكون الخطأ أكثر دلالة على العمل الحضاري من الصواب. الترجمة الحرفية حتى ولو كانت خاطئة إلا أنها تدل على الحرص على الحفظ؛ فمثلا لفظ
«محب التفاح» حرفيا، وغناء البلبل معنويا. الأول صحيح لغويا غير دال معنويا، والثاني خطأ لغويا ودال معنويا.
15
ولا يوجد أي اضطراب في الترجمة العربية القديمة، بل توجد محاولة للتحرر من اللفظ لرؤية المعنى؛ لا توجد ترجمة عربية مضطربة، بل هناك بحث عن المعاني لتجاوز اللفظ.
16
لا يوجد فهم مألوف للنص؛ أي فهم حرفي موضوعي له بل تأويل حضاري له؛ لا يوجد فهم للنص صواب أم خطأ بل تأكيد قراءة له، دفاعا عن الأنا في مواجهة الآخر؛ لا يوجد معنى موضوعي للنص بل معنى مقروء فيه من الحاضر إلى الماضي، رؤية الأنا للآخر. لا يهم معنى النص الخاص فذاك لا يعلمه أحد ولا حتى مؤلفه، بل النص كحامل حضاري أعم وأشمل، وكدلالة على موقف حضاري يبين قراءة الأنا للآخر، وإعادة إنتاج نصه، ولا يقدر ذلك إلا من لديه تجربة مماثلة لقراءة الأنا لنصوص الآخر.
17
لا يهم معاني القواميس للألفاظ والمصطلحات؛ أي المعاني اللفظية والتاريخية، بل ما يهم هي المعاني الحضارية التي قد لا تكون في اللغة المترجم فيها، بل في اللغة المترجم إليها؛ فالمعنى للاستعمال الحالي، ولا يوجد في القاموس إلا المعاني الحرفية والتاريخية.
إن أهمية نشر الترجمات العربية القديمة للنصوص اليونانية، خاصة أعمال أرسطو، ورصد الاختلافات بينها، ليس فقط تحري الدقة العلمية، بل جعل النص تاريخا للحضارة وحاملا لمواقفها؛ من أجل إعطاء القارئ امكانية بناء المعنى من الترجمات المختلفة؛
18
فلا توجد ترجمة مثالية واحدة صحيحة يمكن استنباطها وجمعها واستقراؤها من عدة ترجمات؛ هذه الترجمة مجرد افتراض لا وجود له، الهدف منه إيجاد ترجمة مطابقة للأصل اليوناني، وتصحيح خلط الأطراف إلى بالعودة الأصل في المركز. إن كل ترجمة على حدة لها وجود مستقل بذاته تعبر عن رؤية المترجم، ونشأة المصطلح الفلسفي وبداية التفلسف والبحث عن المعنى؛ كل ترجمة كائن حي، شخص معنوي، ولا يمكن من مجموع الأشخاص الحية استنباط شخص مجرد عام لا وجود له. إنها عمليات حضارية تكشف عن إبداعات مستقلة للمترجمين كبدايات للإبداعات الفلسفية الخالصة، لا يمكن إسقاطها أو تجريدها من أجل البحث عن النقل الأصلي، الذي لم يعد له وجود نصي في ذهن المترجمين باعتبارهم مبدعين.
ويرد مرجليوث الخلاف بين الترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر والنص اليوناني إلى خطأ المترجم العربي أو السرياني، وأحيانا يرده إلى فساد النص اليوناني الذي نقلت منه الترجمة السريانية؛ فالترجمة لديه نسخة طبق الأصل في النص المترجم،
19
والحقيقة أن السبب لا هذا ولا ذاك، بل طبيعة الموقف الحضاري للمترجم. ويقف مرجليوث أمام كل كلمة عربية ليلاحظ انحرافها عن النص اليوناني. والانحراف حكم قيمة يقوم على أن النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هي الفرع، وهو قلب للموقف الحضاري، وقد يخلط مترجم آخر، ويضع كتاب الشعر ضمن العلوم النقلية عند المسلمين.
20
وقد يقصد بالنقلية الوافد وليس العلوم النقلية بالمعنى الاصطلاحي وهي القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. يظن المستشرق وغيره من التابعين العرب أن الترجمات العربية القديمة هي ترجمات مطابقة للأصل اليوناني، وأن قيمتها كلما كانت مطابقة له؛ فالترجمة وثيقة تاريخية. وهي نظرة استشراقية تاريخية تكشف عن لا وعي حضاري. العكس هو الصحيح؛ كلما كانت الترجمة العربية مختلفة عن النص اليوناني كان العمل الحضاري فيها أوضح. ليس المقياس هو النقل طبق الأصل، وهو مستحيل في النقل، بل الإبداع أي القراءة؛ فكل ترجمة قراءة. (2) ما الأصل وما الفرع؟
لا تبدأ دراسة الترجمة من النص اليوناني إلى الترجمة العربية، ومن أرسطو إلى العرب في تصور شعوري أو لا شعوري لعلاقة الأصل بالفرع، وعلاقة الآخر بالأنا. هذا هو الظاهر أما الواقع فالعكس تماما هو الصحيح، الترجمة العربية هي الأصل والنص اليوناني هو الفرع، العرب هم الأول وأرسطو هو الثاني. الأنا تبدأ والآخر يأتي فيما بعد؛
21
فالترجمة العربية حامل لموقف حضاري نواته الأولى النص اليوناني، ولكنه ليس نسخة مطابقة له، يمكن نشر الترجمة العربية القديمة ومقارنته بالنص اليوناني القديم ليس بهدف المقارنة، مقارنة الفرع العربي بالأصل اليوناني بمنطق المطابقة، بل لوصف طبيعة العمليات الحضارية التي تتم من خلال الترجمة، زيادة ونقصا أو فهما وتأويلا أو كيفية نشأة المصطلحات.
ليس الاتفاق والاختلاف مع النص اليوناني بدال على الترجمة، مطابقة الفرع بالأصل، وإكمال الفرع بما نقص فيه من الأصل، وحذف من الفرع ما زاد عليه بالنسبة إلى الأصل؛ فليس النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هو الفرع بل العكس، النص اليوناني هو الفرع والترجمة العربية هو الأصل. التصور الأول يجعل الترجمة بالضرورة نسخة طبق الأصل من النص الأصلي، في حين أن التصور الثاني يجعل الترجمة تعليقا وشرحا وتأليفا غير مباشر. النص اليوناني هو نقطة البداية فقط وليس نقطة النهاية، في حين أن النص العربي هو نقطة النهاية، الأصل اليوناني وسيلة والترجمة العربية غاية. إذن لا يجوز إكمال الترجمة العربية إذا كانت ناقصة من الأصل اليوناني، ولا يجوز حذف نص من الترجمة العربية إن لم يكن موجودا في الأصل اليوناني؛ فالنص المحذوف أو المضاف له دلالة حضارية؛ الحذف تلخيص، والإضافة شرح. ليس النص اليوناني أو النص العربي وثيقة تاريخية طبق الأصل؛ فهذا تصور وضعي تاريخي للنص. النص اليوناني مجرد حامل لدلالة حضارية والنص العربي هو المحمول، بل كلما كان النصان متفقين غابت الدلالة الحضارية، وكلما اختلف النص العربي عن النص اليوناني حضرت الدلالة. ليست الدلالة في حالة الاتفاق مع النص اليوناني بل في حالة الاختلاف معه، في حالة الاتفاق يغيب الإشكال الحضاري، وفي حالة الاختلاف تظهر الدلالة، وكلما كان الخلاف أعظم كانت الدلالة أوضح. ليست مهمتنا تقويم النص اليوناني بالرجوع إلى مخطوط يوناني قديم أقدم من الذي لدينا الآن، الذي يرجع إلى القرن الحادي عشر أو العاشر بينما ترجع الحديثة إلى القرون الرابع عشر والسادس عشر، ومملوءة بانحرافات عن المخطوط الأولي؛ فتلك مهمة المستشرق الذي يجعل النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هو الفرع. كما أن إنقاذ فقرة طويلة ضاعت من المخطوطات اليونانية القديمة أيضا مهمة المستشرق. كان الهدف من نشر المستشرقين للترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر، هو التعرف على النص اليوناني وليس النص العربي؛
22
فاليونان هم الأصل والعرب هم الفرع. وكان الهدف أيضا تعريف الغرب بصورة كتاب الشعر عند الشرقيين وأثره في شعرهم أو عدم فهمهم له. وكلا الفرضين أوروبيان: إفادة الأنا الأوروبي وإبداعه، الأنا اليوناني وإنكار قدرة الآخر على الفهم ثم على الإبداع.
لا يهم ابتعاد الترجمات العربية القديمة عن الأصل اليوناني أو قربها منه؛ فهي بداية الشرح والتلخيص.
23
الترجمة تفسير وتأويل، مراحل متعاقبة لا فصل بينها، هذا تصور المحدثين للترجمة من اليونانية إلى الإنجليزية دون موقف حضاري وتحت تأثير الوضعية اللغوية العربية في القرن التاسع عشر، لم تخطئ الترجمة السريانية لأنها قامت بنفس المهمة في النقل الحضاري من الوافد اليوناني إلى الموروث السرياني كما قام بها الناقل العربي، ولا عيب في أن تختلف الترجمات، فالمصطلحات ما زالت تتخلق، ولها دلالة على الفهم، فالبرهان تعليم، والخطابة امتحان، والسفسطة مرائية وهو لفظ قرآني، ولا يوجد خطأ وصواب بين المترجمين بل درجات مختلفة في فهم النص ، وإحساسات متفاوتة بدرجات عمقه، وطبقا لثقافة المترجم الفلسفية ومعرفته بالمصطلحات وقدراته اللغوية، وكلها تدور حول بؤرة واحدة «مجانبة الرأي المشهور». لا يوجد خطأ وصواب في الترجمة؛ لأن كل ترجمة نقل حضاري. ليست الترجمة فرعا على الأصل اليوناني، بل الأصل اليوناني فرع على الترجمة. والمهم في الترجمة المعنى وليس اللفظ. والترجمة الحديثة خارج الموقف الحضاري القديم.
24
ولا يهم الخلاف بين الترجمات ما دام لا يؤثر في القصد الحضاري. ليست الترجمة نقلا حرفيا بل تأويل وقراءة. وليس المهم إذا كان الشراح أقرب إلى النص اليوناني أم لا؛ فليست المطابقة هي المقياس، بل كلما ابتعد كان أبعد عن النقل وأقرب إلى الإبداع.
25
ليس الهدف من الترجمة العربية القديمة مجرد استعمالها للاستفادة في النثر الفني؛ فلم تكن القضية عند القدماء مجرد أسلوب أو صياغة وهم أهل الأدب، بل كان موقفا حضاريا عاما من ضرورة التعرف على الوافد من أجل استعماله لفهم الموروث، وإيجاد ثقافة حديثة تجمع بين الاثنين. والفلسفة أكثر من الأدب، بحث في الواقع وتحليل له من أجل التغير الاجتماعي.
26
ليس المطلوب إصلاح الترجمة العربية القديمة، حتى يتفق مع الأصل اليوناني الحديث، بل المطلوب هو فهم الترجمة العربية القديمة كموقف حضاري، تمثلا للآخر من أجل إعادة إخراجه من جديد. لا يجوز إكمال الناقص في الترجمة العربية بالنص اليوناني؛ فالحذف له دلالته الحضارية، كبداية للتلخيص، وليس عند المحدثين الذين يتصورون الترجمة نقلا آليا طبقا للأصل. هل الغاية الترجمة العربية القديمة أم النص اليوناني في اللغة العربية؟ هل الغاية حصار ثقافة الآخر كما فعل القدماء، أم انتشار ثقافته كما يفعل المعاصرون؟ إذا كان هناك حذف في الترجمة العربية بالنسبة إلى النص اليوناني، ولا يكون مفقودا في المخطوط، فلا يجوز للناشر إضافته؛ فالحذف له دلالته الحضارية، إما أن المحذوف لا يفيد في المعنى شيئا؛ لأنه حشو أو لأنه أمثلة محلية صرفة، لا تدل إلا عند قارئها اليوناني، وليس عند قارئها العربي، أما النص المضاف في الترجمة العربية، فلا يجوز حذفه في النشر الحديث؛ لأنه موضح للمعنى . وعلى هذا النحو تكون الترجمة إعادة تأليف، وإنتاج للنص من جديد بلغة جديدة وبتركيز جديد. لا فرق إذن بين الترجمة والتعليق والشرح، الكل تأليف جديد ابتداء من النص الأولي. ليست الغاية إذن إيجاد النص اليوناني ابتداء من الترجمة العربية، بل إيجاد الترجمة العربية كنص حضاري؛ ليست الغاية نقل النقل بل إبداع الإبداع؛
27
لذلك لا يجوز للناشر الحديث إضافة أي زيادات من عنده أكثرها مأخوذ من الأصل اليوناني، بالمقارنة معه ويضعها بين < > كما أن الزيادة في الأصل المخطوط يضعها بين [ ] ويقترح حذفها، مع أن النقص الأول والزيادة الثانية لهما دلالة خاصة فيما يتعلق بالترجمة؛ فالترجمة هنا لا تعني نقلا طبق الأصل، بل بدايات الشرح والتلخيص؛ الشرح في حالة الإضافة، والتلخيص في حالة الحذف. ويكفي تحليل المضاف والمحذوف للتعرف على بدايات الفكر الفلسفي. كان النص سجلا للموقف الحضاري كله، حالة النص، وحالة المترجم والمعلق والقارئ، وليس عريا نفسيا وعقليا
Striptease . كان هناك تفاعل بين النص والقارئ، كما هو الحال في الغناء بين المغني والمستمع، أو في التمثيل بين نص المؤلف وإلقاء الممثل واستماع المشاهد، أو في قراءة القرآن بين النص المكتوب والقراءة المتلوة والمسموع، بل وأصوات الاستحسان التي يصدرها المستمعون، لا فرق في ذلك بين قراءة القرآن وغناء المطرب أو شدو المطربة. مهمتنا إخضاع النص لعملية تحليل وتأويل، وهو عمل فلسفي ثان على العمل الفلسفي الأول. ليس النص مجرد مصدر للأخبار ولكنه تجربة حضارية متشابكة، علاقة بين الموضوع والذات أولا ثم بين الموضوع كذات عند القدماء والذات ثانيا عند المحدثين. ليس المهم منطق أرسطو كنص تاريخي بل استعماله كموقف حضاري؛ ليس المهم هو البدن بل الروح؛ ليست الفكرة المنقولة بل الفكرة الناتجة عن الفكرة المنقولة؛ ليست المعلومات بل العلم وهو ما يبقى بعد نسيان المعلومات. ولا يجوز للناشر الحديث بدعوى وقوع خلط واضطراب في المخطوط إعادة ترتيبه بحيث يتفق مع النص اليوناني الحالي؛ فقد تكون الترجمة القديمة إعادة إنتاج للنص اليوناني، حتى تكون أقدر على التعبير عن المعنى. قد تكون نصا جديدا وليس نقلا للنص القديم.
28
لا يجوز إكمال الترجمة العربية القديمة بالنص اليوناني الحديث؛ فقد يكون للحذف دلالة حضارية، إن لم يكن مجرد ضياع جزء من النص اليوناني القديم.
29
والحكم بأن هناك بترا في المخطوط، إن كان ذلك صحيحا، حكم على المخطوط باعتباره وثيقة تاريخية، وليس باعتباره حاملا لدلالة حضارية. وإكمال الناشر الحديث له تدخل تاريخي في عمل حضاري لا تاريخي. وإن كانت هناك أدلة على البتر، مثلا غياب اللازمة الدينية المعروفة في الخاتمة، فإن إضافتها يغير الدلالة لأنها إضافة تاريخية دون دلالة.
30
ليست الغاية من الترجمة العربية القديمة تصحيح النص اليوناني؛ فالأصل هو الترجمة العربية والفرع هو النص اليوناني، وليس العكس على ما يبدو من التتابع الزمني؛ فالحذف من والزيادة على النص اليوناني لهما دلالتهما بالنسبة للنص كموقف حضاري. ليس النص وثيقة تاريخية تجب المحافظة عليها، بل حامل لموقف حضاري. ما يهم في الترجمة هي التغيرات الدالة وليس مجرد تغيير حرف أو كلمة لا دلالة لها قد ترجع إلى أخطاء النسخ.
31
وهي أخطاء غير دالة؛ فالصلة بين النص والترجمة تتعلق بالجوهر، باللفظ والمعنى والشيء ذاته موضوع الترجمة. ليست الغاية من الترجمة العربية الآن الإفادة منها في تحقيق النص اليوناني، وكأن النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هي الفرع؛ هذا هو مفهوم المستشرق كباحث أوروبي، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للباحث الوطني؛ فالأصل هو الترجمة بالعربية، والفرع هو النص اليوناني أو السرياني لمعرفة مسار الفكر، والانتقال من النقل إلى الإبداع. كل مستشرق يعتمد على الآخر في رؤية واحدة لعلاقة الأصل اليوناني بالفرع العربي،
32
بل يلحق الترجمة السريانية بالأصل اليوناني، ويضعها في جانب واحد حيث الاتفاق أكثر من الاختلاف، في مقابل النص العربي حيث الاختلاف بينهما وبينه أكثر من الاتفاق، بل إنه يتم تغيير كلمات السرياني بحيث يكون النص متفقا مع النص اليوناني (تكاتش). ليس المهم إذن الانتفاع بالترجمة العربية لتحقيق النص اليوناني، بل الانتفاع بالنص اليوناني لمعرفة الحذف والإضافة بالنسبة للنص العربي، والتعرف على عمليات التمثل والاحتواء لثقافة الآخر ضمن ثقافة الأنا . لا يعوض الفرح بوجود النص العربي، والحزن على فقد النص اليوناني، عن طريق إعادة تركيب النص اليوناني؛ هذا يتفق مع عقلية المستشرق وموقفه الحضاري، الذي يرى أن اليونان هو الأصل والعرب هم الفرع، وهو خليفة الأصل ويريد اكتشاف أصوله. في حين أنه عند الباحث العربي، الأصل هو النص العربي المركب، والفرع مع فروع أخرى صحيحة أو منحولة هي النص اليوناني.
33 (3) الترجمة القديمة والترجمة الحديثة
ولا يجوز إكمال الترجمة العربية القديمة بترجمة عربية حديثة؛ فليس الغرض إعادة النص اليوناني بل شرح النص العربي، وشتان ما بين الموقفين. يهم المستشرق النص اليوناني كأصل، ويستعمل النص العربي كفرع، والنص السرياني كفرع آخر، في حين أن الموقف الحضاري للباحث الوطني، هو التعامل مع النص العربي القديم بعبله، بأخطائه، بنقصه وزياداته؛ فلا يوجد سوء فهم في الحضارة بل تأويل، لا يوجد خطأ أو صواب في فهم النص بل قراءة له.
34
وقد يكون الحذف العربي لإحدى نهايات المقالات، التي تعلن عن نهاية جزء وبداية جزء آخر خاصة بالتراث اليوناني، لا يحتاجها المترجم العربي القادر على عمل مقطع آخر، ليعلن عن نهاية موضوع وبداية آخر.
35
ولا يجوز إكمال الترجمة العربية القديمة اعتمادا على الترجمة اللاتينية القديمة، بدعوى أنها ترجمة للأصل العربي القديم، ولما كان اللاتين أكثر حفظا للنص، وأقرب عهدا لنا كان النص العربي القديم ناقصا؛ فربما كان الحذف من الترجمة العربية مقصودا؛ لأنه غير ذي دلالة. وربما كانت الزيادة في الترجمة اللاتينية مقصودة؛ فقد قام اللاتين بعمليات حضارية أخرى في نقل النص من العربية إلى اللاتينية، فإذا كان الحال كذلك مع النص اللاتيني القديم، فالأولى أن يكون مع النص اليوناني الحديث؛ فلا يجوز إكمال فقرة «ناقصة» في الترجمة العربية، اعتمادا على النص اليوناني الحديث؛ لأنها ليست ناقصة بل محذوفة عن قصد؛ فالترجمة العربية إعادة إنتاج للنص اليوناني، وليست ترجمة له، باستبعاد الإسهاب وتحصيل الحاصل، والتكرار، والأمثلة المحلية اليونانية.
36
لا يجوز إضافة شيء محذوف في النص العربي من اليوناني؛ فالحذف له دلالته على الثقافة المترجم إليها، إما لشدة تركيزها ورفضها الإسهاب، وكما يبدو وذلك في اللغة العربية، أو لمعارضة الفكرة المنقولة لتصور الثقافة الجديدة؛
37
فالله مثلا لا يدخل كمثل للأنواع والأجناس أو كمحمول أو كموضوع، الله فكرة محددها وحذفها له دلالة.
38
ليس الهدف من نشر الترجمات العربية القديمة الاستعانة بها؛ من أجل فهم وتصحيح الترجمات الأوروبية الحديثة خاصة فيما يتعلق بدقة المصطلح الفلسفي؛ فهاتان المرحلتان تاريخيتان مستقلتان: مرحلة النقل الإسلامي، ومرحلة النقل الأوروبي الحديث، لكل منهما طابعها المستقل، وعملياتها الحضارية الخاصة؛ فالنقل الإسلامي لم يكن القصد منه النقل الحرفي، بل التعرف على الوافد من أجل استعماله لإعادة عرض الموروث في مرحلة الالتقاء بين الثقافات من أجل خلق ثقافة فلسفية واحدة. كان النقل قراءة وتأويلا؛ كان بداية التفكير الفلسفي. في حين أن النقل الغربي الحديث كان بهدف إيجاد ترجمة مطابقة للأصل اليوناني تحت تأثير النزعة العلمية، وإيجاد ترجمات باللغات الأوروبية الحديثة؛ فرنسية، وإنجليزية، وألمانية، وإيطالية، وإسبانية، وروسية للنص اليوناني، من أجل التعرف على الثقافة اليونانية، أحد مصادر الثقافة الأوروبية، وهما هدفان مختلفان تماما. أما إيجاد ترجمة عربية حديثة مطابقة للنص اليوناني، فهذا أيضا تقليد للنقل الغربي، ووقوع في النزعة التاريخية والنقل الحرفي. والنقل القديم كان أكثر مطابقة للنص اليوناني، من حيث الدلالة الحضارية العامة باعتباره بداية الإبداع؛ فالنقل القديم كان مجرد وسيلة وليس غاية، في حين أن النقل اليوم أصبح غاية وليس وسيلة؛ من أجل التثقف والتعلم من حضارة المركز، ونقل المعلومات والمعارف، واستهلاكها دون إبداع مقابل. كما أن النص اليوناني اليوم لا يمثل وافدا أو غزوا ثقافيا، كما يمثله النص الأوروبي الحديث؛ وبالتالي لا تكون ثمة حاجة إلى نقل جديد للنص اليوناني، بل هناك حاجة إلى نقل عن النصوص الأوروبية الحديثة، التي تمثل وافدا ثقافيا من أجل تمثله واحتوائه، كما فعل القدماء مع النص اليوناني، ثم تحويله إلى معان؛ من أجل إعادة بناء الوافد كله داخل الموروث، والانتقال من النقل إلى الإبداع. ليس الهدف إذن أثريا بل حضاريا استشراقيا، بل من أجل المساهمة في تدعيم الثقافة الوطنية ، ومحاولة تطويرها من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع.
39
إن إعداد ترجمة يونانية قديمة لا فائدة منها بالنسبة للترجمة العربية القديمة؛ فالموقف الحضاري للمترجم القديم غير الموقف الحضاري للمترجم الحديث،
40
الأول لم يكن فقط مترجما لنص من لغة إلى لغة، بل ناقلا لثقافة بأكملها من حضارة إلى حضارة، متمثلا الأولى في الثانية. في حين أن الثاني مجرد ناقل لثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا عبر اللغة؛ من أجل نشر المعلومات دون أن يكون له موقف حضاري خاص؛ ومن ثم استحال الحكم على الترجمة العربية القديمة، التي تعبر عن الموقف الحضاري للمترجم بالترجمة العربية الحديثة، التي لا موقف حضاري لها أو التي لها موقف حضاري مخالف، وهو نشر ثقافة المركز في الأطراف. موقف المترجم القديم يعبر عن أصالة ثقافية، بينما يعبر موقف المترجم الحديث عن تبعية ثقافية. المترجم الأول يتمثل ويحتوي ويعلق ويلخص ويشرح ويؤلف ويبدع، بينما المترجم الثاني مجرد ناسخ طبق الأصل للنص الأول في النص الثاني مع اختلاف اللغة. الترجمة الحديثة لا تعبر عن موقف حضاري جديد؛ فالثقافة اليونانية ليست غازية لنا، ولا توجد هناك حركة لاحتوائها، على عكس الثقافة الأوروبية الغازية، وعدم وجود ترجمات عربية لنصوصها، بغرض تمثلها واحتوائها وتلخيصها، وشرحها من أجل التأليف في موضوعاتها ثم الإبداع المستقل عنها. تهدف الترجمات الأوروبية الحديثة داخل حضاراتها، إلى معرفة النصوص القديمة، كوثائق تاريخية دون تشويه الترجمات العربية لها، ومثل معرفة نصوص الكتاب المقدس، وإعادة ضبطها كوثائق تاريخية ومصادر للتراث الغربي. إن أية ترجمة حديثة لكتاب الشعر لا فائدة منها؛ فإصلاح النص القديم ليس هو المطلوب؛ لأنه يعبر عن موقف حضاري وليس مجرد ترجمة حرفية. وبيان براعة الباحث الجديد ومدى علمه باللغات الأجنبية، إحساس بالنقص أمام التراث الغربي والباحث الغربي. وهو أيضا تقليد للأوروبيين في نشر نصوص تعتبر مصدرا للتراث الغربي وليست مصدرا لتراثنا. وخدمة النص اليوناني وإظهاره في كل اللغات، وقوع في ثنائية المركز والأطراف، المركز اليوناني والطرف العربي. إن المواجهة الآن مع الغرب ليست مع كتاب الشعر، بل مع رأس المال ؛ فكما كون كتاب الشعر وجدان القدماء، كذلك يكون كتاب رأس المال وجدان المحدثين.
ومقارنة الترجمة القديمة بالترجمة الحديثة، تظهر الموقفين الحضاريين المتباينين، قراءة الأولى ونقل الثانية، تمثل الأولى ونسخ الثانية، رؤية الآخر من خلال الأنا وتبعية الأنا للآخر في الثانية، تعبر الأولى عن موقف حضاري، بينما الثانية مجرد نسخ وتقليد لأهداف لها.
إن كل التعليقات غير الواردة في الترجمة القديمة، والتي تأتي من الناشر الحديث، إنما هي مستمدة من النشر الأوروبي الحديث، ولا دلالة لها إلا من حيث البحث عن النص كوثيقة تاريخية، وهو ما تم في الغرب، وله دلالته الحضارية عنده، إبان نشأة النقد التاريخي للكتب المقدسة، بحثا عن الرسالة الضائعة والوحي المحرف، والكلام غير المدون. يهم الناشر الأوروبي الحديث النص اليوناني، وليس الموقف الحضاري، على عكسنا نحن. ولو أن النشر العلمي للوثيقة التاريخية، له دلالة حضارية عندهم في اللاوعي، لا يعرفونها هم ونعرفها نحن، وهو البحث عن الرسالة التاريخية والكتاب المدون بلا تحريف. وما أكثر اتهام الناشر الجديد للترجمة العربية القديمة، حتى يظهر قواه في ضبط المعنى، وإمكانياته باللغات الأجنبية ومعرفته بدراسات المستشرقين! وما أهمية الترجمة الحديثة للنص اليوناني القديم؟ هل بيان مدى جهل القدماء وعلم المحدثين؟ إن الموقف الحضاري مختلف تماما؛ فالقدماء لم يكونوا فقط مترجمين، بل ناقلين للنص الحضاري من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية مغايرة، سريانية أو إسلامية، في حين أن المحدثين مجرد مترجمين؛ بمعنى مطابقة الترجمة الحديثة للنص القديم، دون أية قراءة أو تأويل؛ مجرد ترجمة مهنية آلية، طبقا للموضوعية والحياد، وهما مستحيلان عمليا؛ فكل ترجمة قراءة أو تأويل شعوري أو لا شعوري، فردي أو جماعي، حتى وإن لم يكن ذلك مقصودا عند المترجم الحديث. أما إذا كان الهدف بيان مدى دقة القدماء في إنشاء المصطلحات، فإن القدماء قد أبدعوا في ذلك، ونحن ما زلنا نعيش على تراثهم. ليست المعركة مع النص اليوناني القديم، بل مع وريثه الغربي الحديث، الذي نصب نفسه مقياسا وأصلا ثانيا، يتم على أساسه إصلاح الترجمة العربية القديمة؛ فلا يجوز في طبع الترجمة العربية القديمة إكمال النقص بها اعتمادا على النص اليوناني، أو حذف نص أصلي لم يرد فيها؛ فهذا قضاء على مادة العملية الحضارية التي قام بها القدماء من خلال الترجمة. بالنسبة للأوروبي هناك تحريف في الترجمة العربية عن النص اليوناني؛ لأن الأصل عنده اليوناني وليس العربي؛ يريد تصحيح اليوناني بالعربي دون رؤية العمليات الحضارية التي تمت من النص اليوناني إلى الترجمة العربية. والترجمة العربية بالنسبة للباحث الوطني هي الأصل، والنص اليوناني هو الفرع، ولا يجوز تصحيح الأصل بالفرع.
41
كل ترجمة مخالفة للنص اليوناني تكون خاطئة عند المستشرق؛ لأن اليوناني هو الأصل والعربي هو الفرع، مع أن الاختلاف بين النص والترجمة راجع إلى منطق حضاري محكم. (4) الترجمة والنص
لا تعني الترجمة كعمل حضاري أي خروج على النص، بل تعني البحث عن «نص كلامه»، كما يقول حنين بن إسحاق في ترجمته لكتاب «النفس لأرسطو»؛
42
ولذلك تبدو بعض الترجمات بأقل قدر ممكن من النقل الحضاري، دون حذف أو إضافة أو تأويل أو تعليق إلا في أقل القليل في البسملات والحمدلات أحيانا، كعلامة على البيئة الثقافية الجديدة؛ ربما لأن الطب علم دقيق، لا توجد فيه مواضع يسهل فيها التعشيق بين المؤلف والمترجم، بين النص اليوناني والترجمة العربية، كما هو الحال في نصوص الحكمة؛ احتراما للعلم وعدم الفتيا فيما لا يعلم المترجم، بالرغم من إمكانية الجهاد في ذلك عن طريق تصور القرآن للطبيعة وأحاديث الطب النبوي، كما هو الحال في التأليف عند ابن سينا في «القانون».
43
وأحيانا يبدو العمل المزدوج عند الناشر الحديث. إذا التزم المترجم بالمطابقة فإن الناشر الحديث يعيب عليه حرفيته، وإذا أول ونقل حضاريا عاب عليه الناشر الحديث خروجه وتحريفه وتأويله، بل وخطأه وخلطه وسوء فهمه! فالترجمة العربية القديمة معابة معابة، والمترجم العربي القديم مخطئ على الإطلاق.
44
وقد يكون الدافع على تبني نظرية المطابقة أن المحقق متخصص في الدراسات اليونانية واللاتينية، مما يجعل النص اليوناني هو الأساس والترجمة العربية الفرع، على نحو لا شعوري اعتزازا بالتخصص.
45
وقد يكون الدافع الاستشراق وتبعية وتعاليم المستشرقين والمركزية الأوروبية التي تعتبر اليونان الأصل والعرب الفرع طبقا لعلاقة المركز بالأطراف، وقياسا على علاقة الغرب الحديث بالغرب القديم.
46
وقد ترجع الاختلافات بين الترجمة العربية والنص اليوناني، إلى عدة اعتبارات مادية صرفة بعيدة عن النقل الحضاري، منها مثلا أن تكون الترجمة العربية القديمة قد تمت من مخطوط يوناني قديم، غير المخطوطات التي وصلت الغرب الحديث، والتي اعتمد على نشرها في طبعاته العلمية، قد يكون فيها أخطاء من الناسخ أكثر أو أقل من المخطوطات الأخرى، وقد تكون فيها خروم أو سقط، أو مسح أو بياض، لم يستطع المترجم العربي إلا أن يتغلب عليها بالتخمين والإضافة طبقا للمعنى، وقد تكون بعض الكلمات صعبة القراءة أو الفهم تم حذفها،
47
ونفس الاعتبارات موجودة بالنسبة للترجمة العربية. قد تكون الاختلافات بين المخطوطات أكثر من الاختلافات بين الترجمة المطلقة والنص اليوناني المطلق. وقد تكون الأخطاء من النساخ، والسقط والخرم والمسح وسوء الخط وارد فيها، مما يجعل قراءتها صعبة للناشر الحديث.
وافتراض الخطأ وارد دون أن يكون تصحيحه عن طريق القواميس والمعاجم، بل سرعة في الفهم أو لبس في فهم معنى، أو إيثار أحد معانيه على المعاني الأخرى إذا كان محكما أو متشابها، أو مطلقا أو مقيدا، حقيقة أو مجازا، ظاهرا أو مؤولا، مجملا أو مبينا، خاصا أو عاما، طبقا لمباحث الألفاظ عند الأصوليين، واختار المترجم أحدهما دون الآخر، واختار الناشر الحديث المعنى الآخر، وكلاهما صحيح، والاختيار خاضع للسياق، السياق النصي في نفس العصر، والسياق الحضاري في عصرين مختلفين، عصر المترجم القديم وعصر المحقق والناشر الحديث، منطق الترجمة فيما وراء الصواب والخطأ، في المناطق المتشابهة بين الحلال والحرام.
48
واختلاف الترجمة بين المترجمين، يدل على الإبداع؛ فلا توجد ترجمة نمطية واحدة طبقا لنظرية المطابقة، واعتمادا على المعاجم والقواميس. اللغة تطور، توحي بالمعاني في النفس، ولا تستنبط من الألفاظ، ولا تهم صحة نسبة القول إلى القائل أو الشعر إلى الشاعر؛ فالمهم هو المحمول لا الحامل، والمعنى وليس اللفظ، والفكرة وليس التاريخ.
49
وهناك ترجمات «موضوعية»، مجرد نقل للنص اليوناني إلى اللغة العربية، بلا تدخل أو فهم أو قراءة أو استعمال للموروث، لدرجة أنها قد تخلو من الدلالة تماما، هي الترجمة التي تقوم على نظرية المطابقة وليس القراءة. المترجم ناقل وليس فيلسوفا، موضوعي وليس ذاتيا، أقرب إلى النص اليوناني منه إلى الروح العربية. مثال ذلك «رسالة الإسكندر الأفروديسي في الرد على جالينوس، فيما طعن به على أرسطو، في أن كل ما يتحرك فإنما يتحرك عن محرك نقل أبي عثمان الدمشقي» (ه). تمتاز الترجمة بجمال الأسلوب وكأنها تأليف، بل إن المترجم لم يتدخل في تقطيع النص إلى أبواب وفصول، أو فقرات تبدأ بقال فلان إشارة إلى المؤلف، ولم يقم الناسخ بذلك أيضا، نيابة عن المترجم. وبالرغم من أن الموضوع يمكن تعشيقه في الموروث، المحرك الذي لا يتحرك دفاعا عن أرسطو من الإسكندر ضد طعن جالينوس، إلا أن المترجم لم يتدخل لا بالتعليق ولا بالقراءة ولا بالإضافة ولا بإيجاد الدلالة. وقد كان يمكن للمترجم أن يقوم بدور القاضي وينتصر لأرسطو، بعد أن يستمع إلى دفاع الإسكندر عنه ضد جالينوس، أو أن يصوب جالينوس أحيانا، خاصة وأنه فاضل المتقدمين والمتأخرين، بل إنها خلو من البسملة في البداية لا من الناقل ولا من الناسخ ولا من القارئ، وإن كانت الحمدلة في النهاية «والحمد لله كثيرا» تكشف عن بيئة المترجم. ربما الدلالة الوحيدة هي تعريب اللفظ اليوناني الموسيقوس؛ أي الموسيقى، والذي استمر حتى الآن.
50
وأيضا «كتاب جالينوس إلى فسين في الترياق ترجمة حنين بن إسحاق» (260ه) ترجمة موضوعية حرفية دون قراءة، ونقل على الموروث، باستثناء البسملة في البداية من الناقل أو الناسخ، وربما الموضوع الطبيعي نفسه كنص نافع للمداولة ضد السموم، وبالرغم من إمكانية التعشيق خاصة بالحديث عن المدرستين في الطب، أصحاب القياس وأصحاب التجربة، وذكر آراء الأطباء السابقين، وأن المترجم نفسه من الأطباء،
51
وتتسم «مقالة جالينوس في أن قوى النفس توابع لمزاج البدن» بأسلوب عربي جيد، وكأنها تأليف وليست ترجمة. تخلو من النقل الحضاري، باستثناء الحمد والشكر في النهاية، بالرغم من إمكانية ذلك نظرا لاعتمادها على أفلاطون، وتعرضها لموضوعات الموروث مثل علم الفراسة.
52
أما «مختصر جالينوس في الحث على تعلم العلوم والصناعات»، فنموذج للترجمة التي تقوم على النقل الحضاري؛ فالموضوع يشبه موضوعات الموروث؛ فللفارابي رسالة في نفس الموضوع وبنفس العنوان، كما يظهر البعد الديني للموروث؛ فغاية الفلسفة الوصول إلى الخيرات الإلهية، والتقرب إلى الله تعالى، وكل أصحاب الصنائع يقبلون بوجوههم نحو الله تعالى. ويشارك جنس الناس جنس الملائكة في النطق؛ فالإنسان ملاك. وينتهي المختصر بحمد الله وشكره.
53
ويدخل في ذلك كثير من الترجمات العلمية مثل «كتاب فيلون في الحيل الروحانية ومخانيقا الماء»، وهو فيلون البيزنطي وليس فيلون اليهودي، مجرد ترجمة طبقا لنظرية المطابقة دون نقل حضاري، بل ودون العبارات الإيمانية، البسملات والحمدلات والصلوات والدعوات في البداية والنهاية.
54
ومن هذا النوع أيضا «كتاب إيرن في رفع الأشياء الثقيلة» أخرجه من اليونانية إلى العربية قسطا بن لوقا البعلبكي، وهي ترجمة موجهة إلى أبي العباس أحمد بن المعتصم، يظهر فيها التقابل بين اللغتين العربية واليونانية، ويشعر المترجم بوجود نقص في النص اليوناني؛ أي إنه يحترم النص ولا يسيء التعامل معه بالحذف والإضافة والخلط، بالرغم من إمكانية قراءته نظرا لورود بعض أسماء الأعلام فيه مثل أرشميدس وبوسدونيوس، وبه بعض العبارات الإيمانية مثل البسملة في البداية والحمدلة في النهاية. ومثله أيضا «صناعة الجبر لديوفانطس الإسكندراني» ترجمة قسطا بن لوقا، بالرغم من كتابته بالأسلوب العربي المرسل وليس بطريقة الرموز، وهو ما يسمح بهامش محدود للنقل الحضاري، ولا توجد إلا البسملات في بداية كل مقال والحمدلة في النهاية. وبالرغم من أنه يبدأ من المقالة الرابعة إلا أن الباقي منه دال على الناقص.
55
ويخلو «أجزاء الحيوان» من المقدمات والنهايات الإيمانية؛ لأن النقل الحضاري فيه ضئيل.
56
وكثير من الترجمات أيضا يغيب عنها النقل الحضاري الذي يتطلب وعيا حضاريا. وبالرغم من إمكانية العثور على العاشق والمعشوق؛ نظرا لظهور صفة الإلهي مثل «العضو الإلهي»، إلا أن النقل الحضاري يكاد يكون معدوما؛ فالعلم علم وليس بالضرورة ثقافة، باستثناء البسملة في البداية دون الحمدلة والصلوات في النهاية.
57
ولم تمنع العقيدة الإسلامية من ترجمة نصوص وثنية مثل «كتاب الصلاة لياسميتوس الوثني»، وهي بقايا من الكتاب، موضوعه شعائر القدماء من بين عبدة الصنام، الصلاة الثالثة لزيوس «زفس الملك» لا فرق بين الإله والملك. وهو دعوة ثالثة مغربية التي تقال ربما ساعة الغروب؛ أي وقت المغرب وليس جهة المغرب؛ فاللفظ أقرب إلى الدلالة على الزمان من المكان؛ فزيوس هو عين الموجود، عين الواحد، عين الخير، هو من ذاته وبذاته موجود، ليس معه أحد لامتناع الكثرة عليه، لا يحتاج إلى أحد، وهو الأشرف والأكمل، بسيط غير مركب قائم بذاته، واحد أحد، حي بذاته، كل ما سواه منه، أب الآباء وهو عديم الأب، خالق الخالقين، قديم وما سواه كائن أي محدث، ملك الملوك، أعلى من جميع أولي الأمر، الممسك بكل شيء، كمال في ذاته، لا يجب عليه شيء بل هو الموجب لكل شيء، ملك السادات، وجميع الأرباب، يتعبده الكل لأنه أحق بالعبادة. لا يحتاج إلى أحد، والكل مفتقر إليه، فائض الخيرات وواهب الطيبات، كل يسبح له وبحمده ويعظمه، أزلي قديم، سرمدي لا يتحرك، خالق بذاته الموجد جواهر وذوات وآلهة فوق السماء، آلهة سماويين، كل ما سواه له نهاية وعدد، رئيس بوزيدون والطيطاني وقرونس، خالق الأجناس كلها، وأجناس الآلهة، الخير المطلق، الجواد، واهب شرف الحقيقة الناطقة، هو الكبير في الحقيقة والغاية، العلي الواجب، واهب السعادة للجميع، بشرا وآلهة، غافر الخاطئين، راجعين إليه باليسرى أو بالعسرى؛ هذا هو الإيمان الوثني الذي لا يختلف عن الإيمان الديني؛ فلا فرق بين العقل والوحي والطبيعة.
58
ثالثا: الترجمة عمل جماعي
(1) ترجمة أم ترجمات؟
كانت هناك أكثر من ترجمة للنص الواحد؛ فالترجمة عمل حضاري، قراءة فردية، لا يوجد ترجمة لنص واحد بل ترجمات عديدة لنص واحد. النص واحد عند المؤلف، ولكنه متعدد بتعدد المترجمين. ويحتمل أن يكون نص المؤلف المتشابه نصين في ذهنه بفعل الاشتباه المضمر، ثم تحول الترجمات هذا النص المتشابه إلى نصوص محكمة، كل منها يحكم الاشتباه بطريقته. وقد يكون الاشتباه متعددا وليس فقط توترا بين معنيين، وبالتالي تتعدد الترجمات بتعدد الاشتباهات. الترجمة قراءة، وتعدد الترجمات تعدد للقراءات، المؤلف واحد والمترجمون عديدون، المؤلف ميت والمترجمون أحياء، الموت واحد والحياة متعددة. الترجمة عمل حضاري مستمر لتحسين اللفظ وبلورة المعنى من أجل تسليمه إلى الشرح والتلخيص. لم يقم بترجمة المنطق مترجم واحد، بل قام به مترجمون عديدون، الترجمة عمل جماعي وليست عملا فرديا، موضوعا مشتركا وليست عبقرية فردية، رؤية حضارية وليست اختيارا فرديا. قد يشترك مترجمان في كتاب واحد لكل منهما مقال أو عدة مقالات، الترجمة إذن مشروع جماعي حضاري وليست مبادرة فردية.
1
يقوم المترجم بتصحيح وتحسين وإكمال مترجم آخر من أجل سلامة النص وسلامة الأسلوب.
2
لا تعني الترجمات المتعددة للنص الواحد أكثر من مرة، والتي قد تصل إلى أربع مرات، أي نوع من الترف العقلي؛ فالحكمة ليست ترفا بل مطلبا أساسيا، وتوجها حضاريا، بل تدل على الانتقال من الترجمة الحرفية إلى الترجمة المعنوية؛ فالهدف هو اقتناص المعنى وليس نقل اللفظ، حتى يمكن تمثله واحتواؤه، ثم إعادة بنائه وصبه في التصور الحضاري العام،
3
بل إن النقل كان يتم من المعاني الثابتة في النص المنقول وليس من ألفاظه.
4
ويتم إصلاح الترجمات ومراجعتها على بعضها البعض من أجل الوصول إلى أمثل المعاني؛ فإصلاح الترجمات يدل على الرغبة في تجاوز الألفاظ إلى المعاني المستقلة، والرغبة في الوصول من تعدد الترجمات إلى وحدة المعاني. الترجمة إذن عمل جماعي وليس عملا فرديا، هدف ثقافي مشترك وليست مجرد اختيار فردي. ويتم تدوين هذه التصحيحات كلها في الترجمة بعد تدوين الترجمات والقراءات المختلفة، والمقارنات بين الترجمات والقراءات والمراجعات عليها، ثم تبدأ التعليقات بعد التصحيحات ثم الشروح والتفاسير. لا يوجد إذن خط فاصل بين النقل والتفسير؛ كلها حلقات متصلة يؤدي بعضها إلى بعض، ويتوسطها التعليق الذي يربط بين الترجمات والقراءات والتصحيحات والمراجعات والمقارنات من ناحية؛ كل ذلك في نهاية كل ترجمة حتى ينفصل بعد ذلك في تأليف مستقل، الانتقال من مستوى النقل إلى مستوى الإبداع،
5
هذه النهايات أشبه بالهوامش النقدية في النشر الحديث، والتي تدل على الأمانة العلمية عندنا. وعند القدماء، بالإضافة إلى الأمانة العلمية بداية التأليف الفلسفي؛ لأنهم يتأملون مع النص باعتبارهم أصحابه، وليسوا غرباء عنه، باعتبارهم أصحاب دار وليسوا متفرجين.
6
وتتم هذه التعليقات النقدية على النصوص بالأسود والأحمر؛ من أجل التمييز بين أنواعها: التصحيحات، القراءات، المراجعات، المقارنات، الشروح، التفاسير ... إلخ. وتتم المقابلة على أشهر المترجمين والمراجعة عليهم والموافقة، كما هو الحال في مناهج النقل الكتابي في علم الأصول، الإجازة والمناولة.
7 (2) ترجمة اللفظ وإصلاح المعنى
الترجمة للنص والإصلاح للمعنى. وإصلاح الترجمة بداية الشرح كما أن التعليق بداية التأليف؛ فالترجمة والإصلاح والشرح والتفسير عمل جماعي.
8
وقد تتم الترجمة أكثر من مرة من نفس المترجم، وتكون الثانية أكمل من الأولى، وأقرب إلى المعنى؛ فالمترجم هو الذي يقوم بإصلاح كلي للترجمة الأولى، هو المترجم والمراجع.
9
إن اختلاف الترجمات ليدل على التوجه نحو المعنى؛ فالسوفسطيقا تعني التظاهر بالحكمة أو مباكتة السوفسطائيين، الأولى اشتقاقا والثانية موضوعا، كما تعني «التبصير بمغالطة السوفسطاليين «وزيادة» التبصير» من أجل التنبيه والتحذير؛ فالعلم ليس نظريا فقط، بل توجه عملي وإرشاد سلوكي. ولا توجد ترجمة إلا وعليها تعليقات بألوان مختلفة من النساخ والقراء، مما يدل على أنه منذ بداية النقل كان الشرح والفهم والتعليق، وأن القارئ مؤلف مشارك بالترجمة والشرح والتفسير والقراءة والتعليق إذ كان قارئا عالما.
10
الغرض من التعليق البحث عن المعنى وتصحيح اللفظ عن طريق المعنى، فإن صعب العثور على المعنى، لم تبق إلا الترجمة الظاهرية للفظ، إلى أن يتم العثور عليه.
11
المترجم شارح وملخص لا إرادي، وليس ذلك ضد العلم بل متسق مع الموقف الحضاري وهو علم؛ فالعلم رؤية حضارية وإبداع جماعي وليس نقلا طبق الأصل، وإثبات كل الترجمات والمقارنة بينها من أجل إثبات المعاني المستقلة فيما وراء الألفاظ. والمترجم الجيد هو الفاهم لمعاني النص، وليس فقط العارف بألفاظ اللغة التي يترجم منها وإليها، متصورا إياها تماما كتصور المؤلف الأصلي لها؛ فالمترجم مبدع مثل المؤلف وعارف باللغة واستعمالاتها مثله، فإن لم يكن المترجم غير قيم بمعاني النص دخله الخلل.
12 (3) الترجمة مشروع قومي
الترجمة عمل جماعي، قد يقوم كل مترجم بترجمة مقالة من كتاب، ويتعاون عديد من المترجمين في نقل الكتاب كله، ثم يتداخل التعليق والسريع مع الترجمة، حتى يمكن حصار الوافد وابتلاعه وهضمه وتمثله؛ فالنص أشبه بالسيناريو والشرح هو الإخراج والتجميع هو المونتاج،
13
فهناك ترجمات وشروح عديدة لكتاب الطبيعة. وإن طريقة اختيار الشروح لهي تأليف غير مباشر، يجعل النص يتكلم، والشرح يبين مثل ما يحدث في المونتاج؛ فالنص هو السيناريو والشرح هو الإخراج والنسخ بالشرح هو المونتاج.
14
الناسخ صاحب قضية، شارح مثل الشراح حتى ولو لم يقل جديدا. وأحيانا يستطيع المونتاج أن يقول أكثر مما يقول المخرج؛ أي الشارح، أو كاتب القصة والحوار؛ أي المؤلف.
15
وقد استمرت الشروح حتى القرن السابع دون انقطاع؛ فالمراحل متوازية وليست متعاقبة، الترجمة والشرح والتأليف. وتختلف الشروح فيما بينها من حيث الكم؛ فهناك الشرح الوافر وهناك التعليق القصير، كما يختلف الشكل الأدبي لها؛ فالبعض قد تم بناء على أسئلة بناء على الشكل الأدبي المحلي في أحكام السؤال والجواب، والمفتي والمستفتي، ويقوم واحد بجمع هذه الشروح في شرح واحد جماعي يجمع بين باقي الشروح، وتدخل باقي الشروح بنسب متفاوتة فيه.
16
والسؤال هو: كيف تم الاختيار والتجميع وعلى أي أساس؟ هل اختار المجمع طبقا لما كان بين يده من شروح دون أي أساس نظري، مجرد تجميع لأكبر قدر ممكن من الشروح وهو المقياس الكمي الخالص، أم طبقا لتصور فلسفي خاص ورؤية فلسفية متميزة وهو مقياس كيفي؟ ويتراوح هذا المقياس بين مجرد الوضوح والفهم، وهو الأقرب إلى الاحتمال حتى الرؤية الخاصة، وهو الأبعد عن الاحتمال نظرا لأن الرؤية الخاصة تظهر أساسا في مرحلة التأليف بعد الترجمة والتعليق، شرحا أم تلخيصا. وهل وضع الجامع كل ما بين يديه من شروح؟ أم أخذ مقتطفات منها فقط طبقا لقراءته وتصوراته واتفاقاته مع شروحه الخاصة، وهو مقياس يجمع بين الكم والكيف؟ وهي نفس قضية جمع الأناجيل من وحدات أولى متفرقة، يوحي بعديد من الدراسات على النصوص، وطبعها بطريقة الأناجيل المتقابلة؛ كل نص بالتوازي على الآخر في موضوع واحد.
17
ولا يهم أيضا شخص المترجم، هذا أو ذاك؛ فالترجمة عمل جماعي لا شخصي، إنتاج حضاري لا فردي، كما لا يهم من هو مؤلف الإنجيل بالفعل، بل النص ذاته تم نسبته إلى أكثر الناس احتراما مثل يوحنا أو بولس.
18
ولا تهم أشخاص المترجمين؛ فالترجمة عمل لا شخصي، الحضارة تتعرف على الثقافات المجاورة من خلال الأشخاص، والفعل الحضاري والمترجمون محققون لهذا الفعل؛ لذلك قد تكون الترجمة مجهولة المترجم، وقد تكون منسوبة خطأ إلى مترجم آخر، وقد تكون مشكوكا في صحتها، لا يهم الأشخاص بقدر ما تهم الأعمال. الترجمة مشروع الحضارة وليست أعمالا فردية تنسب إلى أصحابها وذلك مثل الفتح، لا ينسب إلى كل جندي أو قائد على حدة، إنما إلى فتوح الإسلام.
19
لا يهم من ترجم؛ فالترجمة عمل جماعي.
20
كانت الترجمة والتعليق والشرح والتلخيص هما وطنيا، التزاما ثقافيا، مشروعا قوميا، تجربة معاشة، وليست مجرد عمل أكاديمي مهني مفروض. قد يعيش المترجم أو الشارح نصه، ويقوم بمهمته في يوم واحد؛ فالفكر لديه هم والتزام، حتى ولو كان البدن عليلا سقيما. وهو مشروع مشترك لدرجة أن يطلب الاحتكام إلى الآخرين؛
21
فالشارح جزء من تراث طويل يستمر في مسار القدماء، ويستأنف مشروعهم باجتهاده الخاص.
ولا فرق بين المؤلف والمترجم في مخاطبة القارئ وإشراكه في العلم؛ فالقارئ جزء من الخطاب الفلسفي القديم، ترجمة وتأليفا.
22
وقد يكتب القارئ ملاحظاته على النص واقتراحاته اعتمادا على نفسه أو استشهادا بالشراح الآخرين،
23
فالترجمة تحولت إلى ترجمات متتالية بفعل النسخ عبر العصور؛ فالمترجم يعيش في النساخ عبر العصور وحتى قبل اختراع المطبعة، التي أعلنت موت المؤلف والمترجم والناسخ والقارئ، موت الجميع ليحيا النص الميت، الوثيقة التاريخية التي يبلى عليها الزمن، فتوضع في المتاحف بعد أن تخرج من الأذهان.
رابعا: الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية
(1) الترجمة ترجمتان
كانت هناك ترجمتان، حرفية ومعنوية، الحرفية تحاول أن تكون طبق الأصل، حرفا بحرف، وكلمة بكلمة، وعبارة بعبارة، حذو القذة بالقذة؛ حفاظا على الأصل، فكانت تحافظ على الشكل دون المضمون، تبقي على اللفظ وتفقد المعنى، وتحرص على اللغة على حساب الفكر؛ فالنص لا ينقل لفظا، النص معنى؛ أي كائن حي، في حين أن النص كلغة نص ميت. إنما النص ينقل معنى من الداخل وليس من الخارج، من المعنى وليس من اللفظ، من الفكر وليس من اللغة، من القلب وليس من الأطراف؛ لذلك كانت هناك ترجمتان لكل نص، ترجمة حرفية من اللفظ إلى اللفظ، ومن اللغة إلى اللغة، ومن شكل إلى شكل من أجل المران على النقل الخارجي، مجرد النقل أي الحركة من لغة إلى لغة، من لغة الوافد إلى لغة الموروث، وليس بالضرورة من ثقافة الوافد إلى ثقافة الموروث، فتنشأ الثقة بالنفس على هذا الانتقال من لغة إلى لغة، وعلى التعامل مع لغتين. وبعد هذا المران واكتشاف حدود اللغة واستقلال الفكر، وشكلية اللفظ وجوهرية المعنى، تأتي الترجمة الثانية من المعنى إلى المعنى، ومن الفكر إلى الفكر، ومن الجوهر إلى الجوهر، سواء من نفس المترجم أو من مترجم آخر، فتأتي الترجمة المعنوية الثانية أكثر سلاسة، وسهولة، وفهما، وكأنها مؤلفة من جديد بلغة ثانية، وكأن اللغة الثانية المنقول إليها هي لغة التأليف الأول.
1
وأحيانا يكون النص المنقول الثاني أكثر تعبيرا عن المعنى من النص الأول؛ فكل لغة لها إمكانياتها في التعبير، واللغة الجديدة قد تكون أكثر إمكانية في التعبير من لغة النص الأول. ولما كان المترجم الحرفي الأول قد اكتسب المران الكافي في النقل والحركة بين اللغات، فإنه في المرة الثانية يقفز إلى معنى النص الأول قفزا، ويتجه إلى القلب مباشرة، وبقوة الدفع هذه يعبر عما فهمه بلغة النص الثاني، فيخرج التعبير وكأنه تأليف وليس ترجمة، يتجاوز حدود اللغة الأولى ويعتمد على إمكانيات التعبير في اللغة الثانية، فتخرج الترجمة المعنوية نصا جديدا له وجود مستقل عن النص القديم. مراحل الترجمة إذن تدل على الانتقال من اللفظ إلى المعنى، حتى وصل الأمر إلى النصف الثاني من القرن الرابع، عصر الفارابي الشارح للمعنى والمؤلف فيه.
وقد يكون الفرق بين النقل والإصلاح هو الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية ،
2
بل إن العنوان نفسه لا يترجم ترجمة حرفية، بل يتم اختصارها أو إطالتها توضيحا للمعنى؛ فالترجمة الحرفية لنص أرسطو في «السفسطة» هو «التبكيتات السوفسطائية»، ثم اختصارها إلى «سوفسطيقا» أو كتاب «السفسطة»، وكذلك ترجمة السماع الطبيعي أو «سمع الكيان» ترجمة حرفية؛ لأن «سمع» تعني محاضرة و«الكيان» تعني الكون أو الطبيعي، والترجمة الأفضل: محاضرات في العلم الطبيعي. (2) جدل اللفظ والمعنى
وكان المترجم على وعي بجدل اللفظ بين اللغتين المنقول منها والمنقول إليها؛ وبالتالي يكون أمام المترجم أربعة عناصر: اللفظ المنقول منه ومعناه، واللفظ المنقول إليه ومعناه. تكون الترجمة حرفية إذا ما تم الانتقال من اللفظ الأول إلى اللفظ الثاني، دون الأخذ في الاعتبار معنى اللفظ الأول ولا معنى اللفظ الثاني. وتكون ترجمة خاطئة إذا نقل اللفظ الأول إلى اللفظ الثاني مع اختلاف معنى اللفظين. وتكون صحيحة ولكن ركيكة إذ ما تم نقل اللفظ الأول إلى اللفظ الثاني، حتى ولو كان المعنيان متطابقين. وتكون الترجمة صحيحة ولكن سلسة بليغة، إذا ما تم نقل معنى اللفظ الأول دون اللفظ، وعبر عنه بلفظ من اللغة الثانية، دون أن يكون بالضرورة هو اللفظ المقابل للفظ الأول. وهذا يتطلب معرفة الناقل الجيدة باللغتين معا، المنقول منها والمنقول إليها. كما يتطلب ثانيا فهم قصد المؤلف الأول، وربما أكثر فهما من فهمه هو نفسه لنصه. ويتطلب ثالثا القدرة على التعبير عن قصد النص الأول بلفظ تلقائي من اللغة الثانية، حتى ولو لم يكن مطابقا حرفيا للفظ الأول.
3
ولا يتم النقل فقط لفظا بلفظ بصرف النظر عن المعنى في حالة الترجمة الحرفية، أو معنى بمعنى بصرف النظر عن اللفظ في حالة الترجمة المعنوية، ولكن يتم أيضا نقل النص كله من بيئة ثقافية وافدة إلى بيئة ثقافية موروثة، فيحاط النص بمقدمات وتعليقات ومؤخرات، تجعله أقرب إلى عادات النصوص الموروثة، فيضاف إلى المترجم «رضي الله عنه»، «رحمه الله»، «أعلى الله منزلته»، وهي تعبيرات إسلامية تطلق على الناقل النصراني رضى الله ورحمته وتدعو بعلو المنزلة.
4
وتتفاوت الترجمات فيما بينها وضوحا وغموضا. كلما كان الانتقال من المعنى في النص المترجم إلى اللفظ في النص المترجم إليه ازداد الوضوح (أنالوطيقا الثانية). وكلما كان الانتقال من اللفظ في النص المترجم منه إلى المعنى في النص المترجم إليه ازداد الغموض (الخطابة). الخلاف بين الترجمات إذن يرجع إلى طريقة الترجمة من اللفظ إلى المعنى (الترجمة الحرفية)، أم من المعنى إلى اللفظ (الترجمة المعنوية). وقد تكون ترجمة النص بعبارة أخرى مشابهة أكثر سلاسة من الأولى، وليس فقط استبدالا للفظ مكان لفظ.
5
وتكون الترجمة أحيانا حسب المدلول العام للعبارة وليست حرفية. هنا التعليق داخل في الترجمة منذ البداية وليس منفصلا عنها، ولا يدل على أي خروج عن دقة الترجمة بل عن تجاوز اللفظ.
6 (3) الترجمة والاغتراب الثقافي
وهناك نصوص بطبيعتها أقرب إلى الترجمة منها إلى التعليق، مثل نص الخطابة؛ فالخطابة مجرد ترجمة عكس كتب المنطق الأربعة الأولى، المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والتحليلات الثانية، بل إن الكلمة ذاتها «فنراطيطقي» لا تقرأ عربيا، ولا تستعمل في عبارة عربية، مع أنه اصطلاحا يفيد الجمع بين الجلد والثبات. ولا يهمنا الترجمة البعيدة أو القريبة من النص اليوناني؛ فليس هناك مقياس أو ميزان لقياس مدى البعد أو القرب. ما يهمنا هو دلالة البعد والقرب بالنسبة للنص الحضاري كموقف جديد. ليس المقياس هو إذا اقتربت الترجمة من الأصل أصابت، وإذا ابتعدت أخطأت، بل ربما العكس، إذا اقتربت أخطأت (غياب الدلالة)، وإذا ابتعد أصاب (حضور الدلالة). ومع ذلك إذا ما أخذ المترجم المعنى الحرفي للفظ، فإنه ليس خطأ بل حرصا على اللفظ اليوناني. أما المعنى فمهمة الشارح والملخص.
7
وتمثل ترجمة الخطابة المرحلة الأولى من الترجمة، في الثلث الأخير من القرن الثاني، مرحلة بناء المصطلحات الفلسفية. كانت الترجمة من السريانية لا عن اليونانية مباشرة،
8
وهو النقل الوحيد الباقي من كتاب ريطوريقا. إن حرفية الترجمة لكتاب الخطابة، تثبت أن الغاية منها الحصول على المعنى وليس اللفظ، والبداية بالمعنى والتعبير عنه باللفظ، وليس البداية باللفظ، وإلا لما أمكن الحكم على الترجمة الحرفية بأنها سقيمة. ومن هنا أتت ضرورة التعرف على المترجم، حتى يمكن معرفة اتجاهه وموقفه ودرجة علمه باللغة، دون الاكتفاء بالمترجم المجهول.
9
إن الدقة في الترجمة العربية إنما كانت تتم على حساب المعنى، ثم يأتي دور الشرح للتخفيف من حدة الحرف وإبراز المعنى على حساب الحرفية.
وترجمة الخطابة والشعر نموذج للاغتراب الثقافي، لا من حيث ترجمتها اللفظية، بل من حيث عدم احتوائها المعنى، وترك النص بلا تعليق، وهو أولى درجات التمثيل والاحتواء. الخطابة نموذج للترجمة اللفظية التي لا تبدأ بالمعنى، فتنتهي إلى الاغتراب الثقافي كما هو حادث في الشام والمغرب الآن؛ لذلك أصبح النص غير مفهوم؛ لأنه غير مخدوم من حيث المعنى ولا من حيث اللفظ. ويتساءل البعض: هل لجأ المترجم إلى ترجمة حرفية كانت تنتهي به أحيانا إلى عبارات لا تفهم؟ هل لم يكن لديه إلمام بالأدب اليوناني؟ هل لم يكن لديه إلمام بالثقافة العربية؟
10
ومهما حاول البعض تقويم عباراته، إلا أن الذوق العربي كان ينكر هذ الترجمات الحرفية. ووقف الجاحظ كأديب موقف الشك منها، كما وقف السيرافي النحوي منها موقف الازدراء والهزء بها؛ لذلك وقف الموروث في مواجهة الوافد، والأصيل ضد الدخيل. كانت ترجمات حرفية. إذا ما صادف السريان فقرة صعبة، اكتفوا بترجمة كل كلمة يونانية بكلمة سريانية، دون محاولة فهم العبارة أو السياق. وإذا جهلوا معنى كلمة يونانية، نقلوها بحروف سريانية، مثل ما حدث في تعريب الكلمات اليونانية في نشأة المصطلحات الفلسفية؛ لذلك حاولت الترجمة العربية تجاوز هذا النقل الحرفي إلى النقل المعنوي، وترجمة المعنى مباشرة، معاني الألفاظ والعبارات، معاني الكلمات أو السياق. أصبحت الترجمة السريانية حرفية لدرجة الجناية على المعنى. ومع ذلك كان حنين وحبيش أفضل المترجمين السريان تعبيرا،
11
وكانت ترجماتهما حرفية دون التضحية بالمعنى؛ لذلك لجأ المترجمون العرب إلى النقل من اليوناني مباشرة دون المرور بحرفية السرياني. أما الترجمات الشعبية الحرة لكتب الفلسفة الشعبية فلم تلتزم بالترجمة الحرفية، وعملت في النص الأصلي بالزيادة والحذف والتبديل، مؤثرة وضوح العبارة على سلامة الفكرة. وكان هذا هو اختيار بختيشوع.
وكتاب الشعر الذي ترجمه متى بن يونس نموذج الترجمة الحرفية، بالرغم من أنه مترجم ومفسر، بل إن البعض منهم كان متكلما، ينتسب إلى فرقة كلامية،
12
في لغته كلمات عامية أو عربية محرفة، يونانية وسريانية وفارسية حديثة دون عناية بالإعراب، متبعا ترتيب الجملة اليونانية، ومستعملا هو للربط بين أجزاء الكلام بدلا من فعل الكينونة، مع الإكثار من الرابطة، والحذف. لقد حرص على اللفظ اتباعا للحرفية، ومع ذلك حاول تقريب المعنى عن طريق التعريب بعد الاستقرار على المعنى؛ فالصوت أجنبي والمعنى عربي، حتى يأتي وقت يفرض المعنى فيه لفظه العربي. تأثر بلغة المنطق وعلوم الحكمة مثل المقولة والاستدلال، والكلية، والتصديق؛ فالمنطق معيار الكلام، والشعر أحد أجزائه. كما تأثر بلغة الأطباء؛ فقد كان الطب ثقافة شائعة، وأحد الدوافع على الترجمة.
13
هناك فرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية؛ فالترجمة الحرفية فهمها نقل ثقافة الآخر إلى الأنا، والترويج لثقافة الآخر وطمس معالم الأنا، ولاء الأولى للآخر من أجل الهيمنة الثقافية نقلا، وولاء الثانية للأنا من أجل الإبداع الذاتي. الترجمة الأولى من الآخر إلى الأنا نقلا، بينما الثانية من الأنا إلى الآخر إبداعا. مهمة الأولى استيعاب الأنا في الآخر، بينما مهمة الثانية استيعاب الآخر في الأنا. في الأولى الأنا منغلق على ذاته ناقل لغيره، وفي الثانية الأنا منفتح على غيره محتويا للآخر ومعارفه، حتى يقضي على البؤر الثقافية الوافدة التي تسبب ازدواجية الثقافة، والقضاء على الوحدة الثقافية للأمة، والسؤال هو: هل الترجمة الحرفية أقدم من الترجمة المعنوية؛ لأن المصطلحات لم تستقر بعد أم لأنها نقص في براعة المترجم؟ قد تكون الترجمة الحرفية أقدم من الترجمة المعنوية وسبب وجودها، ولكن السؤال الأهم هو: هل الترجمة الحرفية سببها أنها تمت عن اليونانية مباشرة، وبالتالي لم تتحول إلى معنى في السريانية، أم أنها تمت عن السريانية أولا، فتحولت إلى لفظ متوسط، فكان احتمال الخطأ مرتين: مرة في الترجمة من اليونانية إلى السريانية، ومرة في الترجمة من السريانية إلى العربية؟
خامسا: دوائر الترجمات
(1) تداخل الترجمات
الاختلافات بالنسبة إلى الترجمات العربية فيما بينها؛ فهناك أكثر من ترجمة لنص واحد . وتختلف فيما بينها في طرق الترجمة، حرفية أو معنوية. والاختلافات هنا ليست فقط في الأخطاء النحوية، بل في أساليب التعبير وطرق التصحيح التي تشمل تصحيح النحو، وترجمة لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة أو فقرة بفقرة؛ فالاختلاف بين الترجمات في الألفاظ، تعبير لفظ بلفظ إما بناء على مرادف أدق، أو مجرد استساغة للمعنى، بناء على التصور أو الذوق الحضاري العام للغة المترجم إليها.
1
قد تتحول الصفة في الأصل (الأبيض) إلى اسم في التعليق (البياض). وقد يشرح اللفظ العربي ويحال الجمع (أردياء) إلى المفرد (رديء)،
2
وما أكثر الأمثلة على ذلك!
3
قد يكون التعليق شرح لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة،
4
لا يوجد اضطراب في النص بل محاولة لاستقرار المعنى. وإذا لم يستقر تترك العبارة مضطربة لعملية أخرى هي الشرح والتلخيص. لا يوجد اضطراب في الترجمة، بل عدم استقرار المعنى؛ مما دعا إلى الشرح والتلخيص فيما بعد.
5
وقد تذكر ترجمات عديدة لنص واحد، ويمكن طبعها في عواميد طولية أو عرضية متوازية، حتى يمكن رؤية الاتفاق والاختلاف بينها؛ فلأول مرة تظهر ترجمات ثلاثة في نفس الصفحة، لا يكفي طبعها واحدة وراء الأخرى، فقرة فقرة أو فصلا فصلا، بل طبعها متوازية طولا، كما هو الحال في الأناجيل الثلاثة المتقابلة، أو عرضا كما هو الحال في الإنجيل الرابع، حتى يمكن رؤيتها جميعا بنظرة واحدة، مدى الاتفاق والاختلاف بينها.
6
وبالمقارنة بين الترجمات الثلاثة يمكن رؤية الاختلاف بينها وإحساس المترجمين بالمعاني الواحدة وطريقتهم في التعبير عنها. كما يمكن مقارنة الترجمات الثلاثة لمعرفة الاتفاق والاختلاف بينها، لتحديد مسار الفكر ونشأته، كما هو الحال في الأناجيل الثلاثة المتقابلة، تشمل التعليقات النقل في النسخ الأخرى.
7
وقد يكون الخلاف بين الترجمات في مجرد النحو، تصحيح خطأ لغوي؛ فالمترجم همه أولا النقل وليس اللغة، النصب بدل الرفع أو العكس.
8
قد يشير التعليق إلى الأخطاء النحوية. ويمكن القيام بإحصاء دقيق لرصد الخلافات النحوية بين الترجمات لرصدها نظرا لكثرتها، لا تهم التصحيحات بقدر ما يهم الأسلوب العربي وإحكامه. ويمكن عمل تصنيف عام لكل التعليقات النحوية طبقا لقواعد الصرف، لمعرفة دلالة ذلك في طرق الترجمة، ومدى تكرار التصحيح من النصب إلى الرفع أو من الرفع إلى النصب، ودلالة ذلك في علم اللسانيات. وهناك أخطاء في النسخ لا تدل على قراءة مقصودة، وإن عدم تصحيح الأخطاء الإعرابية يدل على مستوى اللغة التي نسخ بها المخطوط.
وبعد الترجمة العربية قد يفقد النص اليوناني ولا تبقى إلا الترجمة، وذلك مثل نص النبات المنسوب لأرسطو.
9
لا يعني ذلك أن دور العرب كان حفظ التراث اليوناني، إنما تم هذا الدور عرضا ومصادفة نظرا لضياع النص اليوناني، كما أن الترجمة العربية أولى مراحل عملية الاحتواء الحضاري، قبل التعليق والشرح والتلخيص والعرض والتأليف.
ولم تكن الترجمة عن اليونانية وحدها، بالرغم من أنها هي الغالب، بل أيضا عن اللاتينية. وكان بعض المترجمين يعرفون اليونانية واللاتينية مثل يحيى بن البطريق.
10
وأحيانا يكون المترجم العربي أفضل في قراءة أسماء الأعلام من المترجم اللاتيني، مثل إنبادقليس
Enpadocles
وليس إيماكليس
Emmaclis .
والبحث عن الأصل العربي للترجمة اللاتينية لأثولوجيا أرسطاطاليس مهمة الباحث الأوروبي، وكذلك دراسة الترجمات اللاتينية، ترجمة بطرس نقولا من فانتسا، يتبع الموقف الحضاري الأوروبي لمعرفة طبيعة العمليات الحضارية التي تمت من خلال الترجمة؛ فالبحث العلمي بحث وطني، يعبر عن موقف حضاري وليس بلا وطن وبلا موقف حضاري.
11
ولا يجوز إعادة إنتاج النص العربي طبقا للترجمة اللاتينية؛ فذاك يفقد قيمة العمليات الحضارية في النصين معا؛ فالأصل العربي المفقود أو الذي يتم إصلاحه قد تم بعمليات حضارية، خاصة في النقل من اليوناني إلى العربي مباشرة أو بتوسط السرياني. ولا يمكن لها أن تتم عبر نقل مغاير حديث خارج نفس الموقف الحضاري من اللاتينية إلى العربية. كما أن النص اللاتيني قد خضع لعدة عمليات حضارية ثانية في الترجمة من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر اليونانية، إضافة أو حذفا أو تأويلا. وترجمته إلى العربية لإكمال أوجه النقص في النص العربي الأول، هو حشر عمليات حضارية أوروبية وإضافتها إلى النص العربي الذي لم يقم بها؛
12
فمثلا سمي كتاب الخير المحض لأبرقلس عند اللاتين كتاب العلل؛ مما له دلالة حضارية مختلفة عن العنوان العربي. عنوان «العلل» أقرب إلى الطبيعيات في حين أن العنوان العربي «الخير المحض» أقرب إلى الأخلاقيات. (2) النواة والدوائر الخمس
الأصل اليوناني أشبه بالنواة الأولى، ثم نسجت حولها عدة خيوط وأغلفة ونصوص موازية أشبه بالدوائر المتداخلة، يصبح النص اليوناني هو مركزها جميعا؛ فهناك الشارح اليوناني داخل الحضارة اليونانية، الذي يقوم بأول نقل حضاري داخلي من عصر أرسطو إلى عصر الشارح، الإسكندر أوثامسطيوس أوسمبليقيوس. والخلاف بين النص كنواة أولى وبين الشارح اليوناني خلاف في تقدم التاريخ وتراكم المعارف من قرن إلى قرن. ومع ذلك فهو الوثيقة التاريخية الأولى في نظر المترجمين السرياني والعربي، وإن لم يكن كذلك في نظر الشراح اليونان. وهو النص المعيار الذي يتم التصحيح عليه؛
13
فالتعليق يتعرض لجودة النقول أو رداءتها، لقدمها أو حداثتها، ويعرض الاتفاق والاختلاف بينها.
ثم هناك دائرة المترجم السرياني الذي يقوم بنقل النص اليوناني وربما اعتمادا على شراح اليونان، ويقوم بمهمة حضارية مخالفة، وهي نقل النص اليوناني من اللغة الأصلية إلى لغة جديدة هي السريانية، وإلى حضارة جديدة، من الحضارة اليونانية إلى الثقافة النصرانية السريانية. والنقول السريانية أوضح في النص اليوناني؛ لأنها شرح للمعنى وتجاوز للفظ، كما أنها أكثر سلاسة في العبارة، وأقدر على التعبير عن المعنى.
14
الزيادة السريانية زيادة في التوضيح، فإما تحذف في العربية أسوة باليونانية، أم تبقى أسوة بالسريانية توضيحا للمعنى. ليس الغرض هو النص الأول بل المعنى، وفي النقول السريانية إبراز للغرض أو العلة أو الدافع، كما هو الحال في التعليقات العربية. لا يهم النتيجة بل العلة، لا يهم النهاية بل التساؤل أو بداية الفكر في الترجمة، حول أهداف النص ومقاصده. ولم يحدث في النص السرياني شرح قدر ما حدث في النص العربي. حدثت ترجمات فقط تختلف بينها باختلاف المترجمين، أو باختلاف النصوص الأصلية اليونانية؛ فلم تكن هناك أمة سريانية أو حضارة سريانية بالمعنى الشامل؛ وبالتالي غاب الهدف التاريخي أو الغاية للأمة. الاختلافات في السريانية مجرد اختلافات في الترجمة، لا تحمل أية دلالة حضارية إلا فيما بعد بالنسبة لنصرة العقيدة المسيحية. التعليق السرياني ضروري لتوضيح المعنى،
15
فإذا عجز المعلق عن الحكم فإنه يورد النقول السابقة اعتمادا على الرواية، وإرجاعا للمتن إلى السند بتعبير أهل الحديث.
16
وقد ظهرت العمليات الحضارية في النص السرياني، ولو بصورة أقل مما حدثت في النص العربي؛ فقد كانت حضارة السريان أقلية في حين أن الحضارة العربية كانت لها الأغلبية. وكان السريان ضمن الأمم المفتوحة في حين كان العرب من الأمم الفاتحة. وقد قام السريان بالعمليات الحضارية في نطاق محدود للدفاع عن الدين في حين قام بها العرب على نطاق واسع كجزء من رؤية حضارية عامة. ولا تقتصر الترجمات على ترجمات أرسطو وحده، بل أيضا مقالات الإسكندر الأفروديسي.
17
ثم يأتي ثالثا دور المترجم العربي الذي يجد أمامه النص اليوناني الأصلي، وشروحه اليونانية ثم الترجمة السريانية، وربما عدة ترجمات، بالإضافة إلى الشروح السريانية قبل أن يبدأ الترجمة من هذه المادة كلها، ومن أجل أن يقوم بعملية حضارية أخرى، وهو نقل النص السرياني من الثقافة السريانية إلى الثقافة الإسلامية، وقد يكون الخلاف بين النص العربي والنص السرياني مجرد اختلاف في اللفظ دون حذف أو إضافة. وقد يتم إصلاح اليوناني من السرياني حتى يستقيم العربي.
18
ولا يعني النقل من اليونانية إلى العربية بتوسط السريانية بالضرورة نقلا سقيما، لاحتمال الخطأ مرتين، بل قد يكون نقلا جيدا؛ نظرا لإحكام المعنى والتخلي عن الحرفية اللفظية مرتين؛ مما يقوي الافتراض القائل إن النقل المباشر من اليونانية إلى العربية كان أكثر حرفية من النقل المتوسط من اليونانية إلى العربية بتوسط السريانية، خصوصا وأن النقل المباشر في الترجمات المعاصرة أكثر قيمة من النقل المتوسط، وذلك في الترجمات المباشرة من الألمانية إلى العربية دون توسط الإنجليزية أو الفرنسية.
وقد يكون المترجم واحدا من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية، وذلك مثل كتاب ترجمة كتاب الشعر لأرسطو؛ فهي ترجمة على مرحلتين حرصا على النقل وتطويع المعنى، والاطمئنان إلى قرابة اللغة السريانية إلى اللغة العربية. وقد يكون المترجم الأول من اليونانية إلى السريانية هو نفسه المترجم الثاني من السريانية إلى العربية، وهو احتمال أبعد نظرا لمضاعفة الجهد وملل النفس من فعل الشيء الواحد مرتين. وقد يكون المترجم الأول غير المترجم الثاني، وهو أقرب إلى العقل والواقع؛ فالمتمرن على النقل من اليونانية إلى السريانية، يعتمد على مرانه في هذا النقل، وهو غير المتمرن على النقل من السريانية إلى العربية.
