وقد أحببت مرات كثيرة - لا عداد لها في الحقيقة - فإني أبدا كما قال في الأستاذ العقاد:
أنت في مصر دائم التجديد
بين حب عفا وحب جديد
والسبب في ذلك أن عمر الحب عندي لا يطول إلا ساعة أو ساعتين أو ليلة أو ليلتين - إلى أن أمل والسلام - وما من واحدة أحببتها إلا تمنيت على الله أن يهبني القدرة لأصلح بعض ما لا أرضى عنه، فأملأ هذه الساق وأديرها، وأعالج الترهل الذي يبدو لي في الثديين مثلا أو الردفين، وأصلح الأنف، وأخفف النتوء الذي في أرنبته، وأرسم الحاجبين رسما جديدا يكون أقرب إلى ذوقي، وأرابي في التناسب، وأعالج نفسها أيضا علاجي لبدنها ... وهكذا إلى آخره، فما بي حاجة إلى الإطالة، وليس هذا من الاعتراض على خلق الله سبحانه وتعالى، حاشا وكلا، وإنما هو من اشتهاء الكمال كما أتصوره، ولا كمال في الدنيا مع الأسف!
وقد صدق الشاعر في الشطر الثاني من بيته كما لم يصدق في شطره الأول، فما من شك في أن عين السخط تبدي المساوئ. وثم عيون أخرى كثيرة تبدي المساوئ غير عين السخط، وفي وسعنا أن نتسامح مع الشاعر المسكين، وأن نقول: إنه يعني بعين السخط كل عين تبدي المساوئ، وإنه لم يرد القصر ولا التخصيص.
وأسأل نفسي وأنا أكتب هذا الفصل: «ماذا أخطر ببالك هذا البيت؟» والحقيقة أني لا أدري سوى أني أردت أن أكتب كلاما فحضرني هذا البيت، فما أكثر الكلام الفارغ، وما أسرعه إلى اللسان! ***
في كل يوم يصبحني ولداي بالسؤال عن «الخروف»: أين؟ ومتى يجيء؟ والجواب سهل، وفيه لمن شاء الاقتناع مقنع، فإني أوثر أن يجيء في اللحظة الأخيرة، فلا يقضي في ضيافتي إلا بضع ساعات، ثم يصبح وقد أراحتنا منه السكاكين المسنونة والسواطير الحامية. ولكن الطفل طفل، وليس من المعقول أن تطالبه بأن يشب عن الطوق قبل الأوان. ولو فعلت لآذيت طفولته النضيرة، وقمعت صباه الغض، وأفسدت عليه حياته كلها بعد ذلك. وكل ما يعني الطفل من خروف العيد أنه يلعب به ويتسلى بأن يسمعه يقول: «ماء»، وأن يراه يهم بأن ينطح، وأن له ذيلا يشده منه، وأذنا مسترخية يضع فيها قشة فيهز الخروف رأسه هزا عنيفا. وكثيرا ما يخطر لي وأنا أتدبر حال الأطفال، وما يصدر عنهم، أن الطبيعة البشرية ليس فيها رحمة، وأن كل صفات الخير في الإنسان تكلف. أعط الطفل عصفورا ولا تقل له شيئا، ولا تنبهه إلى واجب الرفق، وانظر ماذا يصنع.
وقد كنا جميعا أطفالا، فنحن نعرف ما يصنعون، ولا نجهل أنهم يربطون رجل العصفور بخيط ويلعبون به، ولا يدركون أنهم يعذبونه، ولا يكادون يصدقون ذلك حين تنبههم إليه وتناشدهم أن يرحموا ضعفه. وليس من القدح في الإنسان أن نقول: إن كل صفة من صفات الخير فيه تكتسب بالرياضة والتدريب والتلقين. والحقيقة أن الإنسان في الأصل ليس أكثر من حيوان، وهو لا يعرف خيرا ولا شرا، وإنما يعرف أنه يطلب الشيء أو ينفر منه مدفوعا إلى ذلك بغرائزه. ولو ترك وشأنه بلا تهذيب أو تثقيف أو صقل لما صنع إلا ما تغريه به هذه الغرائز، ولا ترك إلا ما تغريه بتركه هذه الغرائز أيضا، كالحيوان الأعجم سواء بسواء. ولا عسر في تصور هذا ولا مشقة، فإن الحيوان أمامنا، وعليه نستطيع أن نقيس بلا خوف من الغلط. ومن كان يقول غير هذا فهو لا يتكلم بعقله، بل بهواه، وبشعور الاستنكاف الشخصي من أن يكون هو حيوانا كالقط والخروف والثور والحصان والحمار والذئب والثعلب ... إلخ ... إلخ. ولا محل للاستنكاف والأنفة، فما نتكلم إلا عن الأصل ... لا على ما أصارنا إليه التهذيب والصقل. ومع ذلك ما على من شاء أن يعرف قيمة الصقل والتهذيب إلا أن يتدبر ما يصدر عن الإنسان حين تجمح به عواطفه وشهواته، ادخل على أرق الناس وألطفهم وأسلسهم طباعا وألينهم عريكة وهو في مجلسه بين إخوانه الذين يوقرونه، والطمه على وجهه لطمة قوية تدير الرأس وتطير العقل، وانظر ما يكون من هذا الإنسان المهذب الرقيق، وتأمل ما يبقى من صقله ودماثته. وقس على هذا سائر ما تحدثه الإحساسات والعواطف العنيفة.
بل الإنسان قد بز كل حيوان في الهمجية والحيوانية؛ لأن ما يفعله الحيوان في مواسم معينة ليس إلا، يفعله الإنسان في كل يوم بإرادته، لا طوعا للغريزة بمجردها. والسباع الضارية مثلا لا تقاتل جماعات منها جماعات أخرى؛ أريد أن أقول: إن جماعات من الذئاب لا تقاتل جماعات أخرى من الذئاب، ولا الكلاب تفعل ذلك، ولا الأسود، ولا الهررة ... إلى آخر هذه الأنواع، ولكن الإنسان وحده من بين الحيوانات جميعا يفعل ذلك الذي نسميه الحرب.
وما الفرق - بالله - بين افتراس الأسد بقرة مسكينة أو غيرها، وبين ذبحنا للأبقار والخراف والعجول؟ كل ما هنالك من الفرق أن الحيوان يفعل ذلك بأسنانه وأظافره ونحن نفعله بالسكين؛ وهو يأكل ما يفترس نيئا ونحن نأكله نيئا أو مطبوخا. فرق في الشكل لا في الطبيعة والجوهر. ونحن بعد أعرف من الحيوان بأساليب الافتراس، وأقدر منه على تذوق لذاته ...!
Bilinmeyen sayfa