وهكذا صار اللقاء في القاهرة ميسورا بغير تحرز، ولكن عبد المنعم بليد على الرغم من أن حبها له بين، وتعلقها به أوضح من الشمس. وليس عبد المنعم بالبليد أو الجافي أو الشموس، ولكنه خائف حائر مضطرب، أخوف ما يخاف أن يفضحه الله ويكشف ستره، ولولا أنه شديد الإحساس بنفسه - وهو أن أمره ضئيل بالقياس إليها - لما عبأ بذلك كله شيئا، ولأقدم غير حافل بما يكون، وأمرها هي إلى الله. قد كان هذا خليقا أن ينفرها منه، ولكنه زادها رغبة فيه، وتشبثا به، وكبر في ظنها أنه غرير، وأن به حاجة إلى من يأخذ بيده ويهديه ويعلمه فنون الحياة، وإن كانت ترى منه أحيانا ما يعد من مظاهر «الشقاوة»، غير أنها كانت تحدث نفسها أن هذا إنما كان عفوا، وأنه من وحي الفطرة ليس إلا، ومن أجل هذا راحت تقول له إنها تعده صديقا في مرتبة الأخ الشقيق، بل تنزله منزلة الشقيق وتحبه كحبها لأخيها، حبا عفيفا لا ترتقي إليه الظنون ، وتسأله: «من أنت؟ ألا تحبني هذا الحب الأخوي؟» وتتمنى أن تسمع منه كلمة الحب ولو مقرونة بهذا الوصف الثقيل، فيتمتم ولا يبين، ويتضرج وجهه ويضطرب لكثرة ما ينازع نفسه من العوامل التي تجهلها، فتحيل هذا على حياء الغرير.
وتدعوه إلى بيتها أيضا، وتعرفه بأهلها أو تعرفهم به، وتقول لهم إنه كان خير معوان لها في الإسكندرية، وإنه أسدى إليها من الأيادي ما لا قدرة لها ولهم جميعا على رد جميله، ويرحب القوم به، وهم في سرهم يتعجبون أو ينكرون، ولكن ما حيلتهم؟ لقد شبت فتاتهم عن الطوق جدا، وصارت موظفة ولها مرتب حسن، ومستقبل مرجو، وفي وسعها أن تستقل إذا شاءت، ثم إنها تعينهم ببعض مالها، وتعنى بأخواتها، أو هي على الأقل قد حطت عن كواهلهم عبئها، ثم إنها بنت عصرها، وهم أبناء عصرهم الذي ولى، وتخلفوا عن ركبه فصاروا بدعا في العصر الجديد، وشذوذا محتملا على التسامح والإغضاء، وقد ولى سلطان الآباء على بنيهم وبناتهم، بل انقلبت الحال وانعكست الآية في بعض الأحوال، فصار السلطان للبنين والبنات، والأمر والنهي لهم، وما على الآباء إلا السمع والطاعة راضين أو مكرهين. ويرى القوم في احتشام عبد المنعم وحسن أدبه وشدة حيائه ما يطمئنهم، فيدعون بنتهم وما آثرت لنفسها، والله الهادي وهو المسئول أن يقيها العثار. ترى كيف تنتهي هذه القصة التي أرى بدايتها على رصيف الترام تحت نافذتي! ليس في تصوير نهايتها عسر، ولكني أوثر أن أكبح الخيال عن الاسترسال والتريث أياما. ولكني في حيرة من أمر الثياب الجديدة التي يرتديها عبد المنعم، أفتراني أخطأت حين توهمته صانعا؟ لا أظن! على كل حال سنرى. ***
برح الخفاء وعرفنا زكية وصاحبها عبد المنعم ومن يكونان؟ وما خطبهما في هذه الأيام؟ وما أوحي إلي هذا العلم ولا تلقيته «من النافذة»، ولكن الفضل لها مع ذلك فيما اهتديت إليه ووفقت له، فلولا أنني جعلتهما قيد عيني من النافذة لظلا كغيرهما من خلق الله الذين لا أعيرهم التفاتا خاصا. ولا أتبع النظرة إليهم نظرة.
ويبدو لي وأنا أتدبر هذا أن كل ما يقع لنا في حياتنا يجيء اتفاقا ومصادفة أو قضاء وقدرا إذا شئت، وليس معنى هذا أن الحياة ليس لها قانون أو نظام، فإن سنتها ثابتة لا تتغير، ونظامها لا يضطرب، وإنما معناه أن ما «يتفق» أن يقع موافقا لهذه السنن يكون، وأكثر ما تجيء المصادفة عفوا بغير عمد، والشواهد أكثر من أن يأخذها إحصاء، فلا داعي للتمثيل؛ وحسبك أن تفكر في وجودك أنت، فهل كان إلا مصادفة بحتا؟ وهل جئت إلى الدنيا إلا عفوا؟ لقد كان من الممكن أن لا تكون، لولا أنه اتفق ما اتفق، فأفضى ذلك إلى خلقك، وكان من الممكن أن لا يكون لك إخوة أو بنون، فكان هؤلاء وأولئك جميعا، لأن أباك قدر له أن يتزوج، وأن تكون زوجته تلك التي صارت أمك وأم إخوتك، ولو تزوج غيرها - وماذا كان يمنع ذلك لولا القدر - لرزق سواك أو لما رزق أحدا، ولما خرجت أنت على الحالين.