19
وقد يرجع التعليق الخلاف إلى الترجمة السريانية،
20
ويرجع الشارح إلى ضبط المعنى عن طريق اختلافات النقل في السرياني.
21
ولا فرق في ذلك بين الترجمات والشروح؛
22
إذ يقوم الشارح بمراجعة الترجمات الأخرى، والمقارنة بينها مع الرجوع إلى الأصل السرياني.
23
وقد تبدو عبارات مقحمة من المترجم أو الشارح أو الناسخ للربط بين أجزاء الكتاب الواحد، الألف الصغرى والألف الكبرى مثلا، يشرحها شارح، ويتركها آخر على أساس أنها إضافة ليست في النص الأصلي.
24
ومن ثم يكون لدينا خمسة دوائر حول المركز الموحد وهي:
ويمكن توضيح ذلك بمخروط مقلوب على هذا النحو الآتي:
وكل مرحلة تعيد إنتاج النص بالنسبة للمرحلة السابقة. وتكون إعادة الإنتاج أكثر كلما كان النقل من لغة إلى أخرى، ومن حضارة إلى أخرى. وقد تبعد المسافة بين البذرة الأولى والتلخيصات والشروح الأخيرة. الفرق في الشروح داخل الحضارة فرق في الدرجة، أما الفرق في الشروح بعد انتقال النص من حضارة إلى أخرى ففرق في النوع. مهمة السرياني (النصراني) معرفة مدى تطابق الأصل اليوناني مع الترجمة السريانية، ومهمة العربي (المسلم) معرفة مدى تطابق الترجمة العربية مع الترجمة السريانية والأصل اليوناني؛ كل يعمل من موقعه الحضاري. وقد اعتنى المترجم العربي بمختلف النقول السريانية قدر اعتنائه بمختلف النقول العربية. ويورد الجميع في تعليقاته، مرة فوق الصفحة ومرة أسفلها، مرة بالأحمر ومرة بالأسود، ومرة يورد الترجمات كلها في مقاطع متوازية، كما هو الحال في الأناجيل الأربعة (السفسطة).
والنص أيضا ليس هو الأصل اليوناني، بل هو الترجمة السريانية التي شرحت النص اليوناني، وقربته إلى الترجمة العربية؛ فلما كان النص اليوناني إملاء للطالب، أو سماع محاضرات ترجم في السريانية وفي العربية «السماع الطبيعي»؛ فلا يوجد نص منذ البداية بل عدة نصوص، بل يمكن القول إن النص الأول مجرد افتراض ذهني لا وجود له. النص الأول في ذهن المؤلف، أرسطو مثلا. والنص المدون من المؤلف كتابة أو من التلميذ إملاء اقتراب من النص الذهني؛ نظرا لحدود اللغة واختلاف طرق التعبير. والنص المدون الثاني يصبح نصا ثالثا في أيدي النساخ، الذين قد ينسخون نسخا مطابقا أو غير مطابق، عن قصد أو عن غير قصد. والنص الثالث في أيدي النساخ يتحول إلى نص رابع، بين أيدي القراء الذين قد يهمشون أو يعلقون، يضيفون أو ينقصون. والنص الرابع بين أيدي القراء يتحول إلى نص خامس بين الشراح اليونان، القراء المهنيون بعد القراء الهواة. والنص الخامس بين يدي الشراح اليونان، يتحول إلى نص سادس على يد المترجمين السريان، الذين قد يترجمون النص الثاني الذي تبعد المسافة بينهم وبينه أو النص الخامس القريب منهم. ثم يتحول النص السادس إلى نص سابع على يد الناسخ السرياني، الذي يقوم هو أيضا بدوره في الفهم لما ينسخ، وهو أفضل من نسخ ما لا يفهم. ثم يتحول نص الناسخ السرياني السابع إلى نص ثامن، بفضل القارئ السرياني العام غير المتخصص، الذي يدون أيضا ما يفهم على النص. ثم يتحول النص الثامن للقارئ السرياني إلى نص تاسع، على يد الشارح السرياني الذي يقوم بالتعليق إضافة أو حذفا. وقد يتحول النص التاسع للشارح السرياني إلى نص عاشر للمترجم العربي الذي ينقله إلى اللغة العربية. ثم يتحول هذا النص العاشر للمترجم العربي إلى النص الحادي عشر على يد الناسخ العربي، الذي يساهم أيضا في عقلنة النص تيسيرا للقراء. ثم يتحول النص الحادي عشر للناسخ العربي إلى النص الثاني عشر للقارئ العربي غير المتخصص، الذي يدون أيضا انطباعاته على النص داخله أم خارجه. ثم يتحول النص الثاني عشر للقارئ العربي المتخصص إلى النص الثالث عشر للشارح العربي، الذي يحاول مرة أخرى تحويل النص المترجم إلى نص مقروء ومفهوم تيسيرا على القراء. هناك إذن عدة مراحل في كل نص منقول من لغة إلى أخرى: الترجمة، النسخ، القراءة، التعليق الذي يضم الشرح والتلخيص. ولما كانت لدينا ثلاث لغات: اليونانية، والسريانية، والعربية، فهناك على الأقل اثنا عشر نصا تشير إلى النص الواحد، بالإضافة إلى النص الأول ومدى التطابق عند المؤلف الأول بين النص الذهني والنص المدون سواء كان كتابة أم إملاء. النص يولد نصوصا عن طريق الإملاء والترجمة والنسخ والقراءة والتعليق شرحا أو تلخيصا، وكأننا بصدد رسالة السيد المسيح التي لا يعلمها أحد؛ فهو النص الذهني، ثم هناك محاولات عدة للتعبير عنها فهما وتدوينا من أفراد وجماعات عدة.
25
ويمكن عمل عدة دراسات في طبقات متوازية للنص الأول والشرح، وهو إعادة إنتاج النص لمعرفة كيفية تحول البذرة الأولى إلى مجموعة من الحلقات،
26
وتكون الدراسة كاملة إذا كانت البذرة الأولى هي النص اليوناني وحلقاتها المتداخلة، تبدأ من الترجمات المتعددة ثم الشروح ثم الملخصات لمعرفة العمليات التي وراء الانتقال من النقل إلى الإبداع ومراحله.
سادسا: الترجمة وثيقة شرعية
(1) اسم المؤلف والناقل والطالب والناسخ
وطرق النقل في الترجمات العربية القديمة مشابهة لطرق النقل عند السلفيين المعروفة في علم أصول الفقه، والمستمدة أساسا من علوم الحديث، وهي مناهج النقل الكتابي (الإجازة، المناولة ... إلخ)، في مقابل مناهج النقل الشفاهي (التواتر، الآحاد ... إلخ). وتشمل عدة خطوات؛ منها ما يتعلق بالمترجم أو الناقل أو الناسخ أو القارئ أو المالك المقتني، ومنها ما يتعلق بالترجمة الأصلية، المخطوط الأم، ومنها ما يتعلق بالنسخ الأخرى المنقولة في النسخة الأم، ومنها ما يتعلق بمكان النسخ وزمانه ... إلخ. وعادة ما تذكر هذه المراحل كلها في نهاية الترجمة توثيقا للنص وكأنه وثيقة شرعية تخضع لقوانين الكتابة والتدوين. وكل مقالة لها خاتمة عن وجوه النقل تحتوي على خط الناسخ المنسوخ منه واسم صاحب النسخة وخطه وسنة النسخ، والمقابلة بين النسختين بحضرة الثاني وإثبات الاتفاق، وكأننا محضر حديث أو في مصلحة التوثيق. وقد لا يتحقق في كل ترجمة كل هذه الشروط بل بعضها، مثل اسم المترجم واسم الناسخ في البداية أو في النهاية ، والتصحيح والمقابلة على النسخة المنقولة والنسخة الأصلية المنقول عنها. وبعد المراجعة ختم وكأننا أما شهود في الشهر العقاري.
1
هناك أولا اسم المؤلف أرسطو أو الإسكندر أو ثامسطيوس. وعندما يقال بحسب رأي أرسطوطاليس فإن الترجمة تعني أنها ترجم للموضوع المستقل عن الشخص، والشخص له رؤية في الموضوع المستقل عنه مثل غيره من الأشخاص. وقد يكون ذلك في بداية الكتاب أو المقالة، وفي النهاية أيضا لمزيد من التأكيد.
2
وقد يكون المؤلف اثنين: المؤلف الأول، ثم الجامع أو المؤول أو المفسر، مثل كتاب أثولوجيا أرسطوطاليس تفسير فرفوريوس الصوري.
3
ولا بد أولا من التعرف على اسم الناقل مثل إسحاق بن حنين، وكذلك ذكر النص المترجم وأنه ليس شرحا أو تلخيصا.
4
ويذكر أحيانا اسم المؤلف مع المترجم ورقم المقال مع اسم الكتاب في بداية المقال، وفي آخر أو في بداية الكتاب وآخره. ويدل ذلك على الأمانة العلمية والدقة التاريخية في حضارة، اتهمت بأنها ليس كذلك عن طريق الانتحال، ولا فرق في ذلك بين ناقل النصوص أو التعاليق أو الشروح. وقد يذكر اسم الناقل في أول كل مقالة أو كتاب وفي آخره أيضا. وقد يذكر لكل المقالات في الأول وفي الآخر، إذا كان الكتاب كله مكونا من عدة مقالات، مثل مقالات الإسكندر الأفروديسي. وقد يكون هناك الناقل والمصلح أي المراجع والمعدل والمصحح، مثل نقل عن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي لأثولوجيا أرسطوطاليس وإصلاح الكندي.
5
وقد يذكر أيضا لمن تتم الترجمة أو إصلاحها؛ أي القارئ الأول لها الذي تمت الترجمة له، مثل إصلاح الكندي أثولوجيا أرسطوطاليس لأحمد بن المعتصم بالله، الذي ألف له الكندي رسالته في الفلسفة الأولى.
6
كما تذكر الغاية من النسخ وهي التذكرة، ليس للحصول على المعلومات بل للعظة.
7
ويذكر أيضا اسم الناسخ حتى يدخل التاريخ، ويصبح مع المؤلف والمترجم جزءا من تاريخ النص.
8
ويذكر اسم النسخة قاطيغورياس أوباري أرمينياس، حتى لا يتم خلط الموضوعات بعضها ببعض، أو وضع أسماء موضوعات من الناقل أو الناسخ أو القارئ، ظنا إذا ما وجد المضمون متفقا مع هذا المؤلف أو ذاك، أفلاطون الإلهي أو أرسطوطاليس الحكيم أو الشيخ اليوناني أفلوطين أو فيثاغورس، وكذلك التعرف على اسم الناسخ،
9
ويتكلم الناسخ عن نهاية المخطوط وكأنه صاحبه. (2) أسماء النسخة وصاحبها والتعرف على الخط والمقابلة مع الأصل
أما صاحب النسخة فلا بد أن يكون معروفا ومسئولا؛ خوفا من التدليس وانتحال نسخ مجهولة الصاحب. وكان أصحاب النسخ هم المترجمون أنفسهم، مثل الحسن بن سوار وعيسى بن إسحاق بن زرعة، واسم المترجم إن كان غير صاحبها، واسم مؤلف النص الأول، أرسطو مثلا، فإن لم يكن معروفا ذكر ذلك بدافع الأمانة العلمية. وإن كانوا أكثر من واحد يذكر الجميع، اثنان أم ثلاثة، سواء كانوا معلومين عن يقين أو عن ظن أو مجهولين. يعلم مترجم ويظل الثاني مجهولا. وقد يعلم مترجمان ويبقى الثالث مجهولا يشك في نسبة الترجمة إليه. وقد يكون صاحبها هو الذي نسخها أو اشتراها معا؛ وبالتالي صحة البيع واسم محرر الوثيقة.
10
وقد يكون المخطوط وقفا وليس ملكا لأحد.
11
ويتم التعرف على خطوط النسخ المختلفة للتيقن من صحتها، أسوة بمناهج النقل الكتابي المعروفة في علم أصول الفقه، المناولة والإجازة، وتعرف التلميذ على خط الشيخ قبل أن يروي عنه. وقد يكون ذلك في بداية الكتاب أو المقال أو في النهاية.
12
كما يتم التعرف على المخطوطة المتوسطة التي منها يتم النقل في حالة عدم نقله من الأصل، وذلك عن طريق التعرف على الخط مثل خط يحيى بن عدي، أو التعرف على خط دستور الأصل الذي يتم منه النسخ مباشرة، أو التعرف على خط النسخة الأخيرة إذا ما تم النسخ أو القراءة منها.
13
مقابلة النسخ مع دستور الأصل؛ أي النسخة الأصلية، حتى تتم المطابقة بين الفرع والأصل، ومقارنة النسخ بعضها ببعض، حتى تتم مراجعتها جميعا على الأصل، وعادة ما يكون للمترجم الأول إسحاق بن حنين. وقد تكون المراجعة بقراءة النص المترجم في إحدى نسخه على أحد المترجمين الآخرين العارفين بالنص الأصلي، ثم تتم مراجعته وموافقته كما يتم في عصرنا الحالي. وهذا أحد شروط التواتر الكتابي ، مقابلة النسخة بنسخة الأصل مع نسخة أخرى منقولة من ناسخ آخر (نسخة الحسن متفقة مع نسخة عيسى بن زرعة المنقولة من نسخة يحيى بن عدي). وتتم المراجعة مقالة مقالة وليس الكتاب كله دفعة واحدة، والحكم على كل نسخة وتحديدها الزماني هل هي قديمة أم حديثة، وذكر النسخة الأصلية التي منها تم النسخ، التي تمت مقابلتها على الأصل اليوناني وتصحيحها عليه، وذكر مراجعة النسخ على الأصل اليوناني نفسه.
14
فإذا ما وجدت أكثر من ترجمة فإنها تثبت كلها الواحدة تحت الأخرى وكأنها أناجيل متقابلة، عرضيا وليست وطوليا. قد يكون المترجم اليوناني واحدا في الأصل، ثم تثبت ترجمتان أو أكثر سريانية.
15
وتكون المقابلة بالأصل اليوناني السرياني أو العربي. (3) اللغة والعلم والمعلق والقارئ
وتتحدد اللغة المنقول منها اليونانية أم السريانية أم العربية، وكذلك اللغة المصحح منها اليونانية أم السريانية. وقد تبقى اللغة المنقول منها مجهولة أو معلومة ظنا.
16
ثم يتم التصحيح للنسخ غير المطابقة للأصل، والتميز بين الترجمة السليمة الترجمة السقيمة، وذكر عيوب الترجمة السقيمة، والنقل من النسخة الأقل سقما بعد ذكر قيمة النسخة المنقول عنها، وهل هي مصححة من نسخ أخرى، وذكر قيمة النسخ الأخرى.
17
ويتم الحكم على المضمون؛ أي على العلم الذي يتعرض له النص، والحكم بمرتبته ومستواه بالنسبة للمنطق أقل منه، أو أعلى من حيث الانتشار والقراءة. وتلك بداية للحديث في المضمون وترك الشكل، والانتقال من فن الترجمة إلى الصناعة نفسها، ولكن المضمون هنا ليس لذاته؛ أي من أجل صياغة الفكر، بل من أجل ضبط الصياغة؛ فكلما كان المضمون رفيعا لاقى النسخ اهتماما أكثر، ومستوى الرفعة هو صناعة المنطق.
18
ويتم تحديد المعلق على الترجمة أيضا،
19
وبيان أوجه الفرق بين النص والشرح.
20
ثم يتم التعرف على القارئ الذي يقوم بتحويل الكتاب إلى متلو، وضمان صحة القراءة ومطابقتها للكتابة، والاجتهاد في فهم النص من القارئ،
21
بل وضرورة معرفة مالك المخطوط ملكية شرعية، كما هو الحال في الوثائق والمكاتبات والبيوع والإيجارات طبقا لقواعد التدوين في الشريعة الإسلامية.
22
ويمكن أن يكون الشاهد حاضرا واقعة الكتابة والنسخ والفراغ منها. (4) المكان والزمان والحالة النفسية والدينية
ويذكر المكان الذي تتم فيه الترجمة أو النقل أو المراجعة أو القراءة؛ حرصا على ضبط النص والتحقق من صحته، ومنعا للانتحال في الأماكن القاصية، وتحديد المدينة مثل خوزستان والمكان داخل المدينة مثل القصير. وقد يذكر مكان المقابلة بين النسخ ليس الإقليم أو المدينة، بل مكان الجلوس قلعة أو منزلا. وأحيانا تذكر المناسبة العامة.
23
ذكر الزمان الذي تتم فيه الترجمة أو النسخ أو المراجعة أو القراءة من أجل التحديد الزمني للنص، سواء زمان دستور الأصل أو زمان النسخ الأول أو النسخ الثاني أو النسخ الأخير، وفي الغالب التأريخ بالإسكندر المقدوني. ويتم تحديد زمن نسخ كل مقالة من الكتاب إذا كان كتب على فترات. ويعلن الناسخ نهاية الخطوط، ويضع التحديدات الزمانية والمكانية وكأنه صاحبه.
24
يتضمن النص أيضا عدة فقرات تدل على حديث النفس، وعلى أن الترجمة ليست حرفة بل رسالة، ليست صنعة بل قضية؛ فالمترجم يعمل بوجدانه وشعوره، ويسمع حديث نفسه، ويخاطب الأجيال القادمة، كما نفعل أحيانا بالحديث عن أزمة العصر وهمومه؛ فلا فرق بين العلم والوطن، بين اهتمامات العالم وهموم المواطن؛ لذلك قد تنتهي الخاتمة ببيت من الشعر للتذكر والتدبر أو بدعاء،
25
ثم تأتي البسملات والحمدلات والصلوات والآيات لختم هذا الجو الديني ختما شرعيا يدل على التشكيل الكاذب، والوصول إلى المركز أو القلب أو القمة دون إعلان، وكذلك تحديد زمان المقابلة بين النسخ.
26
سابعا: الترجمة نقل حضاري
(1) الترجمة بين التاريخ والفكر
ليست الترجمة مجرد نقل نص من لغة أولى إلى لغة ثانية، بل هي نقل حضاري للنص الأول من حضارة أولى قديمة إلى حضارة ثانية حديثة؛ فالنص ليس منعزلا عن سياقه الحضاري الأول الذي خرج منه، ولا عن سياقه الحضاري الثاني الذي دخل فيه. ينقل النص من حضارة إلى أخرى، وهو محمل بسياقات حضارية متعددة، تجعل الترجمة نقلا حضاريا، وليس مجرد استبدال لفظ بلفظ أو عبارة بعبارة من اللغة المترجم منها إلى اللغة المترجم إليها، خارج الزمان والمكان وخارج المقاصد العامة في كل حضارة. ويمكن اعطاء نماذج من الترجمات العربية القديمة، لإثبات أن الترجمة بدايات التحول من النقل إلى الإبداع.
وهناك نصوص من الفلسفة اليونانية لم تصل القدماء ووصلتنا نحن، من خلال الطبقات أو الترجمات الحديثة. وهناك نصوص أخرى وصلت القدماء ولم تصلنا نحن، مثل كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو. وهناك نصوص وصلت القدماء ووصلتنا في ترجماتها ثم ضاع أصلها اليوناني، ولا يوجد لها إلا الترجمة العربية مثل صناعة لديوفانطس،
1
وهناك أجزاء لم تصلنا من نصوص وصلتنا مثل القسم الخاص بالضحك من كتاب الشعر.
2
أكثر من أربعة أنواع: الزمان ومع ذلك، لا يمنع ذلك كله من تحليل النصوص الموجودة كعينة ممثلة للنصوص المفقودة، وإصدار حكم على طبيعة العمليات الحضارية التي تنشأ في حالة الالتقاء بين الحضارات، اليونانية والإسلامية نموذجا. وهناك ترجمات عربية أصولها اليونانية مفقودة، والترجمات العبرية واللاتينية إنما تمت من الترجمة العربية، والتي أصبحت البديل عن النص الأصلي المفقود.
ولا يهم ترتيب كتب أرسطو زمانيا؛ فوحدة العمل الأرسطي وحدة بنيوية وليست تكوينا تاريخيا، بل إن وحدة عمل أرسطو تتعالى على التصنيف والترتيب الزماني. ومع ذلك يوحي نص المنطق، خاصة كتاب العبارة، أن المنطق متأخر في التأليف، بدليل الإشارة إلى كتاب النفس.
3
ويدل على أن المنطق آخر ما كتب أرسطو، ليس فقط نضجه وإحكامه، بل أيضا الإشارة إلى الأعمال السابقة مثل «في النفس» و«ما بعد الطبيعة».
4
ويدل أيضا على ذلك قسمة العلوم؛ فالمنطق للقول، والنفس للمعنى، وما بعد الطبيعة لوحدة التعريف. إن الإشارة إلى المواضع (الجدل) تدل على أنه كتب قبل العبارة أو في نفس الوقت مع الإحالة إليه. والأقرب إلى العقل أن كتب المنطق كتبت كلها مرة واحدة، بدليل إحالة الكتاب المتقدم مثل العبارة إلى الكتاب المتأخر مثل القياس.
5
ويدل على ذلك إحالة الكتب المتأخرة إلى الكتب الأولى والعكس بالعكس، إحالة الكتب الأولى إلى الكتب المتأخرة مثل إحالة التحليلات الثانية إلى التحليلات الأولى.
6
ولا يهم المكان الذي ألقى أرسطو فيه السماع الطبيعي في أثينا، عندما كان عضوا في أكاديمية أفلاطون أو بعد عودته من آسيا الصغرى، وإنشائه اللوقيون أو في أفسوس التي انتقل إليها بعد وفاة أفلاطون، إلا من حيث أثر المكان على الفكر. وهي مشكلة النص اليوناني ومحليته، وليست مشكلة الترجمة العربية.
7
وهي مشكلة أوروبية صرفة ناتجة عن مشكلة الأناجيل والصحة التاريخية للنصوص وليست إسلامية؛ فالمكان والزمان والمؤلف الصحيح كلها شوائب تاريخية، لا تهم النص حامل المعاني المستقلة. كما أن هناك روايتين للمقالة السابقة، تأخذ الترجمة العربية بالثانية لأسباب غير تاريخية. أما مشكلة نسبة المقالة السابقة لأرسطو فلا تهم المسلمين في شيء. الفكر غير مشخص، والنص مستقل عن صاحبه سواء كان أرسطو أو غيره.
والعجيب أن أهم نص لأرسطو وهو الإلهيات لم تحفظ ترجمته، والمعروف منها فقط من خلال شرح ما بعد الطبيعة لابن رشد المعروف باسم التفسير الكبير. يمكن جمعه وإعادة تركيبه بعد أن شرحه ابن رشد بطريقة الشرح الأكبر. هل عبثت به يد الزمن أم يد فقهاء السلطان؟ هل ضاعت وكيف يضيع أهم نص؟ لو كانت الترجمة موجودة لأمكن معرفة وضع النص حضاريا، خاصة في موضوع يمس جوهر العقيدة الإسلامية، وموضوعها الرئيسي وهو «الله»، هل كان المنطق والطبيعة والسماء والعامل أكثر شيوعا؟ فالإسلام منطق وطبيعة وليس في حاجة إلى إلهيات. كما أنه سماء وعالم، توجه نحو الكون وليس نحو الله. الله نفسه توجه نحو الكون بالكلام والخلق.
8
هل كان السبب في عدم شرح ما بعد الطبيعة ووجود ترجمة لها، وتعليقات وجود أثولوجيا أرسطوطاليس التي أغنت البحث في الإلهيات؟ ومع ذلك، فإن تأليف الفارابي بيان غرض أرسطو في ما بعد الطبيعة وكتاب ابن رشد «تفسير ما بعد الطبيعة» وتلخيصه «تلخيص ما بعد الطبيعة»، يدل على شيوع هذه الترجمة. وقد استطاع الفارابي إعطاء المضمون كما استطاع ابن رشد التمييز بين الإلهيات الأرسطية والإلهيات الأفلوطنية. لقد شرح المنطق عدة مرات فهل شرحت الطبيعيات والإلهيات بنفس القدر، أقل أم أكثر؟ وهل شرحت النفسانيات والأخلاقيات والاجتماعيات؛ أي الفرد والمجتمع، قدر شرح المنطق؟ لماذا لم يشرح الفلاسفة الأخلاق إلى نيقوماخوس أو السياسة أو دستور أثينا؟ لماذا لم يشرحها مسكويه؟ هل انقضت مرحلة الشروح وأمكن احتواء الأخلاق والسياسة مباشرة من النص اليوناني، على عكس المنطق والطبيعيات والإلهيات؟ أم إن الأخلاق والسياسة موضوعات مألوفة في الحضارة الإسلامية من العلوم الفقهية والشرعية، وليست في حاجة إلى تمهيد بشروح الأخلاق والسياسة الوافدة؟ هل فرضت أقسام الحكمة عند الحكماء، المنطقية والطبيعية والإلهية، شرح مثالها عند اليونان؛ وبالتالي خلت من شروح الأخلاق والاجتماع والسياسة، أم إنها ترجمت وضاعت نسخها جميعا؟ وهل ترجمت أساسا سياسة أرسطو ودستور أثينا كما ترجمه المحدثون؟
9
هل كان في الشريعة غنى عن ذلك؟ هل كانت الدولة مستمرة لا تحتاج إلى نظرية سياسية، عكس احتياجها إلى علوم الحكمة، المنطق والطبيعيات؟ وما عن الثورات المستمرة والخروج على الأئمة وقهر المعارضة، والتنظير للاستيلاء على السلطة بالشوكة؟
ويتم النقل الحضاري كلما كان المنقول عقلانيا طبيعيا أو أخلاقيا سياسيا كان نقله من الحضارة القديمة إلى الحضارة الجديدة أسهل وأكثر هدوءا وأقل تأويلا، مثال ذلك ترجمة كتاب «المقولات» لأرسطو؛ إذ يمتاز الكتاب بأنه عقلي بديهي لا يرفضه العقل؛ وبالتالي يتفق مع أساس الحضارة الجديدة. كما يمتاز بأنه بحث في اللغة وتحديد معاني الألفاظ، وهي موضوعات مرتبطة بالحضارة الناشئة عن طريق الوحي باعتبارها كلاما، لفظا ومعنى، وباعتبار حضارة العرب قبل الوحي في الشعر، فالحضارة الناشئة حضارة كلمة وكتاب «المقولات» منطق اللفظ، ومن هنا أتى الاتفاق.
10
وإن البداية بتحليل العبارات والقضايا لهي بداية منطقية لتحليل الكلام، فإذا كان الموضوع هو الكلام، فإن المنطق بالضرورة يكون منطق قضايا. وقسمة المنطق قسمة بديهية، مثل قسمة الشيء إلى ما في الذهن وما في الخارج، وتطابق كثيرا قسمة الوحي
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون . والتدرج الذهني في المنطق مثل التدرج الذهني في الطبيعة، الأجناس والأنواع والعقول العشرة، محمول المحمول، الأجناس والأنواع. المقولات العشر مثل الجوهر والأعراض، الذات والصفات، الشمس وأشعتها، الجوهر قرصها، والأعراض التسعة خارجة منها، لا فرق إذن بين المنطق والطبيعة من حيث البنية الذهنية، وهي البنية القائمة على قسمة الشيء إلى المركز والمحيط ، والإيجاب والسلب ، والأصل والفرع، والكل ولا شيء، والتي ظهرت في الأشعرية والتصوف.
وتضاف إلى المقولات العشر مقولات أخرى، تعتبر استطرادا لها، مما يشكك في صحة نسبتها إلى مجموعة المقولات. ولما كانت الصحة التاريخية ليست موضوعا عقليا، تظل هذه المقولات موضوعات تعبر عن نفس البنية الذهنية مثل التقابل والتضاد، والتقدم (والتأخر)، والمعية (والتتالي)، والحركة (والسكون).
11
وقد تغيب من لواحق المقولات ألفاظ أخرى، تظهر في الشروح؛ فالتقابل والتضاد ضدهما التساوي والهوية والتشابه، والتقدم يحيل إلى التأخر، والمعية تحيل إلى التتالي، والحركة تشير إلى السكون؛ فهي كلها أسماء بالإضافة أو بالضد. وقد يتحول الموضوع من حالة خاصة إلى حالة عامة؛ فالمتقابلات هي التقابل، ومن الجمع المتقابلات إلى المفرد التقابل، حتى يصبح الموضوع عقليا صوريا خالصا يعبر عن بنية العقل؛ فهي مقولات خارج العشرة؛ أي خارج الجوهر والأعراض، تتعلق بعلاقات أخرى مثل الشيء في مقابلة، الشيء وضده، الشيء في الزمان (التقدم أو التأخر) أو في المكان (المعية أو التتالي). علاقة الهوية والاختلاف، والهوية والتضاد تعبر عن قوانين العقل الثلاثة: الهوية والاختلاف والثالث المرفوع، أو عن الشيء في التاريخ، التقدم والتأخر، والمعية والتتالي. وقد تحول ذلك في الحضارة الناشئة إلى التقدم والتأخر وأنواعه بالرتبة أو الشرف وإلى أنواع الأضداد؛
12
فالتقدم أكثر من أربعة أنواع: الزمان، والوجود، والرتبة، والشرف. هناك تقدم بالعلية، وتقدم الفكر على الوجود، وتقدم المفهوم على الماصدق أو العكس، التقدم بين الحكم والشيء، بين المحمول والموضوع. وهناك التقدم المنطقي، تقدم الأجناس على الإطلاق.
13
وفي أنواع الحركة يظهر التضاد في ستة مقولات: التكون والفساد، والنمو والنقص، والاستحالة والتغير في المكان. ويبدو أن المنطق ليس بهذا التجريد، إنما هو نظير لواقع حسي، ويظهر ذلك في سؤال: هل الكلية مقولة أم علاقة؟ وآثار ذلك على الملكية في إثباتها؛ لأنها جوهر أو لأنها علاقة بدليل نفي ملكية الزوج للزوجة.
14
وفي كتاب «العبارة» يبدو المنطق كنظرية في الفكر بديهية هندسية، تبدأ من الأخص إلى الأعم؛ فالمقولات تمثل الألفاظ، والعبارة القضية، والقياس العلاقة بين قضيتين، والبرهان شرط أن تكون العلاقة منتجة صحيحة في منطق اليقين. وفي منطق الظن قياس آخر. يهدف الجدل إلى التمويه، والسفسطة إلى المغالطة، والخطابة إلى الإقناع، والشعر إلى التخييل. وهندسيا المقولات هي النقطة، والعبارة مجموع النقاط التي تكون خطا، والقياس خطان متوازيان، والبرهان الموازيان لثالث متوازيان. وعلى هذا النحو يكون المنطق نظرية في الفكر تقوم على البداهة الهندسية. ويكون السؤال: هل يمكن تصور نظرية أخرى في المنطق أو قسمة أخرى غير ثنائية ثم رباعية، أم إنها قسمة عقلية يتقبلها كل عقل، إنسانية عامة، وليست يونانية أرسطية بالضرورة؟ والحديث هنا عن منطق الفكر وليس منطق الواقع؛ أي عن نظرية الاستدلال، الفكر مع نفسه أو الجدل، الفكر في حوار مع الآخر؛ فالواقع مفهوم جديد في الحضارة الناشئة أولا ثم رد فعل في الحضارات الغربية الحديثة ضد الفلسفة المدرسية ثانيا. وقد اتبع الأصوليون القدماء تحليل الألفاظ والقضايا، ليس لأنهم عرفوا المنطق القديم، بل لأن الحضارة الجديدة تقوم على اللغة والكلمة، اللغة في الشعر والكلمة في الوحي. والبدء بتعريف الألفاظ وحدودها، هي بداية طبيعية للفكر في تحديد معاني الكلمات، موازيا للمنطق القديم وليس تابعا له؛ فأرسطو هو الأصولي وليس الأصولي هو أرسطو، الفرع لا يكون أصلا، والأصل لا يكون فرعا. ليس النظر على مستوى تاريخي في الأسبقية في الزمان، بل على نحو حضاري؛ أي التمايز بين الأنا والآخر، بل إنه في حالة النظر التاريخي فإن آدم، في الحضارة الناشئة، هو أول البشر، وهو الذي عرف الأسماء كلها وراجعها، وتحقق من صدقها وحسن استعمالها. مبحث الألفاظ إذن هو المدخل اللغوي للمنطق، يليه بحث المعاني؛ فالصوت دال على الآثار التي في النفس،
15
وهو ما قرره الأصوليون جميعا بل والحكماء والصوفية والنحويون والبلاغيون، وما يتفق مع الحس السليم؛ لذلك ارتبط كتاب «العبارة» بكتاب «النفس». والصدق والكذب في العبارة؛ لأنها في التركيب والتفصيل؛ أي في شكل القضية وصورة الفكر، وليست في مضمونه بالمطابقة مع الواقع، النفسي أو الفعلي، المطابقة مع الواقع رؤية جديدة للصدق في الحضارة الناشئة أولا تأكيدا للعالم، ثم في الحضارة الغربية الحديثة ثانيا اكتشافا للعالم وللمصدر الطبيعي للمعرفة ورد فعل على إنكاره في الفلسفة المدرسية. أما الأقوال الخطابية والشعرية فإنها خارج الصدق والكذب بهذا المعنى الطبيعي؛ فالمقصود منها الإقناع والتخييل وإحداث الأثر في النفس. وقد يتم التضحية بالنحو في سبيل الشكل الهندسي للقول، وهو ما يبدو من أشكال القياس اللامتناهية الأقرب إلى المربعات الهندسية؛ حيث يظهر فيها الإنسان مجرد لفظ في قضية، ونقطة في خط، وخط في خطوط متوازية؛ مما دفع بالأصوليين إلى نقد الصورية والعودة إلى الواقع، وتكامل المنطق في الخبرة البشرية العامة. ولو برع الفلاسفة المسلمون في اكتشاف أشكال جديدة للقياس مثل الشكل الرابع، أو تعديل أشكال قديمة بالضم أو الفصل، بالحذف أو بالإضافة، فإنما يتم ذلك أيضا باسم العقل وبمزيد من الإحكام العقلي. وعمل العقل على نفس مستوى ثقافة الآخر لضمه واحتوائه كحليف وليس كغريم، كصديق وليس كعدو. والحقيقة أن الموقف الأول مكمل للثاني في مهمتين متمايزتين، الضم والرفض، الاحتواء والنقد، الجذب والطرد.
16
وما دام المنطق أشكالا هندسية فما أسهل اللعب بها كالمكعبات للأطفال! وهذا هو سبب الإسهاب والتطويل والحاجة إلى التركيز والاختصار، والتحول من مستوى الشكل إلى مستوى اللغة؛ فما ظنه المناطقة أنه أشكال قياس بتبادل الأوضاع بين المحمول والموضوع، قد يكون مجرد تقديم أو تأخير في اللغة؛ لذلك نشأ الصراع بين المناطقة والنحويين؛ كل فريق يرى أن موضوع الفكر داخل في علمه بالرغم من مشاركتهما معا في نفس الموضوعات،
17
فإذا ما بالغ المناطقة في تحليل القضية وعكسها وقواعد القلب والعكس، والتضاد بين الكل والجزء والسالب والموجب، يجعل المضمون يثور ضد الشكل فيثور الفقهاء ضد الحكماء، ويرجحون أساليب القرآن على منطق اليونان. هل التعامل مع الأغنياء والفلاحين يكون بأشكال القياس وأسوار القضايا والنفي والإيجاب أم بالصراع الاجتماعي؟ وقد حاول الحكماء أن يقوموا بدور الوساطة بين المترجمين والفقهاء من أجل تحويل المنطق إلى لغة، كما حاول الكندي والفارابي، تحويل أدوات النفي من أسوار للقضايا إلى نحو، والضد في النفي إلى تغيير الألفاظ. وإذا دخل الزمان في التحليل «تقابل المستقبلات الممكنة»، يكون على نحو صوري، مع إغفال زمان اللغة وزمان الفعل والزمان التاريخي.
18
ومع ذلك يظل كتاب القياس والبرهان خاصة يثيران الذهن الذي يضجر من الصورة بلا مضمون، ومن كون الصدق والكذب في أشكال القضايا، وليس في إحالتها إلى مادة في الذهن أو النفس أو الواقع. وإذا كان القياس مقدمة للبرهان وليس أصلا مستقلا فلأن الغاية هو العلم البرهاني، وهو ما يتفق مع الحضارة الحيوية، القائمة على طلب البرهان. ومع ذلك تظل للمنطق ميزة أنه يمكن تطبيقه في أي موضوع. وقد استفاد منه القدماء خير استفادة، واستطاعوا تجاوز ازدواجية الثقافة بتركيب المنطق على النحو، وازدهرت الحضارة الإسلامية كنظرية في العقل طبقا لروح العصر القديم. والسؤال الآن: كيف يمكن التحول من روح العصر القديم إلى روح العصر الجديد، وتجاوز ازدواجية الثقافة المعاصرة بين المنطق القديم والمنطق الجديد، بين الشكل والمضمون، بين الجوهر والعلاقة، بين الثبات والحركة، بين الهوية والتناقض، بين الفكر والواقع؟ (2) الترجمة قراءة
وليست الترجمة حرفا بحرف، ولفظا بلفظ وعبارة بعبارة، بل قد تكون تلخيصا وشرحا عن عمل المترجم نفسه؛ فالمترجم ملخص وشارح ومعلق، وهي العناصر الأولى في التأليف، وهي الترجمة المعنوية الكلية للعمل برمته، ولبس لبعض العبارات أو الفقرات. قام المترجم نفسه بالتلخيص والشرح، بالحذف والإضافة، قبل أن يقوم بهما الفيلسوف في عملية متصلة تبدأ بالنقل وتنتهي بالإبداع.
وهذا هو ما تم في ترجمة كتاب «الشعر» الذي يصعب فيه معرفة الفرق بين الترجمة والتلخيص والشرح والعرض والتأليف؛ فكلها مراحل متتالية لعملية التمثل والاحتواء للوافد داخل الموروث. وينبه المترجم على ذلك بعدة عبارات التذكير والربط، مبينا أنه يتعامل مع الموضوع أكثر مما يتعامل مع النص، مع المعنى أكثر مما يتعامل مع اللفظ؛
19
فالمترجم يعود إلى الموضوع ويراجعه، ويغير أمثلته ويستبدل بها أمثلة أخرى أكثر تعبيرا عن المعنى؛ لتقريب المعنى الذي يقصده المؤلف الأول، أرسطو اليوناني إلى القارئ الثاني العربي؛ فالمترجم هنا قارئ عربي أول ومؤلف ثان. ولم يحدث ذلك في الترجمات العربية القديمة وحدها، بل حدث أيضا في الترجمات اللاتينية للنصوص اليونانية ولترجماتها العربية وشروحها وملخصاتها، مع استحسان الدارسين لذلك لدلالته على أن كل ترجمته إبداع من اللاتين المترجمين لليونان وللعرب في معيار مزدوج. استعمال المطابقة كمقياس للترجمة العربية والقراءة كما قياس للترجمة اللاتينية.
ولا يجوز للناشر الحديث أن يحذف الزائد أو أن يضيف الناقص، وكأن النص اليوناني هو الأصل، والنص العربي هو الفرع الذي يقاس على الأصل، طبقا لنظرية المطابقة تحت أثر النزعة التاريخية التي سادت الاستشراق في القرن الماضي؛
20
فالمترجم الأول له موقف حضاري، وهو نقل النص اليوناني من بيئته اليونانية إلى بيئة عربية جديدة، مما يجعل الترجمة إعادة كتابة للنص وتأليف ثان. ولما كانت الزيادة الشارحة أكثر من الحذف لغير الدال، بدا الناشر الحديث حاذفا الزيادة أكثر من إضافة الناقص؛ ومن ثم يصبح تحليل الإضافة والحذف من المترجم الأول، وحذف الإضافة وإضافة الحذف من الناشر؛ أي المترجم الثاني، يكشفان عن موقفين حضاريين مختلفين، هو الأول في البداية والثاني في النهاية، الأول في عصر الانتصار والثاني في عصر الهزيمة، الأول في عصر تكوين المشروع الحضاري والثاني في عصر نهايته.
وقد تمت صياغة هوامش نشر «أجزاء الحيوان» لأرسطو، ترجمة يوحنا بن البطريق طبقا لنظرية المطابقة، ومقارنة النصين لمعرفة زيادة الترجمة أو حذفها بالنسبة للنص اليوناني.
21
ليس في الترجمة نقص لا بد من إكماله بالعود إلى النص اليوناني، بل تركيز على المعنى طبقا لقواعد البلاغة العربية وبنية اللغة العربية، أكبر قدر ممكن من المعاني في أقل قدر ممكن من الألفاظ. وليست القضية أن لها مقابلا في النص اليوناني أم لا، بل القضية هي الترجمة في ذاتها في إعادة كتابة النص في بيئة ثقافية جديدة، بل إن النقص في الترجمة بسبب خرم المخطوط وإكماله بالترجمة الحديثة عن النص اليوناني، لا يتسق مع الترجمة القديمة نظرا لاختلاف الموقفين الحضاريين في النوع وليس في الدرجة، بالرغم من انتساب المترجمين إلى حضارة واحدة. كان المترجم القديم ينقل حضاريا ويعيد كتابة النص بغاية إثراء الداخل بالخارج، في حين أن المترجم الحديث يبغي المطابقة ، خدمة للنص الأول وذيوعه خارج حدوده طبقا لتقابل المركز والأطراف؛ لذلك يطلق على الترجمة لفظ التفسير لبيان أنها لا تعني المطابقة بين النصين بل القراءة، قراءة النص الثاني للنص الأول.
22
يعني الحذف نوعا من التركيز وتجنب التكرار مثل جمع المخالب كلها في اسم واحد دون تفصيل، للإبقاء على الدلالة الكلية بارزة بدل أن تضيع وسط التفصيلات.
ولا يعني التأويل، أي فهم النص الأول بثقافة النص الثاني، أي تحريف يجب تصحيحه أو خطأ يجب تصويبه.
23
وهذا التأويل وارد أيضا في الترجمات الحديثة؛ نظرا لاختلاف اللحظتين الحضاريتين في الدرجة، وإن لم يكن في النوع لانتساب النصين إلى حضارة واحدة. وقد يعني الاقتصار التفسير عند اليونان أيضا مثل كتاب أرسطوطاليس في النبات، تفسير نيقولاوس ترجمة إسحاق بن حنين بإصلاح ثابت بن قرة.
24
وقد يستعمل إخراج بدلا من ترجمة للتأكيد على أن الترجمة لا تعني المطابقة بين النصين الثاني والأول، بل هي إعادة كتابة للنص الأول من منظور ثقافة النص الثاني.
25
وقد تعني كلمة تفسير إعداد أو إخراج مثل أثولوجيا تفسير فرفوريوس الصوري، وترجمة عبد المسيح الحمصي الناعمي.
26
ويستعمل لفظ إخراج بمعنى ترجمة حتى ولو لم يكن هناك نقل حضاري.
27
ولا توجد ترجمة صحيحة وأخرى خاطئة، بل هناك ترجمات عدة طبقا لتعدد المترجمين القدماء، طبقا لإبداع كل مترجم في نقل الترجمة من بيئة ثقافية يونانية إلى بيئة ثقافية عربية. وإذا كان هناك فرق بين المترجمين القدماء في الإحساس بالترجمة، فالأولى أن يكون هناك فرق بين المترجم القديم والمترجم الحديث. ولا يعني تقدم الزمن أن تكون الترجمة الحديثة أصح من القديمة؛ نظرا لاختلاف الموقف الحضاري بين الترجمتين، النقل الحضاري أو القراءة في الترجمة القديمة والمطابقة في الترجمة الحديثة. ومن الطبيعي أن تكون الترجمة غير واضحة عن البعض، وأكثر وضوحا عن البعض الآخر؛ فالترجمة ليست فقط مترجما ونصا مترجما بل وقارئا، وما في ذهن المترجم قد لا يطابق تماما ما في ذهن القارئ. ويتعدد فهم النص المترجم كما تتعدد ترجماته؛ إذ لا يوجد معنى موضوعي داخل النص في العالم الخارجي يفهمه الجميع، المترجم والقارئ.
28
ومن الطبيعي أن يكون في بعض الترجمات اضطراب؛ فلا توجد ترجمة سقيمة على الإطلاق، ولا حتى الترجمات الآلية المعاصرة. ما يسمى بالاضطراب هو الرغبة في الدخول إلى مضمون العبارة، وإعادة كتابتها من منظور فكري آخر ولبيئة ثقافية مغايرة؛ فلا توجد ترجمة رديئة يتم تحسينها؛ لأن كل ترجمة كذلك.
29
ولا توجد ترجمة سقيمة، إلا من حيث أداء المعنى أو التصاقا بالنص اليوناني لعدم وجود عاشق ومعشوق للخروج من الترجمة الحرفية إلى النقل الحضاري.
30
ولا يوجد تحريف في الترجمة؛ فمفهوم الترجمة يقوم على الأصل والفرع، النص المترجم هو الأصل والترجمة هي الفرع. إذا ما طابق الفرع الأصل كانت الترجمة صحيحة، وإذا ما لم تطابق كانت انحرافا.
31
كل ترجمة قراءة؛ فقد استبدل المترجم بالألعاب الأوليمبية الميدان؛ لأن اللفظ الأول خاص ومعناه عرفي، ولا يصبح مفهوما في بيئة ثقافية أخرى. أما الميدان فهو لفظ عام يسهل فهمه في الثقافة الجديدة.
32
وإذا كان اللفظ متشابها مثل
Logos ، فإن المترجم قد يبقي أحد المعنيين، وهو القول دون الآخر وهو العقل. وقد يفضل الناشر الحديث البديل الثاني عن الأول؛ فالإحساس بالمعنى يختلف من مترجم إلى آخر، وكذلك اختلاف العصور والاهتمامات للمترجمين عبر السنين.
33
كما يفضل كلمة الشره على الفجور، بل إن اللفظ المحكم نفسه قد تختلف ترجماته بين القدماء والمحدثين؛ فالحاكي عند القدماء هو الممثل عند المحدثين، بعد أن كان «المشخصاتي» أيضا عند أوائل المحدثين.
34
والدناءة عند القدماء هو الاحتقار والازدراء عند المحدثين، والبحري عند القدماء والبحار عند المحدثين، المتغلبون عند القدماء والطغاة عند المحدثين، وكذلك يمكن القول فيما يظن الناس قديما وهو الرأي العام حديثا.
ويجوز للمترجم أن يذهب إلى المعنى الاشتقاقي أو الاصطلاحي أو العرفي في الترجمة، طبقا للسياق ومقتضيات النقل الحضاري، مثل اشتقاق لفظ العدالة من القسمة إلى نصفين؛ ومن ثم إمكانية استعمال المعنيين الاشتقاقي والاصطلاحي. وقد تختلف المعاني الاشتقاقية؛ فاللفظ ليس له أصل واحد؛ فالجامعة هو اشتقاقا القياس المنطقي. وهذا هو السبب في ترجمة أسماء الأعلام إلى كلمات ؛ لأن الأسماء لها معانيها الاشتقاقية، وترجمة الديمقراطية رئاسة العوام.
35
ولا يوجد خطأ وصواب في الترجمة؛ لأن اللفظ لا يفيد فقط معناه القاموسي المعجمي، ولكنه يفيد في سياق أعم. قد يتغير الضمير بين الجملتين أو العدد طبقا لبناء الجملة العربية. وقد يتغير اللفظ مثل المسألة إلى العلة من أجل تدقيق المعنى وإبراز الخاص من العام. كما لا يعني الخطأ قياس العلم القديم على العلم الحديث. العلم القديم له مستوياته وفلسفته وتصوراته المغايرة للعلم الحديث مثل وظيفة المرة.
36
ما يسمى خطأ هو في الحقيقة دمج لعدة ألفاظ في لفظ واحد، تجاوزا للتفصيلات الجزئية وحفاظا على الصورة الكلية، وبهذا المعنى لا يوجد في الترجمة العربية كثير من الأخطاء، بل تجاوز للتفصيلات للمعنى الكلي، لا يوجد تحريف في الترجمة؛ لأن التحريف لا يوجد إلا على مستوى الألفاظ، والترجمة تتم على مستوى المعاني. ولا توجد ترجمة رديئة ما دامت تحافظ على المعنى أولا، وعلى جماليات الأسلوب ثانيا. وما يسمى خطأ في الترجمة مثل استبدال تامة بمتميزة ومستقلة نوع من التصور الثقافي للمعاني؛ فالمتميز المستقل في ثقافة هو التام في ثقافة أخرى.
ولا يوجد خطأ في الترجمة العربية؛ فالترجمة ليست نقلا حرفيا، حرفا بحرف، وفعلا بفعل، واسما باسم، وأداة بأداة؛ فلكل لغة أسلوبها؛ فقد يبرز الفاعل في الترجمة توضيحا للمعنى، بالرغم من أنه متضمن في الأصل.
37
والنص الأصلي له جهاز نقدي تفصيلي، يعطي المادة التفصيلية الخام التي يمكن تحليلها من أجل العثور على منطق النقل الحضاري، وذلك مثل «تعبير الرؤيا» لأرطميدروس أو «تاريخ العالم» لهورسيوس أو «المقالة الرابعة عشرة من كتاب طبائع الحيوان البحري والبري» لأرسطوطاليس، ترجمة يحيى بن البطريق من اليونانية.
38
ودون التعرف على هذا المنطق الدقيق قد يقال إن الترجمة العربية غير دقيقة. والحقيقة أن هذه الدقة تعني الحرفية، والترجمة العربية ترجمة للمعنى وليس للفظ، أقرب إلى تلخيص المعنى والتعبير عنه، في أقل قدر ممكن من الألفاظ طبقا لتعريف البلاغة العربية، فلا تحاسب الترجمة لفظا بلفظ طبقا لترتيب الجملة اليونانية أو لعدد ألفاظها؛ إذ تقتضي الجملة العربية ترتيبا آخر وألفاظا أقل. دقة المعنى هو الخاص وقد تتجاوزه الترجمة إلى العام من أجل إعادة توظيفه والتعبير عنه. قد تكون الترجمة غير دقيقة، ولكنها أجمل أسلوبا وأوضح تعبيرا وأسهل فهما، ويمكن التعبير عن المعنى بأكثر من طريقة، وكل الطرق صحيحة. وإن إسقاط بعض الألفاظ من النص اليوناني لا يعني أن الترجمة العربية غير دقيقة، بل يعني أنها مركزة وواضحة المعنى، أكبر قدر من المعاني بأقل قدر من الألفاظ. ولا توجد ترجمة رديئة تطمس معالم النص الأول؛ لأن المقصود من الترجمة ليس الحفاظ على تضاريس النص الأول، بل وضع تضاريس ثانية من البيئة الثقافية للنص الجديد. ولا يعني قلب الترجمة الإيجاب سلبا منفيا، والسلب إيجابا منفيا أي خروج على النص الأول؛ فلكل لغة طرقها البلاغية في النفي والإثبات. كما أن لكل لغة ذوقها، فإذا أشار النص اليوناني إلى أن الطبيعة كالرجل العاقل، فإن الذوق العربي يقتضي الحديث عن الطباع والفطرة الخيرة، ولكل لغة أسلوبها في الشرط والحذف، ولكل لغة بلاغتها في التركيز والاطناب، في التقديم والتأخير. وإذا كان غرض أرسطو وصف الحيوان، فإن غرض المترجم دلالة الحيوان؛ أي علم الحيوان كجزء من العلم الطبيعي، والعلم الطبيعي كجزء من علوم الحكمة.
39
ولا يعني وجود فرق شاسع بين النص اليوناني والترجمة العربية أي نقص في الترجمة؛ فالترجمة لا تعني موازاة كمية النص اليوناني لفظا بلفظ وعبارة بعبارة، بل التقاط المعنى من عل، من سياق العبارة ومن المعنى الكلي لها، ثم إعادة التعبير عنه بألفاظ أخرى، من اللفظ اليوناني إلى المعنى، ثم من المعنى إلى اللفظ العربي، وليس من اللفظ اليوناني إلى اللفظ العربي.
لا توجد ترجمة عربية رديئة، بل تعديل للصورة والتركيز على المعنى، مثل استبدال ولادة الحيوان بوضع البيض، واستبدال مخرج الفضلات هو نفسه سبيل الزواج إلى فضلة البول.
40
ويمكن ترجمة كل لفظ أكثر من معنى، طبقا لإيحاءات اللفظ والرغبة في زيادة شحنته أم خفضها من أجل التأثير في القارئ؛ فالفعل الذي يفيد تأكيد القول والجهر به في اليونانية، قد يترجم بفعل يزعم؛ فكل تأكيد زعم،
41
ولكن ليس من المعقول أن الترجمة العربية لا تؤدي أي معنى، وإلا ما كانت ترجمة وما كان المترجم مترجما، أو أن المترجم العربي لم يفهم عبارة تفصيلية في وصف أجزاء السمكة، إذا كانت لا تؤثر في الدلالة العامة. وما دامت الترجمة العربية تؤدي المعنى، فلا يهم مطابقة اللفظ باللفظ، والحرف بالحرف، والعبارة بالعبارة. والحكم على الترجمة بالغريبة أو البعيدة يرجع إلى الحاسة اللغوية للمترجم، وإدراكه للمعنى قريبا أو بعيدا. والاكتفاء بالدلالة الكلية دون التفصيلات الجزئية في النص الأول لا يكون ترجمة بعيدة.
ولا توجد ترجمة تقلب المعنى رأسا على عقب لتغيير أدوات النفي، وإلا لما تأسست علوم الحكمة ولما تزاوج الوافد مع الموروث في إنشاء الحضارة. ولكل لغة طرقها في النفي والإثبات عن طريقي نفي النفي للإثبات ونفي الإثبات للنفي، بصرف النظر عن وضع أدوات النفي أمام النفي. لا توجد ترجمة تفهم عكس المعنى المقصود وإلا كانت خبلا؛ لأنها تتم بالقصد والغرض.
وتخضع جماليات الأسلوب العربي إلى اختلاف الإحساس بجماليات اللغة من القدماء إلى المحدثين، ومن مترجم إلى مترجم قديم أو حديث؛ فما قد يظنه مترجم ركيكا قد يكون عند مترجم آخر بليغا.
42
ويلاحظ الناشر الحديث بين الحين والآخر حسن اختيار المترجم العربي القديم، فإذا ما تطابقت الترجمة العربية مع النص اليوناني، وآثرت الإبقاء على النص الأول مع التضحية أحيانا بجماليات الأسلوب العربي؛ لأن المترجم ليس له ميزان من ذهب لقياس طبيعة الحركة من اللفظ إلى المعنى، والتوتر بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية، اتهمت الترجمة العربية بأنها حرفية ولم تتجاوز العبارة اليونانية! ففي كل الحالات الترجمة العربية غير دقيقة، إذا التصقت بالمعنى وضحت باللفظ، وإذا التصقت باللفظ وضحت بالمعنى.
43
ولا تختلف الترجمات الأوروبية الحديثة عن الترجمات العربية القديمة في الحذف والإضافة، والتأويل والقراءة والتأليف غير المباشر، فتلك طبيعة الترجمة. إلا أنها في الترجمة العربية سقط وتحريف وسوء فهم، وفي الترجمة الغربية احتمالات وترجيحات واختلافات بين الترجمات.
44
ولا يعني كل اختلاف بين النص اليوناني والترجمة العربية أي خلط أو لبس، أو تشويش أو سوء فهم، بل يعني اختلاف الأسلوب العربي عن الأسلوب اليوناني طبقا لمقتضيات البلاغة، مثل القسم بالله «بحق هرقل»، «سألتك بالله معطي الحياة» بدلا من زيوس المشتق من لفظ الحياة، والحياة صفة من صفات الله. وقد يكون معنى لفظين مختلفين معنى واحدا في ذهن المترجم العربي، الذي يريد معرفة القصد الكلي للنص دون الفروق بين المعاني الجزئية. وأحيانا يكون الخلاف بين النص والترجمة في إحساس المترجم، والفروق بين المترجمين بين الترجمة الحرفية والترجمة الأدبية، بين معنيين مثل الخداع والغفلة اللذين يدخلان كلاهما تحت نوع ثالث هو الرذيلة. والإعلان في النص اليوناني بشارة في الترجمة العربية، خاصة وأن المترجم مسيحي.
45
وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من الخلط بين لفظين متشابهين صوتيا من حيث الألفاظ، ولكن ذلك لا يؤثر في المعنى المقصود نقله من حضارة إلى أخرى.
46
وإذا كان للفظ اليوناني ترجمتان واختار المترجم العربي القديم الأول، فلا يعني اختيار المترجم الحديث المعنى الثاني أي خطأ في اختيار المعنى الأول، وكلاهما معنيان محتملان، وإنما هي القدرة اللغوية والإحساس بالمعنى، هو الذي يحدد أحد الاختيارين. وفرق بين إحساس القدماء وإحساس المحدثين؛ فالفرق ألف عام والموقف النفسي والحضاري بين الاثنين مختلف. الترجمة ليست فقط نقلا للمعنى، بل أيضا أداء للفظ؛ ومن ثم قد تحول الترجمة العربية النص اليوناني الركيك إلى أسلوب عربي بليغ.
47
وأحيانا تعيد الترجمة العربية بناء الحوار وقسمته بين الشخصين، فيقل أو يزيد الحوار من شخص إلى آخر على خلاف النص اليوناني؛ فأسلوب الحوار يختلف من لغة إلى أخرى. وقد تكون العبارة في الترجمة العربية على لسان شخص آخر، غير الشخص الأصلي في النص اليوناني؛ فالمهم هو منطق الحوار وموضوع الحوار وليس شكل الحوار، وتبادل الحوار بين السائل والمحب ليس خطأ في الترجمة، بل إعادة بناء للحوار وتجميعه بدل تقطيعه، فيضيع جمال الأسلوب. وقد تنقل عبارة من موضعها إلى موضع آخر، ومن شخص إلى شخص، حسب مقتضيات أساليب الحوار العربي وجماليات الأسلوب. وقد يقتضي الحوار تغيير الضمائر من المتكلم إلى المخاطب،
48
بل قد يتعدى الأمر إلى إعادة بناء الموضوع كله؛ فالتغيير ليس فقط في الألفاظ والعبارات أو الفقرات، بل في إعادة ترتيب الفصول والأبواب وإعادة تركيب النص من جديد؛ فالترجمة تأليف.
49
ومن مقتضيات الترجمة استبدال الأمثلة المعروفة العربية بالأمثلة غير المعروفة اليونانية، حتى يتم توضيح المعنى بإحالة المجهول إلى المعلوم وليس المجهول إلى مجهول. وهذا الاستبدال هو بداية الشرح والتلخيص؛ فالمسافة بين الترجمة والمراحل التالية لها متصلة وليست منفصلة. ويمكن تحويل أسماء الأعلام إلى معان خاطئة لو كان الاسم نسبة مثل المحار؛ فالاسم مشتق من المهنة. ولا يهم دقة المثل وترجمته بل دقة الممثول؛ فالمثل ما هو إلا حامل للممثول.
50 (3) الحذف والإضافة
وقد وقع الحذف والإضافة أيضا في الترجمة العربية القديمة لكتاب الأخلاق.
51
وقد ترجع احتمالات الإضافة إلى إضافة في النص اليوناني نفسه أو في النسخ العربي، ولكنه في الغالب مقصود من المترجم تركيزا على المعنى واستبعادا للإسهاب غير الدال وغير الضروري لفهم المعنى. ويتدخل المترجم بعبارته خارج النص المترجم ويعلن عن حذفه، ويبرره مصححا اقتباس أرسطو من شعر أسيودوس ويذكر الشعر الصحيح. الترجمة إذن مراجعة للنص المترجم وتصحيح لشواهده بالرجوع إلى مصادرها الأصلية. يتحول أرسطو إلى آخر، ويتم الحديث عنه في صيغة الغائب المفرد.
52
ويحذف الناشر الحديث عبارة المترجم هذه باعتباره خارج النص، مع أنها جزء من عمل الترجمة بمعنى التصحيح والمراجعة. وقد يضيف المترجم لفظ «الطيور» مع الكلاب ربما لأنها في النص اليوناني الذي كان عنده، والذي لم يكن عند المحدثين، وربما لأنه أفيد لشرح المعنى باستعمال مثلين، الطيور مع الكلاب، وتخفيفا لوقع الكلاب بالطيور؛ فالترجمة تقوم على إحساس مرهف باللغة؛ فالزيادة في الترجمة العربية لا ترجع فقط لأن المخطوط اليوناني الأصلي قد كان مختلفا عن المخطوط اليوناني الموجود حاليا، بل لأن هذه الإضافات بدايات التعليق والشرح والعرض والتأليف في صورها الأولى.
قد يكون الحذف تمزقا أو نقصا في الأصل اليوناني، مسموح به استكماله عند الناشر الحديث وليس عن المترجم القديم .
53
وقد يكون حذفا مقصودا نظرا لما تتميز به اللغة العربية من تركيز أكثر من اللغة اليونانية؛ فالترجمة ليست حرفية بل نقل معنى النص اليوناني من تركيب الجملة اليونانية إلى تركيب الجملة العربية، ومن الأسلوب اليوناني إلى الأسلوب العربي. وإذا كان الحذف أكثر من الإضافة عند المترجم القديم، فقد تكون الإضافة أكثر من الحذف عند الناشر الحديث لرغبته في الشرح والتوضيح.
54
لا يجوز للناشر الحديث إكمال الناقص في الترجمة القديمة؛ لأنه بذلك يغير موقفها الحضاري ويفرض موقفا جديدا عليها ليست منها؛ فالترجمة القديمة للمعنى والحديثة للفظ،
55
وقد يرجع الحذف إلى غياب فعل الكينونة في اللغة العربية، كما لاحظ الفارابي بعد ذلك، وكذلك حذف كل ضمائر التوكيد التي تجعل المعنى مشحونا بالإيحاء، مما يتنافى مع القصد الهادئ نحو المعنى.
ومع الحذف والإضافة هناك أيضا إيجاد أمثلة بديلة أكثر بيانا للمعنى المترجم من الأمثلة اليونانية.
56
وهذا ليس إخلالا بالنص بل إبرازا للروح في بدن جديد، مثل الترجمات المعاصرة التي يوضع فيها عمرو وزيد بديلا عن بطرس وبولس في حالة ضرب المثل بأي شخص بمعنى فلان أو فلان؛ فكثيرا ما يحذف المثل غير اليوناني المجهول؛ لأنه لا يقوم بدوره في التوضيح، شرح المجهول بالمعلوم، وربما يكون الحذف للانتقاء بمثل واحد بدلا من مثلين. وكان من الطبيعي أن تسقط أسماء الأعلام كأمثلة في الشرح واستبدال أسماء عربية بها، إو إسقاطها كلية في التلخيص حتى لا يبدو النص المنقول ثقيلا بأسماء غريبة، تزيد من غموض المعنى أكثر مما توضحه؛ وبالتالي لا يجوز للناشر الحديث إكماله من النص اليوناني الموجود حاليا؛ نظرا لاختلاف المخطوطات اليونانية واختلاف الموقف الحضاري للمترجم القديم والناشر الحديث أو للسقط السهو من الترجمة أو الناسخ؛ فالغاية ليست إعادة تكوين النص اليوناني، بل نقله من حضارة إلى أخرى، ومن استخدام إلى آخر. ليس النص اليوناني هو الأصل والنص العربي هو الفرع، بل النص العربي هو القراءة والنص الأصلي هو المقروء. والترجمة في النهاية هي عمل أدبي وإحساس مرهف بالكلمات والجمل؛
57
فيمكن ترجمة المثل اليوناني بطريقة أقرب إلى المثل العربي. ويمكن إسقاط الأمثلة اليونانية كلها وأسماء الأعلام، والاكتفاء بلفظ إنسان أو إسقاط أسماء الأعلام، وتحويلها إلى المعاني التي ترمز لها، مثل إسقاط أصل ميغارا ووضع أهل الصلف والنخوة مكانها، تحويلا للواقع إلى مثال، والمثل إلى ممثول.
ولا يجوز تصحيح الترجمة العربية القديمة بالشروح والتلخيصات والعروض والمؤلفات التالية في نفس الموضوع؛ فهذه المراحل المتتالية لتمثل النص واحتوائه ليست غايتها الترجمة؛ أي الحفاظ على الأصل اليوناني، بل تحويله إلى نص عربي لفظا ومعنى وموضوعا. كما أنه لا يجوز تصحيح التلخيص بالترجمة فهما غايتان مختلفتان. التلخيص تركيز على الموضوع كما أن الشرح تركيز على المعنى، في حين أن الترجمة أقرب إلى صياغة العبارة. صحيح أن المراحل المتأخرة في التعامل مع النص مثل الشرح والتلخيص قد تساعد في فهم المراحل المتقدمة مثل الترجمة، وفي هذه الحال يكون النقل مقدمة للإبداع ثم يساعد الإبداع على إحكام النقل. من النقل إلى الإبداع إلى النقل انتقال من اللفظ إلى المعنى والشيء، ثم من الإبداع إلى النقل لتصحيح النقل الأول.
58
ولا يعني الحذف والإضافة مجرد تحسين في أسلوب الترجمة، إنقاص حرف أو زيادة آخر، بل يعني الحذف والإضافة الدالين على المعنى تركيزا وإسهابا؛ فقد كانت بعض الترجمات العربية القديمة مثل ترجمة متى بن يونس لكتاب الشعر، أقرب إلى الترجمة الحرفية خاصة وأنه منقول عن السريانية.
59
وفي الترجمة العربية القديمة لكتاب «طبائع الحيوان» تترك أسماء الأعلام كما هي دون حذفها، ربما لإحساس المترجم بأنها مفهومة لدى القارئ العربي، وهو عالم بثقافة الحيوان كما هو الحال عند الجاحظ. وتضاف تعليقات في الهوامش، قد تكون عن المترجم أو من الناسخ وربما من القارئ، كاحتمالات أخرى للترجمة وليست خطأ، كما يعتبر الناشر الحديث طبقا للنص اليوناني والترجمة الحديثة له؛ فالترجمة عمل جماعي.
60
قد تكون الترجمة العربية القديمة غامضة، كما هو الحال في كل الترجمات التي تتراوح بين الوضوح والغموض، الوضوح إذا كانت ترجمة معنوية والغموض إذا كانت ترجمة حرفية. ومن الطبيعي أن تكون الترجمة الحديثة أكثر وضوحا بعد ما يزيد على الألف عام من الترجمة الأولى، وحصيلته في فهم التراث الأرسطي. يمكن شرح الترجمة العربية القديمة بأسلوب حديث دون أن يكون بديلا عنها، وتصويبا لها؛ نظرا لتباعد العهد بين الأسلوبين.
إن تعليقات الناشر الحديث وطريقة تعامله مع الترجمة العربية القديمة، لهي نفسها موضع دراسة مستقلة للكشف عن الموقف الحضاري للمترجم الحديث، مقارنة إياه بالموقف الحضاري للمترجم القديم، الأول يقوم على الإبداع والثاني على المطابقة، الأول يتم في عصر الانتصار والثقة بالنفس، ومن منطق القدرة على التمثل والاحتواء، والثاني في عصر الهزيمة والإحساس بالنقص أمام الغرب، ومع غلبة النزعة التاريخية في القرن الماضي عليه في الدراسات الإنسانية. (أ) الحذف
الحذف تركيز واتباع بنية الجملة العربية وليس الجملة اليونانية. ولا يجوز للناشر الحديث إكمال المحذوف، حتى يجعل الجملة العربية تابعة للجملة اليونانية، تبعية الفرع للأصل على مستوى اللفظ، والمحيط للمركز على مستوى المعنى. ويعني الحذف إسقاط المثل اليوناني لعدم دلالته؛ فوظيفة المثل توضيح الممثول، وأن يكون أوضح منه. والمثل اليوناني لا يعيش في المخزون الثقافي العربي مثل «تتبع نصيحة فالفسو» في الأوديسا لهوميروس.
61
وتحذف بعض الألفاظ حتى يصبح المعنى مطابقا للنص اليوناني؛ فالمترجم هنا لا يقصد معنى الجملة بل معنى الفقرة؛ فالجملة في سياق وفهم المعنى الكلي له الأولوية على معاني العبارات الجزئية. وقد يسقط لفظ دون أن يتغير المعنى الكلي للعبارة، ويرجع ذلك إلى تقدير كل مترجم، خاصة ولو كانت المسافة بين المترجم القديم والمترجم الحديث تزيد على الألف عام؛ مما يقتضي اختلاف الحاسة اللغوية والموقف الحضاري. الحذف ليس سقطا عن سهو أو عن عمد، بل يعني التركيز على المعنى وإبرازه بصرف النظر عن بنية العبارة اليونانية. والسقط وإن كان مهما في حد ذاته، إلا أنه من منظور كلي تفصيل لا يفيد، وظيفة السقط التحول من الخاص إلى العام، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن المثل إلى الممثول. يمكن إسقاط لفظ لا يفيد في التعبير عن المعنى ولا يخل بالمقصود، ولا يعني السقط للفظ أن الترجمة غير دقيقة، بل لأن التخصيص لا يفيد في إبراز المعنى الكلي؛ فالترجمة تحول الخاص إلى عام، والجزئي إلى كلي. كما يعني تجنب التكرار وشرح المثل حتى يظل حيا يثير الخيال.
62
والحذف ليس سقطا من الترجمة العربية، بل تخليص النص عن حوامله المكانية وشوائبه الوصفية، مثل خوف أهل مصر كممثول إبقاء على المثال.
63
والاختصار نوع من الحذف المعنوي تركيز على المضمون، وتقليل من الإسهاب، وإبراز للموضوع وراء الكلام؛
64
فقد أدمج حنين بن إسحاق كلام أبناذقليس وأوميروس في نفس القول ما داما متشابهين.
65
وقد يأتي الاختصار بدلا من الحذف، وضم ثلاثة ألفاظ يونانية في لفظ عربي واحد؛ فكل لغة لها خاصيتها في الإسهاب أو التركيز،
66
إذا كان الحذف سقط لفظ فإن الاختصار حذف جملة، وأحد دوافع الحذف عدم التكرار. والاختصار سقط طويل لا لزوم له؛ لذلك تبدو الترجمة العربية لبعض الفقرات أشبه بالاقتباس.
ولا يعني الحذف أي خلل في الترجمة، بل التركيز على المعنى نظرا للاختلاف بين طبيعتي اللغتين، اليونانية والعربية في درجة التركيز؛ فوصف البخت بأنه أعمى في الترجمة العربية أفضل من ترجمته بأنه أعمى مجنون في النص اليوناني. النص العربي اختصار وتركيز طبقا للأسلوب العربي؛ فالترجمة معنوية وليست حرفية، ولو كانت حرفية لفضل عليها المترجم الحديث الترجمة المعنوية؛ فالترجمة القديمة متهمة في الحالتين. الحذف ليس نسيانا أو إهمالا بل تركيزا للأسلوب وبلورة للمعنى، كما تقتضي بذلك أساليب البلاغة العربية خاصة الوضوح.
67
وقد يعني الحذف أن المترجم يؤلف مع المؤلف، وأن إحساسه باللغة يفرض عليه التركيز من أجل إبراز المعنى وتقويته.
وبالتالي لا يجوز للمترجم الحديث إضافة ما حذفه المترجم القديم بدعوى وجودها في الأصل اليوناني؛ فليس الأصل هو النص اليوناني، والفرع هو النص العربي كما يريد الاستشراق الغربي، بل الأصل هو النص العربي، والفرع هو الأصل اليوناني كما تريد الدراسات الوطنية، والموضوع كله رؤية. ما يتصوره الاستشراق على أنه حذف في الترجمة العربية هو تركيز وتلخيص. وما يتصوره على أنه زيادة هو شرح وتفسير. وما يتصوره الاستشراق على أنه زيادة في الأصل اليوناني هو في الحقيقة حذف في الترجمة العربية. وما يتصوره الاستشراق على أنه نقص في الأصل اليوناني هو في الحقيقة زيادة في الترجمة العربية.
68
والحذف أكثر من الإضافة لأن درجة التركيز في اللغة العربية أعلى بكثير من اللغة اليونانية.
69
وللحذف دوافعه وأشكاله، أوله الاختصار في القول والتركيز على المعنى، وهو أهم الدوافع وأظهر الأشكال، وتوخي الدقة في التعبير طبقا لأساليب البلاغة العربية، أكبر قدر ممكن من المعاني في أقل قدر ممكن من الألفاظ،
70
وقد يكون الدافع على الاختصار معرفة الموضوع مثل الفرس في بيئة تعرف الفروسية، وقد يكون الاختصار للصورة من أجل التركيز على المعنى المباشر؛ فكل لغة لها أساليبها البيانية. وقد يكون الاختصار للتفاصيل حياء من ذكرها خاصة فيما يتعلق بالمرأة. وقد يكون الاختصار للصورة الفنية؛ فكل صورة مرتبطة بلغتها وثقافاتها.
71
ومن العبارات المحذوفة من أجل التركيز والاختصار، حذف ألفاظ القول من أجل التركيز على المقول، والدخول في الموضوع مباشرة دون تقديم له، أو نسبته إلى قائل على القول بعيدا عن القائل، وكذلك حذف ألفاظ التقديم مثل «فواضح أن».
ومن أشكال اختصار العبارة وإبراز المعنى حذف الترادف والتكرار، وكثرة الأمثلة والإسهاب في الشرح والتفصيل، مما يفقد المعنى بريقه وقوة جذبه وقدرته على إثارة معان موازية،
72
وذلك مثل الصعود إلى أعلى والنزول إلى أسفل. يحذف تحصيل الحاصل والشرح المسهب وإيجاد العلل والأسباب مما يقلل من قوة المعنى وأثر الإيحاء بالتفسير العقلاني العلمي للأحداث، وكنوع من التعميم للدلالة دون ربطها بالعلل والأسباب.
73
وأحيانا يكون التعليل تحصيل حاصل لا يزيد على المعنى المقصود شيئا.
وقد يكون الحذف للزيادة غير الدالة أو الواقع غير الدال مثل العد والإحصاء للأفكار، الذي يجعها أشبه بالأعداد الرياضية. ومما يتنافى مع الأسلوب العربي المتصل،
74
حذف الوقائع المادية الجغرافية والتاريخية والإبقاء على دلالاتها أو ماهياتها،
75
التركيز على الفكرة وليس على الواقعة، وعلى معنى واحد لا على معنيين. كما يحذف التعيين والتخصيص والاكتفاء بالجنس أو النوع، مثل الاكتفاء بالحيوان دون تخصيص بالجمل،
76
فتعميم المعنى أفضل من تضييق التخصيص، كما تحذف ألفاظ التخصيص مثل «فقط»، من أجل إطلاق المعنى على حالات أخرى و«خاصة» و«بالأخص». وقد يكون التخصيص بالزمان والمكان والشخص. وأحيانا يوضع التخصيص لمزيد من دقة المعنى.
77
وتحذف بعض عبارات الوصل والتقديم لما هو آت والتذكير بما فات؛ فالربط الخارجي أضعف من الربط الداخلي، وهي عبارات خارج بنية الموضوع ذاته، ولا تدخل في صميم وصفه. وهو نفس ما فعله المترجم اللاتيني مع العبارات العربية، التي لا تدخل في صميم الموضوع في رأيه، ومعظمها العبارات التي تعبر عن التصور الديني للعالم للمترجم وللحضارة المترجم إليها مثل البسملات والحمدلات.
78
ومن دوافع الحذف تخفيف الأحكام وتهدئة العبارة، والبعد عن المبالغة والتطرف من أجل عبارة متوازنة تسمح بالحوار، وبالرأي والرأي الآخر؛ فتحذف ألفاظ كل وجميع، من أجل ضبط الحكم علميا، وجعله أكثر دقة وحيطة من حيث الحصر، وكذلك حذف ألفاظ «جدا» للغاية التي تدل على المبالغة ودفع المعنى إلى أقصى حد، ومثل «كثيرا» وكل أوصاف المبالغة، وأيضا ألفاظ القطع والحسم مثل «بدون شك» و «عن صواب» و«عينه» و«ذاته»، وترك أوصاف التضخيم والتفخيم مثل «مفرط»، «على التام»، وكذلك حذف ألفاظ «مخيف»، «عموما»، «دائما»، «أبدا»، وكذلك حذف كل أفعل التفضيل، وألفاظ «بالطبع»، «لا محالة».
79
ومن أشكال الحذف الانتقال من الجزء إلى الكل، من أجل التعميم؛ وبالتالي التخصيص؛ أي حذف التحديدات الجغرافية والمحلية. كما يتم الانتقال من الواقع إلى القيمة فيحذف الواقع، أو من القيمة إلى الواقع فيتم تمثيل القيمة في عدة وقائع. وهو نفس الدافع السابق في الانتقال من الجزء إلى الكل أو من الكل إلى الجزء.
80 (ب) الإضافة
قد تكون الإضافة ضرورية للشرح، ولا يعني ذلك حذفها واعتبارها زيادة أو مقحمة على النص اليوناني؛ لأن اتجاه الثقافة من القديم إلى الجديد، ومن اليونان إلى المسلمين؛ فالنص يتمدد في التاريخ ويثري عبر الزمان، مثل زيادة تعبير «الفضائل العقلية» لزيادة المعنى، وهي زيادة مستقاة من روح النص وبألفاظه. وقد تعني الإضافة إكمال الصورة وزيادة الاحتمال، مثل إضافة الطيور إلى الكلاب ، طبقا لتصورات البيئات الثقافية للأمثال وضربها. ويضاف إلى فعل الجهال قلة التجربة؛ لبيان أن المعرفة تأتي عن طريق التجربة.
81
وتكون الإضافة بالألفاظ المترادفة زيادة في الشرح والعبارات الشارحة من أجل تجميل الأسلوب؛ ومن ثم لا تعتبر زيادة على النص اليوناني؛
82
فقد أضاف المترجم ألفاظا كثيرة لشرح كلمة الاستدلال: الشيء الذي يحتاج إليه، الشيء الذي من أجله احتيج إليه. كما توضع عناوين للفقرات مثل في استخراج فرقة أصحاب التجارب. وقد يضاف مثل جديد مثل الفيء. وقد توصف وظيفة الدواء إمعانا للفائدة مثل «التي من شأنها أن تجتنب السم وتجففه». وقد تكون العبارة لتقديم النص ولربط اللاحق بالسابق مثل «بما قال لك صاحب التجربة»، كذلك إضافة «ولا قريب» زيادة في الإيضاح. وقد تكون الإضافة لبيان جدل الفكر والخلاف بين الفرق مثل «من مناقضة أهل هذه الفرقة»، وإعطاء مثل جديد، ورم آخر هو مرض انبعاث وشرح مرض «التي تحتبس فيها وتنبعث منها». وقد تكون الإضافة بذكر اسم علم مثل أبنادقليس، لم يذكرها النص الأصلي ظانا بالمترجم أن النص الأول قد نسيها إكمالا للصورة.
