في صوتها هذا كله وأكثر من هذا كله، وهي على ذلك ساذجة متواضعة؛ لا أدري أتؤمن بنفسها أم لا تؤمن؟ بل لا أدري أتحقق نفسها أم لا تحققها؟ ولكن أعلم أنها تؤمن بفنها أشد الإيمان وأحده وأقواه. وهي إلى ذلك كريمة النفس، سخية الطبع، سمحة الخلق، حلوة الشمائل، عذبة الروح، لا تعرف البخل ولا تتعلل على السائلين، وإنما تعرف أن الله قد منحها الفن لتملأ به قلوب الناس حبا وعطفا ورفقا وحنانا وطموحا إلى المثل العليا، وسموا إلى الجمال، ورغبة في التنزه عن أوضار الحياة، والتخفف من أثقالها، والترفع عن نقائصها، والتبرؤ من سفاسفها. فهي تمنحهم من هذا النعيم ما وسعها المنح، ولا تصد عن السائلين إلا حين لا تجد إلى الإقبال عليهم سبيلا.
هذه هي المغنية الأمريكية المولدة هاريان أندرسون، قال لي قائل إنها تغني في باريس، وإنها لا تمنح الباريسيين إلا ليلتين اثنتين، وإنها تغني في قصر شايو، وإن باريس كلها من أقام فيها ومن طرأ عليها تريد أن تسمعها، وإن الأماكن كلها قد احتجزت فلم يبق فيها مطمع لطامع ولا أمل لمشتاق. وكنت قد سمعت صوتها في الفنوغراف والراديو، وكنت به معجبا أو أكثر من المعجب إن استطعت أن تجد لفظا يؤدي ما فوق الإعجاب. فأزمعت أن أسمع لها مهما يكلفني ذلك من الجهد، ومهما يحملني من المشقة، ومهما يفرض علي من العناء. ولم أتكلف جهدا ولم أحتمل مشقة ولم ألق عناء، وإنما طلبت إلى بواب الفندق أن يحتال لي. وبواب الفندق واسع الحيلة لا يعرف المصاعب ولا يؤمن بالعقبات، وإنما ييسر العسير ويفرج الحرج ويذلل المتعاصي بقوة سحرية خاصة لا أدري من أين جاءته، ولكن أعرف كيف أنتفع بها وكيف أسخرها حين تعترضني مصاعب باريس، وما أكثر المصاعب في باريس!
طلبت إليه أن يحتال لي فلم يبتسم كما تعود أن يبتسم، وإنما تجهم واعتل وتثاقل كما كان أصحاب أبي نواس يفعلون حين يأتيهم طارق بليل. ولم أبخل عليه بالرجاء والإلحاح فوعد غير واثق، ولم يكن بيننا وبين الليلة المشهودة إلا أسبوع والناس قد احتجزوا الأماكن منذ أسابيع. وجعلت أخرج من الفندق وأعود إليه وأمر بالبواب مصبحا وممسيا أخشى أن أسأله فأجد عنده اليأس، ولكنه يهتف بي ذات صباح وينبئني مشرقا مبتهجا بأنه قد وجد الأماكن في قصر شايو، ولكنها أماكن قد لا تروقني ولا تعجبني؛ فالأماكن التي تلائمني قد أخذت كلها. قلت: كل مكان في قصر شايو يروقني ويعجبني ما دام صوتها يستطيع أن يصل إلي فيه. قال: إذن ستجلسون على كراسي نصبت على المسرح وراء المغنية. قلت: هو ذاك. وأنفقت ما بقي من الأيام تتردد في نفسي تلك الألحان الدينية التي سمعتها في الفونغراف والراديو. فلما كانت الليلة الموعودة ذهبت فرأيت، وما أروع ما رأيت! رأيت ألوفا مؤلفة من الناس يتدافعون في قصر شايو، وقد اشتد الزحام بينهم على سعة القصر وكثرة المسالك المؤدية إلى قاعة الغناء. وقد ارتفعت الأصوات حتى انعقد منها في جو القصر سحاب صفيق ذكرني بتلك الأصوات التي كان الأزهر الشريف يموج بها في تلك الأيام السعيدة التي مضت ولن تعود. وقد جعلت أنحدر وأنحدر حتى أعياني الانحدار، ثم أصل إلى المسرح وأجلس حيث أتيح لي أن أجلس فأحتاج إلى وقت أسترد فيه نفسي لكثرة ما تفرقت، وأسترد فيه قوتي لكثرة ما أنهكها التصويب في هذه السلالم التي لا تنقضي، والقاعة تموج بالأصوات التي لا يتبين السامع منها شيئا، ثم ينحسر هذا الموج المتراكم فجأة ليخلفه موج متراكم آخر من التصفيق المتصل والرقص المتلاحق والهتاف الذي لا يريد أن ينقضي. ثم يسكت هذا كله فجأة سكوتا عميقا عريضا تفهم معه المثل العربي القديم «كأن على رءوسهم الطير» فهما عميقا دقيقا. ثم يندفع العازف فتخفق القلوب وترتفع الرءوس وتشخص الأبصار، ثم تندفع المغنية فكأنما أعدت من غنائها بساطا سحريا حملت عليه نفوس هذه الألوف المؤلفة وأرسلته مع الريح إلى مكان بعيد بعيد. لا تدري أفي الأرض هو أم في السماء؟ ثم تسكت المغنية ويسكت العزف، وإذا ألوف النفوس قد عادت في أقل من لمح البصر إلى ألوف الأجسام الماثلة لا لتفكر ولا لتحلل ولكن لتدفع الأيدي إلى التصفيق المتصل، والأرجل إلى الركض المتلاحق، والحناجر إلى الهتاف الطويل. ويتكرر هذا المشهد ثلاث ساعات تكاد تتصل لولا أن تحتاج المغنية إلى الراحة من الغناء، والمستمعون إلى الراحة من التطويف في آفاق الأرض والسماء، فيتاح لنا وقت نخلو فيه إلى أنفسنا، وما تكاد، ثم تستأنف القصة كأحسن ما يستأنف القصص، ويعود الحلم كأروع ما تعود الأحلام، ثم ننظر حين ينتصف الليل فإذا أحلامنا قد انقضت إلى غير رجعة، وإذا نحن أيقاظ نسعى في الشوارع نلتمس العودة إلى منازلنا، وإذا قلوبنا قسمة بين الابتهاج بهذه الساعات العذاب والاكتئاب؛ لأن هذه الساعات لن تعود.
وأريد أن أكتب، ولكن أكره الاستسلام للعاطفة فأستأني بالكتابة أسبوعا كاملا حتى يسكت عن النفس إعجابها وفتونها؛ حتى أستطيع أن أكتب فيما ينبغي من الرزانة والمهل والأناة. وما أحب أن يطيش بي الإعجاب فأندفع إلى حماسة لا قصد فيها، ولو قد فعلت لما أخطأت القصد. وما زلت أغبط ذلك الفرنسي الذي استخفه الطرب حين انتهى الشطر الأول من الغناء فوثب من كرسيه وسعى في تؤدة متكلفة حتى بلغ المغنية فقدم إليها طاقة من الزهر وانحنى إلى يدها فقبلها في خشوع.
هذه الفتاة المولدة التي سحرت أمريكا على ما في أمريكا من بغض للسود وازدراء للمولدين، حرة كأكمل ما تكون الحرية، أبية كأقوى ما يكون الإباء؛ أريدت على الغناء في نيويورك وعرفت أن السود لن يسمح لهم بالاستماع لها؛ فامتنعت عن الغناء حتى أذن للسود بمشاركة البيض في الاستمتاع بفنها الرفيع وقهرت بذلك نظاما اجتماعيا عنيفا في أمريكا.
هذه الفتاة المولدة لم تكتف بسلطان فنها على أمريكا، فبسطته على باريس، وهي الآن تبسطه على لندرة، وهي خليقة أن تبسطه على العالم المثقف كله، لا لأن الله قد وهب لها صوتها المعجز فحسب، بل لأن الله قد وهب لها القوة على أن تثقف نفسها وصوتها وفنها، فهي لم تغن في باريس غناء السود وحدهم ولا غناء الأمريكيين وحدهم، وإنما سحرت باريس قبل كل شيء بغناء أوروبا وبالغناء الممتاز في أوروبا. غنت لنوابغ الفن في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، غنت بالإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية، وغنت في هذه اللغات كما يغني فيها أصحابها في غير عوج ولا أمت ولا اضطراب. أليس من الحق أنها جديرة بالإعجاب لصوتها المعجز وفنها المعجز وقوتها المعجزة على أن تأخذ نفسها بأثقل القيود والأغلال حتى تروضها للفن وتروض الفن لها وتنتزع الإعجاب والإكبار من نفوس الملايين في العالمين؟
أما أنا فقد أكون مسرفا في المحافظة، ولكن أشهد أني ما زلت مؤمنا بأن الثقافة هي القوة العليا في الأرض، وبأن سلطان الثقافة وسلطان الفن لا يزالان - وسيظلان - فوق كل سلطان.
Bilinmeyen sayfa