ويخطر لي من أجل هذا أن حب المرء لإخوته عادة ليس إلا، حتى حب الرجل لبنيه يبدو لي غير حب أمهم لهم، فهذه قد حملتهم وثقلت بهم وولدتهم وأرضعتهم، فليس يسعها إلا أن تحس وترى أنهم بعضها، أما الرجل فأمره مختلف، وشعوره بأبوته لهم معنوي لا مادي كشعور الأم، وإن كانوا من صلبه، ولعل إيحاءه لنفسه أنهم من صلبه، وأنهم بعضه هو الذي يعمق هذا الشعور ويقويه، حتى يقارب شعور الأم أو يعادله، ثم تجيء العادة - وفعلها معروف. أعرف رجلا له بنت من زوجة طلقها بعد أن ولدتها له بقليل، ثم لم يرهما بعد ذلك، وقد كبرت البنت وناهزت العشرين وتزوجت وأبوها لا يراها ولا يسمع من أخبارها شيئا، وكان الاستغراب هو كل ما شعر به لما علم أنها ما زالت حية ترزق وأنها تزوجت، وقد خطر له يوما أن يعرفها بنفسه وبإخوتها - فإن له زوجة وأبناء - ثم أمسك، وقال: إن الخيرة فيما اختاره الله. وعاد إلى إغفال أمرها، وعهدي به أنه ليس ممن يبدون غير ما يخفون، ولعله يصبو إليها من حين إلى حين، ولكنها على التحقيق صبوة إلى مجهول لا يحسن أن يتصوره؛ لأنه لم يعتده كما اعتاد بنيه الآخرين الذين شبوا في كنفه.
وأعود إلى زكية وصاحبها بعد هذا الاستطراد؛ فأما زكية فعملها رفو الجوارب في بيت قديم في زقاق ضيق، وأجرها طفيف لا أدري كيف يكفيها لطعامها وحدها، فإنه ستة قروش ليس إلا، فلست أستغرب ما كان قد خطر لي من أن بعض ثيابها من قديم ما كانت تلبس أمها، وقد أصلحته على قدها. وأما عبد المنعم فغلام حلاق - أستغفر الله - بل هو حلاق فنان كما يصف نفسه، ومن أجل هذا يتدلل، فيعمل أياما ويتبطل أياما - على هواه - وفنه هو قص شعر السيدات وتصفيفه وكيه وما إلى ذلك مما لا معرفة لي به، وهو في هذا بارع حاذق لا يبارى ولا يجارى - على ما يقول صاحب الدكان. وخير ما فيه أن السيدات يرضين عنه ويأنسن به ويرتحن إليه ولا يقبلن بديلا منه؛ فإذا لم يجدنه في الدكان انصرفن على أن يعدن حين يشاء أن يجيء. ويقول صاحب الدكان: إن هؤلاء النسوة أمرهن عجيب، فإنهن على استعداد لأن يعطلن ويؤخرن أفراح المدينة كلها في سبيل الفوز بالجلوس بين يديه حين يطيب له هو أن يعمل. وهذا هو السبب في أن الرجل لا يرى لنفسه معه حيلة، ولا يقدر على الاستغناء عنه؛ لأن في الاستغناء عنه خراب بيته.
وعبد المنعم يحب زكية، وزكية تحبه، ولو كان لهما ناقة وبعير لتحابا مثلهما، ولكن غيرتها عليه، وغيرته عليها تسود عيشتهما وتنغص حبهما، فهو يرمي المقص، ويترك الدكان ويهيم على وجهه في الشوارع إذا خطر له أنها ربما تحادث رجلا آخر في الطريق، أو حتى صاحب المصنع أو المشرف على عمل البنات فيه، ثم يذهب إلى محطة الترام لينتظرها وهي عائدة، ويرافقها إلى بيتها، ويتأخر الترام على عادته في هذه الأيام فيقلق ويسخط ويضطرب، وإن كان يعلم أن لا ذنب لها في هذا، ويروح يرفع قدما ويحط قدما كالحصان، ويقبل الترام والناس فيه كالسردين، متلاصقين متلاحمين، فيغمض عينيه لئلا يراها في هذا الحشر، ومن يدري؟ قد يكون بعضهم لصقها، وعسى أن يلمحها تبتسم فيتوهم أنها تبتسم لرجل! وتغلبه الغيرة فيندفع إلى سلم الترام ويزاحم النازلين ويدفعهم بيديه لينظر، كأنما ينثر كوما من الورق، وتكون هي قد نزلت من ناحية أخرى وهو لا يدري، لتعاميه أولا، ثم لما أغراه به ودفعه إلى جنون الغيرة، وتدنو منه وتربت على كتفه، وكثيرا ما تحتاج أن تجره من ذراعه وهي تضحك، فيتشهد، ثم يمشيان وهو مطرق معبس.
ويسألها فجأة: «أين كنت؟»
فتضحك وتقول: «يا له من سؤال! وأين أكون إلا حيث تعلم؟! وأين كنت أنت؟ ولماذا تركت الدكان؟ وما هذا العرق المتصبب؟!»
وينتهي هذا الحوار كما ينتهي دائما بأن يصارحها بما كان، فتقول له إنه يظلمها، وتسأله - منكرة - لماذا يثور إذا تصور أن رجلا في الطريق أو في المصنع كلمها أو كلمته؟ ماذا تصنع إذا نهض رجل عن مقعده في الترام لتجلس؟ ألا تشكره؟ أم يكون عليها أن تقطب وتزوي وجهها وتظهر التأفف من وجوده؟ ماذا يسعها غير أن تجيب رئيس العمل أو صاحبه إذا كلمها وراجعها؟ أينبغي أن تخلو الدنيا من الرجال ليطمئن ويسعد؟
Bilinmeyen sayfa