83
أما الإضافة فهي لتوضيح المعنى وربط العبارات بعضها بالبعض من أجل الدلالة على المعنى الكلي؛ فليس من الضروري أن يكون لكل عبارة عربية أصل يوناني،
84
هدف هذه العبارة الربط بين المعاني والعبارات، ربط اللاحق بالسابق من أجل تجميع التصور الكلي. قد تعني الإضافة استنباط معنى غير موجود في العبارة، ويحتاج إلى إظهار في عبارة أخرى؛ لذلك تكثر إضافة «كما ذكرنا»، «كما وصفنا» من أجل عادة التذكير والتنبيه على السابق. كما تكثر عبارات يبدأ المترجم فيها بلفظ «أعني»، وهي عبارة شارحة للعبارة الأولى منطلقة من المعنى إلى اللفظ العربي، بعد أن بدأ العبارة السابقة من اللفظ اليوناني إلى المعنى، وكذلك تضاف ظروف الزمان «قبل» و«بعد» لنفس الغاية. وقد يكون الهدف من الإضافة التعليل؛ لأن الفكر غير المعلل لا يكون فكرا علميا، والتعليل أحد سمات الفكر الأصولي. كما تضاف بعض التفصيلات الجزئية لمزيد من الإيضاح والتركيز والتعليل المباشر. وقد يضاف عديد من الأمثلة من أجل توضيح المعنى إذا كان مجردا. والإضافة لا تجعل الكلام متناقضا بل واضحا. وقد يكون التناقض عند اللغوي وليس كذلك عند الفيلسوف؛ فاللغوي عينه على معاني الألفاظ، والفيلسوف عينه على المعنى الكلي للعبارة. قد تبدأ الترجمة العربية من النص اليوناني، ثم تتجاوزه وتطلق لنفسها العنان؛ لأن التعشيق قد تم بين النصين في فضاء عقلي مشترك، الترجمة هنا تأليف غير مباشر. قد تعني الإضافة التعبير عن المعنى بألفاظ أخرى أكثر تطابقا معا؛ فالمطابقة ليست بين اللفظ اليوناني واللفظ العربي، بل بين معنى اللفظ اليوناني واللفظ العربي. قد تعني الإضافة زيادة في تفصيلات الصورة من أجل توضيح المعنى، وقد تأتي الإضافة بتشبيه عربي قديم، وقد تكون الإضافة استنباط معنى من آخر أو مقارنة بين شيئين إثراء للمعنى. وقد تكون عبارة شارحة أو استبدال صورة بصورة مثل صورة الأنبوبة بصورة الجذع.
ولا تعني الزيادة أي خلل في الترجمة العربية بل تعني بداية الشرح؛ فالترجمة نقل للمعنى على المستوى الحضاري، وليس مطابقة للفظ على المستوى اللغوي؛ فمن مقتضيات الترجمة المعنوية أنها ترجمة شارحة، تزيد وتنقص. وقد تكون الزيادة ركيكة بالنسبة للمترجم الحديث وإحساسه باللغة، وقد تكون بليغة بالنسبة للمترجم القديم وضرورة لإيضاح المعنى الكلي للنص والقصد الكلي للحضارة؛ لذلك آثرت الترجمات الأوروبية الحديثة استبعاد الزيادات العربية، وجعلها إضافات خارج النص دون افتراض أن يكون النص اليوناني كما وصل للمحدثين ناقصا. وتظل قيمة الترجمة العربية الوحيدة في نظر المستشرق، أنها هي التي حفظت الأصل اليوناني من الضياع.
85
والغالب على المترجم الحديث الحكم بالزيادة لا بالنقص، فحكمه على المترجم العربي القديم أنه مسهب، مطيل، شارح، إنشائي في مقابل الغربي وأصله اليوناني الدقيق المركز المختصر، مع أن الزيادات في الترجمة العربية القديمة أقل بكثير من الحذف.
والإضافة أقل من الحذف؛ وذلك لأن درجة تركيز اللغة العربية أعلى من اللغة اليونانية. وقد يبدوان متعارضين، الحذف ضد الإضافة، والإضافة ضد الحذف. والحقيقة أنهما ضروريان ومتكاملان؛ فالحذف للزائد، والإضافة للناقص، وكلاهما يؤديان وظيفتين متشابهتين في الإيضاح والشرح ، والتصوير وصياغة الأسلوب وتطبيق المعنى وضبط الحكم؛ أي إعادة كتابة النص من حيث الأسلوب والمضمون. وقد تكون الزيادة لفظا أو عبارة، تطول أو تقصر طبقا لمتطلبات الزيادة ومقاصدها. قد تكون الزيادة في أحد المخطوطات، مما يدل على أن الشرح ربما كان عند النساخ، قبل أن يكون عند المترجمين، لا فرق بين يونان وعرب. قد تكون الزيادة للإيضاح والتدقيق وإبراز المعنى، سواء كان ذلك بزيادة في التفسير وتوخي الدقة العلمية، أو الاقتصار على لفظ عام مثل بلاد غريبة في حالة عدم معرفة اسم البلد.
86
وقد يكون الشرح عن طريق القلب، قلب السلب إيجابا والإيجاب سلبا، كما هو الحال في قضايا الكلام؛ فالله عاقل فطن، وتزيد الترجمة وليس لئيما، مرة إيجابا ومرة سلبا، ومثل زيادة ولا يتبعون التجربة «بعد» لأنهم يجهلون؛ فالترجمة شرح. وقد يكون التوضيح بالترادف من أجل تقوية المعنى وإبرازه، وإعطائه كل جوانبه وإيحاءاته عن طريق الكلمات، زيادة في الوصف.
87
وقد يكون الشرح لاستكمال الصورة وتدقيقها وتعميقها وبيان كل إمكانياتها؛ فالشرح مزيد من التصوير للتأثير على القارئ؛ فالمترجم مؤلف ثان يساهم معه في نفس القضية؛ فالصورة ليست القارب بل القارب والمجداف والمياه، أكبر تأثيرا في النفس من أحد عناصر الصورة.
88
وقد تكون الزيادة طبقا لمقتضيات الأسلوب العربي والبلاغة العربية، من أجل حسن الترجمة وجعلها أقرب إلى التأليف منها إلى الترجمة، خطوة أبعد من الانتقال من الترجمة الحرفية إلى الترجمة المعنوية؛ فالزيادة لا تكون باستمرار لضرورة المعنى، بل لمقتضيات الأسلوب بزيادة الأفعال أو الضمائر أو الأسماء. ولا يعني الأسلوب فقط التعبير عن الحال طبقا لمقتضيات المقام بل جماليات الأسلوب؛ فالترجمة عمل فني، وتتفاوت أساليب التعبير فيه. كما يستطيع الأسلوب إظهار التعارض بين فكرتين بطريقة أوضح وأكثر استرعاء للانتباه. ولكل لغة أسلوبها في العد والإحصاء والتعامل مع الأعداد، وفي البداية بالفعل أو بالاسم؛
89
فهناك لدى المترجم إحساس بالتمايز بين اللغتين اليونانية والعربية، في الأسلوب وطرق التعبير والإفصاح ووسائل البلاغة.
90
وقد يكون الهدف من الإضافة تخصيص الحكم، كما أن الهدف من الحذف هو تعميمه، كنوع من الإيضاح والتدقيق؛ فالرجل يصبح أمر الرجل، والقوم يصبح القوم الفقراء، والمباراة تصبح كبيرة، ورداءة الكرنب تصبح لجميع الناس. ويهدف تخصيص الحكم إلى إبراز القصد وسرعة الإقناع، مثل وصف الأسنان بأنها سوداء ومتآكلة ومعوجة وفاسدة، وتوضيح نوع العملة المحلية. ويكون التخصيص بظروف الزمان والمكان، وبإضافة الصفات وجميع أنواع أسماء المفعول والزيادات وأدوات الربط في الجملة. وقد يتم التخصيص ببيان العلل والأسباب وإظهار الأبعاد النفسية للموضوع. وقد يتم تخفيف الحكم أو تقويته عن طريق الإضافة، لإحداث ميزان التعادل في الأحكام، وحتى تكون أقرب إلى الدقة العلمية، تخفض الأحكام العالية الصوت، وتقوي الأحكام الضعيفة المنخفضة الصوت. وربما يخفف الحكم لبعض الحياء الوارد عند المترجم أمام النصوص المكشوفة، مما لا يجوز ذكره أو ترجمته حرفيا. وفي حالة تقوية الحكم يضاف لفظ «جدا» أو وصف زائد مثل «رديء» أو «جيد» أو «أبدا».
91
وقد تضاف ألفاظ القول مما يدل على تباعد بين المترجم وموضوعه، وأنه يتعامل معه ليس بمنطق الهوية ولكن بمنطق الاختلاف؛ فعادة بداية الفقرة بمقدمة من المترجم، وربما من الناسخ «قال ...» ثم يذكر اسم القائل لا تدل على تبعية نمطية، كما يحكم بذلك الاستشراق على عبارة «قال أرسطو» مسقطا عليها عادة اللاتين والمسيحيين في العصر الوسيط؛
92
فذكر أفعال القول عادة شائعة، ويستعملها القرآن طبقا لهذه العادة، لدرجة تساؤل العلماء هل هما من القرآن أم مجرد أمر. وقد يكون فعل القول مبنيا للمجهول، وقد يكون في المتكلم والمخاطب والغائب، مفردا أو جمعا. وتأتي ألفاظ مشابهة لأفعال القول مثل «أعني»، «أقصد» لشرح المعنى والتنبيه عليه.
كما يقتضي الأسلوب العربي التقديم للموضوعات، بالإحالة إلى السابق وبالإخبار باللاحق، حتى يتم ربط عناصر الموضوع مثل «التي تقدم ذكرها، من الروايات التي ذكرنا»، وأمثال هذه العبارات التي تحيل إلى السابق. كما يذكر كثيرا لفظ الاسم والمسمى والتسمية، مما يدل على وعي المترجم بالفرق بين الأسماء والمسميات، وأن الترجمة هي القدرة على إيجاد أسماء من لغة أخرى إلى نفس المسميات؛ فالمسميات واحدة والأسماء مختلفة. وقد تتعلق الأسماء ببعض المفاهيم الفلسفية مثل الأعراض، وإضافتها لوصف مجموعة من الصفات في مقولة واحدة، وذلك في حضارة تعرف الفروق بين الأسماء والمسميات، وأن الله علم الأسماء كلها.
93
وقد تغلب الإضافة على الحذف، والعبارة الشارحة على المترادفات طبقا لطبيعة الأسلوب الأدبي أو زيادة في الإيضاح؛ فغرض الترجمة ليس نقل النص اليوناني بل إعادة كتابته بأسلوب عربي لجمهور عربي.
94
يضيف المترجم كلمة «استدلال» على «الشيء الذي يحتاج إليه بالشيء الذي من أجله احتيج إليه».
95
وقد تكون الإضافة في العنوان لإبراز مضمون الموضوع؛ فالترجمة للموضوع وليس للعبارة، للشيء وليس للفظ. وقد تكون الإضافة لحسن التصوير وإكمال الصورة توضيحا للمعنى، الترجمة هنا قراءة وإعادة إنتاج وفهم وتصوير. وقد تكون الإضافة زيادة في بيان وظيفة الدواء ومنفعته؛ فالنص المترجم في الطب والمترجم طبيب يعرف الموضوع، ويترجمه ابتداء من معرفته السابقة لموضوع النص المترجم. وقد يكون الهدف من الإضافة نسبة الرأي إلى صاحبه، من أجل إبراز الاتجاهات من أجل وضع النص في السياق، مثل نسبة الرأي إلى صاحب التجربة، وهي فرقة من فرق طب المتعلمين. وقد تكون إضافة مترادف توضيحا للمعنى، بما يلقيه عليه الترادف من ظلال وإيحاءات جديدة.
ولا ينطبق الحذف والإضافة كقانون عام على كل النصوص المترجمة؛ فهناك نصوص أقرب إلى المطابقة مثل النصوص العلمية الدقيقة، كالطب، ودون بجمال الأسلوب.
96
ولا يتدخل الناقل أو الناسخ أو القارئ في تقطيع النص، وتقسيمه إلى أبواب أو فصول أو إلى وحدات صغرى تسبقها «قال جالينوس»، بل ويعترف حنين بمطابقة النص المنقول منه اليوناني مع الترجمة السريانية، وبمطابقة ترجمة حبيش من السريانية إلى العربية، والحكم بأنه نقل صحيح قدر الطاقة.
97
وعادة ما يخضع منطق الحذف والإضافة والتأويل إلى التصور الديني للبيئة المنقول إليها النص؛ فعندما يتحدث أرسطو عن المعنى المشارك في الإنسان والحيوان للدلالة على الجنس، فإن حنين بن إسحاق يحذف المشاركة مع الإله أيضا؛ لأن الله لا يشاركه في صفاته شيء، وأنه
ليس كمثله شيء ،
98
وكذلك يصف الجرم بأنه آلي، وليس إلهيا لعدم تأليه الطبيعة، واستعمال إلهي بالمعنى المجازي ؛ أي المنظم الذي يسير وفقا لقاعدة
كل شيء خلقناه بقدر .
99
وفي ترجمة قسطا بن لوقا في الآراء الطبيعية التي ترضى بها الفلاسفة لفلوطرخس، يتحكم التصور الديني في الترجمة عن طريق ترك لفظين معربين، كما يسميهما اليونانيون ذامريس وأراس، وتعني الجن وأنصاف الآلهة؛ لأنه لا يوجد في التصور الإسلامي أنصاف آلهة، ويستعمل بدلا عنهما الله والآلة وهي ألفاظ إسلامية، بل ويوصف الله بصفاته الإسلامية مثل الله جل وعز. وهناك مصطلحات دينية مشتركة لا حرج فيها مثل لفظ الكهانة. كان المترجمون حريصين على احترام التصورات الدينية الجديدة، واستعمال لفظ الله بدلا من المبدأ الأول أو العلة الأولى. وهذا ليس تحريفا ظاهرا بل خضوعا لمنطق التشكل الكاذب المزدوج، التعبير عن المضمون اليوناني بألفاظ إسلامية، أو التعبير عن المضمون الإسلامي بألفاظ يونانية. وقد يتعدى الأمر من مجرد الاستبدال اللغوي إلى التصورات ذاتها، والتصريح علنا بأن الله خلق العنصر الذي ليس مصورا، أو الصورة التي نسميها كمالا. وقد يستبدل بلفظ يوناني مثل الداناويون، الذي لا يثير أي معنى في ذهن القارئ العربي، لفظا إسلاميا مثل الحنفاء لاشتراك الاثنين في الغبطة والسعادة. كما حذف المترجم الله لعدم ضمه إلى العنصر (الهيولى)، والصورة تفردا له بالوحدانية ووصفه بأنه عز وجل، وبدلا من العلة الأولى يقول الله. كما يستبدل بلفظ الآلهة جمعا لفظ الله منفردا، وإذن ما لم يتحرج المترجم القديم عن عدم إضافة عز وجل بعد الله، فإن المترجم الحديث لا يحق له إضافتها لعدم وجود نمط واحد عن المترجم القديم. ويسقط وصف الله بأنه نار صناعي في الكون حرصا على التنزيه. وتضيف ترجمة الإسكندر إلى لفظ الله عز وجل.
100
وكل عبارات التمجيد في ترجمة جوامع كتاب طيماوس في العلم الطبيعي، من وضع المترجم حنين بن إسحاق، مثل الخالق تبارك وتعالى فقط، لا وربما من الناسخ لما كانت الترجمة عملا جماعيا، أو عز وجل، وكذلك ترجمة الآلهة بالملائكة؛ لأن الله فرد أحد صمد،
101
وكذلك يضيف عبد المسيح الحمصي الناعمي في ترجمة «أثولوجيا» إلى لفظ الباري عز وجل تعالى، بل إن الباري خالق للأشياء عز اسمه وأيضا الباري الحكيم، بل تستعمل العبارات الإسلامية مثل إن شاء الله تعالى،
102
بل إن إضافة صفات التمجيد لله تمتد أيضا إلى نصوص، قد لا تتفق مع التصور الإسلامي، مثل حجج أبرقلس في قدم العالم؛ فالخالق تعالى هو صفة لله في نص مترجم عن قدم العالم! كما تظهر المصطلحات الشرعية مثل الكفر بالله.
103 (4) الترجمة موقف حضاري
إعادة ترجمة المنطق حاليا عن اللغة اليونانية مباشرة، وهو بعيد للغاية، وعن الترجمات الغربية الحديثة خاصة الفرنسية، دون الموقف الحضاري القديم، ودون أخذ موقف حضاري جديد من الوافد الغربي، كما فعل قدماء المترجمين مع الوافد القديم اليوناني، استشراق خالص يقوم على اعتبار أن النص اليوناني هو الأساس، وأن الترجمة العربية المطابقة هي الفرع، وكلما كانت المطابقة تامة كانت الترجمة صحيحة. ولا يوجد نص أرسطي يوناني موضوع خارج رؤيته الحضارية، كما لا توجد ترجمة له خارج الرؤية الحضارية للمترجم ومقاصده.
104
وتكتفي التعليقات بشرح الألفاظ أو التعريف بأسماء الأعلام والأماكن، كما تفعل القواميس اللغوية والتاريخية والجغرافية الحديثة. وهي كاشفة عن الموقف الحضاري للمستشرق العربي المعاصر، الذي يخلو من أي موقف حضاري جديد بالنسبة للوافد الغربي، والذي أيضا لا يتفاعل مع الترجمة القديمة، من خلال تحليل الموقف الحضاري القديم؛ لذلك تقتصر التعليقات على الهوامش المدرسية، وتختفي شخصية الناشر بالرغم من تضخمها في مجالات أخرى، ويبدو قصير القامة في الهوامش بلا رؤية أو قصد. ولا يضير الترجمة العربية اختلافها مع الترجمات الأوروبية الحديثة، ولا تحسن باتفاقها معها؛ فالموقفان الحضاريان مختلفان. كذلك لم تخضع الترجمات اللاتينية والفرنسية والإنجليزية الحديثة، لنفس عمليات النقل الحضاري التي حكمت الترجمة العربية، نظرا لسيادة النزعة التاريخية ونظرية المطابقة.
الترجمة نقل حضاري للنص من حضارة أولى قديمة إلى حضارة ثانية حديثة، وليس مجرد نص منقول عن سياقه الحضاري. والنقل الحضاري خارج معيار الخطأ والصواب القاموسي، الذي يقوم على نظرية المطابقة وعلم المعاجم، وقواميس اللغة خارج التاريخ والحضارة والثقافة، بل إن الناسخ للترجمة كان له دور إبداعي يتجاوز مجرد النسخ، ويعتمد فيه على تلخيصات تالية معظمها من ابن رشد؛ فالنسخ جزء من العملية الحضارية كالقراءة، النص عمل جماعي منذ الترجمة حتى القراءة عبورا بالنسخ. وتلخيص ابن رشد للمنطق معبر عن رؤيته الحضارية المتأخرة، لإعادة النص الأرسطي الأول إلى نصابه ونشأته الأولى قبل تأويل الشراح، يونان ومسلمين، عودا إلى الأصل، وتمسكا بالنص الأول دون غيره من الشروح. وهو الموقف السلفي الشائع بالنسبة لأولوية النص القرآني على كل التفاسير حوله.
وفي حالة غياب الترجمة العربية القديمة لعمل من أعمال أرسطو مثل كتاب السياسة، قد يقوم مترجم حديث بإكمال هذا النص، ويترجمه ترجمة حديثة عن الفرنسية، وليس عن الأصل اليوناني. وقد ينقل الموقف الحضاري للمترجم الفرنسي في الترجمة العربية الحديثة؛ لأنه هو موقف المترجم العربي الحديث، للنظر إلى اليونان من خلال الغرب، أو لأنه ليس له موقف حضاري عربي قديم أو حديث، كما كان المترجم العربي القديم. يعتمد على الترجمة الفرنسية والإحالة إلى مصطلحاتها، وينقل هوامش المترجم الفرنسي؛ فالعلم لا وطن له. كما أن المراجعة على الترجمة اللاتينية القديمة لا تجدي؛ نظرا لاختلاف الموقفين الحضاريين للمترجم اللاتيني عن المترجم العربي القديم والمترجم العربي الحديث عن الترجمة الأوروبية؛ لذلك كان شرح المعنى القديم للقارئ الحديث تحصيل حاصل. ويدل على الموقف الحضاري للمترجم الحالي وجود معنى موضوعي للنص يأتي من داخله، ويمكن نقله من لغة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، وهو التصور الغالب على الدراسات التاريخية في الغرب في القرن الماضي.
105
وتبقي الترجمة الحديثة على الأمثلة اليونانية القديمة، ما دامت الترجمة تقوم على المطابقة دون إسقاطها أو استبدالها، كما فعل المترجم القديم ثم الشارح القديم.
يجوز للمترجم الحديث شرح أساليب النص القديم وعباراته تسهيلا على القارئ الحديث؛ فاللغة متطورة، دون أن يحيل اللغة العربية كلها قديمها وحديثها إلى اللغة الأوروبية المعاصرة، وإيجاد المتقابلات اللفظية؛ فالموقفان الحضاريان القديم والحديث مختلفان، موقف المترجم العربي القديم وموقف المترجم الأوروبي الحديث، الذي أخذه وتبناه المترجم العربي الحديث، خاصة لو تم تعريب المصطلحات اليونانية على الطريقة الأوروبية، مثل حديث المترجم العربي الحديث عن المنهج الجدلي متشدقا بالحداثة، أو الحديث عن الرأي العام شرحا لما يظنه الناس.
106
وترقم الترجمة العربية لقابس الأفلاطوني طبقا للنشرة الغربية للنص اليوناني، وكأن المقصود خدمة النص اليوناني وليس معرفة منطق النقل الحضاري وراء الترجمة العربية، واعتمادا على تعليقات المستشرقين وملاحظاتهم مثل باسيه، وعلى القواميس العربية لمعرفة أصل الكلمات، وكأن النص اليوناني هو الغاية والترجمة العربية الوسيلة، النص اليوناني الأصل، والترجمة العربية هو الفرع. غاية المستشرق الأوروبي والعربي ضبط النص اليوناني؛ فكل زيادة عليه إضافة، وكل نقص فيه حذف، وكل تغيير فيه خلط.
107
وفي الشرح اليوناني هناك حذف وإضافة وتبديل بالنسبة إلى الأصل المشروح، دون اعتبار ذلك خلطا أو لبسا، سواء كان ذلك من الشارح أو من الناسخ؛ وبالتالي فإن اختيار المستشرق الغربي أو العربي من الترجمة العربية، ما يوافق النص اليوناني، واستبعاد ما يزيد، هو إغفال للترجمة كنقل حضاري، واتباع لنظرية المطابقة، بل والحرفية التي تغفل الترجمة المعنوية. وقد تختلف الرؤية الحضارية بين المترجم القديم والمترجم الحديث؛ فبينما الآداب عن القدماء تدخل في علوم النحو واللغة، فإن الآداب عند المترجم الحديث قد تعني الأدبيات، والتي تشمل العلم. وأحيانا يتربص المستشرق بالمترجم العربي القديم، ويتصيد له الأخطاء لإثبات أنه لم يحسن فهم الثقافة الغربية في مصادرها الأولى، وأن الأوروبي وحده هو سليل اليونان، وهو الوريث لحضارتها الفاهم لمعانيها والناشر لنصوصها، وتبعه في ذلك المستشرقون العرب.
108
ولما كانت الترجمة المعنوية أوضح من الترجمة الحرفية، فمن الطبيعي أن تكون الترجمة العربية أوضح من الأصل اليوناني. ومن طرق الوضوح التركيز دون الإسهاب؛ فالحكم بالتحريف والنقص وسوء الفهم حكم عام، يغفل الترجمة باعتبارها نقلا حضاريا. الترجمة العربية تركز على المعنى وتعيد التوازن إليه، وتوجهه نحو القصد الحضاري الكلي للمترجم.
109
إن الترجمة نقل حضاري، ليس المقصود من نشرها تحقيقها ومراجعتها على أصلها اليوناني، كما فعل الاستشراق الغربي الحديث في حموة البحث عن الأصول، ومعرفة مصير هذا النص الأول الخالص بين أيدي الشراح اليونان والعرب،
110
فهذه عمليات متتالية بعد الترجمة لها وظائف أخرى في التحول من النقل إلى الإبداع. ويصل الأمر إلى حد زيادة عدد المقالات الأصلية للكتاب أو نقصانها؛ إذ يتألف مخطوط نيقوماخيا من إحدى عشرة مقالة بدلا من عشرة؛ فقد أضيف مقال بين السادس والسابع لإكمال المعنى والربط بين الأفكار، خاصة وأن القسمة إلى مقالات من صنع التلاميذ.
111
ولا يجوز للناشر الحديث الحذف في الترجمة العربية القديمة، متصورا أن المحذوف زيادة لأنها ترجمة معنوية وليست حرفية. ولا يجوز إضافة شيء عليها للإيضاح والإكمال؛ لأن الناشر الحديث ليس له نفس الموقف الحضاري للمترجم القديم. كما أنه يضيف ما يعيبه على الترجمة القديمة؛ فالترجمة كنقل حضاري هي الأصل، والنص المترجم هو الفرع. ولا يجوز إرجاع الأصل إلى الفرع في عملية الإبداع؛ فالغاية ليست إعادة تركيب النص اليوناني، بل معرفة مصيره وتحوله في عمليات التمثل والاحتواء في النص العربي انتقالا من النقل إلى الإبداع، خاصة في النصوص الدالة مثل الأخلاق والسياسة، بل إنه لا يجوز وضع عناوين من الناشر على الترجمة العربية القديمة، من أجل تقسيم النص وتقطيعه وتقليد الناشر الغربي؛ فقد قام بذلك المترجم القديم بعبارة قال أرسطو. ودلالة تقطيع النص هي التعامل معه باحترام كامل كنص قرآني، دون الخلط بين المقروء والقراءة، بين المشروح والشرح، مع تمايز واضح بين الموضوع والذات، بين الآخر والأنا. لا تعني عبارة «قال أرسطو» إذن أي تبعية لأرسطو كما قال المستشرقون، بل هي عادة موروثة مثل «قال الله»، «قال الرسول»، وأيضا في أسلوب الاعتراض «فإن قيل»، «فإن قال قائل». تقطيع النص إلى وحدات تساعد على بلورة المعاني وترتيب الأفكار، مما يسهل بعد ذلك عمليات الهضم قطعة قطعة، والتمثل والإخراج والتحول من النقل إلى الإبداع. وقد يكون القول منسوبا إلى أرسطو أو المترجم أو ليس إلى أحد أو أسلوب السؤال والجواب كما هو الحال في تدوين الفقه. وأحيانا ينسب القول إلى ضمير المتكلم الجمع وكأن الوعي الضروري للمترجم إنما هو ممثل لوعي حضاري جمعي.
112
وأحيانا يكون بالمخطوط ثقوب وأماكن بيضاء وسواد وتمزق ونقص، وأحيانا تكون الكلمات غير واضحة أو صعبة القراءة، ولكن لا يجوز إكماله حسب النص اليوناني أو إيجاد دلالات مدرسية للترجمة، مثل التعريف بأسماء الأعلام أو المصطلحات أو الشرح، اعتمادا على الفلسفة الغربية أو اليونانية.
113
ومن المبكر مقارنة الترجمة العربية لكتاب الأخلاق بالمؤلفات الأخلاقية المتأخرة، وكيف أنها اعتمدت عليها فهذا أيضا خاضع لمنهج الأثر والتأثر الذي ساد الاستشراق الغربي، كما سادت النزعة التاريخية؛ فليس المهم التشابه بين كتاب الأخلاق وتقسيم إخوان الصفا للصنائع النظرية والعملية، فهذا أدخل في موضوع التأليف وليس الترجمة. كما أن إحالات المضمون إلى الفلسفة اليونانية السابقة أو الفلسفة الإسلامية التالية، هو أيضا أفضل في التأليف منه في الترجمة. وإذا كان لا بد من المقارنات فيجوز ذلك مع الفلسفة الغربية؛ من أجل نقل الفلسفة الإسلامية من مرحلة قديمة إلى مرحلة جديدة.
114
وتظهر الترجمة كنقل حضاري في ظهور المصطلحات الإسلامية في الترجمة، وفي مقدمتها لفظ «الله»، واستحالة ترجمة لفظ «الله» جمعا و«الشريعة» أو «الفريضة». كما يستعمل لفظ «إلهي» و«متأله» مفردا وجمعا.
115
كما تفتتح الترجمة وتختتم بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على الرسول، بصرف النظر عن كون ذلك من المترجم أو الناسخ أو القارئ، إكمالا للترجمة كنقل حضاري.
116
وقد تكون هذه الفواتيح والخواتيم في أول كل مقالة وفي آخرها، وتتكرر عدة مرات، وليست فقط في أول الكتاب وآخره مرة واحدة. ولم تكن هناك حاجة لنقل مصطلحات دينية جديدة؛ فالموضوع عقلي أخلاقي، والعقل أساس الشرع.
كما لا يجوز للمحقق الحديث شرح النص المترجم بالرجوع إلى أعمال المؤلف الأخرى؛ فكل نص له وحدته المستقلة أو بالعودة إلى باقي المؤلفين اليونان، مثل شرح جالينوس اعتمادا على أبقراط؛ فكل مؤلف له رؤيته للعالم بصرف النظر عن اتفاقه في العلم الدقيق مثل الطب مع مؤلف آخر. ولا يتم ذلك إلا إذا كان هناك نسق في الترجمة يتضح في كل النصوص.
117
ولا يجوز تصحيح الترجمة العربية القديمة بشروحها وملخصاتها وجوامعها التالية؛ فتلك مراحل مختلفة لحياة النصوص في التاريخ؛ فالتلخيص ليس ترجمة بل هو إدماج للألفاظ، من أجل إبراز المعنى حتى يمكن التعامل مع المعاني بعد ذلك في مرحلة التأليف. كما أن الشرح أو التفسير تفصيل للمعاني حتى يمكن إرجاؤها إلى وحداتها الأولية، قبل إعادة تركيبها في التلخيص. أما الجوامع فهي عود إلى الأشياء ذاتها، من أجل رؤيتها على نحو مستقل بصرف النظر عن الأطر الحضارية؛ لذلك لا يجوز تصحيح ترجمة الأخلاق لأرسطو بتلخيص ابن رشد.
118
وحتى لو كانت الترجمة العربية الصحيحة، فإن مقياس صحتها ليس تطابقها مع النص اليوناني بل حسن أدائها المعنى، وليس مقياس صحتها تطابقها مع الترجمة الغربية الحديثة؛ نظرا لاختلاف الموقف الحضاري للترجمتين.
119
كما أنه ليس من مهمة الترجمة العربية تصحيح الترجمة الغربية الحديثة؛ فليس الهدف هو إيجاد ترجمة غربية «صحيحة» والوسيلة هي الترجمة العربية القديمة؛ نظرا لاختلاف الموقف الحضاري بين الترجمتين. وإذا كانت الترجمة العربية خاطئة محرفة، تحذف وتضيف، وتخطئ وتسيء فهم، فكيف يمكن استعمالها لتصحيح الترجمة الغربية الحديثة؟ ولا يجدي الفرح بتطابق الترجمة العربية القديمة مع الترجمة الغربية الحديثة، إلا حين الإحساس بالنقص أمام الآخر.
120
ولا يجوز تصحيح الترجمة القديمة بشراحها العرب؛ فالترجمة نقل والشرح تحول من النقل إلى الإبداع. الترجمة عمل حضاري مزدوج، نقل النص من ثقافة الوافد إلى ثقافة الموروث. والشرح عمل حضاري واحد، تحويل النص من نص مترجم إلى نص شارح في ثقافة الموروث، خطوة نحو العرض والتأليف والتراكم ثم الإبداع.
121
ثامنا: الشراح اليونان
(1) النص والشرح
إن ترجمة التفسيرات اليونانية مع النص اليوناني لتدل على احترام النص وتراثه من عقلية شبيهة تقدس النصوص والتراث، وفي حضارة قامت على مركزية النص القرآني ونشأة العلوم التراثية منه وحوله في دوائر. وقد قام بذلك الشراح اليونان مفسرين النص الأرسطي اعتمادا على الفلاسفة السابقين على سقراط، الطبائعيين الأوائل الذين تحدثوا عن الماء والهواء والتراب والنار، العناصر الأربعة كتاريخ، قبل أن تتحول إلى نظرية في الأسطقسات عند أرسطو.
1
وكانت البداية أرسطو لأنه أهم سلطة في الفكر، ومن أجل ربط الفكر بالتاريخ واستمرار الحضارة من الماضي إلى الحاضر، من أصولها إلى فروعها، من جذورها إلى ثمارها .
ولا ضير من ترجمة شروح وتفسيرات حضارية أخرى؛ فلا فرق بين النص وشرحه، كله وحدة واحدة ومعنى متكامل دون تمييز بين نص المؤلف ونص الشارح؛ فالغاية من الشرح الحفاظ على وضوح المعنى وتجاوز حرفية الترجمة، حتى بعد إصلاحها من مترجم آخر، فإصلاح الترجمة حلقة متوسطة بين الترجمة والتعليق، كما أن التعليق حلقة متوسطة بين الترجمة والشرح. وقد يغير الشارح العنوان نفسه ويزيد عليه لفظا من أجل بيانه، كما أضاف الشراح وربما الإسكندر إلى كتاب أرسطو «السماء» لفظ «العالم»، فعرف بعد ذلك باسم كتاب «السماء والعالم» منذ عصر بطليموس. ويحاول الشراح استقراء أرسطو في التاريخ والتحقق من شراحه.
2
وإنها مهمة الشارح الأوروبي معرفة العمليات الحضارية بين الشارح اليوناني والنص اليوناني فهو أدرى بها، ويعيش فيها أكثر منا، تلك هي ثقافته الوطنية. أما الباحث منا فيمكن وصف هذه العمليات قياسا على ثقافته وقدرته على وصف التاريخ المعاش.
3
المطلوب قراءة شرح ثامسطيوس لحرف اللام؛ لرصد العمليات الحضارية انتقالا من النص إلى الشرح، ما المحذوف وما المضاف؟ ما الظاهر وما المؤول؟ وتلك مهمة الشارح الأوروبي. مهمتنا نحن معرفة شرح المسلمين بالمؤازرة مع النص الأصلي أو مع الشرح.
4
والشارح اليوناني له فضل السبق في التاريخ؛ فهو أكثر التصاقا بالحضارة اليونانية كبيئة ثقافية تاريخية. ومع ذلك قد يفوقه الشارح الإسلامي عقلا ومقدرة، على فهم معنى النص من حضارة إلى أخرى أكثر عقلانية واكتمالا. وقد يكون الوعي المطابق بين الشارح وموضوعه أقل قدرة على الشرح من الوعي المغاير؛ نظرا لعدم وجود مسافة كافية في الحالة الأولى تكفي للرؤية عن بعد وتوفرها في الحالة الثانية. وهو حال الوعي العربي الآن في التعامل مع الحضارة الغربية، وقدرته على الحكم عليها أكثر من الوعي الأوروبي نفسه؛ نظرا للتمايز الكافي بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. وإن ترجمة الشروح أيضا إنما تدل على احترام النص، وكل ما قيل حوله كتراث نصي له، والاستفادة منه في استقرار المعنى. ويعتمد الشراح اليونان على بعضهم البعض، مثل اعتماد ثامسطيوس على شروح أندرونيقوس والإسكندر وفرفوريوس. وقد يقوم الشراح المسلمون بشرح الشراح اليونان شرحا أو تأليفا.
5
ولم تكن الترجمة لنصوص أرسطو وحدها بل أيضا لبعض شروحها، مثل شرح ثامسطيوس لكتاب النفس لأرسطو. وهنا يزدوج النقل الحضاري، من النص اليوناني إلى الشرح اليوناني لثامسطيوس، ومن الشرح اليوناني إلى النقل العربي لإسحاق بن حنين؛ فقد يقوم حنين بنقل شرح ثامسطيوس بكل ما فيه من قراءة للنص الأرسطي، وقد يقوم بإسقاط هذه القراءة عودا إلى النص الأرسطي. وقد يقوم بإسقاط هذه القراءة عودا إلى النص الأصلي، ثم نقلا له مباشرة من منظور الحضارة الإسلامية. وقد يكون مقدار النقل الحضاري لثاسطيوس أقل بكثير من مقدار النقل الحضاري لإسحاق، الأول نقل إلى الداخل؛ فالمسافة بين المقروء والقراءة ليست كبيرة، والثاني نقل إلى الخارج؛ فالمسافة بين المقروء والقارئ بعيدة. قد يبدو الشرح الداخل أحيانا غير دال، لغويا صرفا، «موضوعيا». في حين أن الشرح الخارجي قد يبدو ممثلا للنقل الحضاري؛ لأن النص ينتقل من حضارة إلى أخرى. الشرح داخل الحضارة يكون أقل دلالة؛ لأن منظور النص هو منظور الشرح، والخلاف بين المنظورين في الدرجة وليس في النوع. في حين أن الشرح من خارج الحضارة يكون أكثر دلالة؛ لأن منظور الشرح غير منظور النص، والخلاف بين المنظورين في النوع وليس في الدرجة. الشرح من داخل الحضارة أقرب إلى منظور المؤلف، والشرح من خارج الحضارة أقرب إلى منظور الشارح باعتباره مؤلفا ثانيا. وإذا كانت هناك عمليات حضارية داخل الحضارة، فلا يدركها إلا اليوناني الذي يعيش عصر الشرح، أو غير اليوناني الذي يعرف منطق الشرح في حضارته وحضارات الآخرين. وبطبيعة الحال تختلف الترجمة العربية عن الشرح اليوناني، كما يختلف كلاهما عن النص اليوناني؛ لأن الترجمة العربية أقرب إلى الشرح أو التلخيص للشرح منها إلى الترجمة المطابقة؛ لذلك أتت تعليقات الناشر غير دالة على منطق النقل الحضاري.
6
ويظهر مستوى النقل الحضاري للترجمة العربية لشرح ثامسطيوس على كتاب النفس لأرسطو، من مستوى العقل الخالص إلى مستوى العقل الإلهي. ويظهر لفظ الله من منظور المترجم العربي بكل ألقابه مثل «تعالى » أو أسمائه «مثل الصانع» وإدخال العقلي الخالص في إطار العقل الإلهي. وتتحدث الترجمة العربية للشرح اليوناني عن أفعاله تعالى وعلمه تعالى، وعدم جواز الجهل عليه (أبنادقليس)، ووجوده في كل مكان (زينون). وهو أيضا الصانع يحتوي على أي معقولات شاء ويخلقها؛ فالله هو الموجودات وهو المنعم بها. وليس الله هو العقل الفعال الأول، بالرغم من أنه غير مائت أبدي، المحرك للأجرام السماوية.
7
والعقل شيء إلهي غير منفصل كما نادى بذلك أرسطو، جوهره وفعله شيء واحد غير مائت مفارق، والطبائع إلهية والأمر إلهي، والمثال إلهي والجسم إلهي، وأفلاطون إلهي، ويعني لفظ إلهي هنا العظيم المبجل. والعقل الإلهي المفارق لا يعقل شيئا من الأمور المشوبة بالهيولى، كما أن العقل الهيولاني لا يعقل شيئا من الأمور المفارقة،
8
بل ويظهر الله في الأسلوب في تعبير «اللهم»، كما يظهر في فواتيح كل مقالة بالبسملة والحمدلة، سواء كان ذلك من الشارح أو الناسخ أو القارئ،
9
وكذلك خواتيمها بالحمد لله رب العالمين.
10
والشرح كنوع أدبي أقرب إلى المقالات القصيرة في صيغة فتوى، سؤال وجواب، وإثارة شكوك، تم الانتصار لأرسطو كما يبدو ذلك من مقالات الإسكندر؛ ففي بداية المقال ونهايته تنبيه على الوضع الحضاري للمقال، إجابة على سؤال في البداية مثل الفتوى، ثم بيان القصد والانتفاع في النهاية، والاجتهاد قدر العلم، والخطأ فيه لا يعني عدم صوابه، كما هو الحال في تواضع الفقهاء. ومع ذلك ينتهي إلى رأي ويدعو إلى الانتصار إليه؛ فالثقافة التزام، بل يتلمس الإسكندر أسباب وجود الآراء غير الصحيحة، ويجدها ثلاثة: الأول طلب الرياسة والغلب مما يصدر في الحق، والثاني صعوبة الموضوع الذي يحتاج إلى الدقيق من الكلام، والثالث عجز الطبيعة عن إدراك الحقائق. وعلى الرغم من هذه الآراء المظنونة، فإنه لا يجب نفي الرأي الصائب؛ نظرا لإمكانية البرهان عليه والذهاب إلى الشرح نفسه؛ فالبرهان العقلي والتجربة الشخصية طريقان إلى يقين، والشكوك فيه لا تنفي صحته، بل يمكن الوصول إلى اليقين فيه بطرق اليقين، بالرغم عن الشكوك والآراء المعارضة. ومقياس الاختيار أيضا بين الآراء عندما يكون الرأي أصلحها للتعبير عن الله عز وجل؛ فالله نموذج اليقين، ويمكن إصلاح الآراء الأخرى بحيث تتفق مع العلم الإلهي. يبدو الإسكندر هنا وكأنه حكيم أو صوفي إسلامي قبل الإسلام، استطاع الوصول إلى ما وصله إليه الحكماء المسلمون عن طريق العقل الخالص، وارتقاء الوعي الإنساني.
11 (2) المراجعة والتأليف
والنص منذ البداية ليس كذلك؛ أي ليس هو نص المؤلف، بل هو نص الشراح اليونان؛ لذلك قام المترجمون بنقل النصوص ونقل الشروح. يعتمد الشرح على المجهود الفردي أولا للمترجم، ثم على أقوال الشراح اليونان ثانيا مثل أقوال الإسكندر.
12
فهناك تفسيرات عديدة للإسكندر لكتاب الطبيعة لأرسطو دخلت ضمن التعليقات والشروح؛
13
فالتفسير عمل جماعي، لا فرق بين الترجمة والتفسير والشرح والتعليق، لا فرق بين النص اليوناني شرحه، ولا فرق بين الشراح اليونان، الإسكندر أو ثامسطيوس. ولا فرق بين النص اليوناني في جملته أو في بعض أجزائه؛ فالمهم الأفكار والمعاني التي تضبط النصوص، الكيف الذي يسيطر على الكم. ولا يهم ترجمة الكتاب كله أو بعض أجزائه؛ فالمهم أيضا هي الأفكار. هي كلها شروح جيدة الفهم، تدل على عمق الدراسات في القرنين الرابع والخامس. لا فرق بين الشارح اليوناني؛ الإسكندر، فرفريوس، ثامسطيوس، أو الشارح العربي، يحيى بن عدي. أحيانا يتم الاعتماد على الشارح اليوناني بمفرده، وأحيانا أخرى مع الشارح العربي منفصلا عنه أو مدمجا فيه، ما دام القصد هو المعنى المستقل. قد يكثر أو يقل الشارح اليوناني في العربي طبقا للمعنى.
14
ويراجع المترجم الشراح اليونان والشراح النصارى والمترجمين العرب الآخرين، ويعتمد على قول أرسطو نفسه لتأييد موقفه وكمقياس للاختيار، والكل يروي عن الأصل وهو أرسطو كما هو الحا، فيما رواه الحديث عن النبي لنشر المعارف ونقل العلوم.
15
هناك رواية من الدرجة الأولى؛ أي السماع المباشر، عندما يسمع المترجم عن مترجم آخر. وهناك رواية من الدرجة الثانية، عندما يسمع المترجم عن مترجم مجهول، وحلقات متوسطة مجهولة، كما هو الحال في المقطوع والمرسل في علم الحديث. يصحح المترجم أو الشارح العربي النصراني للشارح اليوناني فهمه؛ لعدم إصابته في فهم النص ، ويعتمد التعليق على الشراح اليونان تأييدا أو نقدا، اعتمادا أو رفضا، مما يدل على أن التعليق شرح يتعامل مع الشروح الأخرى. ليس المعلق الجديد تابعا للشراح اليونان ولاهثا وراءهم، بل هو رفيق طريق، تقابل معهم عرضا في مهمة الشرح.
16
وقد يرجع التعليق الخلاف بين الترجمات إلى الشراح اليونان.
17
وقد كانت مادة إدماج الشروح في النص أيضا عادة الشراح اليونان، دون أن يقال عنهم إنهم وقعوا في الخلط وإساءة الفهم، كما يقال عن الشراح العرب، نصارى ومسلمين.
وقد اعتمد المترجمون على الشراح اليونان في حالة المراجعة والمقارنة والتصحيح استرشادا بهم خاصة الإسكندر الأفروديسي؛ فلم يترجموا النصوص اليونانية الأصلية فقط، بل أيضا شروحها اليونانية عند أهلها، مثل شروح الإسكندر على أرسطو. وقد يفهم قول الشارح اليوناني بقول أرسطو، فيتحول الشرح إلى نص والنص إلى شرح.
18
لم تكن محاولة تعرف الشراح العرب على الشراح اليونان جريا وراء اليونان، بل من الحرص على التراث اليوناني كله أصلا وشرحا. وقد يدخل الشراح العرب في حوار مع أرسطوطاليس ومع الشراح اليونان، من أجل تركيب الجدل وبحث القضايا.
19
وتعتمد التعليقات أيضا على شراح أرسطو اليونان، الإسكندر، و«ثامسطيوس» ويحيى، وسمبليقيوس، فهل قام هؤلاء الشراح بأية عمليات حضارية تالية أم كانوا مجرد شراح؟ وإذا كانوا قاموا بنقل حضاري داخل الحضارة اليونانية طبقا لمراحل تطورها، فهل قاموا بذلك عن وعي أو عن غير وعي؟ ما يهمنا هو نقل النص من حضارة إلى أخرى وليس شرح نص داخل حضارته. ولماذا استعمل الشراح العرب الشراح اليونان؟ هل لأن الشراح اليونان أكثر إلهية من أرسطو؟ أم إنهم قاموا بنفس العمليات الحضارية بالنسبة إلى العقيدة المسيحية؟ لقد قام الشراح اليونان بتطويع النص حضاريا قبل الشراح العرب؛ وبالتالي وجد الشراح العرب أمامهم النص ممهدا سلفا، أو على الأقل نموذجا للتطويع؛ ومن هنا جاءت إشاراتهم المستمرة إلى الإسكندر، «قال الإسكندر» أو إلى غيره من الفرق اليونانية مثل الرواقيين. وتدل معظم هذه الإشارات إلى الإلهيات الغائية في النص اليوناني الأصلي.
20
ويظل السؤال قائما: هل كان للشراح اليونان مشروع حضاري مسيحي يوناني، أم كانوا مجرد أكاديميين، نشب بينهم باعتبارهم تلاميذ لأرسطو خلاف على المدرسة تأويلا وقيادة؟ صحيح أن الشراح اليونان؛ الإسكندر، وثامسطيوس، وسمبليقوس، ويحيى النحوى كانوا يونانيين وليسوا مسيحيين، ومع ذلك يظل السؤال: هل كان للجو المسيحي العام، الروح الجديدة للحضارة اليونانية، أثر على شراح اليونان؟ ويمكننا قراءة الشراح اليونان بإمعان أكثر؛ فلربما توجد عمليات حضارية وراء شروحهم، تكشف تطور ثمانية قرون، أربعة قبل الميلاد وأربعة بعد الميلاد. وتلك مهمة الباحث الأوروبي لمعرفة العمليات الحضارية من النص اليوناني إلى الشارح اليوناني؛ فهو أدرى بها ويعيشها أكثر منا؛ فتلك ثقافته الوطنية، كما تتم الإحالة إلى ثامسطيوس وإلى فرفوريوس.
21
وعندما يشار إلى أن الشارح يتكلم في موضوع «حسب رأي أرسطاطاليس»، فإن ذلك يعني استقلال الموضوع عن المؤلف، وأن المؤلف له رأي في الموضوع المستقل عنه. وهذا الموضوع فيه آراء متعددة لأرسطو ولغيره من الشراح. الشرح إذن بداية التمييز بين النص والمؤلف، حتى يستقل الموضوع عن الشارح نفسه على يد العارض أو الفيلسوف المبدع، كما استقل من قبل عن المؤلف. وأحيانا لا يذكر اسم المؤلف، فلا يهم أن كان أرسطو أم أفلاطون، المهم القول المستقل.
22
والشراح اليونان مثل الشراح المسلمين، ليسوا فقط شراحا بل هم أيضا مؤلفون،
23
وذلك مثل نيقولاوس الذي يشرح أرسطو ويؤلف في موضوعاته مثل الفلسفة الأولى، والنفس، والعالم، ومبدع في موضوعاته الخاصة مثل الآلهة، ربما لدافع مسيحي أو لجو مسيحي عام سابق على ظهور المسيحية، وكما لا يمكن الفصل بين نص أرسطو والشراح المسلمين، كذلك لا يمكن الفصل بين نص أرسطو والشراح اليونان. ويكون السؤال في حالة الشراح اليونان، ماذا يعني الشرح والتلخيص؟ وما هي طبيعة العمليات الحضارية التي كانت وراء الشرح اليوناني؟ هل هناك مشروع حضاري يوناني عبر عن نفسه في الشرح والتلخيص، كمقدمة للعرض والتأليف مثل المشروع الحضاري الإسلامي، أم إن التطابق بين وعي الشارح والوعي المشروح، حيث لا تغاير ولا مسافة كافية بين الذات العارف وموضوع المعرفة، تجعل الشرح اليوناني مجرد إيضاح ، دون تمثل أو احتواء أو إبداع، كما هو الحال في الشروح في الحضارة الإسلامية؟ فشروح ثامسطيوس على أرسطو تمتاز بالوضوح والبساطة، وهي عروض موسعة
. ولا يقلل ذلك من قيمتها؛ فليس الغرض هو النص التاريخي بل إعادة إنتاج النص في العرض، ولو كانت قيمتها ضئيلة لما اتسع انتشارها.
24
ولا فرق بين النص والشرح؛ فنص الفصل السادس من شرح ثامسطيوس نص موجز من الكاتب أو الناسخ. اسم الكتاب شرح ثامسطيوس أو تفسير ثامسطيوس؛ فالشرح تفسير، والتفسير شرح، ويسميه ابن سينا تلخيصا، وكذلك ابن رشد؛ فلا فرق بين هذه الأنواع الأدبية. ويشمل التأليف عند الشراح، الإسكندر الأفروديسي نموذجا، الموضوعات الفلسفية الخالصة مثل الكل والعقل والأضداد، والموضوعات العلمية الخالصة مثل اللون والإبصار والحس والمحسوس، والأجرام السماوية والزيادة والنمو والنفس والزمان.
25 (3) التأول الديني
لقد قام الإسكندر بنفس العمليات الحضارية التي قام بها الشراح المسلمون، وهي نقل النص الأرسطي العقلاني الخالص في بيئة دينية مسيحية. وكان من السهل الربط بينهما نظرا للطابع المثالي للفلسفة اليونانية، الذي يتفق مع الطابع الديني للفلسفة المسيحية. وجد الشراح المسلمون الطريق ممهدا عند الإسكندر، فسهل عليهم الأمر، فوجدوا الإسكندر يونانيا مسيحيا وليس يونانيا خالصا. ولما كان الإسلام والمسيحية يشاركان في نفس المنظور الديني، كان من السهل أن يصبح الإسكندر يونانيا مسيحيا إسلاميا من خلال الشراح المسلمين. لا يعني ذلك اعتماد الشراح والفلاسفة المسلمين على الإسكندر، بل يعني أن كليهما كان مدفوعا بنفس الدوافع الدينية مثل إثبات العقل المفارق؛ فعند الإسكندر العقل الفعال هو الله، خالد غير فاسد، وقديم وواحد. والغريب أن تقوم الثورة في العالم المسيحي ضد الإسكندر، في حين يدافع عنه المسلمون ويتبنونه ويتمثلونه ويحتوونه، فلماذا خاف منه المسيحيون؟ هل لأنه يقول بالعقل المفارق، في حين أن المسيحية الرسمية تقول بالحلول، حلول الله في السيد المسيح؟ هل هو خوف من إثبات عقل مفارق متمايز عن الله المتجسد، وبالتالي إثبات إلهين، إله الفلاسفة وإله المتدينين، والوقوع في الشرك؟ ولماذا قام يحيى النحوي بنزعته الدينية بالحملة على الإسكندر؟ فالنفس لديه بسيطة روحية خالدة خالصة ، والعقل حين يعقل يتحد بالمعقول. والعقل هو عقل الإنسانية كلها، وهو عقل يحيي؛ لأن الإنسانية تحيا أبدا كما هو الحال عند ابن رشد.
26
أما الشراح والفلاسفة المسلمون فقد قبلوا الإسكندر. ولا يعني تقسيم الكندي الرباعي للعقل، أي أثر للإسكندر، إنما هو تفصيل للعقل الثاني عند الإسكندر، وهو العقل بالملكة إلى عقلين: الأول من القوة إلى الفعل، والثاني العقل البياني لمزيد من التفصيل في وظائف العقل. أما صفات العقل الثالث، وهو العقل الفعال عند الإسكندر، فلا توجد في صفات العقل بالفعل عند الكندي؛ لأن الكندي عقلاني وليس صوفيا إشراقيا كالإسكندر، وسواء غاب العقل الإشراقي عند الكندي أو حضر، فإنه عند المستشرق قد تأثر بالإسكندر، ولا يعقل ألا يتأثر أحد في الأطراف بحضارة المركز، وكيف يخرج الفرع عن الأصل؟ كذلك فصل الفارابي العقل بالملكة عند الإسكندر إلى عقلين، عقل بالفعل وعقل مستفاد زيادة في التفصيل،
27
أما ابن سينا فهو الذي أبقى على الطابع الإشراقي للإسكندر وقسم العقل بالملكة، العقل الثاني عنه الإسكندر، إلى عقل بالملكة وعقل مستفاد. كما سمى العقل الفعال عند الإسكندر العقل القدسي؛ فالعقل الفعال يشرق في النفس، ويعلم الإلهيات، ويعرف الباري جل ثناؤه، وبالتالي اتحدت صفات العقل الفعال بصفات الله. لقد استعمل ابن سينا كل ما هو موجود لديه من الشراح اليونان لاحتوائه داخل نظرته الكلية، وأقام مذهبا تختفي فيه المصادر في البنية، وتذوب فيه الفروع في الأصول، والانتقال من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع، حيث تختفي المصادر عند الإسكندر أو ثامسطيوس أو سمبليقيوس. ثم عاد ابن رشد إلى أرسطو الأول، تحت تأثير ثامسطيوس متجاوزا تأثير الإسكندر في ابن سينا، بالرغم من معرفته بالإسكندر، وبالرغم من قول ابن رشد بنظرية في الاتصال بالعقل الفعال. ثم نقل كتاب النفس عند الشراح المسلمين بتوسط الإسكندر، من كتاب طبيعي إلى كتاب إلهي أقرب إلى ما بعد الطبيعة، ناقلين النص اليوناني من بيئة النص المنقول منه، العقلانية المثالية إلى بيئة النص العربي المنقول إليه، العقلانية المثالية الدينية.
28
وقد يتجه الشرح إلى محو الفرق بين المنطق والطبيعة، كما امحى الفرق بين الطبيعة وما بعد الطبيعة. الفرق بين الطبيعة هو الفرق بين المنهج والتطبيق، بين التصور وموضوعه، بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، بين الواحد والكثير. قد يعاد بناء المنطق وحده خاصة الفصول؛ أي الأجناس، بحيث يعاد ترتيبها لإثبات الواحد، جنس الأجناس، والانتقال من المنطق إلى الميتافيزيقا.
29
يعاد بناء الطبيعة وحدها، من أجل إثبات حركتها ضد إنكار الحركة (زينون)، حتى يتم الانتقال من الحركة إلى الثبات، ومن المتحرك إلى اللامتحرك، وإثبات اليقين من الظن، والحق من الباطل، وإخراج الشيء خارج الوهم، كما فعل برجسون في العصر الحديث،
30
وكذلك إثبات الأضداد كخطوة لا شعورية لإثبات الهوية.
31
ومما لا ريب فيه أن الشراح اليونان يكشفون عن ارتقاء في الوعي الفلسفي اليوناني، مواز للارتقاء في الوعي الغربي المسيحي كمصدرين متوازيين في الوعي الأوروبي. الأول عقل مجرد يتجه نحو الوحدة، التوحيد الطبيعي الذي اكتمل بعد ذلك في آخر القرن السادس، وتم الإعلان عنه في القرن السابع. كان التوحيد الطبيعي حاجة ملحة في العصر الهليني، وكان يمثل مشروعه الحضاري. والثاني كان إيمانا ارتكز على العقائد والديانات المجاورة، واختلط فيه الواحد بالكثير. ويبدو ذلك من مواضيع مقالات الإسكندر الأفروديسي، مثل تأثير الأجرام السماوية وتدبيرها، بما يشير إلى موضوع العناية الإلهية، وكذلك رسالة في العالم وأي أجزائه تحتاج في ثباتها ودوامها، إلى تدبير أجزاء أخرى، تحيل أيضا إلى موضوع العناية، وكذلك رسالة في القوة الآتية بين حركة الجرم الشريف إلى الأجرام الواقعة تحت الكون والفساد، تشير إلى الثنائية القديمة بين ما فوق القمر الخالد وما تحت فلك القمر الفاني، وكذلك مقالة في العناية على رأي ديموقريطس وأبيقورس، وتحليل العناية الشخصية في تاريخ الفلسفة اليونانية. أما مقالة في الرد على من قال إنه لا يكون شيء إلا من شيء، فهي رؤية للخلق من عدم على طريقة الفلاسفة. كما يذكر للإسكندر كتابان «كتاب التوحيد» و«كتاب آراء الفلاسفة في التوحيد». وربما يكونان جزأين لكتاب واحد، الأول في الموضوع والثاني في تاريخه. كما يتم الانتحال باسم الشراح نظرا لسلطتهم المعنوية.
32
كثير من مؤلفات الإسكندر إذن في موضوعات دينية مثل العناية، ورفض خروج شيء إلا من شيء، إثبات الصور الروحانية، الهيولى مفعولة، كتاب التوحيد؛ ومن ثم صعب التمييز بين الشارح اليوناني والشارح الإسلامي (الكندي)؛ نظرا للاتصال الحضاري الفكري والتاريخي بين الحضارتين، اليونانية والإسلامية. وما أسهل اعتماد المسلمين على الإسكندر فهو ابن سينا قبل ابن سينا، والفارابي قبل الفارابي. المهم الدافع الذي جعل الإسكندر يفسر أرسطو هذا التفسير الديني. أما مقالته في إثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها، فإيمان عقلي صريح، موضوع إلهي ميتافيزيقي لإثبات الصور المفارقة ببراهين عقلية؛ فالإيمان العقلي عند الإسكندر سابق على الإيمان الديني في الدين، وتال له عند الحكماء؛ الإيمان العقلي هو البداية والنهاية، وهو الأصل الدائم، الإيمان الديني فرع وقتي بين قوسين،
33
الفعل أكرم من الجوهر، والتوحيد بين
Melius, majus .
34
لقد أعاد الشراح اليونان إنتاج أرسطو وإقامته على الجانب الإلهي فيه؛ فليس المسلمون وحدهم من خلال «أثولوجيا» الذين قاموا بذلك، بل الشراح اليونان كذلك من خلال تكبير عبارات أرسطو الإلهية، وجعلها المركز وما سواها المحيط، مثل شرح ثامسطيوس لمقالة اللام. لم يناقض الإسكندر أرسطو بل دافع عنه باستمرار كما فعل المسلمون، فلماذا يعاب على الحكماء المسلمين وحدهم دون غيرهم هذا الموقف الدفاعي من أرسطو؟
35
يرد الإسكندر على المخالفين لأرسطو ويدافع عنه،
36
ويشرح موضوعاته طبقا لآرائه؛
37
فالإسكندر إلهي مثل أرسطو، يثبت أولوية الصورة على الوجود دفاعا عن أرسطو، وبالتالي أولوية الفكر على الواقع كما يقتضي الإيمان العقلي،
38
والصورة تمام الحركة وكمالها، والميتافيزيقا أكمل من الفيزيقا،
39
والفعل أعم من الحركة انتقالا أيضا من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة.
40
وقد اعتمد الإسكندر على العقل البشري البديهي الذي هو أساس النقل عند المسلمين. كما يمثل ارتقاء في الوعي الإنساني في العصر الهلينستي، كخطوة نحو إعلان استقلال هذا الوعي بظهور الإسلام. هذا بالإضافة إلى الجو المسيحي الذي كان سائدا كثقافة عامة لغير المسيحيين، بل إن تعظيم المسلمين له أعظم من تعظيم المسيحيين له، سواء في المسيحية اليونانية أو في المسيحية اللاتينية، ويظهر ذلك في الموضوعات مثل مبادئ الكل، الوحدة الأولى.
41
كما يظهر في الحديث عن الأشياء الأزلية الإلهية وحركة الأشياء الإلهية، والحيواني الإلهي، والجسم الإلهي، والأمر الإلهي، والقوة الإلهية، وكثرة استعمال الصفة إلهي،
42
بل يظهر اللفظ الإسلامي لفظ الجلالة «الله عز وجل وحده»، مما يدل على نقل الجانب الإلهي عن الشرح اليوناني إلى الجانب الإلهي، عند النقلة الذي يعيشون في الحضارة الإسلامية، نصارى كانوا مسلمين؛
43
فالله عز وجل بدايتها من أرسطو معنى لا لفظا، ثم سارت إلى الإسكندر، ثم تحولت من المعنى إلى اللفظ عند المترجم والناسخ والقارئ، تعبيرا عن روح الحضارة الإسلامية، كما يظهر الربط بين الميتافيزيقا والأخلاق والحديث عن الشريعة والمدينة والسياسة.
44
هذا بالإضافة إلى الإفاضة في شرح العقل؛ لأنه يتعامل مع المعنى وليس مع اللفظ، مع الكل وليس مع الجزء، مع المضمون وليس مع الصورة. لم تكن تبعية المسلمين للإسكندر إذن لشخصه، بل لألوهيته خطوة على الطريق إلى أفلوطين.
وبتتبع النصوص وشروحها يلاحظ تقدم نحو التوحيد العقلي، والإيمان الفلسفي، ورد الكثرة إلى الوحدة في أشكال القياس، والأشكال الفرعية إلى شكل رئيسي واحد،
45
وبصرف النظر عن كون الشارح مسيحيا أم لا، وهل له مشروع حضاري مستقل عن وعي أو عن لا وعي، فإن تقدم الوعي الحضاري ومسار التاريخ يتجه من التنزيه العقلي إلى التوحيد، ومن الإيمان الفلسفي إلى الإيمان النابع من الوعي؛ فثامسطيوس في القرن الثاني يمثل مرحلة من ارتقاء الوعي، والإسكندر في القرن الرابع يمثل مرحلة أكثر تقدما للوعي، حتى يأتي القرن السادس الهجري. وقد اكتمل التقدم وتم الإعلان عن التوحيد كتصور عقلي موروث من الحضارة اليونانية القديمة، وإيمان موحى به من الحضارة الجديدة، بل يصل التعظيم لأرسطو وأفلاطون لدرجة وصف كل منهما بأنه إلهي قبل الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم».
46
وقد ميز الإسكندر في رسالتيه «في النفس» و«في العقل» بين ثلاثة أنواع عن العقول: العقل الهيولاني وهو يعادل العقل بالقوة عند أرسطو، والعقل بالملكة وهو لا يوجد مثله عند أرسطو، وأقرب إلى الأفكار الفطرية والمبادئ والمسلمات، والعقل الفعال الذي هو أقرب إلى النور الذي يضيء المعقولات، وينقل العقل الهيولاني إلى عقل بالملكة؛ هكذا نقل الشراح اليونان التراث اليوناني حتى يتفق مع الجو المسيحي العام، حتى ولو لم يكن الشراح اليونان مسيحيين. ثم وجد المسلمون التراث اليوناني بعد نقله لخدمة المسيحية، جاهزا لعمليات التمثل والاحتواء الإسلامية خاصة مع الشراح اليونان، وربما أكثر من أرسطو الذي بعد العهد به، والذي قام بمهمته في وضع الشيء فقط دون تطويره. يتم الاعتماد على الإسكندر، والإحالة إليه كسلطة علمية والاستشهاد به، والإشارة إليه باحترام وتقدير.
47
لقد حول المسلمون القسمة الأرسطية البسيطة للعقل إلى فعال ومنفعل، إلى قسمة أكثر تركيبا عقل بالقوة، وعقل مستفاد ولمزيد من الإحكام النظري. ولم يقصر الأمر فقط على شرح المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة، بل انتقل الأمر أيضا إلى الأخلاق دفاعا عن أرسطو.
48
وفي دراسة نظرية العقل وأنواعه بين الفلاسفة والشراح اليونان، والشراح والفلاسفة المسلمين والشراح والفلاسفة اللاتين المتأخرين، هناك عمليتان حضاريتان مستقلتان: الأولى تمثل الشراح والفلاسفة المسلمين للنص اليوناني وشروحه؛ من أجل نقله من الثقافة العقلية المثالية إلى الثقافة العقلية المثالية الدينية، تمثلا واحتواء من أجل التأليف والإبداع. والثانية تأثر الشراح والفلاسفة اللاتين المتأخرين في العصر المدرسي، بشروح وتأليف الفلاسفة المسلمين. هنا يمكن تطبيق منهج الأثر والتأثر في حضارة تاريخية تتكون في التاريخ. أما في الحالة الأولى فهي عمليات حضارية صرفة، لها طابعها المثالي المرتبط بماهية الفكر، وبنية موضوعاته المستقلة عن التاريخ.
إن دراسة الشراح اليونان للفلسفة اليونانية في القرون السبعة الأولى قبل ظهور الإسلام، تثير عدة إشكالات رئيسية منها: (أ)
هي جزء من الثقافة اليونانية الصامدة أمام المسيحية، نموذج الإسكندر الأفروديسي؛ فبالرغم من ظهور الدين الجديد إلا أن الثقافة القديمة ما زالت متواصلة. (ب)
هي جزء من الثقافة اليونانية التي دخلت المسيحية وتفاعلت معها، إما في التشكل الكاذب، المضمون المسيحي واللغة اليونانية مثل التعبير عن النفس والروح بالألفاظ اليونانية
، أو التضمن الكاذب، الشكل المسيحي والمضمون اليوناني ، مثل إعطاء أوصاف آلهة الأولمب للسيد المسيح. وهنا تبدو أهمية الشراح اليونان المسيحيين، مثل يحيى بن عدي. (ج)
هل هناك أثر غير مباشر من المسيحية في الثقافة اليونانية، ظهر في كتابات الشراح ذي الثقافتين اليونانية والمسيحية، مثل الإيمان الطبيعي نظرا للجو الديني العام الجديد، وقلب لمعادلة المركز والأطراف، واعتبار اليونانية باستمرار هي الأساس، وكل تال عليها من مسيحية أو يهودية أو إسلام هو فرع لها، متأثر بها؟ (د)
باعتبار أن هذا هو الفكر الديني السابق على الإسلام، قد يفيد في فهم نقد القرآن للعقائد المسيحية واليهودية، ونقده التاريخي لصحة النصوص الدينية، ونقده للسلوك العملي لأهل الكتاب. (ه)
معرفة صورة هذا كله في الفكر الإسلامي عند الحكماء، وهل تابعوا نقد القرآن أم قاموا باحتوائه في المنظور الإسلامي العام، أو برفضه والعودة إلى أرسطو الصحيح.
تاسعا: الترجمة وروح الحضارة
(1) «أثولوجيا» بين أفلوطين التاريخي والمصدر الخارجي
وتنقسم الترجمة العربية لتاسوعات أفلوطين إلى عشرة ميامر، فما الميمر؟ هل تصغير ممر؟ وكيف هناك عشرة ميامر وهي تاسوعات؟ وليس لكل الميامر عناوين؛ فالثاني والثالث بلا عنوان. والموجود حاليا تلخيص التاسوعات وشرحها معا دون ترجمة حرفية للنص الأصلي، مما يدل على أن النص هو التأليف غير المباشر، عن طريق التمثل والاستيعاب، وليس النقل اللغوي لنص تاريخي. والموجود حاليا أجزاء من التاسوعات الرابعة والخامسة والسادسة، أطلق عليها اسم أثولوجيا أرسطاطاليس، نصوص متفرقة باسم الشيخ اليوناني.
1
وتاريخيا يرى البعض أن أثولوجيا يتكون من ثلاث قطع: الأولى مقدمة منتحلة تصور أثولوجيا على أنها نتيجة للميتافيزيقا، وهي من عمل الكندي من أجل إثبات التكامل في رؤية أرسطو. وقد تكون من عمل شخص آخر؛ نظرا لارتباط الكندي بالعقل والعلم في رسائله الفلسفية والطبيعية. والثاني جدل رءوس المسائل، وهي شذرات من كتاب فرفوريوس «الرءوس والمسائل»، مما يدل أيضا على التأليف الجماعي عند قدماء اليونان، لا فرق بين الأستاذ والتلميذ، وهذا حادث عند اليونان والمسلمين والغربيين المحدثين في المؤلفات المشتركة بين ماركس وإنجلز. والثالث نص أثولوجيا، عشرة ميامر من تلميذ لأفلوطين. والشذرات مأخوذة من التاسوعات الثلاثة الأخيرة، الرابع والخامس والسادس، وهو الجزء الخاص بالإلهيات دون الطبيعيات، طبقا لأفضلية الحضارة المنقول إليها وأولوياتها.
2
وليس صحيحا أن الرواية أثر من آثار الفلسفة التلفيقية الهلينية التي أنتجت البويماندرس، والتي دان بها علماء الصابئة في حران، حتى عهد متأخر عن ظهور الإسلام بعدة قرون، حتى تكون أقرب إلى الوثنية منها إلى دين الوحي طبقا للنظرية الماركسية في الدين. علما بأن الصابئة موحدون بالله، ويعرفون العمل الصالح، لولا أنهم يتقربون إليه عن طريق الكواكب.
3
وليس صحيحا أنها نتاج يهودي من نظرية الكلمة عند فيلون وعند خلفاء أفلوطين خاصة يامبليخوس، وهي الحكمة الأولى علة العلل، هذا هو التشكل الكاذب، التعبير عن المضمون اليهودي، بألفاظ ومصطلحات يونانية، وليس وجود الكذب في سفر يشوع بن سيراخ.
4
كما لا يهم إذا كانت بعض الزيادات في كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي من أصل يهودي مصري، بل المهم هي الرؤية والتعبير عنها من خلال أية مواد ثقافية متاحة؛ فالجذور التي تورق لا تسأل عن أي نوع من المياه ترتشف.
5
كما قيل أيضا عن أن «إيضاح الخير المحض» لأبرقلس تأليف يهودي وضعه ابن داوود اليهودي؛
6
فاليهود والنصارى جزء من الحضارة الإسلامية، ويشاركون في صنعها، وقاموا بالعمليات الحضارية مع المسلمين.
ليس صحيحا إذن أن الرواية العربية لأثولوجيا أرسطاطاليس قد لفقت لاستعمال جمهور المسلمين، في حين أن الرواية الأخرى وضعها نصارى الشرق لما فيها من نصوص عن نظرية الكلمة، بوصفها وسيطا بين الواحد الأول والعقل الأول المبتدع منه، وهي نصوص ذات نزعة مسيحية. وهو السبب الذي من أجله ظن الباحثون قبله أن الترجمة اللاتينية زيف الأصل العربي لتتفق مع المسيحية،
7
فهذا هو النقل الحضاري مرة إسلاميا ومرة مسيحيا وضعية، أما البحث عن الوثيقة التاريخية الأصلية بلا نقل حضاري إسلامي أو مسيحي، فإنها نزعة تاريخية وضعية مجردة باسم الموضوعية الحرفية الساذجة، التي تبعد كثيرا عن الموضوعية الحضارية، خاصة إذا كان الباحث ماركسي المنهج، تاريخي النزعة.
وليس صحيحا أنها أثر إسماعيلي؛ فلا يرد الإسلام إلى الإسماعيلية، بل ترد الإسماعيلية إلى الإسلام.
8
وكيف يكون الفرع أصلا والأصل فرعا؟ والإسماعيلية بالنسبة للغرب أقرب إليهم من الإسلام نظرا للأصول الهندية الأوروبية المشتركة بين فارس والغرب، وللعداء المشترك لفارس والغرب ضد العرب أهل السنة. وإن كانت الكلمة هي الإرادة والعلم، وكن أول ما خلق الباري، وهي علة العلل فإنها أشياء عادية مألوفة في علوم الحكمة، وليست إسماعيلية بالضرورة. ووجود نسخة بحروف عبرية لا تعني أن مؤلفها يهودي إسماعيلي إشراقي لضرب الإسلام في مصر أو المغرب، أو الأندلس أو العراق أو إيران أو سوريا. الأفلاطونية هي الأساس والإسماعيلية الأفلاطونية تنويع عليها وانتحال لها. كما أن الإسلام هو المصدر والإسماعيلية تنويع عليه، وكما أن أفلاطون هو المصدر والأفلاطونية تنويع عليه، وعود إلى المصدر الشرقي فيه، فهي إذن عمليات متصلة من عمليات إبداع حضاري متتال.
ولا يأتي الإشراق من أي مصدر فارسي أو تركي غير عربي؛ نظرا لأن الفلاسفة العرب عقليون علميون مثل الكندي وابن رشد، في حين أن الفلاسفة غير العرب إشراقيون صوفية مثل الفارابي وابن سينا؛ فالإشراق يتجاوز حدود القوميات إلى روح الحضارة، واكتمال الحكمة الخالدة. ومع ذلك لم يتم النقل إلى اللغة العربية وحدها، بل أيضا إلى اللغة الفارسية إما مباشرة من اليونانية أو من العربية. وقد كانت الثقافة اليونانية ممتدة إلى فارس في عدة مراكز مثل بلخ، كما امتدت إلى الشام في أديرة النصارى في رها ونصيبين.
9
ويعزز هذا المصدر الشرقي لأفلوطين أثرا وتأثرا. (2) الإشراق المصري اليوناني الإسلامي
وأفلوطين هو أفلاطون الشرقي، مؤسس الفلسفة الشرقية في مقابل فلاسفة اليونان، فلاسفة الغرب. عاش في الإسكندرية، في مصر، ومصر هي الشرق مع بابل وكلدان؛ لذلك أتت الإشارات المتعددة لمصر والبابليين ولفلاسفة الشرق.
10
والفرق أن الشرقيين كانوا يرسمون صورا، وينقشون حجارة، وينحتون أصناما للمعاني على عكس اليونانيين الذين كانوا يستعملون الصوت والمنطق واللغة، وهو ما لاحظه هيجل بعد ذلك في «علم الجمال». وإضافة بابل إلى مصر تكشف عن المركزين الحضاريين الرئيسيين في الشرق والغرب آنذاك، وهما مركزان حضاريان دينيان. ويكشف أفلوطين اليوناني العقلي دلالات الأصنام ويحتوي الوثنية الشرقية. وقد بلغ من ارتباط أفلوطين بمصر والشرق إلى حد تسمية كتابه أثولوجيا أرسطوطاليس بحسب المصريين.
11
الفلسفة اليونانية ذاتها ومن داخلها ومن نصوصها ومؤلفيها منفتحة على الشرق، في حين أنا انغلقنا عليها وتابعنا الأوروبيين في اعتبار اليونان المركز والبداية، ليس قبلها شيء.
كان انفتاح أفلوطين على الشرق لأنه من أسيوط وعاش في الإسكندرية، ومصر قلب الشرق، هو مصري المولد، يوناني اللغة، شرقي الثقافة، كما أن المصري الآن مصري المولد، عربي اللسان، إسلامي الثقافة، وهو أحد الافتراضات وراء اعتبار كتاب «إيضاح الخير المحض»، مؤلفا قبل العصر الإسلامي. كان أفلوطين متفتحا على التاريخ، مما جعله يخرج من إطار اليونان. وكان يشير إلى الأولين إحساسا منه بأنه من الآخرين، كما هو الحال عند المسلمين في التقابل بين المتقدمين والمتأخرين، بين الأوائل والأواخر، بين السلف والخلف.
12
قد يكون الأولون عند أفلوطين هم الشعراء أو الفلاسفة اليونان، وقد يكونون أبعد من ذلك وأقدم.
يقرأ الشيخ اليوناني كل تاريخ الفلسفة اليونانية قبله قراءة إشراقية، ويعيد تأويلها وإنتاجها من منظور حكمة الإشراق؛ فكل تاريخ الفلسفة اليونانية إشراقي نفسي تطهري، أفلاطون، أبناذقليس، فيثاغورس؛ كلهم صوفية مسلمون يبغون رضاء الله والنجاة من سخطه.
13
كلهم يمثلون رد فعل على النزعة الحسية اليونانية، فانقلبوا من الضد إلى الضد، من الخارج إلى الداخل، ومن الحس إلى القلب. ويظهر التشكل الكاذب في وضع المترجم كل معاني الشيخ اليوناني في الألفاظ الإسلامية مثل الله، الخالق، الباري عز اسمه، سخط الله وغضبه، مبينا أهمية التحليل اللفظي لأقوال الفيلسوف، والذهاب إلى ما ورائها من المعاني بناء على جدل اللفظ والمعنى. وإن تسمية أفلوطين بالشيخ اليوناني إضفاء لصورة الحضارة الإسلامية الجديدة على الحضارة اليونانية القديمة، واستيعاب الوافد داخل الموروث. ولا يهم أفلوطين بشخصه بل برمزه؛ لذلك وضعوا بعض حكايته مع ديوجانس الكلبي، المهم هو رسم صورة أدبية حضارية
للحكيم الإشراقي، وليس تاريخ حياة شخص بعينه. وقد ينضم إليهم سقراط، وفيثاغورس وكل حكماء اليونان.
والعجيب أن يجمع أفلوطين وتلميذه بين الإشراقيات والمنطق، بين التاسوعات والمدخل إلى المنطق ، وأن فرفوريوس الصوري هو الذي جمع التاسوعات وفسرها، وماذا كان دور فورفوريوس؟ هل الإملاء أم الجمع أم التفسير والتأويل؟
14
ويرى البعض أن الذي سجل تعاليم الأستاذ هو أمليوس قبل فرفوريوس،
15
والعجيب أن يأخذ فرفوريوس لقب الصوري، ويشار إليه بأنه مفسر كتاب الربوبية، ولقبه نسبة إلى مدينة صور وليس إلى صورة.
16
إن وضع أفلوطين مع أرسطو في الحضارة الإسلامية الناشئة لنوع من اكتمال الرؤية بين الطبيعة والروح، الواقع والمثال، الفلسفة والتصوف، العقل والإشراق. كان من الطبيعي أن يوجد في الحضارة كلا البعدين، بصرف النظر عن نسبة كل مذهب لفيلسوف بعينه صوابا أم خطأ. كان من الطبيعي نسبة التاسوعات لأفلوطين لأرسطو، حتى يكتمل الفيلسوف الكامل بجانب إشراقي، بعد أن ساد الجانب العقلي المنطقي الطبيعي، وكأن الحضارة الإسلامية في ذاتها في مرآة الغير، فإن لم يكتب أرسطو التاسوعات لنسبت إليه، وإن لم تظهر التاسوعات لكتبت له. وإذا كان أرسطو اختيارا أبديا من حيث النسق العقلي الطبيعي كان اختيار أفلوطين (أفلاطون الشرقي) اختيارا أبديا كذلك من حيث الإشراق والروح، وتلبية مطالب النفس للتصوف والغنوصية والحياة الأدبية، وتغلغل ذلك في الضمائر بطريقة شعورية، أعمق من مذهب أرسطو المنطقي الظاهري الجاف.
17
أكمل أفلوطين العقل بالقلب، والفلسفة بالتصوف، كما فعل حكيم الإشراق السهرودي في «حكمة الإشراق».
ولا يقتصر ذلك بالجمع بين أرسطو وأفلوطين (أفلاطون الشرقي) وحدهما، أو في عصر الترجمة وحده، بل استمر ذلك كدافع حضاري أصيل ومتصل بعد ذلك في التأليف عند الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم». وتكفي دلالة اللقب، أفلاطون الإلهي أي الإشراقي الصوفي الغنوصي نموذج أفلوطين، وأرسطاطاليس الحكيم أي العقلي المنطقي الطبيعي. وليس هذا الجمع بين أرسطو وأفلوطين خاصا بالحضارة الإسلامية وحدها؛ فقد حدث أيضا في الحضارة الغربية على نحو آخر؛ ففي النقل الحضاري الذي قد تم من قبل في الحضارة المسيحية في الترجمة اللاتينية، فتغير الأصل وتحول إلى تلخيص موسع، تبدلت الأفكار، ووضع الأنبياء محل قدماء الحكماء.
18
وقد أقحم في الميمر العاشر فصل طويل مسيحي النزعة ، يتناول الله وكلمة الله والعقل الفعال والعقل المنفعل؛ فالترجمة اللاتينية قراءة وإعادة إنتاج للنص للاتفاق مع تعاليم الكنيسة.
والنصوص القديمة تكون كلا حضاريا واحدا، لا ينتسب كل نص منها إلى مؤلف بعينه، بل تعبر كلها عن رؤية حضارية واحدة. تشير أثولوجيا أرسطوطاليس مثلا إلى كتاب «فلسفة الخاصة». هل هو كتاب أفلوطين أو كتاب غيره، أو كتاب مجهول المؤلف في نفس الموضوع؟ كما تشير الترجمة إلى الروحانيين؛ أي فرقة بأكملها تمثل هذا التيار ولها كتاباتها وعقائدها. ويشير إلى الشريعة الإلهية؛ أي إلى تنظيم اجتماعي وقانوني لمجتمع روحاني.
19
ما تم ليس ترجمة حرفية بل نقلا حضاريا، نقل من أثولوجيا إلى الربوبية، والربوبية غير الإلوهية؛ إذ تتضمن الربوبية العناية بالعالم، وهو تصور غير موجود في أثولوجيا. وتثبت مقارنة المخطوطات هذا النقل الحضاري؛ ففي نشرة ديتريصي لا توجد إشارة إلى الله، في حين توجد الإشارة في مخطوطة أخرى،
20
والنص اللاتيني يتبع النص العربي الذي يحيل إلى الله؛ لأنه في نفس الموقف الحضاري، النقل من اليوناني إلى المسيحي. وقد ذكره المؤرخون أيضا منقولا نقلا حضاريا كما هو الحال عند المترجمين، «كتاب القول على الربوبية»، «أثولوجيا الربوبية»، وليس الله لأن الله هو الإله الحق.
21
ويبدأ الميمر العاشر بالربط بين التوحيد والعمل الصالح.
22 (3) عناصر الإشراق
والموضوع الغالب على النص هو النفس، ثم الباري ثم العقل ثم الكواكب ثم النار؛ فالتاسوعات نظرة نفسية للعالم، إشراقية أوغسطينية، ومن النفس يتم الصعود إلى الله، فيتم اكتشاف العقل لفهم الطريق، ثم تأتي الطبيعة بعد ذلك نزولا من الله إلى العالم، ثم يتم الصعود من جديد في الأخرويات إلى بقاء النفس بعد حسابها ثوابا أم عقابا، فهل هذا المسار أفلوطيني أم إسلامي؟ أم إنه المسار الأفلوطيني قد تم إعادة إنتاجه إسلاميا؟ والحقيقة أنه في رءوس المسائل لا توجد بنية متسقة، بل موضوعات متفرقة مثل النفس، والعقل، والله، تتكرر بلا نظام؛ فليس الهدف هو بناء نسق عقلي إشراقي، بل مجرد فيض إشراقي خاصة وأن النسق العقلي، المنطقي الطبيعي، موجود في باقي أعمال أرسطو . ويبدأ الشيخ اليوناني بمختصر وجيز، يضع فيه هذه الرؤية الكلية بكل تفصيلاتها، أسوة بأسلوب التأليف عند المسلمين.
23
البداية بالله كعلة أولى، وكل ما سواه دونه في ذلك الزمان يتحرك إليه بالشوق، وهو يفيض عليه بالعقل. وبتوسط العقل يستمر الفيض إلى النفس الكلية الفلكية، ومن العقل بتوسط النفس يستمر الفيض إلى الطبيعة. والعالم العقلي كله حسن وبهاء، كما يصف القرآن السماء الدنيا المزينة بالمصابيح والثريا. والنفس خالدة روحيا بعد تطهيرها من أدران البدن؛ ففي مقابل حركة النزول، الفيض، هناك حركة الصعود، بصعود النفس الطاهرة إلى الباري الأول. والسؤال إذن هل هذا الشيخ اليوناني الإسلامي؟ هل هذا هو الفيلسوف اليوناني أم الصوفي الإسلامي؟
والإله الذي يشير إليه الشيخ اليوناني هو الله عز وجل، وهو الباري تبارك وتعالى، فتم نقل الإله في الحضارة اليونانية على مركز الحضارة الجديدة؛ فالباري مبدع وخالق وهو العلة الأولى، العقل، الواحد، الأول، الحكيم، المدبر، طبقا لظاهرة التشكل الكاذب.
24
ويتضرع أفلوطين إلى الله ويسأله العفو والتوفيق كأشعري، يرى أن التوفيق والهداية من الله، ويجمع بين الابتهال باللسان والابتهال بالعقل حتى تتم الهداية، ويعرف الإنسان أن الواحد الخير تفيض عنه الخيرات والفضائل عند من طلبها، ودون تركيز على الجهد والعمل الصالح؛ فالعمل هو العمل العقلي التأملي؛ هذا إعادة إنتاج لنص أفلوطين الأول ونقله من البيئة اليونانية إلى البيئة الإسلامية. وقد يضيف الناسخ بعض الصفات الإلهية له طبقا لعاداته الموروثة؛ فلا يكتفي بالباري بل يضيف الخير.
25
وهو يسوس العالم سياسة عادلة؛ فهو إله الشريعة كما هو إله العقيدة، يثيب ويعاقب.
26
أما العقل فهو نور يشرق في النفس من الله؛ وبالتالي فهو حلقة الاتصال بين الله والنفس والذوق.
27
ويصعب التمييز بين هذه الرؤية للشيخ اليوناني والرؤية الصوفية الإسلامية، ولا شيء فيها يعارض العقل أو الذوق، مثل السعي إلى المعرفة، والاتجاه نحو غاية، البحث عن الطريق الموصل إليها، ومعرفة طبيعة النفس، والجمع بين النظر والعمل، والفلسفة والأخلاق، والعقل والذوق كما هو الحال في حكمة الإشراق. ما الفرق بين رؤية الشيخ اليوناني ورؤية التصوف الفلسفي أو الفلسفة الإشراقية؟
28
والعمل هنا لا يعني الشعائر بل العمل العقلي. والجهد النفسي والتأمل الذهني، هو عمل الشعور، عمل العقل والقلب وليس عمل الجوارح.
والنفس هو الموضوع الغالب على ميامر خمسة من الميامر العشرة.
29
في حين أن الله يغلب على ميمرين، وكل من العقل والكواكب والنار في ميمر مستقل. وأحيانا تبدو النفس بيولوجية الطابع؛ فالنفس تمام البدن كما هو الحال عند اسبينوزا، النفس صورة البدن؛
30
لذلك أعجب به برجسون الذي فكر في العلة بين النفس والبدن، خاصة في المادة والذاكرة. ويبدو الشيخ اليوناني ظاهراتيا لأنه يبحث في الميمر الثالث ماهية النفس ضد الجرميين أي الماديين.
ومع ذلك تبدو النفس الطاهرة أيضا مثل العقل في اتصالها بنور الفيض، هبوطا عليها وارتقائها نحوه صعودا إليه، وهي متصلة بالله، وخالدة مثله. ويبدو أن هذا التراث الصوفي مشترك بين كل الناس والحضارات، لا يخص فيلسوفا بعينه أو حضارة بعينها، فلا فرق بين أثولوجيا الشيخ اليوناني وحكمة الأشراق للسهروردي. إنما القضية في إعادة تركيب الرؤية، بحيث تكون أوضح وأشمل والتعبير عنها بمصطلحات محلية، موروثة وليست وافدة، مثل غضب الله؛ فالتصوف هو ما يجمع البشر وليس فقط الحكمة، والذوق طريق للمعرفة عند الخاصة وليس فقط العقل. التجربة الصوفية واحدة عند كل الأتقياء الأطهار. ولغة الشوق والحب، والعلو والسفل، والثنائية المتطهرة، لغة الثقافة الشعبية وهوى النفس والعزاء الأخروي عن الشقاء الدنيوي.
31
أما السماء والكواكب فهي أيضا تعبير عن الإيمان العقلي، وتشخيص لمواجيد النفس وتجسيد لعلم الإشراق،
32
وكذلك تشخيص الأهواء والانفعالات والأوهام والخيالات مثل الجن، وكما هو الحال في الطبيعيات في علم أصول الدين.
33
عاشرا: من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني
ظهر هذا التطور من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني عن طريق مسار الفكر اليوناني وتطوره، من أرسطو إلى الشراح إلى الأفلاطونية المحدثة خلال العصر الهلينستي، وقد تم ذلك بعدة طرق: (1)
عرض أفلوطين، الشيخ اليوناني دونما حاجة إلى رفع. (2)
رفع الطبيعة إلى مستوى ما بعد الطبيعة في علم واحد، كما هو الحال في كتاب الآراء الطبيعية، المنسوب إلى فلوطرخس . (3)
عرض ما يتعلق بالنفس والأخلاق والسياسة من أجل الربط بين الطبيعيات والإلهيات. وقد نقل الشراح المسلمون كتاب النفس من كتاب طبيعي إلى كتاب إلهي، أقرب إلى ما بعد الطبيعة. (1) من الطبيعيات إلى الإلهيات
تدل ترجمة «الآراء الطبيعية المنسوبة إلى فلوطوخس» على تأكيد المذهب الطبيعي واختياره في الحضارة الإسلامية نظرا لاستقلال الطبيعة وإطراد قوانينها، واعتبارها مقدمة لما بعد الطبيعة في علم أصول الدين؛
1
إذ تشمل الآراء الطبيعية حديثا عن الجوهر والعرض والجن والشياطين، كما هو الحال عند المتكلمين.
2
وفي علوم الحكمة تتحد لغة الطبيعيات والإلهيات؛ فالطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أعلى، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أسفل.
3
وفي علوم التصوف خاصة في مذهب وحدة الوجود يصعب التمييز بين الحق والخلق. وفي علم أصول الفقه مقاصد الشارع المحافظة على الضروريات الخمس. أحكام الوضع، السبب والشرط والمانع والعزيمة والرخصة والصحة والبطلان، أوضاع في الطبيعة. وإذا كان الإسلام دينا طبيعيا كما بدا في حي بن يقظان، فإن الآراء الطبيعية تصبح أحد مقومات ما بعد الطبيعة. وقد اعتنى الرازي بكتاب فلوطرخس، ولخصه الشهرستاني في العقائد، ويذكره ضمن الحكماء السبعة.
4
كما ذكره جابر بن حيان، وابن النديم، والمقدسي في «البدء والتاريخ». الدافع على الترجمة هنا ازدياد المعرفة بالطبيعة أحد الأبعاد الرئيسية في الفكر الإسلامي. وقد تم تبويب الكتاب طبقا للموضوعات، ومن خلالها يتم عرض الآراء وأسماء الفلاسفة؛ فالبنية تسبق التاريخ، والموضوع حامل لآراء السابقين فيه، والاكتمال أو التحقق في الحاضر يعكس التطور في الماضي، كما هو الحال في اكتمال النبوة، ثم رصد تاريخها من مسارها في التاريخ. وتضمن موضوعات تشمل البيولوجيا والحيوانات والمني ... إلى آخر موضوعات الطبيعة الحيوية.
5
وتكشف تساؤلات فلوطرخس عن الصلة بين الطبيعيات والإلهيات، بصرف النظر عن نظريات الخلق أو القدم، عندما يتساءل عن أي أسطقس ابتدأ الله عز وجل العالم من الأرض أو النار أو الأثير؟
6
فهل تحدث فلوطرخس عن الله عز وجل وخلق العالم، أم إن هذه إعادة إنتاج النص طبقا لعقلية المترجم، وبداية بالعملية الحضارية للنقل والتمثل والاحتواء؟ فالمترجم ينتسب حضاريا إلى الحضارة المنقول إليها النص، وليس إلى الحضارة التي يفد منها النص، بعكس بعض مترجمي الشام والمغرب الآن، الذين ينتسبون إلى الحضارة الغربية لنشرها فوق الحضارة المحلية وطمس معالمها، فيعربون المصطلحات، وينقلون ثقافتهم إلى لغة الأجنبي ومصطلحاته وأساليبه. يذكر فلوطرخس ألفاظ الله صراحة أو الإله بأنه مبدأ الأشياء قبيل الخلق، وبالتالي سهل نقله إلى الفكر الديني بلغة المترجم وفي حضارته.
7
كان المترجمون حريصين على إرضاء النوازع الدينية، وإدخال اسم الله حيث يكون الأمر متصلا بالمبدأ الأول، أو لعلة الأولى وما شاكل ذلك،
8
وليس في ذلك أي تغيير أو تحريف للمعنى الأصلي في النص بل نقله حضاريا. وقد كان أغلبهم من رجال الدين أو ذوي النزعة الدينية. كان المترجم ينقل النص «العلماني» ويعيد إنتاجه في نص ديني.
9
وذكر فلوطرخس الشعراء، ويستعمل المترجم لفظ الحنفاء، وهو لفظ إسلامي،
10
كما يذكر الشاعر أربيدس الذي يصف السماء بأنها صنعة صانع حكيم، ومن صفات الله في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة،
11
كما هو الحال في وصف شيلر في شعر الفرح؛ فالشعراء متدينون مع الفلاسفة. وذكر الشاعر كليماخس الذي يصف الله بالقدرة على الفعل، ولكنه لا يقدر أيضا على تغيير قوانين الطبيعة الثابتة وقوانين المنطق.
12
وهي القضية التي أثارت الفكر الديني بعد ذلك في إعطاء الأولوية للقدرة على الحكمة؛ وبالتالي قدرة الله على كل شيء، كما هو الحال عند الأشاعرة، وإعطاء الأولوية للحكمة على القدرة، وبالتالي ثبات قوانين الطبيعة حتى يعيش الإنسان في عالم يحكمه قانون، كما هو الحال عند المعتزلة والفلاسفة وابن رشد خاصة. كما ينكر فلوطرخس على الشعراء المنكرين لوجود الآلهة مثل دياغورس وثادورس وأويمارس.
13
ويذكر فلوطرخس فيثاغورس ورأيه في العلة الفاعلة، وهو العقل وهو الله. ويضع الناقل «عز وجل»؛ لأنه ينقل إلى بيئة موحدة بتعبيراتها عن الله،
14
وكذلك «الله عز وجل» عند الشعراء وأفلاطون. اعتبر أن الواحد من المبادئ، وهو الإله والخير، وأن العقل هو طبيعة الواحد، فالله مرتبط بأول المبادئ الرياضية وهو الواحد وبالخير.
ويذكر فلوطرخس الطبائعيين الأوائل باعتبارهم أصحاب المبادئ الأولى للفلسفة الطبيعية؛ فطاليس كان يرى أن الله عز وجل عقل العالم كما هو الحال عند الفلاسفة والصوفية المسلمين.
15
وأنكسماندريس كان يرى أن السموات إلى ما لا نهاية لها هي آلهة؛ إذ تشارك معها في اللانهائية، على ما هو معروف في دين الطبيعة.
16
وديموقريطس كان يرى أن الإله هو العقل، طبقا للحديث القدسي الشهور، وتعبيرا عن الروح اليونانية،
17
وقد جعل أناكساجوراس الله منظما للأشياء ومرتبا لها دون خلقها، وأنه محرك الأشياء الثابتة.
18
ويذكر الشهرستاني فلوطرخس بمناسبة سقراط وأفلاطون والاهتمام بالله. والله عند أفلاطون خالق للعالم على مثال تصوره، وعلى ما يقول الشعراء. هناك إذن اتفاق بين الشعر والفلسفة، بين الوثنية والحكمة كمرحلة إلى الدين، والانتقال من التشبيه إلى التنزيه.
19
والله منظم الأشياء ومرتبها في نظام،
20
بل يدافع فلوطرخس عن قول أفلاطون بالعناية الإلهية، وعن تنزيه الله ضد المنكرين لها والقائلين بالتشبيه؛
21
فرفض أسبقية الأشياء على الله متفق مع الإيمان. الله هو الواحد البسيط الأزلي الذي لا علة له، واحد عدل، موجود على الحقيقة. وهذه كلها صفات لأنه عقل مفارق غير مختلط بالصور ولا يشارك في شيء ولا يتأثر بشيء.
22
وهي صفات تشبه الخطاب الفلسفي في علوم الحكمة. الصور عند سقراط وأفلاطون مفارقة للعنصر، ثابتة في الفكر والتخييلات الإلهية، أي العقل،
23
فالإلهي مفارق سواء كانت الصورة أو العقل أو الإله.
24
أما عند أرسطو فإن الله أعلى من الصور وأعلى من العناصر، وكأنه بلغ قمة التوحيد. الإله إله مفارق للصور، ويحوي الأثيرة العنصر الخامس، كرة الكل، ليست الصور مفارقة للأثير الذي يحويه الإله.
25
أما في موضوع الكهانة والرؤية وهو موضوع ديني بالأصالة، فإن النفس ميتة لكن بها شيء من الأمر الإلهي، يجعلها حسية عند أرسطو وريكارخس.
26
وذكر الرواقيين وقولهم في الفلسفة بأنها العلم بالأمور الإلهية والإنسانية، وأن العلم هو المعرفة الفاضلة وهي ثلاث: طبيعة وخلقية ومنطقية. وهي قسمة الحكماء الفلسفة إلى ثلاث منطقية وطبيعية وإلهية، فالفلسفة مرتبطة بالدين والأخلاق عند الرواقية، تقوم مقام الإلهيات مع اختلاف الترتيب.
27
وهو ما سمي أثر الرواقية على المسلمين وهو تمثل واحتواء، وإذا حدد الرواقيون الجوهر بأنه روح عقلي فإن ذلك يكشف عن النزعة الدينية في النص،
28
ومن الرواقيين يذكر زينون الرواقي خاصة الذي كان يرى أن الله هو العلة الفاعلة في مقابل العنصر وهو العلة المنفعلة، وأن المبادئ هي الله لمشاركتها له في الخلق والتنظيم؛
29
لذلك كان من السهل على الحكماء القيام بعملية التشكل الكاذب، والتعبير عن الله بألفاظ العلة الأولى والمبدأ الأول.
أما أبيقورس فإنه يرى الآلهة في صورة الناس، وهي تبصر بالعقل نظرا لطبيعة جواهرهم اللطيفة، هناك طبائع أخرى غير فاسدة في جنسها، الجزء الذي لا يتجزأ، والخلاء، وما لا نهاية له، والمتشابه وهذا تصور للإله بين التشبه والتنزيه،
30
ولا فرق بين الإله
Herwwn
والشيطان
Daimonon ؛ فالأول جوهر نفساني، والثاني نفس مفارقة للبدن، خير للنفس الفاضلة، وشرير للنفس الرديئة؛ هذه هي تصورات الله في أذهان البشر وصورته في وجدانهم، القوة العالية لا فرق في ذلك بين أنصاف الآلهة والشياطين.
31
كما لاحظ فلوطرخس أن الحضارة اليونانية كانت على صلة بالعهد القديم وبالتراث العبراني القديم، ويذكر الشاعر اليوناني ديانمورس المذكور في العهد القديم، والذي كان ينكر الآلهة ويسخر بالأسرار، ومذكور أيضا عند شيشرون في «طبيعة الآلهة»، وعند اليهود والمسيحيين (يوسف وتاسيان)،
32
ولا ينسى فلوطرخس ذكر الأثر الشرقي للحضارة اليونانية، وهو ما افتقدناه نحن الآن في رؤيتنا لها، فقد تفلسف طاليس في مصر، وزارها وتعلم فيها؛ لذلك تظهر صورة مصر في الفلسفة اليونانية عندما يتحدث طاليس عن مصر وزيادة نهر النيل،
33
كما يشير فلوطرخس إلى بعض الأسماء مثل بيروسسن وهو كاهن بابلي أيام الإسكندر عنى به اليهود والنصارى.
34
وفي «حجج أبرقلس في قدم العالم ترجمة حنين بن إسحاق» تظهر شجاعة المترجم في نقله إلى اللسان العربي نصا ضد تصور البيئة الثقافية الجديدة، الذي يقوم على حدوث العالم وهي تسع حجج: الأولى مأخوذة من وجود الباري فلا يصدر عن القديم إلا قديم مثله؛ فالباري هو رب الأشياء والمالك لها. والثانية إذا كان مثال العالم أزليا فالعالم المادي أزلي مثل مثاله ، وهي حجة شبيهة بقدم علم الله بخلق العالم. والثالثة أن الله قبل خلق الله تعالى العالم بالفعل كان خالقا له بالقوة، والوجود بالقوة أحد أنماط الوجود. وقد اعترف أفلاطون بهذه الحجة في محاورة «فيليبس». والخامسة أن ما يخلق من علة غير متحركة يكون أيضا غير متحرك. وهي حجة شبيهة بمشاركة العالم الله في صفة العلم، والثبات والديمومة مثل العلم. وهي مضادة لحجة إثبات الخلق عن طريق دليل الحركة المشهور عند أرسطو وفي العصر الوسيط المسيحي. والخامسة أن الكون في الزمان والزمان قديم فلزم أن يكون العالم قديما. والسادسة إن كان الله قادرا على خلق العالم والقدرة قديمة فالعالم قديم، وهي نفس حجة العلم والديمومة. وقد اعترف بذلك أيضا أفلاطون. والسابعة إن كانت نفس الكل غير حادثة ولا فاسدة وكذلك العالم، وهي نفس الحجة السابقة ولكن هذه المرة مع روح العالم. والثامنة تفصيل على حجة الفساد؛ فالفساد تحول عن شيء إلى شيء ولا شيء، غريب على الكل، ولا تحول خارجا عليه، إذن فالعالم قديم لأنه هو الكل. وقد اعترف أفلاطون بذلك أيضا في فيدون. والتاسعة الأخيرة أن الفساد يقع لآفة والعالم سعيد لا آفة فيه مثل الملائكة. وهو نوع من الإسقاط النفسي على العالم والانتقال من العالم الموضوعي إلى العالم الذاتي، من الخبر الإنشاء، ومما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون. وحجج أبرقلس ثمان عشرة حجة، نقلها حنين نقلا رديئا، ولم يبق منها إلا هذه الحجج التسع. وواضح من هذه الصياغة الألفاظ الإسلامية مثل الله تعالى والخالق والباري والملائكة والوحي والكفر. كما يتضح إثبات شبهة أرسطو وقوله بقدم العالم اعتمادا على أفلاطون.
35
وفي «كلام لأبرقلس من كتابه أسطوخوسيس الصغرى» يعني اللفظ عناصر الطبيعة في مقابل عناصر الإلهيات. ويضم نفس الأفكار، فيض الخير من العلة الأولى. كما قال أفلاطون إن المبدأ الأول هو الإله الأول، والشمس بالنسبة للمحسوسات مثل الباري بالنسبة للمقولات، مصدر للمعرفة. وهو الله عز وجل بصفاته الإسلامية سبب كل الخيرات. والآراء التي يجب اعتقادها في الله، هي أنه جواد معطي الخيرات وليس السيئات؛ لأن الله ليس سببا للشرور، وأنه غير متغير؛ فالتغير ضعف، والله ليس ضعيفا بل في غاية القوة، وأنه عالم بالأشياء على حقائها علما لا خطأ فيه، وهي صفات ثلاث شبيهة بالعلم والقدرة والحياة التي تعادل الخير.
36 (2) من دين الطبيعة إلى دين الوحي
كما تم التحول من دين الطبيعة إلى دين الوحي في ترجمة «مسائل فرقليس في الأشياء الطبيعية» لأبرقلس بطريقة السؤال والجواب وبداية بالبسملة، قام بها إسحاق بن حنين مما يدل على أن الدافع على الترجمة لم يكن فقط الإلهيات، بل أيضا الطبيعيات أي العلم الخالص. وهي مسائل تجمع بين الطبيعة والحرارة والبرودة والماء والنار والطب، مثل حساسية الإبطية والأقدم، والنوم والشعر، والصلة بين الخصي وعدم نبات اللحية.
37
كما ترجم كتاب «الصلاة لياسميتوس» أو ما تبقى منه مما يدل على جرأة المسلمين، على ترجمة الكتب الوثنية ونصوص الصائبة الذين ورد ذكرهم في القرآن، ووضعها في إطار أفلوطين، وقد كانت الثقافة الفلسفية الشائعة؛ فالوثنية هي دين طبيعي، والله خالق الطبيعة؛ فالنقل الحضاري يضع دين الطبيعة داخل دين الوحي، ويعبر عن الوحي بدين الطبيعة.
ولا فرق في الترجمة بين نص ديني أو فلسفي أو علمي؛ فكلها تخضع لمنطق واحد، ترجمة حرفية أو معنوية، حذف أو زيادة أو إعادة كتابة للنص واستبدال الأمثلة، وتعريب المصطلحات أو نقلها، ولكن النص العلمي الرياضي والطبيعي، في حاجة إلى موقف إنساني حتى يخفف من مستوى تجريبه أو موضوعيته، وتحويله إلى مستوى إنساني، بداية بحكاية ونهاية بشعر، بحيث يتحول النص العلمي في الحضارة المنقول منها إلى نص إنساني في الحضارة المنقول إليها، سواء كان هذا النقل الحضاري، كله أو بعضه، قد تم من قبل في النص اليوناني. وهذا السياق الحضاري للنقل أكثر دلالة من النص المنقول نفسه؛ فالخيال طريق العقل، والشعر مقدمة للرياضة وخاتمة لها، والبداية بمسائل علمية مثل بناء قبر، وبتدخل وحي من دلفي، ربما من الأنبياء الذين لم يتم الإخبار بهم
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك .
38
وحظيت ترجمة النصوص السياسية بقدر كبير قدر نصوص المنطق والطبيعيات والإلهيات والرياضيات، بالرغم من وجود الشريعة في الحضارة المنقول إليها. مثال ذلك «رسالة ثامسطيوس إلى يوليان الملك في السياسة وتدبير المملكة».
39
لم يكن ثامسطيوس (317-388ق.م.) فقط شارح أرسطو؛ فقد لقيت شروحه ترحيبا في العالم الإسلامي، بل كان مؤلفا وصاحب مواقف سياسية، وكان من أفاضل الوثنيين الذين بقوا على دين اليونان. نال الحظوة عند يوليانوس الذي ارتد من المسيحية، وكان يود إحياء الديانة اليونانية والحضارة الهلينية، مما يدل على ثقة المترجم بنفسه وترجمة الوثنيين، وهو نصراني يعيش في بيئة إسلامية.
40
وقد رحب المسلمون بثامسطيوس؛ لأنه متدين على نحو طبيعي، عقلاني يوناني. وقد يكون أفضل مسيحية من كثير من المسيحيين، يقترب من الأخلاق، ويبتعد عن العقائد، فكان أقرب إلى الإسلام، والدين الطبيعي كما يبدو ذلك من خطابه في حب الخير. ربما دخلت أشعاره وآراؤه المترجمة داخل الفكر الإسلامي، عن طريق الفارابي وابن سينا مثل «قلوب الحكماء هياكل الرب، فيجب أن تنظف بيوت عبادته». وقد انتشر هذا النوع الأدبي في الحضارة الإسلامية، نصائح الملوك، وألف فيه المسلمون فيما بعد مثل الجويني والغزالي. واختيار ترجمة النص في حد ذاته يدل على قصد نحو الموضوع؛ فالداخل هو الذي يحدد كيفية الاختيار من الخارج، فالدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
وفي رسالة في التوحيد الطبيعي «أن الله خلق الإنسان أكمل الحيوان وأتمه»، مثل:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق النفس وحواسها. وإذا رفض الإنسان اللذات الجسمانية كان في سيرته سالكا السبيل الذي يرتضيه الله؛ فكل شيء بيد الله، ويحفظ الإنسان من الوقوع في الشر. خلق فيه الشهوة والعفة، وهداه النجدين، فالله بداية شيء، وخالق كل شيء، والحياة الفاضلة تبدأ بالنفس وطهارتها. ولما كان الإنسان الواحد لا يمكن أن يعمل الصنائع كلها، احتاج الناس إلى بعضهم البعض، ولأن الله خلق الإنسان بالطبع يميل إلى الاجتماع والأنس، ووضع سننا وفرائض يرجعون إليها ويقفون عندها. وكما أن الله واحد و
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ؛ فإن رئيس المدينة واحد أيضا ، وكما هو الحال عند الفارابي. وهنا يبرز فضل الملوك الذين يقومون بتدبير أمور الناس وسياستهم، يدفعون عنهم الأذى الذي قد يقع عليهم في الداخل أو في الخارج. وتبدأ الترجمة بالبسملة وتنتهي بالحمدلة في جو ديني، الله تبارك وتعالى جل ثناؤه، جل وعز؛ مما يوحي بسهولة النقل الحضاري من النص الأول في الحضارة المنقول منها إلى إعادة كتابته كنص ثان في الحضارة المنقول إليها.
41
ويوصف الله في بعض المخطوطات بأنه تبارك وتعالى، جل ثناؤه، سواء من المترجم أو الناسخ؛ مما يكشف علما أن الترجمة نقل حضاري، من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى.
42
حادى عشر: الترجمات اللاطينية والهندية
(1) الترجمة اللاطينية
لم تقتصر الترجمات عن اليونانية فحسب بل كانت أيضا عن اللاطينية؛
1
وفي المغرب والأندلس أيضا، وليس فقط في المشرق في الشام عن السريانية وفي بغداد عن اليونانية،؛ وإلى وقت متأخر، القرن الرابع الهجري، وليس فقط في العصور المتقدمة؛ وفي التاريخ، وليس فقط في الطب والفلك وعلوم الحكمة. والنص الوحيد الممثل لذلك هو «تاريخ العالم» لأوروسيوس،
2
وهو قس من القرن الرابع الهجري في الأندلس لإكمال «مدينة الله» للقديس أوغسطين. والعنوان الدقيق «التواريخ ضد الوثنيين» ليبرئ به المسيحيين مما حل من تدمير روما على ألاريك في 410م. وقد تمت الترجمة عن اللاطينية في عهد الحكم الثاني المستنصر بالله. وقد تعاون المسلمون والنصارى على نشر العلم في الأندلس أثناء الحكمين الإسلامي والمسيحي في طليطلة. لم يتحرج المسلمون من ترجمة النصوص التاريخية المسيحية ضد الوثنيين، وبما بها من حديث عن تعدد الآلهة في «مدينة الأرض»، وتجسد السيد المسيح في مدينة السماء دون خوف من التبشير، بل ودفاعا عن المسيحية ضد الوثنية، وعدم التحرج من ترجمة الأساطير دون نقدها.
3
ولا توجد حساسية خاصة بالحديث عن المسيحية أو المجوس. وتبدو وطنية المؤلف في الدفاع عن الأندلسيين ومدح أخلاقهم؛ لأنه أندلسي على عكس أوغسطين وهجومه على مواطنيه في شمال أفريقيا وتبعيته لروما. وقد يكون هذا الدافع الوطني أحد أسباب الترجمة دفاعا عن الأندلس في عصر ملوك الطوائف.
4
فهل الكتاب على هذا النحو يخدم الغاية التي طلبها أوغسطين، لتبرئة المسيحية بالهجوم على الوثنية استكمالا لمدينة الله، أم إن المقصود بيان حروب الوثنيين وقسوتهم، حتى تصح الأخلاق المسيحية عن طريق برهان الخلف؟ وهل رفض المترجم العربي التوجه الدلالي للكتاب، وفصل الجسد عن الروح من أجل تركيب دلالة أخرى عليه؟ قد يكون المترجم أكثر وعيا من المؤلف وأكثر حرية في إعادة توظيف النص وإخراجه من بيئته الأولى إلى بيئة ثانية؛ فهو يعيد كتابة النص، ولا يترجمه ترجمة حرفية، كما تفعل الترجمات هذه الأيام، اعتمادا على القواميس والمعاجم ودوائر المعارف، كي تكون مطابقة للأصل.
ويتضح من الترجمة التحول من مركزية الرومان في الأصل المترجم إلى مركزية المسلمين في النص الجديد؛ فالترجمة علاقة قوى. وكان من السهل القيام بهذا التحول نظرا لحضور الشرق، آسيا وأفريقيا، إلى مركز آخر بديلا عن المركز الروماني، من شمال البحر المتوسط إلى جنوبه، على عكس أوغسطين الذي أراد الإبقاء على مركزية الشمال روما مع أنه من أهل الجنوب، شمال أفريقيا. تحضر الهند وفارس في النص الأول أطرافا لروما، وفي النص الثاني جناحا شرقيا للعالم الإسلامي، والجغرافيا في كلتا الحالتين أساس التاريخ حتى ابن خلدون، ويتحول الغرب الروماني إلى محيط للمركز الإسلامي، إحساسا ببلاد الفرنجة في الشمال، وكانت فلطسين في شرق البحر المتوسط منذ القدم بؤرة الصراع بين شماله وجنوبه.
5
وهي ترجمة عربية رصينة بأسلوب عربي قديم، وبمصطلحاته التي قد لا تتفق مع الترجمة الحرفية القاموسية المعجمية الحديثة، التي تقوم على نظرية المطابقة، مطابقة الترجمة مع النص المترجم، فالترجمة فرع والنص المترجم أصل، وأي خروج على ذلك بالحذف أو الإضافة أو التأويل، فإنه يكون خروجا على النص الأصلي، فالنص اليوناني هو الأصل، والترجمة العربية الفرع، وتصح الترجمة إذا ما طابق الفرع الأصل حذو القذة بالقذة، مع أن الترجمة هي إعادة قراءة وإعادة كتابة، ليس فقط بين النص اللاتيني والترجمة العربية، بل بينه وبين الترجمة اليونانية أو الترجمات الأوروبية الحديثة، ويعني هذا التصور لعلاقة الفرع بالأصل تصور الترجمة تابعة للنص المترجم علاقة المحيط بالمركز، الشرح بالمتن. الترجمة تأليف غير مباشر، إعادة كتابة النص الأول بلغة أخرى، وبغرض آخر، وفي بيئة ثقافية مغايرة، الترجمة تأليف غير مباشر، ليست نقلا حرفيا، تتبع بناء الجملة العربية وليس بناء الجملة اللاتينية.
6
الترجمة نقل حضاري، ومن الطبيعي أن يحدث فيها حذف وإضافة وتأويل؛ فكثير من الوقائع في النص اللاتيني لا دلالة لها، مجرد وقائع خالية من المعنى تحذفها الترجمة. وهناك وقائع أخرى تضيفها الترجمة أكثر دلالة وإظهارا للمعنى. وهناك كثرة من أسماء الأعلام الأعاجم غير معرفة في البيئة العربية تسقطها الترجمة، وهناك أعلام أخرى أكثر دلالة تضيفها الترجمة، هناك حوادث كثيرة وأخبار حروب وعدوان لا تهم البيئة الجديدة. وهناك حوادث كثيرة وأخبار أخرى أكثر دلالة تضيفها الترجمة، ويعترف المترجم بذلك صراحة «وتركنا ذكرها إذا كانت أسماؤها غير معروفة في اللسان العربي». هناك حكايات شعبية وحوادث غير دالة وكأنها حوليات وخاطرات. قواد تحذف من الترجمة وتوضع مكانها حوامل أخرى، أكثر قدرة على حمل الدلالات، كما هو الحال في القصص القرآني في الصلة بين التاريخ والموعظة. وهي فترة مهمة، الفترة السابقة على ظهور الإسلام بقرن ونصف، والتي يصدر عليها الإسلام أحكاما بتحريف النصوص وسوء تأويل العقائد وعصيان الشريعة من أهل الكتاب.
7
ويبدو أن الناشر خازن علم، وربما أتت إحصائياته على الحذف والإضافة بين الترجمة والأصل، اعتمادا على دراسات المستشرقين القائمة على الأثر والتأثر، مثل معظم دراساته السابقة. وهنا تبدو أهمية الباعث الوطني في البحث العلمي خاصة في العلوم الإنسانية. خلا البحث من الدلالة والموقف؛ فالعلوم الاجتماعية علوم وطنية. مشكلة الاستشراق مشكلة التحريف، تحريف التوراة والإنجيل وكل الوثائق التاريخية، ومشكلة الترجمة التحول من النقل إلى الإبداع. النقل مقدمة للإبداع وليس غاية في ذاته تطابق التاريخ. النقل معنى يولد وقائع جديدة؛ فهذه ليست معضلة «لا حل لها»، بل حلها في منطق النقل الحضاري. لا يهم الواقع التاريخي بل معناه، خاصة وأنه تاريخ غير دال كله حروب وظلم وعدوان وموت، وجنس ودين وسلطة، المحرمات الثلاثة عند المعاصرين ودوافع الحروب عند القدماء . والقضية هي: هل هذا التاريخ ميدان لتحقيق الوعد الإلهي أم إنه ميدان لصراعات البشر؟
8
تحذف الترجمة كل ما هو غير دال، ولا يحسن توظيفه في البيئة الثقافية الجديدة؛ فهو حذف مقصود وليس نقصا عن سهو أو خطأ أو عدم فهم، يكمله الناشر الحديث وكأن النص اللاتيني هو الأصل، والترجمة العربية هي الفرع. غيابه في الترجمة لا يدل على حضوره في النص المترجم، ووجوده في النص المترجم لا يدل على غيابه في الترجمة؛ من ثم لا يجوز للناشر الحديث إرجاع المحذوف من الترجمة القديمة، حتى تكون كاملة مطابقة للنص المترجم.
9
وقد يقوم المترجم بتجاوز الحذف إلى الاختصار، مثل الخطبة التي استهل بها المؤلف الجزء السادس. كما اختصر عديدا من الصفحات في آخر الفصل وتصرف فيها، ولم يترجم البنود التفصيلية فيه؛ هذا المحذوف لا يناسب غرض الترجمة الجديد في البيئة الثقافية الجديدة، مثل بعض الموضوعات الكلامية عن قدم الله وحدوثه والذات والصفات والأفعال؛ فعند المسلمين خير منها. صغر جزء المسيح بالنسبة للجزء الإثني، وكبر حديث الأرض عن حديث السماء؛ فقد نقل المترجم مدينة الأرض واختصر مدينة السماء. ترك الجسد وركب روحا آخر عليه؛ فالسماء قاسم مشترك بين التراثين، المسيحي والإسلامي. التلخيص مرحلة متوسطة بين النقل والإبداع، التركيز على النص المترجم من أجل إفساح المجال للترجمة المؤلفة. لم يتابع المترجم النص بل أسقط وعدل واختصر، وتصرف وأضاف مثل التاريخ من آدم حتى القرن الرابع، ثلثه من الأصل والباقي من مصادر أخرى. وإذا كانت الترجمة للخليفة فإنه من الأفيد له حذف كثير من تاريخ اليهود والنصارى، وإدخال تاريخ أكثر دلالة له ينبع من مخزونه الثقافي، أو إعطاء تفاصيل وزيادات تتعلق بأوروبا الفرنجية، التي يناطحها المسلمون في الأندلس.
10
والإضافة توضيح للمعنى وإيجاد حوامل للدلالات، مثل كثير من الأنساب في بيئة نسيب، بدلا من أسماء الأعلام الرومانية غير الدالة في الوعي العربي الإسلامي. وقد يضيف النص ما يفيد التمايز بين الأنا والآخر، مثل الحكم على الرومان بأنهم من أجناس الفرنجة. وقد يضيف أمثالا جديدة في بيئة ثقافية تضرب فيها الأمثال. وتبدو في إضافة المصطلحات العربية والألفاظ الإسلامية؛ ومن ثم لا يجوز من الناشر الحديث حذف هذه الإضافات القديمة حتى تطابق الترجمة النص المترجم. وعادة ما تكون الإضافة أكثر من الحذف لمزيد من البيان والإيضاح وإيجاد الدلالات الجديدة، وإعادة توظيف الترجمة في البيئة الجديدة. هناك صفحات بأكملها في الترجمة لا وجود لها في النص المترجم.
والسبب في ذلك ليس اعتماد المترجم على مصادر أخرى استقى منها معلوماته بل لإكمال الناقص؛ فلا فرق بين الترجمة والتأليف، تحولا من النقل إلى الإبداع. النص المترجم يعطي المعنى أو الدلالة أو الروح، ثم تخلق الروح مادة تاريخية أخرى كنوع من القياس الحضاري، قياس مادة تاريخية جديدة من المترجم على مادة تاريخية قديمة من النص الأول لتشابه بينهما في المعنى. هناك عبارات جديدة من وضع المترجم العربي مثل بناء الإسكندر للإسكندرية، أتت قياسا على بناء القواد للمدن زيادة في الإيضاح لبيئة ثقافية مغايرة. إن كثيرا من الأنساب مخترعة؛ إذ لا يهم النسب التاريخي للرومان، بقدر ما تهم عقلية النسب العربية من أجل الوعي بالتاريخ طبقا لعادة العرب.
11
وتتجاوز الترجمة الحذف والإضافة إلى التأويل والقراءة؛ فلفظ المؤرخ في النص يترجم بالفيلسوف؛ لأن المؤرخ صاحب رؤية؛ ولأن الفيلسوف مؤرخ والمؤرخ فيلسوق. ولفظ المختصر في النص يترجم بالمؤول؛ لأن الاختصار تأويل كيفي وليس مجرد نقص كمي. وقد تستعمل الألفاظ بمعانيها الاشتقاقية أو المجازية. لا يوجد خلط في الترجمة بل إعادة قراءة للنص المترجم، بناء على فهم مغاير. ولا يوجد تحريف في الترجمة؛ لأن غايتها ليست نقل النص المترجم، بل إعادة فهمه وإنتاجه من رؤية مخالفة وبفهم جديد. لا يوجد سوء فهم للنص المترجم بل تحول دلالي له. لا يوجد خطأ وصواب في الترجمة؛ لأنه لا توجد مطابقة بين النصين، بل هناك قراءة وتأويل وإعادة كتابة وتأليف غير مباشر. لا يوجد «خطأ فاحش» فهم القدماء غيرهم المحدثين؛ ومن ثم لا يجوز تصحيح الترجمة بناء على النص المترجم؛ لأن الهدف من الترجمة ليس المطابقة مع النص المترجم ونقله حرفيا، بل إعادة نقله من بيئة ثقافية قديمة إلى بيئة ثقافية جديدة، ومن قراء قدماء إلى قراء محدثين. والأسلوب القديم لا تصححه المعاجم الحديثة. لا توجد غرابة في التعبيرات إلا لبعد الناشر الحديث عن الأسلوب العربي القديم. ويتغير الإحساس باللغة من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة.
12
ومن ثم لا توجد معاني الألفاظ في معاجم اللغة؛ لأنها داخلة في سياق أعم، اشتقاقا أو مجازا مثل استعمال فعل عرض بمعنى عارض. كذلك تختلف الأعداد من الترجمة إلى النص المترجم، من أجل زيادة التأثير في المبالغة والتصوير. ولا تهم الأماكن وأسماء الأعلام بل دلالتها. يمكن إسقاط أسماء أعلام وأماكن غير دالة، وإضافة أسماء أعلام وأماكن أخرى أكثر دلالة؛ فالترجمة تعامل مع المعنى وليس حوامله؛ فمثلا يترجم لفظ دكتاتور بألفاظ كثيرة مثل قائد، صاحب الأوامر طبقا للمعنى الاشتقاقي الأول، وليس المعنى الاصطلاحي الذي استمر في الذهن المعاصر، التفرد بالتسلط. ولا تهم دقة التعريب أي النقل الصوتي؛ فهذه لها أساليب عديدة طبقا للهجات والأقاليم، خاصة وأن المترجم لم يسمع اللاطينية، ولكنه قرأها وافترض أصواتها. وهذه أيضا لها اختلافاتها داخل الناطقين بها، مثل حرف السين والشين على التبادل في اسم المؤلف هوروسيوس أو هوروشيوس. وربما يختلف نطق القدماء عن نطق المحدثين؛ ومن ثم لا مجال للحكم بالخطأ في الأسماء نطقا وكتابة، تعريبا ونقلا؛ لذلك يذكر المترجم التقابل بين اللسانين العربي واليوناني، وأحيانا اللسان السرياني. كما يفرق بين اللسان اليوناني واللسان اللاطيني.
13
وتظهر المصطلحات والعبارات والتعبيرات الإسلامية في الترجمة، المصطلحات الدينية العقائدية الكلامية مثل الإيمان والكفر، الفساد والأذى، والطاعة والعصيان، والثواب والعقاب، اليهود والنصارى، الباري، عبادة الله، الآيات، جهنم، الملائكة، الإمامة، السلطان، المصاحف، الرعية، عبدة الأوثان، مصحف القلم، مصحف المكابيين. والبعض منها ألفاظ قرآنية مثل:
وغدوا على حرد قادرين ، أو المصطلحات الفقهية الشرعية مثل بيت المال والشيخ.
14
وكثيرا ما تتشابه المصطلحات في التراثين الإسلامي والمسيحي. وأحيانا يستعمل لفظ المسيحي دلالة على المسيحية الغربية، ولفظ النصراني دلالة على المسيحية الشرقية.
وأحيانا تتحول الألفاظ إلى قراءات ، وضع ثقافة الآخر في مصطلحات الأنا، مثل تسمية الوثنية الجاهلية، واليهود والنصارى أهل الكتاب، ووصف إبراهيم بالخليل أو خليل الله، وترجمة الفيلاء بالملوك، لا تسمية الجند أو الجيش الرسمي بالديوان والديوان الجديد، والمور بالبرابرة، والدكتاتور بتعريبنا المعاصر القاضي، واضع القوانين والأوامر، القائد، ومعرفة الله بالهدى، والوثنيين بالمجوس،
Tribunus
صاحب خراج الرومانيين، والحديث عن أصحاب الكهف الذين كانوا في زمانه. وترجمة
Chronica
بأخبار الزمان على عادة العرب، واستعمال أهل المدن بمعنى حصن أو محصن بناء على عقيدة الجهاد. وأحيانا تظهر التصورات الإسلامية مثل الفطرة والجبلة، وترجمة
Mesopotamia
بالكوفة، وقورينا بصعيد مصر، والحديث عن الأندلس والأندلسيين والحروب بينهم، إسقاطا من ظروف ملوك الطوائف وشغفا وهياما بها.
15
ويستعمل عديد من التعبيرات الإسلامية مثل البسملة والحمدلة، عونك يا رب، واللجوء إلى المشيئة الإلهية، والدعاء لهروسيوس برحمة الله دون اتباع نسق واحد، ولكن في الغالب خروجا لمصطلحات الموروث من المخزون النفسي واللاوعي الثقافي للمترجم، ووصف الله عز وجل وقدر الله تبارك وتعالى، مطلب التوفيق من الله.
16
وأحيانا يتم التعليق على العقائد والرد على التثليث، ووصف المسيح بأنه رسول الله وحكمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ... سبحانه أن يكون له ولد .
17
وربما من الناسخ أو القارئ لأنه بخط مغربي مخالف؛ فالترجمة عمل جماعي.
18
وأحيانا تتم ترجمة الشعر الروماني شعرا عربيا مثل ترجمة الشاعر ركس:
لما رأى الناس الكسوف مخالفا
لسبيله حسبوه ليلا سرمدا
فزعت له الدنيا وظنت أنه
أمر عليه لا يزال مؤبدا
صلبت بنو يعقوب يوما ربها
أيسوعها فاديها الممجدا
ظنت بأن تخفه بذلك أمره
وأبى الإله بأمره إلا الهدى
وفي بيت آخر يصف الحواريين بألفاظ قرآنية مثل:
وكأنني حينا بنور آياته
يعلو ويسمو في الدهور مؤبدا.
19
وذلك يثبت أن المترجم مسلم «لأسلمته» للنص.
ويضيف الناشر في نهاية الترجمة ملحقا «نصوص أوروسيوس الواردة عند ابن خلدون والتعليق عليها»، بنفس الروح، إثبات أن النقل عند المسلمين خيانة للأصل، سواء كان النص اللاتيني عند مترجمة العربي أو النص المترجم عند مستعمله المؤرخ العربي ابن خلدون، وكأن الأصل اللاتيني هو الأصل والترجمة العربية الفرع، وابن خلدون ينقل عن فرع الأصل؛ ومن ثم فالمقدمة فرع الفرع؛ فالمؤرخ العربي ليس موضوعيا بمقاييس القرن التاسع عشر، المطابقة. وليس أصيلا لأنه استقى مادته من مصادر سابقة لم يعلن عنها؛ لأن ابن خلدون لم يذكر شيئا عن الترجمة في الفصل الذي عقده للحكم الثاني المستنصر بالله. ولماذا ابن خلدون وحده وليس استعمال تاريخ أورسيوس عند المؤرخين العرب؟ ربما كانت مادة استشراقية معدة سلفا عرضها الناشر زيادة في العلم الذي يقارب حافة التعالم،
20
ويكتب عنوان الكتاب باللاتينية بما في ذلك اسم الناشر وتحقيقه ونشره.
ويخضع الملحق لنفس المنطق، الحكم على الحذف والإضافة والتأويل بأنه تحريف، وخطأ يحتاج إلى تصويب وتصحيح. والحذف أقل من الإضافة يحتاج إلى إكمال من النص اللاتيني، حتى تطابق الترجمة النص المنقول عنه طبقا لعلاقة الفرع بالأصل. وقد اختصر ابن خلدون بعض الفصول اختصارا شديدا، وكأنه كان لزاما عليه النقل حذو القذة بالقذة،
21
ولكن الإضافة هي الأغلب وكأنها خطأ لا بد من تصويبه، وتحريف لا بد من تصحيحه، وليس تحولا من النقل إلى الإبداع؛ فالإضافة تسمى زيادة غير موجودة في الأصل اللاتيني ما كان يجب أن توجد، فإذا ما وجد فإنه شيء غريب يسترعي الانتباه؛ لأنه ما كان يجب أن يوجد. أما التأويل من أجل التأثير بالأرقام، فإنه خلط وتزييف، وكأن مهمة الناشر هو تلمس الأخطاء وتسقطها، من أجل إعلاء الأصل على الفرع. إن ابن خلدون يشير إلى مصادره الأخرى مثل ابن عباس والطبري والمسعودي.
22
وتظهر الإيمانيات عند ابن خلدون مثل ظهورها عند المترجم مثل الله أعلم، آدم صلوات الله عليه، الله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
23 (2) الترجمة الهندية
ومن الوافد الشرقي، من الهند، تمت ترجمة كتاب «بلوهر وبوذاسف» وهي الترجمة الوحيدة من التراث الهندي في الفلسفة، بالإضافة إلى كليلة ودمنة عن الترجمة الفارسية للأصل الهندي، كما ترجمت الفلسفة اليونانية عن الترجمة السريانية؛ فالثقافة الهندية مرت من الشرق إلى الغرب، من الهند إلى العرب عبر فارس.
24
مترجمها غير معروف، وهي قصة وعظ وأمثال كما يدل على ذلك العنوان «قصة بلوهر وبوذاسف في الوعظ والأمثال». غايتها التأهيل الأخلاقي عن طريق النسك، والإعداد الصوفي عن طريق التوجه إلى الآخرة، تحولا من التاريخ إلى المثال، ومن الواقع إلى الخيال. وقد ازدهرت القصة في البيئة المسيحية الشرقية والغربية في رواية بارلام ويواسف، وبصياغات ولغات متعددة عربية وعبرية وفارسية وجيورجية ويونانية.
25
أسلوبها الحوار، مثل محاورات أفلاطون. أحيانا يكون قصيرا متبادلا بين بلوهر وبوذاسف، وأحيانا يكون طويلا أقرب إلى المونولوج الطويل لإيصال الرسالة والإعلان عن الكشف؛ فالحقيقة لا يمكن إخفاؤها ومنع ظهورها. وهي أقرب إلى الرواية منها إلى القصة؛ نظرا لطولها وتعدد شخصياتها وتداخل أجزائها، على عكس بساطة القصة وصغرها. والأسلوب عربي فصيح أقرب إلى التأليف منه إلى الترجمة.
26
ولا يذكر اليونان على الإطلاق، ويشار إلى نظرية الأخلاط الأربعة، وكأنها جزء من الثقافة الهندية الموروثة وليست اليونانية الوافدة؛ فالصحة من الأخلاط الأربعة، وأقربها من الحياة الدم.
27
وتضم سبع عشرة شخصية: أولها بلوهر الحكيم أو الشيخ، وثانيها بوذاسف طالب الحكمة أو الباحث عن الحقيقة أو المريد، وثالثها الملك جنيسر والد بوذاسف، ورابعها البد نبي الهند، وخامسها راكس المنجم الساحر، وسادسها المستوقر وزير الملك ومحاوره، وسابعها فلنطين بن تلدين والد جنيسر وجد بوذاسف، وثامنها البهون السائح من عبدة الأوثان، وتاسعها العنقاء التي حملت جثة بد إلى فراخها فامتلأت حكمة، وعاشرها كاسد ملك نسيفة الذي لقي نفس مصير جينسر وابنه؛ فالحقيقة تتكرر في أكثر من موقع، ثم قنطس زعيم أتباع البد، ثم فاطر وطاطر الكاهنان، ثم شبلين بن بيسم من أعدل ملوك الهند سيرة وأفضلهم حكمة، ثم تلدين بن شبهين المستطار من ملكه أربع عشرة سنة، ثم كهرريج صاحب البد ثم أبابيد تلميذ بوذاسف، وسمطا عم بوذاسف وشامل ابنه، وقادم الطير الذي يبيض بيضا كثيرا ويفرقه في أعششة الطيور، خوفا من أمواج البحر، وتظهر بعض الشخصيات النسائية دون أسماء لها، الأنسيفة وهما أشبه بنفيسة.
28
وقد يكون للأسماء دلالة رمزية مثل «حي بن يقظان » الحياة بنت اليقظة، أو اليقظة جوهر الحياة، الحياة حياة الوعي والعقل والتأمل. وربما يكشف الاشتقاق الهندي للألفاظ عن دلالاتها على الرواية. ونفس الشيء بالنسبة لدلالات الأماكن اشتقاقا أو دلالة مثل سرنديب وكشمير؛ حيث تذكر الروايات أنها مكان هبوط آدم، أول من سكن الأرض وبحث عن الحكمة وأتته النبوة. وأبعد من ذلك المستوقر الذي يشبه المستودع، وهو من ألقاب الشيعة وفاطر
فاطر السموات والأرض .
وهي تشبه قصة حي بن يقظان في موضوعها وشخصياتها. موضوعها الحقيقة التي يمكن الوصول إليها عن طريق الدين الطبيعي أو عن طريق النبوة. وكلاهما ممثلان في البوذية دين الطبيعة ودين الوحي الباطن، ليس دين الوثنية الذي يقوم على التجسيم والتشبيه، بل دين الطبيعة الحية الجمالية، وليس دين الوحي الخارجي عن طريق الرسول والملاك والإبلاغ، والكلام والقول والكتاب المدون والصحف والألواح، والشعائر والطقوس والأماكن والأزمنة المقدسة. و«البد» هي الشخصية الرابعة من شخصيات الرواية من حيث الأهمية.
29
الدين الحق هو الإيمان بالله والعمل الصالح، هو الإسلام والبوذية والحكمة الخالدة. وأحسن العلم هو معرفة الله عز وجل والعمل بالخير. جماع الدين شيئان: أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضاه، ويتم التركيز على ذلك في نهاية القصة وظهور الملاك حاملا رسالة الله «لا ينال ملكوت السماء أحد ولا يدخلها إلا بعد العلم والإيمان وتمام عمل الخير.»
30
الحق مع أنبياء الله عز وجل ورسله عليهم السلام في القرون الماضية على ألسنة متفرقة. لكل دعوة سبيلها وأمرها، والكل صحيح وقويم. الحق واحد والسبل إليه مختلفة عن طريق الأنبياء والحكماء. والحكمة في تقطع الأنبياء وتواليهم في الزمان، لتطور البشر كالبستان في الفصول الأربعة وفي مواسم الزرع كالربيع والخريف للزهر والثمان. يؤمن بهم البعض ويصدهم البعض الآخر ويعادونهم. يأتون بكلام من الله وليس من الناس، يعجزون عن تقليده مثل إعجاز القرآن، ويرسل به ملائكته مثل جبريل، هو حكمة الله على لسان الأنبياء.
31
وتم تعشيق البوذية مع الإسلام في الزهد في الدنيا، وحياة النسل، والخلاص من قيود البدن، والتحرر إلى عالم الروح، والسيطرة على الانفعالات وأهواء النفس؛ فالآخرة وجود والدنيا عدم طبقا لجدل الوجود والعدم في البوذية؛ فالقصة نموذج لأدب الصوفية عن الزهد في الدنيا والسعي نحو الآخرة، مثل «رسالة الطير» لابن سينا. يتم الخلاص عن طريق ترك الأهل والولد كما فعل بوذا في الهند، وكما فعل إبراهيم بن أدهم في البصرة؛ كلاهما ملك أو أمير تركا ملك الدنيا لامتلاك الآخرة «الزهد في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة». وإن طعام الدنيا هو طعام المضطر المستثقل، ثم تنكشف الحقيقة نور ساطع وهدى مستقيم ناقض على أهل الدنيا أعمالهم ولذاتهم وشهواتهم «فالحق من عند الله بدعاء العباد إليه.» وفي نهاية القصة يرسل الله ملاكا من السماء لإبلاغ بوذاسف الدين الحق، نور الأنفس والعقول. وهو دين الأنبياء الذي أنزله على الرسل في القرون الأولى، لتخليص الأنفس من عذاب القبر ونار جهنم. وهنا تظهر العقدة التي تربط الإسلام بالبوذية وتجعلهما دينا واحدا، فالإسلام هو الجامع بين حكمة اليونان وتصوف الهند، بين حكمة الغرب وحكمة الشرق، الحكمة الخالدة. وتنتهي القصة بجمع الملك قومه، ودعاهم إلى دين الله فأجابوه. وأبطل الأوثان، وجعل بيوتها مساجد يذكر فيها اسم الله، وتطبيق أمره في جماعة الناس باللين والرحمة، وظهور البرهان، ثلاثون ألف ناسك، رجلا وامرأة.
32
وتدل بعض عباراتها على البيئة الإسلامية الشيعية التي ظهرت فيها؛ فقد أشار إلى الترجمة العربية المتكلم الإمامي ابن بابويه (381ه). وظهرت صياغة أخرى أطول عند الإسماعيلية في اليمن والهند، وهي الصياغة التي تم تحقيقها، تمتلئ بثنائية الخير والشر، الظاهر والباطن، دين الله ودين الشيطان.
33
وتظهر بعض عقائد الشيعة مثل التركيز على أئمة الدين رحمة الله عليهم، وسنتهم في بلوغ الغاية والاطلاع على النيات والضمير، والمداواة للقلوب بالأدوية الراسخة فيها، وتعريف المستوقر على بوذاسف أنه الإمام بعون الله وعميد أوليائه. ودعا له بأن يغفر الله ذنبه، ويحط عنه وزره، ويطلق يده، نموذج الإمام الحازم العادل الذي يسوس العوام. والإمام المصلح المستقيم حسن الحال هو إمام الهدى. وتعلن نسيفة غياب الإمام وأن الإمام ليس بحاضر. وتظهر بعض ألقاب الأئمة مثل ولي الله. وقد أعلن راكس الساحر المنجم أن بوذاسف هو إمام البشر. وفي نهاية القصة يرسل الله تبارك وتعالى ملكا من الملائكة إلى بوذاسف، وهو لأمر الله عز وجل متبع، ولوصيته متفهم، وهي من ألفاظ الشيعة. وخرج بوذاسف سائما يستقرئ مدن الهند، داعيا إلى دين الله، تصحبه أربعة من الملائكة ليؤنسوه ويثبتوه حتى تعرج به إلى السماء، فعاين الغيب، وسمع الوحي من الملأ الأعلى ثم أعيد إلى الأرض كرسل الله الخالية، وانتهى أجله في كشمير. وأوصى تلميذه أبابيد الذي أحسن البيعة، وجمع رعية الإسلام المتبددة، حين دنا ارتفاعه من الدنيا.
34
وتظهر العقائد الإسلامية العامة بوضوح طبقا لنسق العقائد في علم الكلام؛ فالله هو الخالق وليس البشر. وأحسن العلم معرفة الله عز وجل، الوحدانية والرأفة والرحمة والمعدلة والقدرة على كل شيء، وأنه صانع، خالق. والمعرفة شرط لدخول الرضا، والخير نافع والشر ضار. والله هو الحاكم العادل الذي لا يجور، والإيمان بالقضاء والقدر، والتصديق بالله تصديق بوعد الرب تبارك وتعالى، واليقين والإيمان بالبعث والجنة والنار، وطاعة الله واجتناب الذنوب، وإتيان الحسنات دون السيئات، الساجد القاعد لله. والفرقة الناجية هي الصوفية وليس الشعب المختار، وفضائلهم مثل حب الصالحين، وذكر الله والاستحياء من الله، والرضا، ورعاية العهد، والأنس، والإنابة والحمد والذكر. وفي الإنسان قوة أودعها الله فيه، قوة العقل والعلم، والعفاف والصبر والرجاء والدين، والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
35
وتذكر آية قرآنية واحدة على لسان بوهلر للاستشهاد بها على غرور الدنيا ونفائسها، وأنها مجرد
لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد . كما يظهر الأسلوب القرآني الحر المستعار في الأسلوب الأدبي مثل: أحبهم ويحبونني، نارا موقدة وجهنم مسجر، فريدا وحيدا، العروة الوثقى، لا تأس على ما فاتك، الدين القيم.
36
كما يظهر أثر القصص القرآني من قصة يوسف وتأويل الأحلام؛ فقد أرسل الملك جينسر إلى معبر للرؤيا والساحر المنجم راكس، ليقص عليه رؤياه ويؤولها له، كما قص الملك رؤيا زوجه على معبري الأحلام، قيل أبيض يطير من الجو وقام على بطنها ولم يضرها ، فبشره المعبرون بغلام كما فعلت الروح القدس مع مريم،
37
كما يظهر أثر بعض الأمثال القرآنية وأمثال السيد المسيح، مثل الزارع الذي يبذر على حافة الطريق فيلتقطه الطير، بعضه وقع على طين فنبت ثم يصفر ويموت، والبعض وقع على أرض ذات شوك فخنقه الشوك، والبعض وقع على أرض طيبة فسلم ونما.
38
كما تكثر التعبيرات الإسلامية مثل عبد الله، وتعظيم الله، دعوة الله، تقوى الله، حمد الله، بركة الله، شكر الله، عون الله، معرفة الله، سؤال الله، بإذن الله، إن شاء الله، الإيمان بالله.
39
ثانى عشر: الاحتواء الديني
(1) المثالية العقلية
ولا يوجد نقل ديني بل مجرد عرض فكر خالص بطبيعته مثالي، يسهل على الشارح فهمه وعرضه فيما بعد. ما يهم أولا هو اتساق الفكر مع نفسه، لما كان العقل أساس النقل، ثم يسهل بعد ذلك صبه دينيا لترسيخه داخل الحضارة؛ فالمثالية دين طبيعي تتفق مع الفكر اليوناني والأساس النظري للدين الإسلامي. هنا تقل الإشارات الدينية المباشرة، بل يكفي العرض العقلي النظري الخالص، وإلا عدنا إلى علم الكلام. وهذا هو الاحتواء، احتواء الآخر في ثقافة الأنا اعتمادا على النقل وحده. يعني الاحتواء إدخال الثقافة الوافدة ضمن إطار الثقافة الموروثة، ثم تحويلها إلى جزء من الثقافة الوطنية العامة. الاحتواء هنا امتصاص وتمثل استيعاب؛
1
لذلك لا تظهر الثقافة الإسلامية في الشرح، ليس لأنها لم تكن عامة وشائعة عند المترجمين والشراح، أو لأن المترجمين كانوا يكونون حلقات ثقافية منعزلة داخل المجتمع الإسلامي مثل مدارس الدومنيكان والفرنسسيكان حاليا داخل الأمة؛ بل لأن الاعتماد في الاستيعاب كان على العقل الخالص. لا يذكر الإسلام أو الثقافة الإسلامية في الشروح المتأخرة؛ فالشراح عاكفون على الوافد، بعيدون عن الموروث، «علمانيون» بالأساس؛ فهم لا يتعرضون للإلهيات. ولا توجد أية إشارات لمعارك كلامية داخلية، وكأنهم لا يعيشون مجتمعهم ومعاركه الثقافية. ولما كانت الطبيعيات تعتمد أساسا على تقابل العقل والطبيعة، سهل تمثلها واحتواؤها وشرحها؛ فالوحي الجديد هو نظام عقلي مثل نظام الطبيعة وكلاهما نظام العقل؛ ومن ثم يمكن رد كل منا إلى الآخر، رد الوحي إلى العقل والطبيعة ورد الطبيعة إلى الوحي والعقل؛ فالنظم الثلاثة نظام واحد. ولما كان المنطق تعبيرا عن نظام العقل، والإلهيات تعبيرا عن الوحي، فإن المنطق والطبيعيات والإلهيات نسق واحد يمكن رد كل منها إلى الآخر. الطبيعة تطبيق للمنطق أي تعبير عن العقل في الشيء. والإلهيات تطبيق للمنطق أي تعبير عن العقل في المفارقة. والمنطق تطبيق لنظام العقل نفسه أساس الطبيعيات والإلهيات؛ لذلك كان المنطق آلة لكل العوم. المنطق عقلي، والطبيعيات عقلية، والإلهيات عقلية؛ فالعقل هو الجامع بين الأنساق الثلاثة. معيار الصدق في المنطق ذاته، ومعيار الصدق في الطبيعيات، والإلهيات المنطق العقلي. لا يعني ذلك الوقوع في الصورية، صورية المنهج أي المنطق أو صورية الموضوع، الطبيعيات والإلهيات بل وحدة النسق ضد ثنائية المنهج. العقل والإيمان، وثنائية الموضوع، العالم والله. لا يعني ذلك التضحية بالموضوع من أجل المنهج للموضوع، أو ابتلاع المنهج للموضوع نظر لوحدة المنهج والموضوع؛ لذلك دخلت الرياضيات جزءا من المنطق في الطبيعيات بل والإلهيات؛ فالرياضيات تعبير عن المنطق في عالم الأعداد والمساحات والحجوم. ولا يوجد شيء في نص أرسطو يمكن رفضه عقلا.
2
وشرعيا يمكن القول إنه لا يوجد مانع من أن يكون أرسطو نبيا لليونان مثل سقراط وأفلاطون؛ فما من أمة خلا فيها نذير، ولم يذكر القرآن إلا الأنبياء الذين كانوا في المخزون النفسي عند العرب في شبه الجزيرة العربية
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص . وحال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وفيثاغورس عند اليونان مثل حال بوذا في الهند وزرادشت وماني في فارس، ولاوتسي وكونفوشيوس ومنشيوس في الصين، إلا أنه لا نبي بعد محمد آخر الأنبياء، والحكماء ورثة الأنبياء.
ومع ذلك الجو الديني للمعلق أكثر عمقا واتساعا من الجو الديني للمترجم؛ لأن مهمة الشارح أكثر عمقا حضاريا من مهمة المترجم. المترجم ناقل علم، والشارح ممهد ومبين له من أجل احتوائه؛ ففي الحديث عن السماء يلاحظ أن جميع الأولين صيروها موضعا لله؛ فالترجمة هنا نقل للمعنى من حضارة إلى حضارة، ووضع للوافد في الموروث؛ فالسماء في الدين العقلي تعادل الله في دين الوحي ؛ نظرا للاتناهي وعدم الفساد كصفات مشتركة بين السماء والله.
3
وإذا ألف أرسطو كتاب «في السماء» فإنه يضاف إليه في الترجمة العربية، وقبل ذلك عند الشراح اليونان «في العالم» ويصبح «في السماء والعالم»؛ لأنه لا يمكن تصور السماء دون العالم، والأعلى دون الأدنى، والسماء دون الأرض. هل تابع المسلمون الشراح اليونان أم ألحقوا العالم بالسماء بناء على دوافع دينية خاصة؟ السماء هو الذي ربط بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، عالم متوسط بين العالم والله، وموضوعاته تتراوح بين الطبيعيات والإلهيات؛ فالمقالة الأولى تتحدث عن العالم والعنصر الخامس والحركة وإبطال اللامتناهي ووحدة السماء وأنها غير مكونة، وأن إثبات اللاتناهي من أجل إثبات الكون والفساد. والمقالة الثانية عن حركات الأجرام والأفلاك والكواكب والأرض، وهو موضوع طبيعي تكثر الإشارة إليه في النص الديني للحضارة المترجم إليها. وموضوع الثالثة الأسطقسات بين الطبيعة والآثار العلوية. وموضوع الرابعة الثقيل والخفيف، وهي ثنائية مثالية بين الهبوط والصعود في الأجسام كدليل على التنزيل والتأويل.
في الموضوع الديني تكثر التعاليق؛ لأنه موضوع خصب ودال، ولا يكون بالضرورة موضوعا دينيا مباشرا، بل موضوعا دينيا من دين العقل والطبيعة. وهو الدين الوافد الذي يتم التعليق عليه؛ أي احتواؤه من دين الوحي الذي يقوم هو نفسه على العقل والطبيعة؛ فإبطال اللامتناهي بالنسبة للعناصر معقول؛ لأن الله وحده هو اللامتناهي. يحتوي الموروث بسهولة مثل هذا النص؛ لأنه متفق معه ويمكنه بعد ذلك من إثبات لا تناهي الله؛ فالإيمان العقلي الطبيعي عند اليونان يجد بعدا جديدا له في الوحي، كما أن الوحي تأسيس له في العقل والطبيعة،
4
وكذلك موضوع النفس موضوع مركزي في الحضارة المنقول إليها. والنص المنقول بسيط لا يتطلب في حد ذاته كل هذه الضجة حوله، وأثره في رؤية المسلمين للنفس، والقرآن قد ذكر النفس مئات المرات (295 مرة)، نصوصه مملوءة بآراء وأفكار أعمق وأوضح وأدل من النصوص المنقولة. وليس من المعقول أن يحدث كل هذا الصراع حول العقل الفعال بسبب عبارة بسيطة وردت عرضا عند أرسطو «ولست أقول إنه مرة يفعل ومرة لا يفعل ، بل هو بعدما فارقه على حال ما كان وبذلك صار روحانيا غير ميت.» وهذا يعني أن النفس حية. إنما المهم إيجاد الدال وترك غير الدال؛ فالحضارة الجديدة هي التي تفرض تفسيرها وقراءتها على الآخر من أجل الاحتواء؛ نظرا لأن الحضارة دينية ولا تهتم أساسا إلا بالمفارقة أي الخلود. مهمة الشرح رد الاعتبار لأرسطو، وإعادة الاتزان له، وإخراج نتائج عدة من المفارقة مثل الأخرويات والحساب، الثواب والعقاب، وهي موضوعات السمعيات، واستنتاج نتائج أخرى بالنسبة لإثبات وجود الله، وهو الموضوع العقلي. هذه العبارة ليست أحد الدوافع الرئيسية عند الفارابي في الجمع بين رأيي الحكيمين؛ لأن موقف الفارابي كلي وشامل في الجمع بين المثال والواقع، وأكبر من أن تحدثه عبارة قالها أرسطو عرضا. هذا الاتجاه في الشرح نحو المفارق كان على عكس أرستوكسينوس
Aristoxenus
الذي كان ينكر كل ما هو مفارق؛ فالروح اسم خاو من كل معنى، والطبيعة قادرة على تفسير كل شيء. والسؤال هو: هل التفسير الطبيعي للروح بعيد عن روح الحضارة الجديدة، وهو التفسير الذي شاع عند أصحاب الطبائع من المتكلمين؟
5
وقد يكون أكثر مؤلفات أرسطو خصوبة للتمثل والاحتواء وإعادة الإنتاج هو كتاب «ما بعد الطبيعة» خاصة حرف اللام، وهو الفصل السادس.
6
والسؤال: أين الباقي؟ هل كانت موضوعاته أقرب إلى الطبيعة منها إلى ما بعد الطبيعة، وبالتالي فهي مكررة ومن ثم لم تعد جديدة؟ أم إنها ضاعت بالفعل بعد ترجمة الكتاب كله؟ يقسم حرف اللام الجواهر إلى ثلاثة: اثنان طبيعيان، وواحد غير متحرك. وهي قسمة تطابق الشعور الديني والتقابل بين المخلوق والخالق؛ وبالتالي تكون القسمة مقدمة للإلهيات. والإشارة إلى الإلهيات صريحة في نص أرسطو؛
7
فالله عقل إلهي، أسمى عن عقولنا. وهو بنفسه لذيذ فاضل، عاقل، لذاته حياة أزلية فاضلة. وهو أعلى مراتب الشرف وأولى بالكمال، كما هو الحال في وصف الوعي الخالص في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة.
8
حتى الناشر الحديث اضطر إلى اللجوء إلى البنية الدينية بالحديث عن أن العقل والعاقل والمعقول واحد بالنسبة إلى الألوهية، وبوصف الله بأنه الخير الأسمى؛
9
فالإيمان الفلسفي اليوناني يسهل احتواؤه داخل التصور الفلسفي؛ فالفلسفة هي الرابط بين الاثنين. العقل الأول عند اليونان هو الله، مبدأ جميع الأشياء، غاية الكمال والتمام، لا يحتاج إلى غيره، علم محض.
10
هذا هو تأليه اليونان العقلي الذي أمكن احتواؤه داخل التأليه الإسلامي، عن طريق العقل المشترك بين الحضارتين، في تصور فلسفي ثنائي بين الزائد والناقص، تلك الثنائية العقلية التي تعبر عن الإيمان العقلي للقدماء قبل الوحي عند اليونان وبعده عند المسلمين. وهو الإيمان الذي استمر إبان العصور الحديثة الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولم يتغير إلا في القرن التاسع عشر في ثنائية أخرى أفقية رأسية، ثنائية الإنسان والطبيعة عند فيورباخ لتجاوز الثنائية العقلانية الحديثة، التي هي تبرير للثنائية الإيمانية القديمة في العصر الوسيط.
وفي شرح ثامسطيوس لحرف اللام من كتاب ما بعد الطبيعة، يظهر الإيمان العقلي اليوناني وإسقاط الأمثلة اليونانية القائمة على التشبيه وزيادة التنزيه العقلي. وذكر الله صراحة. الله هو نموذج الحياة الفاضلة والإنسان الكامل ولقانون الطبيعة. الله مبدأ عقلي، ومبدأ خلقي، وقانون الطبيعة. الله صفة خلقية. وكان من السهل بعد ذلك احتواء المسلمين لأرسطو بهذا الشرح الإيماني لثامسطيوس؛ فأرسطو ترك الميتافيزيقا مجرد فلسفة عقلية حولها ثامسطيوس إلى إيمان فلسفي قبل المسلمين. يركز ثامسطيوس على الجوهر الأزلي من الجواهر الثلاثة، وترك الجوهرين الطبيعيين؛ فهذا نقل طبيعي للنص من مستوى الطبيعة إلى مستوى ما بعد الطبيعة، ممهدا للنقل الحضاري الجديد بالحديث عن الجوهر المفارق، لمن يستعمله بعد ذلك في الموضوع الديني الأول. ولا يهم من صاحبه، بل المهم تحقيق الغاية من شرح ثامسطيوس والتركيز على الجوهر الأزلي. هناك فرق بين الوثيقة التاريخية والحامل الحضاري؛ فالانتقال من الجوهر الثالث الأزلي إلى الحديث عن الله انتقال طبيعي، لا يهم من صاحب هذه النقلة. وفي شرح ثامسطيوس هناك انتقال من النص إلى الشرح، من النص الأرسطي إلى إعادة انتاجه من جديد، من النقل إلى الإبداع.
11
ولا يقتصر ثامسطيوس فقط على شرح النص، بل يضع نفسه في إطار التاريخ بعد السابقين عليه وقبل اللاحقين له. ولا يقتصر الناسخ على ذكر شرح ثامسطيوس، بل يضيف عليه نصوصا أخرى في نفس الموضوع من كتب أخرى، مثل السماع الطبيعي ترجمة الشيخ أبي زكريا يحيى بن عدي.
وفي شرح ثامسطيوس تظهر الإلهيات بصورة أوضح وأكثر انتشارا واتساعا؛ فالله هو ناموس الأشياء (الله والطبيعة). وهو نموذج الحياة الفاضلة (الله والإنسان). وهو حي فعال، حياة أزلية (الله في ذاته)، صفاته على النقيض من صفاتنا. ويظهر في المنطق عن طريق قياس الأولى والأشرف. وهو نوع من البرهان على وجود الله ابتداء من الدليل العقلي؛
12
فالله من خلال الذاتية، هو ما نفعله على نحو أشرف. موضوعيته تنبثق من الذاتية. وتحولت المفارقات إلى البحث عن الأدلة على وجود الله.
ويبدو هذا التصور الديني أيضا في ترجمات الأخلاق العملية مثل «كتاب تدبير المنزل» لدامسطيوس.
13
وهي رسالة تحدد علاقة الرجل علاقة رباعية بما له وخدمه وامرأته وولده، فإذا كان الخالق تبارك وتعالى قد جعل في الإنسان القوى التي يحتاج إليها، إلا أنه جعل فيه نقصا وهو حاجاته إلى الإمكانيات الخارجية. جعل الله له قوى داخلية وخارجية مثل المال؛ فالناس في حاجة إلى النقود في المعاملات؛ ومن ثم إلى اكتسابه وحفظه وإنفاقه والحذر من الجور والعار والدناءة، ولكل وسائله المتعددة. وفي تدبير العبيد والخدم تظهر الشريعة؛ فالعبيد ثلاثة: عبد الرق وعبد الشهوة وعبد الطبع، وقد أوهبت الشريعة عبد الرق. وفي تدبير المرأة يظهر البعد الديني من جديد؛ فقد جعل الخالق تبارك وتعالى الخلق يموتون وفي نفس الوقت يحافظون على بقائهم بالتناسل. ووضع الله في الرجل الطبيعة التي يميل بها إلى الحركة والظهور، والتصرف في منزله. هو القيم على امرأته وهي المطيعة له في التدير والإنجاب. أما تدبير الرجل لولده فبالرياضة للبدن وبالحكمة للعقل، حتى يتأدب الولد في نومه ولبسه وتصرفه مع غيره. ولا ينبغي للصبي الحلف بالله على حق ولا على باطل، ولا أن يضطر الرجل إلى الحلف باليمين، وبالرغم مما في الجماع من قربة إلى الله إلا أنه يكون بعد الزواج وليس قبله. وفضيلة النفس مثل الصبر تجعله قادرا على التحمل حتى ينال المحبة والكرامة من الله والناس.
14
وكما تبدأ الرسالة بالحمدلة والعون تنتهي بالحمدلة والحمد.
15
ويبدو أن هذا التوافق في أخلاق اليونان وأخلاق الإسلام، هو الدافع على الترجمة أو الانتحال، لا يهم صاحبها ما دام مضمونها هو المطلوب. (2) العقائد الدينية
كما يظهر الفكر الديني في صفات الله وأسمائه؛ فالله هو العقيدة الرئيسية التي يصب فيها كل الفكر الإلهي المباشر أو غير المباشر عند اليونان وعند المسلمين، في الوافد والموروث.
16
وتبدأ عملية التمثل والاحتواء للوافد في الموروث ولثقافة الآخر في ثقافة الأنا، كلما ظهر موضوع الله؛ فالكمال في الوافد هو الله في الموروث.
17
وقوة الله بلا نهاية. وكل موضوع يتصف بصفات الله يذكر الله، ويصب فيه مثل اللانهاية.
18
وإدراك أن المحرك الأول موضوع شريف يستحق الطلب البرهاني، هو إدراك من الحضارة الجديدة لموضوعات الحضارة القديمة.
19
وهو تصور يعبر عن الإيمان العقلي القديم على مستوى الحضارة اليونانية، ثم دخل بعد تمثله واحتوائه كبيئة عقلية، أضيف في البيئة الحضارية الجديدة الأوسع والأكثر شمولا. هو تصور يعبر عن إحدى محاولات التنزيه العقلي. ولما كان التنزيه العقلي تشبيه مقلوب، فلا غرابة من قبوله. وبالرغم من أن المقالة الثامنة كلها عن المحرك الأول الذي لا يتحرك، وعن الأدلة على إثباته وضرورته وقدمه، إلا أنه لم يتم احتواؤها دينيا، وتم الاكتفاء بالإيمان العقلي.
ويظهر موضوع المحرك والمحرك الأول في آخر الطبيعيات، وهو أشبه بموضوعات ما بعد الطبيعة، مما يدل على أنهما علم واحد. في الطبيعيات الحركة هي الموضوع الغالب، كما أن المكان غلب على الزمان. والمقالتان السابعة والثامنة عن المحرك الأول، وتقدم العالم وهي موضوعات الإلهيات.
وبالرغم من ندرة النقل الحضاري في شرح ثامسطيوس لكتاب النفس لأرسطو ترجمة حنين بن إسحاق، إلا أن الاحتواء الديني ظاهر في وصف الله تعالى، بالرغم من سهولة التعشيق بين النصين اليوناني والعربي.
20
في رأي طاليس أن الأشياء كلها مملوءة من الله، وهو رأي القائلين إن مسالك الناس كلها وجميع محافلهم مملوءة من الله، وهو رأي زينون أن الله ناشب في كل جوهر، وهو رأي الصوفية. والطبائع الأشد إلهية خليق أن يكون العقل فيها خلوا من القوى النباتية والحيوانية. ويقال إن الشيء الذي من قبله يفعل هو الأمر الإلهي، جعلته الطبيعة مثالا للإرادة الإلهية؛ فالطبيعة إلهية، والأجسام إلهية؛ فالله بجهة ما هو الموجودات أنفسها. هناك شيء إلهي وشيء فاعل غير منفعل. لا يعني ذلك أن العقل الفعال هو الله؛ لأن العقل الإلهي غير منفعل، وإلا كان هناك إله أول. إنما العقل إلهي مفارق، ويأخذ أفلاطون لقب الإلهي. كما تظهر العبارات الإيمانية مثل الحمدلة في نهاية المقالتين، الأولى والثانية، والبسملة والصلوات في أول الثانية.
21
وقد يمثل الشعراء هوميروس وأرفيوس وهزيود العلم الإلهي عند اليونان، ويقوم الشعراء بدور الآلهة، ويكون شعرهم الحكمة الإلهية، وتكون الحكمة هي انتقال من عصر الآلهة إلى عصر الأبطال، كما لاحظ فيكو فيما بعد.
22
الشاعر أوميروس مصدر معلومات مثل الفلاسفة حتى في الموضوعات العلمية.
23
ويظهر الفكر الديني بوضوح في أهم قضاياه مثل الخلق، خلق الطبيعة؛
24
فحركة الاجسام الطبيعية إلى أسفل وليس إلى أعلى، ناتجة من الترتيب الوضعي لها؛ لأن الله جعل وضع الأرض في الوسط، حركة الأجسام إذن طبيعية بناء على وضع الله لها، وإن لم يكن هناك مصطلح الخلق.
25
الطبيعيات الوافدة لا تضع الله عاملا فيها. ويأتي التعليق فيدخل الله عاملا في حركة الطبيعة. وهذا هو نموذج احتواء الموروث للوافد من خلال التعليق والشرح قبل التأليف؛ لذلك أعجب الحكماء بضرورة حركة الأجرام البسيطة نحو الأعلى والأسفل،
26
بل إن ترجمة كتاب الآثار العلوية ثم التعبير عن مضمونه، بأنه يشمل حديث الآثار العلوية في العلو والسفل، ويشرح المترجم بأن هاتين الحركتين، العلو السفل بتدبير من الله سبحانه وتعالى.
27
ويكون السؤال: هل اختيار ترجمة الآثار العلوية وشرحه بتوجيه القرآن في حديثه عن السماء والرياح والأنهار والأرض والكواكب، ووصف الآثار العلوية والسماء؟ هل هذا العالم، الآثار العلوية والسماء، عالم وسط بين تناهي الطبيعة ولا تناهي ما بعد الطبيعة فتفنى أم إلى ما بعد الطبيعة فتبقى، ودوران السماء هو ذاته جمع بين التناهي واللاتناهي؟ ألا يعني إنكار الخلاء أن الله في كل مكان، وأنه لا يوجد شيء خارج السماء، وأنه لا يوجد شيء لا يحيط به الله ويسيطر عليه، وإذا كانت حركة ما تحت القمر مستقيمة وما فوق فلك القمر دائرية، والثانية أشرف من الأولى، أليس هذا تصورا دينيا لعلاقة العالم بالله؟ وإن اختيار الأثير مادة اللاتناهي والحركة الدائرية كعنصر خامس أشرف من العناصر الأربعة التي منها يتكون العالم الأرضي. والسماء كروية أو فلكية، والأفلاك متداخلة ذات مركز واحد، ألا يدل ذلك على صورة اللاتناهي في مقابل كروية الأرض؟ إن كتاب «الآثار العلوية» تال لكتابي «الطبيعة» و«ما بعد الطبيعة»؛ أي إنه محاولة للربط بين العلمين بطريقة طبيعية وميتافيزيقية معا، كما أن النفس هو الرباط بطريقة إنسانية. وهو من الموضوعات العلمية التي يمكن مراجعتها علميا؛ لأنها موضوعات مرئية يمكن ملاحظتها وتجربتها. ولا يوجد تعليق على الآثار العلوية إلا بعلم لا بدين أو فلسفة. وهو في حد ذاته رؤية حضارية؛ فالعلم أحد مكونات الدين وبواعثه وأسسه.
وفي مرحلة الاحتواء يتم رفض كل ما لا يتفق مع العقيدة مثل البخت والمصادفة؛ نظرا لتعارض ذلك مع الإرادة والاختيار في الإنسان، ومع القانون والنظام في الطبيعة
كل شيء خلقناه بقدر ؛ فالوعي الإسلامي بطبيعته يقوم بالاعتراض. وقد قام المتكلمون بهذه المهمة والذين جعلوا الفلسفة فرقة كلامية ويحيى رأسها. وقد قام يحيى بالرد على نقض أبي هاشم الجبائي لكلام أرسطو في الآثار العلوية، بأن العلمين مختلفان في الرؤية والمنهج. والمصطلح، الكلام والفلسفة، يكشف عن ثنائية الخطاب الديني والفلسفي، الأول خاص بالمسلمين والثاني عام لجميع الأمم، الأول خطاب ديني إيماني والثاني خطاب عقلي منطقي.
28
وكان أرستوكسينوس
Aristoxenus
ينكر كل ما هو مفارق؛ فالروح اسم خاو من كل معنى، والطبيعة تفسر كل شيء. وهذا أيضا يصب في أصحاب الطبائع لدى متكلمي المعتزلة. وقد تم صب تصورات الوافد في بنية تصورات الموروث، ليس فقط في العقليات، بل أيضا في السمعيات خاصة في الأخرويات وأمور المعاد ، مثل الحساب والعقاب، ابتداء من شرح المفارقة.
وفي «التجربة الطبية» لجالينوس يظهر التصور الديني للعالم للحضارة المترجم إليها حتى ولو كان المترجم نصرانيا ينتسب إلى دين آخر، ولكن يشارك في نفس التصور، خلق الله للعالم وعنايته به، وبدونهما يكون الكفر بالله والجحد بوجوده.
29
وفي «جوامع كتاب النواميس» له أيضا يخاطب الله الملائكة، كما خاطبهم القرآن وقال لهم قولا علميا، أنهم مكونون وليسوا غير فاسدين، ولكنهم لا يفسدون بمشيئة ربهم وعنايته. وهم وسائط بين الله وبين عالم الحيوان الفاني، ومبلغون لإرادة ربهم، ولكن خلق النفس الناطقة مثل الملائكة منذ ابتداء الخلقة لا تموت، وجعلها خارج الأمزجة والكون والفساد. وأمرهم الله بالصلاة عليها. وأول ما خلق الله عز وجل الإنسان خلق الرأس وجعل فيه دورين إلهيين، النفس والعقل، والملائكة دور واحد هو العقل. وخلق النفس الناطقة لا تموت، وكساها بدنا ميتا. وخلق الله أنواعا من النفس الشهوية والغضبية مرتبطا بها مثل اللذة والغضب، ومزجهما بالحس العديم المنطق والشهوة المنقصة، فأصبح الجنس قابلا للموت. وجعل الخالق تبارك وتعالى النفس الشهوانية في الكبد. وجعل المدبر الإلهي النفس الناطقة سبب سعادة الإنسان، إذا ما سيطرت على النفس الشهوانية والنفس الغضبية. وخلق الدماغ من مثلثات ملس لا عوج فيها؛ نظرا لأن النوع الإلهي يسكن فيها. وخلق الله تبارك وتعالى العظام من الأرض أجزاء نقية مسحوقة، ونخلها وخلط بها مخا أو عجنها، ثم أدخل العجين في النار، ثم أدخله الماء ثم إلى النار مرة ثانية، ثم إلى الماء فأصبح غير ذائب؛ لذلك صارت العظام جافة لا تنثني. وخلق الله الفم لأمرين: أحدهما اضطراري في الحياة، وهو الأطعمة والأشربة واستنشاق الهواء. والثاني لما هو أفضل، وهو النطق. كما جعل الخالق الأظفار للحاجة الاضطرارية في الحيوان. وخلق الله عز وجل النبات لغذاء الإنسان، وجعل فيه نوعا واحدا من أنواع النفس وهو النباتي (الشهواني). وخلق الله تبارك وتعالى أولا الرجل، فمن أخطأ في سيرته وتجاوز العدل واستعمل الجور، خلقت المرأة ثم خلق الله في الرجل شهوة الجماع، وخلق الأرحام للنساء والمني للرجال ومرض اختناق الأرحام. وجعل الله الجنس الطائر من الذين عنايتهم مصروفة إلى النظر في الآثار العلوية، والجنس المشاء من الذين جمعوا بين النقيضين السعادة والشقاء، والجنس الزاحف من الذين لم يستفيدوا أصلا من التعاليم، والجنس السابح من الذين هم في غاية الجهل والفضيلة؛ فمراتب الخلق مراتب المعرفة والكمال. وكما حول جالينوس محاورة طيماوس لأفلاطون في الطب، جعلها المترجم في الخلق.
30
وتظهر بعض التصورات المشتركة في النص الأصلي، والنص المنقول يجعل نقل أحدها إلى الآخر سهلا ميسورا. وذلك مثل النص الأصلي المتعلق باليقين الحادث من الخبر المروري من الكثير، مثل وجود مصر والإسكندرية، وهو معروف في الحضارة المنقول إليها النص الأصلي باسم التواتر. ويمكن لحضارتين مختلفتين، اليونانية والإسلامية مثلا، الوصول إلى نفس الحقائق؛ فالعقل الإنساني واحد، والطبيعة البشرية مطردة. وربما ظهرت وحدة العقل والطبيعة عند اليونان، ووحدة الوحي والعقل والطبيعة عند المسلمين.
31
ولا تعني عملية الاحتواء، إرجاع الوافد إلى الموروث وتمثل الموروث للوافد، إرجاع علوم الحكمة إلى حظيرة الدين، وأن الدين قد احتوى كل شيء، كما هو الحال في الحركة السفلية القديمة والمعاصرة؛ وبالتالي ينهدم العقل بعد أن تم كسبه وإثباته. إنما هو رد فعل على الاستشراق وتفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها عن طريق الأثر والتأثر. ليس الوافد هو الذي أثر في الموروث فأنتجه، بل إن الموروث هو الذي أعاد إنتاج الوافد، باحتوائه وتمثله ووضعه في تصور أعم وأشمل، ووضع العقل وحده في العقل والنقل.
كان دور العرب في إنشاء النهضة في أوروبا عن طريق الترجمات العقلانية الكاملة، التي تعبر عن منظور حضاري إسلامي بعد أن تم احتواء التصور اليوناني. ويعترف الوعي الأوروبي بلا تردد بدور التراث الإسلامي في تكوين الوعي الأوروبي في عصر النهضة، ويعطي الأولوية للعامل الداخلي على العامل الخارجي، للموروث الأوروبي على الوافد الإسلامي. ثم يعود في المرحلة التالية في الترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية في القرن الماضي، ويؤكد أثر الوافد الأوروبي على الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة، منكرا الإبداع الذاتي ومعطيا الأولوية للوافد على الموروث . ويدل ذلك على المعيار المزدوج في الوعي الأوروبي الذي يطبق به فهم الأثر والتأثر. ولا تهمنا الترجمات اللاتينية والعبرية للنصوص العربية المفقودة؛ لأننا الأولى بها، إنما تدل على طبيعة العمليات الحضارية التي تهم الحضارتين العبرية واللاتينية بالأساس، وتهمنا نحن بالفرع والمقارنة؛ لنعرف ماذا أسقطت هذه الترجمات وماذا أضافت؛ فهي عمليات حضارية سالبة بالنسبة لنا، وموجبة بالنسبة لغيرنا. كما أن تأثير ابن رشد في اللاتين جزء من دراسة الفكر العربي، للتعرف على مصادره، امتداد الحضارة الإسلامية في غيرها من الحضارات، وأثر الإنسان في الآخر؛ فقد صارت مشكلة وحدة العقل الفعال وقدم العالم عند ابن رشد أهم مشكلة في الفلسفة المدرسية.
32
أما أثر ثامسطيوس على الشروح العربية واللاتينية، فهي مشكلة أخرى وهي التراث الغربي، وليس مشكلة التراث القديم، إلا بالمقارنة بين وضع ثامسطيوس عند الشراح المسلمين، وعند الشراح العبرانيين واللاتينيين. (3) البدايات والنهايات الدينية
بالرغم من أن البسملات والحمدلات عادات خارجية صرفة من المترجمين والنساخ بل والقراء، إلا أنها تدلي على البيئة الدينية التي يعيش فيها النص؛ فالعمل الحضاري يتم باسم الله، وإذا تم فالحمد لله. والفكر الجديد ليس طلبا لغزو أو سيطرة؛ فالعزة لله. والله هو الواحد الحق الوهاب. والصلاة على الأنبياء والملائكة، والرحمة على الناسخ أو المترجم أو المعلق. وبعد البسملة الدعوة إلى مزيد من العلم، ففوق كل ذي علم عليم. والمترجمون والنساخ والمعلقون والشراح كلهم مشايخ، وليس فقط رجال الدين؛ فالشيخ هو العالم، لقب يدل على احترام العلماء. وذكر التاريخ الهجري لعام الترجمة أو النسخ، يدل على الوعي الحضاري التاريخي الجديد. وبتحليل مضمون هذه الشعارات الدينية يمكن الكشف عن البواعث الحضارية العامة الجديدة، التي كانت وراء الترجمة والتعليق والشرح؛ مثل الرغبة في المعرفة، والازدياد في العلم، واحترام القدماء، والدعوة بطول الأجل من أجل التعلم والشرح والتلخيص.
33
وقد يتم تخصيص الحمد لله لواهب العقل، فيتم تكييف الجو الديني طبقا للموضوع، كما نقول نحن في عصرنا باسم الشعب، باسم الأمة، باسم الحرية.
34
هذه الافتتاحيات الدينية تدل على الجو الثقافي الديني الجديد العام الذي يتم فيه تبادل النصوص؛ فالنص للاستعمال وليس مجرد نص لا بيئة له. وتوجد هذه الافتتاحيات الإيمانية سواء كان الموضوع إلهيا مثل ما بعد الطبيعة أو النفس أو طبيعيا ومنطقيا،
35
بل إن الأخطاء اللاإرادية اللاواعية تدل على اللاوعي في الحضارة الجديدة مثل كتابة «آلي» على أنه «إلهي»، إذا ما تغيرت اللازمة الدينية تم تصحيحها حتى تتفق مع الإيقاع اللفظي وموسيقى اللغة.
36
وفي المقابل أثناء حركة الترجمة المقابلة من العربية إلى اللاتينية، تم إسقاط هذه الافتتاحيات الدينية الإسلامية؛ لأنها لا تعبر عن البيئة الثقافية اللاتينية الجديدة، التي تم نقل النص إليها، وأصبح نصا مجردا أو تضاف إليه افتتاحيات المسيحية الخاصة بالبيئة الثقافية الجديدة، فإذا غابت البسملة في بداية مقالة، فإنما يكون ذلك خطأ أو نسيانا.
37
وتعطي الافتتاحيات الدينية الجو الثقافي الديني العام، الذي ينقل إليه النص الديني؛ فليست الغاية هو نقل نتاج الآخر، بل تمثل الأنا له، وإعادة إنتاجه كتمثل للأنا. ولا تكون هذه الافتتاحيات الدينية في أول الكتاب وحده، بل قد تكون في أول كل باب وفصل ومقال، كما هو الحال في أثولوجيا أرسطوطاليس في أول كل ميمر.
38
وحتى لو خلا النص المترجم من النقل الحضاري، فإنه لا يخلو من البسملات والحمدلات والصلوات في بدايات الرسائل ونهاياتها، علامة على البيئة الثقافية الجديدة وعنوانا عليها، ولو على نطاق محدود.
39
وبطبيعة الحال تبدأ النصوص الموضوعة على لسان الفارابي من أفلوطين بالافتتاحيات الدينية، بالحمدلات والبسملات فهو بها أولى.
40
وهناك عبارات إسلامية أخرى مثل «إن شاء الله» داخل النص، تكشف عن أن الترجمة هي إعادة إنتاج للنص بأكمله من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى،
41
ويتم الترحم على المؤلفين والشارحين والمترجمين والناقلين كتقليد إسلامي موروث، حتى ولو كانت المادة المنقولة يونانية وافدة.
42
وبالرغم مما قد توحي البسملات والحمدلات والصلوات والتسليمات بأدلة خارجية، إلا أنها تكشف عن البيئة الدينية التي يتم فيها النقل، تضع النص المنقول في إطاره الثقافي الجديد، وتبدأ بالبسملة والحمدلة وتدعوه للعصمة من الزلل في الفكر والعمل ؛ فالنص موجه للتصور والسلوك، للنظر وللعمل،
43
والدعاء للمترجم برفع المنزلة يدل على رتبته في العلم، وشأنه الرفيع في مجتمعه، والترحم عليه، والدعوة له بالعزة والرضى وطول العمر والبقاء، مع تحديد خط الناسخ، والتعرف على صاحبه، والترحم عليه، والدعاء له برفع درجاته، وإلحاقه بالأبرار الصالحين والأخيار الطاهرين، والدعوة له، والترحم عليه، وطلب الرضى له، لا فرق في ذلك بين مسلم ونصراني، كلهم مشايخ الأمة لهم الرحمة بصرف النظر عن ملتهم.
44
وسواء كانت هذه الإضافات من الناقل أو الناسخ أو القارئ، فهي تدل في كل الحالات على الجو الثقافي العام وطابعه الديني؛ فالنص موقف حضاري شعوري قبل أن يكون حاملا لفكر. ولا يقال إن ذلك إعلان عن عقائد شخصية أو عادة اجتماعية لا شأن لها بالنص، بل تعبر عن الحالة الذهنية والشعورية للمتفاعل مع النص، ناقلا وناسخا وقارئا ومالكا. وسواء كانت هذه العبارات الدينية من عصر المترجم أو الناسخ الأول أو الثاني، فإنها تدل على البيئة الثقافية والجو الحضاري العام، بل إن وجودها في عصر الناسخ أكثر دلالة؛ لأن النسخ قديم في هذا الجو الديني الثقافي العام، ونسبة هذه المقدمات والنهايات الدينية في الترجمة قليلة، وتزيد شيئا فشيئا انتقالا من الشرح إلى التلخيص إلى الجوامع، حتى تتأكد في العرض والتأليف والإبداع. ويستعمل المترجم هذه العبارات الدينية الإسلامية النمطية لتعظيم الله، حتى بالرغم من كونه مسيحيا بعد أن أصبح الإسلام ثقافته الوطنية.
45
ومع ذلك يمكن شرح النص مستعملا ثقافته الدينية الخاصة، توكيدا العقيدة التثليث المسيحية، بل إنه ينقل النص في ترجمته قبل شرحه، ويقرؤه قراءة مسيحية، فإذا ما ذكر أرسطو أن الأقسام مثلا تذكر باسم ثلاثة آلهة؛ ففي هوميروس قسم زيوس وأثينية وأبولون، قرأ المترجم هذا القسم بأنه باسم الأقانيم الثلاثة، فهل كان هناك مشروع تأويل مسيحي سابق على مشروع القراءة الإسلامية؟ يغيب الدين الباشر في الشروح من المترجمين النصارى، كما يغيب النقل على الداخل، ومع ذلك يتم النقل على أساس التوحيد العقلي والبيئة الداخلية الثقافية العقلية. ويكون السؤال: هل الغرض من الشرح على أيدي الشراح النصارى الإعداد لمشروع مسيحي خاص، أو المشاركة في المشروع الإسلامي القومي العام؟ وكما تعبر البدايات عن الجو الديني تعبر النهايات أيضا عن نفس البيئة الثقافية. وكما يبدأ النص بالبسملة كذلك ينتهي بالحمدلة، الحمد لله على إنعامه، ولله حق حمده، والحمد لله وحده، والحمد لله ولي العدل وواهب العقل، ذي الجود والحكمة والعدل. كما تظهر الألفاظ الفلسفية مثل الحكمة والعقل والسرمدية،
46
ويرتبط العمل أيضا بالمشيئة الإلهية طبقا للثقافة الدينية الشعبية.
47
وقد تزاد على البسملة الحمدلة والاستعانة بالله.
48
وقد يزاد اسم المترجم والدعوة له ويأخذ ألقابه الشيخ الفاضل، ويتم الترحم عليه ويحيى بن عدي أكثر المترجمين استحقاقا للقب.
49
وأحيانا يكون الاكتفاء بالشيخ قال الشيخ، وهو ما سيحدث في التأليف بالإشارة إلى الأستاذ أو المعلم الثاني، أو قاضي القضاة أو الشيخ الرئيس أو إمام الحرمين.
50
وأحيانا يكون الشيخ رضي الله عنه، وأحيانا تختفي المقدمات الدينية بعد أن تم التذكير بها، أو لوجود وصل بين نهاية المقالة السابقة وأول المقالة اللاحقة.
51
وكما توجد فواتيح دينية، هناك أيضا خواتيم دينية، من المترجم أو الناسخ أو القارئ.
52
ولا فرق في ذلك بين المسيحية أو الإسلام كدين للناقل أو الناسخ أو القارئ. ولا يتعلق الأمر بنصوص أرسطو وحده، بل بكل النصوص اليونانية المترجمة.
53
وقد تكون هذه الخواتيم آخر كل باب أو فصل أو مقال أو ميمر كما هو الحال في نهاية الميمر الأول لأثولوجيا أرسطاطاليس. وبطبيعة الحال أيضا تنتهي الرسالة الموضوعة على لسان الفارابي من تاسوعات أفلوطين بالحمد لله، فالشيخ الإسلامي أولى بها من الشيخ اليوناني.
54
كما تتم أيضا بإحالة العلم الحق إلى الله، فالله أعلم بالصواب،
55
كما يتم الترحم على المؤلف ودعوة الله التوفيق في حسن الفهم. وتدل البدايات والنهايات الدينية على البيئة الثقافية الإسلامية، والسياق الحضاري الذي تتم فيه الترجمة، سواء كانت من المترجم أو من الناسخ وربما من القارئ.
56
لم تكن الترجمة مجرد نقل لتراث السابقين، بل وضعها في سياق حضاري مختلف، ويتضح ذلك من «مقدمة كتاب الحشائش والأدوية لديسقوريدس»، ترجمة مهران بن منصور بن مهران ؛
57
فبعد البسملة والاستعانة بالله، يقدم المترجم النص مستفتحا بآية قرآنية مرسلة، وبحديث مرسل عن الجمع بين الداء والدواء، وأن الله هو الشافي والمقدر والمنعم. وبعدها تتم الدعوة إلى السلطان بنفس صفات الله، المنعم، الخير، القادر. وتنتهي المقدمة بالإيمانيات، ثم يبدأ الكتاب بالبسملة. ويكون المدح أيضا لأقارب الأمير والاعتماد على المشيئة. واللجوء إلى عون الله مستمر حتى في وسط الكتاب.
الفصل الثاني: المصطلح الفلسفي
أولا: الخصوصية اللغوية (العربية واليونانية)
يمكن عرض المصطلح الفلسفي بطريقتين: الأولى تتبع نصوص المصطلحات منذ الترجمات الأولى حتى الشروح الأخيرة، بالإضافة إلى تحليل قواميس المصطلحات منذ الكندي حتى القواميس المعاصرة، أسوة بفصل التاريخ، وبالرغم من أهمية هذه الطريقة للتعرف على نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره، إلا أنها تغفل إشكاليات الترجمة العرضية، التي تخترق كل النصوص الطولية. والثانية عرض الإشكاليات الرئيسية للمصطلح الفلسفي: الخصوصية اللغوية، الترجمة والمصطلح، التعريب والترجمة، نشأة المصطلح وتطوره، اللغة المتوسطة، المصطلحات الإسلامية. وهي تضم الطريقة الأولى في إشكالية نشأة المصطلح وتطوره.
ولفظ المصطلح أفضل من لفظ المفهوم؛ لأن المصطلح يتعلق باللفظ كتقنية للفكر، في حين أن المفهوم يتعلق بالمعنى، ويجمعها التصور.
وهناك إحساس عند المترجمين بخصوصية اللغات؛ فاللغة اليونانية غير اللغة العربية؛ فالمعاش في الترجمة هو السيرة في اليونانية.
1
اللغة لا تكون إلا خاصة، ولا توجد لغة عامة. العموم للمعنى وليس للفظ؛ وبالتالي كل ترجمة هو نقل المعنى العام من لغة خاصة منقول منها إلى لغة خاصة أخرى منقول إليها. هناك إدراك واع بمحلية المصطلحات داخل النص، والإشارة إلى طبيعة اللغة اليونانية في التأنيث والتذكير، وشرح الكم والكيف بالأمثلة وشرح اللغة العربية، الفعل والفاعل.
2
كل لغة محلية بالضرورة سواء في اللفظ أو في التراكيب.
3
وقد يرجع مسار الفكر إلى محلية النص اليوناني وأمثلته المستقاة من الثقافة اليونانية.
4
ومن مهام التعليق إبراز المحلية اللغوية، وربط الفكر بلغته حتى لا يأخذ هذا الشمول الذي نعطيه نحن الآن الفكر الغربي، عندما ننزعه من حضارته ونجعله ممثلا لكل حضارة؛ وبالتالي يتحقيق هدف أجهزة الإعلام وسيطرتها. محلية اللغة والاستعمال معروفة من علم أصول الفقه، وارتباط المنطق باللسان منذ الشافعي.
5
وهذه الخصائص مستخلصة من البيئة والتجربة ونظرية السابقين، ومن اللغة؛ أي اشتقاقا واصطلاحا وعرفا.
6
وبالرغم من اختلاف الألفاظ والمعاني في اللغات، إلا أن الموضوعات واحدة مثل العقل والنفس والتخيل. كما نؤلف نحن في موضوعات الحرية والتقدم كألفاظ مشتركة بين ثقافتنا المعاصرة والفلسفة الغربية.
وفي مقابل اللغة اليونانية وخصائصها تظهر اللغة العربية وخصائصها، ويظهر التمايز بين الثقافتين اليونانية والإسلامية في تمايز اللغتين اليونانية والعربية، مثل استعمال زيد وعمرو للدلالة على الشخص المجهول لضرب المثل، مثل بروسن في اليونانية أو بطرس وبولس في اللغات الأوروبية الحديثة.
7
وهناك أيضا الإحساس بخصوصية الأسلوب العربي.
8
كما يظهر أسلوب الحوار قال ... قلت، وأسلوب الاعتراض وتخيل الاعتراض والرد مسبقا، حتى يتم تجاوز المعارض العقلي.
9
وقد يبدو الأسلوب في الحوار، أرسطو يسأل والشارح يجيب؛ فأرسطو هو التلميذ والشارح هو الأستاذ، أرسطو هو الذي يثير الإشكال والشارح هو الذي يحله له، أرسطو هو الحائر والشارح هو الذي يعطيه اليقين.
10
وقد يتم الشرح بالتساؤل والاستعجاب؛ فالشرح ليس مجرد وضع بل هو تساؤل، وفكرنا شيء نابع مخلوق، فكر يتموضع وليس مذهبا جاهزا،
11 «فإن قال قائل: ... يقال»، حتى يتم الرد على الاعتراضات الممكنة سلفا. ويتم أيضا تلخيص الموضوع كله في أول الكتاب، كما هو الحال في التأليف الإسلامي بعرض الأبواب والفصول، أشبه بالفهرس الحديث.
وقد ينتقل الأمر من مجرد اللغة والمصطلحات إلى العادات والتقاليد والأعراف،
12
وفي الترجمة العربية لكتاب «النبات» لأرسطو إشارة إلى الصمغ العربي، فهل هي من أرسطو أم من نيقولاوس أو من المترجم؟ وهل عرف اليونان الصمغ العربي، أم إنها ترجمة تأخذ بعين الاعتبار البيئة النباتية العربية الخاصة، المخالفة للبيئة النباتية اليونانية؟ وما أبعد الشقة بين شبه الجزيرة العربية وجزر بحر إيجه!
13
كما أن التصورات الإلهية تختلف من شعبه إلى شعب.
14
وقد ينتقل الأمر من مستوى اللغة إلى مستوى المصطلحات والألفاظ والأمثلة التي تعبر عن الثقافة العربية؛ فمثلا تترجم المصارعة في الألعاب بالجهاد.
15
وهناك أمثلة من الثقافة العربية عن المني والتولد فلا حياء في الدين.
16
وهناك أمثلة أخرى من البيئة العربية.
17
وكثير من الأسماء الخرافية اليونانية تتم ترجمتها عن طريق مقابلها العربي بعنز أيل وعنقاء مغرب. ويشير ابن رشد إلى الأول وابن عربي إلى الثاني.
ويمكن للمحدثين إضافة أمثلة جديدة على خصوصية اللغات، سواء في بناء الجملة أو أنواعها وضروب الكلام، أو في تعريف الأفعال أو في حركات الإعراب، وفي الرابطة بين الموضوع والمحمول في القضية؛ أي المبتدأ والخبر في الجملة الاسمية، بل يمكن تقسيم اللغات إلى مجموعات، كما هو حادث في علم اللغة في العرب، لغات سامية ولغات آرية، والعربية والسريانية من مجموع اللغات السامية، في حين أن اللغة اليونانية من اللغات الهندية الأوروبية، ولكن يكفي الاعتماد على مادة القدماء وملاحظاتهم، وتصديق الحكم في اللغويات المقارنة من الباحثين المحدثين.
وهناك إحساس بالتمايز بين النصين كموقفين حضاريين مختلفين بين الأنا والآخر، ابتداء من التمايز اللغوي بين اليونانية والعربية؛ إذ يتحدث المترجم عن شيء يسمى باليونانية كذا، وأرسطو اليوناني لا يقول ذلك.
18
وقد يعبر المؤلف عن لغته بضمير المتكلم الجمع «لغتنا»؛ إحساسا منه بأنه يؤلف في لغة خاصة بمصطلحات خاصة.
19
وقد يذكر صفة اليونانية للأسماء «يسمى باليونانية» عشرات المرات في النص اليوناني؛ إحساسا بأهمية اللسان الخاص في النص الأصلي؛ مما يجعل نقله إلى اللسان العربي نقلا من لسان إلى لسان، ومن ثقافة إلى ثقافة.
20
وما يتم من اللغة العربية في علاقاتها باليونانية، يتم أيضا مع اللغة العبرية؛ فلكل لغة بنيتها وثقافتها، ولكل ترجمة أهدافها داخل حضارتها؛ فالترجمة العبرية ليست حكما في حالة الاختلاف بين الترجمة العربية والنص اليوناني. كما أن الترجمة العربية الحديثة ليست مقياسا لصواب أو خطأ الترجمات القديمة، عربية أو عبرية لاختلاف اللحظتين التاريخيتين، بالإضافة إلى الموقفين الحضاريين المتمايزين.
21
ثانيا: الترجمة والمصطلح
ونظرا للاختلاف بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية تختلف المصطلحات. في الترجمة الحرفية تكون المصطلحات حرفية، أقرب إلى اللفظ منها إلى المعنى، وفي الترجمة المعنوية تكون المصطلحات معنوية، أقرب إلى المعنى منها إلى اللفظ . وهذا هو السبب في عدم استقرار المصطلحات، فإذا نقل المترجم حرفيا عيب عليه حرفيته، وإذا ترجم معنويا عيب عليه تصرفه، وكأن المترجم العربي متهم في كلتا الحالتين؛ ومن ثم فالحكم على الترجمة العربية بأنها هراء لا معنى له، إغفال لدور الترجمة باعتبارها نقلا حضاريا، وإعادة كتابة النص من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى.
1
وقد تكون هناك مراجعات مستمرة للترجمتين معا، الحرفية والمعنوية، إصلاحا وتحسينا وإتقانا، انتقالا إلى المراحل التالية، الشرح والتلخيص والجوامع، ثم إلى المرحلة الثالثة العرض والتأليف. ولا توجد قاعدة واحدة ولا منطق واحد لترجمة المصطلحات يمكن الاحتكام إليه.
2
ولم يخطئ المترجم العربي حين جعل الصفر للحن والمزامير للنغم، بل خصص لكل لفظ شيئا من النغم في المزامير والوزن في الرقص والمحاكاة في اللفظ؛ أي الأقاويل المخيلة غير الموزونة.
3
ولم يخطئ أيضا في ترجمته
Dusmemo
بالنافع؛ لأن الفعل وجميع مشتقاته تشير إلى شيء ما حلو؛ فلا فرق بين النافع والحلو والحسن والجميل. ولم يخطئ المترجم في نقل كلمة
apongelia
بالمواعيد، وهي تشير إلى السرد لأنه كان يترجم حرفيا. وإذا كان الناقل قد ترجم
O tes ophews Kosmos
بجمال الوجه والعبارة تعني المناظر المسرحية، وقد تشمل ملابس الممثلين وزينتهم، ليس لأن المترجم غير يوناني لا يعرف الثقافة المسرحية اليونانية. ولم تكن هناك كتب عن تاريخ المسرح اليوناني، ولا قواميس كما هو الحال عند المترجم الحديث، بل لأنه يعطي المعنى الجزئي الدال، وليس المعنى الكلي طبقا لمنطق إعادة كتابة النص. ولم يخطئ المترجم العربي في نقله كلمة
Teratwdes
بالتعجب؛ لأنها تعني الرعب والفزع كما هو الحال في الترجمة الأوروبية الحديثة؛ لأن الموقفين الحضاريين للمترجمين العربي والأوروبي مختلفان. كذلك لم يخطئ المترجم العربي في ترجمة
Eleein
ينبهر، وهي تعني يشفق طبقا للترجمة الأوروبية الحديثة؛ فمعاني القواميس الحديثة ليست مقياسا للنقل الحضاري القديم.
لا توجد إذن أخطاء في الترجمة بل فقط الخلاف بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية، بين ترجمات متعددة لإصلاح الترجمات الأولى. الترجمة خارج منطق الصواب والخطأ. الترجمة ليست مطابقة لفظ بلفظ؛ فكل لفظ في لغته له مدلوله الخاصة ، ويثير في ذهن المترجم غير ما يثيره في ذهن مترجم آخر؛ لذلك استحالت ترجمة القرآن. لم يخطئ المترجم العربي إذن في ترجمة
Mythos
الأسمار والأشعار، كما أن ترجمة الطرغوديا والقوموذيا بالمديح والهجاء حسن تصرف، وليس خطأ فاحشا كانت له آثار وبيلة. ليس المقصود أنهما يعنيان نفس المعنيين عند العرب، ولكن النقل الحضاري بالرغم من اختلاف المعنى أفضل تعريب الفارابي وابن سينا؛ إذ يؤدي ذلك إلى إدخال ألفاظ أعجمية على اللغة. كما يكشف عن العجز في النقل الحضاري، ويخلق بؤرا ثقافية منعزلة تحدث انشقاقا في الثقافة بين وافد وموروث. لم يخلط أحد بين المحاكاة الأرسطية والتمثيل والتشبيه عند العرب فالمعنى الكلي واحد، وهذا هو النقل الحضاري. الفروق الدقيقة ترجمة أوروبية حديثة حرفية وضعية قاموسية، وليست نقلا حضاريا.
4
إن سؤال هل أخطأ المترجم سؤال خاطئ؛ لأنه يقوم على نظرية المطابقة في حين أن الترجمة نقل حضاري تعبر عن قصدين حضاريين مختلفين ومستويين ثقافيين مختلفين، ولغتين مختلفتين في البنية والتركيب. لم يخطئ المترجم الذي ربط بين جملة وجملة؛ لأنه يربط بين الجمل من أجل إيصال المعنى.
5
ليست وظيفة المترجم النقل الحرفي، بل إعادة بناء العبارة حتى يستقيم المعنى؛ فاللفظ وسيلة والمعنى غاية، فإذا كان النص اليوناني يشير إلى ما يقوله أوميروس في بيان خيرية أخيل، وسقط الاسم وتحول إلى اسم آخر أجاثون ثم سقط، فإن الأسماء لا تهم بل المعنى وهو الخيرية. ليس المترجم العربي متقدما لامتحان في الترجمة، أو لجائزة أو حريصا على النص الأجنبي لخدمته أو مؤرخا، بل هو مفسر وشارح وملخص وقارئ ابتداء. ولم يخطئ المترجم العربي في نقل الجزء الأخير من النص اليوناني وربطه مع النص التالي؛ لأن المقصود بيان اتصال المعنى وليس العبارات المنفصلة، إيجاد المعنى الكلي بعد المعاني الجزئية، وإيصال الرسالة واضحة ومفهومة إلى القارئ؛ فالترجمة وسيلة وليست غاية، هدف وليست مجرد إبراء ذمة، رسالة وليست حرفة.
وقد يخالف المترجم العربي ما يقوله أرسطو في تقطيع الحروف، حتى ولو اتفق ذلك مع القاموس الحديث؛ فعلم الأصوات العربي هو أساس تحديد المقاطع اليونانية؛ لذلك كثرت الإشارة إلى لغة اليونانيين.
6
وقد يعترض المترجم على أرسطو؛ فأرسطو بالرغم من أنه إلهي إلا أنه ليس إلها، فإذا قال أرسطو إن الأسلوب الصحيح، يصبح جزلا بعيدا عن السخف، إذا استخدم الشاعر تعبيرات غير مألوفة، وهو يرنو إلى الألفاظ الغريبة والاستعارات وما أشبه، وإن بالغ في ذلك أصبح كلامه كالألغاز أو شبه لغة البرابرة، فليس في ذلك خروج عليه؛ فالمترجم ليس ناقلا القذة بالقذة، بل هو محاور للنص، مؤول له، معيد إنتاجه بما يتفق مع ذوق الشعر العربي عند المترجم والمترجم إليه.
ولم يكن هناك أدنى حرج عند المترجم العربي في نقل نصوص، تتحدث عن تعدد الآلهة كما هو الحال في ترجمة متى بن يونس لكتاب الشعر، وبلا تصرف كما يفعل حنين ابن إسحاق؛ حرصا على الثقافة التي يترجم إليها؛ فكل شيء يسلم إلى الآلهة يرى ويبصر. أما ما هو خارج عن النطق فلا ينبغي أن يكون في الأمور. تعني الآلهة هنا الإدراك الإنساني، وما هو داخل في حدود المعرفة. وكانت السنة في هذا البلد أن يضحى لله ضحايا من البشر، وهو سبب الفداء إنقاذا لإسماعيل. وهناك من يتضرع لرب السموات، بل إن المترجم قد يضيف الآلهة من عنده، وكأنها عبقر الشعر، وتلهم «الأفى» في المديح دون أن يكون في ذلك «تحريف فاحش»؛ فالله على لسان المترجم كأداة للتمييز، كما هو الحال في استعمالاته في اللغة في الحياة اليومية.
7
وقد أدرك المؤرخون أيضا الفرق بين الأسماء والمسميات. ويضرب البيروني المثل باسم الله في اللغات وترجمته من لغة إلى أخرى والمسمى واحد. وربما تحل مشكلة العقائد والخلاف حولها لغويا خاصة قضية التثليث. يختص الله بهذا الاسم وحده دون غيره مثل الرب في العبرية. كما يشير إلى منطق الترجمة من لغة إلى أخرى عن طريق الاشتقاق.
8
ثالثا: اللغة المتوسطة (السريانية)
وقد يكون أحد أسباب الخطأ في الترجمة من لغة إلى أخرى توسط لغة ثالثة، كما حدث في توسط السريانية بين اليونانية والعربية.
1
وهنا لا يكون الجدل فقط رباعيا بين لفظين ومعنيين في اللغتين، بل سداسيا بين ثلاثة ألفاظ وثلاثة معان في اللغتين المنقول منها والمنقول إليها واللغة المتوسطة؛ وبالتالي يكون احتمال الخطأ مضاعفا: الأول في النقل من اللغة المنقول منها إلى اللغة المتوسطة. والثاني من اللغة المتوسطة إلى اللغة المنقول إليها. ولكن علم الناقل الجيد باللغتين الأولى والثالثة يجعله قادرا على تصحيح أخطاء النقل من اللغة الأولى إلى اللغة المتوسطة؛ فالناقل هنا ينتقل مباشرة من اللغة الأولى إلى اللغة الثالثة، ويصحح أخطاء النقل من اللغة الأولى إلى اللغة المتوسطة؛ مما تتطلب النقل مرة ثانية من اليونانية إلى العربية مباشرة دون اللجوء إلى السريانية. وفي حالة التوسط من النقل عادة ما يكون الناقل الأول الذي على علم باليونانية والسريانية غير الناقل الثاني الذي على علم بالسريانية والعربية. وإذا ما أحس الناقل الثاني من السريانية إلى العربية ببعض الغموض واللبس، فعليه مراجعة الناقل الأول في النص السرياني المتوسط لعله أساء النقل من اليونانية؛ ومن هنا أتى العمل الجماعي في النقل، على الأقل العمل المشترك بين ناقلين. قد يكون الناقل الأول لغويا وليس فيلسوفا، كما هو الحال في حالة الراهب أثانس، فينقل حرفيا أرسطو من اليونانية إلى السريانية، فإذا ما كان الناقل من السريانية إلى العربية فيلسوفا اكتشف الخلل في النقل الأول، وطلب المراجعة عليه قبل النقل الثاني، فإن فهم المعنى هو الطريق لإصلاح اللفظ، فإن لم يجد اعتمد على فهمه الفلسفي الخاص، وأصلح الخلل في النقل الأول بما يتطلبه الفهم الفلسفي، والعقل الخالص واتساق الخطاب. وقد يكون الناقل الثاني على علم باللغة السريانية المتوسطة، فيقوم بالمراجعة بنفسه على النقل الأول؛ مما يتطلب جهدا مضاعفا في مراجعة النقل الأول ثم في النقل الثاني. وقد يكون الناقل واحدا في النقل الأول والنقل الثاني؛ حرصا على النقل وتدرجا فيه واسترشادا بنص متوسط أقرب إلى العربية منه إلى اليونانية، سواء في تركيب الجملة أو في المصطلحات المقابلة. وإن إصلاح الخلل في الترجمات المتوسطة من الناقل أو الناقل الثاني، هو بداية النقل المعنوي المباشر، كخطوة سابقة على التعليق والشرح والتلخيص، إيذانا بمرحلة التأليف. وتستعمل السريانية للمراجعة والتصحيح للترجمة العربية على الأصل اليوناني؛ لإدراك معاني النص الأول؛ لذلك يعتمد على كل الترجمات لتصحيح بعضها بعضا، دون إدخال التضارب بينها، كما هو الحال في القرآن الكريم، والجمع بين الآيات لمنع ضرب الآيات بعضها ببعض. وقد يرضى المترجم عن ترجمته ولا يرضى عن أخرى بالسريانية أو بالعربية. وهو في بحثه عن المعنى في عصر بلاغة، التعبير عن المعنى بأبلغ الطرق؛ فالبلاغة هي التعبير عن المعنى طبقا لمقتضى الحال.
كان من الممكن استعمال لفظ «النقل» للترجمة من اليونانية إلى السريانية، واستخدام لفظ الترجمة للنقل من السريانية إلى العربية أو العكس؛ من أجل التمييز بين النقلين، واستعمال لفظين مختلفين للدلالة على كل مرحلة، بالإضافة على أن النقل من اليوناني إلى السرياني خاص بالحضارة السريانية أساسا، في حين أن الترجمة من السريانية إلى العربية خاص بالحضارة الإسلامية، خاصة وأن النقل من اليونانية إلى السريانية من لغة هندية أوروبية إلى لغة سامية، في حين أن الترجمة من السريانية إلى العربية من لغة سامية إلى لغة سامية أخرى؛ وبالتالي تكون المسافة في النقل بين اللغتين اليونانية والسريانية أبعد من المسافة بين اللغتين السريانية والعربية. النقل اختلاف في النوع في حين أن الترجمة اختلاف في الدرجة. النقل يتم على مستوى اللفظ في حين أن الترجمة تعبير عن المعنى، كما هو الحال في ترجمة معاني القرآن. ومع ذلك تم استعمال اللفظين «النقل» و«الترجمة» على التبادل دون هذا التمييز الدقيق بينهما.
والأقرب إلى العقل أن الترجمة الأولى كانت عبر السريانية، في حين أن الترجمة الثانية كانت من اليونانية مباشرة؛ فالترجمة عبر نص متوسط عادة ما تكون في البداية؛ نظرا لقلة العالمين باللغة الأصلية؛ ولأن هذه النصوص كانت قد ترجمت من قبل إلى السريانية اللغة الدينية لعرب الشام، فكان من السهل بعد ذلك نقلها إلى العربية، من إحدى لهجات اللغة العربية إلى اللغة العربية الأم، وليس من اللغة اليونانية الأجنبية إلى اللغة العربية.
2
ويمتاز هذا النقل المتوسط من اليونانية إلى العربية عبر السريانية، بأن التعليقات السريانية تساعد المترجم العربي على فهم النص اليوناني، وتفتح له آفاقا جديدة، وتوحي له بمعان متضمنة في الأصل اليوناني، أظهرتها الترجمة السريانية؛ فالترجمة العربية من السريانية تفكير على تفكير، واجتهاد على اجتهاد. كما يعطي النص السرياني المتوسط إثراء أكثر للترجمة العربية ومراجعتها على الأصل اليوناني؛ إذ يكون أمام المترجم العربي نصان ينقل عنهما: اليوناني والسرياني. وكانت هناك مراجعة للترجمات على أكثر من نص يوناني وسرياني.
3
ويمكن عمل نفس التحليل المتقابل بين الأصل اليوناني والترجمة السريانية، لمعرفة مدى النقل اللفظي أو الترجمة المعنوية. وتلك مهمة الباحث السرياني الذي يريد أن يثبت أن الترجمة السريانية لم تكن نقلا حرفيا، بل كانت إبداعا ذهنيا يدل على موقف حضاري عام. وما يهم الباحث العربي هو المقارنة بين النص اليوناني والنص العربي؛ لإثبات نسبة النقل اللفظي إلى الإبداع في الترجمة من خلال التعليق، أولا داخل الترجمة الواحدة، وأيضا من خلال الاختلاف بين الترجمات المتعددة. ومع ذلك فإن توسط السرياني بين اليوناني والعربي، يمكن أن يقدم بعض النماذج المشابهة لصلة النص اليوناني بالترجمة العربية، من خلال طرق الترجمة الأربعة، فإذا اختلفت الترجمتان العربيتان ولم يستطع المترجم الترجيح بينها، لجأ إلى السرياني كعامل مرجح لفهم النص اليوناني الأول، وشرح الترجمة العربية الثانية وتوضيحها.
4
ويتم بنفس الطرق: شرح لفظ بلفظ، ولفظ بعبارة، وعبارة بلفظ، وعبارة بعبارة، وهم الأعم والأغلب. مثلا «شتم» في اليوناني تصبح استخفافا مع هزؤ في السرياني. وأحيانا يكون السرياني أكثر راحة من حيث التعبير عن اليوناني، حتى يسهل استخدامه من بعد كفكرة موجهة أو كأداة عمل، فإذا كان النص اليوناني «إن كان الفاعل للخير ناقصا فالفاعل للشر ضارا» فإنه يصبح في السرياني «إن كان النافع هو الفاعل للخير فالضار هو الفاعل للشر» تبادلا بين المبتدأ والخبر، بين التقديم والتأخير. وإن كان النص اليوناني «إن ضد الشر الخير إذ كان ضد الخير شرا» فإنه يصبح في السرياني «الخير هو ما هو المضاد للشر فمن البين أن يكون الشر هو ما هو المضاد للخير» قلبا لصلة الشرط بين الشارط والشروط، تقديما وتأخيرا؛ فالتركيب أوضح وإن لم يكن أبلغ. وفي النص أن العمر الناسك والعمر الفاضل، وفي التعليق في السرياني بنقل إسحاق التدبير السعيد والتدبير الفاضل، وهو أقرب إلى إبراز المعنى من النص.
5
وقد تؤخذ مصطلحات من السريانية باعتبارها مصطلحات شارحة وإعادة استخدامها في الترجمة العربية.
6
وقد سبق استعارة اللغة العربية من اليونانية استعارة السريانية عن اليونانية؛ فتداخل اللغات مواز لتداخل الثقافات، واللغات تحيا بالتبادل كما تحيا الثقافات.
ويصل الأمر بالإحساس بالفرق بين الترجمة اليونانية والسريانية، إلى الإحساس بالعبارة وتكوين الجملة والتعبير عن المعنى بعبارات مختلفة تتراوح بين العموم والخصوص. ويدل على ذلك وجود المعنى والفكر ما وراء اللفظ والعبارة.
7
كان حرص القدماء على ترجمة اللفظ والمعنى على عكس الأوروبيين المحدثين، وحرصهم على ترجمة المعنى وحده.
8
كانت الأمانة في نقل اللفظ والمعنى في حضارة وحي، تقوم على الربط الوثيق بينهما؛ لذلك كانت ترجمة متى غير المباشرة لكتاب الشعر أقرب إلى النص اليوناني.
رابعا: التعريب والترجمة
(1) النقل الصوتي والنقل المعنوي
كانت هناك طريقتان لترجمة المصطلحات: الأولى التعريب؛ أي النقل الصوتي حرصا على المصطلح نفسه، وإبقاء عليه مع التضحية باللفظ العربي المقابل، الذي لم يظهر بعد ولم يطمئن إليه المترجم، والذي لجأ إليه بعض المترجمين المعاصرين في نقل المصطلحات الغربية الحديثة، مثل: قاطيغورياس، باري أرمينياس، أنالوطيقا، سوفسطيقا، طوبيقا، رطوريقا، بوييطيقا، هيولى،
1
أنستاسيس، سكيم، سلوجسموس، فواسيس. وبعد ذلك تتم ترجمتها بلفظ عربي مقابل بعد التعود على المعنى، ثم فرض المعنى لفظه العربي مثل: المقولات، العبارة، التحليلات، السفسطة، المغالطة، الخطابة، الشعر، مادة ... إلخ. وهما مرحلتان متعاقبتان، التعريب أو النقل الصوتي أقرب إلى النقل منه إلى الإبداع، والنقل أي الترجمة أقرب إلى الإبداع منه إلى النقل. والبداية بالنقل الصوتي تدل على وجود الموضوع في لغته الأصلية أولا، قبل أن يعبر عنه في اللغة الجديدة قبل الترجمة. النقل الصوتي بمفرده لفظ ومعنى قبل أن يستقل المعنى عن اللفظ، ويعبر عن نفسه بلفظ عربي تلقائي مستقل، من داخل اللغة وليس من خارجها عن طريق الترجمة؛
2
لذلك يصعب القول بأن النقل سابق على التعريب، وأن الترجمة قد تمت قبل النقل الصوتي؛ نظرا لعدم دقة الترجمة؛ فالتعريب أسهل لأنه لا يتطلب نحت المصطلح واشتقاقه من اللغة العربية، خاصة وأن المعنى لم يكتمل بعد في ذهن المترجم، والترجمة أصعب لأنها تتطلب فهم معنى اللفظ الأجنبي، ونحت مصطلح عربي يعبر عن هذا المعنى، والأسهل يأتي قبل الأصعب. وقد حدث هذا في حياتنا المعاصرة؛ فالراديو سبق المذياع، والتلفزيون سبق الشاشة المرئية، ولفظ السينما استعمل قبل الخيالة، والتليفون قبل الهاتف أو المسرة. وأحيانا يصبح اللفظ المعرب اللفظ الأوحد دون لفظ منقول.
3
ومراعاة للدقة في المصطلحات يوضع المصطلح اليوناني بالنقل الصوتي
Transliteration ، بالإضافة إلى المصطلح العربي المقترح. ويقوم النقل الصوتي بدور الاطمئنان على اللفظ والمعنى دون التضحية بأحدهما في سبيل الآخر؛ فقد سبق التعريب الترجمة؛ فمثلا بالنسبة لمنطق أرسطو، قاطيغورياس قبل المقولات، باري أرمنياس قبل العبارة، أنالوطيقا الأولى قبل القياس، أنالوطيقا الثانية قبل البرهان، سوفسطيقا قبل المغالطة، طوبيقا قبل الجدل، ريطوريقا قبل الخطابة، بويتيقا قبل الشعر. وبالنسبة لبعض ألفاظ الطبيعات لفظ أسطقسات سبق العناصر، وهيولى سبق المادة. وأحيانا لا يوضع اللفظ العربي ويكتفى بالنقل الصوتي، وذلك له دلالة من حيث إن اللفظ الأجنبي هو الموضوع، قبل أن ينفصل المعنى عن اللسان الأجنبي، ويتم التعبير عنه باللسان العربي، فيقال أنالوطيقا الأولى فقط دون ذكر للقياس، مع أنه تمت ترجمة «الأولى»
والثانية أو الأواخر دون
Huteros ؛ وبالتالي لا يجوز للناشر الحديث أن يضع نظرية القياس ولو بين قوسين لشرح المعنى أسوة بالترجمات الغربية الحديثة؛ فالاكتفاء بالنقل الصوتي عند القدماء له دلالته على الموقف من النص الأجنبي في هذه المرحلة، التي تسبق التوجه إلى المعنى والتعبير عنه باللفظ العربي، كمرحلة تالية للنقل قبل مرحلة الإبداع. في النقل الصوتي اللفظ الأجنبي هو الموضوع، واللفظ العربي هو المترجم، حتى يأتي التغريب فيصبح اللفظ الأجنبي هو المترجم واللفظ العربي هو الموضوع. يدل النقل الصوتي على عدم تحول اللغة إلى مصطلح؛ فهي ما زالت مادة خاما حتى قرأت الكلمات اصطلاحات مثل «أيوبا تسيس»؛ أي فرض، «أبودكسيس»؛ أي البرهان، «أكسيوما»؛ أي الشيء المتعارف عليه، فإذا ما ألحق النقل الصوتي باللفظ العربي، فإن الثاني يكون تعريفا بالأول، وكأن الأول هو الموضوع لفظا بينما الثاني الموضوع معنى.
4
وعند الجمع بين النقل الصوتي (التعريب) والترجمة، تظهر حروف أو كلمات متوسطة بين الاثنين، تكشف عن هذا الإحساس بالانتقال من التعريب إلى الترجمة، من اللفظ إلى المعنى مثل حرف «أي» أو كلمة «المعروف ب»، «الموسوم ب» «المسمى»، قبل التوجه إلى المعنى مباشرة في الترجمة.
5
وأحيانا لا يحتاج اللفظان المعرب والمترجم إلى ربط يبين الانتقال الذهني من أحدهما إلى الآخر، ويدل على التعادل بين الاثنين،
6
ثم تأتي الخطوة الثالثة والأخيرة بإسقاط اللفظ المعرب كلية، والتعامل فقط مع اللفظ المترجم فالنص أصبح عربيا خالصا، وبعدت المسافة بينه وبين النص اليوناني؛ فمثلا في كتاب الشعر اتبع القدماء أولا التعريب مثل التراجيديا والكوميديا مثل المحدثين منا، وليس طريقة الترجمة التي تمت بعد ذلك في الملهاة والمأساة. وهناك مصطلحات مترجمة منذ البداية مثل الأسمار والأشعار، والنشيد الشعري للملاحم.
7
وقد تبدو الترجمة القديمة أحيانا أفضل من الحديثة؛ فكمية التعريب في الترجمات الحديثة أكثر منها في الترجمات القديمة. كما استعمل المحدثون اللغة اليونانية رسما وحروفا وشكلا، على عكس القدماء الذين احترموا اللغة العربية شكلا وموضوعا. وهوامش الترجمات الحديثة استشراقية تاريخية حرفية لا قيمة لها، بخلاف تعليق القدماء الذي كان بمثابة النواة الأولى للشرح والتلخيص.
8
يذكر المصطلح بالنقل الصوتي وإعطاء تعريف مؤقت له قبل عرض النص المذكور فيه، وكما يفعل عصرنا في ذكر المصطلح باللغات الأجنبية قبل شرحه وترجمته بلفظ مقابل في اللغة العربية.
9
وأحيانا يتم تعريف اللفظ العربي بلفظ معرب، ثم تعريف اللفظ المعرب بعبارة عربية شارحة بها لفظ فلسفي عربي أصيل، ثم تعريف اللفظ المعرب مرة ثانية تعريفا آخر بعبارة عربية بها نفس اللفظ العربي الأصيل.
10
والألفاظ نوعان: معربة ومخترعة؛ أي منقولة نقلا صوتيا أو نقلا معنويا،
11
وهذا هو الذي جعل ترجمة كتاب أقليدس في كتب التاريخ ما زالت متأرجحة بين «الأركان» و«العناصر» و«الأسطقسات» أو المبادئ، في حين ظل المجسطي لبلطيموس لم يتغير، بل إن تسمية اللغة اليونانية نفسها خضعت لمنطق التعريب والترجمة، فتسمى في الغالب اليونانية وأحيانا الإغريقية.
وفي النقل الصوتي ينتقل الأسلوب العربي في النسبة؛ فالخطابة عند أرسطو هي «ريطوريقا» وأحيانا «ريطورية»،
12
وأحيانا يتطور شكل اللفظ المعرب من قاطوغورياس إلى قاطيغورياس، ومن باريامانياس إلى باري أرميناس أو بريهرمينياس، ومن أنا لوطيقي، أو أنولوطيقيا إلى أنالوطيقي.
13
والتعريب عن الهندية أقل وبطريقة عربية مثل السند هند، ماء الهند، جوز الهند، ثم الهند خاصة في الطب والفلك والهندسة. والتعريب عن الفارسية أيضا وارد وخاصة في الألحان مثل الرست والنهاوند. والكيمياء لفظ عربي مشتق من كريكي إذا استتر وأخفى، وانتقل إلى لفظ اللاتينية
Alchemy
وليس تعريبا له.
14
وإذا ما استعصى المصطلح لم يكن يكتب بالحروف اليونانية، بل بالحروف العربية كما ينطق به في اليونانية احتراما للغة العربية والحروف العربية، على عكس المحدثين الذين يذكرونها بالحروف اليونانية؛ وبالتالي لا يضيفون شيئا في فن النقل. كما أن فهارس الأعلام في نهاية الترجمات بالإنجليزية وليست بالعربية أو اليونانية أو السريانية لغات النقل الثلاث.
15
وهناك عدة طرق للنقل الصوتي لأسماء الأعلام في الإبقاء على علامات الرفع أو حذفها مثل قاطيغورياس أو «قاطيقوريا»، ومنها الإبقاء على اسم العلم كله أو حذف نهايته مثل أرسطوطاليس أو أرسطو، ومنها نقل حرف الإحالة مرة بالألف في باري أرمينياس ومرة بالياء مثل باري أرمينياس، ومنها حذف الياء من الاسم أو الاكتفاء بالكسرة كبديل عنها مثل طاليس أو طالس. وقد تقلب الباء فاء والجيم غينا طبقا للهجات اليونانية أو اللهجات العربية أو السريانية وذلك مثل تراخوديا، فواسيس ... إلخ. وأحيانا بعد التعريب يتم التعريب عن معناه بالترجمة كعبارة شارحة، والتي لم تتحول بعد إلى مصطلح. وقد يطول الشرح كما هو الحال في الشرح كنوع أدبي مستقل، مثل معنى السوفسطائي المتحكم إما من المحكمة أو من البراعة والتحكم في الشيء.
16
إن كثرة المصطلحات المعربة مثل الريطورية، الديالقطيقية، البوليطيقية، السلوجسمات، السلجسة من يسلجس مسلجس فعلا واسما ومصدرا، يظهر عجز المترجم في اللغة العربية عن إيجاد مصطلحات مقابلة، ويجعل المترجمين القدماء أشبه بالشوام والمغاربة المحدثين، انبهارا بالغرب وضحية التعريب. مهمة التعليق هو ترجمة ذلك إلى اللغة العربية وجعله مستساغا مقروءا، وكأنه ناتج من الداخل وليس وافدا من الخارج. إذا ظهر في النص الريطوريقا أو الديالقطيقية جاء في الهامش بلاغة في الحكومة أو صناعة الخطابة وصناعة الجدل. وإذا جاء لفظ بوليطيقا في النص جاء في التعليق المدينة. مهمة الهامش الترجمة إذا اقتصر النص على التعريب، وكلما زاد التعريب في النص زادت الترجمات لتحويله من نص أعجمي منقول إلى نص عربي مبدع، وكثرت التعليقات؛ فالتعليق يغني عن السقامة والركاكة والحرفية؛ ومن ثم بالنسبة للقراء الذين هم المؤلفون المشاركون. لا يهم النص بقدر ما يهم التعليق. التعليق نص عربي جديد بدلا من النص الأعجمي المعرب؛ فيصبح الأصل فرعا والفرع أصلا. النص نقل والتعليق إبداع. وتدل كثرة التعريب على عدم استقرار المصطلحات. «الإيفاغوغي» هو الاعتبار؛ أي الاستقراء، والريطوريقي ثلاثة أجناس: مشوري، مشاجري، تثبيتي. وليس مستحيلا أن تبدأ المصطلحات ثم يتم استقرارها فيما بعد. التعريب ترجمة غير محذوفة؛ ومن هنا تأتي أهمية الشروح والتلخيصات من أجل تحويل التعريب إلى ترجمة، كما فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة»؛ فالمترجم لنص الخطابة لم يفعل شيئا في المصطلحات، تركها كلها معربة، مع أنه يستعمل الألفاظ المترجمة أحيانا. كان أقرب إلى الخواجة منه إلى المثقف، أقرب إلى الغرب منه إلى الثقافة المحلية، بالرغم من قدرته على صياغة ألفاظ عربية مثل نكباء أو قدماء للأصليين في البلاد، وإيجاد مصطلحات للألعاب الرياضية مثل المزاولات.
17
وقد يكون أحد دوافع ظهور التعليق هو الانتقال من التعريب إلى الترجمة، ومن النقل الصوتي إلى النقل المعنوي مثل ذكر سكيم في النص وفي الهامش «الشكل»، وذكر أسطقسات في النص وفي التعليق أصول، وسلوجسموس في النص وفوقها بالأحمر القياسي الجامع، وأناسطاسيس في النص وفي الهامش المقدمة الجدلية، المقدمة الأفوقطيقية، وفي الهامش البرهاني، المقدمة الديالقطيقية وفي الهامش الجدلية.
18
السوفسطائية في الترجمة والمراء في التعليق، والفيلسوف في الترجمة والمبرهن في التعليق. مهمة التعليق شرح المصطلح المعرب في الترجمة إن لم يكن في النص سبق واحتراز؛ فالمعنى في النص يتحول إلى مصطلح في التعليق. وأحيانا يكون العكس؛ اللفظ العربي في الترجمة مثل المغالطة، واللفظ المعرب في التعليق السوفسطائيين من أجل التذكير باللفظ الأصلي.
19
وأحيانا يترك الشارح التعريب مثل أوتاماتون ليشرح معناه باللغة العربية السليمة، دونما حاجة إلى مصطلح عربي مقابل، ما دام الهدف هو المعنى وليس اللفظ، وما دام الأمر لا يتعلق بمصطلح فلسفي خاص،
20
فإذا ذكر المصطلح بالنقل الصوتي في صلب النص، فإن مهمة التعليق إضافة الترجمة العربية، قبل أن تستقر نهائيا كمصطلح فلسفي واحد متفق عليه بين كل المترجمين. وظيفة التعليق البداية بالمعنى إلى اللفظ، في حين أن الترجمة تذهب من اللفظ إلى المعنى. التعليق شرح للفظ المعرب.
21
وأحيانا يظل اللفظ المعرب بلا تعليق فيظل غير مفهوم، إلا لمن يعرف اليونانية، وذلك مثل الأيقوس، الأنتومين، بطيقوس.
22
هدف التعليق إيجاد عبارة عربية سليمة ومستقرة، من المعنى إلى اللفظ وليس من اللفظ إلى المعنى.
وأحد أهداف التعليق هو استقرار المصطلحات. والبعض منها يظل بلا تفسير مثل الحرم الأقصى، والمجرة، والبروج. والبعض يتغير مثل تغيير المقولات إلى النعوت.
23
وقد يتجاوز التعليق مجرد وضع اللفظ العربي المقترح بعد النقل الصوتي أو العكس، إلى شرح مصطلح بمصطلح آخر في وقت لم تستقر فيه المصطلحات الفلسفية بعد، فإذا تحدث النص عن الحجم فإن التعليق يذكر «المقدار».
24
وأحيانا تكون الترجمة والتعليق متباعدين تماما مثل وجود لفظ شاعر في النص وشيء ما في التعليق. هنا تكون الترجمة معنوية أكثر منها حرفية، تتجاوز الألفاظ وتحسينها إلى المعنى مباشر،
25
وكذلك يبدو أن استقرار أسماء الأعلام قد أخذ مدة طويلة.
26 (2) جدل الصوت والمعنى
وفي مقابل الألفاظ المعربة التي تحولت إلى ألفاظ عربية مثل موسيقى، فلسفة، جغرافيا، وكما نقول نحن أيديولوجية، تقنية، ديمقراطية، دكتاتورية، ليبرالية، ترنسندنتالية، كوجيتو. هناك ألفاظ منقولة؛ أي مترجمة، منذ البداية لم تمر بمرحلة التعريب في أهم أقسام العلوم عند أرسطو مثل الطبيعيات والإلهيات. لم يتم تعريب لفظ
ولا لفظ
Metaphusis ، وترجم لفظ النفس دون تعريب
، والأخلاق دون
Ethos ، والسياسة دون
؛ فهي موضوعات أقرب إلى الوافد، وموضوعاتها موضوعاته؛ إذ إن الوافد أساسا هو تطبيق في الإلهيات، كما هو الحال في نظرية الذات والصفات والأفعال في أصول الدين، وللسياسات الشرعيات كما هو الحال في النبوات أو السمعيات؛ ففي هذه الموضوعات لم تكن هناك حاجة لمرحلة النقل الصوتي. لم يكن الموضوع غريبا، وتم القفز إلى المعنى مباشرة ثم التعبير عنه باللفظ العربي المطابق.
لقد استقرت كثير من الألفاظ المعربة وبقيت حتى الآن مثل الأورطي، الأسطقسات، هيولى، بالرغم من ترجماتها الأولى طينة، ومثل الفانطاسيا بالرغم من تبادلها مع الخيال.
27
وتستمر المصطلحات المعربة في تأليف المترجمين مثل فنطاسيا.
28
ما زال لفظ الأسطقس معربا على مدى عدة قرون وحتى الآن. وأصبح مثل الموسيقى وجغرافيا وهندسة، وكذلك ألفاظ طوبيقي وهو الجدل وسوفسطائي وسقمونيا. ويظل لفظ إيساغوجي المعرب مع التوطئة والمدخل والترجمان حتى عصر ابن باجة وابن رشد.
29
وأحيانا مع لفظ جديد وهو الفصول تعبيرا عن المضمون بلغة عادية ودون تعريب وترجمة. كما تظهر ألفاظ قاطيغورياس، باري أرمنياس، بالتبادل مع المقولات والعبارة، وكذلك لفظ أسقطس جمعا أو مفردا. لا يعني أن التعريب يسبق النقل، إنما يعني أن اللفظ المعرب قد وصل من الشهرة حدا أنه أصبح لفظا عربيا من كثرة الاستعمال. والاستعمال أحد مصادر معنى اللفظ بجانب الاشتقاق والاصطلاح عند الأصوليين. ويحدث ذلك طبقا لإحساس المترجم باللغة المنقول منها وباللغة المنقول إليها.
30
ويظل التعريب سنة شائعة عند كثير من الناقلين مثل موسيقوس وأبيلوجسموس، وأنالوجسموس عند جالينوس. ويظل متواصلا في مرحلة الشرح والتلخيص كما فعل حنين بن إسحاق في شرح وتلخيص لكتاب جالينوس في فرق الطب بتعريب لفظ سفيروس وهو نوع من الأورام، وكذلك أفيلوجسموس وهو القياس.
31
ولكن بعض المصطلحات المعربة لم تستمر، وما زالت حتى الآن في نقلها تمثل أحد اختلاف بين المترجمين المحدثين، مثل «الأشكيم»، «الكيموس»،
32
كما أن علوما بأكملها لم تستقر بعد من حيث الأسماء كمصطلحات عند القدماء، مثل «المناظرية» وهو علم المناظر، و«تأليف الجوهر» وهو التأليف الموسيقي.
33
وقد يتشابه التعريب؛ أي النقل الصوتي، مع الترجمة لدرجة صعوبة الحكم، أي الطريقين وراء اللفظ وذلك مثل لفظ
To ainai
وترجمته آنية، هل هو تعريب أم ترجمة؟ فواضح من الصوت أنه تعريب ولكنه آنية من أن، أو إن يمكن أن تكون أيضا ترجمة من حرف أن، حرف توكيد ونصب، والتوكيد نوع من إثبات الوجود.
34
وقد تختلف أسماء الأعلام حسب نطقها أو رسمها مثل أرسطو، أرسطوطاليس، أرسطاطاليس،
35
وقد يتم تعريب أسماء الأعلام مثل بروسن الذي حاول تربيع الدائرة إلى ياسين في التعليق، إن لم يكن الأمر خطأ من الناسخ أو تحريفا من الناقل. ويؤيد التعريب ذكر ابن رشد أنبادقليس على أنه «ابن دقليس».
36
وتظهر أولوية المصطلحات المنقولة على المعربة في شرح وتلخيص حنين بن إسحاق لكتاب جالينوس إلى غلوقون في التأتي لشفاء الأمراض.
37
وفي ترجمة متى بن يونس لكتاب الشعر يتصدر المنقول المعرب، بل إن موضوعات بأكملها لم تستعمل الألفاظ المعربة مثل: أجزاء المديح: الخرافات، والعادات، والمقولة، والاعتقاد، والنظر، والنغمة، والصوت، وأجزاء الخرافة: الدوران، والاستدلال. وهي قدرة فائقة للمترجم واللغتين العربية والسريانية على نقل اللغة اليونانية.
38
وترجمة المأساة والملهاة بالمديح والهجاء ليست زائفة ولا خطيرة، بل هي أقرب ترجمة وأفضل من التعريب، تراجيديا وكوميديا.
39
وبعد تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع، يصبح المصطلح العربي في غنى عن المصطلح المعرب، مثل «المقالة القائمة من كتاب البرهان»، دونما حاجة إلى «أنالوطيقا الأواخر»، بعد أن استقر الموضوع في الذهن، وبدئه باللغة العربية مباشرة سواء عند القدماء أو عند المحدثين.
40
خامسا: طرق الترجمة
وتتم الترجمة بأربع طرق: الأولى استبدال لفظ بلفظ مشابه لتغييره إلى لفظ أفضل. الثانية تغيير لفظ إلى عبارة شارحة لأن اللفظ الفرد المنقول إليه يعبر عن كل المعاني المتضمنة في اللفظ المنقول منه. والثالثة تغيير استبدال عبارة شارحة إلى لفظ؛ وذلك لأن المنقول إليه أكثر تركيزا وقدرة على التعبير المختصر من العبارة المنقول منها. والرابعة استبدال قول بقول مشابه في الطول والقصر؛ فاللغتان المنقول منها والمنقول إليها تتساويان من حيث القدرة على التعبير في الإسهاب والتركيز. ولا يعني التعليق بالنسبة للترجمة القول الفصل والحد النهائي، بل قد يعني الاحتمال والترجيح والظن والتردد بين مصطلحين، تعبيرا عن الأمانة العلمية والرغبة في الاجتهاد، إن كان خطأ فللمترجم أجر وإن كان صوابا فله أجران.
ويمكن القيام بعدة مقابلات عمودية بين ألفاظ الترجمة وألفاظ التعليق لمعرفة كيف ينشأ المصطلح الفلسفي. وهو مجرد نماذج دالة من الترجمات العربية القديمة لمنطق أرسطو، أرفع مستوى للعلم، والتعليقات عليها المذكورة في هوامشها كجهاز نقدي. ويمكن تعميمها على باقي الترجمات للطبيعة والنفس والأخلاق، ولباقي النصوص اليونانية للشراح أو لغير أرسطو من الفلاسفة. ولا تعطي هذه النماذج إحصاء شاملا، بل يكفي في ذلك الاستقراء المعنوي الذي يبدأ بالكم إلى حد ظهور الكيف؛ فهو نوع من الاستقراء الناقص الذي يفيد الاستقراء التام طبقا لمبدأ الإطراد.
وقد يكون القلق بداية من الترجمة ذاتها التي لم تستقر على شكل اللفظ وإن استقرت على المصطلح؛ فأنواع الحجج مثلا تعليمية أو من جنس تعليمي، وجدلية أو من جنس جدلي، وممتحنية أو امتحانية من جنس امتحاني. وقد يتغير اللفظ نفسه؛ فالحجج إما التعليمية أو البرهانية، في الممتحنية أو المماحكة. هناك ترجمات عدة يتم اختيار أفضلها وأقربها احتمالا. والاختلاف الكبير بين الترجمات يدل على أن كل ترجمة شرح وفهم المعنى.
1
وهناك أمثلة عدة للانتقال من لفظ المترجم إلى لفظ المعلق البديل. وتدل جميعا على تطور المصطلح الفلسفي نحو مزيد من الإحكام.
2
ويتم أحيانا على مرحلتين لفظ المترجم في مقابل لفظين للمعلق، ثم قسمة هذين اللفظين اثنين، واحد للترجمة وواحد للتعليق مثل الإبطال في الترجمة إلى النفي والفسخ في التعليق، ثم الفسخ في الترجمة إلى النفي في التعليق، وكذلك المكروه في الترجمة والصعوبة والنصب في التعليق، والفقه في الترجمة ثم الفهم (أثانس) والفهم (إسحاق) في التعليق. وقد يؤدي الخلاف في اللغة إلى نشأة المصطلحات؛ فالإمكان قد يعني القدرة أو القوة.
3
وإن إيجاد البدائل في الألفاظ هو أيضا بداية لنشأة المصطلحات. ويتكرر الأمر أكثر من مرة. والرأي هو البيان والظن،
4
والشكاك هم الذين يلزمون الحيرة؛ فالحيرة لفظ عادي من اللغة يتحول إلى شك كلفظ إصلاحي.
5
وأحيانا تتم الإشارة إلى أن السبب في نقل اللفظ من الترجمة إلى التعليق، هو تحويل الألفاظ العادية إلى مصطلحات فنية؛ مثل تحويل لفظ الأخص في الترجمة إلى لفظ الأشرف كلفظ مصطلح. وقد يتم تغيير نفس اللفظ المترجم أكثر من مرة إلى ألفاظ من التعليق، مثل تغيير لفظ الإبطال مرة إلى النفي أو النسخ ومرة إلى النقض، ولفظ خير إلى لفظ أجود مرة ونافع مرة ثانية. وقد يتغير شكل اللفظ المترجم من اسم مثل خير إلى أفعل تفضيل مثل أجود، وموافق إلى أنفع. وقد يتم تغيير اللفظ المترجم إلى لفظ التعليق، ثم يعود لفظ التعليق ليصبح هو نفسه اللفظ المترجم؛ فلفظ الموضوع المترجم يصبح لفظ الموصوف في التعليق، ولفظ الموصوف في المترجم، يصبح لفظ الموضوع في التعليق. ولفظ المجاهدة المترجم والمحاورة في التعليق، يصبح لفظ المحاورة المترجم والمجاهدة في التعليق، ولفظ المناقضة المترجم والمعاندة في التعليق، يصبح لفظ المعاندة المترجم والمناقضة في التعليق. وقد يكون اللفظ المترجم هو نفسه لفظ التعليق ولكن ليس على التبادل؛ فالإبطال المترجم هو لفظا النفي أو الفسخ، وهو لفظ التعليق للفظ الرفع المترجم. وكثيرا ما يكون الفرق بين لفظ الترجمة ولفظ التعليق، هو الفرق بين العموم والخصوص؛ مثل لفظ المنطقية في الترجمة يصبح لفظ الجدلية في التعليق، والقول في الترجمة يصبح القياس في التعليق، انتقالا من العموم إلى الخصوص. وقد يكون انتقالا من الخصوص إلى العموم، من القياسات في الترجمة إلى الأقاويل في التعليق. ولا يكون التغيير اللفظي فقط في الأسماء، بل يكون أيضا في الأفعال؛ مثل يناقض في الترجمة ويغالط في التعليق، يحل في الترجمة وينقص في التعليق، ويتكلم في الترجمة ويسأل في التعليق.
ومن مظاهر الانتقال من الخصوص إلى العموم إسقاط أسماء الأعلام مثل أوميروس الواردة في الترجمة، وتحويلها في التعليق إلى شيء ما أو شاعر، ومن نوع في الترجمة إلى نوع من أنواع في التعليق، ومن الإيجاب والسلب في الترجمة إلى التناقض في التعليق.
6
وفي استبدال لفظ بلفظ تبدأ المصطلحات من اللغة العادية؛ فالاستقراء كمصطلح يبدأ لغويا بلفظ عادي هو التقاط؛ أي أخذ من الأرض، في الأصل التقاء وفي الهامش استقراء.
7
وأحيانا لا يظهر الفرق المميز بين لفظ الأصل ولفظ التعليق، مثل الضروري في الأصل والاضطراري في التعليق، إلا من حيث بداية استقرار المصطلحات واختيار أحدهما لعلم المنطق والآخر لعلم الطبيعة.
8
والواجب في الأصل والضروري في التعليق،
9
وكذلك ألفاظ القبول والرفض، الحسن والقبح، الاستحسان والاستهجان كلها تدل على موقف ذهني واحد، الإثبات والنفي. ويتوقف الاختيار بينها على طبيعة العلم: هل هو المنطق أم الأخلاق أو الجمال؟ وقد يكون شرح لفظ بلفظ لتعريف الشيء وحده أو لتوضيح المعنى والبداية ب «يعني»،
10
بل ويقوم التعليق بشرح تركيب العبارة كلها في حالة تبديل لفظ مكان آخر،
11
في النص اليوناني في البط وفي التعليق العلاج. والبط من ربط الجرح، يبطه شقه؛ أي إجراء عملية جراحية من بتر وغيره.
12
الهدف إظهار المضمر وعدم الاكتفاء بالإشارة إليه بضمير؛ فالأمران في النص هما في التعليق الإثبات والإبطال.
13
وقد تتحول اللغة العادية أيضا من لفظ حرفي إلى لفظ معنوي، دون أن يرقى إلى مستوى المصطلح مثل تحول أنالوطيقا في الأصل، إلى أنالوطيقا الثانية في التعليق.
14
والطريقة الثانية أن يتحول قول شارح في الترجمة إلى لفظ في التعليق، الترجمة هنا إسهاب والتعليق تركيز؛ فالزمان للماضي في الترجمة تذكر في التعليق، والزمان الحاضر والمستقبل في الترجمة تعلم في التعليق، وتبكيت السوفسطائيين في الترجمة توبيخ في التعليق. وعادة ما يكون التركيز عن طريق تحويل العبارة المنفية إلى لفظ مثبت، مثل اللاعدالة في الترجمة تصبح الجور في التعليق، وقلة الأذى في الترجمة تصبح النعم في التعليق، وعدم المعرفة في الترجمة تصبح الجهل في التعليق.
15
والطريقة الثالثة عكس الثانية أن يتحول اللفظ في الترجمة إلى قول شارح في التعليق، وهو الأقل استعمالا. الأمثلة إلى ذلك كثيرة ؛ فلفظ سوفسطيقا هو «تبكيت السوفسطائية » وهو «التظاهر بالحكمة» وهو «التبصير بمغالطة السوفسطائية» زيادة في لفظ التبصير؛ أي التركيز على الغاية والوجهة والوظيفة؛ فالخلاف في اللفظ والمترجم يدل على بداية تخلق المعنى واستقلاله، من أجل التعبير عنه في مصطلح فلسفي عربي نهائي ومحدد. كل ترجمة تظهر أحد جوانب المعنى حتى يأتي مصطلح واحد يجمع هذه الجوانب كلها. وغالبا ما يكون الهدف من ذلك هو التوضيح؛ فالقول الشارح في التعليق أكثر وضوحا من اللفظ في الترجمة، وأكثر تعبيرا عن المعنى بلغة أسهل وأكثر تلقائية؛ فالمقابلان عند المترجمين مثلا هما الداخلان تحت التضاد في التعليق. القول الشارح إذن يدل على أن المعنى حاضر في الذهن، وليس مجرد نقل لفظ بلفظ. كان الناقل صاحب قضية، يحمل حضارة الغير ويتمثلها في حضارته، وهي في النهاية ثقافة الأمم المفتوحة التي على الأمة رعايتها وحمايتها
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
16
والطريقة الرابعة أن يبقى القول الشارح في الترجمة قولا شارحا في التعليق؛ مثل مرسلة مشاعة في الترجمة تصبح كلية عامة في التعليق.
17
وقد لا يكون التعليق على الترجمة لفظا بلفظ، بل لفظ بعبارة شارحة أقدر على التعبير عن المعنى، خاصة ولو كان اللفظ الأصلي مركبا؛ وبالتالي يتم تحليل التركيب إلى مجموعة من الألفاظ الأولية يتم استعمالها كعبارة شارحة، وذلك مثل لفظ «أنتلخيا» الذي هو باليونانية
Ein Telos Exein ، والذي تحول في نقله إلى عبارة شارحة «كمال أول طبيعي لجسم إلى ذي حياة بالقوة». قد يكون التعليق تصحيحا للأمر وتقويما له؛ فالمعلق يقول: «كان ينبغي على الناقل أن يقول ...»
18
وقد يكون إبرازا للمعنى وشرحا له، وانطلاقا منه لتأليف محدود جديد بداية لنموذج الشرح الأوسط عند ابن رشد.
19
سادسا: نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره
(1) نشأة المصطلح الفلسفي
وأهم شيء في النقل هو المصطلح الفلسفي؛ فاللغة العادية لا إشكال فيها، الأسماء والأفعال والحروف يتم النقل فيها بسهولة. إنما الإشكال في المصطلح فالمصطلح هو عصب الفكر، المناطق الحساسة التي يسبر غورها فيتم تدفق النفط ما دمنا في عصر النفط. أحيانا تتغير ألفاظ اللغة العادية مثل أنالوطيقا الثانية أو أنالوطيقا الأواخر، ولكنها لا تدل على مصطلح فني، إنما مقياسها الأسلوب الأدبي والجمال اللغوي. واللغة العادية عند القدماء في الغالب لغة عربية سليمة مستساغة، مفهومة لا غموض فيها ولا لبس، تكشف عن احترام كامل النص المنقول، والتعرف على معناه الداخلي، دون تأويل أو قراءة أو تعسف في بداية الترجمة؛ فالنقل هنا نقل أمين يخضع لشروط الأمانة العلمية. وفي حالة التعريب وتحويل النقل الصوتي إلى لفظ معرب، قد يقع قديم الاختلاف في صياغة الجمع فيه، مفرد مؤنث أو جمع مذكر مثل لفظ سوفسطيقا، والإشارة إلى أصحابه باسم السوفسطائية أو السوفسطائيون، كما فضل القدماء وكما فضلنا نحن في العصر الحالي، ثم تبدأ المصطلحات في التكوين من اللغة العادية إلى المصطلح الفني.
1
إن أهم ما يميز مرحلة الترجمة قبل التأليف، هو نشأة المصطلحات الفلسفية. والفلسفة في النهاية هي مجموعة من المصطلحات تستخدم في التعبير عن بعض المواقف الإنسانية، التي تعبر عنها أيضا في الأدب والفن بل في السلوك والممارسات العملية. وما يجعل الفلسفة متميزة عن الفن هو المصطلحات الفلسفية، التي ما زلنا نعيش عليها حتى الآن دون شكاية من صعوبة المصطلحات الأجنبية وفقر اللغة العربية.
2
إن الشبهة التي تقال عن قصور اللغة العربية من حيث المصطلحات، إنما هو في الحقيقة تنطع ورعونة وكأن المفكر أصبح غربيا صرفا قادرا على التعبير عن المعاني باللغات الأجنبية وحدها دون اللغات الوطنية، ودعاية للنفس في مجتمع متغرب؛ فاللغة العربية، بدليل نشأة المصطلح الفلسفي عند القدماء، ليست قاصرة عن إيجاد المصطلحات العلمية. إنما هو عالم اللغة المجتث الجذور، والذي يشعر بعقدة النقص أمام الآخر هو الذي يدعي ذلك. وهو ضحية أسطورة اللغة العالمية والثقافة العالمية والعلم الواحد. إنما الصعوبة تنشأ قبل اللغة في الإبداع الفلسفي ذاته، لو كان الإبداع ذاتيا من الداخل وليس منقولا من الخارج، من اختراع الآخرين واكتشافهم، لأصبحت اللغة طيعة كأداة للتعبير؛ فالإبداع الذاتي يعبر عن نفسه بلغة ذاتية. أما الاكتشاف الخارجي المنقول فإنه يواجه مثل هذه الصعوبة في إيجاد اللغة الطيعة كأداة للتعبير؛ لأن النقل في المضمون والشكل؛ أي في الفكر واللغة، في المعنى واللفظ؛ لذلك نشأ السؤال: بأية لغة نفكر؟ وكأن اللغة مضمون الفكر وليست مجرد أداة من أدوات التعبير. ومن يفكر بلغة أجنبية يصعب عليه إيجاد إبداع المصطلح الفلسفي، ويكتفي بالتعريب؛ أي النقل الصوتي للمصطلح الأجنبي. ومن يفكر باللغة الوطنية يسهل عليه إيجاد المصطلح الوطني، وبالتالي تنشأ المصطلحات الفلسفية مواكبة لنشأة الفكر؛ فالإبداع الذاتي في الفكر واللغة، في المعنى واللفظ، في الشكل والمضمون.
وينشأ المصطلح عند الكندي داخليا من تحويل أدوات الاستفهام إلى مصطلحات مثل تحويل هل، ما، أي، لم، كي تصبح العلل الأربعة معظم المصطلحات في رسالة الهلية، المائية، الأيية، اللمية قبل أن تصبح المادية والصورية والفاعلة والغائية. وعند جابر تتحول أدوات الاستفهام إلى مصطلحات، الهلية من هل، والمائية من ما، والكيفية من كيف، واللمية من لم؛ فالمنطق لغة قبل أن يكون تصورات وأحكاما.
3
وهذا الذي جعل أسلوب الكندي ضعيفا ودون المستوى الأدبي، مستعملا ألفاظا غير مألوفة، تتداخل مصطلحات المنطق والطبيعيات والإلهيات. كانت المصطلحات من اللغة العادية اجتهادا؛ فابن المقفع يسمي الجوهر عينا؛
4
لذلك يستطلع الآمدي رأي الجمهور؛ أي غالبية العلماء والفقهاء، في وضعهم للمصطلحات وشرحها.
5
ويتضح تطور الأسلوب من «أن يكون الشيء علة كون ذاته» إلى «أن تكون ذاته مهوية» إلى «الموجود بذاته». كما تتطور المصطلحات من طينة إلى عنصر إلى هيولى عودا إلى التعريب. وينشأ المصطلح من أجل تحويل الثقافة الواحدة إلى ثقافة موروثة عن طريق اللغة، إما بالتعريب والترجمة أو باستلام اللغة القديمة، وتحويلها من لغة عادية إلى لغة اصطلاحية، أو تحويل بعض العلوم الموروثة المنقولة أو العقلية النقلية إلى مصطلحات فلسفية خالصة، وتكشف نشأة المصطلح على التفاعل الحضاري على مستوى اللغة. وواضح الانتقال من مفاهيم العلوم النقلية إلى المفاهيم الفلسفية، مثل الانتقال من القول المرسل، وهو مصطلح علم الحديث، إلى القول المطلق.
وتظهر بعض المصطلحات العربية القديمة، مثل الذهل الذي يعني الثأر أو العداوة أو الحقد، والرصيد اللغوي القديم هو المعين الأول في صياغة المصطلحات المقابلة اليونانية، مع تلمس المعنى الاشتقاقي له الذي يعني الكمون والرصد، ويتضح هذا عند الكندي في استعمال مصطلحات القنية؛ أي الماهية، والأيس والليس؛ أي الوجود واللا وجود، التأييس؛ أي الإيجاد.
6
ويعتمد تعريف بعض المصطلحات على بعضها البعض، دون الوقوع في الدور، مثل الخاطر علته السانح والإرادة علتها الخاطر،
7
ومعظم المصطلحات في رسالة الكندي مفردة وليست مزدوجة؛ أي المصطلح البسيط وليس المركب في عبارة شارحة، وتعريف القوة بأنها ما ليس بظاهر، حتى ولو تباعد التعريفان.
وبقدر ما توجد في المصطلحات أبعاد إلهية ودينية، توجد في مصطلحات أخرى أبعاد إنسانية خالصة، مثل تعريف الفضائل الإنسانية، قادرة على احتواء الوافد داخل الموروث؛ نظرا لاتفاقهما في العقل والطبيعة؛ فالمصطلح مفتوح من الجانبين، من الخارج لاحتواء الخارج ومن الداخل لتعشيقه في الموروث؛ ومن ثم أمكن إدخال تعريف الفضائل الإنسانية وتقسيمها عند أفلاطون ولفضيلة الاعتدال، وجعل الفضيلة وسطا بين طرفين ضد الإفراط والتفريط. كما أمكن احتواء بقراط في تحديد مصطلح الطبيعة بمعانيها المختلفة تأسيسا للفلسفة على العلم. وهو الوحيد المذكور في رسالة الكندي بالرغم من اعتماد «رسالة الحدود» على العقل الخالص.
8
ويكشف تحديد بعض المصطلحات عن التيار الفلسفي وراءه مثل التعريفات البيولوجية للظواهر النفسية، تعريف الغضب بغليان دم القلب، والضحك باعتدال دم القلب، وقسمة الأخلاق إلى ما يتعلق بالنفس وما يحيط بآثار البدن، التي تقوم على نفس التصور الثنائي للإنسان وقسمته إلى نفس وبدن، كما يعطي الكندي الأولوية المطلقة للعلة التمامية (الغائية)، ويعتبرها العلة المطلقة على باقي العلل الثلاثة.
9
ويشمل المصطلح الفلسفي كل أقسام الحكمة، المنطق والطبيعيات والإلهيات، النظرية والعملية؛ فكثير من مصطلحات الكندي في رسالته أخلاقية، يغلب عليها الفلسفة ثم المنطق ثم العلم ثم التصوف؛ نظرا لورود بعض مصطلحاته مثل المحبة والعشق والرضا، وبعضها رياضية مثل الجذر والضرب والقسمة، وبعضها موسيقي مثل الإيقاع أو نفسي مثل التوهم أو منطقي مثل كل وجميع أو أسماء علوم مثل الطب والفلك، والغالب عليها الفلسفة ثم المنطق ثم الإنسانيات ثم الرياضيات ثم العلوم. وأقل المصطلحات في السياسة والاجتماع باستثناء تعريف الصديق، ويظهر البعد النفسي في تحديد العلم. وقد تميز الطب بمفرده كمصطلح مما يدل على اهتمام الكندي بالطب؛ لذلك كان التعريف الرابع للفلسفة من جهة العلة من التعريفات الستة، هو تعريف من حيث تصنيف العلوم؛ فالفلسفة صناعة الصناعات، وحكمة الحكم، تبدأ بالقدماء إعطاء للحق لصاحبه، واعترافا بدور القدماء دون نسبة القول إلى النفس، أمانة واعترافا للفضل وليس نقلا أو تقليدا.
10
ويعطي جابر بن حيان في القرن الثالث مدخلا لتصنيف المصطلحات، هو تقسيم العلوم كما يفعل التهانوي في القرن الثاني عشر. وهي قسمة داخلية صرفة، ليست الموروث والوافد، بل الدين والدنيا وكلاهما موروث. والدين شرعي وعقلي؛ فالعقل والشرع من الدين. والدنيا شرع ووضع؛ فالوضع مقابل للشرع، والوضع يشمل العلوم والصنائع. والعقلي حروف ومعان، أشياء في الخارج وأشياء في الذهن. والطبيعة في الخارج تشمل الحرارة والبردة والرطوبة واليبوسة. ينشأ المصطلح الفلسفي إذن من هذه القسمة الشاملة للعلوم؛ فاللغة أداة العلم.
11
ويبدأ الخوارزمي رسالته في الحدود والفلسفة أيضا بتقسيم العلوم مثل الرازي التهانوي. وتشمل العملة الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة، ويلاحظ غياب المنطق.
12
ومدخل «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي، هو تقسيم العلوم، البداية بعلوم اللغة والانتهاء بعلوم الشرع، وقد رتب على فنين: فن الألفاظ العربية وفن الألفاظ الأعجمية، وتعني الفارسية. ويبدو أن الكتاب لم يتم أو لم يطبع أو لم يترجم. وتنقسم العلوم المدونة سبعة أقسام؛ فهي إما نظرية أو عملية، غير آلية أو آلية، عربية أو غير عربية، شرعية أو غير شرعية، حقيقية أو غير حقيقية، عقلية أو تعليمية، جزئية أو كلية. وتدخل كلها ضمن إطار نظرية المعرفة. وتشمل علوم العربية الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية. وتشمل العلوم الشرعية الكلام والتفسير والقراءة، والإسناد والحديث وأصول الفقه والفقه والفرائض والسلوك. أما العلوم الحقيقية فهي التي لا تتغير بتغير الملل والأديان مثل المنطق والحكمة، أما الفقه فيتغير بتغير الزمان. ويفصل المنطق ويذكر أرسطو وأقسام كتب المنطق، وعلم الحكمة وقسمتها إلى نظرية وعملية، وقسمة كل منها إلى الثلاثية، وكلها مستفادة من الشريعة كما بين الشيخ الرئيس، الإلهي والرياضي والطبيعي والمنطقي، ولكل منها أصول وفروع. ثم يختتم التقسيم ببيان العلوم المحمودة والمذمومة، والمحمودة منها فرض عين وكفاية، والمذمومة التتارخانية السحر والنيرنجيات والطلسمات والتنجيم. وأما علم الفلسفة والهندسة فيبعد عن علم الآخرة، استخرج ذلك الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة،
13
وهي صورة الفلسفة عن ابن الصلاح. (2) تطور المصطلح الفلسفي
وقد تطور المصطلح الفلسفي بعد نشأته، لمزيد من الإحكام حتى استقر الآن على النحو التالي: (أ)
تغير لفظ بلفظ. وقد يكون السبب أن اللفظ اليوناني لفظان مثل الحامل
Hupokaimenon
والجوهر
Ousia . وقد يكون السبب إملائيا مثل مائية وماهية.
14 (ب)
تغيير لفظين بلفظين. وقد يكون السبب الاعتماد على الترجمة السريانية أفضل، مثل الخبر الطبيعي وسمع الكيان.
15 (ج)
تغيير ثلاثة ألفاظ بثلاثة ألفاظ. وقد يكون السبب في ذلك مجرد جماليات اللغة وإيقاع العبارة.
16 (د)
تغيير لفظ بلفظين. وقد يكون السبب في ذلك تتبع الشراح اليونان.
17 (ه)
تغيير ثلاثة ألفاظ بلفظين؛ فالتغيير إما نحو الزيادة أو نحو النقصان.
18 (و)
تغيير لفظين بلفظ لمزيد من التركيز طبقا لتطور المصطلح من العبارة الشارحة إلى اللفظ. (ز)
تغيير عبارة بلفظ لمزيد من التركيز والانتقال من الشرح المعنوي إلى المصطلح اللفظي.
19 (ح)
تغيير التعريب إلى الترجمة أو الترجمة إلى التعريب لفظا أو لفظين.
20
وبالإضافة إلى مسار التطور نحو مزيد من التركيز والإحكام، هناك مسار آخر في نمو الانتقال من التعريب. وهو نفس المسار الذي تم أيضا في الترجمة، من أرسطو حتى جالينوس. والنماذج على ذلك عديدة في رسائل عن المصطلحات الفلسفية، والمحك في ذلك ليس التطور التاريخي الزماني التتابعي المتوالي، بل الزماني البنيوي طبقا لقانون تناقص نسبة المعرب وزيادة نسبة المترجم.
وقد ظهر التناقض التدريجي في تطور المصطلح من التعريب إلى الترجمة عند المؤرخين والفلاسفة على حد سواء؛ فما زال الخوارزمي في «مفاتيح العلوم» يستعمل التعريب أكثر مما يستعمل الترجمة أو استعمالهما معا. يذكر «ميخانيقون» ثم يعطي تفسيرها كما يفعل مع السريانية في شمعا كيانا؛ أي سمع الكيان والأرتماطيقي، والجغرافيا، والجوماطريا، والاصطرونوميا، واصطرلابون، وأرغانون؛ أي الموسيقى ، مع التمايز بين اليوناني والعربي ، بين لغة الآخر ولغة الأنا، والسوفسطائيون، وغرماطيقي؛ أي النمو، والأدراج؛ أي الخراج، من الفارسية، بل إن تسمية الخوارزمي «مفاتيح العلوم» إنما تشير إلى المصطلحات باعتبارها مدخلا للعلم. في كل علم يضع الخوارزمي قسما من مصطلحاته ومواضعاته وألفاظه عند الفرس والروم في الجاهلية والإسلام.
21
وفي «الحدود الفلسفية» تتجاوز المصطلحات المترجمة المصطلحات المعربة، ويغلب عليها اليونانية باستثناء القليل السرياني مثل «شمعا كيانا» و«مليلوثا».
22
ويزداد التحول عند المؤرخين المتأخرين، الشهرزوري، حيث لا تظهر لديه إلا خمسة مصطلحات معربة: الميتافيزيقا، المتروطيطوس، اللوغس، الهيولي، الميكانيكا، أما الناموس فهو مصطلح عربي وليس معربا، أما الفلسفة فلفظ قديم قد تم تعريبه حتى أصبح عربيا،
23
وفي رسالة الكندي «في حدود الأشياء ورسومها» تزداد نسبة المترجم على المعرب بل كلها مترجمة باستثناء ثلاثة منها معربة، الهيولي والأسطقس ورابع بين التعريب والترجمة مثل التوهم؛ أي الفانطاسيا، وحتى الألفاظ المعربة يتم تعريفها بعبارة عربية شارحة، وكأن التعريب في الصوت وليس في المعنى، واستقر المعرب منها حتى دخلت في التذوق في الشعر العربي الحديث،
24
وعند الآمدي في «الكتاب المبين» في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين لا يظهر إلا مصطلح معرب، وهو أسطقس مع اللفظ العربي عنصر، ومرة واحدة فانطاسيا في الشرح وليس في النص؛ مما يدل على اختفاء التعريب بتطور الزمن،
25
وتزداد النسبة عند الجرجاني في «التعريفات» حتى لتصبح كل المصطلحات مترجمة باستثناء اثنين: الأسطقس والهيولى،
26
وتختفي المصطلحات المعربة كلية في البداية عند جابر بن حيان في «رسالة الحدود» والجرجاني في «اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات الملكية»،
27
وعند ابن سينا في «رسالة الحدود» مجموعة من المصطلحات يزداد تحول النسبة فيها من التعريب إلى الترجمة،
28
ويقع مزيد من التحول من التعريب إلى الترجمة عند الغزالي في الحدود من معيار العلم،
29
ومع ذلك يظهر ما تبقى من مصطلحات معربة، بعد أن تحولت إلى ألفاظ عربية في تطورها، وإن كانت في نشأتها وافدة حتى العصور المتأخرة، عند القفطي في القرن السابع، والتهانوي في القرن الثاني عشر.
30
ثم يبدأ التعريب من جديد في الظهور في هذا القرن، بعد اختفائه في نهاية المرحلة الإسلامية الأولى لمزاحمة الوافد الغربي الحديث للموروث، الذي استطاع تمثيل الوافد القديم واحتوائه كلية؛ ففي «المصطلحات الفلسفية» تزداد نسبة المعرب على العربي، وتزداد هذه النسبة أكثر في «المعجم الفلسفي»؛ مما يدل على ازدياد التوجه نحو الغرب، من الدول إلى الأفراد.
31
وتظهر أخيرا قضية اللغة العربية ولسان العرب والترجمة والتعريب، والمصطلح الفلسفي والأسماء العربية والبيئة العربية؛ فكل فكر مرتبط بلغته؛ الفكر اليوناني باللغة اليونانية، والفكر الإسلامي باللغة العربية، وهو موقف الفقهاء منذ الشافعي حتى ابن تيمية؛ لذلك يشير ابن رشد كثيرا إلى لسان العرب، ويضرب الأمثلة على ذلك مثل الصريح الذي يدل على الضوء والظلمة، والجليل الذي يدل على الصغير والكبير؛ مما يوحي بأن الشرح هو نقل الفكر اليوناني من مستوى اللغة اليونانية إلى مستوى اللغة العربية. ويشرح ابن رشد كيف ينشأ المصطلح الفلسفي؛ فاسم الهوية ليس مشكلا عربيا، ولكن اضطر إليه بعض المترجمين واشتقوه من حرف الرباط، هو بالمعنى الذي يدل عند العرب على ارتباط المحمول بالموضوع، على عادة العرب من اشتقاق اسم من اسم وليس اسما من حرف يدل على ذات الشيء، كما هو الحال في اللسان اليوناني
Einai
فعل الكينونة. ولفظ الهوية أفضل من الوجود؛ لأنه في لسان العرب من الأسماء المشتقة التي تدل على الأعراض؛ لذلك كان أحق بالدلالة على المقولات العشر التي تصف الأعراض، كما هو الحال في لسان العرب، زيد أبيض وليس زيد في بياض، ليس الشرح مجرد تكرار المعلومات، بل إدخال النص المشروح في النص الشارح، ويعتمد الشرح على ترجمة القدماء وفهم طرقها، وكيفية التغلب على المصطلح اليوناني، وإيجاد مرادف عربي طبقا للسان العربي وعادة العرب في الكلام، هناك إبداع على مستوى اللغة ونشأة المصطلح الفلسفي، فقد كان المترجمون مثقفين عربا وليسوا أجانبا، ولاؤهم للموروث وليس للوافد، الوافد علوم الوسائل والموروث علوم الغايات. ومع حرص المترجمين لم يأمن ابن سينا من الوقوع في الخطأ، يحلل معاني بعض الأسماء والاستعمالات في اللسان اليوناني، ليعرف إلى أي حد هناك ما يقابلها في اللسان العربي، مثل الجنس وضرب المثل بالينوس وبأينوس وعدم استعمال اسم الجنس في اللسان العربي على الأب الأول. كما أن هناك بعض الاستعمالات اليونانية مثل العلة والأرقام مستكره في اللسان العربي، هناك تقابل بيننا وبينهم، بين الأنا والآخر، بين اللسان العربي واللسان اليوناني، بين لغة الوافد ولغة الموروث،
32
ففي اللسان اليوناني يطلق اسم الفعل على العمل، وهذا له دلالته الفلسفية، أن الفعل من جنس العمل مما يدل على التمام والكمال، كما أن الجنس يدل على العنصر لا على الجنس بمعنى القوم كما هو الحال في لسان الهرقليين، ويعتمد ابن رشد على لسان العرب، الإيجاب الذي يراد به السلب، والسلب الذين يراد به الإيجاب، والاستشهاد على ذلك بآيات القرآن، وكذلك مثال الشيء أو العرض في وصف الأمور الصناعية والطبيعية، وقد يتفق اللسان العربي مع اللسان اليوناني، وقد لا يتفق مثل تكرار الفصول الخمسة للشيء الواحد، ومثل الفرق بين «أم» و«أو» في اللسان العربي، ومقارنة ذلك باللسان اليوناني، ففي السان العربي «أم» قد لا يكون كلاهما، في حين أن «أو» تعني بالضرورة واحدا.
33
ويشرح ابن رشد نشأة المصطلح الفلسفي، ناقلا القضايا الميتافيزيقية العامة إلى قضايا لغوية، ابتداء من تحليل الألفاظ كما هو الحال في علم الأصول في تحليل معاني الألفاظ، وأنواعها: المعنى الاشتقاقي، والمعنى العرفي، والمعنى الشرعي الاصطلاحي؛ فمصطلح القنية الذي ظهر منذ الكندي من الاقتناء عند المترجمين في نص أرسطو، وكذلك مصطلح الأيس الذي ظهر منذ الكندي، وما زال موجودا عند ابن رشد في النص المترجم، ثم اختفاؤه في الشرح وظهور الأشياء بدلا عنه، ويمكن استعمال قواعد النحو العربي لشرح ألفاظ المنطق؛ فالمنطق لغة، واللغة نحو مثل شرح «له» في المنطق بلام الكمية في النحو العربي.
وبالرغم من التركيز على أهمية لسان العرب، وعادة العرب والجهل في النقل، ونشأة المصطلح الفلسفي، فقد بقت بعض المصطلحات معربة مثل أسطوخيا بتعريب صوتي، وحرفي الأسطقس بتعريب صوتي معدل جمعا ومفردا، السوفسطائي، السوفيطقي مما يوحي بنقل الأسلوب العربي من كثرة التكرار، والبعض صعب نطقه مثل الأسطقسية ونادر الاستعمال، وأحيانا يظهر لفظ أسطقس في صفحة واحدة أكثر من عشرين مرة، مما يجعل الأسلوب أقرب إلى الوافد منه إلى الموروث،
34
وتظهر بعض المصطلحات المعربة من الموسيقى مثل الأنيطادياسيس؛ أي البعد اللفظي، أو النغمة المشتركة لبعدين لا تنقسم أي التون، أو الفلسفة مثل الفانطاسيا أو النطق مكون أبوفانسيس التي تعني النقيضة، الأنطيفاسيس، ومصطلحات العلم مثل الأيطيقي التي تعني علم البصر والجيوميطريا، علم الهندسة، والجاردوسيا، علم الأمور المحسوسة البالية الفاسدة، أطاليلي أي المائة رطل، وقد يتبادل التعريب مع الترجمة مثل قاطيغورياس والمقولات. والغريب أن تبقى هذه المصطلحات معربة حتى القرن السادس، ولم يتحول نص أرسطو نهائيا إلى نص عربي.
كما ترك ابن رشد أيضا بعض الأمثلة اليونانية دون استبدالها بالعربية كما فعل في تلخيص الخطابة، وترك بعض الأسماء والأماكن اليونانية دون استبدالها وتركها المترجم اليوناني غير مفهومة، وأحيانا يقول فلان تهربا منها، وهو ثقيل في الأسلوب العربي. وترك أسماء الشعراء اليونان ودون استعمال الرخصة العربية مثل زيد وعمرو إلا في أقل القليل. وأحيانا تسقط الأسماء مثل هرمس وبوسوس وأثينا، ودون أن يأتي ببدائل عربية عنها. وأحيانا يعرب ابن رشد أسماء المواقع الحربية، فيترك مثال حرب طروادة وحرب ميديا، ويقع محلها حرب الجمل وصفين لضرب المثل بالزمن المتقدم، واستبدال بموقعتين يونانيتين وقائع عامة بالنسبة للمستقبل، وعلامات الساعة مثل طلوع الشمس من مغربها. يستعمل أمثلة أرسطو اليونانية في بداية نصه ثم يسقطها لصالح الأمثلة العربية.
35
ويلجأ ابن رشد إلى المصدر الثاني للمصطلحات الفلسفية، وهي اللغة العادية والآراء العامة لتجريد المنطق منها؛ فالمنطق ليس فقط هو علم المنطق بل منطق الفطرة، مثل مصطلحات الجمهور مثل العرض والجوهر؛ فالمنطق الشعبي يسبق المنطق الصوري وأحد مصادره، وأرسطو نفسه لم يفعل أكثر من أنه نظر لمنطق الكلام من أفواه الناس. والفكرة موجودة في النص المشروح وفي النص الشارح على حد سواء، سواء كانت من أرسطو أو من تأكيد ابن رشد لها. وأحيانا يستعمل ابن رشد لفظ المشهور؛ أي المعروف عند كل الناس؛ أي الثقافة الشعبية الجماهيرية، وهو موجود عند الأصوليين على مستويين، عند العقل وعند الجمهور؛ أي في العقل البديهي وفي الفطرة.
36
وفي تلخيص السفسطة ترجمة القيثارة اليونانية بالعود العربي والحكمة المرائية هي الحكمة السوفسطائية، مستعملا للفظ العربي والمترجم في آن واحد. وترجم السنة اليونانية بالشريعة وهو لفظ إسلامي.
37
وما زال لفظ الأسطقسات معربا.
واستمر الحال كذلك في عصر النهضة الثاني في مصر خاصة عند الطهطاوي، حنين ابن إسحاق الجديد. وقامت مدرسة الألسن في القاهرة بنفس الدور الذي قام به ديوان الحكمة في بغداد ... وتمت الترجمة الثانية طبقا لخطة مقصودة وبداية بالعلوم الطبية والطبيعية؛ تلبية لمطالب جيش محمد علي والصناعات العسكرية الحديثة، وبإشراف الدولة وتوجيهها؛ فالتاريخ يعيد نفسه. أما نصارى الشام وبعض أقباط مصر، فإن البعض منهم لغة وثقافة كان أكثر ولاء للثقافة الغربية، وقام بالترجمة ترويجا للثقافة الغربية التي ينتسب لها، ويستعمل طريقة التعريب والنقل الصوتي للمصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية، بدعوى فقر اللغة العربية في المصطلحات العلمية؛ فالعلم إبداع الغرب وحده وبحجة الثقافة العالمية. وقد أدى ذلك إلى إدخال أكبر قدر من الألفاظ المعربة في تاريخ اللغة العربية.
38
وتجاوز الأمر المصطلحات العلمية إلى مصطلحات العلوم الإنسانية،
39
بل وصل الأمر إلى تحول كثير من تعبيرات الحياة اليومية إلى عبارات عربية، خاصة أسماء محلات الطعام والملاهي العامة،
40
وأصبحت ترجماتهم عويصة غير مفهومة؛ من أجل إثبات عجز اللغة العربية، وفصل الأمة عن لغتها وتراثها وثقافتها وإحساسها بعجزها عن الحداثة، إلا عن طريق التقليد.
41
وقد سبب ذلك رد فعل الحركة السلفية في الحفاظ على اللغة العربية ونقائها، ومواجهة مجامع اللغة العربية لنحت مصطلحات عربية للمقابل الغربي، ناجحة مرة ومدعاة للتندر مرة أخرى.
42
وقد شمل ذلك الفلسفة بحجة أن تلك كانت عادة القدماء أيضا: فلسفة، هيولى، موسيقى، سفسطة، في حين أن القدماء لم يفعلوا ذلك إلا في أقل القليل، وبطريقة مستساغة ونحت عربي أصيل،
43
ثم وجدوا مصطلحات عربية أصيلة في الترجمة الثانية، وتركوا قاطيغورياس إلى المقولات، وباري أرميناس إلى العبارة، وأنالوطيقا إلى القياس (الأولى)، والبرهان (الثانية )، وبويتيقا إلى الشعر، وريطوريقا إلى الخطابة.
سابعا: الترجمة ومنطق اللغة
وأكثر النصوص تفصيلا لعرض الترجمة ومنطق اللغة هو كتاب «تعبير الرؤيا لأرطاميدروس»،
1
ولفظ تعبير لفظ محلي بمعنى تفسير، في حين أن اللفظ اليوناني يعني «النقد»، بل إن العالم كله يقابل علم الفراسة العربي، ولكن على مستوى الغيب، وليس على مستوى الشهادة. ترجمه حنين بن إسحاق الذي لم يترك فرعا من فروع الفلسفة إلا وترجمه، وفصول الكتاب قصيرة وضعها المترجم لإيجاد بنية للموضوع؛ فالمترجم لا يترجم مادة خاما، بل يقسمها طبقا لموضوعاتها؛ مما يدل على أن ترجمة الألفاظ والعبارات إنما تخضع لرؤية كلية شاملة، وأسلوبه واضح وسهل وموضوعه إنساني خالص.
وبالرغم من النشرة العلمية الدقيقة للكتاب، والهوامش المستفيضة لمن يشاء دراسة منطق الترجمة باعتبارها نقلا حضاريا، إلا أنه لا يجوز المراجعة على الأصل اليوناني طبقا لنظرية المطابقة، وأن النص اليوناني هو الأصل، وأن الترجمة العربية هو الفرع. كما لا يجوز ترجمة النص اليوناني القديم ترجمة حرفية؛ نظرا لاختلاف الموقف الحضاري بين المترجم الأول والمترجم الحالي، وربما لاختلاف المرحلة التاريخية عبر التاريخ؛ فبينما هناك ما يقرب من ألف عام بين المؤلف والمترجم الأول، وكلاهما ينتسب إلى الحضارة القديمة، فبين المؤلف القديم والمترجم الحديث ما يزيد على الألفي عام، بالإضافة إلى انتساب المؤلف إلى الحضارة القديمة، والمترجم إلى الحضارة الحديثة. وإذا كان المترجم القديم صاحب موقف حضاري، يعيد كتابة النص اليوناني كنص عربي، ناقلا إياه من بيئة الوافد إلى بيئة الموروث، ومن بنية الوافد إلى مقاصد الموروث، من أجل التحول من النقل إلى الإبداع، ومن البداية إلى النهاية، ومن التعلم إلى التعليم، ومن التلميذ إلى الأستاذ، ومن المحيط إلى المركز، فإن المترجم الحديث يخلو من موقف حضاري، أقرب إلى التلميذ منه إلى الأستاذ، يعتمد على قواميس اللغة أكثر مما يعتمد على الإبداع الحضاري، وضحية نظرية المطابقة؛ أي الترجمة الحرفية، التي سادت في القرن الماضي في الغرب؛ نتيجة للنزعة التاريخية في الدراسات الإنسانية.
2
وهناك إحساس بالتمايز بين الأنا والآخر ، بين العرب واليونان على مستوى اللغة والثقافة والعلوم والعادات والتقاليد. وتتم الإشارة إلى اليونانيين باعتبارهم الآخر داخل الترجمة، مع أن المؤلف اليوناني لا يشير إلى نفسه باعتباره يونانيا، أو إلى قومه باعتبارهم يونانيين، أو إلى ثقافته باعتبارها يونانية، وتتكرر الإشارة إلى اللغة اليونانية اسما وفعلا وحرفا، وتعبيرا ومثلا وبيئة وثقافة، وتاريخا وعلما وجغرافيا؛ ونظرا لارتباط الفكر باللغة فإن الترجمة تكون نقلا للفكر من لغة، وإعادة وضعه في لغة أخرى؛ مما يتطلب إعادة الصياغة وتفسير أساليب التعبير طبقا لخصوصية كل لغة. الترجمة إخراج للمعنى من اللفظ الخاص الأول، وإعادة التعبير عنه في اللفظ الخاص الثاني. ويقتضي ذلك إعادة التوازن للمعنى، وإكمال المعنى الجزئي في رؤية كلية، وإعطاء مزيد من البرهنة والصدق الداخلي.
3
وتخضع الترجمة لمنطق النقل الحضاري، الحذف والإضافة، وإعادة التعبير؛ فالحذف ليس نقصا في الترجمة، بل قد يكون زيادة في النص اليوناني، والإضافة قد لا تكون زيادة في الترجمة، بل نقصا في النص اليوناني. إنما يتوقف الحكم بالحذف والإضافة على اعتبار أيهما الأصل وأيهما الفرع؟ أيهما المقياس وأيهما المقيس؟ والحذف والإضافة يبدو أنهما متعارضان، والحقيقة أن القصد من الحذف هو التركيز على الموضوع، في حين أن القصد من الشرح هو توضيح المعنى، وكلاهما ضروريان في النقل الحضاري. ولا يوجد تحديد دقيق لموضوعي الحذف والإضافة، بل يتوقف ذلك على إحساس المترجم. قد يكون الحذف للقيمة اليونانية المحلية أو للواقع اليوناني المحلي. وقد تكون الإضافة للقيمة العامة التي تعبر عن التصور الإسلامي للكون. وقد يقع الحذف والإضافة في نفس العبارة؛ مما يشير إلى بزوغ التأليف داخل الترجمة، ابتداء من إعادة بناء الجملة كلها. وقد يرجع الحذف والإضافة إلى اختلاف في المخطوطات اليونانية نفسها؛ فما كان عند المترجم الأول القديم ليس بالضرورة هو ما لدى المترجم الثاني الحديث. وقد يرجع إلى اختلاف النسخ، وفي هذه الحالة يصبح منطق النقل الحضاري بلا أساس، ولكن لكثرة النقص والزيادة بين النصين اليوناني والعربي، يتضح القصد وتقل المصادفة. ويكفي إعطاء نماذج من منطق النقل الحضاري، الحذف والإضافة والأسلوب اكتفاء بالاستقراء المعنوي كما يقول الشاطبي؛ أي الإحصاء الناقص الذي يكفي للحصول على المعنى أو القانون، دون استقراء تام يستحيل إجراؤه، ولا يفيد.
4
وإعادة كتابة النص جعلت الترجمة تأليفا بأسلوب عربي قديم، لا يحتاج إلى شرح أو اختصار؛ لم يشأ المترجم القديم ترجمة نص، بل التعبير عن معنى ووضع رؤية، واكتشاف موضوع، وبلورة قصد حضاري للموروث بعد تمثل الوافد؛ وبالتالي تحذف العبارات الشارحة المسهبة، التي لا تزيد في بيان الموضوع، والتي تشوبها بعض الركاكة، وذلك مثل ترجمة المصريين بأهل مصر. وتقتضي الترجمة المعنوية التركيز في حين أن الترجمة الحرفية إطالة؛ فالزيادة والنقصان أفضل من الكبر والصغر، والرجوع إلى الوطن أفضل من الرجوع إلى المنزل. وقد تكون الغاية من الحذف إزالة اللبس والغموض وتوضيحا للمعنى بأقل عبارة.
5
وقد يكون قلب النفي إثباتا والإثبات نفيا من دواعي توضيح المعنى واختصار اللفظ، مثل حذف بدون صعوبة ووضع يسير؛ فبدلا من أن يكون خيرها قليلا جديدا يكون نفعها كثيرا.
6
وقد يتم حذف العبارة، نفي الضد لإثبات الشيء أو إثبات الشيء بنفي الضد.
واستبدال الأسلوب العربي بالأسلوب اليوناني تقتضيه متطلبات الترجمة المعنوية؛ فاللغة أحد مستويات الحضارة، ويقتضي ذلك تحويل الجملة الإسمية إلى فعلية أو الفعلية إلى إسمية؛ فالترجمة ليست نقلا حرفيا بل إعادة كتابة مضمون النص بأسلوب عربي، طبقا لجماليات اللغة العربية وأساليب بيانها، والترجمة بطبيعتها أكثر من احتمال. وأمام المترجم عدة أساليب كلها ممكنة، يختار بينها طبقا لمنطق المترجم، وإحساسه باللغتين اليونانية والعربية، قد يكون الأسلوب أفصح، والتعبير أصدق، وطريقة كل لغة في العد والإحصاء واستعمال الأرقام.
7
ويصرح حنين بن إسحاق بهذا الوعي بمنطق الترجمة القائم على الحذف والإضافة، والاستبدال عند المؤلف والمترجم، قارئا نفسه في الآخر، ومحيلا الآخر إلى نفسه.
8
ويهدف الاستبدال إلى توضيح الصورة تركيزا أو تطويرا أو تغييرا للمستوى؛ فالحذف والإضافة، الاختصار والإطالة، التخصيص والتعميم، كل ذلك وسائل توضيح للصورة ووسائل للاستبدال؛ وقد يقتضي ذلك تغيير معاني الكلمات؛ قد تحذف الصورة إذا كانت أقوى من المعنى المطلوب التعبير عنه، وقد تقوى الصورة إذا كانت أضعف من المعنى المطلوب إيصاله. وعناصر الصورة متعددة، الزمان والمكان والشخص والبيئة المحيطة. وقد يحدث الاستبدال عن طريق القلب، وجدل النفي والإثبات. وقد يحدث أيضا تحول من العام إلى الخاص للتركيز، أو من الخاص إلى العام لتوسيع الدلالة.
9
ويعاد بناء الأمثلة أيضا دون إسقاطها كلية، أو استبدال أمثلة عربية بها، وكما هو الحال في الشرح والتخليص؛ فالترجمة نقل حضاري من بيئة بحرية إلى بيئة صحراوية، ومن ثقافة تقوم على مفهوم الآلهة إلى ثقافة تقوم على التوحيد، وهو في حد ذاته إبداع. الترجمة انتقال من بيئة إلى بيئة، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن تصور إلى تصور، وليس فقط مجرد نقل من لغة إلى لغة، ومن لفظ إلى لفظ. ومع ذلك تكثر الأمثلة وأسماء الأعلام والأماكن؛ مما يجعل التلخيص مراحل ضرورية بعد الترجمة؛ من أجل التركيز على الممثول وعلى المثل، وعلى الموضوع دون وسائل إيضاحه، وجعله مستقلا عن واقعه التاريخي المناخي الذي نشأ فيه. وقد يسقط المثل اليوناني كلية والاكتفاء بالممثول؛ لأن شرح ضرب المثل هو المجهول على المعلوم، فإذا كان المثل مجهولا فلا يمكن إحالة المجهول إليه.
10
وقد يسقط اسم العلم ويتحول إلى لقب، كخطوة في الانتقال من الخاص إلى العام، ومن المثل إلى الممثول، مثل إسقاط اسم الفيلسوف أرسطو أو غيره والاكتفاء بلقب الحكيم. وقد يكون المعنى الاشتقاقي للاسم أحد وسائل التحول من الخاص إلى العام، والانتقال من الخاص الوافد إلى العام، الذي ينطبق على الوافد والموروث على حد سواء.
11
وقد يتم إكمال المثل بطريقة متوازنة، فإذا تم ضرب المثل بالأب والابن والأم والصديق تحذف الصديقة وتوضع البنت بدلا منها. وقد يتم التخفيف من المثل وجعله أقصر وأبسط ما دام المعنى واضحا، ويمكن أخذ نصفه إذا كان النصف الآخر مجرد نفي للنفي. وقد يصل حد تخفيف الصورة إلى حذف أسطر بأكملها. وقد يتم ضبط الصورة وإحكامها حتى يكون المعنى متسقا مع المثل، إما لضبط المعنى أو لإحكام الصورة.
12
وتبلغ قمة النقل الحضاري في التوجهات الإسلامية للترجمة ؛ فبالرغم من أن المترجم نصراني ولسانه عربي، إلا أن ثقافته إسلامية تظهر في موضوع النص المترجم، وفي القيمة الإسلامية التي تظهر في عبارات الترجمة كالإيمان والحياء، والمصطلحات الإسلامية كالشرائع والأنبياء والتأويل والفقه والحسن والقبح والنسخ، وفي ترجمة «الآلهة» أو «الملائكة» نظرا لثقافة التوحيد السائدة؛ فقد كان المترجمون على علم بالعلوم الإسلامية ومصطلحاتها، وبالرغم من اختلاف البيئة الجغرافية للأحلام من مجتمع البحار إلى مجتمع الصحراء، فالموضوع نفسه تعبير الرؤيا، هو تفسير الأحلام المذكور في القرآن، والذي تدور حوله سورة يوسف، والذي كتب فيه أعلام الصحابة وهو ابن سيرين. كما أنه يخضع لتصور الحكماء القائم على التنزيه العقلي القديم، مما سهل تركيبه على التوحيد الإسلامي، بل تبدو الأحلام مرتبطة بالطبقات الاجتماعية، أحلام الفقراء في الخبز وأحلام الأغنياء في الثروة، كما هو الحال في حلم العزيز. كما أن الموضوع يقوم على التجارب الشخصية وعلى تحليلات العقل؛ مما يسهل ترجمته أي إعادة كتابته؛ فالعقل والتجربة هما أيضا دعامة الوحي. ويمثل بموضوعات الجنس بل والشذوذ الجنسي عند اليونان والعرب؛ فلا حياء في الدين. ومن غير المستبعد أن يكون هناك فصل أضيف من المترجم وربما من الناسخ على الترجمة العربية، حتى يبدو النص متفقا مع عقيدة التوحيد.
13
وتظهر بعض المصطلحات والموضوعات والقيم الإسلامية في الترجمة العربية، والتي قد تكون أحد بواعث الحذف والإضافة، وذلك مثل حذف لفظ العصبية الذي لم يكن تحول بعد إلى مفهوم. ويحذف لفظ هرمس ويكتفى بلفظ التمثال حرصا على بيئة التوحيد من الوثنيين، بينما تظهر مصطلحات أخرى مثل ملكية الأولاد والمماليك. وقد تحذف صورة بأكملها مثل الحصانين المقرونين على عجل؛ لأنها ليست صورة حضارية موروثة، واليونان لهم شريعة، كما أن نقد الأغنياء وتجمع رءوس الأموال توجه إسلامي.
14
وتظهر العادات العربية مثل قدر اللحية في قامة الرجال، ويضاف إلى أمثلة العرافين والملوك والأمراء والأنبياء. كما تظهر ألفاظ مثل التأويل والتفسير، وهي من الموضوعات الشائعة في الحضارة الإسلامية، وتعرض بعض الموضوعات وكأنها أبواب في الفقه الإسلامي مثل التزويج والتطليق، كما يظهر لفظا الحسن والقبح من ألفاظ المعتزلة. وتظهر المصطلحات المتقاربة مثل تقدمة المعرفة؛ أي التنبؤ بالمستقبل قبل وقوع الحدث، وهي إحدى وظائف النبوة بالمعنى القديم،
15
وكذلك يستعمل لفظ سنة والجهاد والأئمة والشارع والوالي والعجم، ترجمة للفظ بربري الذي لا يتحدث اليونانية، والصلاة والقضاة والمتكلمين والفرائض والأساطير.
16
وبالرغم من أن لفظ الكهنة ليس إسلاميا، إلا أن الثقافة النصرانية واليهودية جزء من الثقافة الإسلامية؛ لذلك يكثر ظهور لفظ الكهنة والكاهن والكاهنة عند اليونان أو المصريين، والهياكل، والمعجزات والآخرة والقيامة. ويتجاوز الأمر المصطلحات إلى التوجهات والوصايا بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والقضاء والقدر خيره وشره.
17
كما تظهر ألفاظ المدح والذم الكلامية، والتعبيرات القرآنية مثل الأضغاث في «أضغاث الأحلام»، والظاهر والباطن والمصاحف والألواح والكتاب والأحرف.
18
ويترجم لفظ هاديس بالجحيم أي بالمقابل الإسلامي، كما يتم الحديث عن النزول إلى الآخرة والصعود فيها يوم القيامة.
19
ويظهر الله كمفهوم رئيسي في الترجمة العربية؛ فالراوي عين الله، والآلهة بالجمع يتحول إلى إله بالمفرد، من ثقافة الشرك إلى ثقافة التوحيد، أو يحذف لفظ آلهة أو يترجم بلفظ الملائكة؛ فالله واحد والملائكة متعددة. وقد يعني الإله هنا المعنى المجازي؛ أي العظمة والسمو والعلو فيستعمل كصفة، وهو مقابل الاستعمال العربي للملاك كصفة مديح للأهمية. ويكون ذلك في عناوين الأبواب، والله مالك ومبدع، وهي صفات الله في الترجمة العربية، أكثر منها في النص اليوناني.
20
وتظهر ألقاب التعظيم الإسلامية لله مثل تعالى، تبارك وتعالى، عز وجل، الرب. وتظهر عبارات الإستعاذة بالله، من عند الله، وتقوى الله.
21
وتبدأ الترجمة كما هي العادة في التأليف بالبسملات والحمدلات، والصلوات على الرسول وأصحابه الكرام، سواء كان من المترجم أو من الناسخ أو من القارئ، أو من المالك أو البائع أو الشاري، ولكنها حتما ليست من مؤلف النص اليوناني. ويبدو أن الكتاب نفسه قد كان حصيلة تجربة نفسية عميقة، أو حلم فعلي كما هو الحال في رؤيا يوحنا،
22
وترك المترجم الدعوة للإله أبولون الحافظ لكل شيء، تاركا الإطار الحضاري اليوناني ومستبدلا به الإطار الحضاري الإسلامي.
23
ثامنا: المصطلحات الإسلامية
كان الهدف من الترجمة السريانية حسن فهم العقيدة ، والدفاع عنها، فكانت مهيئة من قبل لنفس الوظيفة التي ستؤديها الترجمة العربية، وهو نفس الهدف من الترجمة العربية.
وتظهر البيئة الدينية الجديدة في صياغة المصطلحات اليونانية؛ فلفظ هيبوكريتكوس الذي يظهر غير ما يبطن في اليونانية، هو المرائي أو المنافق وهي مصطلحات قرآنية، ولفظ مطراغرطوس فحل ربما تحريف كلمة كاهن وربما سريانية.
1
كما يظهر لفظ الله والنسك له تأكيدا على الدين الطبيعي.
2
ويترجم الله
Theos
الملك في السريانية والعربية، مع أن كليهما من الجواهر المفارقة عند الحكماء؛ تحرزا في البداية من استعمال الله كجنس.
3
وأحيانا يظهر الأسلوب العربي التلقائي في الترجمة «لعمري»، وتلقائية اللغة العربية تعبر عن الذات هي التي تفعل وليس الآخر، أو عليه السلام بدلا من عليه العفا في التعليق أو اللهم.
4
كما تظهر بعض المصطلحات المطابقة مثل النحو والبيان.
5
ويترجم الناموس باسم الشريعة، الناموس في النص والشريعة في التعليق،
6
ويظهر التعارض بين الطبيعة والسنة (القانون)، بعد أن استقر اللفظ على السنة دون الناموس. وأحيانا تذكر المعادلات في النص وفي الهوامش والقوانين والشرائع. وأحيانا تؤثر المصطلحات من الحضارة الإسلامية الجديدة مثل السنة في النص، ومن الألفاظ الفقهية التي خلت الترجمة تلقائية لفظ الإجماع.
7
وتظهر المصطلحات من البيئة الدينية الجديدة في الترجمة مثل المقاييس الفقهية والنشورية؛ فالقياس الفقهي مصطلح سيستقر فيما بعد، وكذلك القياس النشوري والأخروي من البعث والنشور.
8
كما يستعمل اللفظ الإسلامي آية بمعنى علامة، ولفظ المشايخ بمعنى العلماء والخلق الشريف بمعنى العادة، وكذلك يظهر اللفظ العربي القديم مثل النظم، كما استعمله عبد القاهر الجرجاني.
9
وفي التعليقات على الترجمات يتم احتواء البيئة اليونانية لغة، ثقافة ودينا، عندما يكون النص غير مفهوم بسبب وجود مثل خاص من البيئة اليونانية. ويتم إسقاطه والتعبير عن معناه، وكذلك استعمال لفظ الكاهن.
10
ويكشف تغيير الألفاظ المترجمة إلى ألفاظ التعليق عن البيئة الثقافية الجديدة، التي يتم التعليق فيها وهي بيئة الثقافة الإسلامية؛ فالمتكلمون في الترجمة هم الحكماء في التعليق، والمكروه في التعليق وهو لفظ أصولي، هي الصعوبة والنصب في التعليق، وهي ألفاظ عامة وليست اصطلاحية فقهية . والشر في الترجمة هو القبح في التعليق، اعتمادا على المصطلح الاعتزالي، والفقه في الترجمة هو الفهم في التعليق، تجنبا أيضا من اتباع مصطلحات الفقه في علوم الحكمة. والخوف في الترجمة هو الأذى في التعليق، وهي ألفاظ قرآنية. والأصول في الترجمة هي الحروف في التعليق تجنبا أيضا لعلم الأصول. والفهم في الترجمة هو الحكمة في التعليق
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، ولفظ مشهور في النص تحول في نسخة أخرى إلى مقبول، وهي مصطلحات ذائعة في المنطق وفي علم مصطلح الحديث. ويضرب المثل بأمثلة عربية بالإضافة إلى الأمثلة اليونانية، مثل الاسم المعروف بالألف واللام في الشاعر أوميروس أو الخليفة لملك الملوك،
11
ولا يكاد المترجم يسيطر على أعصابه عندما يجد نصا ينقله، مثل كون ذبح الأب حسنا في موضع من المواضع، فيعلق إسحاق «لعله يكون اسم الرجل الذي بنى مدينة طرابلس على واضع سنهتم هذه لصفة لعنة الله عليهم لقبولهم منه.» مما يكشف عن الموقف الحضاري للمترجم، الذي يرفض ذبح البشر آباء أو أبناء. وقد يأتي حكم القيمة دفاعا عن النفس؛ فإن قيل في النص اليوناني «مثل أن يقول النفس ليست في الجزء الفكري لكن في الإنسان «يكون التعليق» هذا الموضع قبيح، وكذلك هو في السرياني، ومعناه أنه إن وضع الشيء الذي يوجه فيه العلم كالإنسان، ولم يقل في النفس، وقال إنه في النفس ولم يذكر أنه في جزئها الفكري.»
12
فهذا حوار المترجم مع النص والأصلي نقاش في مضمون الفكر، وبداية التفكير على التفكير، وليس فقط نشأة المصطلح الفلسفي. هل دراسة الحواس كموضوع غالب في كتاب النفس، له صلة بالكيفيات الحسية في نظرية الوجود عند المتكلمين، التي تعبر عن مركزية الحواس في النص القرآني؟ وقد كان لعلم الكلام أثره في نشأة المصطلح الفلسفي في الجليل من القول؛ فالجليل ضد الدقيق وهو اصطلاح انتشر بين علماء الكلام في القرن الثالث وما بعده؛ الجليل هو العام والإجمالي والدقيق الخاص والتفصيلي.
13
وأحيانا يكون هناك نقل غير مباشر على المستوى الداخلي للحضارة، مثل أن شكر الحسن واجب على المحسن ظاهر لكل ذي عقل صحيح، وكأنها إشارة إلى الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة.
14
وقد تظهر الألفاظ القرآنية باعتبارها موروثا لفظيا عربيا جديدا مثل البروج. كما يظهر الجو الديني في المصطلحات مثل الكون العلوي ترجمة للآثار العلوية.
15
كما يتم استبدال لفظ الآلهة بصفة متأله في «مديح المتألهين»، والتحول من الموضوع إلى الذات تفاديا لتعدد الآلهة.
16
وتظهر بعض المصطلحات الكلامية، مثل «الجليل» في مقابل «الدقيق» من الكلام الجليل بمعنى العام، والدقيق بمعنى الخاص. كما تستعمل بعض الألفاظ من الفقه مثل الشريعة.
17
والتمثيل لفظ قرآني وكذلك التشبيه بصرف النظر عن الفروق الجزئية يبقى النقل الكلي؛ فالمهم العاشق والمعشوق وتركيبهما بين حضارتين طبقا لقواعد القياس الحضاري على النحو التالي:
وكذلك ترجمة المصطلح اليوناني
Sarinx
مزامير مثل مزامير داود، وتعني في الأصل أنبوبة ثم أطلقت على مزمار الرعاة. وإذا سقط اسم أخيل من الترجمة اكتفاء بالخيرية، وتحول إلى اسم آخر أجاتون، فإن ذلك يتم بباعث إسلامي، وهو بيان الصلة بين الأخلاق والشعر.
ولا يخلو تحديد المصطلح من إشارات إلى الباري عز وجل، كما يفعل الكندي في تحديد مصطلح الاستعمال بأن الإرادة علته، وهو عدة خاطرات أخرى وحتى لا ينتهي إلى الدور، ترجع كل هذه العلل إلى فعل الباري، الذي جعل المخلوقات عللا لبعضها البعض؛ فالله هو مسبب العلية المتبادلة في الكائنات، وهو موضوع كلامي بين الدين والعلم؛ الدين لأن الله علة، والعلم لوجود علية متبادلة بين الكائنات. ويستعمل بعض المصطلحات الكلامية مثل إرادة المخلوقات، بالرغم من تعريفها العقلي ودون الحديث عن الخالق.
ومع ذلك فلا توجد مصطلحات كثيرة، مستمدة من العلوم النقلية عند الكندي، ومعظمها يعتمد على التحليل العقلي الخالص، ولكن تعريف الفلسفة مع الفضائل الإنسانية وهي أكبر التعريفات، تبين كيفية تعشيق الوافد في الموروث، وقراءة الوافد من منظور الموروث؛ فهو يبدأ بالقدماء كتلة واحدة أي التراث القديم، تراث الغير دون تشخيصه عند حكماء اليونان. والتعريفات الستة تتبع منهجا إسلاميا أصوليا، بداية بالمعنى الاشتقاقي والمعنى الغائي (فعلها )، وصلتها بباقي العلوم (علتها)، ثم موضوعها (عينها). وهي مقاييس التعريف في المقدمات النظرية في علم أصول الدين وعلم أصول الفقه الإسلامي. أما التعريف الثاني من حيث فعلها، فهي التشبه بأفعال الله بقدر طاقة الإنسان؛ كي يكون كامل الفضيلة، فإنه تعريف إسلامي صرف بإدخال البعد الجديد، التشبه بأفعال الله في الأخلاق، الإيمان والعمل الصالح، وهو ما قاله الصوفية، إسقاط الأوصاف الإنسانية والتحلي بالصفات الإلهية في نظرية «الإنسان الكامل»، وما قاله المتكلمون في وصف الذات والصفات والأفعال، ومحاولة إعادتها للإنسان حقيقة وإبقائها في الله مجازا، وليس تعريفا أفلاطونيا أو رواقيا. والمعنى الثالث، الفلسفة تعلم الموت، التقاء بين أفلاطون والإسلام؛ فالحقيقة بعد الموت، والعالم الحسي ظاهر، وكلاهما يقتضي الكمال الخلقي في الدنيا؛ فلا فرق بين الوافد والموروث في تحليل العقل.
18
العقل هو مكان الالتقاء بين الاثنين، البداية بالقدماء هو بداية بالتراث القديم الوافد قبل التحول إلى الجديد؛ البداية بالنقل قبل الإبداع. أما التعريف السادس والأخير للفلسفة فهو نفس التعريف الثاني، مع تشكل كاذب أكثر عقلانية؛ فبعد أن كانت الفلسفة هي التشبه بأفعال الله بقدر طاقة الإنسان؛ أي أن يكون الإنسان كامل الفضيلة، أصبحت علم الأشياء الأبدية أنياتها ومائياتها وعللها بقدر طاقة الإنسان؛ وبالتالي يتوحد الدين والأخلاق في الميتافيزيقا. وتبدو العلاقة بين الباري والعالم مثل العلاقة بين النفس والبدن، المركز بالمحيط، القمة بالقاعدة، الجوهر بالعرض طبقا للثنائية العقلية اليونانية، والتي تحولت إلى إيمان عقلي عند الحكماء، والإشارة إلى الباري عز وجل، وكشف عن مضمون التشكل الكاذب صراحة ودون الصورة العقلية.
أما تعريف الفلسفة بأنها معرفة الإنسان لنفسه، فليس من سقراط؛ نظرا لشهرته وأولويته التاريخية وترويجا للغرب المسيحي في أصوله الأولى، بل من القرآن
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، ومن حديث الرسول الذي يرويه الصوفية «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، سواء كان صحيحا أو موضوعا؛ فالوضع يدل على صحة الفكرة من حيث المتن، ثم خلق سندها شعوريا، وسار في أثره المصلحون المعاصرون. ويمدح الكندي هذا التعريف بأنه شريف بعيد الغور، اعترافا بحق الأمم في اكتشاف التصورات والحقائق الإسلامية قبل الوحي . ويستدل الكندي عليه ببرهان شرف النفس، الذي يقوم على القسمة العقلية. وينتهي إلى أن الإنسان عالم أصغر، كما انتهى الحكماء وقرر إخوان الصفا فيما بعد. ولا يهم إذا كانت هذه التعريفات الأربعة أو الستة معروفة في العصر الوسيط في القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد؛ أي قبل الكندي بأربعة قرون في كتب التفاسير من الشروح الفلسفية، وكأن الكندي فيلسوف مسيحي يستقي معلوماته من الكتب المقررة، إلا إذا كان غرض صاحب هذا الحكم الفخر والزهو بالاطلاع على الفلسفة الغربية المسيحية، وعلى أمهات الكتب المدرسية في أصولها الألمانية.
19
وكما تترجم بعض المصطلحات اليونانية بمصطلحات إسلامية، كذلك تترجم بعض المصطلحات الإسلامية بمصطلحات يونانية، جدلا متبادلا بين اللفظ والمعنى في كل من اللغتين اليونانية والعربية؛ مثال ذلك تعريف مصطلحات الملائكية والإنسانية والبهيمية وهي مصطلحات إسلامية، تحديد الملائكية بالحياة أو النطق والإنسانية بالحياة والنطق والموت، والبهيمية بالحياة والموت؛ فالحياة جامع بين المصطلحات الثلاثة، والنطق جامع بين الملائكية والإنسانية، والموت جامع بين الإنسانية والبهيمية؛ فالإنسان هو الذي يتصف بثلاث صفات تجمعه بين الملائكية والبهيمية.
وإذا تضمنت رسالة الكندي واحدا وتسعين مصطلحا، فإن ثلثها تقريبا من الوافد؛
20
من أجل استعماله للتعبير عن الموروث طبقا لظاهرة التشكل الكاذب، والثلثان من الموروث من القرآن والسنة، وعلم الكلام كألفاظ وإن لم تتحول بعد كمصطلحات؛ فبين الوافد والموروث هناك ألفاظ مشتركة، في الوافد مصطلحات وفي الموروث ألفاظ، والمسافة بين الاثنين ليست بعيدة؛ فالحكم بأن المصطلح الفلسفي يوناني حكم خاطئ، ينتقل من الحكم على الجزء إلى الحكم على الكل. هناك ألفاظ مشتركة أصلها قرآني مما يدل على أن نشأة المصطلحات واردة في كل لغة ابتداء من اللغة العادية،
21
بل إن حدود باقي المصطلحات العقلية الخالصة، ليس فيها أي خروج على التصور الإسلامي، مثل العلة الأولى المبدعة والفاعلة والمتممة لكل غير المتحركة. ولا حرج من قبول بعض التعريفات العامة، التي تعبر عن مستوى العصر الثقافي، والمعاني العرفية التي لا تعارض تصورا إسلاميا، مثل تعريف النفس بأنها غاية جرم طبيعي ذي آلة فاعل للحياة، أو استكمال أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة.
22
والبداية بتحديد الألفاظ توجه إسلامي، ظهر في مباحث الألفاظ في علم الأصول. وهناك بعض الألفاظ توحي بأنها وافدة، مع أنها أيضا موروثة، ولكن نظرا لشيوع الوافد وانعزال الموروث، بدت وكأنها وافدة وذلك مثل مصطلح قضية في المنطق الذي ليس ترجمة للفظ اليوناني، بل مشتق من فعل قضى يقضي قاض قضية، ولها دلالة فقهية أكثر منها دلالة منطقية.
23
وعند التعريف هناك حرص على التصور الديني للعالم، مثل تعريف الفلك بأنه ليس أزليا دخولا في معركة قدم العالم وخلقه، وتعريف الإرادة على أساس رأي المتكلمين فيها، كذلك تعريف الوقت اعتمادا على المتكلمين، الزمان الإنساني للفعل في مقابل الزمان الكوني، الدهر، وكذلك التفريقات الدقيقة المنطقية بين الكل والجميع والبعض والجزء، مستمدة من متكلمي المعتزلة المعاصرين للكندي، بل إن بعض المصطلحات مشتركة بين الفلسفة مثل العلم والفلك والشك واليقين.
ويذكر ابن سينا في رسالة «الحدود»، أن الله لا حد له ولا رسم ولا جنس، ولا عقل ولا تركيب له، كما هو الحال في اللاهوت السلبي، وينتهي بالعبارات الإيمانية.
24
ويذكر الغزالي في الحدود المفصلة في الإلهيات خمسة عشر حدا، تدل على تداخل المصطلحات الدينية والفلسفية واجتماع النقل والعقل.
25
ويشير إلى معنى العقل عند المتكلمين والفلاسفة والجمهور، وأن الباري لا حد ولا رسم ولا جنس ولا فصل له. ووصف الباري بأنه المبدأ
القدم.
ويعتمد الآمدي كما هو واضح من عنوان كتابه، «الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»، على الحكماء والمتكلمين معا، على الوافد والموروث وربما على الموروث وحده، بعد أن أصبح الحكماء حكماء المسلمين الذين ورثوا حكماء اليونان، بالرغم من غلبة الحكمة على الكلام؛ نظرا لها لاحتواء الحكمة للكلام في العصور المتأخرة. وتظهر الموضوعات الدينية في تعريف المصطلحات، مثل تعريف العالم بأنه غير الباري سبحانه وتعالى؛ فالله حد منطقي سالب، وضرب المثل بتقدم النبي على التقدم بالشرف، وتعريف النبوة بقول الله: إنك رسولي بالرغم مما في ذلك من دور، معرفة الله عن طريق النبوة، ومعرفة النبوة عن طريق الله، وتظهر موضوعات السعادة والشقاوة والحشر والإعادة داخل الحدود المنطقية.
26
ويتضح التحول من الوافد إلى الموروث كلية في كتاب «التعريفات» للجرجاني (816ه)، معجم شامل للعلوم الإسلامية كلها النقلية أكثر منها العقلية، لشرح الألفاظ المصطلح عليها بين الفقهاء والمتكلمين والنحاة والصرفيين والمفسرين وغيرهم، مرتبة ترتيبا أبجديا.
27
ويضم 2006 مصطلحات، المعرب منها اثنان فحسب أسطقس وهيولى. وتدخل أسماء الفرق الكلامية (73) مع المصطلحات حتى تتفق مع حديث الفرقة الناجية، الشخص مع الموضوع، ثم يأتي الفقه والتصوف كما هو الحال في العصور المتأخرة على حساب المنطق والفلسفة، خاصة بعد سيادته الأشعرية والشافعية، ويعتبر أهل السنة أشعرية جبرية وسطية. كما تسود علوم اللغة، النحو والصرف والشعر عودا إلى ثقافة العرب الأولى، وتشمل اللغة الاشتقاق. ويتصدر حديث «إن من البيان لسحرا»، وكلام الله على لسان النبي، وشرح الحديث القدسي أن المعنى من الله، واللفظ من الرسول، في حين أن القرآن والمعنى واللفظ من الله، والحديث المعنى واللفظ من الرسول، والاستشهاد بالقرآن على أوزان الشعر، وتفسير الشعر بالقرآن، ومن الفقهاء الصوفيين والعلماء، ذكر ما يربو على الثلاثين في مقدمتهم ابن عباس.
28
ويضم إلى التعريفات اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات الملكية لابن عربي، وهو تحول آخر من الوافد إلى الموروث؛
29
فلأول مرة يصبح المعجم فقط للموروث دون الوافد، والمؤلف واحد بل ولكتاب واحد، مؤلف صاحبه لا يذكر إلا علما واحدا هو علي بن أبي طالب، وآية قرآنية واحدة
كل يوم هو في شأن ، وطريقة صوفية واحدة، الملامتية، تعريف للأمناء. وتبدأ كل المدونات بالبسملات والحمدلات وتنتهي بالصلوات؛ فهي جزء من التأليف الإسلامي العام.
تاسعا: تدوين المصطلحات
ونظرا لأهمية المصطلح الفلسفي تحول إلى موضوع لعلوم الحكمة، تم فيه التدوين من الفلاسفة أنفسهم لضبط مصطلحاتهم دون تركها لاجتهاد النقلة والشراح.
1
ودون الفلاسفة حدودهم ورسومهم وتعريفاتهم ومصطلحاتهم، وجمع أهمها أحد الباحثين المعاصرين؛ مما يدل على تخلق الموضوع في الوعي الحضاري القديم والحديث، طبقا لمخطوط قديم في قابل.
2
ولم يدون الفارابي رسالة في الموضوع، مع أن كل فكره في هذا الإطار نظرا لبداية الفلسفة لديه بعد الكندي؛
3
فالمصطلح الفلسفي جزء من الفلسفة عند الخوارزمي؛ نظرا لكثرة استعمال المصطلحات في الفلسفة والمنطق.
4
وتتشابه المدونات فيما بينها أكثر مما تختلف، مما يدل على وحدة الموضوع واستقراء اللغة الفلسفية، وأن تطور المصطلحات لا يكشف تحولا جذريا؛ فهي أقرب إلى التواصل منها إلى الانقطاع قبيل المعاجم والقواميس الحديثة، بعد تقليدها للمعاجم والقواميس الأوروبية، وحيرتها بين مادة القدماء ومادة المحدثين، وأولوية الوافد الغربي الحديث على الموروث القديم، على عكس ما هو كائن سائد عند القدماء من أولوية الموروث على الوافد، والقدرة على تمثل الوافد داخل الموروث.
5
كتب ابن سينا رسالة «الحدود» بناء على طلب أصدقائه، الذين سألوه أن يملي عليهم حدود الأشياء، مع أنه متعذر على البشر حدا أو رسما، ويحتاج إلى جرأة وثقة تمنعه من الجهل. فأصروا على أن يدلهم على مواطن الزلل في الحدود. وبالرغم من قصوره فإنه أقدم على الكتابة مستعينا بواهب العقل.
6
ودوافع الآمدي لتأليف «الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكمة الحكماء والمتكلمين»، كما هو الحال في العصور المتأخرة، هو خدمة السلطان بعد توقف الدافع العلمي.
7
ودافع التهانوي هو رفع الاشتباه عن الاصطلاح، وإلا وقع سوء الفهم، ومادته الرجوع إلى الكتب والمصادر؛ لذلك غلب عليه الاقتباس من الشروح والمتون والتخريجات، كما هو متبع في عصر الشروح والملخصات، وعدم وجود كتاب جامع لذلك.
وابن خلدون وحده هو الذي لا يجعل المصطلحات جزءا من العلم «الاصطلاح ليس من العلم»، ويجعلها أقرب إلى مشاهير العلماء؛ فلو كانت المصطلحات من العلم لكانت واحدة. تختلف المصطلحات من عالم لآخر، كما تختلف بين المتقدمين والمتأخرين، كما هو واضح في علم الأصول. ويعتبر المحدثون المصطلحات أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى العلم والتاريخ، وإلى الفكر منها إلى الرؤية العلمية للعالم. وهو تصور حديث يفصل بين لغة العلم وبناء العلم، والحقيقة أن لغة العلم جزء من بنائه، وأن العلم لغة. (1)
فأول نص في المصطلحات هو «الحدود» لجابر بن حيان، يتعلق بنشأة العلوم، وكلها عربية، ولا يوجد أي منها معرب ، ومع ذلك بين تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بين الشرعي والعقلي؛ أي المنقول والمعقول، الطبيعي والروحاني، الفلسفي والإلهي، الحروف والمعاني، وكلاهما يخضع لثنائية واحدة في العلم أو الدين: نوراني وظلماني، روحاني وطبيعي، باطن وظاهر، دين ودنيا، شريف ووضيع، جواني وبراني، فاعل ومنفعل، حار وبارد، صفة لنفسه وصفة لغيره، جمعا بين الطبيعة والطب والكيمياء، والدين أقله. وتخلو من أي إشارة إلى أسماء أعلام من الوافد أو الموروث.
8
والرسالة إبداع فلسفي خالص، تقوم على درجة عالية من التنظير والتجريد مثل رسالة الكندي. تحدد الفلسفة بأنها علم بالأمور الطبيعية وعللها القريبة، فالفلسفة علم طبيعي وليست أخلاقا أو إلهيات أو إشراقيات. ويتم تحديد المصطلحات على الاتساع دون إدخاله في علم بعينه؛ نظرا لوحدة الفكر ونسق العلوم؛ فهناك لغة واحدة للطبيعة ولما بعد الطبيعة. والأسلوب عربي إنساني موجه إلى القارئ كعادة الحكماء «انظر يا أخي».
9 (2)
ومن أجل ضبط المصطلح الفلسفي دون الكندي «رسالة في حدود الأشياء ورسومها»، والتي تعتبر أول محاولة لإنشاء معجم للمصطلحات الفلسفية، حتى القواميس المدرسية والجامعية والمجمعية المعاصرة،
10
الغاية منها توضيح معاني المصطلحات وإحكامها حتى لا يقع اللبس في استخدامها. وهي الألفاظ التي يكثر استعمالها في كتب الفلاسفة، وتعتمد في معظم الأحيان على التحليل العقلي الخالص، دون وافد أو موروث أو ذكر أعمال أو أعلام، مع درجة عالية من التنظير والتجريد، بالرغم مما يبدو على المادة من تجميع أقرب منها إلى النحت، ويتم الحديث عن القدماء بطريقة لا شخصية، وكأنهم تراث ماض، وعن الحكماء دون تمييز بين وافد وموروث، ودون استقرار على لفظ الحكماء أو الفلاسفة للوافد أو للموروث. ويدل العنوان على الدقة في التمييز بين الحد والرسم؛ الحد تعريف تام بالجنس القريب والفصل المميز، والرسم تعريف الشيء بالجنس والعرض المميز، أكبرها حد الفلسفة والفضائل الإنسانية. وتتكرر بعض المصطلحات مثل المحبة والغيرية والطبيعية والإرادة والعمل؛ مما يدل على أن المصطلح في بدايته كان مجرد لغة الكلام. ولا يستقر ترتيب المصطلحات موضوعيا أو أبجديا كما هو الحال في المعاجم الحديثة. ويمكن تجميع المصطلحات وإعادة تبويبها طبقا للعلوم، المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات، خاصة أنه أول من قسم الحكمة إلى علم الربوبية والعلم الرياضي والعلم الطبيعي. وبعض المصطلحات من نفس الاشتقاق وبعضها متضاد.
11
وبعض الألفاظ لم تعد مستعملة مثل الذهل، والبعض الآخر غير فلسفي مثل الضحك. وبعض الألفاظ المشتقة تجعل مصطلحات المنطق أقرب إلى اللغة العادية مثل الصدق والصديق، والوهم والتوهم، والإرادة وإرادة المخلوق. والبعض منها غير فلسفي بل عام مثل الكتاب بالرغم من دلالته على الوجود في الأعيان أو الأذهان أو اللفظ أو الخط.
12 (3)
أما رسالة «الحدود الفلسفية» للخوارزمي (387ه) فإنها تعطي مجالا أكثر للتعريب على الترجمة،
13
ومعظم التعريب لأسماء كتب منطق أرسطو. وكل التعريب يوناني باستثناء مرتين: سرياني الكيان أي الطبع وبالسريانية شمع كيانا أي سمع الكيان، ومليوتا كما هو الحال عند جابر بن حيان. ولا يعتمد الخوارزمي على أسماء الأعلام، باستثناء أرسطو الذي ذكر مرتين وابن المقفع مرة واحدة. وهناك إحساس بالتقابل بين الوافد والموروث، بين منطق اليونان ولغة العرب، كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين السيرافي ومتى بن يونس حول النحو والمنطق.
14
ويظهر هذا التقابل بين ثقافة الآخر وثقافة الأنا في كثير من العبارات مثل علم الأمور الإلهية، ويسمى باليونانية ثالوجيا، وهذا العلم، المنطق، يسمى باليونانية لوقيا، بالسريانية مليلوثا، وبالعربية المنطق، ومعنى قاطيغورياس باليونانية ويقع على المقولات. وأحيانا يظهر الوافد اليوناني بمفرده،
15
فالموضوع والمحول في المنطق هما المبتدأ والخبر في النحو.
16
والكم عرض في المنطق واسم ناقص في النحو، والكلية في المنطق هي الفعل في النحو، والرباطات في المنطق هي حروف المعاني أو الأدوات في النحو، والخوالف في المنطق هي الأسماء المبهمة والمضمرة وإبدال الأسماء في النحو. (4)
ورسالة ابن سينا (428ه) «في الحدود» أقرب إلى مقال في فلسفة المصطلحات قبل القائمة الأبجدية للمصطلحات؛
17
فموضوع الحدود جزء من صناعة المنطق، والحد الحقيقي يكون دالا على ماهية الشيء بالتمييز الذاتي، وبالجنس القريب والفصل البعيد، ويفرق بين الحد التام والحد الناقص، ويبين عيوب الحدود الناقصة ويستعمل الأسماء الخمسة والقوة والفعل في المنطق. وينقد فرفوريوس لظنه أن الجنس يدخل في النوع، وأن النوع يدخل في الجنس. ويذكر الحكيم ويعتمد عليه في كتاب طوبيقا، وفي استعمال اسم الجوهر، كما يذكر كتاب النفس وكتاب البرهان. ويتحدث عن الفلاسفة القدماء والحكماء والفيلسوف الحكيم. (5)
ويذكر الغزالي (505ه) في الحدود 76 مصطلحا في الحد الأول من «معيار العلم». ويمكن قراءته قراءة مستقلة كما لاحظ الرازي، بالرغم من عدم جواز أخذ جزء من معيار العلم، وجعله رسالة خاصة في الحدود؛ فالحدود هنا جزء من معيار العلم؛ أي من المنطق وليست موضوعا مستقلا. وتغلب عليها المصطلحات الطبيعية ثم الإلهية ثم الرياضية.
18
ولا يذكر من الوافد إلا أرسطو، ومن الموروث إلا الباقلاني في تحديد معاني العقل. ويشير إلى كتاب النفس مرتين وإلى البرهان مرة واحدة. ويقسم الغزالي قوانين الحدود إلى كلية ومفصلة، وفي القوانين الكلية يتحدث عن الحاجة إلى الحد، مادته وصورته، وترتيب طلبه بالسؤال، وأقسامه، وطرق تحصيله، ومثارات الغلط فيه واستعصاره. وتتوزع الحدود المفصلة بين الإلهيات والطبيعيات والرياضيات، بالرغم من صعوبة الفصل بينها نظرا لدخول بعض المصطلحات الرياضية في الإلهيات والطبيعيات. مطلب الإلهيات على الإطلاق، ومطلب الرياضيات عقلي خالص، ومطلب الطبيعيات حسي، وأطول الحدود حد العقل. ويحيل الغزالي إلى «تهافت الفلاسفة» وخلوه من الرياضيات. (6)
أما «الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»، للآمدي (631ه)،
19
فهو أكبر كتب المصطلحات، كتاب وليس رسالة، يتكون من فصلين: الأول الألفاظ المشهورة وهو الأصغر، والثاني شرح معانيها وهو الأكبر. كما يدل العنوان على بداية عصر الشروح والملخصات واجترار الحضارة لذاتها، والعيش على نقل الذاكرة بعد توقف العقل عن الإبداع. وتغلب مصطلحات المنطق على الحكمة، مع تفصيل القياسات وكأنه كتاب في المنطق، وتتشابك الرياضيات مع الطبيعيات. ويغلب عليه الطابع المنطقي المجرد، لا يحيل إلى وافد أو موروث. (7)
وكتاب «التعريفات» للجرجاني (816ه) نموذج التحول كلية من الوافد إلى الموروث، واختفاء اليونان لحساب القرآن. ويمثل كتاب المصطلحات بعد فترة الانهيار في عصر الشروح والملخصات، مصادره العقائد وليست كتب الحكمة بالرغم من الاعتراف بأنها مأخوذة من كتب القوم، ومرتبة ترتيبا أبجديا إيذانا بالمعاجم والقواميس الحديثة ، معظمها تجميع أقوال مأخوذة عن العلماء والفقهاء والمتكلمين والصوفية، وعلماء النحو والصرف والبلاغة. ولا يظهر أي وافد باستثناء تعريف النفس بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي.
20
وفي تعريف المصطلحات يبين الجرجاني من أي علم. يوافق على بعضها ويختلف مع البعض الآخر، ويكون محايدا مع مجموعة ثالثة. يحكم على بعض التعريفات بالزيادة وعلى البعض الآخر بالنقصان. (8)
وقد وضع ابن عربي (638ه) لنفسه «معجم اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية». ولأول مرة يضع مؤلف معجما لكتاب بمفرده من تأليفه؛ مما يدل على أن معاجم المصطلحات موضوع فلسفي وليس تاريخيا. المصطلحات عربية ولا يوجد مصطلح واحد معرب. ولا يذكر من أسماء الأعلام إلا علي بن أبي طالب بمناسبة الجبروت. وتذكر طريقة صوفية واحدة هي الملامتية تعريفا للأمناء، وآية قرآنية واحدة
كل يوم هو في شأن .
21 (9)
ويعتبر «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (القرن الثاني عشر)، آخر معجم ما زال يمثل رؤية لتدوين المصطلح الفلسفي.
22
وهو أشبه بدائرة معارف مكونة من مقالات مطولة، وليس مجرد معجم مصطلحات للتعريفات، وهي مرتبة ترتيبا أبجديا كما هو الحال في المعاجم الحديثة. وتضطرب المقدمة «في بيان العلوم المدونة وما يتعلق بها» فمدخلها تقسيم العلوم، ويختلف عرض الأقسام إجمالا وتفصيلا. وتتدخل موضوعات أخرى داخل تقسيم العلوم مثل أجزاء العلوم، الموضوع والمسائل والمبادئ مع عرض الفرق بين المتقدمين والمتأخرين نظرا لتطور العلوم، ثم تعرض الرءوس الثمانية للحديث عن كل علم: الغاية والمنفعة، والسمة (اسم الكتاب) والمؤلف، والعلم، والمرتبة، والقسمة، والأنحاء التعليمية (التقسيم والتحليل)، والتحديد والبرهان، ويعرض أحد جانبي القسمة دون الآخر؛ فتعرض العلوم العربية دون غير العربية، والشرعية دون غير الشرعية، والحقيقية دون غير الحقيقية. ويتم الاعتماد على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. (10)
وخصص صدر الدين الشيرازي (1050ه) في آخر الجزء الثالث من السفر الأول من «الحكمة المتعالية»، خاتمة «في شرح الألفاظ المستعملة في هذا الكتاب»، وكما وضع ابن عربي لنفسه مصطلحات «الفتوحات المكية». وتضم خمسا وعشرين مصطلحا، كلها من الموروث في نظرية المعرفة. لا تعتمد إلا على الداخل مثل الرازي صاحب المباحث الشرقية، والشيخ الرئيس والمعتزلة من المتكلمين، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
23
وهناك تجميع من مصادر أخرى غير معلنة، مثل الفارابي في رسالة «معاني العقل»، لتحديد الشيرازي معاني العقل المختلفة.
24
ويظن أنها مترادفة مع أنها متمايزة؛ فالغاية التمييز بين معاني المصطلحات المتشابهة.
25
ويتكرر لفظ الذكر مرتين: الأولى كصورة محفوظة والثانية كصورة زائلة. وقد يذكر في تحديد كل لفظ عدة آراء واعتراضات وردود؛ فالمصطلح عليه خلاف في المعنى حتى بعد استقرائه كلفظ.
26 (11)
وتنتهي معاجم المصطلحات الفلسفية في العصور المتأخرة بغياب الرؤية والهدف فكان المصير. مثال ذلك «الكليات» لأبي البقاء (1094ه). وهو معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبجدي الترتيب، يطغى فيه الموروث كلية على الوافد، فهارس ألفاظ وآيات قرآنية وأحاديث نبوية، وأبيات شعر عودا إلى أصول الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده، الشعر واللغة، والقرآن والحديث، وكأن الوافد اليوناني أصبح في الماضي البعيد، والحضارة الإسلامية في حاجة إلى رؤية جديدة، ودم جديد، ووافد جديد.
27 (12)
ومثل ذلك «جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب بدستور العلماء» للقاضي عبد الرسول في القرن الثاني عشر. وهو معجم أبجدي مثل الكليات، يغلب عليه السجع والتكلف، وخال من أي مقدمة نظرية مثل الكليات، بالرغم من الإعلان عن الجمع بين العلوم العقلية والنقلية، وإنه مكتوب ضد المتعصبين «مصونا عن نظر المتعصبين المتفلسفين، محفوظا عن مطالعة المتغلبين المتعصبين». كما أنه يخلو من الفهارس الحديثة للمصطلحات أو لأسماء الكلام. وواضح أيضا أن الدافع الحيوي الأول قد توقف، وأن الوافد القديم من العرب أو الشرق قد طواه النسيان.
28 (13)
وفي «مصطلحات الفلسفة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية» يبدو أثر الوافد الغربي الحديث على الموروث القديم؛ فاللغات المعتمدة هي اللغات الأوروبية الثلاث الحديثة، والأولوية للفرنسية على الإنجليزية والعربية؛ فالترتيب الأبجدي للمصطلحات فرنسي والمعجم كله من اليسار إلى اليمين، والاعتماد الرئيسي على معجم لالاند، وكلها ترجمة أكثر منها صياغات تعريفات جديدة، مع الاستفادة على استيحاء من المصطلحات العربية القديمة عند المترجمين والمؤلفين، واستعملت المذاهب المشتقة من أسماء الأعلام كمصطلحات، والشرق لا يتجاوز تمثيله بمصطلحين، مما يبين التوجه الغربي شبه الكلي للمعجم.
29 (14)
ثم ظهر وافد غربي حديث، فازدوجت الثقافة بين موروث قديم احتوى الوافد القديم، ووافد حديث من الغرب، فغلب الوافد الحديث على الموروث القديم، دون أخذ اللحظة الأولى كنموذج لاسترشاد، فظهرت مجموعة من القواميس والمعاجم المدرسية والجامعية والمجمعية والحكومية، مهمتها إعطاء المعلومات التجميعية من القدماء والمحدثين، دون رؤية أو استئناف للدور الحضاري الأول، فما أصدرته المؤسسات مثل «المعجم الفلسفي».
30
وقد قام على مبادئ عامة ستة:
الأول: الاقتصار على المصطلحات دون العلوم، باستثناء تلك التي تحولت إلى أسماء مذاهب كالأفلاطونية والأرسطية. والثاني: الاقتصار على الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق والجمال دون علم النفس والاجتماع، فصلا بين الفلسفة والعلوم الإنسانية. والثالث: الجمع بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية، القديمة والوسطى والحديثة دون فسلفات الشرق، مما يدل على بداية إيثار الجناح الغربي على الجناح الشرقي في الوعي التاريخي، على عكس توازنهما في الوعي التاريخي القديم، باستثناء بعض مصطلحات الفلسفة الهندية المؤثرة في تاريخ الفكر الإنساني الإسلامي في لغتها الأصلية؛ نظرا لبداية ظهور الشرق خاصة الهند أثناء حركة التحرر الوطني المعاصرة. والرابع: إحياء المصطلح العربي القديم، إلا إذا توارى أمام الحديث، واستعمال الحديث الذي أصبح شائعا ومتناولا. ولا يتم اللجوء إلى التعريب إلا في حدود ضئيلة، وبمادة من المصطلحات الغربية. والخامس: وضع المقابل الفرنسي والإنجليزي بعد أن حلت اللغتان الحديثتان محل اليونانية واللاتينية القديمة، ووضع لفظ عربي واحد من مقابل الأجنبي. والسادس: التركيز وعرض الأفكار الرئيسية دون الإسهاب والتطويل على عكس إسهاب القدماء.
31 (15)
وكتب المحدثون أيضا مجموعة أو أفرادا مثل «المعجم الفلسفي»، نقلا لبعض المعاجم الفلسفية الغربية المبسطة بالإضافة إلى تجميع من معاجم أخرى. ويتبع الترتيب الأبجدي العربي، ويضع أمام المصطلحات المرادفات الفرنسية والإنجليزية، مع فهارس إنجليزية وفرنسية في النهاية دون العربية، ودون ذكر للأصل اليوناني أو اللاتيني، ويفرق بين المصطلح واسم العلم، ويذكر مع المصطلح أهم فلسفة دارت حوله. كما يفرق بين مصطلحات الفلسفة وعلم النفس واللغة العامة، ويدعم المصطلح بمجموعة من النصوص من القدماء ومن المحدثين، والمصادر، وفي النهاية كما هو الحال في دوائر المعارف. ويغلب الوافد الغربي على الوافد الشرقي فيه؛ مما يدل على ضعف حضور الجناح الشرقي للفكر الإسلامي المعاصر في الوعي التاريخي للمؤلفين لمسيحية البعض وغربية البعض الآخر. وبالرغم من صدوره في عصر التحرر الوطني وريح الشرق ومؤتمر باندونج، بدأ التعريب من الوافد الغربي الحديث، بعد أن كان قد انتهى تماما مع الوافد اليوناني القديم.
32 (16)
وكثرت مثل هذه القواميس المحدثة حتى أصبحت سباقا على العلم وربما التعالم، ومزاحمة في النشر، وسعيا وراء الرزق وسدا للفراغ الاصطلاحي في المدارس والجامعات، بدعوى الموضوعية والحياد، وجمع المادة التاريخية، والحقيقة بسبب غياب الرؤية الحضارية عند المحدثين؛ ومن ثم ازدوجت الأزمة، أزمة نهاية اللحظة الحضارية الأولى مع الوافد اليوناني والشرقي، وعدم بداية اللحظة الحضارية الثانية مع الوافد الغربي وغياب الشرقي.
33
الفصل الثالث: التعليق
أولا: من الترجمة إلى التعليق
(1) التعليق وحصار النص
والتعليق بداية الخروج على النقل المعنوي إلى التأليف، إعادة إنتاج النص المنقول، والاستقلال عن النص، وبداية القراءة. التعليق مراجعة للنص، وتحويله من معيار إلى معار، ومن مقياس إلى مقيس، ومن ذات إلى موضوع ومن مستوى الندية، ندية المنقول والناقل، إلى مستوى التفوق، تفوق الناقل على المنقول. التعليق تحرر من النص الأول، بعد استنفاذ أغراض النقل وهو المعرفة، والانتقال من المعرفة إلى النقد. التعليق بيان وشرح للترجمة وتوجه بالنسبة إلى النص الأصلي ولو احتمالا.
1
قد يعطي التعليق مثلا توضيحيا لشرح النص، وقد يشرح معنى النص ويتساءل حوله مستفهما، قد يشرح معناه ويعطي احتمالات أخرى،
2
التعليق بداية الشرح، وبيان المعنى والغرض والقصد. هو جزء لا يتجزأ من النص كموقف حضاري، وإن لم يكن جزءا من النص كوثيقة تاريخية. التعليقات بداية التفكير؛ وبالتالي فهي أكثر دلالة من النص الأصلي على الموقف الحضاري. في التعليق هناك إحساس باللغة، وتوجه نحوه، وذكر للفيلسوف باتجاهه نحو المعنى. الشرح هو الانتقال من المعنى إلى اللفظ، وتحويل المعاني المفهومة إلى لغة عربية سليمة وليست مترجمة؛ لذلك كانت الترجمة المعنوية خطوة نحو التعليق . وعندما يكون النص المترجم واضحا، منقولا بأسلوب عربي سليم، لا تظهر الحاجة إلى التعليق ، إلا بقدر ضئيل، قد لا يتجاوز عبارتين أو ثلاثة أو فقرة صغيرة.
3
وإذا كان النص خصبا فإنه تكون له عدة تعليقات وشروح مثل الشروح الأربعة لكتاب الطبيعة.
4
التعليق بداية الشرح والتلخيص، الأول بالإضافة والثاني بالحذف. والفروق بين التعليق والشرح، أن التعليق من المترجم، والشرح والتلخيص من الشارح والملخص. التعليق جزء من الترجمة المعنوية، في حين أن الشرح والتلخيص نوعان أدبيان مستقلان. في التعليق الترجمة هي الأساس، والتعليق هو الفرع، وفي الشرح والتلخيص، الشرح والتلخيص هما الأساس، والترجمة هو الفرع. التعليق داخل في الترجمة، وجزء من الترجمة المعنوية، أما الشرح والتلخيص فخارجان عن الترجمة منفصلان عنها. مهمة التعليقات محاصرة النص من الخارج في التعليقات الصغيرة في الهوامش كحراس للأطراف، ومهمة الترجمة خلق النص في الداخل والحفاظ على المركز.
قد يكون التعليق سابقا على النص، وكأن الترجمة هي التي تشرح التعليق. التعليق هنا تلخيص للنص والتعبير عنه كرأس موضوع؛ فيصبح التعليق هو النص المشروح والترجمة هي النص الشارح.
قد يكون التعليق أوضح من النص تعبيرا عن النص المترجم حرفيا، بعبارات عربية أكثر سهولة ويسرا من حيث فن الكتابة، فإذا كانت الترجمة حرفية بغية للدقة، فإن التعليق معنوي حرصا على فهم المعنى.
5
ويستعان على ذلك بضرب الأمثلة. ويغلب على التعليق القول الشارح، طابع الأمالي والمحاضرات والسماع، حتى تتحقق الغاية من الترجمة وهي إيصال المعاني، خاصة وأن النص ذاته كان سماعا؛ أي محاضرات غايتها الإفهام وإيصال المعاني.
6
وقد يكون فقرة شارحة لعبارة واحدة أو لفقرة واحدة، أو لإحدى مقالات الكتاب أو لمجموع الكتاب كله. قد يكون التعليق أكثر إيصالا للمعنى من النص؛ لأن التعليق يبدأ بالمعنى فيخرج اللفظ طواعية، في حين أن النص يبدأ باللفظ ويحرص عليه فيتوارى المعنى، ويتراوح بين الأقل غموضا والاكثر وضوحا؛ فهناك ترجمات تختلف فيما بينها لغويا وضوحا وغموضا من حيث الصلة بين اللفظ والمعنى، فإذا كان في النص «المسائل» ففي التعليق المطالب. وإن كان في النص للبعض ففي التعليق لواحد. وإذا كان في النص فصل يتجاوز ففي التعليق يتعدى . التعليقات أكثر وضوحا وأقرب إلى العقل، وأكثر تركيزا على المعنى من ترجمة النص لفظا بلفظ، وحرفا بحرف. التعليق لم شتات النص واحتواء للنص بالروح لا بالبدن، بالمعنى لا باللفظ. وهو عمل فلسفي بالأصالة، إذا كانت الفلسفة هي القدرة على التعامل مع المعنى كموضوعات مستقلة.
7
وفي كثير من الأحيان يكون أوضح من النص؛ فتلك الغاية من التعليق، المعنى للاستعمال والتطوير لمرحلة قادمة؛ فالترجمة تمثل النقل، والتعليق هو التمثيل، والشرح والتلخيص هو الاحتواء. يخرج موضوع من موضوع عقلا بترتيب منطقي؛ مما يسهل عملية الهضم فالنص ذاته عقلي، والشارح عقلي، وبالتالي يحدث الوئام. مراحل الشرح تمرينات عقلية لتوضيح المعنى أمام النفس، تشغيل للمحرك بعد وضع الوقود فيه واستعماله دون سير، النص هو الوقود، والإشعال هو الشرح، والسير هو الاحتواء.
ونظرا لأهمية التعليق لفهم النص أو في ذاته، يوضع مع الترجمة في نص واحد دون خلط بينهما؛ فكل فقرة من الترجمة تحاصرها تعليقات أربعة، حتى يتم احتواء النص الدخيل، ويتمثل الموروث الوافد؛ فالترجمة مجرد مناسبة للتعليق، والنقل مجرد وسيلة للإبداع.
8
التعليق مع الترجمة منذ البداية؛ فلم تترك الترجمة بمفردها على الإطلاق. لا يوجد وافد دون محاصرته بالتعليق، وقد تمت هذه المحاصرة أكثر مما تم في المنطق الذي كانت تعليقاته على الهامش أو فوق الصفحة؛ فالمنطق عقل يمكن قبوله بالبديهة، أما الطبيعيات فهي موقف من العالم، يتم حصاره حتى لا يترك النص بمفرده، وحتى يتم تمثله داخل الثقافة الرئيسية. وإذا كان الناسخ هو الذي قام بذلك وليس المترجم، أو أنه ناسخ ومترجم، فإن ذلك يدل على موقف حضاري لا يهم من الذي قام به. ما يهم هو الفعل نفسه، وهو حصار الثقافة الوافدة بالتعليق.
وقد تستعاد بعض فقرات أو عبارات النص حتى يبنى التعليق عليها، ويظل هناك تواصل بين النص أو التعليق؛ فكثيرا ما يتخلل التعليق عبارات أرسطو كما يفعل الباحث المعاصر، وإدخال النص الشاهد داخل تحليله الخاص. وقد يكون النص الشاهد فقرة أو عبارة أو حتى لفظا أو اصطلاحا؛ مما يدل على أنه تأليف أكثر منه تعليقا. ويبلغ التعليق أحيانا ضعف حجم النص؛ مما يدل على أن النص كان مجرد مناسبة للتعليق، وأن النقل بداية للإبداع. وبالرغم من وجود مسافة زمنية كبيرة بين النص المترجم والتعليق، من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن العاشر بعد الميلاد؛ أي حوالي ألف وربعمائة عام، إلا أن التعليق كان سهلا ميسورا، واستطاع احتواء النص القديم. يتميز بجمال الأسلوب واستقرار العبارة وكأنه تأليف مباشر، وليس قراءة على نص. وللكشف عن العمليات الحضارية، لا يهم النص بقدر ما يهم التعليق أو مقارنة النص بالتعليق، لمعرفة المحذوف والزائد، الغامض والواضح، المتطابق مع المختلف. وهي دراسة تقوم على تحليل المضمون، دراسة مستقلة، يكفي فقط التنويه بها والإشارة إلى جداولها. وتحتاج إلى معرفة باللغات اليونانية والسريانية والعربية معرفة دقيقة؛ فاللغة مدخل الفكر.
وتبدأ مرحلة أخرى من الترجمة، عندما يتحول المترجم إلى معلق على ما ترجم، ويلاحظ على طريقة المؤلف في التأليف. هنا يبدأ التمايز بين المترجم والمؤلف، ويصبح المترجم ملاحظا والمؤلف ملاحظا. ويبدأ التعليق على النص المنقول ليس فقط باعتباره نصا ولكن باعتباره تعبيرا عن شخصية المؤلف. المترجم هنا دارس للنص، ومعلق عليه المترجم ذات، والنص المنقول موضوع. وتبعد المسافة بين المترجم والنص، حتى يستغني المترجم كلية عن النص المنقول، كلما بعدت المسافة، وينتهي النص كلية من مجال رؤية المترجم لإفساح المجال للمترجم المؤلف، الذي يبدع نصا بديلا في مرحلة التأليف. يحلل المترجم شخصية المؤلف، ويعبر عن إعجابه بها وبصفة التواضع فيها، وهي قيمة حضارية في ثقافة المترجم العربية إن كان نصرانيا؛ فالعروبة ثقافة أو الإسلامية لو كان مسلما، فالإسلام استمرار للعروبة وازدهارها.
9
قد يقوم الناقل بشروح على نقلة آخرين، وبالتالي يبدأ التعليق والاستقلال عن النص المنقول،
10
وقد تكثر التعليقات وتصل إلى مجلد بأكمله منفصلا عن النص، يمكن نشره مستقلا باعتباره النواة الأولى للتأليف في الوافد.
11
وإن فصل التعليقات عن النص يدل على احترام النص، وفي نفس الوقت تحويله إلى نص دال داخل الحضارة التي ترجم إليها. وإن طول التعليقات لا تعني خروجا على النص، بل بداية الشرح كمرحلة نحو التأليف، خاصة إذا كان الهدف من التعليقات توضيح موضوع الكتاب كالمقولات مثلا؛ أي الاتجاه نحو الموضوع مباشرة توضيحه عقلا فيما وراء النص المسهب.
12
التعليق صراحة هو فهم للنص حسب الاجتهاد. كان الناقل ينفعل بما يكتب؛ يفرح إذا فهم، ويغتم إذا استغلق عليه الأمر.
13
وقد يحتوي التعليق في الهامش على بعض الأمثلة التوضيحية للفكرة، مثل الرحمة والغضب للانفعالات، وإذا كان الناشر الحديث يضيف بعض الألفاظ لإيضاح المعنى، فلماذا تعاب مثل هذه الزيادة على القدماء، حلال على المحدثين لتوضيح المعنى حرام على القدماء لخلطهم.
14
ويظهر التمايز بين الناقل والمنقول في صيغة الخطاب وبداية النص بلفظ القول، كما هو الحال في ألفاظ الرواية في علم الحديث قال «أرسطوطاليس».
15
وتوحي العبارة بالتمايز بين الناقل وموضوعه؛ فالنص ليس محايدا بل منقولا، ليس مجهولا بل كتبه أرسطو. يتحدث الناقل عن موضوع مغاير له، وقول آخر غير قوله، وقد استمر هذا التقليد في مرحلة التأليف عن طريق الإملاء أو الكتابة، عندما يتقدم النص المملى أو المكتوب عبارة قال «أبو علي» (أبن سينا) أو قال «أبو النصر» (الفارابي) أو قال «أبو الوليد» (ابن رشد)، وضعها الناسخ للتمايز بينه وبين النص المملى عليه أو المنسوخ منه. وبعد هذا التمايز والتباعد بين الناقل وموضوعه يصدر الناقل الحكم على أرسطو، ونقله بمعنى يظهر مضمونه مثل مباكتة السوفسطائيين، وأنها ليست مباكتات بل مغالطات؛ فهو يصحح لفظ أرسطو اليوناني بلفظ عربي أفضل، أكثر تعبيرا عن موضوع الكتاب. المترجم هنا ليس ناقلا حرفيا بل مؤلفا مشاركا، فيتناول الموضوع المترجم بدرجة من الاستقلال عن الموقف الأصلي.
16
في التعليق يحدث التمايز بين الأنا والآخر، ويتم الحديث عن أرسطو كغائب مفرد بداية لموت المؤلف وحياة النص واستقلال الموضوع. في التعليق يتم الحديث عن أرسطو باعتباره الآخر، وتبدأ الإشارة إليه عن بعد بحيث يكون المعلق ذاتا والنص المعلق عليه موضوعا؛ مما يوضح قدر الاستقلال للمعلق، حتى لو كان القول ما زال ظنيا. وهو تمايز بين الأنا والآخر، مخالف لعادة القدماء في الحديث عن النص، ونسبته إلى صاحبه في صيغة قال أبو علي، قال أبو محمد، «قال أبو نصر»؛ إذ إن هذا التمايز الأخير بين الذات ونفسها، وليس بين الذات والآخر؛ إذ يتحدث فرفوريوس عن أرسطو باعتباره الآخر.
17
ويضم التعليق آراء المترجمين بل والقراء للنص. التعليق عمل جماعي، كل ما يقال حول النص، ترجمة وفهما، شرحا وتلخيصا.
18
يشمل التعليق الحكم بالجودة والتجويد من أحد المترجمين للنص الأصلي. وقد يحتوي على تفنيد زعم بعض الشراح، ورفض أقوالهم خاصة الترجمات المتأخرة. ويكون التعليق في صيغة المطلب والاقتضاء، وما ينبغي أن يكون لوجود معنى معياري في النص.
19
قد يحتوي التعليق على حكم قيمة مفاضلا بين الترجمات والنسخ المختلفة، وعلى الزيادات: هل تحتوي على معنى أم مجرد حشو؟
20
وقد يدخل التفضيل بين الترجمات داخل الشرح، ولا يبقى مجرد تعليق في الهامش.
21
وقد لا يكون التعليق حاسما، فيكتب بصيغة الاحتمال كالأظهر والأقوى.
22 (2) التعليق وتقطيع النص
وقد تكون «قال الفيلسوف أرسطوطاليس» من المترجم (إسحاق) أو من الشارح (نيقولاوس) أو من الناسخ؛ فهو تمايز واحد عند الثلاثة، بصرف النظر عما إذا كان المترجم إلى السريانية أو إلى العربية، وعما إذا كان الشارح يونانيا أم عربيا؛ فالنص ينسب إلى الترجمة وليس إلى صاحب النص الأصلي أرسطو؛ مما يدل على أنه تحول من وافد إلى موروث، من نص الآخر إلى نص الأنا.
23
وقد يكون التقطيع مجرد إظهار اسم المترجم، بعد نقل القول في صيغة «قال إسحاق»، والصعوبة في ذلك صعوبة الحكم على ما بعد القول، هل هو النص المترجم أم هل هو تعليق له على النص؟
24
تبدأ الترجمة بقال أرسطوطاليس؛ أي إنه هو الآخر المتمايز عن الذات، والذات المتمايز عنه، الأنا في مواجهة الموضوع؛ فالمترجم يتمايز عن المؤلف تمايز الأنا والآخر. ويستأنف الشارح نفس التمايز، فيتحدث عن أرسطو في الشخص الثالث. ويكثر المعلق من استعمال قال أرسطو، يبحث أرسطو مما يدل على البعد الزماني والمكاني والتاريخي والحضاري بين الذات والموضوع؛ فأبو الفرج الشارح يقف أمام أرسطو على وجه التقابل: «أرسطو يروم ... وأنا أقول.» واحد لواحد، شخص في مواجهة شخص، مفكرا لمفكر، وحضارة لحضارة، وليس التمايز فقط مع أرسطو، بل أيضا مع باقي فلاسفة اليونان مثل أفلوطين، فيتم التحدث عنه باعتباره آخر؛
25
ففي وسط النص تتقطع الفقرات بعبارة «قال الحكيم»، ووضع النص باعتباره نصا لآخر غير المترجم والناسخ والشارح والملخص والقارئ؛
26
فأرسطو يشرح ويبين ويحكي وكأنه أمام شيئين لا شيء واحد، أرسطو وموضوعه، والشارح طرف ثالث. يتعامل الشارح مع موضوع مستقل أرسطو فيه طرف أول، والشارح طرف ثان. هناك إذن مرجع ثالث هو الموضوع. ليس الشرح لأرسطو بل لموضوع أرسطو. قد يختلف الشارح مع أرسطو لاختلاف الرؤية نحو موضوع واحد، ويصرح بهذا الاختلاف، وقد يتفق معه فلا يعلق. وأحيانا يعرض الشارح الموضوع مباشرة دون «قال أرسطو»؛ فالموضوع له الأولوية على الشخص. يتحدث الشارح عن الشيء ذاته ويصفه فيخرج الوصف مطابقا لغرض أرسطو؛ فالموضوع له الأولوية على الشخص. يتحدث الشارح عن الشيء ذاته ويصفه فيخرج الوصف مطابقا لغرض أرسطو؛ وبالتالي يتحد الحكيم والشارح والشيء، وتتفق النظرتان مع الموضوع.
27
وفي هذه الحالة يبدأ الشارح بالجملة الاسمية مباشرة، بالشيء نفسه وهو أرقى تعليق دون قال يقول أو بيان غرضه، الذهاب إلى الشيء مباشرة عن طريق القول.
وظاهرة تقطيع النص إلى وحدات بداية بأفعال القول «قال» أو «قال أرسطو»، تبدأ من عمل المترجم قبل المعلق والشارح والمخلص، وكل من يعمل في النص من أجل تحويله من نص وافد إلى نص موروث.
28
وقد يتدخل المترجم لتقديم النص، والتعليق عليه «قال المترجم». وينقد أرسطو في استشهاده بشعر أسيودس وهو غير موجود بنصه، مع افتراض أن أرسطو قد أعطى استشهادا حرا أو لخص ما قال الشاعر؛ فالمترجم هنا مراجع ومحقق ومدقق ودارس للنص المترجم. وقد يكون التعليق إضافة من مترجم آخر، بل ومن ناسخ أو قارئ لاستئناف عملية تمثل النص المترجم، وإعادة كتابته في المراحل التالية، الشرح والتلخيص والجوامع والعرض والتأليف،
29
وتكون في الهامش زيادة من المترجم أو الناسخ أو القارئ احتراما للنص الأصلي، وكصورة أولى للتفسير الذي يفصل بين المتن والشرح؛ إذ يضيف الهامش أن أرسطو قد بين عدم تداخل جسم البتة، في حين يرى جالينوس أن الكيفيات تتمازج في مزاج ثالث.
30
وقد يكون التعليق مجرد شرح للفظ وإبراز معناه لمزيد من التوضيح، وبداية التحرر من الترجمة إلى الشرح.
31
وقد يكون التعليق في الهامش بالإحالة إلى مصدر الفكرة في كتاب، مثل الإحالة إلى كتاب «القوى الطبيعية» لجالينوس، بعد أن تركه النص دون تحديد؛
32
إذ تبدأ التعليقات على هوامش الترجمات من أجل المقارنة، مقارنة جالينوس في النص بأرسطو في الهامش، زيادة على النص وتفصيلا للموضوع، فإذا كان جالينوس يرى كطبيب أن الكيفيات تتمازج، فيحدث من تمازجها مزاج، فإن أرسطو لا يداخل جسما جسما البتة.
33
كما تتم مقارنة جالينوس وأبقراط في حجج كليهما في مقدمة المعرفة. وقد يكون التعليق إحالة لمصدر وإرجاع الفكرة له، تخصيصا لعام وذكرا لاسم الكتاب وهو «القوى الطبيعية» لجالينوس.
34
وقد يتجاوز المترجم الحذف والإضافة والتأويل إلى تقديم النص وتقطيعه إلى فقرات تمايزا بين الأنا، المترجم، والآخر النص المترجم، وتحويل أنا الآخر إلى آخر الأنا. كان المؤلف قد وضع الفواصل في نصه بداية للتواريخ بحياة الفلاسفة والشعراء. مراحل التاريخ هي مراحل الفكر، وحوادثه حياة الفلاسفة. ويبدأ تقطيع النص إلى فقرات (81 فقرة)، تبدأ كل منها بعبارة «قال هروشيوس» أو افعال القول مثل ذكر، حكى، وتحويله إلى وحدات صغيرة طبقا لموضوعاتها من أجل احتوائها داخل التأليف.
35
وقد تتجاوز الإضافة كلمة أو عبارة إلى نص كامل، يقدم النص المترجم في موضوع قد يعرفه المؤلف، مثل قصص الأنبياء وخبر آدم وعدد سنين الدنيا من آدم حتى نوح. وقد يختلط القصص القرآني مع القصص التوراتي؛ فالرصيد المشترك بين المترجم والمؤلف، هو الذي تتم فيه عملية التعشيق بين النصين كعاشق ومعشوق. وغالبا ما يكون هذا النص المضاف تلخيصا وتركيزا وإبرازا للدلالة، مثل الاحتجاج على جهل الرومانيين الذين يفخرون بحروب أسلافهم، وينكرون فضل زمانهم، ويمجدون بركة الدين وفضل الإيمان. ولم يتم السلم في الدنيا ولا هدوء أهلها، إلا بعد قدوم السيد المسيح «وله في ذلك كلام كثير». وتحدث عن حرب الإيمان وأنه سبب هدوء الدنيا، «إلى غير ذلك من كلامه الكثير». وقد اختصر المترجم بهذا الاستهلال لبيان غرض المؤلف أكثر من خمس صفحات.
36
يبين الفاصل غرض المترجم الكلي خاصة إذا كان الموضوع مألوفا في الثقافة الجديدة، مثل الرد على قدم العالم وإثبات أنه محدث، وإثبات توحيد الباري، والإقرار بأنه لم يزل عالما حيا. لم يفصل المترجم بين النص المترجم وتلخيصه؛ فلم يكن لدى القدماء تصور للملكية الفردية للإبداع الذهني، كما هو الحال عند المحدثين في تسجيل براءات الاختراع. وفي الفاصل يختصر المترجم استرسال المؤلف، الذي لا تحتاجه بيئة المترجم. وقد تكون من الناسخ؛ فالنص عمل جماعي. وقد يكون الهدف من الفواصل بيان التواريخ والمراحل مشاركة في التأليف؛ فالنص المترجم ليس ملكا لأحد؛ مات المؤلف عاش النص بلغة المعاصرين. قد يوجز المترجم فصلا إيجازا شديدا ليفصل الجسد عن الروح، ورفض استعمال التاريخ للدفاع عن العقيدة المسيحية. ويعلن المترجم عن ذلك صراحة في النص «تركنا ترجمته رغبة في الإيجاز وكراهية للتطويل.»
وقد يصل التعليق إلى إضافة مقالات بأكملها على النص الأول، مثل احتمال إضافة المقالة السابعة على كتاب الأخلاق لأرسطو من المترجم أو من مؤلف ثان لا يكون بالضرورة الناسخ أو القارئ. وواضح من أسلوبها أنها كذلك لأنها تتحدث عن أنواع أدبية جديدة مثل الاختصار الموسع، بالإضافة إلى أمثلة من شعر هوميروس، سواء كانت من اختصار الإسكندرانيين أو من أو من رسالة مستقلة.
37
وقد يكون التعليق من أجل نقل النص الأصلي إلى تصوره بعد ترجمة في لغة أخرى، فإذا تحدث جالينوس عن مثال أحد أجداده القدماء فإن الناقل حنين من اليوناني إلى السرياني يخصص ذلك في الهامش. ويذكر أسقليبوس ويزيد على كونه «مثالة» أنه يسمى أيضا «إلها»؛ لأنه كان مثالة بعد أن كان إنسانا فيما مضى.
38
فإذا لم يكن النقل الحضاري كافيا تم تأليف رسائل للقيام بذلك مجهولة المؤلف بين التأليف والانتحال ، مثال ذلك «مقالة في المدخل إلى علم الأخلاق» غير منسوبة إلى واضع، ظننتها لنيقولاوش فألحقتها مختصرة في الفلسفة.
39
كما يغلب عليها الطابع القصصي حتى يمكن التعبير عن الفلسفة بالأدب أسوة بحيي بن يقظان، ورسالة الطير، وبلوهر وبوذاسف.
وهنا تظهر المصطلحات الإسلامية والأسلوب الإسلامي مثل الدعوة إلى الله؛ فالله مقدر الأعمار، وهو جل وتعالى حي أزلي أبدي، وهو الإله جل اسمه، يجب الاقتداء به؛ فالسعادة الحقة هي الاقتداء بالله، بحسب طاقة البشر كما قال أفلاطون، إكمالا لأرسطو بأفلاطون وتجاوزا للجزئي إلى الكلي، ومن أخلاق أرسطو إلى الفلسفة الخالدة. والله عز وجل حكيم، وأفعاله كلها حكمة، والإنسان الفاضل السعيد هو المقتدي بالله. الإله حي ناطق أزلي على عكس الإنسان الحي الناطق الميت، وهو الباري الضامن للفضائل. وفي الضميمة الثانية من «كتاب الأخلاق اختصار الإسكندرانيين»، يتم النقل الحضاري أيضا بنفس الطريقة ولو على نحو أقل؛ فالعبادة هي التقرب من الله، والله هو الغاية المطلوبة من الأخيار العارفين.
40
والنفس الإلهية، والخيرات أو الفضائل بعضها إلهية، وبعضها إنسانية. والحكمة هي العلم بالأمور الإلهية والإنسية، والفضائل الأوائل تقصد الآلهة والحق، ثم الآباء ثم الأموات وحسن الطاعة خدمة الآلهة، وهم المتألهون. ولا تختلف الفضائل الإلهية عن الفضائل الإنسانية، ويكون الإنسان إلهيا إذا ما طهر نفسه أو عاش للعقل، والكمال الخلقي غرض سماوي إلهي؛ لذلك يوصف أفلاطون أنه إلهي. وبسبب هذه النزعة الأفلاطونية الإشراقية يحال إلى الهند وبراهمة الهند، حتى تتوحد حكمة الغرب مع حكمة الشرق في الحكمة الخالدة.
ثانيا: وسائل التعليق
ويوضع التعليق وسط النص في أعلى الصفحة؛ ليبين بداية مقالة ونهاية أخرى، وكأن الفكر يتم التعبير عنه على دفعات، وكأن رصيد الفكر ملك المترجم أو المعلق أو الناسخ أو حتى القارئ، يخرج منه قدر الحاجة، وكأنه حاجب يعلن عن قدوم الأفكار أو ذهابها، ويسجل تاريخ الزيارة بالتاريخ الهجري.
1
وإن تقسيم النص إلى فقرات أو أقسام مثل تقسيم «المواضع»، ووضع أرقام لها ابتداء من حرف «أ»، لهو بداية التعرف على الموضوعات المستقلة، وتركيب بعضها على بعض؛ من أجل اكتشاف بنيتها حتى يسهل التعامل معها. ويلاحظ الناسخ اضطرابا في التقسيم حتى يستقر إحصاء الموضوعات؛ فعن طريق الترقيم يمكن حصر الموضوعات واكتشاف التكرار، ومراجعة الترقيم والتقسيم إخراج للموضوعات من النص وبداية التعامل مع المعاني.
2
ويقوم التعليق بالتنبيه على البداية والنهاية لموضوع أو فقرة أو مقالة إعلانا عن الموضوع وتقسيمه. التعليق تحويل النص المتصل إلى النص المتصل إلى نص متقطع، والسائل إلى صلب، وهي مهمة قام بها الناشر الحديث بوضع عناوين جانبية على الفقرات، وإلا لأصبح النص كتلة واحدة لا مقاطع فيها ولا تقاطع.
3
ويشير التعليق إلى قسمة الفواصل مبينا أجزاءه.
4
والعجيب أن تخلو الطبعات الحديثة التي قام بها المستشرقون للترجمات العربية من الترقيم وهم المولعون بالترقيم؛ لأن النص لا يمثل شعوريا أو لا شعوريا لديهم أية قيمة تستحق. مع أن القدماء قاموا به لمعرفة أول الكلام من آخره، حتى يبدأ موضوع وينتهي آخر. الهدف من تقطيع النص هو حصاره بالشرح حتى يختفي النص داخل الشرح، ويتم ابتلاعه فيه وتقطيع اللقمة حتى يتم مضغها وابتلاعها. ليس النص غامضا بل من أجل احتوائه وحصاره حتى يسهل الابتلاع.
5
والعد والاحصاء والترقيم يحيل النص السائل إلى فكر صلب، والكتلة الواحدة إلى أجزاء، والعمود الواحد إلى تمفصلات بتعبير المغاربة؛ مما يدل على تحويل الفكر إلى موضوعات وتركيبات حتى يظهر الكل الشامل.
6
وقد يكون الإحصاء والترقيم في النص فيتجاوزه الشرح، ويضم النص ويبرز الفكرة موحدة بلا أجزاء،
7
والهدف من إحصاء الحجج وعرضها بعقلانية واتساق مع نفسها، هو عرض الفكرة مبرهنا عليها؛ فالبرهان جزء من الفكر، وما لا دليل على ثبوته يجب نفيه في منطق الأصوليين. والفكر اليوناني يساعد على ذلك؛ فهو يقوم على القسمة والحاجة، وعد المشكلات وإحصاء الحلول؛ مثل حجج زينون وما أثارته في الردود عليها في تاريخ الفلسفة كله. وبهذه الطريقة يتحول الفكر إلى دعاوى وحجج وكأنه على كلام ذهني.
8
ويتحول الفكر إلى مناقضات مثل مناقضات الجرير والفرزدق.
9
ويضيف المترجم أو الناسخ عناوين جانبية للفقرات مثل الناشرين المحدثين في الغرب، تمهيدا لتقطيع النص إلى فقرات، كل منها في موضوع تمهيدا للحديث في الموضوعات ذاتها دون نصوص.
10
وقد يكون التعليق مضمرا عن طريق الفعل وليس عن طريق القول، بحذف أجزاء من الترجمة، ترك ما لا يفيد والإبقاء على ما يفيد؛ فقد تكون الترجمة لمقتطفات من الكتاب وليس للكتاب كله؛ فالنص الأصلي ليس كله على نفس المستوى من الدلالة. الترجمة تقوم على اهتمام بموضوع ثم نقله. وقد تختلف عدة موضوعات من حيث درجة اهتمام المترجم بها في نفس النص.
11
وقد تتحول الترجمة المعنوية بطبيعتها إلى اقتباس، وذلك بفعل التركيز على المعنى، وترك الشوائب خاصة لو كانت اللغة المنقول منها تحليلية مثل اللغة اليونانية، في حين أن اللغة المنقول إليها تركيبية مثل اللغة العربية. هنا تبدو الترجمة وكأنها تركيز وتقليص وضغط واقتباس، وهذه الترجمة بداية التلخيص؛ فالتلخيص يأتي بعد الترجمة المعنوية المركزة. الاقتباس حلقة الاتصال بين الترجمة المعنوية والتلخيص. الاقتباس هو فصل القلب عن الأطراف، والجوهر عن الأعراض. وعادة ما تظهر هذه الاقتباسات كأقوال مأثورة، تتناقلها الذاكرة في آخر الترجمات العربية، وكأنها الدروس المستفادة من الترجمة أو ما يبقى منها في الذاكرة بعد النسيان.
12
وقد تحولت بعض العبارات فيما بعد بسبب جمال التربة إلى أمثلة وعبارات مشهورة، مثل تحول «إن فقدنا حسا فقد يجب أن نفقد علما» لأرسطو إلى «من فقد حسا فقد علما».
13
وهكذا تنشأ الأقوال المأثورة وتصبح نوعا أدبيا يتم التأليف فيه مثل النوادر. ويتحول كثير منها إلى جزء من الآداب الشعبية والحكم والأمثال، وتختلط بالوافد وتصب فيه حتى لا يصبح هناك فرق بين أقوال سقراط وأفلاطون وأرسطو وأقوال الرسول والحكماء والصوفية.
وقد يتضمن التعليق حكم قيمة. وحكم القيمة بداية النقد في المرحلة الثالثة، مرحلة التخلي كلية عن الوافد إلى التأليف في موضوعاته؛ فقد يزداد الخلاف اللغوي لدرجة أنه يحتوي على حكم قيمة؛ فمثلا الخلاف بين الخلف وبين محال وشنيع وقبيح في النوع وليس فقط في الدرجة. الخلاف حكم منطقي في حين أن الشناعة أو القبح حكم أخلاقي منطقي؛ فالحكم تقوية للمعنى وإظهار له وابتعاد عن المعنى الأول واقتراب من المعنى الثاني؛
14
فالتعليقات الناقدة بداية التأليف، والمترجم ليس فقط مترجما معلقا بل معلقا ناقدا.
15
والتقييم ليس أخلاقيا بل هي قراءة حضارية. ومهمتنا فهم الماضي وفهم طبيعة الموقف الحضاري القديم، وليس الحكم عليه حكما خارجيا بالخطأ والصواب؛ فلا يوجد تاريخ صرف دون قراءة.
16
كما تدل نسبة النص إلى صاحبه أيضا على درجة الاقتراب من المعنى المستقل عن الشخص أم المرتبط به؛ فلو قيل مثلا: «كتاب أرسطوطاليس المسمى قاطيغوريا»، فإن النص ما زال مرتبطا بصاحبه بدليل التقديم للمؤلف على نصه. أما إذا قيل كتاب «قاطيغوريا» لأرسطوطاليس، فإن النص هنا له الأولوية على المؤلف بدليل التقديم أيضا كخطوة نحو استقلال النص كعمل مستقل بذاته، حتى يتم التعامل معه في مرحلة التمثيل؛ أي التعليق والشرح والتلخيص بعد فك الارتباط بينه وبين صاحبه، وكأنه لا صاحب له. ويصبح القارئ هو المؤلف الثاني. ولما كان المؤلف الأول قد مات يصبح القارئ الثاني هو المؤلف الحي. ومن كان يعبد المؤلف، فإن المؤلف قد مات، ومن كان يعبد القارئ فإن القارئ حي لا يموت.
17
كان أحد مهام التعليق إسقاط أسماء الأعلام حتى يقضى على عجمة النص مع المصطلحات المعربة، وتحويل النص إلى معنى مستقل وموضوع ذهني بلا شوائب من الثقافات المحلية أو التاريخ. مرة الإشارة إلى أرسطوطاليس، ومرة إلى أرسطو بداية لتقلص الاسم بحذف أداة الرفع، كخطوة للتخلص من الاسم كله، والإشارة إلى الحكيم؛ أي إلى العقل المجرد، ثم الذهاب إلى الموضوعات مباشرة بلا أسماء أو ألقاب. وهي عملية
Idealization
للشخص وتحوله إلى موضوع، كما فعل الفارابي بعد ذلك في التوفيق بين رأيي الحكيمين «أفلاطون الإلهي» و«أرسطوطاليس الحكيم»، وكما حدث في تطور العقائد المسيحية وتحول شخص المسيح إلى ألقاب: المعلم السيد، ابن الله، والعقائد إلى عقائد الألوهية.
18
وتتراوح نسبة النص لأرسطو بين الخصوص والعموم، بين المحلية والشمول. يظهر الخصوص في وصفه بأرسطوطاليس الفيلسوف اليوناني. ويظهر أقصى العموم في لقب الفيلسوف أو الحكيم أو المعلم الأول، وإسقاط اسم العلم ثم الحضارة التي ينتسب إليها. وقد تتكاثر الألقاب مثل الفيلسوف، الحكيم، المعلم الأول، الفيلسوف الأعظم. وقد تأتي الألقاب قبل اسم العلم أو بعده. وتبلغ قمة العلوم عندما يسقط اسم العلم والحضارة التي ينتسب إليها والألقاب كلها، ولا يبقى إلا الموضوع مثل أثولوجيا؛
19
ففي التعليق أيضا يبدأ التخلي عن أرسطو كاسم علوم وشخص إلى الفليسوف، أيا كان النموذج المثالي، صاحب الحكمة، النبي؛
20
فالنص لم يعد له مؤلف، كخطوة نحو إسقاط الفيلسوف ذاته حتى يبقى النص وحده بلا مؤلف، كخطوة نحو إسقاط النص نفسه من أجل إبداع نص جديد. «قال الحكيم» بدلا من قال أرسطو يدل على إسقاط اسم العلم كمقدمة لظهور الحكمة غير الشخصية، كما أن زيادة الحكيم بعد الاسم تمهيد لترك الاسم الشخصي والاكتفاء بالحكيم، ثم الاكتفاء بالحكيم ثم الاكتفاء بعد ذلك في مرحلة التأليف بالحكمة. وإن إعطاء أرسطو الألقاب، الفيلسوف، الحكيم، قبل اسم العلم أو بعده لهو بداية لإسقاط الاسم والاكتفاء باللقب، قبل أن يسقط اللقب والاكتفاء بالفكرة. وقد كان ذلك أيضا أحد أسباب تأليه المسيح، عندما أعطيت له ألقاب المعلم، السيد، الأب، ابن الإنسان ثم الإله على نحو تدريجي وتعظيمي جيلا بعد جيل حتى تم إسقاط اسم يسوع وباقي الألقاب ولم يبق إلا الإله. أما فلاسفة اليونان الآخرون فإنهم يذكرون باسم أفلاطون، فيثاغورس، وأرسطو وحده هو الفيلسوف.
21
ثالثا: طرق التعليق
ويكون التعليق بطرق ثلاث: الإضافة، والحذف، والتأويل، الإضافة والحذف تعامل كمي، والتأويل تعامل كيفي. الإضافة زيادة على النص من الداخل والخارج، من داخل الثقافة، النص المنقول أو من خارج الثقافة، ثقافة نص الناقل، والحذف نقص، نقص من ثقافة النص من أجل التركيز على قلبه، والحصول على معناه المستقل وترك الشوائب التي تقل من حدة نصل النص. أم التأويل فإنه إعادة توجيه النص في اتجاه غير اتجاه النص المنقول أو إعادة توظيفه في وظيفة أخرى مغايرة لوظيفة النص المنقول أو تعميق النص المنقول، واكتشاف أبعاد ومستويات جديدة فيه أو إكمال النص المنقول من أجل تكامل رؤيته واتزانها، فتعدد الترجمات بداية للتعليقات، والتعليقات بداية للشروح والملخصات، وكل نقل ترجمة، وكل ترجمة قراءة، وكل قراءة شرح أو تلخيص؛ فالمترجمون مفسرون قبل الشراح، فإذا كان التعليق هو حديث عن النص باعتباره آخر، فإن الشرح بعد ذلك توضيح لهذا التعليق، والتلخيص إبراز لمعناه. قد يطول التعليق فيصبح عبارة شارحة، وهو بداية الشرح عندما يتم الاستغناء عن النص كلية، ويقصر فيصبح تلخيصا استغناء ايضا عن حرفية النص.
1
يقوم التعليق أولا بدور الشرح والتلخيص؛ فهو البذرة الأولى المشتركة لهما قبل أن يتمايزا في نوعين أدبيين مستقلين. قد يطول التعليق فيخرج المعلق عن الترجمة ويبدأ الشرح، ثم يبدأ الشرح في الانفصال كعمل مستقل. التعليقات بالجمل الشارحة بداية تولد الشرح من التعليق.
2
وقد بدأ التعليق من قبل الترجمة السريانية لنفس السبب، وهو تحول النص إلى موضوع حضاري بانتقاله من البيئة الثقافية اليونانية إلى البيئة السريانية؛ خدمة للدين الجديد وهو النصرانية. كان أمام النص العربي ترجمة سابقة وتعليق مسبق، وكان عليه أن يختار: إما حذف السرياني من النص اليوناني أو إضافة النص السرياني على النص اليوناني. وكان عليه أن يقرر حذف أو إضافة النص اليوناني أسوة بالسرياني أو إضافة النص اليوناني على حذف السرياني أو حذف اليوناني وإضافة السرياني. وكان عليه أن يقرر أيضا اتباع النص اليوناني مباشرة بلا حذف، أو إضافة، أو بالحذف أو بالإضافة، دون الاسترشاد بالتجارب السابقة. ولما كان المترجم العربي يهمه النص الحضاري وليس النص التاريخي، لم يكن لديه كل هذا الورع أمام النص كوثيقة تاريخية، بالرغم من أن الحضارة الجديدة قائمة على الكلام المدون والنص المكتوب. لم يكن التعامل مع النص، حذفا وإضافة في السرياني إلى اليوناني من أجل معرفة موضوعية به، بل كان تعاملا ذاتيا خالصا طبقا للموضوعية الحضارية. ليس النص وثيقة تاريخية تحمل أخبارا، بل هو موضوع حضاري حامل لتفاعل، ونقطة التقاء بين الحضارات؛
3
وبالتالي تكون الاحتمالات أمام المترجم العربي الآتي: (1)
قبول الإضافة والحذف في السرياني عن الأصل اليوناني، وهذا يتضمن احتمالين: (أ)
قبول الإضافة وحدها في السرياني دون الحذف. (ب)
قبول الحذف وحده دون الإضافة. (2)
رفض الإضافة والحذف في السرياني بالنسبة للأصل اليوناني، وهذا يتضمن احتمالين جزئيين: (أ )
رفض الإضافة وحدها دون الحذف. (ب)
رفض الحذف وحده دون الإضافة. (3)
الإضافة والحذف بالنسبة للنص اليوناني والسرياني معا في النص العربي، وهذا يشمل احتمالين جزئيين: (أ)
الزيادة على الأصل اليوناني والزيادة في الترجمة السريانية. (ب)
الحذف من الأصل اليوناني ومن الحذف السرياني.
4
ويمكن عمل إحصاء شامل للتعليقات بتصنيفها طبقا للموضوعات، مثل الحذف أو الزيادة في الترجمات السريانية والعربية بالنسبة إلى النص اليوناني؛ لمعرفة مدى طبيعة كل لغة في التركيز والإسهاب، ومدى الالتزام بالترجمة الحرفية التي تكون أقرب إلى النص الأصلي، كما أو الترجمة المعنوية التي قد تزيد وتنقص عن النص الأصلي؛ نظرا لأنها لا تترجم اللفظ بلفظ أو العبارة بعبارة، ولكن تفهم المعنى أولا من النص الأصلي، ثم تضعه في ألفاظ من اللغة المترجم إليها تلقائيا، أشبه بما يقوم به المؤلف. تذكر الترجمات السابقة المتعددة واختلافاتها في التعليقات رعاية للدقة؛ فلربما كان بها معنى مخالف، يستطيع مترجم آخر من السريانية إلى العربية اكتشافه. يحتوي التعليق على إحالة إلى السرياني وإلى ذكر أقوال المترجمين، باعتبارها تفسيرات محتملة. والتساؤل هو أولى درجات التفكير والإحساس بالغموض، والاشتباه هو أحد دوافع الشرح والتوضيح.
5
كما تذكر التعليقات والاختلافات النصية بين مختلف الترجمات، حتى وإن لم تكن لها أية دلالة حضارية. إنما هو الورع أمام النص في إيراد كل وجوه النقل.
6
وبتتبع الاختلافات التي بين النص اليوناني، يكون النقل السرياني هو في الغالب قول الشارح.
7
ومقابلة الزيادات في السريانية والعربية عن اليونانية، تدل على موقف كل من المترجم السرياني والعربي من النص اليوناني، وتكشف عن الموقف الحضاري من النص الأول. وهذه دلالة من النص الأصلي؛ لأنها تعبر عن اختلاف المواقف الحضارية للنقلة؛ ومن ثم اختلف النصان السرياني والعربي عن الأصل اليوناني، كما ليس فقط نظرا لطبيعة اللغات من حيث التركيز والإسهاب، بل من حيث الحذف والإضافات اللازمة لخدمة العقيدة المسيحية في السرياني والإسلامية في العربي، فإذا كان النص اليوناني وثيقة تاريخية، فإن النصين السرياني والعربي ليسا وثيقتين تاريخيتين، بل موضوعا حضاريا يحمل غاية الحضارة وهدفها الأول ، وهو الدفاع المحلي ضد الوافد، وعن الأنا ضد الآخر، وعن الهوية ضد التغريب.
وقد تكون الزيادة في الترجمة السريانية، تغيرا للأمثلة وتركا للأمثلة اليونانية غير الدالة، إلى أمثلة أخرى أكثر دلالة؛ فالنطق والفرس والإنسان تتغير إلى العلم والخط والطب. الأمثلة الأولى طبيعية يونانية، والأمثلة الثانية حضارية سريانية.
8
وقد تزيد النسخة السريانية مثالا لتوضيح القول الصوري في النص، وحتى لو كان مستقى من نفس النص ولكن من مكان آخر.
9
ما حدث في النص العربي حدث في النص السرياني من قبل، ويحدث الآن مع الفكر الغربي في الترجمات العربية لنصوص مع ضرب الأمثلة المحلية.
10
وفي حالة الإضافة يقوم المترجم العربي أو الناسخ، بإضافة تعليق من عمل المترجم السرياني، وشروحه على النص اليوناني للاسترشاد به في فهم المعنى،
11
وأحيانا تتم المقارنة لصالح السرياني ضد الزيادة في النص العربي، والحكم على الزيادة العربية بالخلل بالمعني؛ وبالتالي فإن الزيادة في النص العربي ليست لأزمة بالضرورة؛
12
ففي حالة كتاب الشعر هناك في الهامش نوعان من التعليق: الأول إضافات من قارئ لا يعرف السريانية، بل يعتمد على الحدس غالبا. وقد لا يوفق في فهم المعنى. وقد تكون من وضع المترجم نفسه. والثاني إضافات تدل على أن صاحبها راجع على السرياني أو اليوناني، واقترح تحسين الأسلوب أو توضيح المعنى.
13
بعض الفقرات غير موجودة في النص اليوناني. وقد تكون في الهامش أولجها الناسخ في النص؛ فالترجمة ليست حرفية بل معنوية. والتعليق لا ينفصل عن النص بل جزء منه، لدرجة أن الناسخ قد يدخله فيه؛ فالنص مركب بين المترجم والناسخ والمعلق والشارح والمؤلف. المهم هو تركيب الموضوع وخلق النص حضاريا وليس نقله حرفيا. الترجمة إيداع وليست مجرد نقل.
14
وإذا كان التعليق طويلا فإنه بداية الشرح، من أجل بيان اتساق الفكر مع ذاته. وقد تتضمن الزيادات شرحا للنص المترجم، تكتب فوق النص الأصلي بلون أحمر مخالف، والإشارة إلى ذلك صراحة بلفظ أي أو فعل يعني أو يريد ؛ فالأشياء الطبيعية مثلا هي التي في الكون والفساد،
15
وذلك يعبر عن التمايز بين الأصل والتعليق، احتراما للنص كوثيقة تاريخية، والفصل بينه وبين التعليق عليه.
وفي حالة الحذف يكون النص السرياني مسطحا، يخلو من العمق، لا دلالة له، مجرد تعايش للفكر على ذاته، لا هدف له. والحذف أحد طرق الشرح يجعل العبارات أقل، والدلالة أكثر، الميوعة أقل، والتركيز أكثر؛ فالمحلول الخفيف إذا ما ترك للبخر أو بفعل الغليان يقل ماؤه ويزداد تركيزه. نص التحليلات الأولى من هذا النوع، أقل دلالة من المقولات والعبارة، كله أشكال رياضية، وأمثال بحروف أبجدية وأقرب إلى المنطق الرياضي.
16
وتمتاز السريانية على اليونانية بالتركيز؛ وبالتالي كان الحذف ومرونة الترتيب هو الشائع، وهو ما حدث نفس الشيء بالنسبة للترجمة العربية. قام السريان بالترجمة إلى العربية بنفس الحذف ومرونة الترتيب؛ فالعربية والسريانية أكثر تركيزا من اليونانية. لا يعني الحذف إذن إسقاطا أو تحريفا، يضيفه الناشر الحديث من الأصل اليوناني أسوة بالترجمة الأوروبية، بل هو تركيز مقصود طبقا لخصائص اللغتين السريانية والعربية.
وفي حالة الحذف لا يعني إسقاط مثل أي خطأ أو نسيان، بل لذلك دلالة على بداية التلخيص، وترك الثقافة المحلية.
17
وإذا سقطت عبارة من النص اليوناني، فإن ذلك لا يعني الخطأ غير المقصود، بل يعني الحذف المقصود؛ فقد لا يكون لها معنى بالعربية، خاصة إذا كان مثلا شعبيا لا يترجم إلا معناه.
18
الترجمة العربية أكثر اختصارا؛ فالعمل الحضاري يتم أيضا في الترجمة بطريقة غير واعية. ولا يهمنا إصلاح الترجمة العربية بالرجوع إلى النص اليوناني؛ فالزيادة والنقصان في الترجمة العربية لها دلالتها الحضارية، أكثر من ضبط النص اليوناني كوثيقة تاريخية. ليست مهمة الباحث الوطني اليوم التعامل مع الترجمة العربية القديمة، تعامل عالم الآثار الذي يقوم بترميم آثاره، بل معرفة أصول البناء، فإذا ما حذف جزء من النص اليوناني، فإنه لا يعاد إلى النص العربي؛ فالحذف له دلالة مثل الإضافة. الحذف يدل على التركيز وترك الإسهاب والتوجه نحو القلب، وهو ما سيصبح التلخيص فيما بعد. وعندما يكون التعليق مركزا، حينئذ تكون بداية التلخيص؛ أي ترك الاستطراد.
وما يحدث في الترجمات يحدث أيضا في الشروح ؛ إذ يرجع النص في شروح ثامسطيوس لحرف اللام من الفصل السادس إلى العاشر، إما إلى حذف الشواهد أو التفاصيل عسيرة الفهم، أو حذف الاستطرادات التي تخرج عن الموضوع الرئيسي. وقد يقوم بذلك الشارح أو الناسخ أو القارئ؛ فقد أجرى هذه التلخيصات الناسخ في صلب الترجمات التي نقل عنها الشارح؛ فالناسخ له دور حضاري في تقديم المعنى إلى الناس، وليس تقديم الوثيقة التاريخية التي هي النص، والتي قد يحرص عليها المترجم.
19
وأحيانا تسقط الترجمة العربية أو السريانية جزءا من النص اليوناني، فهل يجوز للناشر الحديث زيادتها في النص القديم، أم يظل النص القديم كما هو بدلالة النقصان والزيادة؟ النقص لعبارة لأنها متضمنة في العبارة السابقة تفاديا للتكرار؛ فاللسان العربي أكثر تركيزا من اللسان اليوناني.
20
وما تسقطه الترجمة السريانية من الأصل اليوناني، قد يعود من جديد في الترجمة العربية. وما تضيفه الترجمة السريانية زيادة على الأصل اليوناني، قد يحذف في الترجمة العربية اتباعا للأصل اليوناني. إن مقتضيات العمليات الحضارية من السريانية إلى العربية، قد تكون مختلفة عن مقتضياتها في النقل من اليونانية إلى السريانية. ما لا يحتاجه السرياني قد يحتاجه العربي. وما يحتاجه السرياني قد لا يحتاجه العربي. وما يحتاجه اليوناني قد لا يحتاجه السرياني والعربي. وما لا يحتاجه اليوناني قد يحتاجه السرياني والعربي؛ فالتعليق كنظرية في الإيضاح يشمل الحذف والإضافة، النقصان والزيادة.
21
رابعا: مستويات التعليق
ويبدأ التعليق من مستوى الألفاظ واللغة وأنواع القول إلى مستوى المعاني وإكمالها وتوضيحها وإظهار وإحكام متشابهاتها وتخصيص العام وتعميم الخاص، ثم إلى عالم الأشياء والتحقق الخارجي ابتداء من وصف مسار الفكر، وبيان الغرض والقصد من النص، وتعليل أحكامه حتى بيان أوجه الفائدة منه، وتوظيفه في بيئته الجديدة، وهذا هو التأويل. الطريقة الثالثة للتعليق بعد الإضافة والحذف. وقد يكون التعليق مجرد ذكر لبعض المترادفات للألفاظ زيادة في الإيضاح بحرف العطف «أي».
1
وقد يستفيض التعليق في الشرح والبيان والتوضيح فالقول هو الحد والماهية.
2
وهنا تبدأ المصطلحات في الظهور من الكلمة العامة في اللغة العادية إلى المصطلح،
3
وقد يكون التعليق شرح عبارة بعبارة، لبيان تفصيلات الفكر وحركته الداخلية ومنطقه الباطني.
ويتراوح التعليق كما بين مجرد لفظ واحد أو عبارة أو فقرة أو صفحات شارحة بأكملها، وكان المترجم قد ترك النص الأصلي وبدأ في صياغة نصه الخاص. النص الأول مجرد مناسبة للتأليف وليس هو التأليف، فإذا كان التعليق لفظا واحدا فإنه يسبق بحرف «أي». وإذا كان عبارة تسبق بلفظ «يعني» أو يقصد أو «بيان». وإذا كان التعليق فقرة أو عدة فقرات شارحة يسبق لفظ «يريد».
4
قد يكون اللفظ الواحد الذي يتم التعليق عليه فعلا أو اسما أو حرفا. وقد يكون التعليق لفظا واحدا، وتكون علاقته بالنص لفظا بلفظ، فإذا تحدث النص عن الأقاويل، فإن التعليق يقول «يعني الحدود». كما يهدف التعليق إلى التمييز بين أنواع القول، أقوال الفلاسفة وأقوال الخطباء؛ مما سيصبح فيما بعد عند ابن رشد نظرية متكاملة في أنواع الخطاب البرهاني والجدلي والخطابي.
5
والتعليق حركة طبيعية بعد الترجمة لإكمال الناقص، وإحكام القسمة ما دامت الترجمة ترتكز على العقل، وما دام الشرح يقوم على نظرية في العقل، فإذا ما تمت قسمة العبارة إلى قول وكلمة واسم ابتداء من العام إلى الخاص إلى الأخص، فإن القسمة تكتمل بإضافة الفعل والحرف بعد الاسم؛ فالكلمة اسم وفعل وحرف. وإذا لم يكن الفعل والحرف كلمات في اللسان اليوناني، فإنها كذلك في اللسان العربي.
6
مهمة الشرح إعادة الترتيب للمادة المشروحة طبقا للعقل، خاصة وأن النص الأصلي أمالي ودروس وسماع؛ فمثلا في المقولات بالرغم من عرضها أولا على أنها عشرة: الجوهر والكم والكيف والإضافة والمكان والزمان والوضع والملكية والفعل والانفعال، إلا أنه في العرض تأتي الإضافة بعد الجوهر ثم الكيف قبل الكم، بالرغم من وجود استطرادات أخرى كثيرة سواء من صاحب الأمر الأصلي، أرسطو، أو تلاميذه.
7
الشرح ثم التلخيص أولى المحاولات لوضع النص المترجم في العقل وجعله دالا كاشفا.
8
وقد يظهر الغرض في الشرح ليس بالضرورة بلفظ «الغرض»، ولكن بلفظ «بين » أو «معنى» قول أرسطو. وقد تحتاج ألفاظ الشرح إلى تحليل لأشكالها؛ لمعرفة أقوال الشراح وكيفية بدايته،
9
وأحيانا يظهر الغرض بلفظ الإرادة «يريد أن»، وأحيانا يتجاوز البيان إلى وصف مساره وطريقه ويصبح «واستدل أرسطو؛ فالشارح يبين هنا منهج أرسطو وطريقته في الاستدلال، التي استعملها في بيان موضوعه.
10
وأحيانا تتجاوز ألفاظ الشرح الفعل الشخصي إلى الفعل الموضوعي، فالموضوع هو الذي يظهر ويتبين وينكشف.
11
وقد يكون التعليق إكمالا للنص وإتماما لما نقص منه من حيث المعنى أو النظرة إلى الشيء. التعليق هو إتمام للمعنى وإكمال للشيء، ووضع الجزء في إطار الكل من حيث المعنى العقلي، ورؤية الموضوع اعتمادا على العقل الخالص والحياد الموضوعي.
12
مهمة التعليق إبراز الموضوع المضمر والتركيز عليه والتذكير به، فإذا تحدث النص عن شيء مرة، وذكره باسمه، ومرة ثانية بالإشارة إليه أعاد التعليق ذكر اسمه حتى لا يختلط على القارئ، ويظهر له عن أي شيء يتحدث إلحاقا للمجهول بالمعلوم.
13
ويعني إظهار المضمر بلغة الأصوليين تحقيق المناط.
14
في التعليق تحقيق المناط وتصحيحه، وبيان احتمالات المشار إليه في النص والتحقق من صدقه في الواقع.
15
للتعليق إذن عدة أهداف رئيسية على النحو الآتي: (1)
من حيث الكيف إيضاح لمعنى النص، إذا كان غامضا، فإذا بدأت الترجمة من اللفظ، فإن التعليق يبدأ من المعنى. هذا النص المترجم كله في حاجة إلى عمل عقلي، شرح لبيان المعنى التفصيلي، أو تلخيص لبيان المعنى الإجمالي، أو تأليف لإكمال ما ينقص منه، ثم استخدامه محليا بعد أن يتم إعادة إنتاجه. التعليق تحويل للنص إلى معنى وفهم وعقل؛ أي إلى فلسفة. ومن هنا أتت ضرورة ضم ذلك كله في شرح، وتركيزه وتحويله إلى معنى بدلا من الترهل والتسطيح الفكري للنص المترجم. ومن وسائل الكشف عن المعنى الجمع بين المتشابهات والتفريق بين المختلفات من أجل ضم المعنى وإبرازه، وذلك عن طريق المقارنات المستمرة وتجريد المعنى في أكثر من حالة؛ فهناك فرق بين الطبيعيين والفيثاغوريين وأفلاطون.
16
وهو مقياس أصولي أساس القياس الشرعي، يقارن الشارح بين نفس المعنى، وطرق التعبير عنه في باقي النصوص، مرة بلغة الوصف، ومرة ثانية بلغة الشك، ومرة ثالثة بطريق الأشكال، محددا طبيعة العمليات التي يقوم بها صاحب النص. التعليق في حالة الغموض لأنه نظرية في الإيضاح وليس في اللغو
التعليق على الإيضاح، والنص نظرية في الوضوح، ويأتي التعليق في حالة غموض النص.
17
والتعليق تنبيه على ضرورة فهم معين لمعنى دون معنى آخر، كنوع من الثقة بالنفس، والتحذير من الوقوع في الاشتباه، وكأن المترجم المعلق صاحب النص ومسئول عن حسنه، إحكاما لمتشابه، ومبينا لمجمل، وتقييدا لمطلق كما هو الحال في منطق الأصول. التعليق هنا تمييز بين شيئين متشابهين. الغرض من التعليق إيضاح المعاني؛ ولذلك يكثر التعليق بألفاظ الإيضاح والبيان للمعاني. وتوحي ألفاظ الشك والاعتقاد واليقين والظن والاحتمال والتردد، أننا بصدد تحليل شعوري معرفي لأنماط الاعتقاد، وضمن نظرية عامة للإيضاح.
18
قد يقوم التعليق ببيان ما خفي من النص؛ لأن النص لم يبين شيئا.
19
يمتد التعليق إلى شرح الألفاظ مثل شرح لفظ مشترك، الواجب، على أنه ما توجبه الطباع، والفلسفة في النهاية هي رفع الاشتباه والتفرقة بين المحكم والمتشابه، أو التمييز في حالة الخلط وإعطاء الأمثلة على ذلك.
20
وقد يحتوي التعليق على عدة قراءات محتملة للنص؛ من أجل ضبط معناه وفهمه.
21
وقد يكون التعليق عن طريق ضرب الأمثلة زيادة في التوضيح، وإقلالا من صورية التحليل، وهو نوع من التخصيص.
22
ويتضمن ذلك خطوتين: الأولى ترك الأمثلة الخاصة بالنص الأصلي؛ لأنها أمثلة بيئية صرفة لا تؤدي ترك الأمثلة الخاصة بالنص الأصلي؛ لأنها أمثلة بيئية لا تؤدي دورها في الإيضاح والإيصال،
23
ثم يتم اختيار أمثلة محلية بديلة معروفة للقارئ العربي، كحامل للمعاني المشروحة وذلك مثل الشعرى. وقد يكون طابع الأمثلة الجديدة في الشرح أكثر وضوحا وأكثر إنسانية لاتصالها بالحياة اليومية، مثل ذهاب إنسان إلى السوق لقضاء الحاجة. وقد يستعمل شارح آخر نفس المثال؛ مما قد يوحي بأن للشارحين مصدرا واحدا أو اعتماد شارح على آخر. ويذكر الشرح أمثلة خاصة جديدة أكثر وضوحا وشيوعا، حتى ينتشر للمعنى عند أكبر قدر ممكن من القراءة، لتوضيح التقابل بين النبات والحيوان؛ فما ليس بمنقسم في النص كالنقطة الواحدة في التعليق.
24
وتفيد الأمثلة في العلوم الصورية مثل المنطق والطبيعة، وفي العلوم الحية مثل الخطابة والشعر. وقد تكون الأمثلة الجديدة في الشرح أكثر عقلانية، ليس فيها حياء طبقا لتصور الحضارة الجديدة أنه «لا حياء في الدين»، مثل الحديث عن شعر العانة وإعطاء أمثلة من المني.
25
وقد اتضح ذلك فيما بعد بصورة أكثر عندما تحول التعليق إلى شرح مستقل، مثل «شرح الخطابة» لابن رشد، ترك المثال القديم وإحضار مثال جديد.
26
ويستعمل الشارح أمثلة جديدة بها مصطلحات جغرافية عديدة مثل الشعرى.
27
ومن نماذج الأمثلة المحلية الواردة في النص اليوناني (الكلخ).
28
وقد يتم استعمال عدة تشبيهات أدبية.
29
وما دام المعنى أصبح مفهوما والمثال الأول في النص الأصلي دال عليه، فإن المعنى يصبح قادرا على إنتاج أمثلة جديدة أكثر دلالة في البيئة التي يترجم إليها النص، حتى يقوى المعنى ويتضح طبقا لتعدد البيئات الثقافية عند القراء. وقد حدث نفس الشيء في أمثال السيد المسيح وتكاثرها بناء على قوة المعنى وقدرته على خلق أمثلة جديدة.
ويهدف التعليق إلى تخصيص العام، وتفصيل المجمل أسوة بعلم الأصول.
30
التعليق قول شارح حتى لا يظل النص غامضا، فإذا تحدث النص المترجم عن المعتدل فإن التعليق يشرح «المعتدل في المقدار»، بزيادة لفظ التخصيص المعني. وإذا ذكر النص «آلة» على العموم خصصها التعليق بأنها الآلة التي يستعملها النجارون.
31
وإذا تحدث النص عن الأقاويل فإن التعليق يقول «يعني الحدود»، وهو أيضا انتقال من العام إلى الخاص، وتخصيص الفكر بنوع من التفكير على التفكير. وإذا تحدث النص عن «الحي» على وجه العموم، فإن التعليق يتحدث عن البهيمية على وجه الخصوص. وإذا تحدث النص عن «قياسات الوضع»، فإن التعليق يخصصه بأن ذلك يعني الشرطية. وإذا تحدث النص عن «الموضوع»، فإن التعليق يتحدث عن «المقصود»، وهو أيضا تخصيص لعموم؛ فموضوع الكلام هو القصد منه، والقصد منه هو الموضوع، توحيدا بين الموضوع والقصد. والمقدمة في النص هي الفاحصية الجدلية في الهامش؛ لأن الموضوع المنطقي هي القضايا الجدلية.
32
والغالب هو تخصيص العموم. أما تعميم الخصوص فهو أقرب إلى التلخيص منه إلى التعليق، وإلى الحذف أقرب منه إلى الإضافة.
ويكون التعليق أيضا نوعا من التخصيص بمعنى ذكر الوقائع والتيارات والمذاهب التاريخية وأسماء الأعلام، كما هو الحال في التفسير التاريخي للقرآن أو ما سماه الأصوليون تحقيق المناط. يشير التعليق إلى أصحاب المذاهب والفرق إذا ما تركهم النص اكتفاء بالإشارة إلى المذاهب.
33
ويكون التعليق بإدخال الجزئي في الكلي والخاص في العام؛ فالنص الجزئي لا يفهم إلا بإحالات إلى النص الكلي، عودا على بدء، وبالرجوع إلى السابق، والإشارة إلى اللاحق، رؤية للموضوع من أعلى، جمعه وحصره حتى لا يفوت على الذهن، أو يهرب من الشعور. ويبدو تفسير الجزء بالكل في الإحالات إلى باقي مؤلفات أرسطو، المنطقية أو الطبيعية أو الإلهية، على ما بين أجزائها من تفاوت في النظرة الجزئية أو الكلية؛
34
فالإحالة إلى المقولات عود إلى الكلي في المنطق.
35
والإحالة إلى المقولات عود إلى الكلي في الطبيعيات.
36
كما يتم الرجوع إلى مقالة سابقة، وبيان صلة المقالة السادسة بها، لبيان مسار الفكر، أي تفسير الكتاب بعضه ببعض، منعا للتضارب والتعارض «لا تضربوا الكتاب بعضه ببعض.»
37
يبدو مسار الفكر من البداية إلى النهاية، خطوة خطوة، الخطوة السابقة تؤدي إلى اللاحقة؛ من أجل إيجاد الترابط المنطقي والتسلسل الطبيعي بين فقرات النص المترجم. وقد يصاحب بيان مسار الفكر التعليل، لم قال هذا ولم سيقول هذا؟
38
وقد يعرض المشكلة كلها وحدها، والفكر الإشكالي يمثل تقدما بالنسبة للفكر العارض الوضعي التقريري.
39
ويشمل تفسير الجزء بالكل أو إدخال النظرية في النسق، والألف الصغرى داخل سائر مقالات ما بعد الطبيعة، ثم إدخال ما بعد الطبيعة في العلوم النظرية (الطبيعية، التعاليم، العلم الإلهي) في مقابل العلوم العلمية.
40
وما يهم في التعليق ليس الموضوع بل الصورة، ليس الفكر بل بنية الفكر، الفكر كموقف حضاري وليس كنتيجة. يهدف التعليق إلى بيان المسار الفكري للمؤلف، لأرسطو مثلا، ماذا فعل من قبل؟ وماذا يفعل الآن؟ وماذا سيفعل فيما بعد؟ إرجاعا للجزء إلى الكل، والنص إلى السياق. ويربط بين باقي المؤلفات، سواء سائر كتب المنطق أو الطبيعيات أو الإلهيات . التعليق تفسير للنص بالنص، وشرح للنص بنفسه أو تفسير للنص بغيره، وشرح للنص في سياق باقي النصوص.
41
التعليق ربط بين أجزاء الكلام واستدلال على منطقه الداخلي، وإحالة إلى نصوص أخرى، وإيجاد لدلالة النص، فيتحول معناه إلى موضوع مستقل. هو جمع للمتفرقات ولم الشتات، ومحاصرة المعنى دائريا من استطراده طوليا إلى ما لا نهاية. كما يقوم التعليق بتلخيص الفصول وهو ما سيقوم به التلخيص فيما بعد.
42
ويحصي كل الأفكار الجزئية التي تكون القصد الكلي. ويفسر كل نقطة حتى تم بيان مراحل الفكر ومناهج الاستدلال وطرقه، ووضع المعاني كلها في أصول كما هو الحال في علم الأوليات
Axiomatics . وتتجاوز الأصول العبارة والفقرة والكتاب كله إلى ما بعده من كتب، من أجل معرفة التصور الكلي والشامل، وكشف الترتيب والتسلسل مع العقل والمنطق والاتفاق مع طبيعة الأشياء. مهمة التعليق بين مسار الفكر واستدلالاته ومراحل تكوين الخطاب. ويتضمن بيان مسار الفكر السابق واللاحق والانتقال من حجة إلى أخرى.
وقد يقوم المعلق بإيراد بعض الشكوك حول النص ويرد على كل منها، وكأن المعلق هو صاحب النص وواضع الفكر. وتبلغ دقة التعليق في تخيل الاعتراضات المسبقة على ما هو مألوف عند المسلمين في الكلام وفي الفقه في صيغة «فإن اعترض معترض» أو «فإن قال قائل». ويتم الرد عليه مسبقا في حوار متخيل بين الشاك المتشكك وبين فرفوريوس الذي يتقمص شخصية المعلق. يلخص المعلق التشكك ثم يرد عليه، وكلاهما من وضع الخيال.
43
ويكشف التعليق عن مسار الفكر عن طريق القلب، من الضد إلى الضد، ومن النقيض إلى النقيض، ومن العكس إلى العكس.
44
قد يكون التعليق شرحا للمعنى بالضد؛ أي ما لا يريده الفيلسوف وما لا يعنيه.
45
قد لا يشير التعليق إلى ما يريده النص إيجابا، بل أيضا إلى ما لا يريده سلبا.
ويبين التعليق الغرض من النص؛ فالمعنى أساسا قصد. وهو ما تحول بعد ذلك إلى عنوان في التأليف «في بيان غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة» للفارابي. والشرح والغاية والغرض أوضح؛ وذلك لأنه تفسير للجزئي بالكلي، والمعنى بالقصد.
46
ويعاد التذكير بالغرض مرة ومرة حتى يتم احتواء المعنى، التفسير بالغرض هو توجيه للنص وتحريكه حتى يصبح نصا للاستعمال، وقد يتفق مفسران على بيان الغرض؛ نظرا لوجود فهم مشترك للنص،
47
وأحيانا يختلف المفسرون والشراح في فهم الغرض، حينئذ قد يقوم شارح ثالث للجمع بين الغرضين في غرض واحد، طبقا لنظرة متكاملة كلية للعمل،
48
لا فرق في ذلك بين الشراح اليونان مثل الإسكندر والشراح العرب مثل ابن السمح وابن عدي ومتى بن يونس وأبو الفرج وابن الطيب. التعليق شرح لغرض المؤلف سواء كان الغرض الكلي أو تقسيمه إلى أغراض فرعية،
49
ويطول التعليق مطلبا مطلبا حتى يصبح قولا شارحا.
كما يكشف التعليق عن غرض المؤلف وبيان المعنى والقصد البعيد الذي يرمي إليه.
50
وهو ما ظهر بعد ذلك في التأليف الشارح مثل «في بيان غرض أرسطو» في كتاب ما بعد الطبيعة. وبيان الغرض النهائي هو تفسير عن طريق الغاية والقصد، شرحا للفكر باعتباره مقاصد من البداية إلى النهاية، تفسير الجزء بالكل كما هو الحال في مقاصد الشريعة في علم أصول مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه عند الشاطبي. وبيان الغرض هو معرفة المعنى، ومعرفة المعنى هو كشف عن الأصول والمبادئ للعالم كله. كل فحص له غرض وقصد، وكل غرض وقصد هو معنى ومعرفة؛ فالفكر مسار يتسلسل بعضه من بعض، ويتأسس بعضه على بعض، وينبني بعضه على بعض احتياجا. والفكر تساؤلات، والتساؤل بحث في مسار الموضوع وتأسيس للمعنى، ووضع لإشكاليات الفكر الوضع الصحيح. يكون التعليق في البداية للتعريف بالقصد الكلي للمقالة دفعة واحدة بفكرة رئسية وفي عبارة عربية غير مترجمة.
51
يقوم التعليق ببيان القصد وشرح النص من الداخل لبيان مقاصده وأغراضه. وقد يعدد التعليق مجموعة الأغراض التي رآها المعلقون الآخرون، ويقارن بينها ثم يختار أفضلها مرجحا إياها.
52
وقد يهدف التعليق إلى تعليل كلام أرسطو وتفسير نصه البعض بالبعض الآخر وربط أجزاء الكلام، تفسير النص بالنص وإيجاد السياق، ويعبر عن ذلك بلغة الاحتمال؛ فقد يكون هناك ربط آخر بين أجزاء الكلام.
53
مهمة التعليق بيان السبب من أجل إيجاد منطق داخلي للسياق وبنية أساسية للنص. وقد يكون الهدف من التعليق فيما بعد إبراز الفائدة، وتوظيف النص المترجم في بيئته الجديدة توظيفا جديدا.
54
كما يظهر أسلوب الشراح المسلمين وهو مخاطبة القارئ من أجل تحويل النص إلى عنصر مشترك بين المؤلف والقارئ.
55
خامسا: مادة التعليق
ومادة التعليق من النص المترجم نفسه؛ أي من الداخل وليس من الخارج، كما هو الحال في علوم التفسير، تفسير الكتاب بالكتاب، أرسطو نموذجا؛ فالتعليق إحالة إلى أعمال أرسطو الأخرى، وشرح أرسطو بأرسطو، إدخالا للجزء في إطار الكل، ليس فقط داخل كل علم وأجزائه مثل أجزاء المنطق والتعليق على المقولات بالعبارة، أو على القياس بالبرهان أو على الجدل بالسفسطة أو على الخطابة بالشعر وهو الأكثر شيوعا، بل أيضا خارج العلم والتعليق على نص في المنطق بالإحالة إلى نص من الطبيعيات أو الإلهيات وهو الأقل شيوعا؛ فالنص كجزء لا يفهم إلا في وحدة العمل ككل، والنص يمسك من أعلى وليس من أسفل، من رؤية شاملة له وليس كوحدة جزئية.
1
بل هناك جهد لترتيب أعمال أرسطو زمانيا من أجل معرفة تطور المذهب وليس بناؤه فقط.
2
في الشرح تتعدد العلوم والأمثلة والإحالات إلى باقي مؤلفات أرسطو.
3
وقد تمت ترجمة منطق اليقين على ما يبدو قبل منطق الظن، أما من حيث الحاجة للأول قبل الثاني أو من حيث القيمة، فاليقين أعلى قيمة من الظن أو من حيث ترتيب كتب أرسطو كما وصلت العالم الإسلامي؛ فقد ترجم كتاب الشعر في أواخر القرن الرابع؛ أي في عصر متأخر، مما يدل على أن المسلمين لم يكونوا متلهفين على ترجمة اليونان في موضوع يهتمون به، وهم الشعراء الذين كان الشعر لديهم قبل الإسلام يقوم مقام الوحي بعده، بؤرة الثقافة العربية ومنطلقها الأول. وبالرغم من عدم وجود شعر ملاحم وتمثيليات في الشعر العربي، إلا أن الترجمة لكتاب الشعر كانت من أجل العلم بالشيء، معرفة ثقافة الآخر معرفة نظرية وإن لم تنتج عنها آثار عملية.
4
وتقل الترجمة إحكاما انتقالا من منطق اليقين إلى منطق الظن، من المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والثانية إلى الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. ربما لاهتمام المسلمين بمنطق البرهان أي منطق العقل. وربما لعدم حاجاتهم إلى الخطابة والشعر وهم أهل فصاحة وبيان. وربما لأن الذوق العربي الذي يجمع بين الحق والخير والجمال، ينأى عن الجدل والسفسطة؛ أي الفصل بين المنطق والأخلاق.
5
وتزداد التعليقات كلما سرنا مع كتب المنطق من الكتابين الأولين وهما المقولات والعبارة إلى الكتابين الآخرين، القياس والبرهان. وتزداد التعليقات أكثر كلما انتقلنا من منطق البرهان (المقولات، العبارة، القياس، البرهان)، إلى منطق الظن (الجدل، السفسطة، الخطابة، الشعر)؛ ففي منطق البرهان إحكام عقلي ووضوح نظري، لا يسمح بالتعليق الذاتي والقراءة الاجتهادية، في حين أن منطق الظن يسمح بذلك نظرا لتراث الأنا في الخطابة والشعر.
وأكثر الكتب في حاجة إلى تركيز وإبراز للمعاني دون تطويل القياس والبرهان؛ نظرا لكثرة الأشكال وتعدد طرق الاستدلال؛ وبالتالي تظهر الحاجة للشرح أو للتلخيص، لتحليل المعاني أو لتركيبها. وكتاب البرهان، بالرغم من أنه أقل صورية من كتب القياس، إلا أنه كان أيضا في حاجة إلى تعليق، شرح وتلخيص، حتى يتم تركيزه وإبراز معانيه استعدادا للاستعمال والإنجاب. التعليق عملية إعداد للعروس حتى يأتي فيها الإخصاب في مرحلة التأليف؛ ففي البرهان نفس طابع الحشو الذي في القياس، بالمقارنة بالمقولة والعبارة؛ أي المقدمات التعريفية اللغوية، الفكر اللغوي العلمي المحدد. أما عندما يعيش الفكر على ذاته ويستدل مع نفسه، فتظهر الحاجة إلى الشرح حتى يتخارج الفكر ويظهر توجيهه وخلقه.
ومثل وحدة أعمال أرسطو هناك أيضا وحدة المنطق؛ حيث تتم الإحالات المستمرة من كتاب إلى آخر، دون تمييز بين منطق اليقين ومنطق الظن، كما تتم الإحالة إلى القياس وإلى الجدل،
6
وتظهر المقولات باستمرار حتى في التحليلات الثانية.
7
كما تحيل الخطابة إلى الطوبيقا وإلى أنالوطيقا وإلى الأقاويل المدنية (السياسة).
8
كما يحيل كتاب العبارة إلى القياس وإلى المواضع (طوبيقا أو الجدل).
9
وحدة مذهب أرسطو في داخل النص وليس فقط من تصور المترجمين والشراح.
10
فبعد الفراغ من الآثار العلوية يتناول الكون والفساد ثم تطبيقاته في الحيوان والنبات، وهناك إحالة إلى السماع الطبيعي في صلب موضوع السماء.
11
وكذلك الإشارة إلى السماع الطبيعي وما بعد الطبيعة في النفس إحالة في وسط النص.
12
وكما أن هناك وحدة الفلسفة اليونانية، هناك أيضا وحدة عمل أرسطو، بدليل الإحالات من كل علم إلى باقي العلوم؛ ففي الطبيعة تتم الإحالة إلى ما بعد الطبيعة وإلى الأخلاق.
13
وفي المنطق هناك إحالة إلى علم الأخلاق.
14
وقد بدأ ذلك عند أرسطو؛ فأرسطو ليس فقط فيلسوفا بل هو أيضا مؤرخ للفلسفة، يذكر آراء الأولين قبل أن يعرض لرأيه الخاص؛ فالتطور يسبق البناء، وهو ما فعل القرآن بتاريخ الأديان قبله، وانتقاد التجارب السابقة قبل أن يعلن بناء الموضوع.
15
وقد عرف المترجم العربي ذلك، فأدرج كلام أنبادقليس وأوميروس زيادة في الإيضاح، زيادة على نص أرسطو أي الاستشهاد بالنصوص نفسها لمزيد من الدقة بعد أن اكتفى أرسطو بذكر الفكرة وحدها.
16
والتعليق بداية إكمال النظرة الجزئية للنص في نظرة كلية عامة وشاملة، عن طريق المقارنات داخل الفلسفة اليونانية ذاتها، مقارنة النص داخل إطار حضارته قبل نقله إلى حضارة النص المنقول إليها، فإذا ما ذكر النص أفلاطون فإن التعليق يقارن بين رأيه ورأي أرسطو؛ فالموضوع عام وشامل غير مشخص، وما أفلاطون وأرسطو إلا آراء فردية فيه.
17
وهو ما سيتحول فيما بعد في مرحلة التأليف عن الفارابي إلى «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم». يستعمل المترجم التعليق مستمدا من تاريخ الفلسفة اليونانية؛ أي وضع النص في حضارته التي نشأ فيها قبل نقله إلى الحضارة التي ترجم إليها.
18
وقد يشير التعليق إلى جماعة بعينها بدلا من الضمير؛ فهم تعني المشائين.
19
فإذا أورد المعلق شكوكا على النص، فإنه يحاول حلها بالرجوع إلى تاريخ الفلسفة اليونانية كله، من أفلاطون وشيعته، وأرسطو وشيعته والشراح مثل ألينوس. ويختار أحد الحلول ويرجحه على الأخرى ويحكم بحسنه، ويعبر عنه بأسلوبه الخاص وعباراته العربية السليمة، ويزيد عليه إثباتا لصحته، ويشارك في صياغته والبرهنة على جودته، حتى يصبح تأليفا غير مباشر في الموضوع.
20
كما يتناول الإسكندر الأفروديسي موضوع العناية ، ليس فقط في مؤلفات أرسطو، بل أيضا عند ديموقريطس وأبيقورس.
21
وبعد الحديث عن القدماء استمر الوعي التاريخي عند الشراح بعد أرسطو، بل أصبح أكثر ازدهارا.
22
وإرجاع النص إلى الفلسفة اليونانية يعني التفسير الحضاري للنص وإعطاء معلومات عنه، باعتباره نصا محليا إلى حضارة معينة وهي طريقة أرسطو مؤرخا؛ فالشارح أيضا مؤرخ للنص داخل حضارته، خاصة وأن نص أرسطو نفس حوار مع الفلاسفة السابقين؛ فأرسطو يمثل البنية والحضارة اليونانية قبله تمثل التطور، كما يفعل ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة» بالنسبة لفهمه لدور أرسطو في تاريخ الفلسفة اليونانية، ودوره هو بالنسبة لتاريخ الفلسفة الإسلامية، تأكيدا للتشابه على الدورين؛ لذلك يحتوي الشرح على ما سماه الأصوليون تحقيق المناط؛ أي تحويل النص إلى واقع، والحكم إلى تاريخ، والإشارة إلى الأشياء التي يشير إليها النص. وهي في هذه الحالة إحالة الأفكار إلى أصحابها، والآراء إلى الفلاسفة القائلين بها.
23
وقد تكون الإشارة إلى النص اليوناني فرصة لإجراء تاريخ للفكر اليوناني، ووضع النص في إطاره الحضاري الذي نشأ فيه، ووضع الجزء في الكل، والانتقال من أرسطو إلى زينون، ومن التحليلات الأولى إلى حجج زينون في إبطال الحركة.
24
وكما جرت العادة تم إلحاق مدخل فرفوريوس الصوري تلميذ أفلوطين اللوقوبولي كتابه في المنطق بعد أن تمت ترجمته. وقد كان الشرح والإضافة من داخل النص من قبل. والآن هناك زيادة من خارج النص، نص آخر في نفس العلم، وهو المنطق لمؤلف آخر هو فرفوريوس لإكمال مجموع الكتابات المنطقية في الحضارة اليونانية لأرسطو ولغيره.
25
والعجيب أنه لم يتساءل أحد لا من القدماء ولا من المحدثين، كيف يكتب تلميذ أفلوطين هذه المقدمة، وهو ليس أرسطيا بل إشراقيا، وشتان ما بين العقل والإشراق، بين المنطق والتصوف.
وقد تكون مادة التعليق من الخارج أكثر منها من الداخل؛ فقد يحتوي التعليق على ترجمات عربية أخرى مع تأييد لها أو تصحيح،
26
يفاضل بينها وينقد البعض منها ويقبل البعض الآخر. وقد تكون نسخا مختلفة من نفس الترجمة، تتفاوت فيما بينها دقة وصحة. ليس الأمر مجرد أمانة علمية ودقة في النقل، بل يدل على موقف فكري، وهو احتمال التأويل في ترجمة أكثر من الترجمة الأخرى. كما تذكر الترجمات البعيدة الاحتمال، حتى ولو تم حذفها ما دامت مدونة كتابة، حتى لو تغير الناقل واستمر النقل. يشار إلى ذلك حتى ولو كان التغير من الأب إلى الابن.
27
وقد تكون التعليقات مستحبة من تفاسير المترجمين والشراح. وأحيانا يطلق على الترجمة تفسير؛ لأن كل ترجمة هي تفسير؛ أي إبراز المعنى وليس نقله نقلا حرفيا. مهمة التعليق أحيانا الحكم على صحة الترجمة، صوابا أو خطأ مثل الخطأ في الخلط بين العجمة والسولوقسموس؛ فالعجمة الخطأ في لفظ حرف بينما لوقسموس هو اللحن في القول.
28
وقد تكون التعليقات أحيانا من أشخاص معروفة وأحيانا من أشخاص أقل شهرة وإحالة إليهم.
29
وقد يذكر التعليق اسم المعلق وهو المترجم من اليونانية أو من السريانية وقد لا يذكر.
30
وقد يحتوي التعليق إحدى الترجمات أو بعضها.
31
كما يشير الشرح إلى اختلاف النقل وتستعمل التعليقات في الهوامش لرصد اختلافات النقل، وليس للشرح الكبير؛ أي للاختلافات في الفهم الناتجة عن اختلافات النقل.
32
كان من الطبيعي أن تسقط أسماء الأعلام اليونانية الأبطال أو للأشخاص؛ لأنها لا تهم المعنى في شيء أو استبدالها بأعلام عربية في مرحلة متأخرة؛ فهرقل وأجاكس لا يعيشان في الوجدان العربي الإسلامي مثل هبل واللات والعزى، وتبدو غريبة في أي استخدام حضاري جديد للنص؛ لذلك في مرحلة لاحقة، الشروح والملخصات، سقطت هذه الأسماء للأشخاص والأماكن في ضرب الأمثال، وكذلك أسماء الكتب والمحاورات، وكل ما يوحي بمحلية الوافد مثل ملك الأثينيين. إن الأمثلة المحلية تجعل حتى المعنى الذي يمكن أن يفهم من خلال اللفظ غير مفهوم؛ فكل ذلك لا يعيش في وجدان العرب، كما يعيش إبراهيم والأنبياء والشعر الجاهلي.
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ، حتى يمكن للتراث أن يؤدي وظيفته كتوجيه للسلوك، وباعث على الفعل خاصة في الشعر والخطابة.
33
أن النص المترجم نفسه محلي وتحويله إلى فلسفة عامة وإكمالها بمادة محلية أخرى، لا يعني أنها أصبحت ثقافة عالمية كما يفعل الغرب الحديث، عنصرية مقنعة أو صريحة في اللاوعي أو الوعي الأوروبي تمركزا على الذات، وإنكارا لوجود الآخر أو دفعه إلى الأطراف، بل يعني أن الآخر قد تمت قراءته في ثقافة الأنا من أجل خلق ثقافة إنسانية عامة، تضم الآخر (العقل) والأنا (العقل والنقل) في رؤية واحدة، يتحدد فيها الوحي والعقل والطبيعة، النص نفسه يؤكد محليته ولغته وثقافته، فمبحث المقولات مرتبط باللسان اليوناني، وهو ما حدا بالأصوليين فقهاء ومتكلمين إلى نقد المنطق الأرسطي، بناء على اختلاف اللسان العربي عن اليوناني.
وارتباط مبحث الألفاظ باللغة اليونانية، يؤكد محلية الحضارة وضرورة تخليصها من الأمثلة الخاصة، من أجل إعطاء أكبر قدر من عمومية الفكر، واستبدالها بأمثلة أخرى محلية لاحتواء الروح دون الجسد، خاصة في مرحلة الشرح والتلخيص بعد النقل والتعليق.
34
وتبدو ضرورة ترك أسماء الأعلام في الشرح بعد ذلك نظرا لوجود كثير من أعلام الأدب اليوناني.
35
وكان من الطبيعي ترك هذه الأمثلة، التي ليست مخزونا نفسيا أو تراكميا حضاريا في الوجدان العربي في مرحلة التأليف، حتى ولو كانت الأسماء اشتقاقا تعني شيئا في العربية، مثل أخيلوس كبر النفس أو تريسماجست المثلث العظمة. كان لا بد من الشرح حتى تسقط أسماء الأعلام، التي لا تعبر إلا عن واقع تاريخي خاص، واستبدالها بواقع تاريخي آخر دال مخزون عند الناس في الوعي التاريخي. ويصعب إحصاء هذه الأسماء لكثرتها في الترجمة، وأن الكم الهائل من أسماء الأعلام، الأشخاص، والفلاسفة، والخطباء، والسياسيين، أسماء الأماكن من بلدان ومناطق وجزر لتجعل كل ذلك لا رنين له في الوجدان العربي الحالي من أي رصيد فيه؛ وبالتالي كان من الطبيعي أن تسقط كل هذه المادة المحلية، وأن تحل محلها أمثلة عربية من اللغة والأدب والتاريخ العربي. وكانت أكثر كتب أرسطو محلية ومملوءة بالبيئة اليونانية الخطابة والشعر؛ فالخطابة أكثر كتب منطق أرسطو ذكرا للأمثلة والشواهد؛ لأنها تحليل لكلام الخطباء والشعراء مثلنا الآن؛ إذ لا يستطيع الفكر أن يكون كذلك دون ديكارت وكانط وهيجل (ماركس)؛ أي دون سقراط وأفلاطون وأرسطو من القدماء؛ فقد تكرر سقراط في ديكارت، وأفلاطون في كانط، وأرسطو في هيجل. كما يشير كتاب الخطابة إلى اليونانيين، كما يشير الغرب الحالي إلى حضارتنا وفكرنا ولغتنا وفلسفتنا. ونحن نقول ذلك تبعية لهم بالرغم من التمايز الحضاري بيننا وبينهم؛ فالإنسان كائن حضاري، كما يكثر في الشيء الإحالة إلى شعراء اليونان واللغة اليونانية.
36
على عكس المنطق حيث يعتمد البرهان على التحليل الصوري. الخطابة والشعر مثل الإلياذة والأوديسة أقرب إلى الثقافة الوطنية مثل المعلقات. ومنها تخرج جماليات الشعر اليوناني والغرب؛ فالشعر حالة خاصة وليست عامة. كانت مهمة ابن رشد بعد ذلك وهو الفقيه الفيلسوف معرفة القاعدة والأصل، كما درس فيكو الأدب القديم لمعرفة قوانين التاريخ.
37
وقد يحتوي التعليق مادة محلية من الوافد، وليس بالضرورة من الموروث وشرحا للوافد بالوافد، لمزيد من الإيضاح قبل نقله إلى الموروث، اعتمادا على اللغة اليونانية أو الأساطير اليونانية أو الفلسفة اليونانية، لشرح الجنس والنوع وجنس الأجناس ونوع الأنواع، أو شرح بعض عادات اليونانيين لفهم الشعر.
38
وقد أمكن التحول من محلية الوافد إلى محلية الموروث في الترجمة والتعليق بالطرق الآتية: (أ)
إنزال أسماء الأعلام في الهامش في التعليق للتخلص منها والإبقاء على الموضوع المثالي من شوائبه التاريخية.
39 (ب)
اختصار هذه الفقرة المملوءة بأسماء الأعلام كلية لأن حذفها لا يؤثر في فهم المعنى.
40 (ج)
الإبقاء على الأسماء الشائعة مثل سقراط، كموضوع في قضية حملية في مقدمة صغرى في قياس منتج.
41
وقد يأتي سقراط نظرا لشهرته محل كالباس. (د)
إسقاط الاسم اليوناني مثل كالباس الذي يعبر عن المجهول إلى ما يقابله في اللغة العربية مثل زيد وعمر.
42 (ه)
شرح اللفظ اليوناني على عادة اليونان في التعليق مثل تسمية الصوت الصافي أبيض.
43
ولو كانت اللغة ليست مجرد أصوات فارغة، بل تعبير عن سلوك، يتحدث النص العربي عن المحبة التي تكون في فعل الجسم، ويضيف التعليق يريد القبلة. وإذا تكلم النص عن التصاريف، فإن التعليق المقصود بذلك في اللغة العربية.
وغالبا ما تترك البيئة اليونانية، لغة وثقافة ودينا، في الترجمة بلا احتواء؛ فتلك مهمة التعليق والشرح والتلخيص والجوامع، ثم العرض والتأليف قبل الإبداع؛ لذلك يظهر لفظ «الآلهة» بالجمع.
44
ويكون ذلك في الغالب وسط الترجمة لا في بدايتها ولا في نهايتها، خاصة إذا كانت الترجمة حرفية، مجرد نقل. يترك الفكر الديني الوافد كما هو عليه بألفاظه، دون إعادة نظر فيه أو التحرج منه أو التعليق عليه، لاحتوائه في البيئة الدينية الجديدة. ربما لأن المعنى مقبول بصرف النظر عن اللفظ، مثل النطق بالواجب وإغضاب الناس والنطق بالجور، وإغضاب الآلهة واستحالة الموت والخلق على الآلهة؛ فالله تصور حدي مثالي يدل على الكمال. كان المترجم هنا مستغربا أو مغتربا، مهمته النقل الامين في مرحلة النقل والترجمة قبل احتوائه وضمه في مرحلة الشروح والملخصات والجوامع، المراحل التالية.
45
وأحيانا يكون النص المترجم محتويا على ألفاظ دينية، دون أن يفهمها المترجم، فتترك كما هي لمرحلة لاحقة في الوعي التاريخي، تشد انتباه الناسخ أو القارئ والمعلق أو الشارح، والملخص أو صاحب الجوامع فيما بعد مثل لفظ الإله. وقد يقتصر التعليق على رفع أداة التعريف؛ لأنه ليس الله ويكون إلها. وقد يستعمل لفظ الإله في النص دونما يثير أي تعليق، وكأنه إله الوثنيين، لا فرق بين المثال من الله والمثال من الإنسان، كلاهما مثل يضرب دون أن يكون له معنى ديني خاص.
46
ويعتبر النص أن هل ينبغي أن يعبد الله من الأقوال المشككية، مع أنها من الأقوال البديهية، مثل ضرورة احترام الوالدين، وكذلك مثل أنه ليس من المستحيل أن يموت أحد بظلم الله، مع أن العدل من الواجبات العقلية.
47
كما يتحدث النص المترجم عن المتوسطات إلى الله، وفي الحضارة الإسلامية الجديدة لا واسطة بين الخلق والخالق، وكذلك الحديث عن الجن هل هو إله أم مخلوق.
48
سادسا: التعليق كنوع أدبي مستقل
وكما بدأ التعليق كنوع أدبي من الترجمة وداخلها، فقد استقل عنها عند المترجمين مثل «تعاليق عدة على معان كثيرة ليحيى بن عدي» (364ه)، والتعليق لفظ من المؤلف كثر المحقق استعماله.
1
ويعني التعليق هنا بيان وجاهة ترتيب أرسطو قضايا الواجب البسيطة، وإيجاد مزيد من التعقيل والتنظير لها. ويحدث نفس الشيء في التعليق على باري أرمينياس، وشرح وجهة نظر أرسطو في ثنائيات السلب والإيجاب.
ويتحول التعليق من تطور للترجمة المعنوية، بالإضافة، من شرح إلى نوع أدبي مستقل عن الترجمة، أقرب إلى الشرح أو التلخيص أو الجوامع بتقسيم ابن رشد، والحد الفاصل بينها هو تسمية العمل نفسه؛ فقد سمى ابن باجة جزءا من تأليفه تعاليق مثل «تعاليق في الأدوية المفردة». وقد يشار إلى التعليق بمجرد القول أو الكلام. وقد لا يكون هذا ولا ذاك، إنما الحجم الصغير للتعليق، الذي قد يتشابك حينئذ مع التلخيص أو الجوامع. وقد يجمع كل هذا الشرح كنوع أدبي، بصرف النظر عن حجمه وطريقة التعامل مع النص المترجم.
2
ويلاحظ على التعاليق المنطقية تكرار التعليق أكثر من مرة على الكتاب الواحد، واختلاف الأسماء على الكتاب الواحد، وظهور نوع جديد من الارتياض؛ أي التمرينات، من أجل الاستيعاب والتمثل والتعليق على منطق اليقن لا منطق الظن. ويلاحظ على التعليقات الطبيعية التعليق على أجزاء من الكتب خاصة السابعة والثامنة، كما فعل ابن رشد مما يدل على الدقة وتقسيم الكتاب الواحد إلى أجزاء عدة، وعدم ذكر أسماء الحكماء والاكتفاء بأعمالهم التي استقلت عن أصحابها، باستثناء جالينوس مرة واحدة.
هل التعليق شرح على الوافد الموروث، في حين أن الشرح تعليق على الوافد المباشر، قبل أن يتحول إلى موروث غايته التوضيح والتصحيح، من أجل تراكم فلسفي في الوعي التاريخي؟ هو توضيح أمام النفس ونقل الوافد الموروث من عصر إلى عصر، بعد عمق الزمن واتساع الرؤية، فإذا كان الفارابي شارحا للوافد المباشر، فإن ابن باجة يكون معلقا على الشرح أو شارحا له أو مؤلفا فيه؛ فالتراكم الفلسفي يحدث في الوافد بعد أن يصبح موروثا قدر حدوثه في الموروث، مثل شرح ابن طفيل لحيي بن يقظان، في أسرار الحكمة المشرقية لابن سينا.
فهل قام أحد غير ابن باجة بشرح الشرح والتعليق عليه؟ وقد ترك ابن باجة تعاليق على معظم أعمال الفارابي، كنموذج للتواصل الفلسفي بين المغرب والمشرق. وهي تعاليق بالجمع لأنها تتعلق بجزئيات عديدة، وليست تعليقا واحدا، ويصعب التفرقة بين الوافد المباشر من أرسطو أو الوافد الموروث من الفارابي، نظرا لاتحاد الأسماء مثل إيساغوجي لفرفوريوس وللفارابي. ومع ذلك يمكن من السياق التمييز بين ما لأرسطو وللفارابي ولابن باجة. (1) تعاليق ابن باجة على كتاب إيساغوجي للفارابي
وهو نموذج العبارة الشارحة على الداخل، مثل الشروح المتأخرة في عصر الشروح والملخصات، عندما بدأت الحضارة تعيش على ذاتها، وتجتر إبداعها القديم، وبعد أن تحول الوافد إلى وافد موروث.
3
ويظهر التناص داخل التعليق، التعليق على شرح الفارابي على نص أرسطو، إذ يظهر نصان قصيران لأرسطو من كتاب الحيوان.
4
تقطع عبارات الفارابي أقرب إلى القصر منها إلى الطول، ثم تظهر صفحات بأكملها أقرب إلى التأليف منها إلى التعليق،
5
بل هو أقرب إلى الإبداع منه إلى التأليف؛ لأنه لا يشير إلى الوافد ولا إلى الموروث ولا إلى الوافد الموروث. ولا يوجد نسق معين للتناص؛ إذ يذكر ابن باجة أوائل رسائل الفارابي أو أواخرها، ويعلق عليها ويسقط أجزاء أخرى؛ فالتعليق هنا ليس شرحا أو تلخيصا جامعا كليا، بل تطويرا لبعض الأجزاء.
ويثني ابن باجة على الفارابي لخروجه على إطار إيساغوجي؛ فبدلا من حديث الفارابي عن الألفاظ الخمسة، قسمها إلى قسمين: الأول الألفاظ الخمسة، والثاني معرفة المركبات. وجعل الكتاب أربعة فصول: الأول غرضه، والثاني الكليات والأشخاص، والثالث الألفاظ المفردة، والرابع الألفاظ المركبة. وهو إبداع من الفارابي وليس نقلا عن أرسطو.
6
وتظهر أفعال القول بأولوية الاسم، القول، على مشتقات الفعل، ويظهر السلب مع الإيجاب. ويوضح ابن باجة ما لم يقله الفارابي قارئا أرسطو بالإضافة إلى ما قال.
7
وبطبيعة الحال يبرز الوافد في تعاليق ابن باجة على كتاب إيساغوجي للفارابي.
8
ويتقدم أرسطو ثم فرفوريوس. وتتم الإحالة إلى باقي أجزاء المنطق. ويظهر أرسطو مع الفارابي؛ فالتعليق هنا تتناص بين ابن باجة والفارابي وأرسطو، قراءة ابن باجة لقراءة الفارابي لأرسطو. لم يرتب أرسطو الفصول، ولم يضعها، ولم يتكلم فيها الفارابي من حيث هي نظرية ورتبها كالأجناس؛ فابن باجة لديه إحساس بإبداع الفارابي بالنسبة إلى أرسطو، فإذا رسم أرسطو الكلي، وهو ما يحمل على أكثر من واحد، يقدم الفارابي رسما إضافيا على أرسطو؛ فرسم أرسطو جزئي لا يشمل كل الأصناف، كما رسم أرسطو العرض في كتاب الجدل، ولكن رسم الفارابي أعم وأشمل. ورسم أرسطو الكيفية ثم شرح الفارابي أسماءها ومعانيها ومقاصدها؛ لأن أرسطو ذكر حدودها فقط كما فعل في كتاب الجدل.
9
لم يرتب أرسطو هذه الفصول ولم يضعها، وتلك إضافة الفارابي على أرسطو، وإكماله صناعة المنطق، وهي كأجناس الصناعة كلها؛ فالفصل الخامس من العبارة قائم عليها، والأسماء المشتركة تطبيق لها، ونسبة الفصول إلى المنطق مثل نسبة أقسام الكلام إلى النحو. كما أن المنطق بالنسبة للفلسفة مثل النحو بالنسبة للكلام؛ فالفارابي ينقل المنطق اليوناني على النحو العربي، ويرتب الفصول، ويكشف نظامها العقلي وبنية الموضوع. ويدرك ابن باجة بدقة دور الفارابي؛ مما يجعل التعليق ربما نوعا أدبيا متأخرا بعد الجوامع؛ أي تراكم الوافد حتى يصبح موروثا كمرحلة وسطى في التحول من النقل إلى الإبداع. كما يشعر ابن باجة بإبداع الفارابي في رسم الكلي؛ فهو عند أرسطو يحمل على أكثر من واحد، ثم يقدم الفارابي رسما جديدا، وهو رسم بالإمكان الذي للمعنى من جهة ما هو معقول، ورسم الشخص بعدم هذا الإمكان وبالامتناع؛ فرسم أبي نصر أكثر منطقيا وفلسفيا وذهنيا. ويعطي ابن باجة عدة تأويلات للفارابي؛ فهو أيضا مبدع معه كما كان الفارابي مبدعا مع أرسطو.
10
ويظهر الموروث في تعاليق ابن باجة على كتاب ايساغوجي للفارابي، وبطبيعة الحال يأتي الفارابي في المقدمة، هو ومؤلفاته.
11
ويحال إلى اللسان العربي دون اللسان اليوناني. ويشعر ابن باجة أن الفارابي مؤلف وليس شارحا للمنطق. الفارابي وحده هو الذي وضع الفصل من حيث هي صناعة لها أجزاؤها وترتيبها، وموجودة بالقوة في الوحي، جمع الفارابي هذه الفصول وأحصاها. ليست جزءا من الصناعة إنما هي تقرير وتحصيل للأشياء التي ينبغي معرفتها قبل الصناعة، وعرضها هنا كجزء من الصناعة. أبدع الفارابي وأكمل المنطق وكأن ابن باجة يقرأ نفسه في الفارابي؛ ومن ثم يكون الفارابي مبدعا بالنسبة لأرسطو. الإبداع إعادة قراءة للترجمة والشرح أو مرحلة انتقال أو تحول من النقل إلى الإبداع. واسم صناعة المنطق مشتق مما ذكره أبو نصر، علم مشتق من اللغة العربية من النطق وليس وافدا من اليونان.
12
ويحيل ابن باجة إلى كتاب الفصول للفارابي مفسرا الجزء بالكل، واسمه المدخل أو الفصول أو اللفظ المعرب إيساغوجي؛ لأن أحدا غير الفارابي لم يؤلف فيها. ويستعمل الفارابي الشرط كثيرا في الفصول، الغرض منه تعلم الأشياء التي تساعد على إحصاء المقولات، وعلى فهم المنطق كله أو الفصول الخمسة. ويستعمل لفظ إيساغوجي عندما تكون الإشارة إلى فرفوريوس والمدخل أو الفصول لتأليف الفارابي فيه. وينقسم إيساغوجي أربعة فصول ولكن المدخل عند الفارابي لم يلتزم بالتقسيم الأول، وجعل مهمته شرح الفصول الخمسة أسمائها ومعانيها. ويكون إيساغوجي مجرد التوطئة لكتاب المدخل للفارابي الذي يأخذ مكانه. لم يكرر الفارابي ما قاله فرفوريوس من قبل، ولكنه أضاف عليه وتممه وأعاد قراءته.
13
ويحيل ابن باجة إلى كتاب الفارابي «الألفاظ المستعملة في كل صناعة الذي يبين فيه اشتقاق صناعة المنطق». كما يحيل إلى كتاب «قاطيغورياس» الذي استعمل فيه لفظ العرض إضافة بين الكليات والأشخاص وكأنها جنس لموضوع. كما يستشهد بكتاب «الجدل».
14
ويشير ابن باجة إلى بعض أعمال الفارابي مثل «في الوحدة»، ويقصد في معاني الواحد ويبني عليه مذهبه في توحيد العقل الفعال، وكتاب «الموجودات المتغيرة»، وكتاب «الرد على النحوي»، ويعني الرد على أبرقلس في أزلية العالم. ولم يذكر من المشارقة بعد الفارابي إلا الغزالي وإخوان الصفا. أما الحديث عن المصادر الأفلاطونية والأرسطية عند ابن باجة، معلقا على الفارابي فهو استشراق خالص، الآخر مصدر للأنا وليس الأنا متمثلا للآخر.
15
يشرح ابن باجة الألفاظ باللجوء إلى لسان العرب استئنافا لشرح الفارابي واقتباسا لنص منهح فالكلية في المدخل هي الفعل العربي، والأداة هو الحرف، والكلية الوجودية مشتقة من فعل الكينونة الذي يعني الوجود. وكل الألسنة تستعمل الرابطة التي تدل على الوجود باستثناء اللسان العربي، فالوجود مضمر.
16
والحرف قد يكون اسما لنوعه أو اسما لنفسه. كما أن زيد علامة يعرف بها الشخص. والمعنى المدلول عليه باللفظ صنفان، الأول معقول والثاني شخصي باستثناء المعاني الخيالية، مثل العنقاء والغول وعنز أيل.
17
ويظهر اشتراك الاسم أيضا طبقا لمبحث الألفاظ في علم الأصول؛ فالسوفسطائية تقال باشتراك الاسم، وكذلك الجدل والخطابة والشعر والخبر؛ فمرة يفيد الألفاظ من حيث هي تأليف، ومرة المعاني الدال عليها؛ لذلك أتت أهمية الفصول لحل الاشتراك في الأسماء. ويشرح الفارابي الأسماء وفائدتها ومعانيها، وهي أسماء مشتقة مما جعلها أقرب إلى الحد والرسم.
18
ويظهر أسلوب الفقهاء في تخيل الاعتراض والرد عليه مسبقا، والإجابة على أسئلة مفترضة، والرد على الشكوك باليقين من أجل إكمال الموضوع، وتغطية كل جوانبه بطريقة السؤال والجواب، طريقة الأصوليين.
19
كما يضرب المثل بالعربي والزنجي على الإضافة مثل تمايز الشمس والقمر والكواكب، بالإضافة وعلى رسم الكليات المشهورة. ويستعمل ابن باجة أمثلة من الشعر العربي من امرئ القيس وجرير والأخطل، كمجرد موضوعات أو محمولات في قضية موجبة أو سالبة؛ مما يدل على حضور الثقافة العربية في المخزون الثقافي للشارح.
20
كما يظهر الأسلوب الإيماني في التعبيرات الدينية مثل «اللهم»، «الحمد لله»، «رضى الله وتوفيقه».
21 (2) تعاليق على المقولات
ويبدو التناص واضحا في هذا التعليق في صورة نصوص مقتبسة من الفارابي، أطول من النصوص المقتبسة في إيساغوجي. وأحيانا يسمى التعليق الارتياض مما يدل على أن الغاية منه التدريب والتمرين. ومع ذلك هناك فقرات بأكملها أقرب إلى الإبداع منها إلى التعليق. ولا تبين الإحالات إلى تعاليق المقولات هل هي كتب أرسطو أم شروح الفارابي؛ فلم يعد هناك فرق بين الشروح والشرح. الشرح إعادة إنتاج للنص في نص جديد، وأكمل وأدق تعبيرا وأوسع وأشمل أفقا، بل إن الإحالة تجاوزت اسم الكتاب إلى موضوع العلم. كما تجاوزت العلم إلى الموضوع ذاته.
لذلك تدخل التعليقات في الموضوع مباشرة بلا أفعال القول؛ فهي في غالبها القول المنسوب إلى الفارابي، الموضوع لا الشخص، موضوع القول لا فعل القول.
22
ويظهر الوافد في تعاليق المنقولات، أرسطو في المقدمة ثم فرفوريوس في مقابل الموروث، والفارابي بمفرده. وتتم الإحالة إلى كتاب العبارة والمقولات أوقاطغيورياس، دون تمييز دقيق بين ما لأرسطو، وما للفارابي، بين الوافد المباشر والوافد الموروث.
23
ويؤسس ابن باجة المقولات العشر عند أرسطو في الفطرة دون فكر أو روية، والفطرة مقياس إسلامي. ويبدأ بالألفاظ المتواطئة، وهي من مباحث الألفاظ عند الأصوليين؛ فالغرض من التعليق هو بيان مجمل، وتخصيص العموم وهي مقولات أصولية. وهنا يتعامل ابن باجة مع أرسطو مباشرة دون توسط الفارابي. كما يحيل ابن باجة إلى فرفوريوس في تفرقته بين الحد والرسم، الخاصة للرسم والفصل للحد.
24
ويحال إلى كتاب العبارة في وجود الضدين في الأقاويل في العبارة، في حين أنهما في كليات الموجودات في المقولات. كما يحال إلى كتاب المقولات أوقاطيغورياس لمعرفة هل هي معان مفردة مستندة إلى محسوس، ولا تعم غيرها معلومة بغير استدلال، أم هي معان عامة تضم غيرها، وفي كلتا الحالتين هي عشرة. وللمقولات معنى محدد ينطبق على ما يدخل فيها لا ما يخرج منها. وهي الأجناس في المنطق التي تسبق العبارة.
25
ويظهر الموروث في تعاليق ابن باجة على كتاب المقولات. ويأتي الفارابي بطبيعة الحال في المقدمة مع باقي مؤلفاته، الخمسة، المدخل، إيساغوجي، المقولات ثم قاطيغورياس. ومن الموروث أيضا يحال إلى المتكلمين باعتبارهم وافدا موروثا للحكماء.
26
الحركة من الكم عند الفارابي، ولكن إبداعه في تقديم المقولات على أنها ألفاظ، مقدمة لصناعة كلها. وقد اكتفى ارسطو بالعدد الذي يستطيع القطر استيعابه واستعماله في المقاييس. ويمكن استنباطها من إيساغوجي وحدها وفصلها، بالرغم من ظن البعض أنه أخطأ في جعل مواضع متساوية وكمياتها مختلفة؛
27
فالاتفاق مع الفارابي وليس مع أرسطو أو مع أرسطو من خلال الفارابي. وينقد ابن باجة المتكملين لأنهم لم يشعروا بالفرق بين ما يميز الشيء عن غيره وما يعرف في نفسه. وهي التفرقة المشهورة بين الشيء لغيره والشيء لذاته.
28
ويحيل ابن باجة إلى كتاب الفارابي الفصول الخمسة، خاصة لواحقها التي هي بمثابة المبادئ العامة للمنطق. ويذكر حد الحد الذي في المدخل من حيث هو معنى، بينما تحديده في الفصول من حيث هو لفظ؛ فالموضوع عند ابن باجة معروف في أكثر من كتاب للفارابي، وليس فقط من النص موضوع التعليق. والمدخل عند الفارابي آلة وجزء من صناعة المنطق، وغرضه أن يكون نافعا في استنباط أجناس المقولات. ويشير ابن باجة إلى الفصول باعتباره بديلا عن إيساغوجي.
29
ولا يذكر ابن باجة ابن سينا في كل مؤلفاته إلا مرة واحدة، على عكس ابن رشد يصوب عليه سهامه مع الأشعري. وإذا لم تصل مؤلفات ابن سينا إلى الأندلس، فكيف وصلت لابن رشد؟ هل تفضيلا للفارابي عليه؟ لقد ذكر ابن سينا عرضا في كتاب المقولات من خلال الفارابي، صراحة أو ضمنا لدرجة الشك في صحته. وقد ذكره في إطار الطبيعيات وليس الإشراقيات، فيعترض عليه لمخالفته الفارابي. وعندما يذكر ابن باجة قسمة الفلسفة أحكام العقول القسمة الشائعة إلى ضروري وممتنع وممكن، فإنه لا يشير إلى ابن سينا؛ لأنه مجمع تنقصه الأصالة والإبداع اللذان يجدهما ابن باجة عند الفارابي.
30
وكل لفظ من المقولات يدل على أكثر من معنى؛ فهو اسم مشترك وإلا وجد معنى يعم أكثر من واحد منها. وهي أسماء مشككة منها متواطئ ومنها ما يقال بتقديم وتأخير منها ما يقال بتناسب، فإذا كانت المقولات أسماء مشتركة فأسماء الطبيعة أولى. وهي محاولة لإعادة تفسير المقولات ابتداء من مباحث الألفاظ، كما هو الحال لإعادة تفسير المقولات، ابتداء من مباحث الألفاظ كما هو الحال عند الأصوليين وليس كتصورات.
31
ويظهر أسلوب الفقهاء في توقع السؤال والرد عليه سلفا، وتخيل الاعتراض والرد عليه مسبقا. كما يضرب المثل بزيد وعمر طبقا للعادة العربية لبيان الإضافة. وتظهر المقدمات والخواتيم الإيمانية من المؤلف أو الناسخ، وطلب الرضى له والرحمة عليه.
32 (3) تعاليق على العبارة
والعنوان الدقيق «من كتاب العبارة»، ولكنه أشبه بالتعليق. ويعني تقطيع القول لإعادة تركيبه على المعنى، وليس على اللفظ، من أجل تحويل الوافد الموروث، أرسطو من خلال الفارابي، إلى موروث إبداعي، والانتقال من مستوى الألفاظ إلى مستوى المعاني والأشياء. يقوم ابن باجة بالتعليق بمعنى التأليف في الموضوع، ابتداء نم الفارابي بعد أن تحول أرسطو من خلاله، ثلاثة أجيال فكرية، أرسطو والفارابي وابن باجة. يدرس ابن باجة الموضوع عند الفارابي الذي درسه من قبل عند أرسطو. ويدافع ابن باجة عن أبي نصر إذ ظن الناس أنه لم يعرض لإثبات الممكن. وهذا ليس من صناعة المنطق بل من المعلومات الأول. وقد جعل المتناقضين يقتسمان الصدق والكذب على غير التحصيل، وإلا تساوق الضروري والممتع، وارتفعت الرؤية والاستعدادات وبطل الممكن.
33
وتظهر أفعال القول في صيغ عديدة مع أفعال الظن والاعتقاد والكلام؛ فالظن هو الاعتقاد الشائع الذي يبدده التعليق. ويغلب على ضمائر أفعال القول، قوله «إشارة للفارابي»، «قولنا» إشارة لابن باجة، بالإضافة إلى الصيغ الأخرى. والتعليق كله حجاج وسجال ومحاجة، وردود على اعتراضات. ويظهر لنا التمايز بين المعلق والمعلق عليه وقوله.
34
كما يظهر مسار الفكر، مقدماته ونتائجه.
ومن الوافد يتعرض ابن باجة لجالينوس ثم أرسطو ثم بارمنيدس. ينقد ابن باجة جالينوس المنطقي في أنه جعل الموضوعات المتغيرة واحة، وأنه جعل ما بالجوهر بالعرض لذوات الطبائع المتغيرة. وقد ارتاب جالينوس كما ارتاب في شهادة الحس، مما يدل على ارتباط المنطق بالميتافيزيقيا. وإن أخطاء المنطق تعود إلى أخطاء في الميتافيزيقا. كما أبطل جالينوس الممكن في جعله المتناقضين يقتسمان الصدق والكذب؛ لأن الممكن لا ينقسم. والحقيقة أن جالينوس لم يقصد إبطاله بل نتج عنه ارتفاعه. وابن باجة ليس ضد جالينوس على طول الخط، ولكنه أيضا يدقق النظر، ويصحح العبارة، ويبين المجمل، ويحكم المتشابه كما يفعل الأصولي. كما طعن جالينوس على حد الممكن تذرعا بأنه يستعمل الممكن، وهو جهل لأن الممكن في قوله غير ممكن معناه موجود، والممكن المطلوب حده هو الطبيعة الزاهقة.
35
ويشير ابن باجة إلى القدماء لمعرفة أجناس القول التام، وهو خمسة: جزم وأمر وتضرع وطلبة ونداء. ويمكن أن تكون أكثر من ذلك على نحو آخر. وهو يشبه أقسام القول عند الأصوليين. كما يعرض لشك القدماء وأبطالهم أن يكون موجودا يحدث من موجود؛ لأن جميع ما يحدث قبل أن يحدث يكذب عليه «ليس بممكن»، فإذا كذب صدق «ممكن».
36
ومن الأعمال يشير إلى العبارة والقياس والمقولات، سواء كانت لأرسطو أم للفارابي أم لابن باجة، أو موضوعات مستقلة بصرف النظر عن الأشخاص. يحال إلى كتاب العبارة ذاته إحالة للجزء إلى الكل، في الأضداد باعتبارها من توافق المقولات. وهي جزء من صناعة المنطق. ويقتبس ابن باجة نصا حرا من كتاب العبارة، بمعناه لا بلفظه؛ مما يدل على أن التعليق يتعامل مع المعاني لا مع الألفاظ، في حضارة تفرق بين النقل اللفظي والنقل المعنوي، في علم مصطلح الحديث وفي علم أصول الفقه. كما يحال إلى كتاب القياس، باعتبار أنه مكون من مقدمات تتكون من مقولات، وباعتبار أن العكس هو تحويل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا. وأخيرا يحال إلى كتاب المقولات باعتباره حاويا لمبادئ الفكر وللعبارة كيف تفكر فيها.
37
ويظهر الموروث في الإحالة إلى الفارابي، ومن الأعمال إلى العبارة والقياس ثم المقولات.
38
كما يحال أيضا إلى اللسان العربي، ويقرأ ابن باجة أرسطو من خلال اللسان العربي، الذي لا يعرف الاسم غير المحصل، وهو الاسم الذي لا يدل على أي من النقيضين مثل السماء لا خفيفة ولا ثقيلة، ناقلا أرسطو من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي؛ فالفكر لغة وليس فقط منطقا. ويضيف الفارابي على أرسطو لإكماله، فإذا قال أرسطو في طباع أحدهما أضاف الفارابي أو في كليهما؛ لأن الموضوع يصدق على أحد الشيئين كما يصدق عليهما معا. اكتفى أرسطو بما لزم الصناعة، ولكن الفارابي أخذ الأمر بتمامه كالعادة لإكمال التصورات، وأحيانا يتعامل ابن باجة مع أرسطو مباشرة دون توسط الفارابي، مثل حد أرسطو للممكن من حيث هو في النفس، متصورا تصورا مجملا في القضايا، وأما حده بحسب الوجود ففي علم آخر غير علم المنطق وهو علم الطبيعة.
39
يضع ابن باجة الفارابي في منظور أوسع مقارنا إياه بباقي كتب أرسطو، «المقولات» و«القياس» وبآراء جالينوس وبارميندس المنطقية.
40
وتظهر البيئة الجغرافية الإسلامية في ضرب الأمثلة والتاريخ الإسلامي لبيان الامتناع، مثل ضرب المثل بإمكان السفر من مصر إلى بغداد في شهر وامتناع ذلك إذا وقع عائق. كما يظهر الأسلوب العربي في استعمال زيد وعمر كأمثلة للموضوع في القضية أو المبتدأ في الجملة وفي القياس وأشكاله المتعددة وفي صيغ الكلام، الخبر والإنشاء والنداء والإضافة، والتمييز بين المثال والشخص، وبين الاسم والمشار إليه. ويظهر الأسلوب الفقهي الأصولي في تخيل الاعتراض والرد عليه سلفا. كما يظهر اللسان في وضع علامة على المضاف إليه يعرف بها والعلامة لا تساوي الإعراب، بل هي كالجنس للأشياء. كما جرت العادة في كل لسان، أن يكون الاسم المضاف إليه علامة معربا. والعلامة في اليونانية لا تساوي الإعراب في العربية، بل هي كالجنس للأشياء، التي يجعلها أهل اللسان علامة، وهي في اللسان العربي الإعراب.
41
كما تظهر خصوصية اللسان العربي في استعمال لفظ السماء، بمعنى أنها لا خفيفة ولا ثقيلة، وهو المعنى الذي قصده أرسطو. وكذلك يتميز اللسان العربي بعلامات الإعراب المختلفة عن باقي الألسنة. كما يظهر الأسلوب العربي وضرب الأمثلة بزيد وعمرو.
وينتقل ابن باجة من اللسان العربي إلى اللسان العام، الذي يعم كل الألسنة كما هو الحال في علم الأصول؛ فالعلاقة بين اللغة الخاصة وعلم اللسان العام مثل العلاقة بين خصوص السبب وعموم الحكم. كما يظهر القرآن الكريم، آية واحدة
فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ، كنموذج للسالبة التي تسلب الإمكان والوجود؛ إذ إن النهي عن الأخس يتضمن النهي عن الأعز. ويظهر الموروث الأصلي للدلالة على احتواء الأكبر للأصغر في المنطق. وبطبيعة الحال يبدأ التعليق بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله، وينتهي بلا خاتمة إيمانية. وينتهي التعليق بطلب الناسخ الرضا من الله، وطلب الرضوان للمؤلف.
42 (4) تعاليق كتاب باري أرمينياس
والسؤال هو هل هذا التعليق مستقل عن كتاب العبارة أم هو نفس الكتاب بعنوان معرب؟
43
يعني التعليق هنا الاتجاه نحو المعنى مباشرة دون اللفظ؛ ومن ثم أقرب إلى التلخيص. التعليق هنا ليس على أقوال، بل تفكير في معان وتطوير لها، وإعادة دراسة نفس الموضوع بعد أن وصل الوعي الفلسفي إلى مرحلة النضج والاكتمال. وإذا كان دراسة الموضوع ذاته، فإنه يكون أقرب إلى الجوامع طبقا للأنواع الأدبية التي وضعها ابن رشد؛ لذلك لا تظهر أفعال القول لأنه عرض للمعنى أو تأليف في الموضوع. ونصوص الفارابي داخل التعليق ليست كثيرة، تتساوى فيها العبارات القصيرة مع الطويلة.
44
ويبين التعليق موقف الفارابي إثباتا ونفيا، إيجابا وسلبا؛ إذ لم يتكلم الفارابي في القضايا ولا في المقدمات. ويبين ابن باجة غرض الفارابي من كتاب أرميناس، أن يعطي ما يتألف من القول الجازم الحملي من الإيجاب والسلب، القابل من جهة الألفاظ الدالة.
45
وتحول التعليق عند ابن باجة إلى نوع أدبي مستقل في كتاب باري أرمينياس للفارابي. وله تعاليق أخرى ضمن مؤلفاته السبعة والعشرين.
46
ويعني التعليق شرح الداخل وليس الخارج، تفسير الموروث، وليس الوافد من أجل إحداث التراكم التاريخي الداخلي، وإيجاد تعددية في تفسير الوافد وتمثله. وهو على نوعين: إما تعليق مباشر من ابن باجة على كتاب باري أرمينياس، وإما تعليق مأخوذ عنه بمعناه وليس بلفظه.
47
ويظهر في التعليق المباشر فعل القول في البداية في صيغة المفرد الغائب «قال» أو «قوله»، ثم تتوالى صيغ المتكلم الجمع الاسم في صيغة «قولنا».
48
ولا يذكر أي أسماء أعلام ولا يضع الفارابي في إطار مقارن مع الوافد اليوناني أو مع الموروث الإسلامي، خاصة وأنه أتى بعده بما يقرب من مائتي عام، ولكنه يعلق ببيان الغرض؛ إذ يتكرر لفظ الغرض عشرات المرات؛ فالتعليق مثل الشرح والتلخيص بيان الغرض؛ فالنص هدف، والفكر غاية.
ولا يذكر أرسطو على الإطلاق، ويذكر الفارابي مرة واحدة وباري أرمينياس واللسان العربي مرة واحدة؛ فالتعليق هنا على الوافد من خلال الموروث، وأصوله في الوافد بداية للتراكم التاريخي، فالتعليق على الداخل وليس فقط على الخارج، أو على الخارج من خلال الداخل وليس مباشرة. وتظهر الأسماء المشتركة كما هو الحال في منطق الأصول، كما يظهر اللسان العربي في الأسماء المحصلة وغير المحصلة. كما تظهر مصطلحات علم الأصول مثل الأخبار، وتقسيم الكلام إلى استفهام وأمر وطلب وتضرع، واقتران لفظ الشريعة بالوضع. وأكثر العلم يأتي عن طريق الطلب. والصدق والكذب يأتيان من الجهات لا من الأخبار؛ أي من الحكم لا من القضية.
49
ويظهر الأسلوب العربي في ضرب المثل بزيد وعمرو في تحليل اللغة العربية، اللفظ والحرف والاسم والجملة وليس منطقا يونانيا؛ فقد تم نقل المنطق اليوناني من مستوى الفكر في شكل القضية على مستوى اللغة. ويضرب بزيد المثل كما هو الحال في الأسلوب العربي.
50
وتبدأ المقدمة بالبسملة والحمدلة، وتنتهي بالصلوات على خاتم النبيين.
وتشترك هذه التعليقات في الأسلوب والهدف، أو فيما يمكن تسميته بآليات التعليق؛ ففي التعليق على إيساغوجي تغيب أفعال القول لأرسطو والفارابي؛ لأنه تعامل مع الموضوعات مباشرة وتنظير لها. وفي تعاليق المقولات تظهر أفعال القول ومشتقاته في ضمير، تعبيرا عن الأنا أكثر من ضمير الغائب إشارة إلى الآخر وليس الفاعل بعد القول بالضرورة أرسطو. وفي التعليقات على العبارة تظهر أفعال القول ومشتقاته أيضا، بحيث يأتي قوله أي قول آخر في المقدمة، وليس بالضرورة قول أرسطو بل قد يكون قول أبي نصر؛ لأنه يتم أحيانا تخصيص بالاسم ثم يأتي قول الأنا موزعا بين الاسم والفعل. وإذا ذكر أرسطو مرة صراحة فقد ذكر الفارابي أيضا مرة صراحة. وفي التعليقات على بارامنياس تظهر أفعال القول ومشتقاته في ضمير المتكلم المفرد والجمع؛ فالأولوية للتعبير عن الأنا قبل الإشارة إلى الآخر، وبعضها من وضع الناسخ بعد تقطيع النص إلى وحدات صغرى.
51
وتتوجه التعليقات نحو المعاني وما ينبغي للإنسان أن يعلم. وتظهر أفعال الإيضاح والانتقال من الظن إلى اليقين؛ فالبيان هو مسار الفكر وهدفه، ويظهر القصد والغاية.
52
ويبدو المسار الفكري من المقدمات إلى النتائج.
53
ويظهر الموروث المحلي في ضرب الأمثلة بزيد وعمرو.
54
كما يظهر التمايز بين التعليق والوافد في بيان خصوصية اللسان العربي.
55
وتظهر بعض المصطلحات الأصولية مثل الأخبار. كما يسهل التعليق على تمثل الفارابي للوافد؛ نظرا لأن الثقافة العربية ثقافة الكلام وأدبها الشعر؛ فالكلام أربعة أقسام: نداء، وأمر، وتضرع، وطلب، وكذلك قسمة الأسماء المشتركة إلى مشككة، ومستعارة، ومتباينة، ومترادفة. ويعاد بناء نص الفارابي الذي يتمثل فيه الوافد بناء على أبعاد جديدة في ثقافة الموروث، فإذا تحدث النص الوافد عن الإنسان في الرحم، فإن التعليق يجعله خلق الله الإنسان في الرحم. هذا بالإضافة إلى البسملة والصلاة والسلام على محمد وآله في البداية، حتى وإن اختفت في النهاية.
56 (5) تعاليق على البرهان
ويبدو ابن باجة هو الذي حول التعاليق إلى نوع أدبي مستقل، في تعاليق ابن باجة على كتاب البرهان للفارابي.
57
وهي أقرب إلى الشرح إذ إنها تقطيع نص البرهان إلى نصوص صغيرة حتى يسهل هضمها وابتلاعها؛ فتحول النص إلى جزئيات صغيرة دون رؤية كلية.
58
والهدف هو مزيد من التفصيل والبيان للأقوال الجزئية، حتى غاب الهدف الكلي والقصد بلا دلالة. التعاليق أقرب إلى التمارين العقلية التي يقوم بها ابن باجة من المغرب على نص البرهان للمشرق لإحداث التراكم الفلسفي الداخلي؛ إذ يقوم الفارابي بتمثل الوافد ويقوم ابن باجة بتمثل التمثل من جديد.
والتحليل صوري جزئي متناثر باستثناء بعض أمثلة من السياسة؛ أي من العلم المدني الأثير عند الفارابي، علاقة الرئيس بالوزير.
59
لا يوجد موضوع مترابط حتى البرهان؛ لذلك جاء الشرح والتلخيص والجوامع لتحديد القصد والغاية والغرض وإجمال الموضوع، تحليله في الشرح ثم تركيبه في التلخيص والجوامع. التعاليق بهذا المعنى أقرب إلى الشروح المتأخرة في عصر الشروح والملخصات أيام الدولة العثمانية، عندما عاش الموروث على نفسه، مجترا إبداعه السابق وناقلا له، ومتمثلا من قبل دون قراءة أو تأويل. ويضع ابن باجة تعاليقه بالإحالة إلى باقي مؤلفات الفارابي، عارضا كتب أرسطو المنطقية مثل إيساغوجي، والبرهان، والتحليل، والقياس، وباري أرمينياس.
60
وفي الغالب يبدو ابن باجة مؤيدا للفارابي، وليس قارئا أو مؤولا أو ناقدا أو رافضا، كما فعل ابن رشد في «تهافت التهافت» مع الغزالي؛ لذلك تغيب عن التعاليق المواقف الفكرية والسجال. يبدو الفكر الفلسفي في التعاليق مفلطحا سطحيا مستويا، خاليا من الإشكال والعمق والبدائل.
ومع ذلك يبدو مسار الفكر في صور الاستدلال، وأفعال الشرط وجوابه وأفعال البيان والإيضاح. كما تبدو الإحالات إلى ما تقدم وإلى ما سيأتي، ربطا للنتائج بالمقدمات. كما تظهر الماينبغيات؛ فالفكر اقتضاء ووجوب. كما يبدو التعليق بحثا عن السبب؛ يقوم بدور التعليل. كما يبدو التقسيم للموضوع، والتقسيم أولى درجات الحد، ومع ذلك نادرا ما يبدو القصد والغاية الذي كان بإمكانه توحيد الأجزاء المتناثرة في كل واحد. كما يوجد فعل الأمر للنفس مثل «فلنترك»، وكأن هناك خطوات متتالية في مسار مقصود محدد، له بداية ونهاية وقصد وغاية، ويخاطب القارئ «واعلم»، وكأن هناك قضية تهم القارئ غير هذا التحليل المتناهي في الصغر، كما هو الحال في المدارس التحليلية الغربية المعاصرة، وفي مناهج تحليل الخطاب.
61
سابعا: من التعليق إلى الشرح
والتعليق أي التحرر من النص المعنوي، كما كان النص المعنوي تحررا من النص الحرفي، بداية الشرح والتلخيص؛ فكلما كان التعليق بالزيادة أو النقصان كان الشرح والتلخيص نوعا من التعليق؛ فالشرح زيادة، والتلخيص نقصان، الشرح إضافة، والتلخيص حذف. الشرح هو تعليق وصلت منه الزيادة والإضافة إلى حد كبير أكبر من النص الأول فاستقل عنه، وأصبح له كيان مستقل بذاته. التعليق خروج نسبي محدد عن النص المنقول، في حين أن الشرح خروج كلي، استقلال ذاتي، إعادة إنتاج للنص الأول، تفتيت للنص الأول إلى وحداته الأولى، حتى يسهل بعد ذلك مضغها وهضمها وتمثلها وإخراجها في التلخيص. الشرح أسهل من التلخيص وسابق عليه، والتلخيص أصعب من الشرح وتال له. الشرح مد للنص المنقول والتلخيص جزر له. قد يبدو الشرح أصعب من التلخيص؛ لأنه أكبر حجما وأكثر حضورا وأكثر استرعاء للانتباه؛ لما فيه من علم دقيق، تفصيلات وأسماء أعلام ومصطلحات معربة، وأن التلخيص أسهل فهما وأخف ثقلا، وأقل حجما، وأوضح أسلوبا؛ ومن ثم فالتلخيص تاريخيا سابق على الشرح؛ لأن التلخيص في مرحلة المران الأولى. والشرح تال التلخيص؛ لأنه محشو بالمعلومات ومثقل بالعلم. والحقيقة أن العكس هو الصحيح بنيويا، أن الشرح يسبق التلخيص، وأن الإسهاب يمثل مرحلة المران الأولى، وأن التلخيص يتطلب قدرة ومهارة، لا توجد إلا عند المتمرسين للشرح الأول؛ ومن ثم كانت شروح ابن رشد من أعمال الشباب، وتلخيصاته من الأعمال المتأخرة فكريا وليس تاريخيا.
وقد يكون التعليق لنفس الشارح، وفي هذه الحالة يكون تعليقا تفصيليا في فكرة واحدة عليها خلاف مع غيره من الشراح، أو من نصين مختلفين في الترجمة، وترك المعنى الكلي الرئيسي للشرح الأصلي.
1
وقد يكون الشارح للوافد هو العالم بالموروث، والعالم الرياضي الطبيعي الذي يلخص كتاب النفس.
2
وقد يقوم النقلة أنفسهم بالشرح والتقسيم المستقل عن التعليق؛
3
فالنقل ليس نقلا حرفيا، بل تكون به شروح فقط من حيث تصحيحات النسخ بعضها على بعض، بل أيضا من حيث الحذف والإضافة. الترجمة أحيانا شروح وتأويل للنص اليوناني. ويستعمل البعض عبارة «تأويل أرسطو» في الترجمات العربية لإسحاق بن حنين.
4
الشرح جزء من الترجمة وملحق بها، فلا فرق بين ترجمة وشرح، كان أواخر المترجمين مفسرين، كما كان أوائل الفلاسفة مترجمين،
5
وأفضل الشروح يغني عن الترجمة كلية، ويكون بديلا عنها؛ فهو أوضح وأكمل حضاريا، شرح يكمل نصا وحضارة تكمل حضارة. وقد يكون الشرح أوضح من النص؛ لأن الغاية منه الإيضاح والبيان.
6
وقد يكون التفسير أطول من النص من أجل الإيضاح.
7
ثم قد يصبح الشرح هو المتن ويظهر شرح الشرح، حواشي على الشرح، وربما تخريجات على الحواشي حتى تبعد المسافة بين النص الأول والنص الأخير، وكما هو الحال في عصر الشروح والملخصات في الحضارة الإسلامية، شرح الشرح خال من النقل، نقل الآخر على مستوى الأنا، بل نقل الأنا القديم على الأنا الجديد.
8
والشروح مثل الترجمة عمل جماعي؛ فقد يعتمد الشارح على تعليق الترجمة السابق أو على شرح آخر؛ فشرحه ليس مجرد تأمل عقلي أو ذوق ومزاج، بل هو شرح موثق.
9
الشرح عمل جماعي لا تظهر فيه شخصيات الشراح، هو عمل متكامل يظهر كل شارح أحد جوانب الفكر، حتى تكتمل بنية الموضوع؛ لذلك قد يظهر شارحان لنص واحد، تعاونا في المشروع الحضاري الواحد بعكس المقالات وكتب الفرق، حيث التشتت والتفرق إلى عشرات الفرق. اعتماد الشراح بعضهم على بعض يدل على العمل الجماعي، وليس البطولة الفردية، والتأكيد على نفس الشيء زيادة في المطابقة وإبرازا للمعنى. وأحيانا لا يرد اسم صاحب التعليق؛ فالمهم الفكرة لا الشخص. وأحيانا يذكر الشارحان معا وكأنهما متفقان في الشرح ، أو قاما بالشرح معا شرحا جماعيا.
والشرح من حيث الكم ضروري لتفادي التطويل والإسهاب، وضياع المعنى وذوبانه داخل العبارات والقضايا والأمثلة والاستدلال الذاتي في النص المترجم.
10
وهذا في التخليص أوضح، الشرح والتلخيص أقل حجما، وأكثر تركيزا، وأوضح عرضا وأكثر دلالة، وأقصر توجها حتى يسهل بعد ذلك استعمال النص المترجم، فإذا كان النص المنطق فإنه يتحول بعد الشرح من منطق نظري إلى منطق للاستعمال، من منطق الآخر إلى منطق الأنا، من منطق الوافد إلى منطق الموروث. كان الشرح ضروريا لأن النص المترجم طويل ومسهب، به حشو كثير، ليس له بؤرة يمكن التركيز عليها، مفلطح، مسطح، مبلطح، مستو، لا عمق فيه. مهمة الشرح، وإن كان في التلخيص أوضح، لم النص وإيجاد بؤرته والعثور على عمقه حتى يصبح نصا فعالا خصبا يدر فكرا. وقد يكون الشرح مجرد عبارات قصيرة وجيزة في صيغة خبرية تقريرية، مثل العبارات الفلسفية المحكمة، وكأنها طريقة القرن السابع عشر في الغرب في تحرير الكتاب على هيئة أوليات ومصادرات.
11
التلخيص تركيز الفكر، ضم العملة الفكة إلى الصحيح، حتى يمكن بعد ذلك التعامل معها في البيع والشراء؛ فالصحيح أسهل حملا. الشرح هو العملة الفكة والتلخيص هو العملة الصحيحة. قد يكون الشرح هو النص، أهم وأطول منه، فيصير النص الأول مجرد ذريعة لإظهار التراث.
12
إذا كان النص قصيرا قد يكون شرحه كذلك على مقاسه وقده، وقد يكون أطول منه بيانا في الاستدلال ويكون شرحا. وإذا كان النص طويلا فقد يكون الشرح على مقاسه وقده. وقد يكون أقصر منه للتركيز ويكون تلخيصا.
وقد يختلف الكم طولا وقصرا ليس فقط في الكتاب، بل أيضا في مقالات الكتاب الواحد؛ فهناك عدم تناسب في الكم، طولا وقصرا بين المقالات الثمانية في كتاب الطبيعة، وذلك من أجل إيجاد نوع من التناسب في التركيز على الأفكار، وإعادة إنتاج النص بما يتلاءم مع أهمية موضوعاته في الحضارة المنقول إليها. وعندما يكون التعليق طويلا بل أطول من النص يكون الشرح خاطرات، والذهن في حالة قراءة للنص وتقليب وتمثل واحتواء له . النص نقل، والتعليق إبداع.
13
وعندما يكون الشرح متقطعا عبارة بعبارة، فإنه يفسد المعنى الكلي، ويصبح أكاديمية خالصة في مرحلة النقل أن يتخلق المعنى الكلي.
مهمة الشرح استيعاب النص المترجم داخل الحضارة المنقول إليها، وتحويل الوافد إلى الموروث، والخارج إلى الداخل، والدخيل إلى محلي، وذلك عن طريق التعبير عن معاني النص بألفاظ وأسلوب عربي طبيعي، ثم التعامل مع معنى مستقلا عن نشأته الأولى، لإكماله وإيجاد اتزانه، ثم الاستفادة له في أغراض الحضارة الخاصة المنقول إليها. مهمة الشرح نقل النص المترجم من الجو الثقافي الغريب الذي نشأ فيه، والذي يشعر به القارئ خاصة عندما يقرأ المنطق، ويشعر بأنه كان لا بد من شرحه لتحويله إلى ثقافة محلية وطنية خالصة، قضاء على التغريب، وإذابة لهذه البؤر المنعزلة في الجو الثقافي العام. الشرح إذن ضروري لوضع هذه المادة الجديدة الوافدة ضمن التصور الإسلامي، وحتى لا تظل مركز جذب بأعجميتها للثقافة المحلية، فتسبب ازدواجية الثقافة بين ثقافة جديدة علمانية وافدة من الخارج وثقافة دينية موروثة من الداخل. ويتطلب ذلك في النص المترجم: (أ)
إسقاط غير الدال، والإسهاب، وعيش الفكر على ذاته، ودورانه حول نفسه، وتحوله إلى تحصيل حاصل، غير منتج، عقيم بما في ذلك أسماء الأعلام والأماكن والحوادث. أي كل الوقائع التاريخية التي تحمل الدلالة ولكنها وافدة من لبنة أجنبية. (ب)
إكمال البنية العقلية للموضوع، وإعادة التوازن إليه، ووضعه كموضوع عقلي مستقل يمكن لكل ذهن أن يعيه ويضعه من تلقاء نفسه. كما يتطلب إحكام البنية وإيضاحها، وإيجاد المزيد من البراهين الداخلية عليها. (ج)
الاستعانة بها لأغراض الحضارة المنقول إليها، ومقاصدها واستعمالها على نحو آخر، ثم صبها كلها في التيار الحضاري الأول، التوحيد، باعتبارها وسيلة، ومقصد الحضارة المنقول إليها غاية. (د)
احتواءها داخل الحضارة بدلا من بقائها خارجها لتكوين ثقافة مغايرة تسبب الاغتراب الثقافي وتحديا للذات، وينتهي الأمر بضمور الذات وتقليد الآخر، ونشأة الازدواجية الثقافية بين دينية وعلمانية، والازدواجية السياسية بين محافظة وتحرر.
فلا يكاد يقرأ الإنسان الترجمات العربية القديمة، إلا إذا شعر بالحاجة إلى الشرح لفهم المعنى أو إلى التركيز والتلخيص للتعامل معه وتذكره وتكراره؛ فهي مادة خام في حاجة إلى عمل عقلي فكري حتى يسهل التعامل معها. يمر القارئ بتجربة الشرح، وهو أنه يجد ذهنه في حاجة إلى تنشيط فكري وإلى تأمل وتأويل ومراجعة. وهنا تأتي مهمة الشرح والتلخيص للتعبير عن هذا النشاط الذهني، والقارئ بصدد قراءة الترجمة أو المترجم بصدد النص الأصلي. إن المثابرة على نقل هذه النصوص كلها لهو في حد ذاته عمل بطولي، خاصة إذا كان نقل النص من لغته الأصلية إلى اللغة الجديدة أولى مراحل العمل الثقافي التالي، التعليق والشرح والتلخيص من أجل مرحلة لاحقة هو العرض والتأليف، حتى تتم عملية التمثل والاحتواء قبل عملية الخلق والإبداع. الشرح لتوضيح المعنى، والتلخيص لإبرازه. الشرح لبيان التناسق الداخلي، والتلخيص لبيان إمكانية التعامل الخارجي. شيء طبيعي إذن أن يتحول المعنى إلى دافع ذاتي، فينشأ الشرح والتلخيص ثم عرض الموضوع، ثم التأليف فيه، وليس فقط فهم معناه. فإذا كانت الترجمة تتم من اللفظ، والشرح والتلخيص من المعنى، فإن العرض والتأليف من الشيء لما كان الفكر لفظا ومعنى وشيئا هو موضوع الفكر. يمل الذهن من قراءة الترجمة ويسأمها دون عمل كاف للعقل؛ لذلك كان من الطبيعي بعد أن يتشبع الذهن بالنص المترجم واستيعابه، أن ينتقل إلى التمثل والاحتواء، ثم العرض والتأليف المستقل عنه، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة النقد ثم التأليف المضاد. فهم أعماق النص إذن يبدأ من الشرح والتلخيص بعد الترجمة، بعد أن تم الاعتناء بالنص وتجهيزه حضاريا للفهم. لو لم تتم هذه العملية، لما أمكن الشرح والتلخيص دون هذا التجهيز، مثل عملية الطهي للطعام النيئ حتى يتم التمثل بالشرح والتلخيص، وإلا لما عمل النص ونشط العقل، ولظل الوعي متقبلا ومستقبلا دائما، دون أن يتحول إلى وعي معط وهاب، ويمكن الاعتماد على تحليل التجارب الشخصية، كخطوة نحو العرض والتأليف، من أجل الوصول إلى الإبداع الذاتي، الذي يمحى فيه التمايز بين الوافد والموروث، ويصبح تعبيرا عن الواقع المباشر.
والانتقال من الترجمة والتعليق إلى الشرح والتلخيص ، انتقال طبيعي من النقل إلى الإبداع من خلال مرحلة متوسطة؛ فقراءة الترجمات عملية مملة بعد الاستيعاب، تتحول فيما بعد إلى إعادة نظر في هذه المادة المقروءة، على عدة مراحل شعورية وتاريخية فردية وجماعية في آن واحد؛ فما يحدث في الشعور الفردي يقع أيضا في الشعور الجماعي؛ أي في الوعي الحضاري. وهذه المراحل هي: (1)
الشرح لتوضيح المعنى حتى يسهل تمثله واستيعابه واحتواؤه مثل شروح ابن باجة وابن رشد. (2)
التلخيص لتركيز المعنى وضم المرسل، واختصار المسهب من أجل الاستعمال والتعامل، كبداية لتخلف الموضوع المستقل مثل تلخيص ابن رشد. (3)
الجوامع للتوجه نحو الشيء مباشرة، ورؤيته في تجربة مشتركة مع النص الوافد. (4)
العرض للموضوعات الوافدة عرضا مستقلا عن النص الأصلي، وكأن الشارح هنا يأخذ موقف المؤلف، ويصبح هو المؤلف الأول مثل عروض الفارابي. (5)
التأليف في الموضوعات تأليفا شاملا مع ضم الموروث مع الوافد كمصادر للموضوع، وتوسيع رقعة الموضوع وإكماله مثل تأليف الفارابي. (6)
نقد الفكر الوافد وبيان أوجه قصوره بعد التأليف المستقل في موضوعه، وهو موقف الغزالي. (7)
رفض الفكر الوافد كلية والاكتفاء بالموروث ومواقفه في موضوعات الوافد وفي غيرها من الموضوعات وهو الموقف الفقهي.
14
Bilinmeyen sayfa